المغني - كتاب الهبة والعطايا

المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء الرابع والعشرون – كتاب الهبة والعطايا) o مسألة: لا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه o فصل: حكم الملك حكم الهبة o فصل: الواهب بالخيار قبل القبض o فصل: إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة o فصل: إن وهبه شيئًا في يد المتهب كوديعة o مسألة: غير المكيل والموزون تلزم الهبة فيه بمجرد العقد o فصل: يستغنى عن القبض في موضع وجد فيه الإيجاب والقبول o فصل: القبض فيما لا ينقل بالتخلية بينه وبينه لا حائل دونه o فصل: صحة هبة المشاع o فصل: إن قلنا: إن القبض شرط في الهبة لم تصح الهبة فيما لا يمكن تسليمه o فصل: لا تصح هبة الحمل في البطن واللبن في الضرع o فصل: لا يصح تعليق الهبة بشرط o فصل: إن وهب أمة واستثنى ما في بطنها صح في قياس قول أحمد o فصل: إذا كان له في ذمة إنسان دين فوهبه له o فصل: إن وهب الدين لغير من هو في ذمته أو باعه إياه لم يصح o فصل: صحة البراءة من المجهول o مسألة: يقبض للطفل أبوه أو وصيه أو الحاكم أو أمينه بأمره o فصل: هبة الأب لابنه شيئًا o فصل: إن كان الواهب للصبي غير الأب من أوليائه o فصل: الهبة من الصبي لغيره لا تصح o مسألة: إذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده o فصل: التخصيص بالوقف o فصل: استحباب التسوية وكراهة التفضيل o فصل: ليس عليه التسوية بين سائر أقاربه o فصل: الأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب o فصل: للأب الرجوع فيما وهب لولده o فصل: ظاهر كلام الخرقي أن الأم كالأب في الرجوع في الهبة o فصل: لا فرق بين الهبة والصدقة o فصل: للرجوع في هبة الولد شروط أربعة o فصل: الشرط الثاني: أن تكون العين باقية في تصرف الولد o فصل: الشرط الرابع: أن لا تزيد زيادة متصلة o فصل: إن قصر العين أو فصلها فلم تزد قيمتها لم تمنع الرجوع o فصل: إن تلف بعض العين أو نقصت قيمتها لم يمنع الرجوع فيها o فصل: الرجوع في الهبة أن يقول قد رجعت فيها أو ارتجعتها o مسألة: إذا فاضل بين ولده في العطايا أو خص بعضهم بعطية ثم مات o فصل: استحباب عدم تقسيم المال وتركه على فرائض الله تعالى o فصل: وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء ويتملكه o فصل: ليس للولد مطالبة أبيه بدين عليه o فصل: إن تصرف الأب في مال الابن قبل تملكه لم يصح تصرفه o فصل: ملك الابن على ماله تام o فصل: ليس لغير الأب الأخذ من مال غيره بغير إذنه o مسألة: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته ولا لمهد أن يرجع في هديته o فصل: حصول الاتفاق على أن ما وهبه الإنسان لذوي رحمه المحرم غير ولده لا رجوع فيه o فصل: لا يجوز للمتصدق الرجوع في صدقته o فصل: الهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا سواء كانت من الإنسان لمثله أو دونه أو أعلى منه o مسألة: داري لك عمري أو هي لك عمرك فهي له ولورثته من بعده o فصل: إذا شرط في العمرى أنها للمعمر وعقبه فهذا تأكيد لحكمها o فصل: تعريف الرقبى o فصل: تصح العمرى في غير العقار o فصل: توقيت الهبة إلى غير العمرى والرقبى o مسألة: السكنى ليست كالعمرى والرقبى o فصل: إذا وهب هبة فاسدة أو باع بيعًا فاسدًا

مسألة: قال: [ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه] وجملة ذلك أن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة وكلها تمليك في الحياة بغير عوض, واسم العطية شامل لجميعها وكذلك الهبة والصدقة والهدية متغايران فإن النبي ـ ـ كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وقال في اللحم الذي تصدق به على بريرة: (هو عليها صدقة, ولنا هدية) فالظاهر أن من أعطى شيئًا ينوي به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة ومن دفع إلى إنسان شيئا للتقرب إليه والمحبة له, فهو هدية وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه فإن النبي ـ ـ قال: (تهادوا تحابوا) وأما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن يمكننا حصره, وقد قال الله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة: 271]. إذا ثبت هذا فإن المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض وهو قول أكثر الفقهاء منهم النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة والشافعي وقال مالك وأبو ثور: يلزم ذلك بمجرد العقد لعموم قوله عليه السلام: (العائد في هبته, كالعائد في قيئه) ولأنه إزالة ملك بغير عوض فلزم بمجرد العقد كالوقف والعتق وربما قالوا: تبرع, فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف ولأنه عقد لازم ينقل الملك فلم يقف لزومه على القبض كالبيع ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف فروي عروة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية فلما مرض قال: يا بنية, ما أحد أحب إلى غنى بعدي منك ولا أحد أعز على فقرا منك وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا ووددت أنك حزتيه أو قبضتيه, وهو اليوم مال الوارث أخواك وأختاك فاقتسموا على كتاب الله عز وجل وروى ابن عيينة عن الزهري, عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن عمر بن الخطاب قال: ما بال أقوام ينحلون أولادهم, فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدي وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدي؟ لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد, فإن مات ورثه وروى عثمان أن الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغارا قال المروذي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلى أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة ولأنها هبة غير مقبوضة فلم تلزم, كما لو مات قبل أن يقبض فإن مالكا يقول: لا يلزم الورثة التسليم والخبر محمول على المقبوض, ولا يصح القياس على الوقف والوصية والعتق لأن الوقف إخراج ملك إلى الله تعالى فخالف التمليكات والوصية تلزم في حق الوارث, والعتق إسقاط حق وليس بتمليك ولأن الوقف والعتق لا يكون في محل النزاع في المكيل والموزون.

 فصل: 

وقول الخرقي [لا يصح] يحتمل أن يريد لا يلزم ويحتمل أن يريد لا يثبت بها الملك قبل القبض فإن حكم الملك حكم الهبة, والصحة اعتبار الشيء في حق حكمه وأما الصحة بمعنى انعقاد اللفظ بحيث إذا انضم إليه القبض اعتبر وثبت حكمه فلا يصح حمل لفظه على نفيه لعدم الخلاف فيه, ولأنه قال في سياق المسألة: " كما يصح في البيع " وقد تقرر في البيع أن بيع المكيل والموزون صحيح قبل القبض وإنما ينتفي الضمان وإطلاقه في التصرفات وقوله: " ما يكال وما يوزن " ظاهره العموم في كل موزون ومكيل وخصه أصحابنا المتأخرون بما ليس بمتعين فيه, كالقفيز من صبرة والرطل من زبدة وقد ذكرنا ذلك في البيع ورجحنا العموم.

 فصل: 

والواهب بالخيار قبل القبض, إن شاء أقبضها وأمضاها وإن شاء رجع فيها ومنعها ولا يصح قبضها إلا بإذنه فإن قبضها الموهوب له بغير إذنه لم تتم الهبة, ولم يصح القبض وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا قبضها في المجلس صح وإن لم يأذن له لأن الهبة قامت مقام الإذن في القبض لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذي لا يتم إلا بالقبض ولنا أنه قبض الهبة بغير إذن الواهب, فلم يصح كما بعد المجلس أو كما لو نهاه عن قبضها, ولأن التسليم غير مستحق على الواهب فلا يصح التسليم إلا بإذنه كما لو أخذ المشتري المبيع من البائع قبل تسليم ثمنه ولا يصح جعل الهبة إذنا في القبض بدليل ما بعد المجلس ولو أذن الواهب في القبض, ثم رجع عن الإذن أو رجع في الهبة صح رجوعه لأن ذلك ليس بقبض وإن رجع بعد القبض, لم ينفع رجوعه لأن الهبة تمت.

 فصل: 

وإذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة سواء كان قبل الإذن في القبض أو بعده ذكره القاضي في موت الواهب لأنه عقد جائز فبطل بموت أحد المتعاقدين, كالوكالة والشركة وقال أحمد في رواية أبي طالب وأبي الحارث, في رجل أهدى هدية فلم تصل إلى المهدي إليه حتى مات فإنها تعود إلى صاحبها ما لم يقبضها وروى بإسناده عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: (لما تزوج رسول الله ـ ـ أم سلمة, قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة على فإن ردت فهي لك قالت: فكان ما قال رسول الله ـ ـ وردت عليه هديته, فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة) وإن مات صاحب الهدية قبل أن تصل إلى المهدي إليه رجعت إلى ورثة المهدي, وليس للرسول حملها إلى المهدي إليه إلا أن يأذن له الوارث ولو رجع المهدي في هديته قبل وصولها إلى المهدي إليه صح رجوعه فيها, والهبة كالهدية وقال أبو الخطاب إذا مات الواهب قام وارثه مقامه في الإذن في القبض والفسخ وهذا يدل على أن الهبة لا تنفسخ بموته وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه عقد مآله إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع المشروط فيه الخيار وكذلك يخرج فيما إذا مات الموهوب له بعد قبوله وإن مات أحدهما قبل القبول, أو ما يقوم مقامه بطلت وجها واحدا لأن العقد لم يتم, فأشبه ما لو أوجب البيع فمات أحدهما قبل القبول من المشتري وإذا قلنا: إن الهبة لا تبطل فمات أحدهما بعد الإذن في القبض بطل الإذن, وجها واحدا لأن الميت إن كان هو الواهب فقد انتقل حقه في الرجوع في الهبة إلى وارثه فلم يلزم بغير إذنه وإن كان الموهوب له فلم يوجد الإذن, لوارثه فلم يملك القبض بغير إذن.

 فصل: 

وإن وهبه شيئا في يد المتهب كوديعة, أو مغصوب فظاهر كلام أحمد أن الهبة تلزم من غير قبض ولا مضي مدة يتأتي القبض فيها فإنه قال في رواية ابن منصور: إذا وهب لامرأته شيئا ولم تقبضه, فليس بينه وبينها خيار هي معه في البيت فظاهر هذا أنه لم يعتبر قبضا ولا مضي مدة يتأتى فيها, لكونها معه في البيت فيدها على ما فيه وقال القاضي: لا بد من مضي مدة يتأتى فيها القبض وقد روي عن أحمد رواية أخرى أنه يفتقر إلى إذن في القبض وقد مضى تعليل ذلك وتفصيله في الرهن ومذهب الشافعي كمذهبنا, في الاختلاف في اعتبار الإذن واعتبار مضي مدة يتأتى القبض فيها.

