ملاحظات:


تقديم

أحمد بن يوسف مؤلف هذا الكتاب كان أحد كتاب الدولة الطولونية التي حكمت مصر من (٢٥٤ هـ - ٢٩٢هـ) بعد أن اقتطعتها من الدولة العباسية. و كان مؤسها أحمد بن طولون ذا عقل جبار، ورأى مسدد، وضع لها نظمها المالية والسياسية على أساس متين، ورتب خراجها، ونظم ريها، وحدد ضرائبها، ولم تخف عليه محاولة العباسيين استرجاعها، ودش الدسائس في إثارة أهلها. فكان يأخذ بالظنة، و يعاقب بالريبة، ويخشی من لهم اتصال برجال الدولة العباسية، ويعمل على الفتك بهم ومصادرة أموالهم.

وكان أصل أحمد بن يوسف من العراق. رحل أبوه إلى مصر بعد أن خدم مولاه إبراهيم بن المهدي، ولازمه حتى مات، فانتقل إلى مصر، واشتغل فيها بالعلم والأدب والمال. ولكن اتصاله القديم بالبيت العباسي جعل ابن طولون لا يركن إليه، ولا يأمن شره. لذلك ترى في تاريخه، أن أحمد بن طولون قد حبسه وكاد يقتله لولا شفاعة أتباعه1 . ولما مات يوسف أمر ابن طولون أعوانه فهجموا على داره، وحملوا صندوقين من أوراقه، مقدرين أن يجدوا فيها شيئا يدل على صلة له بمن ببغداد2.

ونشأ ابن مؤلف هذا الكتاب على نمط أبيه: فهو مثقف ثقافة واسعة، وهو كاتب كما يدل عليه كتابه هذا، وهو شاعر ينقل دیوان شعره إلى العراق3، وهو عالم بالحساب والهندسة والفلك، كما تدل علیه ترجمة ” ياقوت" له، وهو آخذ بحظ من الفلسفة كما يظهر ذلك في ثنايا كتبه.

ولم يكن أحمد بن يوسف من هؤلاء الأدباء والعلماء الذين ينقطعون لأدبهم وعلمهم، و يعتمدون في ذلك على ما يمنحهم الولاة والأمراء من منح، أو يتزهدون فيكتفون بمالهم من عقار يغل عليهم بعض المال. إنما كان كأبيه، ينغمس في الدنيا وفي الحياة الواقعة، ويصرف جزءا من وقته في تدبير المال والقيام عليه وإنمائه، كان أبوه يدبر أموال إبراهيم بن المهدى ويقوم على أراضيه، فاكتسب بذلك خبرة مالية كبيرة، فلما جاء إلى مصر استخدم مقدرته المالية، فاستغل بعض الأراضي المصرية من الدولة الطولونية: ويتقبل الأرض (يلتزمها) ويستأجرها. وأحيانا يملكها ويزرعها ويتاجر في محصولاتها، ونحا ابنه (مؤلف كتابنا) منحاه، فكان أديبا عالما ماليا معا، يؤلف الكتب، ويقول الشعر، ويستغل الأرض.

والمهارة المالية التي من هذا القبيل كان لها مزايا وكان لها مضار، فأهم مزاياها: أن صاحبها ينغمس في غمار الناس فيعرف حياتهم، وتفاصيل سلوكهم، ونوع عقليتهم، ويخير الدنيا خبرة تامة. وأهم مضارها: أنها كانت تعترض صاحبها في كثير من الأحيان إلى الأهوال والأخطار، فلم تكن الحكومات في ذلك العصر قائمة على ما نعرف من العدل وحفظ الأمن على المال والنفس، بل كانت المعاملات وخاصة ما اتصل منها بالحكومات عرضة للظلم والفساد. فكثرت المصادرات، وكثر قتل الأنفس للاستيلاء على الأموال إلى غير ذلك من ضروب العسف. وتقرأ تاريخ مصر وتاريخ العراق في ذلك العصر، فترى اضطرابا وفسادا من هذه الناحية لا حد له، وقلما تقرأ سنة من سنی التاريخ في تلك الأيام من غير أن يسجل فيها ظلم بين وشره بين.

وكلا الأمرين يتجلى في حياة أحمد بن يوسف: عارف بالدنيا خبير بشئونها، معرض من حين لآخر لمصادرة أمواله، وضياع ثروته، لولا احتماء بوال أو أمير، أو مكافأة على جميل.

