المغني - كتاب الفيء والغنيمة والصدقة

المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء الواحد الثلاثون – كتاب الفيء والغنيمة والصدقة) • باب قسمة الفيء والغنيمة والصدقة o مسألة: الأموال ثلاثة فيء وغنيمة وصدقة فصل: الغنائم من خواص هذه الأمة o مسألة: تعريف الفيء o مسألة: تقسيم الخمس o مسألة: سهم الرسول فصل: الصفى التي كانت لرسول الله o مسألة: تقسيم خمس ذي القربى في بني هاشم وبني عبد المطلب o مسألة: تقسيم خمس اليتامى o مسألة: تقسيم خمس المساكين o مسألة: تقسيم خمس ابن السبيل o مسألة: أربعة أخماي الفيء لجميع المسلمين فصل: اختلاف الخلفاء الراشدين في قسم الفيء بين أهله فصل: تقسيم الفيء بين جميع المسلمين على قدر حاجتهم وكفايتهم فصل: العطاء الواجب من الفيء للبالغ الذي يطيقمثله القتال o مسألة: إعطاء أربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة o مسألة: الصدقة لا يجاوز بها الثمانية أصناف التي ذكرت في الآية o مسألة: من هو الفقير فصل: الغني الذي لا حق له في الزكاة فصل: الرجل الصحيح الجلد الذي لا كسب له فصل: إن ادعى أن له عيالًا فصل: إذا كان للرجل بضاعة يتجر بها o مسألة: العاملين على الزكاة فصل: من شرط العامل أن يكون بالغا عاقلا أمينا فصل: الإمام مخير في إجارة العامل فصل: يجوز للإمام أن يولى الساعى جبايتها o مسألة: المؤلفة قلوبهم فصل: أنواع المؤلفة قلوبهم o مسألة: أحكام الرقاب وهم المكاتبون فصل: يجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه o مسألة: الاعتاق من الزكاة فصل: لا يجوز أن يشتري من زكاته من يعتق عليه فصل: يجوز أن يشترى من زكاته أسيرا مسلما o مسألة: ما رجع من الولاء رد في مثله فصل: ولا يعقل عنه o مسألة: في الغارمين فصل: لا يدفع إلى غارم كافر فصل: من الغارمين صنف يعطون مع الغنى فصل: من أراد أن يدفع زكاته إلى الغارم o مسألة: سهم في سبيل الله فصل: إنما يستحق هذا السهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان o مسألة: الحج من سبيل الله o مسألة: ابن السبيل فصل: إن كان ابن السبيل مجتازا يريد بلدا غير بلده فصل: إذا ادعى الرجل أنه ابن سبيل فصل: جملة من يأخذ مع الغنى فصل: المسافر سفر معصية وأراد الرجوع إلى بلده o مسألة: كون الاعطاء إلى جميع الأصناف غير واجب فصل: استحباب التفريق على ما أمكن من الاصناف فصل: إن اجتمع في واحد سببان يجوز الأخذ بكل واحد منهما منفردا o مسألة: لا يعطي من الصدقة لبني هاشم o مسألة: إذا تولى الرجل إخراج زكاته سقط العاملون فصل: جوائز السلطان فصل: جوائز السلطان أحب إلى أحمد من الصدقة

باب قسمة الفيء والغنيمة والصدقة الفيء: هو الراجع إلى المسلمين من مال الكفار بغير قتال يقال: فاء الفيء إذا رجع نحو المشرق والغنيمة: ما أخذ منهم قهرًا بالقتال واشتقاقها من الغنم وهو الفائدة وكل واحد منهما في الحقيقة فيء وغنيمة، وإنما خص كل واحد منهما باسم ميز به عن الآخر والأصل فيهما قول الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية وقوله سبحانه: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} الآية.

 مسألة 

قال: [والأموال ثلاثة فيء وغنيمة، وصدقة] يعني - والله أعلم - أن الأموال التي تليها الولاة من أموال المسلمين فأنها ثلاثة أقسام قسمان يؤخذان من مال المشركين أحدهما الفيء: وهو ما أخذ من مال مشرك لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، كالذي تركوه فزعا من المسلمين وهربوا والجزية عشر أموال أهل دار الحرب إذا دخلوا إلينا تجارا ونصف عشر تجارات أهل الذمة، وخراج الأرضين ومال من مات من المشركين ولا وارث له والغنيمة: ما أخذ بالقهر والقتال من الكفار والقسم الثالث الصدقة: وهو ما أخذ من مال مسلم تطهيرا له وهو الزكاة، وقد ذكرناها يروى أن عمر رضي الله عنه قرأ قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} حتى بلغ: {عليم حكيم} ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} حتى بلغ: {وابن السبيل} ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} حتى بلغ: {والذين جاءوا من بعدهم} ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة ولئن عشت ليأتين الراعى وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق به جبينه

 فصل 

ولم تكن الغنائم تحل لمن مضى من الأمم وإنما علم الله ضعفنا، فطيبها لنا رحمة لنا ورأفة بنا، وكرامة لنبينا -- روى عن النبي -- أنه قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي) فذكر فيها: (أحلت لي الغنائم) متفق عليه وقال سعيد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله --: (لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس غيركم كانت تنزل نار من السماء تأكلها) ثم كانت في أول الإسلام لرسول الله -- بدليل قول الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله} ثم صار أربعة أخماسها للغانمين، والخمس لغيرهم بدليل قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} فأضاف الغنيمة إليهم وجعل الخمس لغيرهم، فيدل ذلك على أن سائرها لهم وجرى ذلك مجرى قوله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} أضاف ميراثه إليهما ثم جعل للأم منه الثلث، فدل على أن الباقي للأب وقال تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} فأحلها لهم.

 مسألة 

قال: [فالفيء ما أخذ من مال مشرك بحال ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب والغنيمة ما أوجف عليها] الركاب: الإبل خاصة والإيجاف أصله التحريك والمراد ها هنا الحركة في السير إليه قال قتادة: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} ما قطعتم واديًا، ولا سيرتم إليها دابة إنما كانت حوائط بني النضير أطعمها الله رسول الله -- قال أبو عبيد: الإيجاف، الإيضاع يعني الإسراع وقال الزجاج: الوجيف دون التقريب من السير يقال: وجف الفرس وأوجفت أنا قال الله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} فكل ما أخذ من مال مشرك بغير إيجاف مثل الأموال التي يتركونها فزعا من المسلمين، ونحو ذلك فهو فيء وما أجلب عليه المسلمون وساروا إليه وقاتلوهم عليه، فهو غنيمة سواء أخذ عنوة أو استنزلوا أهله بأمان فإن النبي -- (افتتح حصون خيبر بعضها عنوة وبعضها استنزل أهله بالأمان، فكانت غنيمة كلها).

 مسألة 

قال: [فخمس الفيء والغنيمة مقسوم على خمسة أسهم] في هذه المسألة فصول أربعة: الفصل الأول: أن الفيء مخموس كما تخمس الغنيمة في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي والرواية الثانية، لا يخمس نقلها أبو طالب فقال: إنما تخمس الغنيمة قال القاضي: لم أجد مما قال الخرقي من أن الفيء مخموس نصا فأحكيه وإنما نص على أنه غير مخموس وهذا قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر: ولا تحفظ عن أحد قبل الشافعي في الفيء خمس، كخمس الغنيمة وأخبار عمر تدل على ما قاله الشافعي ولأن الله تعالى قال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله} إلى قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} الآية فجعله كله لهم ولم يذكر خمسا ولما قرأ عمر هذه الآية قال: هذه استوعبت المسلمين ووجه الأول قول الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} فظاهر هذا أن جميعه لهؤلاء وهم أهل الخمس، وجاءت الأخبار عن عمر دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه فوجب الجمع بينهما كى لا تتناقض الآية والأخبار وتتعارض، وفي إيجاب الخمس فيه جمع بينهما وتوفيق فإن خمسه للذى سمى في الآية وسائره ينصرف إلى من في الخبر، كالغنيمة ولأنه مال مشترك مظهور عليه فوجب أن يخمس كالغنيمة والركاز وروى البراء بن عازب، قال: لقيت خالى ومعه الراية فقلت: إلى أين؟ فقال: (بعثنى رسول الله -- إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن أضرب عنقه وأخمس ماله). الفصل الثاني: أن الغنيمة مخموسة، ولا اختلاف في هذا بين أهل العلم بحمد الله وقد نطق به الكتاب العزيز فقال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} لكن اختلف في أشياء منها سلب القاتل وأكثر أهل العلم على أنه لا يخمس فإن عمر رضي الله عنه قال: كنا لا نخمس السلب وقول النبي: (من قتل قتيلا فله سلبه) يقتضي أنه له كله، ولو خمس لم يكن جميعه له وعن أبى قتادة (أن رسول الله -- نفله سلب رجل قتله يوم حنين ولم يخمس) رواه سعيد في " سننه " ومنها، إذا قال الإمام: من جاء بعشرة رءوس فله رأس ومن طلع الحصن فله كذا من النفل فالظاهر أن هذا غير مخموس لأنه في معنى السلب ومنها إذا قال الإمام: من أخذ شيئا فهو له وقلنا: يجوز ذلك فقد قيل: لا خمس فيه لأنه في معنى الذي قبله والصحيح أن الخمس لا يسقط لأنه يدخل في عموم الآية، ولا يدخل في معنى السلب والنفل لأن ترك تخميسهما لا يسقط خمس الغنيمة بالكلية وهذا يسقطه فلا يكون تخصيصا بل نسخا لحكمها، ونسخها بالقياس غير جائز اتفاقا ومنها إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام فقد قيل: إن ما غنموه لهم من غير أن يخمس والصحيح أنه يخمس ويدفع إليهم أربعة أخماسه لدخوله في عموم الآية، وعدم دليل يوجب تخصيصه. الفصل الثالث: أن الخمس مما يجب خمسه من الفيء والغنيمة شيء واحد في مصرفهما وحكمهما، ولا اختلاف في هذا بين القائلين بوجوب الخمس فيهما فإن القائل بوجوب الخمس في الفيء غير من قاله من أصحابنا الشافعي وقد وافق على هذا، فإنه قال: في الفيء والغنيمة يجتمعان في أن فيهما الخمس لمن سماه الله تعالى: يعني في سورة الأنفال في قوله سبحانه وتعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} وفي سورة الحشر في قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية، والمسمون في الآيتين شيء واحد. الفصل الرابع: أن الخمس يقسم على خمسة أسهم وبهذا قال عطاء ومجاهد والشعبي، والنخعي وقتادة وابن جريج، والشافعي وقيل: يقسم على ستة سهم لله تعالى وسهم لرسوله لظاهر قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فعد ستة وجعل الله تعالى لنفسه سهما سادسا وهو مردود على عباد الله أهل الحاجة وقال أبو العالية: سهم الله عز وجل هو أنه إذا عزل الخمس ضرب بيده فيه، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة فهو الذي سمى لله لا تجعلوا له نصيبا فإن لله الدنيا والآخرة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة أسهم وروى عن الحسن وقتادة في سهم ذى القربى، كانت طعمة لرسول الله -- في حياته فلما توفى حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله وروى ابن عباس أن أبا بكر وعمر قسما الخمس على ثلاثة أسهم ونحوه حكى عن الحسن بن محمد بن الحنفية وهو قول أصحاب الرأي، قالوا: يقسم الخمس على ثلاثة اليتامى والمساكين وابن السبيل وأسقطوا سهم رسول الله -- بموته، وسهم قرابته أيضا وقال مالك: الفيء والخمس واحد يجعلان في بيت المال قال ابن القاسم: وبلغنى عمن أثق به أن مالكا قال: يعطى الإمام أقرباء رسول الله -- على ما يرى وقال الثوري والحسن: يضعه الإمام حيث أراه الله عز وجل ولنا، قول الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وسهم الله والرسول واحد كذا قال عطاء والشعبي وقال الحسن بن محمد بن الحنفية وغيره: قوله: {فأن لله خمسه} افتتاح كلام يعني أن ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام باسمه تبركا به لا لإفراده بسهم، فإن لله تعالى الدنيا والآخرة وقد روى عن ابن عمر وابن عباس قالا: (كان رسول الله -- يقسم الخمس على خمسة) وما ذكره أبو العالية فشيء لا يدل عليه رأي، ولا يقتضيه قياس ولا يصار إليه إلا بنص صحيح يجب التسليم له ولا نعلم في ذلك أثرا صحيحا، سوى قوله فلا يترك ظاهر النص وقول رسول الله -- وفعله من أجل قول أبى العالية وما قاله أبو حنيفة فمخالف لظاهر الآية فإن الله تعالى سمى لرسوله وقرابته شيئا، وجعل لهما في الخمس حقا كما سمى للثلاثة الأصناف الباقية فمن خالف ذلك، فقد خالف نص الكتاب وأما حمل أبى بكر وعمر رضي الله عنهما على سهم ذى القربى في سبيل الله فقد ذكر لأحمد، فسكت وحرك رأسه ولم يذهب إليه، ورأى أن قول ابن عباس ومن وافقه أولى لموافقته كتاب الله تعالى وسنة رسوله -- فإن ابن عباس لما سئل عن سهم ذى القربى قال: إنا كنا نزعم أنه لنا فأبى ذلك علينا قومنا ولعله أراد بقوله: أبى ذلك علينا قومنا فعل أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، في حملهما عليه في سبيل الله ومن تبعهما على ذلك ومتى اختلف الصحابة وكان قول بعضهم يوافق الكتاب والسنة، كان أولى وقول ابن عباس موافق للكتاب والسنة فإن جبير بن مطعم روى أن رسول الله -- (لم يقسم لبني عبد شمس ولا بني نوفل من الخمس شيئا كما كان يقسم لبني هاشم ولبني المطلب) وإن أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسم رسول الله -- غير أنه لم يكن يعطى قربى رسول الله --، كما كان يعطيهم وكان عمر يعطيهم وعثمان من بعده رواه أحمد في " مسنده " وقد تكلم في رواية ابن عباس عن أبى بكر وعمر أنهما حملا على سهم ذى القربى في سبيل الله فقيل: إنه يرويه محمد بن مروان وهو ضعيف، عن الكلبى وهو ضعيف أيضا ولا يصح عند أهل النقل فإن قالوا: فالنبى -- ليس بباق فكيف يبقى سهمه؟ قلنا: جهة صرفه إلى النبي -- مصلحة المسلمين، المصالح باقية قال رسول الله --: (ما يحل لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس) وهو مردود عليكم " رواه سعيد.