 مسألة: 

قال: [ويصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما يصح في البيع] يعني أن غير المكيل والموزون تلزم الهبة فيه بمجرد العقد, ويثبت الملك في الموهوب قبل قبضه وروي ذلك عن علي وابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ فإنه يروى عنهما أنهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض وهو قول مالك وأبي ثور وعن أحمد رواية أخرى: لا تلزم الهبة في الجميع إلا بالقبض وهو قول أكثر أهل العلم قال المروذي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلى على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة ويروى ذلك عن النخعي والثوري, والحسن بن صالح والعنبري والشافعي وأصحاب الرأي, لما ذكرنا في المسألة الأولى ووجه الرواية الأولى أن الهبة أحد نوعي التمليك فكان منها ما لا يلزم قبل القبض ومنها ما يلزم قبله, كالبيع فإن فيه ما لا يلزم قبل القبض وهو الصرف, وبيع الربويات ومنه ما يلزم قبله وهو ما عدا ذلك فأما حديث أبي بكر, فلا يلزم فإن جذاذ عشرين وسقا يحتمل أنه أراد به عشرين وسقا مجذوذة, فيكون مكيلا غير معين وهذا لا بد فيه من القبض وإن أراد نخلا يجذ عشرين وسقا, فهو أيضا غير معين ولا تصح الهبة فيه قبل تعيينه فيكون معناه: وعدتك بالنحلة وقول عمر أراد به النهي عن التحيل بنحلة الوالد ولده نحلة موقوفة على الموت فيظهر: إني نحلت ولدي شيئا ويمسكه في يده ويستغله, فإذا مات أخذه ولده بحكم النحلة التي أظهرها وإن مات ولده أمسكه ولم يعط ورثة ولده شيئا وهذا على هذا الوجه محرم, فنهاهم عن هذا حتى يحوزها الولد دون والده فإن مات ورثها ورثته كسائر ماله وإذا كان المقصود هذا اختص بهبة الولد دون والده, وشبهه على أنه قد روي عن علي وابن مسعود خلاف ذلك فتعارضت أقوالهم.

 فصل: 

قول الخرقي: [إذا قبل] يدل على أنه إنما يستغنى عن القبض في موضع وجد فيه الإيجاب والقبول والإيجاب أن يقول: وهبتك, أو أهديت إليك أو أعطيتك أو هذا لك ونحوه من الألفاظ الدالة على هذا المعنى والقبول أن يقول: قبلت, أو رضيت أو نحو هذا وذكر القاضي وأبو الخطاب, أن الهبة والعطية لا تصح كلها إلا بإيجاب وقبول ولا بد منهما سواء وجد القبض أو لم يوجد وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه عقد تمليك, فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالنكاح والصحيح أن المعاطاة والأفعال الدالة على الإيجاب والقبول كافية ولا يحتاج إلى لفظ وهذا اختيار ابن عقيل فإن النبي ـ ـ كان يهدي ويهدى إليه, ويعطي ويعطى ويفرق الصدقات ويأمر سعاته بتفريقها وأخذها, وكان أصحابه يفعلون ذلك " ولم ينقل عنهم في ذلك إيجاب ولا قبول ولا أمر به ولا تعليمه لأحد ولو كان ذلك شرطا لنقل عنهم نقلا مشهورا (وكان ابن عمر على بعير لعمر, فقال النبي ـ ـ لعمر: بعنيه فقال: هو لك يا رسول الله فقال رسول الله ـ ـ : هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت) ولم ينقل قبول النبي ـ ـ من عمر ولا قبول ابن عمر من النبي ـ ـ ولو كان شرطا لفعله النبي ـ ـ وعلمه ابن عمر, ولم يكن ليأمره أن يصنع به ما شاء قبل أن يقبله وروى أبو هريرة (أن النبي ـ ـ كان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قالوا: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل وإن قالوا: هدية ضرب بيده, فأكل معهم) ولا خلاف بين العلماء فيما علمناه في أن تقديم الطعام بين يدي الضيفان إذن في الأكل, وأنه لا يحتاج إلى قبول بقوله ولأنه وجد ما يدل على التراضي بنقل الملك فاكتفى به كما لو وجد الإيجاب والقبول قال ابن عقيل إنما يشترط الإيجاب والقبول مع الإطلاق, وعدم العرف القائم بين المعطي والمعطى لأنه إذا لم يكن عرف يدل على الرضا فلا بد من قول دال عليه أما مع قرائن الأحوال والدلائل, فلا وجه لتوقيفه على اللفظ ألا ترى أنا اكتفينا بالمعاطاة في البيع واكتفينا بدلالة الحال في دخول الحمام, وهو إجارة وبيع أعيان فإذا اكتفينا في المعاوضات مع تأكدها بدلالة الحال وأنها تنقل الملك من الجانبين, فلأن نكتفي به في الهبة أولى.

 فصل: 

والقبض فيما لا ينقل بالتخلية بينه وبينه لا حائل دونه وفيما ينقل بالنقل, وفي المشاع بتسليم الكل إليه فإن أبى الشريك أن يسلم نصيبه قيل للمتهب: وكل الشريك في قبضه لك ونقله فإن أبى نصب الحاكم من يكون في يده لهما, فينقله ليحصل القبض لأنه لا ضرر على الشريك في ذلك ويتم به عقد شريكه.

 فصل: 

وتصح هبة المشاع وبه قال مالك والشافعي قال الشافعي: سواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن وقال أصحاب الرأي: لا تصح هبة المشاع الذي يمكن قسمته لأن القبض شرط في الهبة, ووجوب القسمة يمنع صحة القبض وتمامه فإن كان مما لا يمكن قسمته صحت هبته لعدم ذلك فيه وإن وهب واحد اثنين شيئا مما ينقسم لم يجز عند أبي حنيفة وجاز عند صاحبيه وإن وهب اثنان اثنين شيئا مما ينقسم, لم يصح في قياس قولهم لأن كل واحد من المتهبين قد وهب له جزء مشاع ولنا أن وفد هوازن لما جاءوا يطلبون من رسول الله ـ ـ أن يرد عليهم ما غنمه منهم قال رسول الله ـ ـ : (ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) رواه البخاري وهذا هبة مشاع وروى عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده قال: سمعت (النبي ـ ـ وقد جاءه رجل ومعه كبة من شعر, فقال: أخذت هذه من المغنم لأصلح بردعة لي فقال النبي ـ ـ : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك) وروى عمير بن سلمة الضمري قال: (خرجنا مع رسول الله ـ ـ حتى أتينا الروحاء, فرأينا حمار وحش معقورا فأردنا أخذه فقال رسول الله ـ ـ : دعوه, فإنه يوشك أن يجيء صاحبه فجاء رجل من بهز وهو الذي عقره فقال: يا رسول الله: شأنكم الحمار فأمر رسول الله ـ ـ أبا بكر أن يقسمه بين الناس) رواه الإمام أحمد, والنسائي ولأنه يجوز بيعه فجازت هبته كالذي لا ينقسم, ولأنه مشاع فأشبه ما لا ينقسم وقولهم: إن وجوب القسمة يمنع صحة القبض لا يصح فإنه لم يمنع صحته في البيع فكذا ها هنا ومتى كانت الهبة لاثنين, فقبضاه بإذنه ثبت ملكهما فيه وإن قبضه أحدهما, ثبت الملك في نصيبه دون نصيب صاحبه. فصل: ومتى قلنا: إن القبض شرط في الهبة لم تصح الهبة فيما لا يمكن تسليمه كالعبد الآبق والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على أخذه من غاصبه وبهذا يقول أبو حنيفة, والشافعي لأنه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في ذلك كالبيع وإن وهب المغصوب لغاصبه, أو لم يتمكن من أخذه منه صح لأنه ممكن قبضه وليس لغير الغاصب القبض إلا بإذن الواهب فإن وكل المالك الغاصب في تقبيضه صح وإن وكل المتهب الغاصب في القبض له, فقبل ومضى زمن يمكن قبضه فيه صار مقبوضًا, وملكه المتهب وبرئ الغاصب من ضمانه وإن قلنا: القبض ليس بشرط في الهبة فما لا يعتبر فيه القبض من ذلك احتمل أن لا يعتبر في صحة هبته القدرة على التسليم وهو قول أبي ثور لأنه تمليك بغير عوض أشبه الوصية ويحتمل أن لا تصح هبته لأنه لا يصح بيعه, فلم تصح هبته كالحمل في البطن وكذلك يخرج في هبة الطير في الهواء والسمك في الماء, إذا كان مملوكًا.

 فصل: 

ولا تصح هبة الحمل في البطن واللبن في الضرع وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي, وأبو ثور لأنه مجهول معجوز عن تسليمه وفي الصوف على الظهر وجهان بناء على صحة بيعه ومتى أذن له في جز الصوف وحلب الشاة, كان إباحة وإن وهب دهن سمسمه قبل عصره أو زيت زيتونه أو جفته, لم يصح وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا ولا تصح هبة المعدوم, كالذي تثمر شجرته أو تحمل أمته لأن الهبة عقد تمليك في الحياة فلم تصح في هذا كله, كالبيع.

 فصل: 

ولا يصح تعليق الهبة بشرط لأنها تمليك لمعين في الحياة فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع فإن علقها على شرط, كقول النبي ـ ـ لأم سلمة: (إن رجعت هديتنا إلى النجاشي فهي لك) كان وعدًا وإن شرط في الهبة شروطا تنافي مقتضاها نحو أن يقول: وهبتك هذا بشرط أن لا تهبه, أو لا تبيعه أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو بشرط أن تهب فلانا شيئا يصح الشرط وفي صحة الهبة وجهان, بناء على الشروط الفاسدة في البيع وإن وقت الهبة فقال: وهبتك هذا سنة ثم يعود إلى لم يصح لأنه عقد تمليك لعين, فلم يصح مؤقتا كالبيع.

 فصل: 

وإن وهب أمة واستثنى ما في بطنها صح في قياس قول أحمد, في من أعتق أمة واستثنى ما في بطنها لأنه تبرع بالأم دون ما في بطنها فأشبه العتق وبه يقول في العتق النخعي وإسحاق, وأبو ثور وقال أصحاب الرأي: تصح الهبة ويبطل الاستثناء ولنا أنه لم يهب الولد فلم يملك الموهوب له, كالمنفصل وكالموصى به.

 فصل: 

وإذا كان له في ذمة إنسان دين فوهبه له, أو أبرأه منه أو أحله منه صح, وبرئت ذمة الغريم منه وإن رد ذلك ولم يقبله لأنه إسقاط, فلم يفتقر إلى القبول كإسقاط القصاص والشفعة وحد القذف وكالعتق والطلاق وإن قال: تصدقت به عليك صح, فإن القرآن ورد في الإبراء بلفظ الصدقة بقول الله تعالى: {ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} [النساء: 92]. وإن قال: عفوت لك عنه صح لأن الله تعالى قال: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237]. يعني به الإبراء من الصداق وإن قال: أسقطته عنك صح لأنه أتى بحقيقة اللفظ الموضوع له وإن قال: ملكتك إياه صح لأنه بمنزلة هبته إياه.

