المدينة المسحورة (1946)/الليلة الرابعة
فلما كانت الليلة الرابعة قالت شهرزاد :
عاد الملك يا مولاي أخيراً إلى مقر ملكه. عاد بلا قلب. عاد إنساناً آخر لا أمل له في شيء، ولا رغبه له في شيء… لقد شاخ وشاخت رغباته. فلما استقبله المشير متهللا مبتهجاً بعودته إلى ملكه وعرشه وشعبه، وعرض عليه أنه سيشيع منذ الغد نبأ شفائه، فتدق الطبول وترفع الأعلام وتقام الأفراح و..و..
أشار إليه بيده في يأس :
ـ لا داعي إلى شيء من هذا كله. فالذي عاد اليوم جسد هامد قد فارقته الحياة !
ووجم المشير الشيخ وانطمست في قلبه كل أشعة الفرح وسأل في يأس وانكسار :
— ماذا إذن يامولاي ! أجاب الملك :
— يبقى كل شيء على حاله، وتظل أنت في تصريف شئون الرعية. وليعلم الناس أن لي شأنا آخر يصرفني عن الملك كله وعن الناس !
قال المشير :
— لن يصلح الأمر هكذا يا مولاي. فالشعب لن يفهم هذه الألغاز، ولن يصبر طويلا على هذه الحال !
قال الملك
— إذن تصرف في الأمر كما تشاء وآوى إلى مخدعه الذي فارقه منذ زمان. دون أن يعلم أحد شيئا. وذلك بحكمة الشيخ الرزين.
لم تعد للملك حياة. لقد كان محقاً فيما قال. لقد عاد جسداً هامداً فارقته الحياة. عادوا لهم يجثم على صدره فيتراخي و بهمد ولا يحاول المقاومة. وعجز « حور » كما عجز المشير الشيخ أن يجدا لداء الملك علاجا، وسقم جسمه، وهذه المرض ستة أشهر طوال. إلا أن خاطراً مضيئاً قد التمع ذات يوم في نفس حور… فإذا هو يقترح على الملك أن يخرج للرياضة في الغابة، فقد تعاوده الصحة ومن يدرى. فقد يتراءى خيط من رجاء !
وكأنما كان الملك يسمع وحيا من السماء، فانتفض نشيطاً وأبرقت أساريره للخاطر الجديد. ولم تكن إلا لحظات حتى أعلن في أرجاء القصر، وفي أرجاء المملكة، أن الله قد من على الملك بالشفاء، وأنه في دور النقاهة، وقد نصح له الأطباء بالتحول في الغابة ليستنشق هواءها المعطر، حتى تكمل له عافيته بإذن الإله ! واجتمع الشعب في الساحة الواسعة، وقد استخفه النبأ بعد الانتظار الطويل، وتهيأ الملك وتابعه للخروج، وقد كاد ينتصف النهار، في الوقت الذي جاء فيه رسول الأميرة الشابة المعذبة يعلن عن رغبتها في مقابلة الملك بعد طول الاحتجاب، وشوقها الذي لايوصف بعد الغياب… وكاد يفسد التدبير كله، فما كاد يسمع باسم الأميرة حتى تمثلت له القصة كلها، وحتى ثارت كوامن أشجانه جميعاً. لولا أن تلطف حور مع الملك حتى ينفذ رياضته، وتلطف المشير مع رسول الأميرة لتؤجل الزيارة إلى أن يتم للمليك الشفاء
ولما خرج الملك من القصر دوت الساحة كلها بالهتاف الحار والدعاء الخالص، وارتجت جوانب المدينة بالحركة، وانطلقت الألسنة بالحديث. وكان يوما مشهوداً في حياة المملكة، وظل الهتاف يدوى والملك في الطريق
ولما قرب من الغابة هجمت عليه الذكريات، وخفت صوت الجماهير في أذنه، وارتفع صوت واحد محبب جميل، يتسلل إلى أذنه، كأنما ينبعث من سماء بعيدة، ومن وراء الغيب السحيق : — نعم. هي أغنامي. وأنا أرعاها لأن والدي عجوزان… إن لنا كوخاً على حافة الغابة… وظل هذا النغم المستسر العميق يتردد على سمع الملك كلما خطا خطوة وهو غائب عن الوجود، وأساريره تنفرج كما يحلم الطفل حلما وضيئا فيبسم في النوم الهنىء حتى إذا كان في مهبط الحلم الأول انتفض كالمباغت المفجوء، وانفرجت شفتاه ينادي في لهفة واجفة :
ساسو ! ساسو ! أنت هنا ياساسو ؟ ثم يرتفع صوته فجأة بنداء صارخ عنيف ممطوط، يردده الصدى في الغابة كلها : ساسو…
فيرتاع حور، ويظن بعقل الملك الظنون، ويغير موقفه خلف الملك فيواجهه في شجاعة ترده إلى اليقين :
— مولاى ! يحرسك الإله ! أين ساسو يا مولاى ؟ ادع الإله أن يردها عليك، إنه سميع مجيب !