مسألة قال: [وسهم لرسول الله -- يصرف في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين] وهذا قول الشافعي، فإنه قال: أختار أن يضعه الإمام في كل أمر خص به الإسلام وأهله من سد ثغر وإعداد كراع أو سلاح، أو إعطائه أهل البلاء في الإسلام نفلا عند الحرب وغير الحرب وهذا نحو ما قال الخرقي وهذا السهم كان لرسول الله -- من الغنيمة حضر أو لم يحضر كما أن سهام بقية أصحاب الخمس لهم، حضروا أو لم يحضروا وكان رسول الله -- يصنع به ما شاء فلما توفى وليه أبو بكر ولم يسقط بموته وقد قيل: إنما أضافه الله تعالى إلى نفسه وإلى رسوله، ليعلم أن جهته جهة المصلحة وأنه ليس بمختص بالنبى -- فيسقط بموته وزعم قوم أنه سقط بموته ويرد على أنصباء الباقين من أهل الخمس لأنهم شركاؤه وقال آخرون: بل يرد على الغانمين لأنهم استحلوها بقتالهم، وخرجت منها سهام منها سهم النبي -- ما دام حيا فإذا مات وجب رده إلى من وجد سبب الاستحقاق فيه كما أن تركة الميت إذا خرج منها سهم بوصية، ثم بطلت الوصية رد إلى التركة وقالت طائفة: هو للخليفة بعده لأن أبا بكر روى عن النبي -- أنه قال: (إذا أطعم الله نبيا طعمة ثم قبضه فهي للذى يقوم بها من بعده) وقد رأيت أن أرده على المسلمين والصحيح أنه باق وأنه يصرف في مصالح المسلمين لكن الإمام يقوم مقام النبي -- في صرفه فيما يرى، فإن أبا بكر رضي الله عنه قال: لا أدع أمرا رأيت رسول الله -- يصنعه فيه إلا صنعته متفق عليه وروى عن الحسن بن محمد بن الحنفية أنه قال: اختلفوا في هذين السهمين - يعني سهم الرسول -- وسهم ذى القربى - فأجمع رأيهم على أن يجعلوهما في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا في خلافة أبى بكر وعمر في الخيل والعدة في سبيل الله.

فصل وكان لرسول الله -- من المغنم الصفى وهو شيء يختاره من المغنم قبل القسمة كالجارية والعبد والثوب والسيف ونحوه وهذا قول محمد بن سيرين، والشعبي وقتادة وغيرهم من أهل العلم وقال أكثرهم: إن ذلك انقطع بموت النبي -- قال أحمد: الصفى إنما كان للنبى -- خاصة، لم يبق بعده ولا نعلم مخالفا لهذا إلا أبا ثور فإنه قال: إن كان الصفى ثابتا للنبى -- فللإمام أن يأخذه على نحو ما كان يأخذه النبي -- ويجعله مجعل سهم النبي من خمس الخمس فجمع بين الشك فيه في حياة النبي -- ومخالفة الإجماع في إبقائه بعد موته قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا سبق أبا ثور إلى هذا القول وقد أنكر قوم كون الصفى للنبى -- واحتجوا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله -- رفع وبرة من ظهر بعيره فقال: (ما يحل لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه، إلا الخمس) وهو مردود عليكم رواه سعيد ورواه أبو داود بإسناده عن أبى أمامة عن النبي -- ولأن الله تعالى قال: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} فمفهومه أن باقيها للغانمين ولنا، ما روى أبو داود بإسناده (أن النبي -- كتب إلى بني زهير بن أقيش: إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأديتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم الصفي، إنكم آمنون بأمان الله ورسوله) وفي حديث وفد عبد القيس الذي رواه ابن عباس: " وأن يعطوا سهم النبي -- والصفى وقالت عائشة: كانت صفية من الصفى رواه أبو داود وأما انقطاعه بعد النبي -- فثابت بإجماع الأمة قبل أبى ثور وبعده عليه وكون أبى بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم لم يأخذوه، ولا ذكره أحد منهم ولا يجمعون على ترك سنة النبي --.

 مسألة 

قال: [وخمس مقسوم في صليبة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف حيث كانوا، للذكر مثل حظ الأنثيين] يعني بقوله: " في صليبة بني هاشم " أولاده دون من يعد معهم من مواليهم وحلفائهم وفي هذه المسألة فصول خمسة: أحدها: أن سهم ذى القربى ثابت بعد موت النبي -- وقد مضى ذكر ذلك والخلاف فيه وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه من ذوى السهام، وثبت أن النبي -- كان يعطيهم فروى جبير بن مطعم قال: (وضع رسول الله -- سهم ذى القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس) وذكر الحديث رواه أبو داود ولم يأت لذلك نسخ ولا تغيير فوجب القول به، والعمل بحكمه قال أحمد: حدثنا وكيع حدثنا أبو معشر عن المقبري، قال: كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذى القربى فكتب ابن عباس: إنا كنا نزعم أنه لنا فأبى ذلك علينا قومنا قال أحمد: أنا أذهب إلى أنه لقرابة النبي -- على ما قال ابن عباس: " هو لنا ". الفصل الثاني: أن ذا القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف دون غيرهم بدليل ما روى جبير بن مطعم، قال: (لما قسم رسول الله -- سهم ذوى القربى من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب أتيت أنا وعثمان بن عفان رسول الله -- فقلنا: يا رسول الله، أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه) وفي رواية: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام) رواه أحمد والبخارى فرعى لهم النبي -- نصرتهم وموافقتهم بني هاشم ومن كانت أمه منهم وأبوه من غيرهم، لم يستحق شيئا لأن النبي -- لم يدفع إلى أقارب أمه وهم بنو زهرة شيئا وإنما دفع إلى أقارب أبيه ولو دفع إلى أقارب أمه لدفع إلى بني زهرة، وخبر جبير يدل على أنه لم يعطهم شيئا ولم يدفع أيضا إلى بني عماته وهم الزبير بن العوام وعبد الله والمهاجر ابنا أبى أمية، وبنو جحش. الفصل الثالث: أنه يشترك فيه الذكر والأنثى لدخولهم في اسم القرابة واختلفت الرواية في قسمته بينهم فعن أحمد أنه يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وهو اختيار الخرقي ومذهب الشافعي لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعا، ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث ويفارق الوصية وميراث ولد الأم فإن الوصية استحقت بقول الموصى وميراث ولد الأم استحق بقرابة الأم والرواية الثانية، يسوى بين الذكر والأنثى وهو قول أبى ثور والمزني، وابن المنذر لأنهم أعطوا باسم القرابة والذكر والأنثى فيها سواء فأشبه ما لو وصى لقرابة فلان أو وقف عليهم، ألا ترى أن الجد يأخذ مع الأب وابن الابن يأخذ مع الابن؟ وهذا يدل على مخالفة المواريث ولأنه سهم من خمس الخمس لجماعة، فيستوى فيه الذكر والأنثى كسائر سهامه ويستوى بين الصغير والكبير على الروايتين لاستوائهم في القرابة، فأشبه الميراث. الفصل الرابع: أنه يفرق بينهم حيث كانوا من الأمصار ويجب تعميمهم به حسب الإمكان وهذا قول الشافعي وقال بعضهم: يخص أهل كل ناحية بخمس مغزاها الذي ليس لهم مغزى سواه فما يؤخذ من مغزى الروم لأهل الشام والعراق، وما يؤخذ من مغزى الترك لمن في خراسان من ذوى القربى لما يلحق من المشقة في نقله من المشرق إلى المغرب ولأنه يتعذر تعميمهم به فلم يحب، كسائر أهل السهم ووجه الأول أنه سهم مستحق بقرابة الأب فوجب دفعه إلى جميع المستحقين كالميراث فعلى هذا يبعث الإمام إلى عماله في الأقاليم، وينظر كم حصل من ذلك؟ فإن استوت فيه فرق كل خمس في من قاربه وإن اختلفت، أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه كالميراث وفارق الصدقة حيث لا تنقل لأن كل بلد يكاد لا يخلو من صدقة تفرق على فقراء أهله، والخمس يؤخذ في بعض الأقاليم فلو لم ينقل لأدى إلى إعطاء البعض وحرمان البعض والصحيح إن شاء الله، أنه لا يجب التعميم لأنه يتعذر فلم يجب كتعميم المساكين وما ذكر من بعث الإمام عماله وسعاته، فهو متعذر في زماننا لأن الإمام لم يبق له حكم إلا في قليل من بلاد الإسلام ولم يبق له جهة في الغزو ولا له فيه أمر، ولأن هذا سهم من سهام الخمس فلم يجب تعميمه كسائر سهامه فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده.