 فصل: 

وإن وهب الدين لغير من هو في ذمته أو باعه إياه, لم يصح وبه قال في البيع أبو حنيفة والثوري وإسحاق قال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضا, فبعه من الذي هو عليه بنقد ولا تبعه من غيره بنقد ولا نسيئة وإذا أقرضت رجلا دراهم أو دنانير, فلا تأخذ من غيره عرضا بما لك عليه وقال الشافعي: إن كان الدين على معسر أو مماطل أو جاحد له, لم يصح البيع لأنه معجوز عن تسليمه وإن كان على مليء باذل له ففيه قولان أحدهما يصح لأنه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح, كما لو اشترى في ذمته ويشترط أن يشتريه بعين أو يتقابضان في المجلس, لئلا يكون بيع دين بدين ولنا أنه غير قادر على تسليمه فلم يصح كبيع الآبق فأما هبته, فيحتمل أن لا تصح كالبيع ويحتمل أن تصح لأنه لا غرر فيها على المتهب, ولا الواهب فتصح كهبة الأعيان.

 فصل: 

تصح البراءة من المجهول, إذا لم يكن لهما سبيل إلى معرفته وقال أبو حنيفة: تصح مطلقا وقال الشافعي: لا تصح إلا أنه إذا أراد ذلك قال: أبرأتك من درهم إلى ألف لأن الجهالة إنما منعت لأجل الغرر فإذا رضي بالجملة, فقد زال الغرر وصحت البراءة ولنا أن النبي ـ ـ قال لرجلين اختصما إليه في مواريث درست: (اقتسما, وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحالا) رواه أبو داود ولأنه إسقاط, فصح في المجهول كالعتاق والطلاق وكما لو قال: من درهم إلى ألف ولأن الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة, ولا سبيل إلى العلم بما فيها فلو وقف صحة البراءة على العلم لكان سدا لباب عفو الإنسان عن أخيه المسلم, وتبرئة ذمته فلم يجز ذلك كالمنع من العتق وأما إن كان من عليه الحق يعلمه, ويكتمه المستحق خوفا من أنه إذا علمه لم يسمح بإبرائه منه فينبغي أن لا تصح البراءة فيه لأن فيه تغريرا بالمشتري, وقد أمكن التحرز منه وقال أصحابنا: لو أبرأه من مائة وهو يعتقد أنه لا شيء له عليه وكان له عليه مائة, ففي صحة البراءة وجهان أحدهما صحتها لأنها صادفت ملكه فأسقطته, كما لو علمها والثاني لا تصح لأنه أبرأه مما لا يعتقد أنه عليه فلم يكن ذلك إبراء في الحقيقة وأصل الوجهين ما لو باع مالا كان لموروثه, يعتقد أنه باق لمورثه وكان مورثه قد مات وانتقل ملكه إليه, فهل يصح؟ فيه وجهان وللشافعي قولان في البيع وفي صحة الإبراء وجهان.

 مسألة: 

قال: [ويقبض للطفل أبوه أو وصيه, أو الحاكم أو أمينه بأمره] وجملة ذلك أن الطفل لا يصح قبضه لنفسه ولا قبوله لأنه ليس من أهل التصرف, ووليه يقوم مقامه في ذلك فإن كان له أب أمين فهو وليه لأنه أشفق عليه وأقرب إليه, وإن مات أبوه الأمين وله وصى فوليه وصيه لأن الأب أقامه مقام نفسه, فجرى مجرى وكيله وإن كان الأب غير مأمون لفسق أو جنون أو مات عن غير وصي, فأمينه الحاكم ولا يلي ماله غير هؤلاء الثلاثة وأمين الحاكم يقوم مقامه وكذلك وكيل الأب والوصي, فيقوم كل واحد منهم مقام الصبي في القبول والقبض إن احتيج إليه لأن ذلك قبول لما للصبي فيه حظ فكان إلى الولى كالبيع والشراء ولا يصح القبض والقبول من غير هؤلاء قال أحمد, في رواية صالح في صبي وهبت له هبة أو تصدق عليه بصدقة, فقبضت الأم ذلك وأبوه حاضر فقال: لا أعرف للأم قبضا ولا يكون إلا للأب وقال عثمان رضي الله عنه: أحق من يحوز على الصبي أبوه وهذا مذهب الشافعي, ولا أعلم فيه خلافا لأن القبض إنما يكون من المتهب أو نائبه والوالي نائب بالشرع فصح قبضه له, أما غيره فلا نيابة له ويحتمل أن يصح القبض والقبول من غيرهم عند عدمهم لأن الحاجة داعية إلى ذلك فإن الصبي قد يكون في مكان لا حاكم فيه وليس له أب ولا وصى ويكون فقيرا لا غنى به عن الصدقات, فإن لم يصح قبض غيرهم له انسد باب وصولها إليه فيضيع ويهلك, ومراعاة حفظه عن الهلاك أولى من مراعاة الولاية فعلى هذا للأم القبض له وكل من يليه من أقاربه وغيرهم وإن كان الصبي مميزا, فحكمه حكم الطفل في قيام وليه مقامه لأن الولاية لا تزول عنه قبل البلوغ, إلا أنه إذا قبل لنفسه وقبض لها صح لأنه من أهل التصرف فإنه يصح بيعه وشراؤه بإذن الولي, فهاهنا أولى ولا يحتاج إلى إذن الولى ها هنا لأنه محض مصلحة ولا ضرر فيه فصح من غير إذن وليه, كوصيته وكسب المباحات ويحتمل أن يقف صحة القبض منه على إذن وليه دون القبول لأن القبض يحصل به مستوليا على المال, فلا يؤمن تضييعه له وتفريطه فيه فيتعين حفظه عن ذلك بوقفه على إذن وليه كقبضه لوديعته وأما القبول, فيحصل له به الملك من غير ضرر فجاز من غير إذن كاحتشاشه واصطياده.

 فصل: 

فإن وهب الأب لابنه شيئا, قام مقامه في القبض والقبول إن احتيج إليه قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا وهب لولده الطفل دارا بعينها أو عبدا بعينه, وقبضه له من نفسه وأشهد عليه أن الهبة تامة هذا قول مالك, والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وروينا معنى ذلك عن شريح, وعمر بن عبد العزيز ثم إن كان الموهوب مما يفتقر إلى قبض اكتفى بقوله: قد وهبت هذا لابني وقبضته له لأنه يغني عن القبول كما ذكرنا ولا يغني قوله: قد قبلته لأن القبول لا يغني عن القبض وإن كان مما لا يفتقر اكتفى بقوله: قد وهبت هذا لابني ولا يحتاج إلى ذكر قبض ولا قبول قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء على أن هبة الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض, وأن الإشهاد فيها يغني عن القبض وإن وليها أبوه لما رواه مالك عن الزهري, عن ابن المسيب أن عثمان قال: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلة, فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزة, وإن وليها أبوه وقال القاضي: لا بد في هبة الولد من أن يقول: قد قبلته وهذا مذهب الشافعي لأن الهبة عندهم لا تصح إلا بإيجاب وقبول وقد ذكرنا من قبل أن قرائن الأحوال ودلالتها تغني عن لفظ القبول ولا أدل على القبول من كون القابل هو الواهب فاعتبار لفظ لا يفيد معنى من غير ورود الشرع به تحكم لا معنى له, مع مخالفته لظاهر حال النبي ـ ـ وصحابته وليس هذا مذهبا لأحمد فقد قال في رواية حرب في رجل أشهد بسهم من ضيعته وهي معروفة لابنه, وليس له ولد غيره فقال: أحب إلى أن يقول عند الإشهاد: قد قبضته له قيل له: فإن سها؟ قال: إذا كان مفرزًا رجوت فقد ذكر أحمد أنه يكتفى بقوله: قد قبضته وأنه يرجو أن يكتفى مع التمييز بالإشهاد فحسب وهذا موافق للإجماع المذكور عن سائر العلماء وقال بعض أصحابنا: يكتفى بأحد لفظين إما أن يقول: قد قبلته, أو قبضته لأن القبول يغني عن القبض وظاهر كلام أحمد ما ذكرناه ولا فرق بين الأثمان وغيرها فيما ذكرنا وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وقال مالك: إن وهب له ما يعرف بعينه كالأثمان, لم يجز إلا أن يضعها على يد غيره لأن الأب قد يتلف ذلك ويتلف بغير سببه, ولا يمكن أن يشهد على شيء بعينه فلا ينفع القبض شيئا ولنا أن ذلك مما لا تصح هبته فإذا وهبه لابنه الصغير, وقبضه له وجب أن تصح كالعروض.

 فصل: 

وإن كان الواهب للصبي غير الأب من أوليائه فقال أصحابنا: لا بد من أن يوكل من يقبل للصبي, ويقبض له ليكون الإيجاب منه والقبول, والقبض من غيره كما في البيع بخلاف الأب فإنه يجوز أن يوجب ويقبل ويقبض لكونه يجوز أن يبيع لنفسه والصحيح عندي أن الأب وغيره في هذا سواء لأنه عقد يجوز أن يصدر منه ومن وكيله, فجاز له أن يتولى طرفيه كالأب وفارق البيع فإنه لا يجوز أن يوكل من يشتري له ولأن البيع عقد معاوضة ومرابحة, فيتهم في عقده لنفسه والهبة محض مصلحة لا تهمة فيها وهو ولى فيه, فجاز أن يتولى طرفي العقد كالأب ولأن البيع إنما منع منه لما يأخذه من العوض لنفسه من مال الصبي, وهو ها هنا يعطى ولا يأخذ فلا وجه لمنعه من ذلك وتوقيفه على توكيل غيره, ولأننا قد ذكرنا أنه يستغنى بالإيجاب والإشهاد عن القبض والقبول فلا حاجة إلى التوكيل فيهما مع غناه عنهما.

 فصل: 

فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح, سواء أذن فيها الولي أو لم يأذن لأنه محجور عليه لحظ نفسه فلم يصح تبرعه كالسفيه وأما العبد فلا يجوز أن يهب إلا بإذن سيده لأنه مال لسيده, وماله مال لسيده فلا يجوز له إزالة ملك سيده عنه بغير إذنه كالأجنبي وله أن يقبل الهبة بغير إذن سيده نص عليه أحمد لأنه تحصيل للمال لسيده, فلم يعتبر إذنه فيه كالالتقاط وما وهبه لسيده, لأنه من اكتسابه فأشبه اصطياده.