في وسط هذه المظالم الفتاكة والمفاسد المنتشرة، كانت تصدر من بعض أشخاص نبلاء أعمال نبيلة تلمع في هذا الجو الحالك، وتخفف على الناس ويلاتهم ومصائبهم، وعلى قدر هذه الشدائد، تكون الإشادة بالمحامد. ففقر العرب في الجاهلية، و بؤس أهلها، جعل الكرم يحل أسمي مكان بين الفضائل، فامتلأ أدبهم بالتمدح بالكرم، وإطعام الطعام، ونحر الجزر، وقرى الضيفان وما إلى ذلك.

وفي عصر مؤلفنا هذا، كانوا يتشوفون في ظلام الظلم إلى الأنوار القليلة المضيئة من أعمال النبل: كإغاثة ملهوف، ونجدة بائس، و إعزاز کریم ذل، و إمداد غنى افتقر.

وقد كان أحمد بن يوسف وأبوه يوسف بن إبراهيم ممتازین من هذه الناحية، كلاهما مع غناه و ثروته ذو مروءة وجدة، يشعر أن المال غاد وراح، وأن المرء عرضة في كل وقت للفقر، فلا بد من أن يتسلح بالمروعة، ينقذ بها البأس من بؤسه، لعله يكون يوما في مثل حالته، فيجد من ينجده. فيحدثنا ”ياقوت" عن يوسف بن إبراهيم أنه "كان ذا مروءة تامة" وتدل بعض القصص في هذا الكتاب على أنه كان له أتباع يتعصبون له ويفدونه بأنفسهم، لما يسديه إليهم من خير، ويقدم لهم من معروف، وابنه أحمد بن يوسف نفسه كان كذلك كريم نبيلا. يحدث - مثلا - أنه رأی تاجرا كُسر مركیه وغرق فيها ما يملكه، فيواسيه أحمد بن يوسف ويبث من يغوص على مركبه ليستخرجوا ما فيه، ثم يعوضه عما فقده بنفسه و برجاله.4 ومثل هذا في الكتاب كثير.

رجل مثل هذا جدير بأن ينمو عنده الشعور بالإحسان، وأن يرهف حسه لأعمال المروءة، وأن يدعوه ذلك لأن يفكر في قصص النيل وحسن المكافأة.

وقد علل ذلك تعليلا بديعا في أول كتابه، فذكر أن الناس سلكوا لاستدرار المال من الممدوحین سبيل التنويه بذكر الكرماء وما منحوا، والعظاء وما أعطوا، وحثوهم من طريق خفي على أن يعملوا عملهم ويعطوا عطاءهم. ولم يستحسن أحمد بن يوسف ذلك. ورأى أن خيرا منه، أن يشاد بذكر من أحسن إليهم، فكافئوا بالإحسان إحسانا فإن هذا أدعى إلى الكرم. وأبعث على المحاكاة. ولا شك أن هذا في مسالك التنفس أفعل، لأنه يفهم الكريم من طريق خفى كذلك - أن في ذلك تفعه الشخصي فإنه سيلق جزاء ما يقدمه من خير مهما كان قويا، ومهما كان المحسن إليه ضعيفا. بل طلب في خاتمة الكتاب أن يبلغ المكافئ مبلغا من السمو لا ينتظر معه مكافأة ولا جزاء، فيكفيه شعوره الجميل بأن له ديونا يتحملها خيار الناس ولو لم يؤدوها.

وقد قص علينا في هذا الباب إحدى وثلاثين قصة، وقع بعضها في مصر في عهد المؤلف، وبعضها في غير عهده، وبعضها في الشام، وبعضها في العراق، إلى غير ذلك. وقد جمعها كلها حول محور واحد: هو حسن الصنيع بالمكافأة على الجميل بالجميل.

ثم أتبع ذلك بقسم آخر عنوانه المكافأة على القبيح وهو يتضمن إحدى وعشرين قصة تدور حول مكافأة القبيح بالقبيح. وهو مكمل للقسم الأول. فإذا كان القسم الأول يستحث الإنسان على فعل الخير توقعا للمجازاة بالخير، فالقسم الثاني يحذر من فعل الشر خوفا من سوء المجازاة بالشر.