 مسألة 

قال: [والخمس الثالث لليتامى] وهم الذين لا آباء لهم، ولم يبلغوا الحلم فإن النبي -- قال: (لا يتم بعد احتلام) قال بعض أصحابنا: لا يستحقون إلا مع الفقر وهو المشهور من مذهب الشافعي لأن ذا الأب لا يستحق والمال أنفع من وجود الأب ولأنه صرف إليهم لحاجتهم، فإن اسم اليتم يطلق عليهم في العرف للرحمة ومن كان إعطاؤه لذلك اعتبرت الحاجة فيه وفارق ذوى القربى فإنهم استحقوا لقربهم من رسول الله -- تكرمة لهم، والغنى والفقير في القرب سواء فاستويا في الاستحقاق ولم أعلم هذا نصا عن أحمد وعموم الآية يقتضي تعميمهم وقال بعض أصحاب الشافعي: له قول آخر أنه للغنى والفقير لعموم النص في كل يتيم، وقياسا له على سهم ذى القربى ولأنه لو خص به الفقير لكان داخلا في جملة المساكين الذين هم أصحاب السهم الرابع، وكان يستغنى عن ذكرهم وتسميتهم قال أصحابنا: ويفرق على الأيتام في جميع الأقطار ولا يخص به أهل ذلك المغزى والقول فيه كالقول في سهم ذى القربى وقد تقدم القول فيه.

 مسألة 

قال: [والخمس الرابع للمساكين] وهم أهل الحاجة ويدخل فيهم الفقراء، والفقراء والمساكين صنفان في الزكاة وصنف واحد ها هنا وفي سائر الأحكام، وإنما يقع التمييز بينهما إذا جمع بينهما بلفظين ولم يرد ذلك إلا في الزكاة وسنذكرهم في أصنافها قال أصحابنا: ويعم بها جميعهم في جميع البلاد، كقولهم في سهم ذى القربى واليتامى وقد تقدم قولنا في ذلك.

 مسألة 

قال: [والخمس الخامس لابن السبيل] وسنذكره أيضا في أصناف الصدقة ويعطى كل واحد منهم قدر ما يوصله إلى بلده لأن دفعنا إليه لأجل الحاجة فأعطى بقدرها فإن اجتمع في واحد أسباب، كالمسكين إذا كان يتيما وابن سبيل استحق بكل واحد منها لأنها أسباب لأحكام فوجب أن نثبت أحكامها، كما لو انفردت فإن أعطاه ليتمه فزال فقره لم يعط لفقره شيئا.

 مسألة 

قال: [وأربعة أخماس الفيء لجميع المسلمين ؛ غنيهم وفقيرهم فيه سواء ، إلا العبيد ] لا نعلم خلافا بين أهل العلم اليوم في أن العبيد لا حق لهم في الفيء. وظاهر كلام أحمد ، والخرقي ، أن سائر الناس لهم حق في الفيء ، غنيهم وفقيرهم. ذكر أحمد الفيء فقال: فيه حق لكل المسلمين ، وهو بين الغني والفقير. وقال عمر ، رضي الله عنه: ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب ، إلا العبيد ، فليس لهم فيه شيء. وقرأ عمر: { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى بلغ: { والذين جاءوا من بعدهم } ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة ، ولئن عشت ليأتين الراعي بسرو حمير نصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه. ولأنه مال مخموس ، فلم يختص به من فيه منفعة ، كأربعة أخماس الغنيمة. وذكر القاضي أن أهل الفيء هم أهل الجهاد من المرابطين في الثغور ، وجند المسلمين ، ومن يقوم بمصالحهم ؛ لأن ذلك كان للنبي في حياته ، لحصول النصرة والمصلحة به ، فلما مات صارت للجند ، ومن يحتاج إليه المسلمون ، فصار ذلك لهم دون غيرهم ، وأما الأعراب ونحوهم ممن لا يعد نفسه للجهاد ، فلا حق لهم فيه. والذين يغزون إذا نشطوا ، يعطون من سهم سبيل الله من الصدقة. قال: ومعنى كلام أحمد ، أنه بين الغني والفقير ، يعني الغني الذي فيه مصلحة المسلمين من المجاهدين والقضاة والفقهاء. ويحتمل أن يكون معنى كلامه ، أن لجميع المسلمين الانتفاع بذلك المال ؛ لكونه يصرف إلى من يعود نفعه على جميع المسلمين ، وكذلك ينتفعون بالعبور على القناطر والجسور المعقودة بذلك المال ، وبالأنهار والطرقات التي أصلحت به. وسياق كلامه يدل على أنه ليس مختصا بالجند وإنما هو مصروف في مصالح المسلمين ، لكن يبدأ بجند المسلمين ؛ لأنهم أهل المصالح ؛ لكونهم يحفظون المسلمين. فيعطون كفاياتهم ، فما فضل قدم الأهم فالأهم من عمارة الثغور وكفايتها بالأسلحة والكراع ، وما يحتاج إليه ، ثم الأهم فالأهم ، من عمارة المساجد والقناطر ، وإصلاح الطرق ، وكراء الأنهار ، وسد بثوقها ، وأرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين والفقهاء ، ونحو ذلك مما للمسلمين فيه نفع. وللشافعي قولان ، كنحو مما ذكرنا. واحتجوا على أن أربعة أخماس الفيء كان لرسول الله في حياته ، بما روى مالك بن أوس بن الحدثان قال: سمعت عمر بن الخطاب ، والعباس وعلي يختصمان إليه في أموال النبي فقال عمر: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب. وكان لرسول الله خالصا دون المسلمين ، وكان رسول الله ينفق منها على أهله نفقة سنته ، فما فضل جعله في الكراع والسلاح ، ثم توفي رسول الله فوليها أبو بكر بمثل ما وليها رسول الله ثم وليتها بمثل ما وليها رسول الله وأبو بكر. متفق عليه. إلا أن فيه: يجعل ما بقي أسوة المال. وظاهر أخبار عمر تدل على أن لجميع المسلمين في الفيء حقا ؛ فإنه لما قرأ الآية التي في سورة الحشر قال: هذه الآية استوعبت المسلمين وجعل للراعي بسرو حمير منه نصيبا ، وقال: ما أحد إلا له في هذا المال نصيب. وأما أموال بني النضير ، فيحتمل أن النبي كان ينفق منه على أهله ؛ لأن ذلك من أهم المصالح ، فبدأ بهم ، ثم جعل باقية أسوة المال. ويحتمل أن تكون أموال بني النضير اختص بها النبي من الفيء ، وترك سائره لمن سمي في الآية. وهذا مبين في قول عمر: وكان لرسول الله خالصا دون المسلمين.

 فصل 

واختلف الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، في قسم الفيء بين أهله فذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى التسوية بينهم فيه وهو المشهور عن على رضي الله عنه فروى أن أبا بكر رضي الله عنه سوى بين الناس في العطاء، وأدخل فيه العبيد فقال له عمر: يا خليفة رسول الله أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهجروا ديارهم له كمن إنما دخلوا في الإسلام كرها فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ فلما ولى عمر رضي الله عنه فاضل بينهم وأخرج العبيد، فلما ولى على سوى بينهم وأخرج العبيد وذكر عن عثمان، رضي الله عنه أنه فضل بينهم في القسمة فعلى هذا يكون مذهب اثنين منهم أبى بكر وعلى التسوية ومذهب اثنين عمر وعثمان التفضيل وروى عن أحمد رحمة الله عليه أنه أجاز الأمرين جميعا على ما يراه الإمام، ويؤدى اجتهاده إليه فروى عنه الحسن بن على بن الحسن أنه قال: للإمام أن يفضل قوما على قوم وقال أبو بكر: اختيار أبى عبد الله أن لا يفضلوا وهذا اختيار الشافعي وقال أبى: رأيت قسم الله المواريث على العدد يكون الإخوة متفاضلين في الغناء عن الميت، والصلة في الحياة والحفظ بعد الموت فلا يفضلون، وقسم رسول الله -- من الأربعة الأخماس على العدد ومنهم من يعطى غاية الغناء ويكون الفتح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع، وإما ضرر بالجبن والهزيمة وذلك أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو انتصابهم للجهاد، فصاروا كالغانمين والصحيح -إن شاء الله تعالى- أن ذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام يفعل ما يراه من تسوية وتفضيل لأن النبي -- كان يعطى الأنفال، فيفضل قوما على قوم على قدر غنائهم وهذا في معناه والمشهور عن عمر رضي الله عنه أنه حين كثر عنده المال فرض للمسلمين أعطياتهم، ففرض للمهاجرين من أهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف وللأنصار من أهل بدر أربعة آلاف أربعة آلاف وفرض لأهل الحديبية ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ولأهل الفتح ألفين وقال: بمن أبدأ؟ قيل له: بنفسك قال: لا ولكن أبدأ بقرابة رسول الله -- فبدأ ببني هاشم ثم ببني المطلب لقول رسول الله --: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) ثم ببني عبد شمس لأنه أخو هاشم لأبويه، ثم ببني نوفل لأنه أخوهما لأبيهما ثم الأقرب فالأقرب قال أصحابنا: ينبغي أن يتخذ الإمام ديوانا وهو دفتر فيه أسماء أهل الديوان، وذكر أعطياتهم ويجعل لكل قبيلة عريفا فقد روى الزهري أن رسول الله -- عرف عام حنين على كل عشرة عريفا وإذا أراد إعطاءهم بدأ بقرابة رسول الله -- على ما روى عن عمر رضي الله عنه ويقدم الأقرب فالأقرب ويقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار لأن فيهم أصهار رسول الله -- لأن خديجة منهم، حتى ينقضى قريش وهم بنو النضر بن كنانة ثم من بعد قريش الأنصار، ثم سائر العرب ثم العجم والموالى ثم تفرض الأرزاق لمن يحتاج المسلمون إليهم، من القضاة والمؤذنين والأئمة، والفقهاء والقراء والبرد، والعيون ومن لا غنى للمسلمين عنه ثم في إصلاح الحصون، والكراع والسلاح ثم بمصالح المسلمين، من بناء القناطر والجسور وإصلاح الطرق وكرى الأنهار وسد بثوقها، وعمارة المساجد ثم ما فضل قسمه على سائر المسلمين ويخص ذا الحاجة.

 فصل 

قال القاضي: ويعرف قدر حاجتهم - يعني أهل العطاء - وكفايتهم، ويزداد ذو الولد من أجل ولده وذو الفرس من أجل فرسه وإن كان له عبيد لمصالح الحرب حسب مئونتهم في كفايته وإن كانوا لزينة أو تجارة، لم يدخلوا في مئونته وينظر في أسعارهم في بلدانهم لأن أسعار البلدان تختلف والغرض الكفاية ولهذا تعتبر الذرية والولد، فيختلف عطاؤهم لاختلاف ذلك وإن كانوا سواء في الكفاية لا يفضل بعضهم على بعض وإنما تتفاضل كفايتهم، ويعطون قدر كفايتهم في كل عام مرة وهذا - والله أعلم - على قول من رأى التسوية فأما من يرى التفضيل فإنه يفضل أهل السوابق والغناء في الإسلام، على غيرهم بحسب ما يراه كما أن عمر، فضل أهل السوابق فقسم لقوم خمسة آلاف ولآخرين أربعة آلاف، ولآخرين ثلاثة آلاف ولآخرين ألفين ألفين ولم يقدر ذلك بالكفاية.

