فصل

عدل

في آيات الانبياء وبراهينهم

وهي الادلة والعلامات المستلزمة لصدقهم والدليل لا يكون إلا مستلزما للمدلول عليه مختصا به لا يكون مشتركا بينه وبين غيره فإنه يلزم من تحققه تحقق للمدلول وإذا انتفى المدلول انتفى هو فما يوجد مع وجود الشيء ومع عدمه لا يكون دليلا عليه بل الدليل لا يكون الا مع وجوده فما وجد مع النبوة تارة ومع عدم النبوة تارة لم يكن دليلا على النبوة بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها وهنا اضطرب الناس فقيل دليلها جنس يختص بها وهو الخارق للعادة فلا يجوز وجوده لغير نبي لا ساحر ولا كاهن ولا ولي كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم كابن حزم وغيره وقيل بل الدليل هو الخارق للعادة بشرط الاحتجاج به على النبوة والتحدي بمثله وهذا منتف في السحر والكرامة كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي أهل الاثبات كالقاضيين أبي بكر وأبي يعلى وغيرهما وقد بسط القاضي أبو بكر الكلام في ذلك في كتابه المصنف في الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانات والسحر والنيرنجيات وهؤلاء جعلوا مجرد كونه خارقا للعادة هو الوصف المعتبر وفرق بين أن يقال لا بد أن يكون خارقا للعادة وبين أن يقال كونه خارقا للعادة هو المؤثر فإن الاول يجعله شرطا لا موجبا والثاني يجعله موجبا وفرق بين أن يقال العلم والبيان وقراءة القرآن لا يكون إلا من حي وبين أن يقال كونه حيا يوجب أن يكون عالما قارئا ومن هنا دخل الغلط على هؤلاء وليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف بل ولا ذكر خرق العادة ولا لفظ المعجز وانما فيه آيات وبراهين وذلك يوجب اختصاصها بالانبياء

وأيضا فقالوا في شرطها أن لا يقدر عليها إلا الله لا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للإنس بأن يكون جنسها مما لا يقدر عليه إلا الله كاحياء الموتى وقلب العصا حية واذا كانت من أفعال العباد لكنها خارقة للعادة مثل حمل الجبال والقفز من المشرق الى المغرب والكلام المخلوق الذي يقدر على مثله البشر ففيه لهم قولان أحدهما أن ذلك يصح أن يكون معجزة والثاني أن المعجزة انما هي إقدار المخلوق على ذلك بأن يخلق فيه قدرة خارجة عن قدرته المعتادة وهذا اختيار القاضي أبي بكر ومن اتبعه كالقاضي أبي يعلى وظنوا أن هذا يوجب طرد قولهم إنها لا تكون مقدورة لغير الله بخلاف القول الاول فانه تقع فيه شبهة اذ كان الجنس معتادا وانما الخارق هو الكثير الخارج عن العادة وهذا الفرق الذي ذكره ضعيف فإنه إذا كان قادرا على اليسير فخرق العادة في قدرته حتى جعله قادرا على الكثير فجنس القدرة معتاد مثل جنس المقدور وانما خرقت العادة بقدرة خارجة عن العادة كما خرقت بفعل خارج عن القدرة وعنده أن خلق القدرة خلق لمقدورها والقدرة عنده مع الفعل فلا فرق وهذا القول وهو أن المعجزة لا تكون إلا مقدورة للرب لا للعباد قول كثير من أهل الكلام من القدرية والمثبتة للقدر وغيرهم ثم انهم لما طولبوا بالدليل على أنه لا يجوز أن تقدر العباد على مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك مما ذكروا أنه يمتنع أن يكون مقدورا لغير الله اعتمدوا في الدلالة على أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز أن يكون العبد قادرا على هذه الامور لوجب أن لا يخلو من ذلك ومن ضده وهو العجز أو القدرة على ضد ذلك الفعل كما يقولونه في فعل العبد انه اذا لم يقدر على الفعل فلا بد أن يكون عاجزا أو قادرا على ضده هذا احتجاج من يقول القدرة مع الفعل والقدرة عنده لا تصلح للضدين كالاشعرية فيقول لا يخلو من القدرة أو العجز فهذه مقدمة والمقدمة الثانية ونحن لا نحس من أنفسنا عجزا عن إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو هذه الامور لكنا غير قادرين عليها ولا يجوز أن نقدر عليها وهؤلاء يقولون لا يكون الشيء عاجزا إلا عما يصح أن يكون قادرا عليه بخلاف مالا يصح أن يكون قادرا عليه فلا يصح أن يكون عاجزا عنه ولهذا قالوا لا ينبغي أن تسمى هذه معجزات لان ذلك يقتضي أن الله أعجز العباد عنها وإنما يعجز العباد عما يصح قدرتهم عليه هذا كلام القاضي أبي بكر ومن وافقه وكلا المتقدمين دعوى مجردة لم يقم على واحدة منها حجة فكيف يجوز أن يكون الفرق بين المعجزة وغيرها مبنيا على مثل هذا الكلام الذي ينازعه فيه أكثر العقلاء ولو كان صحيحا لم يفهم إلا بكلفة ولا يفهمه إلا قليل من الناس فكيف اذا كان باطلا والذين آمنوا بالرسل لما رأوه وسمعوه من الآيات لم يتكلموا بمثل هذا الفرق بل ولا خطر بقلوبهم ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق كأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم حذفوا هذا القيد وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها وقالوا كل حادث فهو مقدور للرب وأفعال العباد هي أيضا مقدورة للرب وهو خالقها والعبد ليس خالقا لفعله فالاعتبار بكونها خارقة للعادة قد استدل بها على النبوة وتحدى بمثلها فلم يمكن أحدا معارضته هذه القيود الثلاثة وحذفوا ذلك القيد وزعم القاضي أبو بكر أن ما يستدل به على أن المعجزات يمتنع دخولها تحت قدرة العباد لا يصح على أصول القدرية وبسط القول في ذلك بكلام يصح بعضه دون بعض كعادته في أمثال ذلك ثم جعل هذا الفرق هو الفرق بين المعجزات وبين السحر والحيل فقال وأما على قولنا إن المعجز لا يكون إلا من مقدورات القديم ومما يستحيل دخوله ودخول مثله تحت قدرة العباد فاذا كان كذلك استحال أن يفعل أحد من الخلق شيئا من معجزات الرسل أو ما هو من جنسها لان المحتال إنما يحتال ويفعل ما يصح دخوله تحت قدرته دون ما يستحيل كونه مقدورا له قال وأما القائلون بأنه يجوز أن يكون في معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قدرة العباد وان لم يقدروا على كثيره وما يخرق العادة منه فانهم يقولون قد علمنا انه لا حيلة ولا شيء من السحر يمكن أن يتوصل به الساحر والمشعبذ الى فعل الصعود في السماء ولا قفز من المشرق الى المغرب وقفز الفراسخ الكثيرة والمشي على الماء وحمل الجبال الراسيات هذا أمر لا يتم بحيلة محتال ولا سحر ساحر وتكلم على إبطال قول من قال ان السحر لا يكون إلا تخييلا لا حقيقة له وذكر أقوال العلماء والآثار عن الصحابة بأن الساحر يقتل بسحره وقول إنه يقتل حدا عند أكثرهم وقصاصا عند بعضهم ثم قال باب القول في الفصل بين المعجزة والسحر وهو لم يفرق بين الجنسين بل يجوز أن يكون ما هو معجزة للرسول يظهر على يد الساحر لكن قال الفرق هو تحدي الرسول بالاتيان بمثله وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه فمتى وجد الذي ينفرد الله بالقدرة عليه من غير تحد منه واحتجاج لنبوته بظهوره لم يكن معجزا واذا كان كذلك خرج السحر عن أن يكون معجزا ومشبها لآيات الانبياء وكان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل وما يفعله الله عند تحديهم به غير أن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله بوجهين أحدهما أن ينسيه عمل السحر أولا يفعل عند سحره شيئا في المسحور من موت أو سقم أو بغض ولم يخلق فيه الصعود الى جهة العلو والقدرة على الدخول في بقرة فاذا منعه هذه الاسباب بطل السحر والثاني أن الساحر تمكن معارضته فان أبواب السحر معلومة عند السحرة فاذا تحدى ساحر بشيء يفعل عند سحره لم يلبث أن يجد خلقا من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق وأبلغ مما أورده والرسول اذا ظهر عليه مثل ذلك وادعاه آية له قال لهم هذا آيتي وحجتي ودليل ذلك أنكم لا تقدرون على مثله ولا يفعله الله في وقتي هذا ومع تحدي ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر وفعل كاهن وقد كان يظهر من سحرتكم وكهانكم وهي آية لا تظهر اليوم على أحد من الخلق وان دق سحره وعظم في الكهانة علمه فاذا ظهر ذلك عليه وامتنع ظهور مثله على يد ساحر أو كاهن مع أنه قد كان يظهر من قبل صار هذا خرق عادة البشر وعادة السحرة والكهنة خاصة قال ولم يبعد أن يقال هذه الآية أعظم من غيرها وان لها فضل مزية ذكر هذا بعد أن قال فان قال قائل فاذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله عنده سقم الصحيح وموته ويفعل عنده بغض المحب وحب المبغض وبغض الوطن والرد اليه من السفر وضيق الصدر والعجز عن الوطء بالربط والشد الذي يعلمه السحرة والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض الآلات في الفصل بين هذا وبين معجزات الرسل وكيف تنفصل مع ذلك المعجزات من السحر ويمكن الفرق بين النبي والساحر أو ليس لو قال نبي مبعوث أني أصعد على هذا الخيط نحو السماء وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج وأني أفعل فعلا أفرق به بين المرء وزوجه وأفعل فعلا أقتل به هذا الحي وأسقم هذا الصحيح فهل كان يكون ذلك لو ظهر على يده آيه ودليلا على صدقه وما الفصل اذا بين السحر والمعجز ثم قال في الجواب يقال له جواب هذا قريب وذلك أنا قد بينا في صدر هذا الكتاب أن من حق المعجز ألا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله على وجه خرق عادة البشر مع تحدي الرسول بالايتان الى آخر ما كتب

