فالآيات التي هي دلائل النبوة وبراهينها هي آيات من الله وعلامات منه أنه أرسل الرسول وكما أن الآيات التي هي كلامه تتضمن إخباره لعباده وأمره ففيها الإعلام والالزام فكذلك دلائل النبوة هي آيات منه تتضمن إخباره لعباده بأن هذا رسوله وأمره لهم بطاعته ففيها الإعلام والإلزام وكما أن آياته القولية زعم المكذبون أنها ليست كلامه ولا منه بل هي من قول البشر وزعموا أن الرسول افتراها أو من معه أو تعلمها من غيره فكذلك الآيات الفعلية زعم المكذبون أنها ليست آية منه وعلامة ودلالة منه على أن الرسول ورسوله بل مما يفعله الرسول فيكذب وهذه من فعل المخلوقين لكنها عجيبة فهي سحر سحر بها الناس فلم يكن من المكذبين من قال انها من الله ولكن لم يخلقها لنصدقك بها بل خلقها لا لشيء أو خلقها وان كنت كاذبا فإنه قد يخلق مثل هذه على أيدي الكذابين ليضل بها الناس فإن هذا وان كان يقال انه قبيح فانه لا يقبح منه شيء كما أنه لم يكن في المكذبين من قال ان الكلام كلام الله لكنه كذب اذ الكذب وإن كان قبيحا من المخلوق فالخالق لا يقبح منه شيء وهذا لأنه من المعلوم بالفطرة الضرورية لجميع بني آدم ان الله لا يكذب ولا يفعل القبائح فلا يؤيد الكذاب بآيته ليضل بها الناس لكن قالوا ليست آية من الله بل هي سحر من عندك وهم وإن كانوا قد يعلمون أن الله خالق كل شيء ففرق بين ما يفعله البشر ويتوصلون إليه بالاكتساب وبين مالا قدرة لهم على التوصل إليه بسبب من الأسباب وفرق بين ما قد علموا أنه يخلقه لغير تصديق الرسل كالسحر فإنه لم يزل معروفا في بني آدم فقد علموا انه لا يخلقه آية وعلامة لنبي اذ كان موجودا لغير الانبياء معتادا منهم وإن كان عجيبا خارجا عن العادة عند من لم يعرفه بل كان المكذبون يطالبون الرسل بالآيات كقول فرعون فات بآية ان كنت من الصادقين وقول قوم صالح له إنما أنت من المسحرين ما أنت الا بشر مثلنا فأت بآية ان كنت من الصادقين وكانت الانبياء تأتي بالآيات وهي آيات بينات فيكذبون بها كما يكذب المعاند بالحق الظاهر المعلوم كما قال فرعون إنه ساحر ولما غلب السحرة وآمنوا واعترفوا بأن هذه آية من الله قال لهم فرعون إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها وهذا كذب ظاهر فإن موسى جاء من السام ولم يجتمع بالسحرة إنما فرعون جمعهم ولم يكن دين موسى دين السحرة ولا مقصودة مقصودهم بل هم وهو في غاية التعادي والتباين وكذلك سائر السحرة والكهنة مع الانبياء من أعظم الناس ذما لهم وأمرا بقتلهم مع تصديق الانبياء بعضهم ببعض وايجاب بعضهم الايمان ببعض وهم يأمرون بقتل من يكذب نبيا ويأمرون بقتل السحرة ومن آمن بهم والسحرة يذم بعضهم بعضا والانبياء يصدق بعضهم بعضا وهؤلاء يأمرون بعبادة الله وحده والصدق والعدل ويتبرءون من الشرك وأهله وهؤلاء يحبون أهل الشرك ويوالونهم ويبغضون أهل التوحيد والعدل فهذان جنسان متعاديان كتعادي الملائكة والشياطين كما قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغي اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون فمن جعل النبي ساحرا أو مجنونا هو بمنزلة من جعل الساحر أو المجنون نبيا وهذا من أعظم الفرية والتسوية بين الاضداد المختلفة وهو شر من قول من يجعل العاقل مجنونا والمجنون عاقلا أو يجعل الجاهل عالما والعالم جاهلا فإن الفرق بين النبي وبين الساحر والمجنون أعظم من الفرق بين العاقل والمجنون والعالم والجاهل وموسى صلوات الله عليه أمر بتصديق من يأتي بعده من الانبياء الصادقين كما أمر بتكذيب الكذابين وأما السحرة فإنه أمر بقتلهم وفي التوراة سأقيم لبني اسرائيل من إخوتهم نبيا مثلك اجعل كلامي على فمه كلكم يسمعون وهذا يقتضي طاعة من يقوم بعده من الانبياء ثم من الناس من يعين هذا فاليهود يقولون هو يوشع والنصارى يقولون هو المسيح وبعض المسلمين يقولون هو محمد يحتجون على ذلك بحجج كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع ومنهم من يقول بل هذا اسم جنس وهو عام في كل نبي يأتي بعده لئلا يكذبوه كما فعلت اليهود وانكروا النسخ وهذا القول أقرب فيدخل في هذا المسيح ومحمد ومن قبلهما من أنبياء بني اسرائيل فان المقصود أمرهم بتصديق الانبياء وطاعتهم وأن الله سبحانه ينزل على الانبياء كلامه فالذي يقولونه هو كلام الله ما سمعوا منه وبسط هذا له موضع آخر وقد بسط القول في أن الناس يعلمون بالضرورة أن الآيات التي يأتي بها الانبياء آيات من الله وعلامة أعلم بها عباده أنه أرسلهم