 مسألة: 

قال: [وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده, كأمر النبي ـ ـ] وجملة ذلك أنه يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية وإذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل فإن خص بعضهم بعطيته, أو فاضل بينهم فيها أثم ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين إما رد ما فضل به البعض وإما إتمام نصيب الآخر قال طاوس: لا يجوز ذلك, ولا رغيف محترق وبه قال ابن المبارك وروى معناه عن مجاهد وعروة وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء وقال مالك, والليث والثوري والشافعي, وأصحاب الرأي: ذلك جائز وروى معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح لأن أبا بكر رضي الله عنه نحل عائشة ابنته جذاذ عشرين وسقا, دون سائر ولده واحتج الشافعي بقول النبي ـ ـ في حديث النعمان بن بشير: (أشهد على هذا غيري) فأمره بتأكيدها دون الرجوع فيها ولأنها عطية تلزم بموت الأب فكانت جائزة, كما لو سوى بينهم ولنا ما روى النعمان بن بشير قال: (تصدق على أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله ـ ـ فجاء أبي إلى رسول الله ـ ـ ليشهده على صدقته فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا قال: فاتقوا الله, واعدلوا بين أولادكم قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة) وفي لفظ قال: " فاردده " وفي لفظ قال: " فأرجعه " وفي لفظ: " لا تشهدني على جور " وفي لفظ: " فأشهد على هذا غيري " وفي لفظ: " سو بينهم " وهو حديث صحيح متفق عليه وهو دليل على التحريم لأنه سماه جورا, وأمر برده وامتنع من الشهادة عليه والجور حرام, والأمر يقتضي الوجوب ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه, كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي ـ ـ ولا يحتج به معه ويحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه خصها بعطيته لحاجتها وعجزها عن الكسب والتسبب فيه مع اختصاصها بفضلها وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله ـ ـ وغير ذلك من فضائلها ويحتمل أن يكون قد نحلها ونحل غيرها من ولده, أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت قبل ذلك ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه وأقل أحواله الكراهة, والظاهر من حال أبي بكر اجتناب المكروهات وقول النبي ـ ـ : (فأشهد على هذا غيري) ليس بأمر لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب والندب ولا خلاف في كراهة هذا وكيف يجوز أن يأمره بتأكيده مع أمره برده, وتسميته إياه جورا وحمل الحديث على هذا حمل لحديث النبي ـ ـ على التناقض والتضاد ولو أمر النبي ـ ـ بإشهاد غيره لامتثل بشير أمره, ولم يرد وإنما هذا تهديد له على هذا فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه والله أعلم. فصل: فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه, مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى, أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه, أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها, فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة والعطية في معناه ويحتمل ظاهر لفظه المنع من التفضيل أو التخصيص على كل حال لكون النبي ـ ـ لم يستفصل بشيرا في عطيته والأول أولى إن شاء الله لحديث أبي بكر ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية, فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها وترك النبي ـ ـ الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال فإن قيل: لو علم بالحال لما قال: " ألك ولد غيره؟ " قلنا: يحتمل أن يكون السؤال ها هنا لبيان العلة, كما قال عليه السلام للذي سأله عن بيع الرطب بالتمر: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قال: نعم: قال: فلا إذا)وقد علم أن الرطب ينقض لكن نبه السائل بهذا على علة المنع من البيع كذا ها هنا.

 فصل: 

ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية, وكراهة التفضيل قال إبراهيم: كانوا يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القبل إذا ثبت هذا فالتسوية المستحبة أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله تعالى الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وبهذا قال عطاء, وشريح وإسحاق ومحمد بن الحسن قال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه وقال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى وقال أبو حنيفة, ومالك والشافعي وابن المبارك: تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر لأن النبي ـ ـ قال لبشير بن سعد: " سو بينهم " وعلل ذلك بقوله: (أيسرك أن يستووا في برك؟ قال: نعم قال: فسو بينهم) والبنت كالابن في استحقاق برها, وكذلك في عطيتها وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ـ ـ : (سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مؤثرا لأحد لآثرت النساء على الرجال) رواه سعيد في " سننه " ولأنها عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى, كالنفقة والكسوة ولنا أن الله تعالى قسم بينهم فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وأولى ما اقتدى بقسمة الله, ولأن العطية في الحياة أحد حالي العطية فيجعل للذكر منها مثل حظ الأنثيين كحالة الموت يعني الميراث يحققه أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت, فينبغي أن تكون على حسبه كما أن معجل الزكاة قبل وجوبها يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها وكذلك الكفارات المعجلة, ولأن الذكر أحوج من الأنثى من قبل أنهما إذا تزوجا جميعا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد على الذكر والأنثى لها ذلك, فكان أولى بالتفضيل لزيادة حاجته وقد قسم الله تعالى الميراث ففضل الذكر مقرونا بهذا المعنى فتعلل به, ويتعدى ذلك إلى العطية في الحياة وحديث بشير قضية في عين وحكاية حال لا عموم لها وإنما ثبت حكمها فيما ماثلها, ولا نعلم حال أولاد بشير هل كان فيهم أنثى أو لا؟ ولعل النبي ـ ـ قد علم أنه ليس له إلا ولد ذكر ثم تحمل التسوية على القسمة على كتاب الله تعالى ويحتمل أنه أراد التسوية في أصل العطاء لا في صفته, فإن القسمة لا تقتضي التسوية من كل وجه وكذلك الحديث الآخر ودليل ذلك قول عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى وهذا خبر عن جميعهم على أن الصحيح من خبر ابن عباس أنه مرسل.

 فصل: 

وليس عليه التسوية بين سائر أقاربه, ولا إعطاؤهم على قدر مواريثهم سواء كانوا من جهة واحدة كإخوة وأخوات وأعمام وبني عم, أو من جهات كبنات وأخوات وغيرهم وقال أبو الخطاب المشروع في عطية الأولاد وسائر الأقارب أن يعطيهم على قدر ميراثهم, فإن خالف وفعل فعليه أن يرجع ويعمهم بالنحلة لأنهم في معنى الأولاد فثبت فيهم مثل حكمهم ولنا أنها عطية لغير الأولاد في صحته, فلم تجب عليه التسوية كما لو كانوا غير وارثين ولأن الأصل إباحة تصرف الإنسان في ماله كيف شاء وإنما وجبت التسوية بين الأولاد بالخبر, وليس غيرهم في معناهم لأنهم استووا في وجوب بر والدهم فاستووا في عطيته وبهذا علل النبي ـ ـ حين قال: (أيسرك أن يستووا في برك؟ قال: نعم قال: فسو بينهم) ولم يوجد هذا في غيرهم ولأن للوالد الرجوع فيما أعطى ولده, فيمكنه أن يسوي بينهم باسترجاع ما أعطاه لبعضهم ولا يمكن ذلك في غيرهم ولأن الأولاد لشدة محبة الوالد لهم, وصرف ماله إليهم عادة يتنافسون في ذلك ويشتد عليهم تفضيل بعضهم ولا يباريهم في ذلك غيرهم, فلا يصح قياسه عليهم ولا نص في غيرهم ولأن النبي ـ ـ قد علم لبشير زوجة, ولم يأمره بإعطائها شيئا حين أمره بالتسوية بين أولاده ولم يسأله هل لك وارث غير ولدك؟.

 فصل: 

والأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب لقول النبي ـ ـ : (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ولأنها أحد الوالدين, فمنعت التفضيل كالأب ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والعداوة يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها, فثبت لها مثل حكمه في ذلك.

 فصل: 

وقول الخرقي: " أمر برده " يدل على أن للأب الرجوع فيما وهب لولده وهو ظاهر مذهب أحمد سواء قصد برجوعه التسوية بين الأولاد أو لم يرد وهذا مذهب مالك, والأوزاعي والشافعي وإسحاق, وأبي ثور وعن أحمد رواية أخرى: ليس له الرجوع فيها وبها قال أصحاب الرأي والثوري, والعنبري لقول النبي ـ ـ : (العائد في هبته كالعائد في قيئه) متفق عليه وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة رحم أو على وجه صدقة, فإنه لا يرجع فيها ومن وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته, يرجع فيها إذا لم يرض منها رواه مالك في " الموطأ " ولأنها هبة يحصل بها الأجر من الله تعالى فلم يجز الرجوع فيها, كصدقة التطوع ولنا قول النبي ـ ـ لبشير بن سعد: " فاردده " وروى: " فأرجعه " رواه كذلك مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن, عن النعمان فأمره بالرجوع في هبته وأقل أحوال الأمر الجواز وقد امتثل بشير بن سعد في ذلك فرجع في هبته لولده, ألا تراه قال في الحديث: فرجع أبي فرد تلك الصدقة وحمل الحديث على أنه لم يكن أعطاه شيئا يخالف ظاهر الحديث لقوله: تصدق على أبي بصدقة وقول بشير: إني نحلت ابني غلاما يدل على أنه كان قد أعطاه وقول النبي ـ ـ : " فاردده " وقوله: " فأرجعه " وروى طاوس, عن ابن عمر وابن عباس يرفعان الحديث إلى النبي ـ ـ أنه قال: (ليس لأحد أن يعطي عطية, فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وهذا يخص عموم ما رووه ويفسره وقياسهم منقوض بهبة الأجنبي فإن فيها أجرا وثوابا فإن النبي ـ ـ ندب إليها وعندهم له الرجوع فيها, والصدقة على الولد كمسألتنا وقد دل حديث النعمان بن بشير على الرجوع في الصدقة لقوله: تصدق على أبي بصدقة.

 فصل: 

وظاهر كلام الخرقي أن الأم كالأب, في الرجوع في الهبة لأن قوله: " وإذا فاضل بين أولاده " يتناول كل والد ثم قال في سياقه: " أمر برده " فيدخل فيه الأم وهذا مذهب الشافعي لأنها داخلة في قوله: " إلا الوالد فيما يعطي ولده " ولأنها لما دخلت في قول النبي ـ ـ : (سووا بين أولادكم) ينبغي أن يتمكن من التسوية والرجوع في الهبة طريق في التسوية, وربما تعين طريقا فيها إذا لم يمكن إعطاء الآخر مثل عطية الأول ولأنها لما دخلت في المعنى في حديث بشير بن سعد فينبغي أن تدخل في جميع مدلوله لقوله: " فاردده " وقوله: " فأرجعه " ولأنها لما ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها ينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضله به, تخليصا لها من الإثم وإزالة للتفضيل المحرم كالأب والمنصوص عن أحمد أنه ليس لها الرجوع قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: الرجوع للمرأة فيما أعطته ولدها كالرجل؟ قال: ليس هي عندي في هذا كالرجل لأن للأب أن يأخذ من مال ولده, والأم لا تأخذ وذكر حديث عائشة: (أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) أي كأنه الرجل قال أصحابنا: والحديث حجة لنا فإنه خص الوالد, وهو بإطلاقه إنما يتناول الأب دون الأم والفرق بينهما أن للأب ولاية على ولده ويحوز جميع المال في الميراث, والأم بخلافه وقال مالك: للأم الرجوع في هبة ولدها ما كان أبوه حيا فإن كان ميتا فلا رجوع لها لأنها هبة ليتيم وهبة اليتيم, لازمة كصدقة التطوع ومن مذهبه أنه لا يرجع في صدقة التطوع.