قلت هذا عمدة القوم ولهذا طعن الناس في طريقهم وشنع عليهم ابن حزم وغيره وذلك أن هذا الكلام مستدرك من وجوه

أحدها أنه إذا جوز أن يكون ما ينفرد الرب بالقدرة عليه على قوله يأتي به النبي تارة والساحر تارة ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوة والاستدلال به والتحدي بالمثل فلا حاجة الى كونه مما انفرد الباري بالقدرة عليه لا سيما وقد ظهر ضعف الفرق بين ما يمتنع قدرة العباد عليه وما لا يمتنع ولهذا أعرض المتأخرون عن هذا القيد

الوجه الثاني وبه تنكشف حقيقة طريقهم انه على هذا لم تتميز المعجزات بوصف نختص به وانما امتازت باقترانها بدعوى النبوة وهذا حقيقة قولهم وقد صرحوا به فالدليل والبرهان إن استدل به كان دليلا وان لم يستدل به لم يكن دليلا وان اقترنت به الدعوى كان دليلا وان لم تقترن به الدعوى لم يكن دليلا عندهم ولهذا لم يجعلوا دلالة المعجز دلالة عقلية بل دلالة وضعية كدلالة الالفاظ بالاصطلاح وهذا مستدرك من وجوه منها أن كون آيات الانبياء مساوية في الحد والحقيقة لسحر السحرة أمر معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل الثاني أن هذا من أعظم القدح في الانبياء إذا كانت آياتهم من جنس سحر السحرة وكهانة الكهان

الثالث أنه على هذا التقدير لا تبقى دلالة فان الدليل ما يستلزم المدلول ويختص به فاذا كان مشتركا بينه وبين غيره لم يبق دليلا فهؤلاء قدحوا في آيات الانبياء ولم يذكروا دليلا على صدقهم

الرابع أنه على هذا التقدير يمكن الساحر دعوى النبوة وقوله إنه عند ذلك يسلبه الله القدرة على السحر أو يأتي بمن يعارضه دعوى مجردة فان المنازع يقول لا نسلم أنه أذا ادعى النبوة فلا بد أن يفعل الله ذلك لا سيما على أصله وهو أن الله يجوز أن يفعل كل مقدور وهذا مقدور للرب فيجوز أن يفعله وادعى أن ما يخرق العادة من الامور الطبيعية والطلمسات هي كالسحر فقال ولاجل ذلك لم تلتبس آيات الرسل بما يظهر من جذب حجر المغناطيس وما يوجد ويكون عند كتب الطلمسات قال وذلك أنه لو ابتدأ نبي باظهار حجر المغناطيس لوجب أن يكون ذلك آية له ولو أن أحدا أخذ هذا الحجر وخرج الى بعض البلاد وادعى أنه آية له عند من لم يره ولم يسمع به لوجب أن ينقضه الله عليه بوجهين أحدهما أن يؤثر دواعي خلق من البشر الى حمل جنس تلك الحجارة الى ذلك البلد وكذلك سبيل الزناد الذي يقدح النار وتعرفه العرب وكذلك سبيل الطلمسات التي يقال انها تنفي الذباب والبق والحيات والوجه الآخر أن لا يفعل الله عند ذلك ما كان يفعله من قبل فيقال هذه دعوى مجردة

ومما يوضح ذلك الوجه الخامس وهو أن جعل قدح الزناد وجذب حجر المغناطيس والطلمسات من جنس معجزات الانبياء وأنه لو بعث نبي ابتداء وجعل ذلك آية له جاز ذلك غلط عظيم وعدم علم بقدر معجزات الانبياء وآياتهم وهذا إنما أتاهم حيث جعلوا جنس الخارق هو الآية كما فعلت المعتزلة وأولئك كذبوا بوجود ذلك لغير الانبياء وهؤلاء ما أمكنهم تكذيب ذلك لدلالة الشرع والاخبار المتواترة والعيان على وجود حوادث من هذا النوع فجعلوا الفرق افتراق الدعوى والاستدلال والتحدي دون الخارق ومعلوم أن ما ليس بدليل لا يصير دليلا بدعوى المستدل أنه دليل وقد بسط الكلام في ذلك وجوز أن تظهر المعجزات على يد كاذب إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه فعمدته سلامتها من المعارضة بالمثل مع أن المثل عنده موجود وآيات الانبياء لها أمثال كثيرة لغير الانبياء لكن يقول إن من ادعى الإتيان فإما أن لا يظهرها الله على يديه وإما أن يقيض من يعارضه بمثلها هذا عمدة القوم وليس فرقا حقيقيا بين النبي والساحر وانما هو مجرد دعوى