وأمرهم بطاعتهم والذين كذبوا بها كانوا يقولون ليست من الله بل هي سحر أو كهانة أو نحو ذلك لا يقرون بأنها آية من الله ويقولون مع ذلك قد يخلقها الله لغير التصديق أو يخلقها ليضل بها الخلق أو نحو ذلك فإن بسط هذه الامور له موضع آخر والمقصود هنا أن الرسول بين للناس الادلة والبراهين الدالة على أصول الدين كلها كما قد ذكر سبحانه هذا في مواضع كقوله ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله وقوله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ومن ذلك قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقد وصف الرسول بذلك في مواضع فذكر هذا في البقرة في دعوة ابراهيم وفي قوله تعالى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة وفي قوله واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به وهنا لم يذكر يتلو عليهم آياته ويزكيهم لحكمة تختص بذلك وذكر هذا في آل عمران في قوله لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وقد قال واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وهذا شبه الموضع الثالث في البقرة فأخبر في غير موضع عن الرسول أنه يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فالتلاوة والتزكية عامة لجميع المؤمنين فتلاوة الآيات يحصل بها العلم فإن الآيات هي العلامات والدلالات فاذا سمعوها دلتهم على المطلوب من تصديق الرسول فيما أخبر والإقرار بوجوب طاعته وأما التزكية فهي تحصل بطاعته فيما يأمرهم به من عبادة الله وحده وطاعته فالتزكية تكون بطاعة مرة كما أن تلاوة آياته يحصل بها العلم وسميت آيات القرآن آيات وقيل انها آيات الله كقوله تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق لأنها علامات ودلالات على الله وعلى ما أراد فهي تدل على ما أخبر به وعلى ما أمر به ونهى عنه وتدل أيضا على أن الرسول صادق اذ كانت مما لا يستطيع الانس والجن أن يأتوا بمثلها وقد تحداهم بذلك كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وأيضا فهي نفسها فيها من بينات الادلة والبراهين ما يبين الحق فهي آيات من وجوه متعددة ثم قال ويعلمهم الكتاب والحكمة وهذا لمن يعلم ذلك منهم وقد يتعلم الشخص منهم بعض الكتاب والحكمة فالكتاب هو الكلام المنزل الذي يكتب والحكمة هي السنة وهي معرفة الدين والعمل به وقد قال تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ففرق بين الآيات الدالة على العلم التي يعلم بالعقل انها دلائل للرب وبين النذر وهو الإخبار عن المخوف كاخبار الانبياء بما يستحقه العصاة من العذاب فهذا يعلم بالخبر والنذر ولهذا قال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وأما الآيات فتعلم دلالتها بالعقل والانبياء جاءوا بالآيات والنذر وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وقال تعالى فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ومثل هذا كثير يذكر أن جميع الانبياء جاءوا بالآيات التي تعلم دلالتها بالعقل ولما كان كثير من الناس مقصرين فيما جاء به الرسول قد أخرجوا ما تعلم دلالته بالعقل عن مسمى الشرع تنازع الناس في معرفة الله وتوحيده وأصول الدين هل يجب ويحصل بالشرع أو يجب بالشرع ويحصل بالعقل أو يجب ويحصل بالعقل على ثلاثة أقوال مشهورة لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة فطائفة يقولون يجب بالشرع ويحصل به وهو قول السالمية وغيرهم مثل الشيخ أبي الفرج المقدسي وهذا هو الذي حكاه عن أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم وكذلك من شابههم مثل ابن درباس وابن شكر وغيرهما من أصحاب الشافعي وهو المشهور عن أهل الحديث والفقه الذين يذمون الكلام وهذا مما وقع فيه النزاع بين صدقة بن الحسين الحنبلي المتكلم وبين طائفة من أصحاب أحمد وكذلك بين أبي الفرج بن الجوزي وطائفة منهم أولئك يقولون الوجوب والحصول بالشرع وهؤلاء يقولون الحصول بالعقل والوجوب بالشرع