 فصل: 

ولا فرق فيما ذكرنا بين الهبة والصدقة وهو قول الشافعي وفرق مالك وأصحاب الرأي بينهما, فلم يجيزوا الرجوع في الصدقة بحال واحتجوا بحديث عمر: من وهب هبة وأراد بها صلة رحم, أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع ولنا حديث النعمان بن بشير فإنه قال: تصدق على أبي بصدقة وقال: فرجع أبي, فرد تلك الصدقة وأيضا عموم قول النبي ـ ـ (إلا الوالد فيما يعطي ولده) وهذا يقدم على قول عمر ثم هو خاص في الوالد وحديث عمر عام, فيجب تقديم الخاص. /// 4 ///

 فصل: 

وللرجوع في هبة الولد شروط أربعة: أحدها أن تكون باقية في ملك الابن فإن خرجت عن ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو إرث أو غير ذلك, لم يكن له الرجوع فيها لأنه إبطال لملك غير الوالد وإن عادت إليه بسبب جديد كبيع أو هبة أو وصية أو إرث ونحو ذلك لم يملك الرجوع فيها لأنها عادت بملك جديد لم يستفده من قبل أبيه, فلا يملك فسخه وإزالته كالذي لم يكن موهوبا له وإن عادت إليه بفسخ البيع لعيب, أو إقالة أو فلس المشتري ففيه وجهان أحدهما يملك الرجوع لأن السبب المزيل ارتفع, وعاد الملك بالسبب الأول فأشبه ما لو فسخ البيع بخيار المجلس أو خيار الشرط والثاني لا يملك الرجوع لأن الملك عاد إليه بعد استقرار ملك من انتقل إليه عليه فأشبه ما لو عاد إليه بهبة فأما إن عاد إليه للفسخ بخيار الشرط, أو خيار المجلس فله الرجوع لأن الملك لم يستقر عليه.

 فصل: 

الثاني أن تكون العين باقية في تصرف الولد بحيث يملك التصرف في رقبتها, فإن استولد الأمة لم يملك الأب الرجوع فيها لأن الملك فيها لا يجوز نقله إلى غير سيدها وإن رهن العين أو أفلس وحجر عليه, لم يملك الأب الرجوع فيها لأن في ذلك إبطالا لحق غير الولد فإن زال المانع من التصرف فله الرجوع لأن ملك الابن لم يزل وإنما طرأ معنى قطع التصرف مع بقاء الملك, فمنع الرجوع فإذا زال زال المنع والكتابة كذلك عند من لا يرى بيع المكاتب وهو مذهب الشافعي وجماعة سواه فأما من أجاز بيع المكاتب, فحكمه حكم المستأجر والمزوج وأما التدبير فالصحيح أنه لا يمنع البيع فلا يمنع الرجوع وإن قلنا: يمنع البيع منع الرجوع وكل تصرف لا يمنع الابن التصرف في الرقبة, كالوصية والهبة قبل القبض فيما يفتقر إليه والوطء والتزويج والإجارة والكتابة والتدبير إن قلنا: لا يمنع البيع, والمزارعة عليها وجعلها مضاربة أو في عقد شركة, فكل ذلك لا يمنع الرجوع لأنه لا يمنع تصرف الابن في رقبتها وكذلك العتق المعلق على صفة وإذا رجع وكان التصرف لازما كالإجارة والتزويج والكتابة, فهو باق بحاله لأن الابن لا يملك إبطاله فكذلك من انتقل إليه وإن كان جائزا كالوصية والهبة قبل القبض, بطل لأن الابن يملك إبطاله وأما التدبير والعتق المعلق بصفة فلا يبقى حكمهما في حق الأب ومتى عاد إلى الابن, عاد حكمهما فأما البيع الذي للابن فيه خيار إما لشرط أو عيب في الثمن, أو غير ذلك فيمنع الرجوع لأن الرجوع يتضمن فسخ ملك الابن في عوض المبيع ولم يثبت له ذلك من جهته وإن وهبه الابن لابنه, لم يملك الرجوع فيه لأن رجوعه إبطال لملك غير ابنه فإن رجع الابن في هبته احتمل أن يملك الأب الرجوع في هبته حينئذ لأنه فسخ هبته برجوعه فعاد إليه الملك بالسبب الأول ويحتمل أن لا يملك الأب الرجوع لأنه رجع إلى ابنه بعد استقرار ملك غيره عليه, فأشبه ما لو وهبه ابن الابن لأبيه فصل: الثالث أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد فإن تعلقت بها رغبة لغيره مثل أن يهب ولده شيئا فيرغب الناس في معاملته, وأدانوه ديونا أو رغبوا في مناكحته فزوجوه إن كان ذكرا, أو تزوجت الأنثى لذلك فعن أحمد روايتان أولاهما ليس له الرجوع قال أحمد, في رواية أبي الحارث في الرجل يهب لابنه مالا: فله الرجوع إلا أن يكون غر به قوما, فإن غر به فليس له أن يرجع فيها وهذا مذهب مالك لأنه تعلق به حق غير الابن ففي الرجوع إبطال حقه, وقد قال عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) وفي الرجوع ضرر ولأن في هذا تحيلا على إلحاق الضرر بالمسلمين ولا يجوز التحيل على ذلك والثانية, له الرجوع لعموم الخبر ولأن حق المتزوج والغريم لم يتعلق بعين هذا المال فلم يمنع الرجوع فيه.

 فصل: 

الرابع أن لا تزيد زيادة متصلة, كالسمن والكبر وتعلم صنعة فإن زادت فعن أحمد روايتان إحداهما لا تمنع الرجوع وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة في الموهوب فلم تمنع الرجوع, كالزيادة قبل القبض والمنفصلة والثانية تمنع وهو مذهب أبي حنيفة لأن الزيادة للموهوب له لكونها نماء ملكه, ولم تنتقل إليه من جهة أبيه فلم يملك الرجوع فيها كالمنفصلة, وإذا امتنع الرجوع فيها امتنع الرجوع في الأصل لئلا يفضي إلى سوء المشاركة وضرر التشقيص, ولأنه استرجاع للمال بفسخ عقد لغير عيب في عوضه فمنعه الزيادة المتصلة كاسترجاع الصداق بفسخ النكاح, أو نصفه بالطلاق أو رجوع البائع في المبيع لفلس المشتري ويفارق الرد بالعيب من جهة أن الرد من المشتري وقد رضي ببدل الزيادة وإن فرض الكلام فيما إذا باع عرضا بعرض, فزاد أحدهما ووجد المشتري الآخر به عيبا قلنا: بائع المعيب سلط مشتريه على الفسخ, ببيعه المعيب فكأن الفسخ وجد منه ولهذا قلنا فيما إذا فسخ الزوج النكاح لعيب المرأة قبل الدخول: لا صداق لها, كما لو فسخته وعلى هذا لا فرق بين الزيادة في العين كالسمن والطول ونحوهما أو في المعاني, كتعلم صنعة أو كتابة أو قرآن أو علم أو إسلام أو قضاء دين عنه وبهذا قال محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة: الزيادة بتعليم القرآن وقضاء الدين عنه لا تمنع الرجوع ولنا أنها زيادة لها مقابل من الثمن, فمنعت الرجوع كالسمن وتعلم الصنعة وإن زاد ببرئه من مرض أو صمم منع الرجوع, كسائر الزيادات وإن كانت زيادة العين أو التعلم لا تزيد في قيمته شيئا أو ينقص منها, لم يمنع الرجوع لأن ذلك ليس بزيادة في المالية وأما الزيادة المنفصلة كولد البهيمة وثمرة الشجرة, وكسب العبد فلا تمنع الرجوع بغير اختلاف نعلمه والزيادة للولد لأنها حادثة في ملكه ولا تتبع في الفسوخ, فلا تتبع ها هنا وذكر القاضي وجها آخر أنها للأب وهو بعيد فإن كانت الزيادة ولد أمة لا يجوز التفريق بينه وبين أمه, منع الرجوع لأنه يلزم منه التفريق بينه وبين أمه وذلك محرم إلا أن نقول إن الزيادة المنفصلة للأب, فلا يمنع الرجوع لأنه يرجع فيهما جميعا أو يرجع في الأم ويتملك الوالد من مال ولده. فصل: وإن قصر العين أو فصلها, فلم تزد قيمتها لم تمنع الرجوع لأن العين لم تزد ولا القيمة وإن زادت قيمتها فهي زيادة متصلة, هل تمنع الرجوع أو لا؟ يبنى على الروايتين في السمنة ويحتمل أن تمنع هذه الزيادة الرجوع بكل حال لأنها حاصلة بفعل الابن فجرت مجرى العين الحاصلة بفعله بخلاف السمن, فإنه يحتمل أن يكون للأب فلا يمنع الرجوع لأنه نماء العين, فيكون تابعا لها وإن وهبه حاملا فولدت في يد الابن فهي زيادة متصلة في الولد ويحتمل أن يكون الولد زيادة منفصلة إذا قلنا: الحمل لا حكم له وإن وهبه حاملا ثم رجع فيها حاملا, جاز إذا لم تزد قيمتها وإن زادت قيمتها فهي زيادة منفصلة وإن وهبته حائلا فحملت, فهي زيادة منفصلة وله الرجوع فيها دون حملها وإن قلنا: إن الحمل لا حكم له فزادت به قيمتها, فهي زيادة متصلة وإن لم تزد قيمتها جاز الرجوع فيها وإن وهبه نخلا فحملت فهي قبل التأبير زيادة متصلة, وبعده زيادة منفصلة.

 فصل: 

وإن تلف بعض العين أو نقصت قيمتها لم يمنع الرجوع فيها, ولا ضمان على الابن فيما تلف منها لأنها تتلف على ملكه وسواء تلف بفعل الابن أو بغير فعله وإن جنى العبد جناية تعلق أرشها برقبته فهو كنقصانه بذهاب بعض أجزائه وللأب الرجوع فيه, فإن رجع فيه ضمن أرش الجناية وإن جنى على العبد فرجع الأب فيرجع الأب فيه, فأرش الجناية عليه للابن لأنه بمنزلة الزيادة المنفصلة فإن قيل: فلو أراد الأب الرجوع في الرهن وعليه فكاكه لم يملك ذلك, فكيف ملك الرجوع في العبد الجاني إذا أدى أرش جنايته؟ قلنا: الرهن يمنع التصرف في العين بخلاف الجناية ولأن فك الرهن فسخ لعقد عقده الموهوب له, وها هنا لم يتعلق الحق به من جهة العقد فافترقا.