 فصل 

والعطاء الواجب لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله القتال، ويكون عاقلا حرا بصيرا صحيحا ليس به مرض يمنعه القتال فإن مرض الصحيح مرضا غير مرجو الزوال، كالزمانة ونحوها خرج من المقاتلة وسقط سهمه، وإن كان مرضا مرجو الزوال كالحمى والصداع والبرسام لم يسقط عطاؤه لأنه في حكم الصحيح، ألا ترى أنه لا يستنيب في الحج كالصحيح وإن مات بعد حلول وقت العطاء دفع حقه إلى ورثته ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى زوجته وأولاده الصغار قدر كفايتهم لأنه لو لم تعط ذريته بعده، لم يجرد نفسه للقتال لأنه يخاف على ذريته الضياع فإذا علم أنهم يكفون بعد موته سهل عليه ذلك، ولهذا قال أبو خالد القنانى: لقد زاد الحياة إلى حبا بناتي ** إنهن من الضعاف مخافة أن يرين الفقر بعدي ** وأن يشربن رنقا بعد صاف وأن يعرين إن كسى الجواري ** فتنبوا العين عن كرم عجاف ولولا ذاك قد سومت مهري ** وفي الرحمن للضعفاء كاف وإذا بلغ ذكور أولادهم واختاروا أن يكونوا في المقاتلة فرض لهم، وإن لم يختاروا تركوا ومن خرج من المقاتلة، سقط حقه من العطاء.

 مسألة 

قال: [وأربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الواقعة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، إلا أن يكون الفارس على هجين فيكون له سهمان سهم له، وسهم لهجينه] أجمع أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) يفهم منه أن أربعة أخماسها لهم لأنه أضافها إليهم ثم أخذ منها سهما لغيرهم، فبقي سائرها لهم كقوله تعالى: (وورثه أبواه فلأمه الثلث) وقال عمر رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة وذهب جمهور أهل العلم إلى أن للراجل سهما، وللفارس ثلاثة أسهم وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان وخالفه أصحابه فوافقوا سائر العلماء وقد ثبت عن ابن عمر أن (النبي -- أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه) متفق عليه وقال خالد الحذاء: إنه لا يختلف فيه عن النبي -- (أنه أسهم للفرس سهمين، ولصاحبه سهما وللراجل سهما) والهجين من الخيل: هو الذي أبوه عربى وأمه غير عربية والمقرف عكس ذلك وهو الذي أبوه غير عربى وأمه عربية ومنه قول هند بنت النعمان بن بشير: وما هند إلا مهرة عربية ** سليلة أفراس تحللها بغل فإن ولدت مهرا كريما فبالحري ** وإن يك إقراف فما أنجب الفحل وأراد الخرقي بالهجين ها هنا ما عدا العربى من الخيل، من البراذين وغيرها وقد روى عن أحمد -رحمه الله- رواية أخرى أن البراذين إذا أدركت مثل العراب، فلها مثل سهمها وذكر القاضي رواية أخرى فيما عدا العراب من الخيل لا يسهم لها وفي هذه المسألة اختلاف كثير وأدلة على كل قول، أخرنا ذكرها إلى باب الجهاد فإن المسألة مذكورة فيه وهو أليق بها، -إن شاء الله تعالى-

 مسألة 

قال: [والصدقة لا يجاوز بها الثمانية الأصناف التي سمى الله عز وجل] يعني قول الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} وروى أن رجلا قال: يا رسول الله أعطنى من هذه الصدقات فقال له رسول الله --: (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك) والمراد بالصدقة ها هنا الزكاة المفروضة دون غيرها من صدقة التطوع والكفارات والنذور والوصايا ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى غير هذه الأصناف، إلا ما روى عن عطاء والحسن أنهما قالا: ما أعطيت في الجسور والطرق، فهي صدقة ماضية والأول أصح وذلك لأن الله تعالى قال: {إنما الصدقات} و " إنما " للحصر تثبت المذكور وتنفى ما عداه لأنها مركبة من حرفى نفى وإثبات فجرى مجرى قوله تعالى: {إنما الله إله واحد} أي لا إله إلا الله وقوله تعالى: {إنما أنت منذر} أي ما أنت إلا نذير وقول النبي --: " إنما الولاء لمن أعتق ".

مسألة قال: [الفقراء وهم الزمني والمكافيف الذين لا حرفة لهم والحرفة الصناعة، ولا يملكون خمسين درهما ولا قيمتها من الذهب والمساكين وهم السؤال، وغير السؤال ومن لهم الحرفة إلا أنهم لا يملكون خمسين درهما، ولا قيمتها من الذهب] الفقراء والمساكين صنفان في الزكاة وصنف واحد في سائر الأحكام لأن كل واحد من الاسمين ينطلق عليهما فأما إذا جمع بين الاسمين، وميز بين المسميين تميزا وكلاهما يشعر بالحاجة والفاقة وعدم الغنى إلا أن الفقير أشد حاجة من المسكين، من قبل أن الله تعالى بدأ به وإنما يبدأ بالأهم فالأهم وبهذا قال الشافعي والأصمعى وذهب أبو حنيفة إلى أن المسكين أشد حاجة وبه قال الفراء وثعلب، وابن قتيبة لقول الله تعالى: {أو مسكينا ذا متربة} وهو المطروح على التراب لشدة حاجته وأنشدوا: أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم يترك له سبد فأخبر أن الفقير حلوبته وفق عياله ولنا أن الله تعالى بدأ بالفقراء، فيدل على أنهم أهم وقال تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} فأخبر أن المساكين لهم سفينة يعملون بها ولأن النبي -- قال: (اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا، واحشرنى في زمرة المساكين وكان يستعيذ من الفقر) ولا يجوز أن يسأل الله تعالى شدة الحاجة ويستعيذ من حالة أصلح منها ولأن الفقر مشتق من فقر الظهر، فعيل بمعنى مفعول أي مفقود وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه قال الشاعر: لما رأى لبد النسور تطايرت ** رفع القوادم كالفقير الأعزل أي: لم يطق الطيران كالذي انقطع صلبه والمسكين مفعيل من السكون وهو الذي أسكنته الحاجة، ومن كسر صلبه أشد حالا من الساكن فأما الآية فهي حجة لنا فإن نعت الله تعالى للمسكين بكونه ذا متربة يدل على أن هذا النعت لا يستحقه بإطلاق اسم المسكنة، كما يقال: ثوب ذو علم ويجوز التعبير بالمسكين عن الفقير بقرينة وبغير قرينة والشعر أيضا حجة لنا، فإنه أخبر أن الذي كانت حلوبته وفق العيال لم يترك له سبد فصار فقيرا لا شيء له إذا تقرر هذا، فالفقير الذي لا يقدر على كسب ما يقع موقعا من كفايته ولا له من الأجرة أو من المال الدائم ما يقع موقعا من كفايته ولا له خمسون درهما، ولا قيمتها من الذهب مثل الزمنى والمكافيف وهم العميان سموا بذلك لكف أبصارهم لأن هؤلاء في الغالب لا يقدرون على اكتساب ما يقع موقعا من كفايتهم، وربما لا يقدرون على شيء أصلا قال الله تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} ومعنى قولهم: يقع موقعا من كفايتهم أنه يحصل به معظم الكفاية أو نصف الكفاية مثل من يكفيه عشرة فيحصل له من مكسبه أو غيره خمسة فما زاد، والذي لا يحصل له إلا ما لا يقع موقعا من كفايته كالذي لا يحصل له إلا ثلاثة أو دونها فهذا هو الفقير، والأول هو المسكين فيعطى كل واحد منهما ما يتم به كفايته وتنسد به حاجته لأن المقصود دفعها وإغناء صاحبها، ولا يحصل إلا بذلك والذي يسأل ويحصل الكفاية أو معظمها من مسألته فهو من المساكين، لكنه يعطى جميع كفايته ويغنى عن السؤال فإن قيل: فقد قال النبي --: (ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه) قلنا هذا تجوز وإنما نفى المسكنة عنه مع وجودها فيه حقيقة، مبالغة في إثباتها في الذي لا يسأل الناس كما قال عليه السلام: (ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب) وقال: (ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: الذي لا يعيش له ولد قال: لا، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئا) وقال: (ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: الذي لا درهم له ولا متاع قال: لا ولكن المفلس الذي يأتى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتى وقد ظلم هذا، ولطم هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته حتى إذا نفدت حسناته أخذ من سيئاتهم، فطرحت عليه ثم يصك له صك إلى النار).

 فصل 

ومن كان ذا مكسب يغنى به نفسه وعياله إن كان له عيال وكان له قدر كفايته في كل يوم، من أجر عقار أو غلة مملوك أو سائمة فهو غنى لا حق له في الزكاة وبهذا قال ابن عمر، والشافعي وقال أبو حنيفة: إن لم يملك نصابا فله الأخذ منها لقول النبي --: (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) فجعل الغنى من تؤخذ منه الصدقة ولا تؤخذ إلا من النصاب ولأن هذا لا يملك نصابا ولا قيمته، فجاز له الأخذ كالذي لا كفاية له ولنا ما روى عبد الله بن عدى بن الخيار (أن رجلين أتيا رسول الله -- وهو يقسم الصدقة، فسألاه شيئا منها فصعد بصره فيهما وقال لهما: إن شئتما أعطيتكما منها، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عبيد الله وقال: هذا أجودهما إسنادا ما أجوده من حديث ما أعلم روى في هذا أجود من هذا قيل له: فالحديث عن النبي --: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي)؟ قال: لا أعلم فيه شيئا يصح قيل له: يرويه سالم بن أبى الجعد عن أبى هريرة عن النبي -- قال: سالم لم يسمع من أبى هريرة والغنى يختلف فمنه غنى يوجب الزكاة، وغنى يمنع أخذها وغنى يمنع المسألة ويخالف ما قاسوا عليه هذا، فإنه محتاج إليها والصدقة أوساخ الناس فلا تباح إلا عند الحاجة إليها، وهذا المختلف فيه لا حاجة به إليها فلا تباح له.

 فصل 

وإن كان الرجل صحيحا جلدا وذكر أنه لا كسب له، أعطى منها وقبل قوله بغير يمين إذا لم يعلم يقين كذبه، ولا يحلفه لأن النبي -- (أعطى الرجلين اللذين سألاه ولم يحلفهما) وفي بعض رواياته أنه قال: (أتينا النبي -- فسألناه من الصدقة، فصعد فينا البصر وصوبه فرآنا جلدين فقال: إن شئتما أعطيتكما) وذكر الحديث.