وقد ذكر الآمدي ثلاثة اقوال في طرق العلم قيل بالعقل فقط والسمع لا يحصل به كقول الرازي وقيل بالسمع فقط وهو الكتاب والسنة وقيل بكل منهما ورجح هذا وهو الصحيح والقول الثاني أنها لا تجب إلا بالشرع لكن يحصل بالعقل وهو قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم والقول الثالث أنها تحصل بالعقل وتجب به وهو قول من يوجب بالعقل كالمعتزلة والكرامية وغيرهم من أتباع الأئمة كأبي الحسن الآمدي وأبي الخطاب وغيرهم وهو قول طائفة من المالكية والشافعية وعليه أكثر الحنفية ونقلوه عن أبي حنيفة نفسه وقد صرح هؤلاء قبل المعتزلة وقبل أبي بكر الرازي وأبي الخطاب وغيرهم أن من لم يأته رسول يستحق العقوبة في الآخرة لمخالفته موجب العقل وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أعدل الأقوال أن الأفعال مشتملة على أوصاف تقتضي حسنها ووجوبها وتقتضي قبحها وتحريمها وأن ذلك قد يعلم بالعقل لكن الله لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولم يفرق سبحانه بين نوع ونوع وذكرنا أن هذه الآية يحتج بها الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وهم يجوزون أن الله يعذب في الآخرة بلا ذنب حتى قالوا يعذب أطفال الآخرة فاحتجوا بها على المعتزلة والآية حجة على الطائفتين كما قد بسط في غير هذا الموضع

فصل عدل

وقد ذكر الله تعالى في القرآن الحجة على من أنكر قدرته وعلى من أنكر حكمته فأول ما أنزل الله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فذكر أنه الأكرم وهو أبلغ من الكريم وهو المحسن غاية الاحسان ومن كرمه أنه علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم فعلمه العلوم بقلبه والتعبير عنها بلسانه وأن يكتب ذلك بالقلم فذكر التعليم بالقلم يتناول علم العبارة والنطق وعبارة المعاني والعلوم فإذا كان قد علمه هذه العلوم فكيف يمتنع عليه أن يعلمه ما يأمره به وما يخبره به وبيان ذلك أنه قال في أول السورة اقرأ باسم بك الذي خلق خلق الانسان من علق ومعلوم أن من رأى العلقة قطعة من دم فقيل له هذه العلقة يصير منها انسان بعلم كذا وكذا لكان يتعجب من هذا غاية التعجب وينكره أعظم الانكار ومعلوم أن نقل الانسان من كونه علقة إلى أن يصير انسانا عالما قادرا كاتبا أعظم من جعل مثل هذا الانسان يعلم ما أمر الله به وما أخبر به فمن قدر على أن ينقله من الصغر إلى أن يجعله عالما قارئا كاتبا كان أن يقدر على جعله عالما بما أمر به وبما أخبر به أولى وأحرى وهذا كما استدل على قدرته على اعادة الخلق بقدرته على الابتداء وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم تعجبوا من التوحيد ومن النبوة ومن المعاد فقال تعالى والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا أن هذا لشيء عجاب فذكر تعجبهم من التوحيد والنبوة وقال تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم وهذا أيضا تعجب من أن أرسل اليهم رجل منهم وقوله أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس دل على أنه منذر لجنس الناس وأنه من جنس الناس لا يختص به العرب دون غيرهم وان كان أول ما أرسل اليهم وبلسانهم وقال تعالى ق والقران المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد وقال تعالى وان تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون فالرسول كان يعجب من تكذيبهم لما جاءهم به من آيات الانبياء وهم يعجبون مما جاء به لكونه خارجا عما اعتادوه من النظائر فإنهم لم يعرفوا قبل مجيئه لا توحيدا ولا نبوة ولا معادا قال قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون وأما حكمته في إرسال بشر فقد ذكر أنه من جنسهم وأنه بلسانهم فهو أتم في الحكمة والرحمة وذكر أنهم لا يمكنهم الأخذ عن الملك وأنه لو نزل ملكا لكان يجعله في صورة بشر ليأخذوا عنه ولهذا لم يكن البشر يرون الملائكة إلا في صورة الآدميين كما كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي وكما أتى مرة في صورة أعرابي ولما جاءوا ابراهيم وامرأته حاضرة كانوا في صورة بشر وبشروها باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وأما قدرته على تعريف الخلق بأنه نبيه فكما تقدم فإنه إذا كان قادرا على أن يهدي الانسان الذي كان علقة ومضغة إلى أنواع العلوم بأنواع من الطرق انعاما عليه وفي ذلك من بيان قدرته وحكمته ورحمته ما فيه فكيف لا يقدر أن يعرفه صدق من أرسله اليه وهذا أعظم النعم عليه والاحسان اليه والتعريف بهذا دون تعريف الانسان ما عرفه به من أنواع العلوم فإنه إذا كان هداهم إلى ان يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله اليه بشر مثله بعلامات يأتي بها الرسول وان كان لم تتقدم مواطأة وموافقة بين المرسل والمرسل اليهم فمن هدى عباده إلى أن يرسلوا رسولا بعلامة ويعلم المرسل إليه أنها علامة تدل على صدقه قطعا فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولا ويجعل معه علامات يعرف بها عباده أنه قد أرسله وهذا كمن جعل غيره قديرا عليما حكيما فهو أولى أن يكون قديرا عليما حكيما فمن جعل الناس يعلمون صدق رسول يرسله بعض خلقه بعلامات يعلم بها المرسل صدق رسوله فمن هدى العباد الى هذا فهو أقدر على أن يعلمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم بينهم وبينه مواطأة