وهذا يظهر بالوجه السادس وهو أن من الناس من ادعى النبوة وكان كاذبا وظهرت على يده بعض هذه الخوارق فلم يمنع منها ولم يعارضه أحد بل عرف أن هذا الذي أتى به ليس من آيات الانبياء وعرف كذبه بطرق متعددة كما في قصة الاسود العنسي ومسيلمة الكذاب والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء ممن ادعى النبوة فقولهم إن الكذاب لا يأتي بمثل هذا الجنس ليس كما ادعوه

الوجه السابع أنه إنما أوجب أن لا يظهر الله الخوارق على يد الكذاب لأن ذلك يفضي الى عجز الرب وهذه عمدة الاشعري في أظهر قوليه وهي المشهورة عند قدمائهم وهي التي سلكها القاضي أبو يعلى ونحوه قال القاضي أبو بكر فان قال قائل من القدرية فلم لا يجوز أن تظهر المعجزات على يد مدعي النبوة ليلبس بذلك على العباد ويضل به عن الدين وانتم تجوزون خلقه الكفر في قلوب الكفار وإضلالهم فما الفصل بين إضلالهم بهذا وبين اضلالهم باظهار المعجزات على يد الكاذبين قال فيقال لمن سأل عن هذا من القدرية الفصل بين الامرين ظاهر معلوم وقد نص القرآن والأخبار بأنه يضل ويهدي ويختم على القلوب والأسماع والأبصار فاما مطالبتهم بالفرق بين إضلال العباد بهذه الضروب من الأفعال وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على أيدي الكذابين فجوابه أنا لم تحل إضلالهم بهذا الضرب لأنه إضلال عن الدين او لقبحه من الله لو وقع أو لاستحقاقه الذم عليه تعالى عن ذلك أو لكونه ظالما لهم بالتكليف مع هذا الفعل كل ذلك باطل محال من تمويههم وإنما احلناه لأنه يوجب عجز القديم عن تمييز الصادق من الكادب وتعريفنا الفرق بين النبي والمتنبي من جهة الدليل إذ لا دليل في قول كل أحد أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم إلا ظهور أعلام المعجزة على أيديهم أو خبر من ظهرت المعجزة على يده عن نبوة آخر مرسل فهذا إجماع لا خلاف فيه فلو أظهر الله على يد المتنبي الكاذب ذلك لبطلت دلائل النبوة وخرجت المعجزات عن كونها دلالة على صدق الرسول ولوجب لذلك عجز القديم عن الدلالة على صدقهم ولما لم يجز عجزه وارتفاع قدرته عن بعض المقدورات لم يجز لذلك ظهور المعجزات على أيدي الكذابين بخلاف خلق الكفر في قلوب الكافرين

قلت هذا عمدة القوم والمتأخرون عرفوا ضعف هذا فلم يسلكوه كأبي المعالي والرازي وغيرهما بل سلكوا الجواب الآخر وهو أن العلم بالصدق عند المعجز يحصل ضرورة فهو علم ضروري وبين ضعف هذا الجواب مع أنه يحتج به وقال فهذا هذا من وجوه أحدها أن يقال إن كان الامر كما زعمتم فانما يلزم العجز إذا كان خلق الدليل دال على صدقهم جنسه لا يدل بل جنسه يقع مع عدم النبوة ولم يبق عندكم جنس من الادلة يخص النبوة فلم قلتم إن تصديقهم والحال هذه ممكن ولا ينفعكم هذا الاستدلال بالاجماع ونحوه من الادلة السمعية لان كلامكم مع منكري النبوات فيجب أن تقيموا عليهم كون المعجزات دليلا على صدق النبي وأما من أقر بنبوتهم بطريق غير طريقكم فإنه لا يحتاج الى كلامكم فاذا قال لكم منكرو النبوة لا نسلم إمكان طريق يدل على صدقهم لم يكن معكم ما يدل على ذلك وقد أورد هذا السؤال وأجاب عنه بأنه يمكنه تصديقهم بالقول والمعجزات تقوم مقام التصديق بالقول بل التصديق بالفعل أوكد وضرب المثل بمدعي الوكالة اذا قال قم أو اقعد ففعل ذلك عند استشهاد وكيله فان العقلاء كلهم يعلمون أنه أقام تلك الأفعال مقام القول

قلت وهذا يعود الى الاحتجاج بالطريقة الثانية وهي العلم بالتصديق ضرورة فلا حاجة الى طريقة المعجزات الثاني انه يمكن أن يخلق علما ضروريا بصدقهم وقد سلم القاضي أبو بكر ذلك لكن قال إذا اضطررنا الى العلم بصدق مدعي النبوة وأنه أرسله الينا كان في ضمن هذا العلم اضطراره لنا الى العلم بذاته والى أنه قد أرسل مدعي النبوة وإذا علمنا ذلك اضطرارا لم يكن للتكليف بالعلم بصدقه وجه وخرجنا بذلك عن أن نكون مكلفين بالعلم بالدين وهذا كلام يؤدي الى خروجنا عن حد المحنة والتكليف فيقال له اذا حصل العلم الضروري بوجود الخالق وبصدق رسوله كان التكليف بالاقرار بالصانع وعبادته وحده لا شريك له وبتصديق رسله وطاعة أمره وهذا هو الذي أمرت به الرسل أمرت الخلق أن يعبدوا الله وحده وأن يطيعوا رسله ولم يأمروا جميع الخلق بأن يكتسبوا علما نظريا بوجود الخالق وصدق رسله لكن من جحد الحق امروه بالاقرار به وأقاموا الحجة عليه وبينوا معاندته وأنه جاحد للحق الذي يعرفه وكذلك الرسول كانوا يعلمون أنه صادق ويكذبونه فليتدبر هذا الموضع فانه موضع عظيم الوجه الثالث أن يقال نحن نسلن أن المعجزات تدل على الصدق وأنه لا يجوز إظهارها على يد الكاذب لكن هو لأن الله منزه عن ذلك وأن حكمته تمنع ذلك ولا يجوز عليه كل فعل ممكن وأنتم مع تجويزكم عليه كل ممكن يلزمكم تجويز خلق المعجزة على يد الكاذب فما علم بالعقل والاجماع من امتناع ظهورها على يد الكاذب يدل على فساد أصلكم الوجه الرابع أن يقال لم قلتم إنه لا دليل على صدقهم إلا المعجزات وما ذكرتم من الاجماع على ذلك لا يصح الاستدلال به لوجهين أحدهما أنه لا إجماع في ذلك بل كثير من الطوائف يقولون إن صدقهم بغير المعجزات الثاني أنه لا يصح الاحتجاج بالاجماع في ذلك فان الاجماع إنما يثبت بعد ثبوت النبوة والمقدمات التي تعلم بها النبوة لا يحتج عليها بالاجماع وقولكم لا دليل سوى المعجز مقدمة ممنوعة وذكر عن الأشعري أنه ذكر جوابا آخر فقال وأيضا فإن قول القائل ما أنكرتم من جواز إظهار المعجزات على أيدي الكذابين قول متناقض والله على كل شيء قدير ولكن ما طالب السائل باجازته محال لا تصح القدرة عليه ولا العجز عنه لأنه بمنزلة كونه أظهر المعجزات على أيديهم فانه أوجب أنهم صادقون لان المعجز دليل على الصدق ومتضمن له وقوله مع ذلك إنهم كاذبون نقض لقوله إنهم صادقون قد ظهرت المعجزات على أيديهم فوجب إحالة هذه المطالبة وصار هذا بمثابة قول من قال ما أنكرتم من صحة ظهور الأفعال المحكمة الدالة على علم فاعلها والمتضمنة لذلك من جهة الدليل من الجاهل بها في أنه قول باطل متناقض فيجب اذا كان الامر كذلك استحالة ظهور المعجزات على يدي الكاذبين واستحالة ثبوت قدرة قادر عليه وكيف يصح على هذا الجواب أن يقال ما أنكرتم وزعمتم أنه من فعل المحال الذي لا يصح حدوثه وتناول القدرة له هو من قبيل الجائز قياسا على صحة خلق الكفر وضروب الضلال التي يصح حدوثها وتناول القدرة لها قلت هذا كلام صحيح اذا علم أنها دليل الصدق يستحيل وجوده بدون الصدق والممتنع غير مقدور فيمتنع أن يظهر على أيدي الكاذبين ما يدل على صدقهم لكن المطالب يقول كيف يستقيم على أصلكم أن يكون ذلك دليل الصدق وهو أمر حادث مقدور وكل مقدور يصح عندكم أن يفعله الله ولو كان فيه من الفساد ما كان فانه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن ولا يقبح منه فعل فحينئذ اذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق لم يكن ممتنعا على أصلكم وهي لا تدل على الصدق البتة على أصلكم ويلزمكم إذا لم يكن دليل إلهي ألا يكون في المقدور دليل على صدق مدعي النبوة فيلزم أن الرب سبحانه لا يصدق أحدا ادعى النبوة واذا قلتم هذا ممكن بل واقع ونحن نعلم صدق الصادق اذا ظهرت هذه الاعلام على يده ضرورة قيل فهذا يوجب أن الرب لا يجوز عليه إظهارها على يد كاذب وهذا فعل من الأفعال هو قادر عليه وهو سبحانه لا يفعله بل هو منزه عنه فأنتم بين أمرين ان قلتم لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعا فقد قلتم إنه لا يقدر على إحداث حادث قد فعل مثله وهذا تصريح بعجزه وأنتم قلتم فليست بدليل فلا يلزم عجزه فصارت دلالتها مستلزمة لعجزه على أصلكم وان قلتم يقدر لكنه لا يفعل فهذا حق وهو ينقض أصلكم وحقيقة الامر أن نفس ما يدل على صدق الصادق بمجموعه امتنع أن يحصل للكاذب وحصوله له ممتنع غير مقدور وأما خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب فهو ممكن والله سبحانه وتعالى قادر عليه لكنه لا يفعله لحكمته كما أنه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب أو يظلم والمعجز تصديق وتصديق الكاذب هو منزه عنه والدال على الصدق قصد الرب تصديق الصادق وهذا القصد يمتنع حصوله للكاذب فيمتنع جعل من ليس برسول رسولا وجعل الكاذب صادقا ويمتنع من الرب قصد المحال وهو غير مقدور وهو اذا صدق الصادق بفعله علم بالاضطرار والدليل أنه صدقه وهذا العلم يمتنع حصوله للكاذب واستشهادكم بالعلم هو من هذا الباب فانتم تقولون إن الرب لا يخلق شيئا لشيء وحينئذ فلا يكون قاصدا لما في المخلوقات من الإحكام فلا يكون الإحكام دالا على العلم على أصلكم فان الإحكام إنما هو جعل الشيء محصلا للمطلوب بحيث يجعل لأجل ذلك المطلوب وهذا عندهم لا يجوز فاثباته علمه وتصديق رسله مشروط بأن يفعل شيئا لشيء وهذا عندكم لا يجوز فلهذا يقال إنكم متناقضون والله سبحانه وتعالى أعلم