 فصل: 

والرجوع في الهبة أن يقول قد رجعت فيها أو ارتجعتها, أو ارتددتها أو نحو ذلك من الألفاظ الدالة على الرجوع ولا يحتاج إلى حكم حاكم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يصح الرجوع إلا بقضاء قاض لأن ملك الموهوب له مستقر ولنا أنه خيار في فسخ عقد فلم يفتقر إلى قضاء, كالفسخ بخيار الشرط فأما إن أخذ ما وهبه لولده فإن نوى به الرجوع كان رجوعا, والقول قوله في نيته وإن لم يعلم هل نوى الرجوع أو لا وكان ذلك بعد موت الأب, فإن لم توجد قرينة تدل على الرجوع لم يحكم بكونه رجوعا لأن الأخذ يحتمل الرجوع وغيره فلا نزيل حكما يقينيا بأمر مشكوك فيه وإن اقترنت به قرائن دالة على الرجوع فيه وجهان أحدهما يكون رجوعا اختاره ابن عقيل لأننا اكتفينا في العقد بدلالة الحال, ففي الفسخ أولى ولأن لفظ الرجوع إنما كان رجوعا لدلالته عليه فكذلك كل ما دل عليه والآخر, لا يكون رجوعا وهو مذهب الشافعي لأن الملك ثابت للموهوب له يقينا فلا يزول إلا بالصريح ويمكن أن يبني هذا على نفس العقد فمن أوجب الإيجاب والقبول فيه, لم يكتف ها هنا إلا بلفظ يقتضي زواله ومن اكتفى في العقد بالمعاطاة الدالة على الرضا به فهاهنا أولى وإن نوى الرجوع من غير فعل ولا قول, لم يحصل الرجوع وجها واحدا لأنه إثبات الملك على مال مملوك لغيره فلم يحصل بمجرد النية, كسائر العقود وإن علق الرجوع بشرط فقال: إذا جاء رأس الشهر فقد رجعت في الهبة لم يصح لأن الفسخ للعقد لا يقف على شرط كما لا يقف العقد عليه.

 مسألة: 

قال: [فإن مات ولم يردده, فقد ثبت لمن وهب له إذا كان ذلك في صحته] يعني إذا فاضل بين ولده في العطايا أو خص بعضهم بعطية, ثم مات قبل أن يسترده ثبت ذلك للموهوب له ولزم, وليس لبقية الورثة الرجوع هذا المنصوص عن أحمد في رواية محمد بن الحكم والميموني, وهو اختيار الخلال وصاحبه أبي بكر وبه قال مالك والشافعي, وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم وفيه رواية أخرى عن أحمد, أن لسائر الورثة أن يرتجعوا ما وهبه اختاره ابن بطة وأبو حفص العكبريان وهو قول عروة بن الزبير وإسحاق وقال أحمد: عروة قد روى الأحاديث الثلاثة حديث عائشة وحديث عمر, وحديث عثمان وتركها وذهب إلى حديث النبي ـ ـ (يرد في حياة الرجل وبعد موته) وهذا قول إسحاق إلا أنه قال: إذا مات الرجل فهو ميراث بينهم, لا يسع أن ينتفع أحد مما أعطى دون إخوته وأخواته لأن النبي ـ ـ سمى ذلك جورًا بقوله: (لا تشهدني على جور) والجور حرام لا يحل للفاعل فعله ولا للمعطي تناوله والموت لا يغيره عن كونه جورا حراما فيجب رده, ولأن أبا بكر وعمر أمرا قيس بن سعد أن يرد قسمة أبيه حين ولد له ولد ولم يكن علم به, ولا أعطاه شيئا وكان ذلك بعد موت سعد فروى سعيد, بإسناده من طريقين أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها, ثم ولد بعد ذلك ولد فمشى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد فقالا: إن سعدا قسم ماله, ولم يدر ما يكون وإنا نرى أن ترد هذه القسمة فقال قيس: لم أكن لأغير شيئا صنعه سعد ولكن نصيبي له وهذا معنى الخبر ووجه القول الأول قول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لعائشة لما نحلها نحلا: وددت لو أنك كنت حزتيه فدل على أنها لو كانت حازته لم يكن له الرجوع وكذلك قول عمر: لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد ولأنها عطية لولده فلزمت بالموت كما لو انفرد وقوله: " إذا كان ذلك في صحته " يدل على أن عطيته في مرض موته لبعض ورثته لا تنفذ لأن العطايا في مرض الموت بمنزلة الوصية في أنها تعتبر من الثلث إذا كانت لأجنبي إجماعًا, فكذلك لا تنفذ في حق الوارث قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن حكم الهبات في المرض الذي يموت فيه الواهب حكم الوصايا, هذا مذهب المديني والشافعي والكوفي فإن أعطى أحد بنيه في صحته, ثم أعطى الآخر في مرضه فقد توقف أحمد فيه فإنه سئل عمن زوج ابنه, فأعطى عنه الصداق ثم مرض الأب وله ابن آخر, هل يعطيه في مرضه كما أعطى الآخر في صحته؟ فقال: لو كان أعطاه في صحته فيحتمل وجهين أحدهما لا يصح لأن عطيته في مرضه كوصيته, ولو وصى له لم يصح فكذلك إذا أعطاه والثاني يصح لأن التسوية بينهما واجبة ولا طريق لها في هذا الموضع إلا بعطية الآخر, فتكون واجبة فتصح كقضاء دينه.

 فصل: 

قال أحمد: أحب أن لا يقسم ماله, ويدعه على فرائض الله تعالى لعله أن يولد له فإن أعطى ولده ماله, ثم ولد له ولد فأعجب إلى أن يرجع فيسوي بينهم يعني يرجع في الجميع أو يرجع في بعض ما أعطى كل واحد منهم ليدفعوه إلى هذا الولد الحادث, ليساوي إخوته فإن كان هذا الولد الحادث بعد الموت لم يكن له الرجوع على إخوته لأن العطية لزمت بموت أبيه إلا على الرواية الأخرى, التي ذهب إليها أبو عبد الله بن بطة ولا خلاف في أنه يستحب لمن أعطى أن يساوي أخاه في عطيته ولذلك أمر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قيس بن سعد, برد قسمة أبيه ليساووا المولود الحادث بعد موت أبيه.

 فصل: 

ولأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه, ومع عدمها صغيرا كان الولد أو كبيرا بشرطين أحدهما أن لا يجحف بالابن, ولا يضر به ولا يأخذ شيئا تعلقت به حاجته الثاني أن لا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد, وذلك لأنه ممنوع من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه فلأن يمنع من تخصيصه بما أخذ من مال ولده الآخر أولى وقد روي أن مسروقا زوج ابنته بصداق عشرة آلاف فأخذها, وأنفقها في سبيل الله وقال للزوج: جهز امرأتك وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي: ليس له أن يأخذ من مال ولده إلا بقدر حاجته لأن النبي ـ ـ قال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا)متفق عليه وروى الحسن, أن النبي ـ ـ قال: (كل أحد أحق بكسبه من والده وولده والناس أجمعين) رواه سعيد في " سننه " وهذا نص وروي أن النبي ـ ـ قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) رواه الدارقطني ولأن ملك الابن تام على مال نفسه فلم يجز انتزاعه منه كالذي تعلقت به حاجته ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها, قالت: قال رسول الله ـ ـ : (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم) أخرجه سعيد والترمذي, وقال: حديث حسن وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, قال: (جاء رجل إلى النبي ـ ـ فقال: إن أبي احتاج مالي فقال: أنت ومالك لأبيك) رواه الطبراني في " معجمه " مطولا ورواه غيره, وزاد: (إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم) وروى محمد بن المنكدر والمطلب بن حنطب, قال: (جاء رجل إلى رسول الله ـ ـ فقال: إن لي مالا وعيالا ولأبي مال وعيال وأبي يريد أن يأخذ مالي, فقال النبي ـ ـ : أنت ومالك لأبيك) أخرجه سعيد في " سننه " ولأن الله تعالى جعل الولد موهوبا لأبيه فقال: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} [الأنعام: 84]. وقال: {ووهبنا له يحيى} [الأنبياء: 90]. وقال زكريا: {فهب لي من لدنك وليا} [مريم: 5]. وقال إبراهيم: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} [إبراهيم: 39]. وما كان موهوبا له, كان له أخذ ماله كعبده وقال سفيان بن عيينة في قوله: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم} [النور: 61]. ثم ذكر بيوت سائر القرابات إلا الأولاد لم يذكرهم لأنهم دخلوا في قوله: (بيوتكم) فلما كانت بيوت أولادهم كبيوتهم, لم يذكر بيوت أولادهم ولأن الرجل يلي مال ولده من غير تولية فكان له التصرف فيه كمال نفسه وأما أحاديثهم فأحاديثنا تخصها وتفسرها, فإن النبي ـ ـ جعل مال الابن مالا لأبيه بقوله: (أنت ومالك لأبيك) فلا تنافي بينهما وقوله: (أحق به من والده وولده) مرسل ثم هو يدل على ترجيح حقه على حقه, لا على نفي الحق بالكلية والولد أحق من الوالد بما تعلقت به حاجته.

 فصل: 

وليس للولد مطالبة أبيه بدين عليه وبه قال الزبير بن بكار وهو مقتضى قول سفيان بن عيينة وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي: له ذلك لأنه دين ثابت فجازت المطالبة به كغيره ولنا (أن رجلا جاء إلى النبي ـ ـ بأبيه يقتضيه دينا عليه, فقال: أنت ومالك لأبيك) رواه أبو محمد الخلال بإسناده وروى الزبير بن بكار في كتاب " الموفقيات " بإسناده, أن رجلا استقرض من ابنه مالا فحبسه فأطال حبسه, فاستعدى عليه الابن على بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر قصته في شعر فأجابه أبوه بشعر أيضا فقال على ـ رضي الله عنه ـ: قد سمع القاضي ومن ربى الفهم ** المال للشـــيخ جزاء بالنعم يأكله برغم أنف من رغـــــم ** من قال قولا غير ذا فقد ظلم وجار في الحكم وبئس ما جرم ** قال الزبير: إلى هذا نذهب ولأن المال أحد نوعي الحقوق, فلم يملك مطالبة أبيه بها كحقوق الأبدان ويفارق الأب غيره بما ثبت له من الحق على ولده وإن مات الابن, فانتقل الدين إلى ورثته لم يملكوا مطالبة الأب به لأن موروثهم لم يكن له المطالبة فهم أولى وإن مات الأب, رجع الابن في تركته بدينه لأن دينه لم يسقط عن الأب وإنما تأخرت المطالبة وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا مات الأب, بطل دين الابن وقال في من أخذ من مهر ابنته شيئا فأنفقه: فليس عليه شيء ولا يؤخذ من بعده وما أصابت من المهر من شيء بعينه أخذته وتأول بعض أصحابنا كلامه على أن له ما أخذه على سبيل التمليك ويحتمل أن يكون أخذه له, وإنفاقه إياه دليلا على قصد التملك فيثبت الملك بذلك الأخذ والله أعلم.

 فصل: 

وإن تصرف الأب في مال الابن قبل تملكه, لم يصح تصرفه نص عليه أحمد فقال: لا يجوز عتق الأب لعبد ابنه ما لم يقبضه فعلى هذا, لا يصح إبراؤه من دينه ولا هبته لماله ولا بيعه له وذلك لأن ملك الابن تام على مال نفسه, فصح تصرفه فيه ويحل له وطء جواريه ولو كان الملك مشتركا, لم يحل له الوطء كما لا يجوز وطء الجارية المشتركة وإنما للأب انتزاعه منه, كالعين التي وهبها إياه فقبل انتزاعها لا يصح تصرفه لأنه يتصرف في ملك غيره بغير ولاية وإن كان الابن صغيرا لم يصح أيضا لأنه لا يملك التصرف بما لا حظ للصغير فيه, وليس من الحظ إسقاط دينه وعتق عبده وهبة ماله.