 فصل 

فإن ادعى أن له عيالا، فقال القاضي وأبو الخطاب: يقلد ويعطى لهم كما يقلد في دعوى حاجته وقال ابن عقيل عندي لا يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل عدم العيال، ولا تتعذر إقامة البينة عليه وفارق ما إذا ادعى أنه لا كسب له فإنه يدعى ما يوافق الأصل لأن الأصل عدم الكسب والمال، وتتعذر عليه إقامة البينة عليه ولو ادعى الفقر من عرف بالغنى لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد بأن ماله تلف أو نفد لما روى أن النبي -- قال: (لا تحل المسألة إلا لثلاثة رجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاثة من ذوى الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش) وهل يعتبر في البينة على الفقر ثلاثة أو يكتفى باثنين؟ فيه وجهان أحدهما، لا يكفى إلا ثلاثة لظاهر الخبر والثاني يقبل قول اثنين لأن قولهما يقبل في الفقر بالنسبة إلى حقوق الآدميين المبنية على الشح والضيق، ففي حق الله تعالى أولى والخبر إنما ورد في حل المسألة فيقتصر عليه وإن لم يعرف له مال، قبل قوله ولم يستحلف لأن النبي -- لم يستحلف الرجلين اللذين رآهما جلدين فإن رآه متجملا قبل قوله أيضا لأنه لا يلزم من ذلك الغنى بدليل قول الله تعالى: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} لكن ينبغي أن يخبره أن ما يعطيه من الزكاة لئلا يكون ممن لا تحل له الزكاة وإن رآه ظاهر المسكنة، أعطاه منها ولم يحتج أن يبين له شرط جواز الأخذ ولا أن ما يدفعه إليه زكاة قال أحمد -رحمه الله- وقد سئل عن الرجل يدفع زكاته إلى رجل: هل يقول له: هذه زكاة؟ فقال: يعطيه ويسكت، ولا يقرعه فاكتفى بظاهر حاله عن سؤاله وتعريفه.

فصل وإذا كان للرجل بضاعة يتجر بها أو ضيعة يستغلها تكفيه غلتها له ولعياله، فهو غنى لا يعطى من الصدقة شيئا وإن لم تكفه، جاز له الأخذ منها قدر ما يتم به الكفاية وإن كثرت قيمة ذلك وقد تقدم ذكر ذلك في الزكاة.

مسألة قال: [والعاملين على الزكاة وهم الجباة لها، والحافظون لها] يعني العاملين على الزكاة وهم الصنف الثالث من أصناف الزكاة وهم السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذها من أربابها، وجمعها وحفظها ونقلها ومن يعينهم ممن يسوقها ويرعاها ويحملها وكذلك الحاسب والكاتب والكيال والوزان والعداد، وكل من يحتاج إليه فيها فإنه يعطى أجرته منها لأن ذلك من مؤنتها فهو كعلفها وقد كان النبي -- يبعث على الصدقة سعاة، ويعطيهم عمالتهم (فبعث عمر ومعاذا وأبا موسى، ورجلا من بني مخزوم وابن اللتبية وغيرهم وطلب منه ابنا عمه الفضل بن العباس، وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أن يبعثهما فقالا: يا رسول الله، لو بعثتنا على هذه الصدقة فنصيب ما يصيب الناس ونؤدى إليك ما يؤدى الناس؟ فأبى أن يبعثهما، وقال: إن هذه الصدقة أوساخ الناس) وهذه قصص اشتهرت فصارت كالمتواتر وليس فيه اختلاف، مع ما ورد من نص الكتاب فيه فأغنى عن التطويل.

فصل ومن شرط العامل أن يكون بالغا عاقلا أمينا لأن ذلك ضرب من الولاية والولاية تشترط فيها هذه الخصال ولأن الصبى والمجنون لا قبض لهما، والخائن يذهب بمال الزكاة ويضيعه على أربابه ويشترط إسلامه واختار هذا القاضي وذكر أبو الخطاب وغيره أنه لا يشترط إسلامه لأنه إجارة على عمل فجاز أن يتولاه الكافر، كجباية الخراج وقيل عن أحمد في ذلك روايتان ولنا أنه يشترط له الأمانة فاشترط له الإسلام، كالشهادة ولأنه ولاية على المسلمين فلم يجز أن يتولاها الكافر، كسائر الولايات ولأن من ليس من أهل الزكاة لا يجوز أن يتولى العمالة كالحربى ولأن الكافر ليس بأمين، ولهذا قال عمر: لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى وقد أنكر عمر على أبى موسى توليته الكتابة نصرانيا فالزكاة التي هي ركن الإسلام أولى ويشترط كونه من غير ذوى القربى إلا أن يدفع إليه أجرته من غير الزكاة وقال أصحابنا: يجوز له الأخذ منها لأنها أجرة على عمل تجوز للغنى فجازت لذوى القربى، كأجرة النقال والحافظ وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ولنا حديث الفضل بن العباس وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حين سألا النبي -- أن يبعثهما على الصدقة، فأبى أن يبعثهما وقال: (إنما هذه الصدقة أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) وحديث أبى رافع أيضا وهذا ظاهر في تحريم أخذهم العمالة فلا تجوز مخالفته ويفارق النقال والحمال والراعي، فإنه يأخذه أجرة لحمله لا لعمالته ولا يشترط كونه حرا لأن العبد يحصل منه المقصود كالحر فجاز أن يكون عاملا كالحر ولا كونه فقيها إذا كتب له ما يأخذه وحد له، كما كتب النبي -- لعماله فرائض الصدقة وكما كتب أبو بكر لعماله أو بعث معه من يعرفه ذلك ولا كونه فقيرا لأن الله تعالى جعل العامل صنفا غير الفقراء والمساكين، فلا يشترط وجود معناهما فيه كما لا يشترط معناه فيهما وقد روى عن النبي -- أنه قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها أو لرجل ابتاعها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إلى الغني) رواه أبو داود وذكر أصحاب الشافعي أنه تشترط الحرية لأن العمالة ولاية فنافاها الرق كالقضاء ويشترط الفقه ليعلم قدر الواجب وصفته ولنا، ما ذكرناه ولا نسلم منافاة الرق للولايات الدينية فإنه يجوز أن يكون إماما في الصلاة، ومفتيا وراويا للحديث وشاهدا، وهذه من الولايات الدينية وأما الفقه فإنما يحتاج إليه لمعرفة ما يأخذه ويتركه ويحصل ذلك بالكتاب له، كما فعل النبي -- وصاحباه رضي الله عنهما.

فصل والإمام مخير بين أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر معلوم إما على مدة معلومة، وإما على عمل معلوم وبين أن يجعل له جعلا معلوما على عمله فإذا عمله استحق المشروط، وإن شاء بعثه من غير تسمية ثم أعطاه فإن عمر رضي الله عنه قال: (بعثنى النبي -- على الصدقة فلما رجعت عملنى فقلت: أعطه من هو أحوج مني) وذكر الحديث فإن تلفت الصدقة في يده قبل وصولها إلى أربابها من غير تفريط، فلا ضمان عليه ويستحق أجره من بيت المال وإن لم تتلف أعطى أجر عمله منها وإن كان أكثر من ثمنها أو أقل ثم قسم الباقي على أربابه لأن ذلك من مؤنتها، فجرى مجرى علفها ومداواتها وإن رأى الإمام أعطاه أجرة من بيت المال أو يجعل له رزقا في بيت المال ولا يعطيه منها شيئا، فعل وإن تولى الإمام أو الوالى من قبله أخذ الصدقة وقسمتها لم يستحق منها شيئا لأنه يأخذ رزقه من بيت المال.

فصل ويجوز للإمام أن يولى الساعى جبايتها دون تفرقتها ويجوز أن يوليه جبايتها وتفريقها (فإن النبي -- ولى ابن اللتبية فقدم بصدقته على النبي -- فقال: هذا لكم، وهذا أهدى إلى وقال لقبيصة: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها وأمر معاذا أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها في فقرائهم) ويروى أن زيادا ولى عمران بن حصين الصدقة فلما جاء قيل له: أين المال؟ قال: أو للمال بعثتني، أخذناها كما كنا نأخذها على عهد رسول الله -- ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله -- رواه أبو داود وعن أبى جحيفة قال: أتانا مصدق النبي -- فأخذ الصدقة من أغنيائنا فوضعها في فقرائنا وكنت غلاما يتيما، فأعطانى منها قلوصا أخرجه الترمذي.

مسألة قال: [والمؤلفة قلوبهم وهم المشركون المتألفون على الإسلام] هذا الصنف الرابع من أصناف الزكاة المستحقون لها وقال أبو حنيفة: انقطع سهمهم وهو أحد أقوال الشافعي لما روي أن مشركًا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه، وقال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ولم ينقل عن عمر ولا عثمان ولا على أنهم أعطوا شيئا من ذلك ولأن الله تعالى أظهر الإسلام وقمع المشركين، فلا حاجة بنا إلى التأليف وحكى حنبل عن أحمد أنه قال: المؤلفة قد انقطع حكمهم اليوم والمذهب على خلاف ما حكاه حنبل، ولعل معنى قول أحمد: انقطع حكمهم أي لا يحتاج إليهم في الغالب أو أراد أن الأئمة لا يعطونهم اليوم شيئا فأما إن احتاج إليهم جاز الدفع إليهم، فلا يجوز الدفع إليهم إلا مع الحاجة ولنا على جواز الدفع إليهم قول الله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} وهذه الآية في سورة براءة وهي من آخر ما نزل من القرآن على رسول الله -- وقد ثبت أن رسول الله -- أعطى المؤلفة من المشركين والمسلمين وأعطى أبو بكر رضي الله عنه عدى بن حاتم، وقد قدم عليه بثلاثمائة جمل من إبل الصدقة ثلاثين بعيرا ومخالفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله، واطراحها بلا حجة لا يجوز ولا يثبت النسخ بترك عمر وعثمان إعطاء المؤلفة ولعلهم لم يحتاجوا إلى إعطائهم، فتركوا ذلك لعدم الحاجة إليه لا لسقوطه.

 فصل 

والمؤلفة قلوبهم ضربان كفار ومسلمون وهم جميعا السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم فالكفار ضربان أحدهما، من يرجى إسلامه فيعطى لتقوى نيته في الإسلام وتميل نفسه إليه، فيسلم (فإن النبي -- يوم فتح مكة أعطى صفوان بن أمية الأمان واستنظره صفوان أربعة أشهر لينظر في أمره، وخرج معه إلى حنين فلما أعطى النبي -- العطايا قال صفوان: ما لي؟ فأومأ النبي -- إلى واد فيه إبل محملة فقال: هذا لك فقال صفوان: هذا عطاء من لا يخشى الفقر) والضرب الثاني، من يخشى شره ويرجى بعطيته كف شره وكف غيره معه وروى عن ابن عباس أن قوما كانوا يأتون النبي -- فإن أعطاهم مدحوا الإسلام وقالوا: هذا دين حسن وإن منعهم ذموا وعابوا وأما المسلمون فأربعة أضرب قوم من سادات المسلمين لهم نظراء من الكفار، ومن المسلمين الذين لهم نية حسنة في الإسلام فإذا أعطوا رجى إسلام نظرائهم وحسن نياتهم فيجوز إعطاؤهم لأن أبا بكر رضي الله عنه، أعطى عدى بن حاتم والزبرقان بن بدر مع حسن نياتهما وإسلامهما الضرب الثاني، سادات مطاعون في قومهم يرجى بعطيتهم قوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد فإنهم يعطون لأن النبي -- أعطى عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وعلقمة بن علاثة والطلقاء من أهل مكة، وقال للأنصار: (يا معشر الأنصار علام تأسون؟ على لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما لا إيمان لهم ووكلتكم إلى إيمانكم؟) وروى البخاري بإسناده عن عمرو بن تغلب (أن رسول الله -- أعطى أناسا وترك أناسا، فبلغه عن الذين ترك أنهم عتبوا فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني أعطى أناسا وأدع أناسا والذي أدع أحب إلى من الذي أعطى أعطى أناسا لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أناسا إلى ما في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب) وعن أنس قال: حين (أفاء الله على رسوله أموال هوازن طفق رسول الله -- يعطى رجالا من قريش مائة من الإبل، فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله -- يعطى قريشا ويمنعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله --: إني أعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتألفهم) متفق عليه الضرب الثالث قوم في طرف بلاد الإسلام، إذا أعطوا دفعوا عمن يليهم من المسلمين الضرب الرابع: قوم إذا أعطوا أجبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف وكل هؤلاء يجوز الدفع إليهم من الزكاة لأنهم من المؤلفة قلوبهم فيدخلون في عموم الآية.