الوجه الثامن أن حقيقة الامر على قول هؤلاء الذين جعلوا المعجزة الخارق مع التحدي أن المعجز في الحقيقة ليس الا منع الناس من المعارضة بالمثل سواء كان المعجز في نفسه خارقا أو غير خارق وكثير مما يأتي به الساحر والكاهن أمر معتاد لهم وهم يجوزون أن يكون آية للنبي واذا كان آية منع الله الساحر والكاهن من مثل ما كان يفعل أو قيض له من يعارضه وقالوا هذا أبلغ فانه منع المعتاد وكذلك عندهم أحد نوعي المعجزات منعهم من الأفعال المعتادة وهو مأخذ من يقول بالصرفة واذا كان كذلك جاز أن يكون كل أمر كالأكل والشرب والقيام والقعود معجزة اذا منعهم أن يفعلوا كفعله وحينئذ فلا معنى لكونها خارقا ولا لاختصاص الرب بالقدرة عليها بل الاعتبار بمجرد عدم المعارضة وهم يقرون بخلاف ذلك والله أعلم

الوجه التاسع أنه اذا كانت المعجزة هي مجموع دعوى الرسالة مع التحدي فلا حاجة الى كونه خارقا كما تقدم ويجب اذا تحدى بالمثل أن يقول فليأت بمثل القرآن من يدعي النبوة فإن هذا هو المعجز عندهم وإلا كان القرآن مجردا ليس بمعجز فلا يطلب مثل القرآن إلا ممن يدعي النبوة كما في الساحر والكاهن اذا ادعى النبوة سلبه الله ذلك او قيض له من يعارضه وإذا لم يدع النبوة جاز أن يظهر على يده مثل ما يظهر على يد النبي فكذلك يلزمهم مثل هذا في القرآن وسائر المعجزات والله أعلم