وللناس طرق في دلالة المعجزة على صدق الرسول طريق الحكمة وطريق القدرة وطريق العلم والضرورة وطريق سنته وعادته التي بها يعرف أيضا ما يفعل وهو جنس المواطأة وطريق العدل وطريق الرحمة وكلها طرق صحيحة وكلما كان الناس إلى الشيء أحوج كان الرب به أجود وكذلك كلما كانوا إلى بعض العلم أحوج كان به أجود فإنه سبحانه الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم وهو الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فكيف لا يقدر أن يهدي عباده إلى أن يعلمون أن هذا رسوله وأن ما جاء به من الآيات آية من الله وهي شهادة من الله له بصدقه وكيف تقتضي حكمته أن يسوي بين الصادق والكاذب فيؤيد الكاذب من آيات الصدق بمثل ما يؤيد به الصادق حتى لا يعرف هذا من هذا وأن يرسل رسولا يأمر الخلق بالايمان به وطاعته ولا يجعل لهم طريقا إلى معرفة صدقه وهذا كتكليفهم بما لا يقدرون عليه ومالا يقدرون على أن يعلموه وهذا ممتنع في صفة الرب وهو منزه عنه سبحانه فإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد علم من سنته وعادته أنه لا يؤيد الكذاب بمثل ما أيد به الصادق قط بل لا بد أن يفضحه ولا ينصره بل لا بد أن يهلكه وإذا نصر ملكا ظالما مسلطا فهو لم يدع النبوة ولا كذب عليه بل هو ظالم سلطه على ظالم كما قال تعالى وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بخلاف من قال انه أرسله فهذا لا يؤيده تأييدا مستمرا الا مع الصدق لكنه قد يمهله مدة ثم يهلكه كما فعل بمن كذب الرسل أنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ولفظ النبي كلفظ الرسول هو في الأصل إنما قيل مضافا الى الله فيقال رسول الله ثم عرف باللام فكانت اللام تعاقب الإضافة كقوله فارسلنا الى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول وقوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منهم لو اذا وكذلك اسم النبي يقال نبي الله كما قال فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ان كنتم مؤمنين وقيل لهم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فتقولون يا محمد بل قولوا يا نبي الله يا رسول الله ورسول فعول بمعنى مفعول أي مرسل فرسول الله الذي أرسله الله فكذلك نبي الله هو بمعنى مفعول أي منبأ الله الذي نبأه الله وهذا أجود من أن يقال انه بمعنى فاعل أي منبئ فانه إذا نبأه الله فهو نبي الله سواء أنبأ بذلك غيره أو لم ينبئه فالذي صار به النبي نبيا أن ينبئه الله وهذا مما يبين ما امتاز به عن غيره فإنه إذا كان الذي ينبئه الله كما أن الرسول هو الذي يرسله الله فما نبأ الله حق وصدق ليس فيه كذب لا خطأ ولا عمدا وما يوحيه الشيطان هو من إيحائه ليس من إنباء الله فالذي اصطفاه الله لانبائه وجعله نبيا له كالذي اصطفاه لرسالته وجعله رسولا له فكما أن رسول الله لا يكون رسولا لغيره فلا يقبل أمر غير الله فكذلك نبي الله لا يكون نبيا لغر الله فلا يقبل أنباء أحد إلا أنباء الله واذا أخبر بما أنبأ الله وجب الايمان به فإنه صادق مصدوق ليس في شيء مما أنبأه الله به شيء من وحي الشيطان وهذا بخلاف غير النبي فإنه وإن كان قد يلهم ويحدث ويوحى اليه أشياء من الله ويكون حقا فقد يلقي اليه الشيطان أشياء ويشتبه هذا بهذا فإنه ليس نبيا لله كما أن الذي يأمر بطاعة الله غير الرسول وإن كان أكثر ما يأمر به هو طاعة الله فقد يغلط ويأمر بغير طاعة الله بخلاف الرسول المبلغ عن الله فإنه لا يأمر الا بطاعة الله قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله فنبي الله هو الذي ينبئه الله لا غيره ولهذا أوجب الله الايمان بما أوتيه النبيون فقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم والآخر والملائكة والكتاب والنبيين وليس كل ما أوحي اليه الوحي العام يكون نبيا فإنه قد يوحي الى غير الناس قال تعالى وأوحى ربك الى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون وقال تعالى وأوحي في كل سماء أمرها وقال تعالى عن يوسف وهو صغير فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا اليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وقال تعالى وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه وقال تعالى وإذ أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي وقوله وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا يتناول وحي الانبياء وغيرهم كالمحدثين الملهمين كما في الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان في الامم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد فعمر منهم وقال عبادة بن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه فهؤلاء المحدثون الملهمون المخاطبون يوحى اليهم هذا الحديث الذي هو لهم خطاب وإلهام وليسوا بأنبياء معصومين مصدقين في كل ما يقع لهم فإنه قد يوسوس لهم الشيطان بأشياء لا تكون من ايحاء الرب بل من ايحاء الشيطان وإنما يحصل الفرقان بما جاءت به الانبياء فهم الذين يفرقون بين وحي الرحمن ووحي الشيطان فإن الشياطين أعداؤهم وهم يوحون بخلاف وحي الانبياء قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقال تعالى وان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم وان اطعتموهم انكم لمشركون وقد غلط في النبوة طوائف غير الذين كذبوا بها إما ظاهرا وباطنا وإما باطنا كالمنافق المحض بل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الى الرسول وإلى من قبله وهم خلق كثير فيهم شعبة نفاق وان لم يكونوا مكذبين للرسول من كل وجه بل قد يعظمونه بقلوبهم ويعتقدون وجوب طاعته في أمور دون أمور وأبعد هؤلاء عن النبوة المتفلسفة والباطنية والملاحدة فإن هؤلاء لم يعرفوا النبوة الا من جهة القدر المشترك بين بني آدم وهو المنام وليس في كلام أرسطو وأتباعه كلام في النبوة والفارابي جعلها من جنس المنامات فقط ولهذا يفضل هو وأمثاله الفيلسوف على النبي وابن سينا عظمها أكثر من ذلك فجعل للنبي ثلاث خصائص أحدها أن ينال العلم بلا تعلم ويسميها القوة القدسية وهي القوة الحدسية عنده والثاني أن يتخيل في نفسه ما يعلمه فيرى في نفسه صورا نورانية ويسمع في نفسه أصواتا كما يرى النائم في نومه صورا تكلمه ويسمع كلامهم وذلك موجود في نفسه لا في الخارج فهكذا عند هؤلاء جميع ما يختص به النبي مما يراه ويسمعه دون الحاضرين انما يراه في نفسه ويسمعه في نفسه وكذلك الممرور عندهم والثالث أن يكون له قوة يتصرف بها في هيولي العالم باحداث أمور غريبة وهي عندهم آيات الانبياء وعندهم ليس في العالم حادث الا عن قوة نفسانية أو ملكية أو طبعية كالنفس الفلكية والانسانية والأشكال الفلكية والطبائع التي للعناصر الاربعة والمولدات لا يقرون بأن فوق الفلك نفسه شيء يفعل ويحدث شيئا فلا يتكلم ولا يتحرك بوجه من الوجوه لا ملك ولا غير ملك فضلا عن رب العالم والعقول التي يثبتونها عندهم ليس فيها تحول من حال الى حال البتة لا بارادة ولا قول ولا عمل ولا غير ذلك وكذلك المبدأ الاول وهؤلاء عندهم جميع ما يحصل في نفوس الانبياء إنما هو من فيض العقل الفعال ثم انهم لما سمعوا كلام الانبياء أرادوا الجمع بينه وبين أقوالهم فصاروا يأخذون ألفاظ الانبياء فيضعونها على معانيهم ويسمون تلك المعاني الالفاظ المنقولة عن الانبياء ثم يتكلمون ويصفون الكتب بتلك الالفاظ المأخوذة عن الانبياء فيظن من لم يعرف مراد الانبياء ومرادهم أنهم عنوا بها ما عنته الانبياء وضل بذلك طوائف وهذا موجود في كلام ابن سينا ومن أخذ عنه وقد ذكر الغزالي ذلك عنهم تعريفا بمذهبهم وربما حذر عنه ووقع في كلامه طائفة من هذا في الكتب المضنون بها على غير أهلها وفي غير ذلك حتى في كتابه الاحياء يقول الملك والملكوت والجبروت ومقصوده الجسم والنفس والعقل الذي أثبتته الفلاسفة ويذكر اللوح المحفوظ ومراده به النفس الفلكية الى غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهو في التهافت وغيره يكفرهم وفي المضنون به يذكر ما هو حقيقة مذهبهم حتى يذكر في النبوات عين ما قالوه وكذلك في الإلهيات وهذه الصفات الثلاث التي جعلوها خاصة الانبياء توجد لعموم الناس بل توجد لكثير من الكفار من المشركين وأهل الكتاب فإنه قد يكون لاحدهم من العلم والعبادة ما يتميز به على غيره من الكفار ويحصل له بذلك حدس وفراسة يكون أفضل من غيره وأما التخييل في نفسه فهذا حاصل لجميع الناس الذين يرون في مناماتهم ما يرون لكن هو يقول أن خاصة النبي أن يحصل له في اليقظة ما حصل لغيره في المنام وهذا موجود لكثير من الناس قد يحصل له في اليقظة ما يحصل