 مسألة 

قال: [وفي الرقاب وهم المكاتبون] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في ثبوت سهم الرقاب، ولا يختلف المذهب في أن المكاتبين من الرقاب يجوز صرف الزكاة إليهم وهو قول الجمهور وخالفهم مالك فقال: إنما يصرف سهم الرقاب في إعتاق العبيد ولا يعجبني أن يعان منها مكاتب وخالف أيضا ظاهر الآية لأن المكاتب من الرقاب، لأنه عبد واللفظ عام فيدخل في عمومه إذا ثبت هذا، فإنه يدفع إلى المكاتب جميع ما يحتاج إليه لوفاء كتابته فإن لم يكن معه شيء جاز أن يدفع إليه جميعها وإن كان معه شيء، تمم له ما يتخلص به لأن حاجته لا تندفع إلا بذلك ولا يدفع إلى من معه وفاء كتابته شيء لأنه مستغن عنه في وفاء الكتابة قيل: ولا يدفع إليه بحكم الفقر شيء لأنه عبد ويجوز أن يدفع إليه في كتابته قبل حلول النجم لئلا يحل النجم ولا شيء معه فتنفسخ الكتابة ولا يدفع إلى مكاتب كافر شيء لأنه ليس من مصارف الزكاة ولا يقبل قول المكاتب إنه مكاتب إلا ببينة لأن الأصل عدمها فإن صدقه السيد، ففيه وجهان أحدهما يقبل لأن الحق في العبد لسيده فإذا أقر بانتقال حقه عنه قبل والثاني لا يقبل لأنه متهم في أنه يواطئه ليأخذ به المال.

 فصل 

ويجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه لأنه قد صار معه في باب المعاملة كالأجنبى حتى يجرى بينهما الربا، فصار كالغريم يدفع زكاته إلى غريمه ويجوز للمكاتب ردها إلى سيده بحكم الوفاء لأنها رجعت إليه بحكم الإيفاء أشبه إيفاء الغريم دينه بها قال ابن عقيل ويجوز دفع الزكاة إلى سيد المكاتب وفاء عن الكتابة وهو الأولى لأنه أعجل لعتقه وأوصل إلى المقصود الذي كان الدفع من أجله، فإنه إذا أخذه المكاتب قد يدفعه وقد لا يدفعه ونقل حنبل أنه قال: قال سفيان: لا تعطى مكاتبا لك من الزكاة قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: وأنا أرى مثل ذلك وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل: أيعطى المكاتب من الزكاة؟ قال: المكاتب بمنزلة العبد فكيف يعطى؟ ومعناه - والله أعلم - لا يعطى مكاتبه من الزكاة لأنه عبده وماله يرجع إليه إن عجز، وإن عتق فله ولاؤه ولا تقبل شهادته لمكاتبه ولا شهادة مكاتبه له.

 مسألة 

قال: [وقد روي عن أبي عبد الله -رحمه الله- رواية أخرى، أنه يعتق منها] اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في جواز الإعتاق من الزكاة فروى عنه جواز ذلك وهو قول ابن عباس والحسن، والزهري ومالك وإسحاق، وأبى عبيد والعنبرى وأبى ثور، لعموم قول الله تعالى: {وفي الرقاب} وهو متناول للقن بل هو ظاهر فيه فإن الرقبة إذا أطلقت انصرفت إليه، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} وتقدير الآية وفي إعتاق الرقاب ولأنه إعتاق للرقبة فجاز صرف الزكاة فيه، كدفعه في الكتابة والرواية الأخرى لا يجوز وهو قول إبراهيم والشافعي لأن الآية تقتضى صرف الزكاة إلى الرقاب، كقوله: {في سبيل الله} يريد الدفع إلى المجاهدين كذلك ها هنا والعبد القن لا يدفع إليه شيء قال أحمد في رواية أبى طالب: قد كنت أقول: يعتق من زكاته، ولكن أهابه اليوم لأنه يجر الولاء وفي موضع آخر قيل له: فما يعجبك من ذلك؟ قال: يعين من ثمنها فهو أسلم وقد روى نحو هذا عن النخعي، وسعيد بن جبير فإنهما قالا: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطى منها في رقبة، ويعين مكاتبا وبه قال أبو حنيفة وصاحباه لأنه إذا أعتق من زكاته انتفع بولاء من أعتقه فكأنه صرف الزكاة إلى نفسه وأخذ ابن عقيل من هذه الرواية، أن أحمد رجع عن القول بالإعتاق من الزكاة وهذا - والله أعلم - من أحمد إنما كان على سبيل الورع فلا يقتضي رجوعا لأن العلة التي تملك بها جر الولاء ومذهبه أن ما رجع من الولاء رد في مثله، فلا ينتفع إذا بإعتاقه من الزكاة.

فصل ولا يجوز أن يشترى من زكاته من يعتق عليه بالرحم وهو كل ذى رحم محرم فإن فعل عتق عليه، ولم تسقط عنه الزكاة وقال الحسن لا بأس أن يعتق أباه من الزكاة لأن دفع الزكاة لم يحصل إلى أبيه وإنما دفع الثمن إلى بائعه ولنا أن نفع زكاته عاد إلى أبيه، فلم يجز كما لو دفعها إليه ولأن عتقه حصل بنفس الشراء مجازاة وصلة للرحم، فلم يجز أن يحتسب له به عن الزكاة كنفقة أقاربه ولو أعتق عبده المملوك له عن زكاته لم يجز لأن أداء الزكاة عن كل مال من جنسه، والعبد ليس من جنس ما تجب الزكاة فيه ولو أعتق عبدا من عبيده للتجارة لم يجز لأن الواجب في قيمتهم لا في عينهم.

فصل ويجوز أن يشترى من زكاته أسيرا مسلما من أيدى المشركين لأنه فك رقبة من الأسر، فهو كفك رقبة العبد من الرق ولأن فيه إعزازا للدين فهو كصرفه إلى المؤلفة قلوبهم، ولأنه يدفعه إلى الأسير لفك رقبته فأشبه ما يدفعه إلى الغارم لفك رقبته من الدين.

مسألة قال: [فما رجع من الولاء رد في مثله] يعني يعتق به أيضا وبهذا قال الحسن وإسحاق وقال أبو عبيد: الولاء للمعتق لقول النبي --: (إنما الولاء لمن أعتق) وقال مالك ولاؤه لسائر المسلمين لأنه مال لا مستحق له، أشبه مال من لا وارث له وقال العنبرى: يجعله في بيت المال للصدقات لأن عتقه من الصدقة فولاؤه يرجع إليها ولأن عتقه بمال هو لله، والمعتق نائب عن الله تعالى في الشراء والإعتاق فلم يكن الولاء له كما لو توكل في الإعتاق وكالساعى إذا اشترى من الزكاة رقبة وأعتقها، ولأن الولاء أثر الرق وفائدة من المعتق فلم يجز أن يرجع إلى المزكي، لإفضائه إلى أن ينتفع بزكاته وقد روى عن أحمد ما يدل على أن الولاء له وقد سبق ذلك في باب الولاء.

فصل ولا يعقل عنه اختاره الخلال وعن أحمد رواية أخرى أنه يعقل عنه اختارها أبو بكر لأنه معتق، فيعقل عنه كالذي أعتقه من ماله وإنما لم يأخذ ميراثه بالولاء لئلا ينتفع بزكاته، والعقل عنه ليس بانتفاع فيبقى على الأصل ولنا أنه لا ولاء عليه، فلم يعقل عنه كما لو كان وكيلا في العتق ولأنه لا يرثه، فلم يعقل عنه كما لو اختلف دينهما وما ذكره يبطل بالوكيل والساعى إذا أعتق من الزكاة.

مسألة قال: [والغارمين] وهم المدينون العاجزون عن وفاء ديونهم هذا الصنف السادس من أصناف الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم، وثبوت سهمهم وأن المدينين العاجزين عن وفاء ديونهم منهم لكن إن غرم في معصية، مثل أن يشترى خمرا أو يصرفه في زناء أو قمار أو غناء ونحوه لم يدفع إليه قبل التوبة شيء لأنه إعانة على المعصية، وإن تاب فقال القاضي: يدفع إليه واختاره ابن عقيل لأن إبقاء الدين الذي في الذمة ليس من المعصية بل يجب تفريغها، والإعانة على الواجب قربة لا معصية فأشبه من أتلف ماله في المعاصى حتى افتقر فإنه يدفع إليه من سهم الفقراء وفيه وجه آخر لا يدفع إليه لأنه استدانه للمعصية، فلم يدفع إليه كما لو لم يتب ولأنه لا يؤمن أن يعود إلى الاستدانة للمعاصي، ثقة منه بأن دينه يقضى بخلاف من أتلف ماله في المعاصى فإنه يعطى لفقره، لا لمعصيته.

فصل ولا يدفع إلى غارم كافر لأنه ليس من أهل الزكاة ولذلك لا يدفع إلى فقيرهم ولا مكاتبهم وإن كان من ذوى القربى فقال أصحابنا: يجوز الدفع إليه لأن علة منعه من الأخذ منها لفقره صيانته عن أكلها، لكونها أوساخ الناس وإذا أخذها لغرمه فصرفها إلى الغرماء، فلا يناله دناءة وسخها ويحتمل أن لا يجوز لعموم النصوص في منعهم من أخذها وكونها لا تحل لهم، ولأن دناءة أخذها تحصل سواء أكلها أو لم يأكلها ولا يدفع منها إلى غارم له ما يقضى به غرمه لأن الدفع إليه لحاجته، وهو مستغن عنها.