فصل في أن الرسول لا بد أن يبين أصول الدين

عدل

وهي البراهين الدالة على أن ما يقوله حق من الخبر والأمر فلا بد أن يكون قد بين الدلائل على صدقه في كل ما أخبر ووجوب طاعته في كل ما أوجب وأمر ومن أعظم أصول الضلال الإعراض عن بيان الرسول للأدلة والآيات والبراهين والحجج فإن المعرضين عن هذا إما أن يصدقوه ويقبلوا قوله ويؤمنوا به بلا دليل أصلا ولا علم وإما أن يستدلوا على ذلك بغير أدلته فان لم يكونوا عالمين بصدقه فهم ممن يقال له في قبره ما قولك في هذا الرجل الذي بعث فيكم فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه وأما المنافق أو المرتاب فيقول هاء هاء لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين وان استدل على ذلك بغير الآيات والأدلة التي دعا بها الناس فهو مع كونه مبتدعا لا بد أن يخطئ ويضل فان ظن الظان أنه بأدلة وبراهين خارجة عما جاء به تدل على ما جاء به فهو من جنس ظنه أنه يأتي بعبادات غير ما شرعه توصل الى مقصوده وهذا الظن وقع فيه طوائف من النظار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر كما وقع في الظن الاول طوائف من العباد الغالطين أصحاب الارادة والمحبة والزهد وقوله في خطبته يوم الجمعة خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة يتناول هذا وهذا وقد أرى الله تعالى عباده الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى تبين لهم أن ما قاله هو حق فأن أرباب العبادة والمحبة والارادة والزهد الذين سلكوا غير ما أمروا به ضلوا كما ضلت النصارى ومبتدعة هذه الأمة من العباد وأرباب النظر والاستدلال الذين سلكوا غير دليله وبيانه أيضا ضلوا قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وفي الكلام المأثور عن الإمام أحمد أصول الاسلام أربعة دال ودليل ومبين ومستدل فالدال هو الله والدليل هو القرآن والمبين هو الرسول قال الله تعالى لتبين للناس ما نزل اليهم والمستدل هم أولو العلم وأولو الألباب الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وقد ذكره ابن المنى عن أحمد وهو مذكور في العدة للقاضي أبي يعلى وغيرها إما أن أحمد قال له أو قيل له فاستحسنه ولهذا صار كثير من النظار يوجبون العلم والنظر والاستدلال وينهون عن التقليد ويقول كثير منهم إن ايمان المقلد لا يصح أو أنه وان صح لكنه عاص بترك الاستدلال ثم النظر والاستدلال الذي يدعون إليه ويوجبونه ويجعلونه أول الواجبات وأصل العلم هو نظر واستدلال ابتدعوه ليس هو المشروع لا خبرا ولا أمرا وهو استدلال فاسد لا يوصل الى العلم فانهم جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام والاستدلال على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض لا تخلو عنا ولا تنفك منها ثم استدلوا على حدوث الاعراض قالوا فثبت أن الأجسام مستلزمة للحوادث لا تخلو عنها فلا تكون مثلها ثم كثير منهم قالوا وما لم يخل من الحوادث أو ما لم يسبق الحوادث فهو حادث وظن أن هذه مقدمة بديهية معلومة بالضرورة لا يطلب عليها دليل وكان ذلك بسبب أن لفظ الحوادث يشعر بان لها ابتداء كالحادث المعين والحوادث المحدودة ولو قدرت ألف ألف ألف حادث فإن الحوادث اذا جعلت مقدرة محدودة فلا بد أن يكون لها ابتداء فإن مالا ابتداء له ليس له حد معين ابتدأ منه اذ قد قيل لا ابتداء له بل هو قديم أزلي دائم ومعلوم أن هذه الحوادث مالم يسبقها فهو حادث فإنه يكون إما معها وإما بعدها وكثير منهم يفطن للفرق بين جنس الحوادث وبين الحوادث المحدودة فالجنس مثل أن يقال ما زالت الحوادث توجد شيئا بعد شيء أو ما زال جنسها موجودا أو ما زال الله متكلما اذا شاء او ما زال الله فاعلا لما يشاء أو ما زال قادرا على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور فان هذه في الحقيقة ليست قدرة ومثل أن يقال في المستقبل لا بد أن الله يخلق شيئا بعد شيء ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول ولا ينفد وقد يقال في النوعين كلمات الله لا تنفذ ولا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ونحو ذلك فالكلام في دوام الجنس وبقائه وأنه لا ينفد ولا ينقضي ولا يزول ولا ابتداء له غير الكلام فيما يقدر محدودا له ابتداء أوله ابتداء وانتهاء فإن كثيرا من النظار من يقول جنس الحوادث إذا قدر له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء لأنه يمكن فرض تقدمه على ذلك الحد فيكون أكثر مما وجد ومالا يتناهى لا يدخله التفاضل فإنه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها بخلاف مالا ابتداء له ولا انتهاء فإن هذا لا يكون شيء فوقه فلا يفضي الى التفاضل فيما لا يتناهى وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كل مكلف وأنه من لم ينظر في هذا الدليل فاما أنه لا يصح إيمانه فيكون كافرا على قول طائفة منهم وإما أن يكون عاصيا على قول آخرين وأما إن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص والأقوال الثلاثة باطلة لأنها مفرعة على أصل باطل وهو أن النظر الذي هو أصل الدين والايمان هو هذا النظر في هذا الدليل فان علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أن الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهدا الدليل لا عامة الخلق ولا خاصتهم فامتنع أن يكون هذا شرطا في الايمان والعلم وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم وأنهم عالمون بصدق الرسول وبما جاء به وعالمون بالله وبأنه لا إله إلا الله ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعين كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد وقال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وقال أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى

وقد وصف باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله وبالآخرة هم يوقنون وقوله أولئك على هدى من ربهم وقوله قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وأمثال ذلك فتبين أن هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصل الدين ليس مما أوجبه الله ورسوله ولو قدر أنه صحيح في نفسه وأن الرسول أخبر بصحته لم يلزم من ذلك وجوبه اذ قد يكون المطلوب أدلة كثيرة ولهذا طعن الرازي وأمثاله على أبي المعالي في قوله إنه لا يعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق وقالوا هب أنه يدل على حدوث العالم فمن أين يجب أن لا يكون ثم طريق آخر وسلكوا هم طرقا أخر فلو كانت هذه الطريق صحيحة عقلا وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة لم تتعين مع إمكان سلوك طرق أخرى كما أنه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنص والاجماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى ومع هذا فاذا اهتدى الرجل بغيرها وقام بالواجب ومات ولم يعلم بها ولم يتمكن من سماعها لم يضره كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي قبل أن ينزل سائر القرآن فالدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء ايجاب سلوك هذه الطريق مع تسليمهم أنها صحيحة كالخطابي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم والأشعري نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضا في رسالته إلى أهل الثغر مع اعتقاده صحتها واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمى باللمع في الرد على أهل البدع وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحا كثيرة والقاضي أبو بكر شرحه ونقض كتاب عبد الجبار الذي صنفه في نقضه وسماه نقض نقض اللمع وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول وانه لا يحصل بها العلم بالصانع ولا بغير ذلك بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب مخالفة كثير مما جاء به الرسول مع مخالفة صريح المعقول كما أصاب من سلكها من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية ومن تبعهم من الطوائف وان لم يعرفوا غورها وحقيقتها فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في مخالفة الشرع والعقل فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته اذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته وأسماؤه مستلزمة لصفاته فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى والمعتزلة استعظموا نفي الاسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فانهم لم يثبتوا في نفس الامر شيئا قديما البتة كما أن المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الامكان والوجوب وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم لم يثبتوا واجبا بنفسه البتة وظهر بهذا فساد عقلهم وعظيم جهلهم مع الكفر وذلك أنه يشهد وجود السماوات وغيرها فهذه الأفلاك إن كانت قديمة واجبة فقد ثبت وجود الموجود القديم الواجب وان كانت ممكنة أو محدثة فلا بد لها من واجب قديم فإن وجود الممكن بدون الواجب والمحدث بدون القديم ممتنع في بدائه العقول فثبت وجود موجود قديم واجب بنفسه على كل تقدير فاذا كان ما ذكروه من نفي الصفات عن القديم والواجب يستلزم نفي القديم مطلقا ونفي الواجب علم أنه باطل وقد بسط هذا في مواضع وبين أن كل من نفى صفة مما أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات فلا يمكن القول بموجب أدلة العقول إلا مع القول بصدق الرسول فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول بل من كذبه فليس معه لا عقل ولا سمع كما أخبر الله تعالى عن أهل النار قال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بل قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وهذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات فصاروا متناقضين فان اثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الاسماء المشتقة كاسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الاسماء وقالوا ليست أعراضا لان العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الإعراض قالوا وهذه تنفي عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فانما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الامور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ومنهم من قال بل فعل الرب قديم أزلي وهو من صفاته الأزلية وهو قول قدماء الكلابية وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة لما وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل فكتبوا عقيدة اصطلحوا عليها وفيها إثبات الفعل القديم الأزلي وكان سبب ذلك أنهم كانوا كلابية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه المعين لازم لذاته أزلا وأبدا وكان ابن خزيمة وغيره على القول المعروف للمسلمين وأهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وكان قد بلغه عن الإمام أحمد أنه كان يذم الكلابية وأنه أمر بهجر الحارث المحاسبي لما بلغه أنه على قول ابن كلاب وكان يقول حذروا عن حارث الفقير فإنه جهمي واشتهر هذا عن أحمد وكان بنيسابور طائفة من الجهمية والمعتزلة ممن يقولون إن القرآن وغيره من كلام الله مخلوق ويطلقون القول بأنه متكلم بمشيئته وقدرته لكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاما بائنا عنه قائما بغيره كسائر المخلوقات وكان من هؤلاء من عرف أصل ابن كلاب فاراد التفريق بين ابن خزيمة وبين طائفة من أصحابه فأطلعه على حقيقة قولهم فنفر منه وهم كانوا قد بنوا ذلك على أصل ابن كلاب واعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث بناء على هذه الطريقة طريقة الإعراض وابن خزيمة شيخهم وهو الملقب بإمام الأئمة وأكثر الناس معه ولكن لا يفهمون حقيقة النزاع فاحتاجوا لذلك الى ذكر عقيدة لا يقع فيها نزاع بين الكلابية وبين أهل الحديث والسنة فذكروا فيها أن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يزل متكلما وأن فعله أيضا غير مخلوق فالمفعول مخلوق ونفس فعل الرب له قديم غير مخلوق وهذا قول الحنفية وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره في آخر عمره وبسط هذا له موضع آخر والمقصود التنبيه على افتراق الامة بسبب هذه الطريقة ولما عرف كثير من الناس باطن قول ابن كلاب وأنه يقول أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي وأن كلامه شيء واحد هو معنى آية الكرسي وآية الدين عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل فنفروا عنه وعرفوا أن هؤلاء يقولون أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه وكان ممن أنكر ذلك الكرامية وغير الكرامية كاصحاب أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي وطوائف فصار كثير من هؤلاء يقولون أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فانكروه لكن يراعى تلك الطريقة لاعتقاده صحتها فيقول إنه لن يكن في الأزل متكلما لأنه إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود حوادث لا تتناهى وأصل الطريقة أن هذا ممتنع فصار حقيقة قول هؤلاء إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فخالفوا قول السلف والأئمة انه لم يزل متكلما اذا شاء وبسط هذه الأمور له موضع آخر

والمقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والايمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع المخالفة للعقل التي انفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذم أهلها فذمهم للجهمية الذين ابتدعوا هذه الطريقة أولا متواتر مشهور قد صنف فيه مصنفات وذمهم للكلام والمتكلمين مما عني به أهل هذه الطريقة كذم الشافعي لحفص الفرد الذي كان على قول ضرار بن عمرو وذم أحمد بن حنبل لأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي كان على قول حسين النجار وذمهما وذم أبي يوسف ومالك وغيرهم لأمثال هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة وقد صنف في ذم الكلام وأهله مصنفات أيضا وهو متناول لاهل هذه الطريقة قطعا فكان ايجاب النظر بهذا التفسير باطلا قطعا بل هذا نظر فاسد يناقض الحق والايمان ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة من حذاق الطوائف يتبين لهم فسادها كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما ثم الذي يتبين له فسادها إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائرا مضطربا والقائلون بقدم العالم من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم تبين لهم فسادها فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل فيبطلون قول هؤلاء إنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن ويثبتون وجوب دوام نوع الحوادث ويظنون أنهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم وهم أضل وأجهل من أولئك فإن أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم بل كل ما سوى الله فهو محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة وأن كان الفاعل لم يزل فاعلا لما يشاء ومتكلما بما يشاء وصار كثير من أولئك إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين وليس عنده إلا قولهم وقول هؤلاء يميل الى قول هؤلاء الملاحدة ثم قد يبطن ذلك وقد يظهره لمن يأمنه وابتلى بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف وصاروا يظهرون هذا في قالب المكاشفة ويزعمون أنهم أهل التحقيق والتوحيد والعرفان فأخذوا من نفي الصفات أن صانع العالم لا داخل العالم ولا خارجه ومن قول هؤلاء أن العالم قديم ولم يروا موجودا سوى العالم فقالوا إنه هو الله وقالوا هو الوجود المطلق والوجود واحد وتكلموا في وحدة الوجود وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه ثم لما ظهر أن كلامهم يخالف الشرع والعقل صاروا يقولون يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدني الأعلى فليترك العقل والنقل وصار حقيقة قولهم الكفر بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيع

لكن أولئك لما كان ظاهر قولهم هو ذم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان صارت وصمة الرفض تنفر عنهم خلقا كثيرا لم يعرفوا باطن أمرهم وهؤلاء صاروا ينتسبون الى المعرفة والتوحيد وأتباع شيوخ الطريق كالفضيل وابراهيم بن أدهم والتستري والجنيد وسهل بن عبد الله وأمثال هؤلاء ممن له في الامة لسان صدق فاغتر بهؤلاء من لم يعرف باطن أمرهم وهم في الحقيقة من أعظم خلق الله خلاقا لهؤلاء المشايخ السادة ولمن هو أفضل منهم من السابقين الاولين والانبياء المرسلين وكان من أسباب ذلك أن العبادة والتأله والمحبة ونحو ذلك مما يتكلم فيه شيوخ المعرفة والتصوف أمر معظم في القلوب والرسل إنما بعثوا بدعاء الخلق الى أن يعرفوا الله ويكون أحب إليهم من كل ما سواه فيعبدوه ويألهوه ولا يكون لهم معبود مألوه غيره وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوبا أو أنه يحب شيئا أو يحبه أحد وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبودا فان الآله هو المألوه الذي يستحق أن يؤله ويعبد والتأله والتعبد يتضمن غاية الحب بغاية الذل ولكن غلط كثير من أولئك فظنوا أن الآلهية هي القدرة على الخلق وإن الآله بمعنى الآله وإن العباد يألههم الله لا أنهم هم يألهون الله كما ذكر ذلك طائفة منهم الأشعري وغيره وطائفة ثالثة لما رأت ما دل على أن الله يحب أن يكون محبوبا من أدلة الكتاب والسنة وكلام السلف وشيوخ أهل المعرفة صاروا يقرون بأنه محبوب لكنه هو نفسه لا يحب شيئا إلا بمعنى المشيئة وجميع الاشياء مرادة له فهي محبوبة له وهذه طريقة كثير من أهل النظر والعبادة والحديث كأبي إسماعيل الأنصاري وأبي حامد الغزالي وأبي بكر بن العربي وحقيقة هذا القول أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضاه وهذا هو المشهور من قول الأشعري وأصحابه وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك وكذلك ذكر ابن عقيل أن أول من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعري وأصحابه وهم قد يقولون لا يحبه دينا ولا يرضاه دينا كما يقولون لا يريد أن يكون فاعله مأجورا وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات فإنها عندهم محبوبة له إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق فهو عندهم محبوب مرضي