أما القسم الثالث واسمه " حسن العقبي ويشتمل على تسع عشرة قصة . وهي كالمكملة للقسمين الأولين . فانها تدور حول من وقع في شدة ثم خلص منها ، وكان عرضة لضياع ماله أو فقدان تفسه فرد إليه ماله ، ووهبت له نفسه ، كما كان أو خيرا مما كان هذه إحدى وسبعون قصة في هذا الكتاب موزعة على ثلاثة أبواب ، كلها تدعو إلى الخير وتنفر من الشر . ولهذا الكتاب قيمة كبيرة أدبية وأخلاقية وتاريخية . فأما الأدبية في أسلوب المؤلف في عرض القصة . فهو أسلوب حول رصين، يحكم التعبير عن المعنى في أوجز عبارة وأمتنها وأقواها ، تجد في كل قصة جملا تستوقف النظر ، سواء من ناحية وجزالة لفظها أو قوة معناها . حتى لو شاء معبر أن يؤدي غرضها لاستوجب منه ذلك أضعاف ألفاظها، أنظر مثلا إلى قوله في القصة الثالثة : ” أيحسن بشيخ مثل أن يتربع في المعروف ?“ وقوله : ” إن عارا ونقيصة على الكريم أن يموت وعليه دين من ديون المعروف “. وقوله في القصة الثانية والعشرين : ” استصفي ماله بالسوط وعظيم الإخافة » وفي القصة السادسة والعشرين : لا تستت منه قوما تشهد له القلوب بالفضل فآلست وحشتهم ، وفسحت رجاءهم وهكذا في كل قصة نجد بدائع يحسن الوقوف عندها وتذوقها وترديد الإعجاب بها . لم يقصد فيه مؤلفه إلى سجع ولا إلى توشية بأنواع من البديع ، و إنما قصد أن يؤدي المعنى من أوجز طريق وأيسره، فكان ذلك محمدة الكتاب، إذ لم يصرف النظر عن المعنى الجميل باللفظ المزوق قد يؤخذ عليه أنه إذا عرض للقصص أوضح في أسلوبه وأبان . وأما إذا خرج عن القصص غمض واعتراه شيء من الخفاء ، كما ترى في مقدمة الكتاب وخاتمته وآخر القسم الأول منه . ولعل عذره في ذلك، أنه يعمد إلى معان فلسفية وشرح حالات نفسية يعالجها على نمط الفلاسفة إذ كان متأثرا بهم ، مثقفا ثقافتهم، فهو إذا تفلسف غمض ، وإذا تأدب وضح . وأما ناحيته الأخلاقية، فقد التزم في الكتاب عرض قصص تدل على النبل والمروءة ، وعلى مجازاة الحسن بالحسن ، والقبيح بالقبيح. والحت على الصبر عند الشدائد ، فإنها ستتفرج لامحالة. وهذا ضرب من ضروب التعليم بالمثل، جرى عليه كثير من مؤلفي العرب والفرنج ، كما ترى في هذا الكتاب وتاب ” المسجاد من فعل الأجواد “ وكتب سمیلز بالانجليزية ونحوها.

ومنية هذا الكتاب أن موضوعه خلق معروض العرض الأدبي ، فهو رائع في شكله ، رائع في جوهره. تعجب عند قراءة كل قمة مغزاها ومناها معا.

وأما الناحية التاريخية للكتاب، فقيمة من ناحية أن فيه قصصا تاريخية توضح بعض ما جاء في كتب التاريخ. وقصصا مصرية طولونية، تدل على نواح كثيرة من النواحي الاجتماعية والاقتصادية في مصر في ذلك العصر، هذا إلى ماله من قيمة في تاريخ الأدب فالكتاب عظيم القيمة من ناحية دلالته على الأسلوب الأدبية في العصر الطولونية، وعلى ما كان يستعمل من عبارات مصرية أدبية فجر بعضها وبقي بعضها، فأنت ترى فيه كثرة شيوع الاستفهام من غير أدوات الاستفهام ، كما هو الشائع في مصر الآن . وواجد فيه التعبير براءة السياحة كما عبر اليوم ، كما أنه يعبر تعبيرات غير مألوفة في أسلوبنا اليوم كقوله ” واستدعي الواحد بعد الواحد من أسباب الطولونية يريد عمالها . وهكذا في الكتاب مجال فسيح لهذا النوع من البحث في التاريخ الأدبي.

وكان الكتاب - مع الأسف – قد وصل إلينا مملوءا بالتحريف والأخطاء، فبذل بعض من تقدمونا الجهد في تصحيح بعضها، و بذلنا نحن جهدنا في تصحيح بعضها ، وأعنا القارئ بتفسير غامضه والتعريف برجاله. والله المسئول أن ينفع به. ا

  1. انظر القصة الثالثة عشرة
  2. انظر القمة الخامسة
  3. انظر القصة الثالثة والعشرين
  4. انظر القصة الثالثة عشرة