فصل ومن الغارمين صنف يعطون مع الغنى وهو غرم لإصلاح ذات البين وهو أن يقع بين الحيين وأهل القريتين عداوة وضغائن، يتلف فيها نفس أو مال ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك فيسعى إنسان في الإصلاح بينهم، ويتحمل الدماء التي بينهم والأموال فيسمى ذلك حمالة بفتح الحاء، وكانت العرب تعرف ذلك وكان الرجل منهم يتحمل الحمالة ثم يخرج في القبائل فيسأل حتى يؤديها، فورد الشرع بإباحة المسألة فيها وجعل لهم نصيبا من الصدقة فروى قبيصة بن المخارق، قال: تحملت حمالة فأتيت النبي -- وسألته فيها فقال: (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) ثم قال: (يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة رجل تحمل حمالة فيسأل فيها حتى يؤديها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوى الحجا من قومه، لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش، وما سوى ذلك فهو سحت يأكلها صاحبها سحتا يوم القيامة) أخرجه مسلم وروى أبو سعيد الخدري أن النبي -- قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) ذكر منهم الغارم ولأنه إنما يقبل ضمانه وتحمله إذا كان مليا وبه حاجة إلى ذلك مع الغنى، وإن أدى ذلك من ماله لم يكن له أن يأخذ لأنه قد سقط الغرم وإن استدان وأداها، جاز له الأخذ لأن الغرم باق والمطالبة قائمة والفرق بين هذا الغرم والغرم لمصلحة نفسه، أن هذا الغرم يؤخذ لحاجتنا إليه لإطفاء الثائرة وإخماد الفتنة فجاز له الأخذ مع الغنى، كالغازى والمؤلف والعامل والغارم لمصلحة نفسه يأخذ لحاجة نفسه فاعتبرت حاجته وعجزه كالفقير والمسكين والمكاتب وابن السبيل وإذا كان الرجل غنيا، وعليه دين لمصلحة لا يطيق قضاءه جاز أن يدفع إليه ما يتم به قضاءه مع ما زاد عن حد الغنى فإذا قلنا: الغنى يحصل بخمسين درهما وله مائة، وعليه مائة جاز أن يدفع إليه خمسون ليتم قضاء المائة من غير أن ينقص غناه قال أحمد: لا يعطى من عنده خمسون درهما أو حسابها من الذهب، إلا مدينا فيعطى دينه وإن كان يمكنه قضاء الدين من غير نقص من الغنى لم يعط شيئا.

فصل وإذا أراد الرجل دفع زكاته إلى الغارم، فله أن يسلمها إليه ليدفعها إلى غريمه وإن أحب أن يدفعها إلى غريمه قضاء عن دينه فعن أحمد فيه روايتان إحداهما، يجوز ذلك نقل أبو الحارث قال: قلت لأحمد: رجل عليه ألف وكان على رجل زكاة ماله ألف، فأداها عن هذا الذي عليه الدين يجوز هذا من زكاته؟ قال: نعم ما أرى بذلك بأسا وذلك لأنه دفع الزكاة في قضاء دينه فأشبه ما لو دفعها إليه يقضى بها دينه والثانية، لا يجوز دفعها إلى الغريم قال أحمد: أحب إلى أن يدفعه إليه حتى يقضى هو عن نفسه قيل: هو محتاج يخاف أن يدفعه إليه فيأكله، ولا يقضى دينه قال: فقل له يوكله حتى يقضيه فظاهر هذا أنه لا يدفع الزكاة إلى الغريم إلا بوكالة الغارم لأن الدين إنما هو على الغارم فلا يصح قضاؤه إلا بتوكيله ويحتمل أن يحمل هذا على الاستحباب ويكون قضاؤه عنه جائزا وإن كان دافع الزكاة الإمام، جاز أن يقضى بها دينه من غير توكيله لأن للإمام ولاية عليه في إيفاء الدين ولهذا يجبره عليه إذا امتنع منه وإذا ادعى الرجل أن عليه دينا فإن كان يدعيه من جهة إصلاح ذات البين، فالأمر فيه ظاهر لا يكاد يخفى فإن خفي ذلك لم يقبل منه إلا ببينة، وإن غرم لمصلحة نفسه لم يدفع إليه إلا ببينة أيضا لأن الأصل عدم الغرم وبراءة الذمة فإن صدقه الغريم فعلى وجهين، كالمكاتب إذا صدقه سيده.

مسألة قال: [وسهم في سبيل الله وهم الغزاة يعطون ما يشترون به الدواب والسلاح وما ينفقون به على العدو، وإن كانوا أغنياء] هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو قال الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} وقال: {يجاهدون في سبيل الله} وقال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} وذكر ذلك في غير موضع من كتابه، فإذا تقرر هذا فإنهم يعطون وإن كانوا أغنياء وبهذا قال مالك والشافعي، وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وابن المنذر وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا تدفع إلا إلى فقير وكذلك قالوا في الغارم لإصلاح ذات البين لأن من تجب عليه الزكاة لا تحل له كسائر أصحاب السهمان ولأن النبي -- قال لمعاذ: (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) فظاهر هذا أنها كلها ترد في الفقراء والفقير عندهم من لا يملك نصابا ولنا قول النبي --: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله، أو لغارم) وذكر بقيتهم ولأن الله تعالى جعل الفقراء والمساكين صنفين وعد بعدهما ستة أصناف فلا يلزم وجود صفة الصنفين في بقية الأصناف، كما لا يلزم وجود صفة الأصناف فيهما ولأن هذا يأخذ لحاجتنا إليه فأشبه العامل والمؤلف، فأما أهل سائر السهمان فإنما يعتبر فقر من يأخذ لحاجته إليها دون من يأخذ لحاجتنا إليه فإذا تقرر هذا، فمن قال إنه يريد الغزو قبل قوله لأنه لا يمكن إقامة البينة على نيته ويدفع إليه قدر كفايته لمؤنته وشراء السلاح والفرس إن كان فارسا، وحمولته ودرعه ولباسه وسائر ما يحتاج إليه لغزوه وإن كثر ذلك ويدفع إليه دفعا مراعى، فإن لم يغز رده لأنه أخذه كذلك وإن غزا وعاد فقد ملك ما أخذه لأننا دفعنا إليه قدر الكفاية وإنما ضيق على نفسه وإن مضى إلى الغزو، فرجع من الطريق أو لم يتم الغزو الذي دفع إليه من أجله رد ما فضل معه لأن الذي أخذ لأجله لم يفعله كله.

 فصل 

وإنما يستحق هذا السهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا قال أحمد: ويعطى ثمن الفرس ولا يتولى مخرج الزكاة شراء الفرس بنفسه لأن الواجب إيتاء الزكاة فإذا اشتراها بنفسه، فما أعطى إلا فرسا وكذلك الحكم في شراء السلاح والمؤنة وقال في موضع آخر: إن دفع ثمن الفرس وثمن السيف فهو أعجب إلى وإن اشتراه هو، رجوت أن يجزئه وقال أيضا: يشترى الرجل من زكاته الفرس ويحمل عليه والقناة، ويجهز الرجل وذلك لأنه قد صرف الزكاة في سبيل الله فجاز كما لو دفعها إلى الغازى فاشترى بها قال: ولا يشترى من الزكاة فرسا يصير حبيسا في سبيل الله، ولا دارا ولا ضيعة يصيرها في سبيل الله للرباط ولا يقفها على المجاهدين لأنه لم يؤت الزكاة لأحد، وهو مأمور بإتيانها قال: ولا يغزو الرجل على الفرس الذي أخرجه من زكاة ماله لأنه لا يجوز أن يجعل نفسه مصرفا لزكاته كما لا يجوز أن يقضى بها دينه ومتى أخذ الفرس التي اشتريت بماله، صار مصرفا لزكاته.

 مسألة 

قال: [ويعطى أيضا في الحج وهو من سبيل الله] ويروى هذا عن ابن عباس وعن ابن عمر الحج في سبيل الله وهو قول إسحاق لما روي (أن رجلا جعل ناقة له في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي --: اركبيها فإن الحج في سبيل الله) وعن أحمد -رحمه الله- رواية أخرى، لا يصرف منها في الحج وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري، والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وهذا أصح لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد، فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك لأن الظاهر إرادته به، ولأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازى والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه، ولا حاجة به أيضا إليه لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه ولا مصلحة له في إيجابه عليه، وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها وتوفير هذا القدر على ذوى الحاجة من سائر الأصناف، أو دفعه في مصالح المسلمين أولى وأما الخبر فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله والمراد بالآية غيره لما ذكرنا وقال الشافعي: يجوز الدفع إلى من أراد الحج لكونه ابن سبيل ولا يصح لأن ابن السبيل المسافر المنقطع به، ومن هو محتاج إلى السفر ولا حاجة بهذا إلى هذا السفر فإن قلنا: يدفع في الحج منها فلا يعطى إلا بشرطين أحدهما أن يكون ممن ليس له ما يحج به سواها لقول النبي --: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي) وقال: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) ولم يذكر الحاج منهم ولأنه يأخذ لحاجته لا لحاجة المسلمين إليه، فاعتبرت فيه الحاجة كمن يأخذ لفقره والثاني أن يأخذه لحجة الفرض ذكره أبو الخطاب لأنه يحتاج إلى إسقاط فرضه وإبراء ذمته، أما التطوع فله مندوحة عنه وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد جواز ذلك في الفرض والتطوع معا وهو ظاهر قول الخرقي لأن الكل من سبيل الله ولأن الفقير لا فرض عليه فالحجة منه كالتطوع، فعلى هذا يجوز أن يدفع إليه ما يحج به حجة كاملة وما يغنيه في حجة، ولا يجوز أن يحج من زكاة نفسه كما لا يجوز أن يغزو بها.

 مسألة 

قال: [وابن السبيل وهو المنقطع به، وله اليسار في بلده فيعطى من الصدقة ما يبلغه] ابن السبيل: هو الصنف الثامن من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقه وبقاء سهمه وابن السبيل هو المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده، وله اليسار في بلده فيعطى ما يرجع به وهذا قول قتادة ونحوه قال مالك وأصحاب الرأي وقال الشافعي، هو المختار ومن يريد إنشاء السفر إلى بلد أيضا فيدفع إليهما ما يحتاجان إليه لذهابهما وعودهما لأنه يريد السفر لغير معصية، فأشبه المجتاز ولنا أن ابن السبيل هو الملازم للطريق الكائن فيها كما يقال: ولد الليل للذى يكثر الخروج فيه، والقاطن في بلده ليس في طريق ولا يثبت له حكم الكائن فيها ولهذا لا يثبت له حكم السفر بهمه به دون فعله، ولأنه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب دون من هو في وطنه ومنزله وإن انتهت به الحاجة منتهاها فوجب أن يحمل المذكور في الآية على الغريب دون غيره، وإنما يعطى وله اليسار في بلده لأنه عاجز عن الوصول إليه والانتفاع به فهو كالمعدوم في حقه فإن كان ابن السبيل فقيرا في بلده، أعطى لفقره وكونه ابن السبيل لوجود الأمرين فيه ويعطى لكونه ابن سبيل قدر ما يوصله إلى بلده لأن الدفع إليه للحاجة إلى ذلك فتقدر بقدره، وتدفع إليه وإن كان موسرا في بلده إذا كان محتاجا في الحال لأنه عاجز عن الوصول إلى ماله فصار كالمعدوم وإن فضل معه شيء بعد رجوعه إلى بلده رده لأنه أخذه للحاجة وقد حصل الغنى بدونه، فأشبه ما لو أخذ لغزو فلم يغز وإن كان فقيرا أو اتصل بسفره الفقر أخذ الفضل لفقره لأنه إن فات الاستحقاق بكونه ابن سبيل، حصل الاستحقاق بجهة أخرى وإن كان غارما أخذ الفضل لغرمه.