وجماهير المسلمين يعرفون أن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل وان المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن الله لا يحب الشرك ولا تكذيب الرسل ولا يرضى ذلك بل هو يبغض ذلك ويمقته ويكرهه كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرمات ثم قال كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها وبسط هذه الأمور له مواضع أخر والمقصود هنا أن الذين اعرضوا عن طريق الرسول في العلم والعمل وقعوا في الضلال والزلل وأن أولئك لما أوجبوا النظر الذي ابتدعوه صارت فروعه فاسدة اذ قالوا ان من لم يسلكها كفر أو عصى فقد عرف بالاضطرار من دين الاسلام أن الصحابة والتابعين لهم باحسان لم يسلكوا طريقهم وهم خير الامة وإن قالوا ان من قاله ليس عنده علم ولا بصيرة بالايمان بل قاله تقليدا محضا من غير معرفة يكون مؤمنا فالكتاب والسنة يخالف ذلك ولو أنهم سلكوا طريقة الرسول لحفظهم الله من هذا التناقض فان ما جاء به الرسول جاء من عند الله وما ابتدعوه جاءوا به من عند غير الله وقد قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثير وهؤلاء بنوا دينهم على النظر والصوفية بنوا دينهم على الارادة وكلاهما لفظ مجمل يدخل فيه الحق والباطل فالحق هو النظر الشرعي والارادة الشرعية فالنظر الشرعي هو النظر فيما بعث به الرسول من الآيات والهدى كما قال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان والارادة الشرعية إرادة ما أمر الله به ورسوله والسماع الشرعي سماع ما أحب الله سماعه كالقرآن والدليل الذي يستدل به هو الدليل الشرعي وهو لذي دل الله به عباده وهداهم به الى صراط مستقيم فانه لما ظهرت البدع والتبس الحق بالباطل صار اسم النظر والدليل والسماع والارادة يطلق على ثلاثة أمور منهم من يريد به البدعي دون الشرعي فيريدون بالدليل ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة والنظر فيها ومن السماع والارادة ما ابتدعوه من اتباع ذوقهم ووجدهم وما تهواه أنفسهم وسماع الشعر والغناء الذي يحرك هذا الوجد التابع لهذه الارادة النفسانية التي مضمونها اتباع ما تهوى الأنفس بغير هدى من الله ومنهم من يريد مطلق الدليل والنظر ومطلق السماع والارادة من غير تقييدها لا بشرعي ولا ببدعي فهؤلاء يفسرون قوله الذين يستمعون القول بمطلق القول الذي يدخل فيه القرآن والغناء ويستمعون الى هذا وهذا وأولئك يفسرون الارادة بمطلق المحبة للآله من غير تقييدها بشرعي ولا بدعي ويجعلون الجميع من أهل الارادة سواء عبد الله بما أمر الله به ورسوله من التوحيد وطاعة الرسول أو كان عابدا للشيطان مشركا عابدا بالبدع وهؤلاء أوسطهم وهم أحسن حالا من الذين قيدوا ذلك بالبدعي وأما القسم الثالث فهم صفوة الامة وخيارها المتبعون للرسول علما وعملا يدعون إلى النظر والاستدلال والاعتبار بالآيات والأدلة والبراهين التي بعث الله بها رسوله وتدبر القرآن وما فيه من البيان ويدعون إلى المحبة والارادة الشرعية وهي محبة الله وحده وارادة عبادته وحده لا شريك له بما أمر به على لسان رسوله فهم لا يعبدون إلا الله ويعبدونه بما شرع وأمر ويستمعون ما أحب استماعه وهو قوله الذي قال فيه أفلم يدبروا القول وهو الذي قال فيه فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه كما قال واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقال وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها

سبحانه بين القدرة على الابتداء كقوله إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم الآية ومثل قوله ويقول الانسان أإذا مامت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا الآية ومثل قوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم وغير ذلك

فالاستدلال على الخالق بخلق الانسان في غاية الحسن والاستقامة وهي طريقة عقلية صحيحة وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس اليها وبينها وأرشد اليها وهي عقلية فان نفس كون الانسان حادثا بعد أن لم يكن ومولودا ومخلوقا من نطفة ثم من علقة هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم سواء أخبر به الرسول أو لم يخبر لكن الرسول أمر أن يستدل به ودل به وبينه واحتج به فهو دليل شرعي لان الشارع استدل به وأمر أن يستدل به وهو عقلي لأنه بالعقل تعلم صحته وكثير من المتنازعين في المعرفة هل تحصل بالشرع أو بالعقل لا يسلكونه وهو عقلي شرعي وكذلك غيره من الادلة التي في القرآن مثل الاستدلال بالسحاب والمطر هو مذكور في القرآن في غير موضع وهو عقلي شرعي كما قال تعالى أولم يروا أنا نسوق الماء الى الارض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسم أفلا يبصرون فهذا مرئي بالعيون وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فالآيات التي يريها الناس حتى يعلموا أن القرآن حق هي آيات عقلية يستدل بها العقل على أن القرآن حق وهي شرعية دل الشرع عليها وأمر بها والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقلية التي يستدل بها العقل وهي شرعية لان الشرع دل عليها وأرشد اليها ولكن كثيرا من الناس لا يسمي دليلا شرعيا إلا ما دل بمجرد خبر الرسول وهو اصطلاح قاصر ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والاجماع والكتاب يريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط والمقصود من أصول الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية العملية فيجعلون الادلة الشرعية ما دلت على الاحكام العملية فقط ويخرجون ما دل باخبار الرسول عن أن يكون شرعيا فضلا عما دل بارشاده وتعليمه ولكن قد يسمون هذا دليلا سمعيا ولا يسمونه شرعيا وهو اصطلاح قاصر والأحكام العملية أكثر الناس يقولون إنها تعلم بالعقل أيضا وأن العقل قد يعرف الحسن والقبح فتكون الادلة العقلية دالة على الأحكام العملية أيضا ويجوز أن تسمى شرعية لأن الشرع قررها أو وافقها أو دل عليها وأرشد اليها كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبرية كاثبات الرب ووحدانيته وصدق رسله وقدرته على المعاد ان الشرع دل عليها وأرشد اليها وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الاشعري بنى أصول الدين في اللمع ورسالة الثغر على كون الانسان مخلوقا محدثا فلا بد له من محدث لكون هذا الدليل مذكورا في القرآن فيكون شرعيا عقليا لكنه في نفس الامر سلك في ذلك طريقة الجهمية بعينها وهو الاستدلال على حدوث الانسان بأنه مركب من الجواهر الفردة فلم يخل من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فجعل العلم بكون الانسان محدثا وبكون غيره من الأجسام المشهودة محدثا انما يعلم بهذه الطريقة وهو أنه مؤلف من الجواهر الفردة وهي لا تخلو من اجتماع وافتراق وتلك أعراض حادثة وما لم ينفك من الحوادث فهو محدث وهذه الطريقة أصل ضلال هؤلاء فانهم أنكروا المعلوم بالحس والمشاهدة والضرورة العقلية من حدوث المحدثات المشهود حدوثها وادعوا أنه إنما يشهد حدوث أعراض لا حدوث أعيان مع تنازعهم في الأعراض ثم قالوا والأجسام لا تخلوا من الأعراض وهذا صحيح ثم قالوا والأعراض حادثة فاضطربوا هنا ثم قالوا وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وهذا أصل دينهم وهو أصل فاسد مخالف للسمع والعقل كما قد بسط في غير هذا الموضع