 فصل: 

قال أحمد: بين الرجل وبين ولده ربا لما ذكرناه من أن ملك الابن على ماله تام وقال: لا يطأ جارية الابن, إلا أن يقبضها يعني يتملكها وذلك لأنه إذا وطئها قبل تملكها فقد وطئها وليست زوجة ولا ملك يمين وإن تملكها, لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها لأنه ابتداء ملك فوجب الاستبراء فيه كما لو اشتراها وإن كان الابن قد وطئها لم تحل له بحال وإن وطئها قبل تملكها, كان محرما من وجهين: أحدهما أنه وطئها قبل ملكها والثاني أنه وطئها قبل استبرائها وإن كان الابن وطئها حرمت بوجه ثالث وهي أنها صارت بمنزلة حليلة ابنه فإن فعل, فلا حد عليه لشبهة الملك فإن النبي ـ ـ أضاف مال الولد إلى أبيه فقال: (أنت ومالك لأبيك) وإن ولدت منه, صارت أم ولد له وولده حر لأنه من وطء انتفى عنه الحد للشبه وتصير أم ولد له وليس للابن مطالبته بشيء من قيمتها, ولا قيمة ولدها ولا مهرها وهل يعزر؟ يحتمل وجهين أحدهما يعزر لأنه وطئ وطئا محرما أشبه ما لو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره والثاني, لا يعزر لأنه لا يقتص منه بالجناية على ولده فلا يعزر بالتصرف في ماله.

 فصل: 

وليس لغير الأب الأخذ من مال غيره بغير إذنه لأن الخبر ورد في الأب بقوله: (أنت ومالك لأبيك) ولا يصح قياس غير الأب عليه لأن للأب ولاية على ولده وماله إذا كان صغيرا, وله شفقة تامة وحق متأكد ولا يسقط ميراثه بحال والأم لا تأخذ لأنها لا ولاية لها والجد أيضا لا يلي على مال ولد ابنه, وشفقته قاصرة عن شفقة الأب ويحجب به في الميراث وفي ولاية النكاح وغيرهما من الأقارب والأجانب ليس لهم الأخذ بطريق التنبيه لأنه إذا امتنع الأخذ في حق الأم والجد, مع مشاركتهما للأب في بعض المعاني فغيرهما ممن لا يشارك الأب في ذلك أولى.

 مسألة: 

قال: [ولا يحل لواهب أن يرجع في هبته ولا لمهد أن يرجع في هديته, وإن لم يثب عليها) يعني وإن لم يعوض عنها وأراد من عدا الأب لأنه قد ذكر أن للأب الرجوع بقوله: " أمر برده " فأما غيره فليس له الرجوع في هبته ولا هديته وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال النخعي والثوري, وإسحاق وأصحاب الرأي: من وهب لغير ذي رحم فله الرجوع ما لم يثب عليها, ومن وهب لذي رحم فليس له الرجوع وروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واحتجوا بما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله ـ ـ : (الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها) رواه ابن ماجه, في " سننه " وبقول عمر ولأنه لم يحصل له عنها عوض فجاز له الرجوع فيها, كالعارية ولنا قول النبي ـ ـ : (العائد في هبته كالعائد في قيئه وفي لفظ: كالكلب يعود في قيئه وفي رواية إنه ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) متفق عليه, وأيضا قول النبي ـ ـ : (ليس لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) وقد ذكرناه وروى عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده أن نبي الله ـ ـ قال: (لا يرجع واهب في هبته إلا الوالد فيما يعطي ولده) ولأنه واهب لا ولاية له في المال, فلم يرجع في هبته كذي الرحم المحرم وأحاديثنا أصح من حديثهم وأولى وقول عمر قد روي عن ابنه وابن عباس خلافه وأما العارية فإنما هي هبة المنافع, ولم يحصل القبض فيها فإن قبضها باستيفائها فنظير مسألتنا ما استوفى من منافع العارية فإنه لا يجوز الرجوع فيها. فصل: فحصل الاتفاق على أن ما وهبه الإنسان لذوي رحمه المحرم غير ولده, لا رجوع فيه وكذلك ما وهب الزوج لامرأته والخلاف فيما عدا هؤلاء فعندنا لا يرجع إلا الوالد وعندهم لا يرجع إلا الأجنبي فأما هبة المرأة لزوجها, فعن أحمد فيه روايتان إحداهما لا رجوع لها فيها وهذا قول عمر بن عبد العزيز والنخعي وربيعة, ومالك والثوري والشافعي, وأبي ثور وأصحاب الرأي وهو قول عطاء وقتادة والثانية, لها الرجوع قال الأثرم: سمعت أحمد يسأل عن المرأة تهب ثم ترجع فرأيته يجعل النساء غير الرجال ثم ذكر الحديث: (إنما يرجع في المواهب النساء وشرار الأقوام) وذكر حديث عمر: إن النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة, فأيما امرأة أعطت زوجها شيئا ثم أرادت أن تعتصره فهي أحق به رواه الأثرم بإسناده وهذا قول شريح, والشعبي وحكاه الزهري عن القضاة وعن أحمد رواية أخرى ثالثة نقلها أبو طالب, إذا وهبت له مهرها فإن كان سألها ذلك رده إليها, رضيت أو كرهت لأنها لا تهب إلا مخافة غضبه أو إضرار بها بأن يتزوج عليها وإن لم يكن سألها وتبرعت به, فهو جائز فظاهر هذه الرواية أنه متى كانت مع الهبة قرينة من مسألته لها, أو غضبه عليها أو ما يدل على خوفها منه فله الرجوع لأن شاهد الحال يدل على أنها لم تطب بها نفسها, وإنما أباحه الله تعالى عند طيب نفسها بقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} [النساء: 4]. وظاهر كلام الخرقي الرواية الأولى وهو اختيار أبي بكر لقول الله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237]. وقال تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} [النساء: 4]. وعموم الأحاديث التي قدمناها.

 فصل: 

ولا يجوز للمتصدق الرجوع في صدقته, في قولهم جميعا لأن عمر قال في حديثه: من وهب هبة على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها مع عموم أحاديثنا فاتفق دليلهم ودليلنا, فلذلك اتفق قولهم وقولنا.

 فصل: 

والهبة المطلقة لا تقتضي ثوابا سواء كانت من الإنسان لمثله أو دونه أو أعلى منه وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي في الهبة لمثله أو دونه كقولنا فإن كانت لأعلى منه, ففيها قولان أحدهما أنها تقتضي الثواب وهو قول مالك لقول عمر رضي الله عنه: ومن وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته, يرجع فيها إذا لم يرض منها ولنا أنها عطية على وجه التبرع فلم تقتض ثوابا كهبة المثل والوصية, وحديث عمر قد خالفه ابنه وابن عباس فإن عوضه عن الهبة كانت هبة مبتدأة لا عوضا, أيهما أصاب عيبا لم يكن له الرد وإن خرجت مستحقة أخذها صاحبها ولم يرجع الموهوب له ببدلها فإن شرط في الهبة ثوابا معلوما, صح نص عليه أحمد لأنه تمليك بعوض معلوم فهو كالبيع وحكمها حكم البيع, في ضمان الدرك وثبوت الخيار والشفعة وبهذا قال أصحاب الرأي ولأصحاب الشافعي قول أنه لا يصح لأنه شرط في الهبة ما ينافي مقتضاها ولنا أنه تمليك بعوض, فصح ما لو قال: ملكتك هذا بدرهم فإنه لو أطلق التمليك كان هبة وإذا ذكر العوض صار بيعا وقال أبو الخطاب: وقد روي عن أحمد ما يقتضي أن يغلب في هذا حكم الهبة فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به فأما إن شرط ثوابا مجهولا, لم يصح وفسدت الهبة وحكمها حكم البيع الفاسد, يردها الموهوب له بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنه نماء ملك الواهب وإن كانت تالفة رد قيمتها وهذا قول الشافعي وأبي ثور وظاهر كلام أحمد, ـ رحمه اللهـ أنها تصح فإذا أعطاه عنها عوضا رضيه, لزم العقد بذلك فإنه قال في رواية محمد بن الحكم: إذا قال الواهب: هذا لك على أن تثيبني فله أن يرجع إذا لم يثبه لأنه شرط وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: إذا وهب له على وجه الإثابة, فلا يجوز إلا أن يثيبه عنها فعلى هذا عليه أن يعطيه حتى يرضيه فإن لم يفعل فللواهب الرجوع ويحتمل أن يعطيه قدر قيمتها والأول أصح لأن هذا بيع, فيعتبر فيه التراضي إلا أنه بيع بالمعاطاة فإذا عوضه عوضا رضيه, حصل البيع بما حصل من المعاطاة مع التراضي بها وإن لم يحصل التراضي لم تصح لعدم العقد, فإنه لم يوجد الإيجاب والقبول ولا المعاطاة مع التراضي والأصل في هذا قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها وروي معنى ذلك عن علي, وفضالة بن عبيد ومالك بن أنس وهو قول الشافعي على القول الذي يرى أن الهبة المطلقة تقتضي ثوابًا وقد روى أبو هريرة (أن أعرابيا وهب للنبي ـ ـ ناقة, فأعطاه ثلاثا فأبى فزاده ثلاثا فأبى, فزاده ثلاثا فلما كملت تسعا قال: رضيت: فقال النبي ـ ـ : لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي) من " المسند " قال أحمد: إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان, ولم يثبه منها فلا أرى عليه نقصان ما نقص عنده إذا رده إلى صاحبه إلا أن يكون ثوبا لبسه, أو غلاما استعمله أو جارية استخدمها فأما غير ذلك إذا نقص فلا شيء عليه, فكان عندي مثل الرهن الزيادة والنقصان لصاحبه.