 فصل 

وإن كان ابن السبيل مجتازا يريد بلدا غير بلده فقال أصحابنا: يجوز أن يدفع إليه ما يكفيه في مضيه إلى مقصده ورجوعه إلى بلده لأن فيه إعانة على السفر المباح، وبلوغ الغرض الصحيح لكن يشترط كون السفر مباحا إما قربة كالحج والجهاد وزيارة الوالدين، أو مباحا كطلب المعاش والتجارات فأما المعصية فلا يجوز الدفع إليه فيها لأنه إعانة عليها وتسبب إليها فهو كفعلها، فإن وسيلة الشيء جارية مجراه وإن كان السفر للنزهة ففيه وجهان أحدهما يدفع إليه لأنه غير معصية والثاني، لا يدفع إليه لأنه لا حاجة به إلى هذا السفر ويقوى عندي أنه لا يجوز الدفع للسفر إلى غير بلده لأنه لو جاز ذلك لجاز للمنشئ للسفر من بلده ولأن هذا السفر إن كان لجهاد فهو يأخذ له من سهم سبيل الله، وإن كان حجا فغيره أهم منه وإذا لم يجز الدفع في هذين ففي غيرهما أولى وإنما ورد الشرع بالدفع إليه للرجوع إلى بلده لأنه أمر تدعو حاجته إليه ولا غنى به عنه فلا يجوز إلحاق غيره به لأنه ليس في معناه، فلا يجوز قياسه عليه ولا نص فيه فلا يثبت جوازه لعدم النص والقياس.

 فصل 

وإذا ادعى الرجل أنه ابن سبيل، ولم يعرف ذلك لم يقبل إلا ببينة وإن ادعى الحاجة ولم يكن عرف له مال في مكانه الذي هو به، قبل قوله من غير بينة لأن الأصل عدمه معه وإن عرف له مال في مكانه لم تقبل دعواه للفقر إلا ببينة كما لو ادعى إنسان المسكنة.

 فصل 

وجملة من يأخذ مع الغنى خمسة العامل، والمؤلف قلبه والغازى والغارم لإصلاح ذات البين، وابن السبيل الذي له اليسار في بلده وخمسة لا يعطون إلا مع الحاجة الفقير والمسكين والمكاتب، والغارم لمصلحة نفسه في مباح وابن السبيل وأربعة يأخذون أخذا مستقرا لا يلزمهم رد شيء بحال الفقير، والمسكين والعامل والمؤلف وأربعة يأخذون أخذا غير مستقر المكاتب، والغارم والغازى وابن السبيل.

 فصل 

ومن سافر لمعصية، فأراد الرجوع إلى بلده لم يدفع إليه ما لم يتب فإن تاب، احتمل جواز الدفع إليه لأن رجوعه ليس بمعصية فأشبه رجوع غيره بل ربما كان رجوعه إلى بلده تركا للمعصية، وإقلاعا عنها كالعاق يريد الرجوع إلى أبويه والفار من غريمه أو امرأته يريد الرجوع إليهما ويحتمل أن لا يدفع إليه لأن سبب ذلك المعصية، فأشبه الغارم في المعصية.

 مسألة 

قال: [وليس عليه أن يعطى لكل هؤلاء الأصناف وإن كانوا موجودين إنما عليه أن لا يجاوزهم] وذلك لأن الآية إنما سيقت لبيان من يجوز الصرف إليه، لا لإيجاب الصرف إلى الجميع بدليل أنه لا يجب تعميم كل صنف بها وقد ذكر الله تعالى في آية أخرى صرفها إلى صنف واحد فقال سبحانه: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} وقال النبي -- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) متفق عليه فلم يذكر في الآية ولا في الخبر إلا صنفا واحدا وقال النبي -- لقبيصة حين تحمل حمالة: (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) فذكر دفعها إلى صنف، وهو من الغارمين وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر وهو شخص واحد رواه أبو داود وبعث إليه على رضي الله عنه بذهيبة في تربتها فقسمها بين المؤلفة قلوبهم وهم صنف واحد والآثار في هذا كثيرة، تدل على أن النبي -- لم يكن يعتقد في كل صدقة ثابتة دفعها إلى جميع الأصناف ولا تعميمهم بها بل كان يدفعها إلى من تيسر من أهلها وهذا هو اللائق بحكمة الشرع وحسنه، إذ غير جائز أن يكلف الله سبحانه من وجبت عليه شاة أو صاع من البر أو نصف مثقال، أو خمسة دراهم دفعها إلى ثمانية عشر نفسا أو أحدا وعشرين، أو أربعة وعشرين نفسا من ثمانية أصناف لكل ثلاثة منهم ثمنها، والغالب تعذر وجودهم في الإقليم العظيم وعجز السلطان عن إيصال مال بيت المال مع كثرته إليهم على هذا الوجه فكيف يكلف الله تعالى كل من وجبت عليه زكاة جمعهم وإعطاءهم، وهو سبحانه القائل: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وأظن من قال بوجوب دفعها على هذا الوجه إنما يقوله بلسانه ولا يقدر على فعله وما بلغنا أن النبي -- فعل هذا في صدقة من الصدقات، ولا أحدا من خلفائه ولا من صحابته ولا غيرهم، ولو كان هذا هو الواجب في الشريعة المطهرة لما أغفلوه ولو فعلوه مع مشقته لنقل وما أهمل إذ لا يجوز على أهل التواتر إهمال نقل ما تدعو الحاجة إلى نقله، سيما مع كثرة من تجب عليه الزكاة ووجود ذلك في كل زمان وفي كل مصر وبلد، وهذا أمر ظاهر وقد سبقت هذه المسألة والكلام فيها فيما تقدم.

 فصل 

ويستحب تفريقها على ما أمكن من الأصناف ليخرج من الخلاف، وتعميم من أمكن من كل صنف فإن كان المتولى لتفريقها الساعى استحب إحصاء أهل السهمان من عمله حتى يكون فراغه من قبض الصدقات بعد تناهى أسمائهم، وأنسابهم وحاجاتهم وقدر كفاياتهم، لتكون تفرقته عقيب جمع الصدقة ويبدأ بإعطاء العامل لأنه يأخذه على طريق المعاوضة فكان استحقاقه أقوى ولذلك إذا عجزت الصدقة عن أجره، تمم له من بيت المال ولأن ما يأخذه أجر وقد قال النبي --: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ثم بالأهم فالأهم وأهمهم أشد حاجة، فإن كانت الصدقة تفى بحاجة جميعهم أعطى كل إنسان منهم قدر ما يدفع به حاجته فيعطى الفقير ما يغنيه، وهو ما تحصل له به الكفاية في عامه ذلك له ولعياله ويعطى المسكين ما تتم به الكفاية إلا أن يعطيه من الذهب أو الورق، ففيه روايتان إحداهما يعطيه ما تتم به الكفاية والثانية لا يزيده على خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب إلا أن يكون له عيال فيدفع إليه لكل واحد منهم خمسين درهما، ويدفع إلى العامل قدر أجره وإلى الغارم ما يقضى به غرمه وإلى المكاتب ما يوفى كتابته، والغازى يعطى ما يحتاج إليه لمؤنة غزوه وابن السبيل ما يبلغه إلى بلده وإن نقصت الصدقة عن كفايتهم فرق فيهم على حسب ما يرى ويستحب أن لا ينقص من كل صنف عن أقل من ثلاثة لأنهم أقل الجمع، إلا العامل فإنه يكون واحدا وإن فضلت الصدقة عن كفايتهم نقل الفاضل إلى أقرب البلاد إليه وإن كان المتولى لتفريقها ربها، فيستحب أن يبدأ بأهلها من أهله ويفرقها في الأهم فالأهم وهو من اشتدت حاجته، وقرب منه نسبه ويعطى من أمكنه.

 فصل 

وإن اجتمع في واحد سببان يجوز الأخذ بكل واحد منهما منفردا، كالفقير الغارم أعطى بهما جميعا فيعطى ما يقضى غرمه، ثم يعطى ما يغنيه لأن الشخص الذي فيه المعنيان كشخصين وجد في كل واحد منهما أحد المعنيين فيستحق بهما كالميراث لابن عم هو زوج أو أخ من أم، ولو أوصى لقرابته وللفقراء استحق القريب الفقير سهمين.

 مسألة 

قال: [ولا يعطي من الصدقة لبني هاشم] ولا لمواليهم ولا للوالدين وإن علوا، ولا للولد وإن سفل ولا للزوج ولا للزوجة ولا لمن تلزمه مؤنته، ولا لكافر ولا لمملوك إلا أن يكونوا من العاملين عليها، فيعطون بحق ما عملوا ولا لغني وهو الذي يملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب هذه المسائل قد تكررت، وذكرنا شرحها في باب الزكاة بما أغنى عن إعادته ها هنا.

 مسألة 

قال: [وإذا تولى الرجل إخراج زكاته سقط العاملون] وذلك لأن العامل إنما يأخذ أجر عمالته، فإذا أخرج الرجل زكاة نفسه لم يكن ثم عامل عليها ولا من يستحق أجرا، فيسقط سهمه والله أعلم.

 فصل 

في جوائز السلطان كان الإمام أبو عبد الله رحمة الله عليه يتورع عنها ويمنع بنيه وعمه من أخذها، وهجرهم حين قبلوها وسد الأبواب بينه وبينهم حين أخذوها ولم يكن يأكل من بيوتهم شيئا، ولا ينتفع بشيء يصنع عندهم وأمرهم بالصدقة بما أخذوه وإنما فعل ذلك لأن أموالهم تختلط بما يأخذونه من الحرام من الظلم وغيره فيصير شبهة، وقد قال النبي --: (الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن واقع الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه) وقال النبي --: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) واحتج أحمد بأن جماعة من الصحابة تنزهوا عن مال السلطان منهم حذيفة وأبو عبيدة، ومعاذ وأبو هريرة وابن عمر ولم ير أبو عبد الله ذلك حراما فإنه سئل، فقيل له: مال السلطان حرام؟ فقال: لا وأحب إلى أن يتنزه عنه وفي رواية قال: ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم حق فكيف أقول إنها سحت؟ وقد كان الحسن، والحسين وعبد الله بن جعفر وكثير من الصحابة، يقبلون جوائز معاوية وروى عن على رضي الله عنه أنه قال: لا بأس بجوائز السلطان ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام وقال: لا تسأل السلطان شيئا، فإن أعطاك فخذ فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام وروى عمر بن شيبة البحترى " في كتاب القضاء " أن الحسن وابن سيرين والشعبي، دخلوا على عمر بن هبيرة فأمر لكل واحد منهم بألف درهم ألف درهم وأمر للحسن بألفى درهم فقبض الحسن جائزته، وأبى ابن سيرين أن يقبض فقال لابن سيرين: ما لك لا تقبض؟ قال: حتى يعم الناس فقال الحسن: والله لو عرض لك ولى لص فأخذ ردائى ورداءك، ثم بدا له أن يرد على ردائى كنت أقول: لا أقبل ردائى حتى ترد على ابن سيرين رداءه؟ كنت أحب أن تكون أفقه مما أنت يا ابن سيرين ولأن جوائز السلطان لها وجه في الإباحة والتحليل فإن له جهات كثيرة من الفيء والصدقة وغيرهما.

فصل

عدل

قال أحمد: جوائز السلطان أحب إلى من الصدقة يعني أن الصدقة أوساخ الناس، صين عنها النبي -- وآله لدناءتها ولم يصانوا عن جوائز السلطان وسئل أحمد عمن عامل السلطان فربح ألفا، وآخر أجازه السلطان بألف أيهما أحب إليك؟ قال: الجائزة وذلك لأن الذي يربح عليه ألفا لا يربحها في الغالب إلا بنوع من التدليس والغبن الفاحش، والجائزة عطاء من الإمام برضاه لا تدليس فيها ولا غبن وقال أحمد: إذا كان بينك وبين السلطان رجل يعني فهو أحب إلى من أخذه منه وذلك لأن الوسائط كلما كثرت قربت إلى الحل لأنها مع البعد تتبدل، وتحصل فيها أسباب مبيحة والله سبحانه أعلم.