والمتفلسفة أشد مخالفة للعقل والسمع منهم لكنهم عرفوا فساد طريقتهم هذه العقلية فاستطالوا عليهم بذلك وسلكوا ما هو أفسد منها كطريقة الإمكان والوجوب كما قد بسط في موضع آخر فلبسوا هذا الباطل بالحق الذي جاء به الرسول وهو الاستدلال بحدوث الانسان وغيره من المحدثات التي يشهد حدوثها فصار في كلامهم حق وباطل من جنس ما أحدثه أهل الكتاب حيث لبسوا الحق بالباطل واحتاجوا في ذلك الى كتمان الحق الذي جاء به الرسول الذي يخالف ما أحدثوه فصاروا يكرهون ظهور ما جاء به الرسول بل يمنعون عن قراءة الاحاديث وسماعها وقراءة كلام السلف وسماعه ومنهم من يكره قراءة القرآن وحفظه والذين لا يقدرون على المنع من ذلك صاروا يقرءون حروفه ولا يعلمون حدود ما انزل الله على رسوله بل إن اشتغلوا بعلومه اشتغلوا بتفسير من يشركهم في بدعتهم ممن يحرفون الكلم كلم الله عن مواضعه والاصل العقلي الحسي الذي به فارقوا العقل والسمع هو حدوث ما يشهد حدوثه مثل حدوث الزرع والثمار وحدوث الانسان وغيره من الحيوان وحدوث السحاب والمطر ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها غير حدوث الاعراض كالحركة والحرارة والبرودة والضوء والظلمة وغير ذلك بل تلك الأعيان التي يسمونها أجساما وجواهر هي حادثة فانه معلوم أن الانسان مخلوق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وأن الثمار تخلق من الاشجار وأن الزرع يخلق من الحب والشجر يخلق من النوى قال تعالى ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكما ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره اذا أثمر وينعه ان في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون فهذا الانسان والشجر والزرع المخلوق من مادة قد خلق منها عين قائمة بنفسها وهم يقولون إنما هي من الجسم القائم بنفسه وهو الجوهر العام في اصطلاحهم الذي يقولون إنه مركب من الجواهر الفردة وهل الذي خلق من المادة هو أعيان أم لم يخلق إلا أعراض قائمة بغيرها وأما الأعيان فهي الجواهر الفردة وتلك منها شيء في هذه الحوادث ولكن أحدث فيها جمع وتفريق فكان خلق الانسان وغيره هو تركيب تلك الجواهر وأحداث هذا التركيب لا أحداث تلك الجواهر وأما حدوث تلك الجواهر فانما يعلم بالاستدلال فيستدل عليه بأن الجواهر التي تركبت منها هذه الأجسام لا تخلو من اجتماع وافتراق والاجتماع والافتراق حادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فهذه طريق هؤلاء الجهمية أهل الكلام المحدث وأما جمهور العقلاء فيقولون بل نحن نعلم حدوث هذه الأعيان القائمة بنفسها لا نقول إنه لم يحدث إلا عرض فان هذا القول يقتضي أن تلك الجواهر التي ركب منها آدم باقية لم يزل في كل آدمي منها شيء وهذا مكابرة فان بدن آدم لا يحتمل هذا كله لا يحتمل أن يكون فيه جواهر بعدد ذريته لا سيما وكل آدمي إنما خلق من مني أبويه وهم يقولون تلك الجواهر التي في مني الابوين باقية بأعيانها في الولد وهم يقولون إن الجواهر لا تفنى بل تنتقل من حال الى حال وكثير منهم يقول إنها مستغنية عن الرب بعد أن خلقها وتحيروا فيما إذا أراد أن يفنيها وكيف يفنيها كما قد ذكر في غير هذا الموضع اذ المقصود هنا التنبيه على أن أصل الاصول معرفة حدوث الشيء من الشيء كحدوث الانسان من المني فهؤلاء ظنوا أنه لا يحدث إلا الأعراض ولهذا لما ذكر أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتبه الكبار والصغار الطرق الدالة على إثبات الصانع لم يذكر طريقا صحيحا وليس في كتبه وكتب أمثاله طريق صحيح لإثبات الصانع بل عدلوا عن الطرق العقلية التي يعلمها العقلاء بفطرتهم وهي التي دلتهم عليها الرسل الى طرق سلكوها مخالفة للشرع والعقل لا سيما من سلك طريقة الوجوب والامكان متابعة لابن سينا كالرازي فان هؤلاء من أفسد الناس استدلالا كما قد ذكرنا طرق عامة النظار في غير هذا الموضع مثل كتاب منع تعارض العقل والنقل وغير ذلك والمقصود هنا أن الرازي ذكر أن ما يستدل به على إثبات الصانع إما حدوث الأجسام وإما حدوث صفاتها وإما إمكانها وإما إمكان صفاتها وذكر في بعض المواضع وإما الأحكام والإتقان لكن الإحكام والإتقان يدل على العلم ابتداء والاستدلال بحدوث الاجسام وإمكانها وإمكان صفاتها طرق فاسدة فان دلالة حدوثها مبنية على امتناع حوادث لا أول لها ودلالة إمكانها مبنية على ما قامت به الصفات يمتنع أن يكون واجبا بنفسه لأنه مركب ودلالة صفاتها مبنية على تماثلها فلا بد لتخصيص بعضها بالصفات من مخصص وهذه كلها طرق باطلة قال وأما الاستدلال بحدوث الصفات فهو الاستدلال بحدوث الأعراض وهذه الطريق أجود ما سلكوه من الطرق مع أنها قاصرة فان مدارها على أنهم لم يعرفوا حدوث شيء من الأعيان وإنما علموا حدوث بعض الصفات وهذا يدل على أنه لا بد لها من محدث قال وهذا لا ينفي كون المحدث جسما بخلاف تلك الطرق وهذه الطريق تدل على أن الأعراض كتركيب الانسان لا بد له من مركب ولا ينفي بها شيء من قدم الأجسام والجواهر بل يجوز أن يكون جميع جواهر الانسان وغيره قديمة أزلية لكن حدثت فيها الأعراض ويجوز أن يكون المحدث للأعراض بعض أجسام العالم فهذه الطريق لا تنفي أن يكون الرب بعض أجسام العالم وتلك باطلة مع أن مضمونها أن الرب لا يتصف بشيء من الصفات فهي لا تدل على صانع وإن دلت على صانع فليس بموجود بل معدوم أو متصف بالوجود والعدم كما قد بسط في غير موضع ولهذا يقول الرازي في آخر مصنفاته لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ولما ذكر الرازي الاستدلال بحدوث الصفات كالحيوان والنبات والمطر ذكر أن هذه طريقة القرآن ولا ريب أن القرآن يذكر فيه الاستدلال بآيات الله كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وهذا مذكور بعد قوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقبل قوله ومن الناس من يتخذ من دونه أندادا يحبونهم كحب الله لكن القرآن لم يذكر أن هذه صفات حادثة وأنه ليس فيها أحداث عين قائمة بنفسها بل القرآن يبين أن في خلق الأعيان القائمة بنفسها آيات ويذكر الآيات في خلق الأعيان والأعراض كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وهي أعيان ثم قال وما أنزل الله من السماء من ماء والماء عين قائمة بنفسها وقوله فأحيا به الأرض بعد موتها هو بما يخلقه فيها من النبات وهو أعيان وكذلك قوله وبث فيها من كل دابة وقوله وتصريف الرياح فالرياح أعيان وتصريفها أعراض وقوله والسحاب المسخر بين السماء والارض والسحاب أعيان لآيات لقوم يعقلون

وقد تقدم أن أصل الاشتباه في هذا أن خلق الشيء من مادة هل هو خلق عين أم إحداث اجتماع وافتراق وأعراض فقط والناس مختلفون في هذا على ثلاثة أقوال

فالقائلون بالجواهر الفردة من أهل الكلام القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر الى حد لا يتميز منها جانب عن جانب يقولون تلك الجواهر باقية تنقلت في الحوادث ولكن تعتقب عليها الأعراض الحادثة والاستدلال بالأعراض على حدوث ما يلزمه من الجواهر ثم الاستدلال بذلك على المحدث غير الاستدلال بحدوث هذه الأعراض على المحدث لها فتلك هي طريقة الجهمية المشهورة وهي التي سلكها الأشعري في كتبه كلها متابعة للمعتزلة ولهذا قيل الأشعرية مخانيت المعتزلة