 مسألة: 

قال: [وإذا قال: داري لك عمري أو هي لك عمرك فهي له ولورثته من بعده] العمرى والرقبى: نوعان من الهبة يفتقران إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات من الإيجاب والقبول والقبض, أو ما يقوم مقام ذلك عند من اعتبره وصورة العمرى أن يقول الرجل: أعمرتك داري هذه أو هي لك عمرى أو ما عاشت, أو مدة حياتك أو ما حييت أو نحو هذا سميت عمرى لتقييدها بالعمر والرقبى أن يقول: أرقبتك هذه الدار, أو هي لك حياتك على أنك إن مت قبلي عادت إلى وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك فكأنه يقول: هي لآخرنا موتا وبذلك سميت رقبى لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه وكلاهما جائز, في قول أكثر أهل العلم وحكي عن بعضهم أنها لا تصح لأن النبي ـ ـ قال: (لا تعمروا ولا ترقبوا) ولنا ما روى جابر قال: قال رسول الله ـ ـ : (العمرى جائزة لأهلها, والرقبى جائزة لأهلها) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن فأما النهي فإنما ورد على سبيل الإعلام لهم إنكم إن أعمرتم أو أرقبتم يعد للمعمر والمرقب, ولم يعد إليكم منه شيء وسياق الحديث يدل عليه فإنه قال: (فمن أعمر عمرى فهي لمن أعمرها حيا وميتا وعقبه) ولو أريد به حقيقة النهي, لم يمنع ذلك صحتها فإن النهي إنما يمنع صحة ما يفيد المنهي عنه فائدة أما إذا كان صحة المنهي عنه ضررا على مرتكبه لم يمنع صحته, كالطلاق في زمن الحيض وصحة العمرى ضرر على المعمر فإن ملكه يزول بغير عوض إذا ثبت هذا فإن العمرى تنقل الملك إلى المعمر وبهذا قال جابر بن عبد الله, وابن عمر وابن عباس وشريح, ومجاهد وطاوس والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي وروى ذلك عن على وقال مالك, والليث: العمرى تمليك المنافع لا تملك بها رقبة المعمر بحال ويكون للمعمر السكنى, فإذا مات عادت إلى المعمر وإن قال: له ولعقبه كان سكناها لهم فإذا انقرضوا عادت إلى المعمر واحتجا بما روى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم, قال: سمعت مكحولا يسأل القاسم بن محمد عن العمرى ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم وما أعطوا وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي عن ابن الأعرابي: لم يختلف العرب في العمرى, والرقبى والإفقار والإخبال, والمنحة والعرية والعارية والسكنى, والإطراق أنها على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له ولأن التمليك لا يتأقت, كما لو باعه إلى مدة فإذا كان لا يتأقت حمل قوله على تمليك المنافع لأنه يصح توقيته ولنا ما روى جابر قال: قال النبي ـ ـ : (أمسكوا عليكم أموالكم, ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه) رواه مسلم وفي لفظ: (قضى رسول الله ـ ـ بالعمرى لمن وهبت له) متفق عليه وروى ابن ماجه, عن ابن عمر قال: قال رسول الله ـ ـ : (لا رقبى فمن أرقب شيئا, فهو له حياته وموته) وعن زيد بن ثابت (أن النبي ـ ـ جعل العمرى للوارث) وقد روى مالك حديث العمرى في " موطئه " وهو صحيح رواه جابر, وابن عمر وابن عباس ومعاوية, وزيد بن ثابت وأبو هريرة وقول القاسم لا يقبل في مخالفة من سمينا من الصحابة والتابعين فكيف يقبل في مخالفة قول سيد المرسلين, ولا يصح أن يدعي إجماع أهل المدينة لكثرة من قال بها منهم وقضى بها طارق بالمدينة بأمر عبد الملك بن مروان وقول ابن الأعرابي: إنها عند العرب تمليك المنافع لا يضر إذا نقلها الشرع إلى تمليك الرقبة, كما نقل الصلاة من الدعاء إلى الأفعال المنظومة ونقل الظهار والإيلاء من الطلاق إلى أحكام مخصوصة قولهم: إن التمليك لا يتأقت قلنا: فلذلك أبطل الشرع تأقيتها وجعلها تمليكا مطلقا.

 فصل: 

إذا شرط في العمرى أنها للمعمر وعقبه, فهذا تأكيد لحكمها وتكون للمعمر وورثته وهذا قول جميع القائلين بها وإذا أطلقها فهي للمعمر وورثته أيضا لأنها تمليك للرقبة فأشبهت الهبة فإن شرط أنك إذا مت فهي لي فعن أحمد روايتان إحداهما, صحة العقد والشرط ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر وبه قال القاسم بن محمد وزيد بن قسيط, والزهري ومالك وأبو سلمة بن عبد الرحمن, وابن أبي ذئب وأبو ثور وداود وهو أحد قولي الشافعي لما روى جابر, قال: إنما العمرى التي أجاز رسول الله ـ ـ أن يقول: هي لك ولعقبك فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها متفق عليه وروى مالك في " موطئه " عن جابر (أن رسول الله ـ ـ قال: أيما رجل أعمر عمرى له, ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها) لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث وقال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم والرواية الثانية, أنها تكون للمعمر ولورثته ويسقط الشرط وهذا قول الشافعي الجديد وقول أبي حنيفة وهو ظاهر المذهب نص عليه أحمد, في رواية أبي طالب للأحاديث المطلقة التي ذكرناها وقول رسول الله ـ ـ : (لا رقبى فمن أرقب شيئا, فهو له في حياته وموته) وقال مجاهد: الرقبى أن يقول هي للآخر مني ومنك موتا وروى الإمام أحمد بإسناده عن النبي ـ ـ , أنه قال: (لا عمرى ولا رقبى فمن أعمر شيئا, أو أرقبه فهو له حياته وموته) وهذا صريح في إبطال الشرط لأن الرقبى يشترط فيها عودها إلى المرقب إن مات الآخر قبله وأما حديثهم الذي احتجوا به فمن قول جابر نفسه, وأما نقل لفظ النبي ـ ـ قال: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذى أعمرها حيا وميتا, ولعقبه) ولأنا لو أجزنا هذا الشرط كانت هبة مؤقتة والهبة لا يجوز فيها التأقيت, ولم يفسدها الشرط لأنه ليس بشرط على المعمر وإنما شرط ذلك على ورثته ومتى لم يكن الشرط مع المعقود معه, لم يؤثر فيه وأما قوله في الحديث الآخر: إنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فهذه الزيادة من كلام أبى سلمة بن عبد الرحمن كذلك رواه ابن أبى ذئب وفصل هذه الزيادة فقال عن النبي ـ ـ إنه قضى في من أعمر عمرى له ولعقبه, فهي له بتلة لا يجوز للمعطى فيها شرط ولا مثنوية قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.

 فصل: 

والرقبى هي أن يقول: هذا لك عمرك فإن مت قبلي رجع إلي, وإن مت قبلك فهو لك ومعناه هي لآخرنا موتا وكذلك فسرها مجاهد سميت رقبى لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه وقد روى عن أحمد أنه قال: هي أن يقول: هي لك حياتك فإذا مت فهي لفلان أو هي راجعة إلى والحكم فيها على ما تقدم ذكره, وأنها كالعمرى إذا شرط عودها إلى المعمر وقال على رضي الله عنه: العمرى والرقبى سواء وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث وقال الزهري: الرقبى وصية يعنى أن معناها إذا مت فهذا لك وقال الحسن ومالك وأبو حنيفة: الرقبى باطلة لما روى أن النبي ـ ـ أجاز العمرى وأبطل الرقبى ولأن معناها أنها للآخر منا, وهذا تمليك معلق بخطر ولا يجوز تعليق التمليك بالخطر ولنا ما رويناه من الأخبار وحديثهم لا نعرفه, ولا نسلم أن معناها ما ذكروه بل معناها أنها لك حياتك فإن مت رجعت إلى فتكون كالعمرى سواء, إلا أنه زاد شرطها لورثة المرقب إن مات المرقب قبله وهذا يبين تأكيدها على العمرى.

 فصل: 

وتصح العمرى في غير العقار, من الحيوان والنبات لأنها نوع هبة فصحت في ذلك, كسائر الهبات وقد روى عن أحمد في الرجل يعمر الجارية: فلا أرى له وطأها قال القاضي: لم يتوقف أحمد عن وطء الجارية لعدم الملك فيها لكن على طريق الورع لأن الوطء استباحة فرج وقد اختلف في صحة العمرى, وجعلها بعضهم تمليك المنافع فلم ير له وطأها لهذا ولو وطئها كان جائزا.

 فصل: 

وإن وقت الهبة إلى غير العمرى والرقبى, فقال: وهبتك هذا لسنة أو إلى أن يقدم الحاج أو إلى أن يبلغ ولدي, أو مدة حياة فلان ونحو هذا لم يصح لأنها تمليك للرقبة فلم تصح مؤقتة كالبيع, وتفارق العمرى والرقبى لأن الإنسان إنما يملك الشيء عمره فإذا ملكه عمره فقد وقته بما هو مؤقت به في الحقيقة فصار ذلك كالمطلق وإن شرط رجوعها إليه بعد ذلك, كان شرطا على غير الموهوب له بخلاف غيره.

 مسألة: 
قال: [وإن قال: سكناها لك عمرك كان له أخذها أي وقت أحب لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى)

أما إذا قال: سكنى هذه الدار لك عمرك أو اسكنها عمرك أو نحو ذلك, فليس ذلك بعقد لازم لأنه في التحقيق هبة المنافع والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى وللمسكن الرجوع متى شاء, وأيهما مات بطلت الإباحة وبهذا قال أكثر العلماء وجماعة أهل الفتوى منهم الشعبي, والنخعي والثوري والشافعي, وإسحاق وأصحاب الرأي وروى معنى ذلك عن حفصة وقال الحسن وعطاء, وقتادة: هي كالعمرى تكون له ولعقبه لأنها في معنى العمرى فيثبت فيها مثل حكمها وحكي عن الشعبي أنه إذا قال: هي لك, اسكن حتى تموت فهي له حياته وموته وإن قال: داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها لأنه إذا قال: هي لك فقد جعل له رقبتها فتكون عمرى فإذا قال: اسكن دارى هذه فإنما جعل له نفعها دون رقبتها فتكون عارية ولنا أن هذا إباحة المنافع, فلم يقع لازما كالعارية وفارق العمرى فإنها هبة للرقبة فأما إذا قال: هذه لك اسكنها حتى تموت فإنه يحتمل لك سكناها حتى تموت وتفسيرها بذلك دليل على أنه أراد السكنى فأشبه ما لو قال: هذه لك سكناها وإذا احتمل أن يريد به الرقبة, واحتمل أن يريد السكنى فلا نزيل ملكه بالاحتمال.

 فصل: 

إذا وهب هبة فاسدة أو باع بيعا فاسدا, ثم وهب تلك العين أو باعها بعقد صحيح مع علمه بفساد الأول, صح العقد الثاني لأنه تصرف في ملكه عالما بأنه ملكه وإن كان يعتقد صحة العقد الأول ففي صحة الثاني وجهان أحدهما, صحته لأن تصرفه صادف ملكه وتم بشروطه فصح, كما لو علم فساد الأول والثاني لا يصح لأنه تصرف تصرفا يعتقد فساده ففسد, كما لو صلى يعتقد أنه محدث فبان متطهرا وهكذا لو تصرف في عين يعتقد أنها لأبيه فبان أنه قد مات وملكها بالميراث, أو غصب عينها فباعها يعتقدها مغصوبة فبان أنها ملكه فعلى الوجهين قال القاضي: أصل الوجهين من باشر امرأة بطلاق يعتقدها أجنبية, فبانت امرأته أو واجه بالعتق من يعتقدها حرة فبانت أمته, ففي وقوع الطلاق والحرية روايتان وللشافعية في هذه المسائل وجهان كما حكينا والله أعلم.