و يفيق الملك، فيدركه الحياء. ثم ينظر إلى حور فيقول :
— إنها هنا يا حور. قلبي يحدثنى أنها هنا… إن قلبي لا يكذبني. أشم رائحتها. أشمها في نفسي وحسى. إنها هنا بلاشك… ثم تجحظ عيناه، و يبدو في هيئة المجانين و ينطلق صالحاً :
— ألم أقل لك : إنها هنا يا رفيقي. انظر ها هي ذي ساسو. ها هي ذي ساسو. ساسو. ساسو. أنت هنا. أنت هنا., ,
و يقذف بنفسه عن ظهر الفرس، ثم يعدو كالمجنون !
و ينظر حور إلى حيث ينطلق الملك، و يسمع من حيث صار الملك. فيدركه الدوار، ويمسك رأسه بيديه من الدهش. إنها ساسو حقيقة. وهي بين أحضان الملك تغمغم : « وأنت هنا أيها الفارس الجميل ». ثم يغيبان عن الوجود !
كان الشيخان قد رحلا عن المكان بساسو فما عاد لها عند شيخ القبيلة جوار… وكان الهم الذي ركب ساسو يحز في نفسيهما فيدركان يوماً بعد يوم أنهما قاتلان ، وهما يريانها تذبل في كل يوم وتذوى ، وتنطفىء شعلة الحياة في كيانها الجميل
وثقل الهم والشيخوخة على الوالد ففارق الحياة، وترك العب كله على عاتق العجوز فلم تطقه طويلا، وآثرت أن تترك ساسو وحيدة في هذا العالم ، وتذهب إلى العالم الآخر بعد طول النصب والإعياء
ونظرت ساسو فإذا هي وحيدة في الصحراء. فخطر لها في ساعة من ساعات الضعف أن ترتد إلى خباء شيخ القبيلة تعرض نفسها على فتاه.. ولكن العزة أدركتها. بل أدركها رجاء آخر. رجاء جنوني ، ولكن الحب يزينه و يقرب آماده.
— أما إنها لتعودن" إلى الغابة. فستجد الفارس الجميل هناك !
تعود إلى الغابة ! وأنى لها أن تعود ؟ تعود وبينها وبين الغابة تلك المفاوز والمهالك ، وهي فتاة وحيدة لا علم لها بالطريق ولا معين لها في الأسفار ؟
ولكن الحب لا يعرف المستحيل. وإنها لتسير وتسير. فهى تعلم أن الوادي في الغرب، فلتكن الشمس هي الدليل. وكاد أن يدركها العطب مرات، ولكنها كانت تنجو. فلما بلغت الوادي كانت قد استحالت صفراء غبراء هزيلة، وهي في روق الشباب.
وهوت إليها الأفئدة، فوجدت طريقها في مركب إلى مملكة تاسو… ووجدت قدميها تقودانها إلى الغابة في الصباح الباكر بعد اليأس من العودة إلى مهبط الحب الأول. ولكن ها هي ذي تصل إلى الغابة فلا تجد الفارس الجميل، فتنهار أحلامها وتنهد قواها، وينكشف لها الوهم عن الخيبة المرة الأليمة. وإنها لتكاد تتردى تحت تأثير الصدمة القاتلة، فتتهالك مهدودة لتنام حيث كانت يوم التقت بالفارس الجميل. وفى النوم تعتادها الرؤى البهيجة، فترى الفارس الجميل يختال بفرسه الجميل، وتسمع صوته العذب القوى النافذ يناديها، فتجرى إليه كالمجنونة… ثم تصحو فإذا هو طائر من طيور الغابة يحلق إلى بعيد وتجد في نفسها الانس والبشر بالحلم الذاهب والطائر المبتعد، وتحس طمأنينة عجيبة وشوقاً كذلك جارفاً، وتجد في كيانها نشاطاً موفوراً ونحس بحاجة شديدة ماسة إلى أن تغنى أو تبكى أو تطير !
وكانت الشمس قد ارتفعت حتى كادت تستوى في كبد
السماء، والدنيا ربيع کالربيع الأول الذي اجتمعت إبانه بفتى الأحلام، والدفء المنعش يفتر الأوصال، ويشيع فيها خدراً لذيذاً أشبه بنشوة السكر اللطيف، والطبيعة كلها تتفتح كالعذراء الناضجة تداعبها أشهى الأحلام
وتطلعت الفتاة هنيهة إلى الطبيعة حولها في فتور، ثم تمطت ونشرت ذراعيها في الفضاء، ثم هبت واقفة. ونظرت كالذي يستشرف آفاقاً بعيدة، وإن كانت في الواقع لا ترى إلا الحلم الوضيء الجميل ثم مرت لحظة… ثم كان ما كان…
وأدرك شهر زاد الصباح، فكنت عن الكلام المباح
هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأَنَّ مُدة الحماية الَّتي كان يتمتع بها انقضت وَفقاً لأَحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
|