لغيره في المنام ويكفيك أنهم جعلوا مثل هذا يحصل للممرور وللساحر ولكن قالوا الساحر قصده فاسد والممرور ناقص العقل فجعلوا ما يحصل للانبياء من جنس ما يحصل للمجانين والسحرة وهذا قول الكفار في الانبياء كما قال تعالى وكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وهؤلاء عندهم ما يحصل للنبي من المكاشفة والخطاب هو من جنس ما يحصل للساحر والمجنون لكن الفرق بينه وبين الساحر أنه يأمر بالخير وذاك يأمر بالشر والمجنون ماله عقل وهذا القدر الذي فرقوا به موجود في عامة الناس فلم يكن عندهم للانبياء مزية على السحرة والمجانين الا ما يشاركهم فيه عموم المؤمنين وكذلك ما أثبتوه من القوة الفعالة المتصرفة هي عندهم تحصل للساحر وغيره وذلك أنهم لا يعرفون الجن والشياطين وقد أخبروا بأمور عجيبة في العالم فأحالوا ذلك على قوة نفس الانسان فما يأتي به الانبياء من الآيات والسحرة والكهان وما يخبر به المصروع والممرور هو عندهم كله من قوة نفس الانسان فالخبر بالغيب هو لاتصالها بالنفس الفلكية ويسمونها اللوح المحفوظ والتصرف هو بالقوة النفسانية وهذا حذق ابن سينا وتصرفه لما أخبر بأمور في العالم غريبة لم يمكنه التكذيب بها فاراد اخراجها على أصولهم وصرح بذلك في إشارته وقال هذه الامور لم نثبتها ابتداء بل لما تحققنا أن في العالم أمورا من هذا الجنس أردنا أن نبين أسبابها وأما أرسطو وأتباعه فلم يعرفوا هذه الامور الغريبة ولم يتكلموا عليها ولا على آيات الانبياء ولكن كان السحر موجودا فيهم وهؤلاء من أبعد الامم عن العلوم الكلية والالهية فان حدوث هذه الغرائب من الجن واقترانهم بالسحرة والكهان مما قد عرفة عامة الامم وذكروه في كتبهم غير العرب مثل الهند والترك وغيرهم من المشركين وعباد الاصنام وأصحاب الطلاسم والعزائم وعرفوا أن كثيرا من هذه الخوارق هو من الجن والشياطين وهؤلاء الجهال لم يعرفوا ذلك ولهذا كان من اصلهم أن النبوة مكتسبة وكان السهروردي المقتول يطلب أن يكون نبيا وكذلك ابن سبعين وغيره والنبوة الحق هي إنباء الله لعبده ونبي الله من كان الله هو الذي ينبئه ووحيه من الله وهؤلاء وحيهم من الشياطين فهم من جنس المتنبئين الكذابين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بل أولئك أحذق منهم فإنهم كانت تأتيهم أرواح فتكلمهم وتخبرهم بأمور غائبة وهي موجودة في الخارج لا في أنفسهم وهؤلاء لا يعرفون مثل هذا ووجود الجن والشياطين في الخارج وسماع كلامهم أكثر من أن يمكن سطر عشره هنا وكذلك صرعهم للانس وتكلمهم على ألسنتهم والفرق بين النبي والساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار والنبي يأتيه ملك كريم من عند الله ينبئه عن الله والساحر والكاهن انما معه شيطان يأمره ويخبره قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فلا الخبر كالخبر ولا الامر كالامر ولا مخبر هذا كمخبر هذا ولا آمر هذا كآمر هذا كما أنه ليس هذا مثل هذا ولهذا قال تعالى لما ذكر الذي جاء بالقرآن الى محمد وأنه ملك منفصل ليس خيالا في نفسه كما يقوله هؤلاء قال تعالى انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فاين تذهبون ان هو الا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فالقرآن قول رسول أرسله الله لم يرسله الشيطان وهو ملك كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فهو مطاع عند ذي العرش في الملأ الأعلى والشياطين لا يطاعون في السماوات بل ولا يصعدون اليها وابليس من حين أهبط منها لم يصعد اليها ولهذا كان أصح القولين أن جنة آدم جنة التكليف لم تكن في السماء فإن إبليس دخل الى جنة التكليف جنة آدم بعد إهباطه من السماء وقول الله له فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي الى يوم الدين وقوله قال فاخرج منها مذموما مدحورا لكن كانت في مكان عال في الارض من ناحية المشرق ثم لما أكل من الشجرة أهبط منها الى الأرض كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع ولفظ الجنة في غير موضع من القرآن يراد به بستان في الارض كقوله انا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة وقوله واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب الى قوله كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا الى قوله ودخل جنته وهو ظالم لنفسه وقوله تعالى ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية الى قوله أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب الآية وقوله تعالى لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال الى قوله وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل وقوله كم تركوا من جنات وعيون الآية وقوله أتتركون فيما ههنا آمنين في جنات وعيون وجنة الجزاء والثواب التي في السماء لم يدخلها الشيطان بعد أن أهبط من السماء وهو أهبط من السماء لما امتنع من السجود لآدم قبل أن يدخل آدم الى جنة التكليف التي وسوس له وأخرجه منها وجنة الجزاء مخلوقة أيضا وقد أنكر بعض أهل البدع أن تكون مخلوقة وقال ان آدم لم يدخلها لكونها لم تخلق بعد فأنكر ذلك من أنكره من علماء السنة وقد ذكر أبو العالية وغيره من السلف أن الشجرة التي نهي عنها آدم كان لها غائط فلما أكل احتاج الى الغائط وجنة الجزاء ليس فيها هذا لكن الله أعلم بصحة هذا النقل وإنما المقصود أن بعض السلف كان يقول إنها في السماء وبعضهم يقول إنها في مكان عال من الارض ولفظ الجنة في القرآن قد ذكر فيما شاء الله من المواضع وأريد به جنة في الارض وجنة الجزاء مخصوصة بمماتهم كقوله قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فإن أرواح المؤمنين تدخل الجنة من حين الموت كما في هذه الآية قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين قال تعالى وما أنزلنا على قومه بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فاذا هم خامدون وقال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال تعالى لما ذكر أحوال الموتى عند الموت فأما ان كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما ان كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم وهذا غير ما ذكره في أول السورة من انقسامهم يوم القيامة الكبرى الى سابقين وأصحاب يمين ومكذبين فانه سبحانه ذكر في أول السورة انقسامهم يوم القيامة الكبرى وذكر في آخرها انقسامهم عند الموت وهو القيامة الصغرى كما قال المغيرة بن شعبة من مات فقد قامت قيامته وكذلك قال علقمة وسعيد بن جبير عن ميت أما هذا فقد قامت قيامته أي صار الى الجنة أو النار وإن كان بعد هذا تعاد الروح الى البدن ويقعد بقبره ومقصودهم أن الشخص لا يستبطئ الثواب والعقاب فهو اذا مات يكون في الجنة أو في النار قال تعالى عن قوم نوح مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا وقال عن آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم القيامة تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون اشد العذاب وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا الكلام على النبوة فهؤلاء المتفلسفة ما قدروا النبوة حق قدرها وقد ضل بهم طوائف من المتصوفة المدعين للتحقيق وغيرهم وابن عربي وابن سبعين ضلوا بهم فانهم اعتقدوا مذهبهم وتصوفوا عليه ولهذا يقول ابن عربي ان الاولياء أفضل من الانبياء وسائر الاولياء يأخذون عن خاتم الانبياء علم التوحيد وإنه هو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به الى الرسول فإن الملك عنده هو الخيال الذي في النفس وهو جبريل عندهم وذلك الخيال تابع للعقل فالنبي عندهم يأخذ عن هذا الخيال ما يسمعه من الصوت في نفسه ولهذا يقولون أن موسى كلم من سماء عقله والصوت الذي سمعه كان في نفسه لا في الخارج ويدعي أحدهم أنه أفضل من موسى وكما ادعى ابن عربي أنه أفضل من محمد فانه يأخذ عن العقل الذي يأخذ منه الخيال والخيال عنده هو الملك الذي يأخذ منه النبي فلهذا قال فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به الى النبي قال فإن عرفت هذا فقد حصل لك العلم النافع وبسط الكلام على هؤلاء له مواضع أخر والمقصود هنا الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك الى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله اليه فهو رسول وأما اذا كان انما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو الى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا اذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته وقوله من رسول ولا نبي فذكر ارسالا يعم النوعين وقد خص أحدهما بأنه رسول فان هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته الى من خالف الله كنوح وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث الى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيت وإدريس وقبلهما آدم كان نبيا مكلما قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام فأولئك الانبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول وكذلك أنبياء بني اسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحى الى أحدهم وحي خاص في قصة معينة ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن كما فهم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود فالانبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره وبنهيه وخبره وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله به من الخبر والامر والنهي فإن أرسلوا الى كفار يدعونهم الى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ولا بد أن يكذب الرسل قوم قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون وقال ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك فان الرسل ترسل الى مخالفين فيكذبهم بعضهم وقال وما أرسلنا من قبلم إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى اذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين وقال انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد فقوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي دليل على أن النبي مرسل ولا يسمى رسولا عند الاطلاق لانه لم يرسل الى قوم بما لا يعرفونه بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعلم ولهذا قال النبي العلماء ورثة الانبياء وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة فان يوسف كان رسولا وكان على ملة ابراهيم وداود وسليمان كانا رسولين وكانا على شريعة التوراة قال تعالى عن مؤمن آل فرعون ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى اذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا وقال تعالى انا أوحينا اليك كما أوحينا الى نوح والنبيين من بعده وأوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما والإرسال اسم عام يتناول إرسال الملائكة وإرسال الرياح وإرسال الشياطين وإرسال النار قال تعالى يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس وقال تعالى جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهنا جعل الملائكة كلهم رسلا والملك في اللغة هو حامل الألوكة وهي الرسالة وقد قال في موضع آخر الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فهؤلاء الذين يرسلهم بالوحي كما قال وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء وقال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وقال تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين توزهم أزا لكن الرسول المضاف الى الله اذا قيل رسول الله فهم من يأتي برسالة الله من الملائكة والبشر كما قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وقالت الملائكة يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا اليك وأما عموم الملائكة والرياح والجن فإن إرسالها لتفعل فعلا لا لتبلغ رسالة قال تعالى اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا فرسل الله الذين يبلغون عن الله أمره ونهيه هم رسل الله عند الاطلاق وأما من أرسله الله ليفعل فعلا بمشيئة الله وقدرته فهذا عام يتناول كل الخلق كما أنهم كلهم يفعلون بمشيئته وإذنه المتضمن لمشيئته لكن أهل الايمان يفعلون بأمره ما يحبه ويرضاه ويعبدونه وحده ويطيعون رسله والشياطين يفعلون بأهوائهم وهم عاصون لامره متبعون لما يسخطه وان كانوا يفعلون بمشيئته وقدرته وهذا كلفظ البعث يتناول البعث الشرعي كما قال هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم ويتناول البعث العام الكوني كقوله فاذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقال تعالى واذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب فالعام بحكم مشيئته وقدرته والخاص هو أيضا بحكم مشيئته وقدرته وهو مع ذلك بحكم أمره ورضاه ومحبته وصاحب الخاص من أولياء الله يكرمه ويثبته وأما من خالف أمره فإنه يستحق العقوبة ولو كان فاعلا بحكم المشيئة فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئا ولا يحتج بالمشيئة على المعاصي الا من تكون حجته داحضة ويكون متناقضا متبعا لهواه ليس عنده علم بما هو عليه كالمشركين الذين قالوا ولو شاء الله ما أشركنا ولا آبانا ولا حرمنا من شيء كما قد بسط في غير هذا الموضع والله أعلم

فصل عدل

الدليل الذي هو الآية والبرهان يجب طرده كما تقدم فإنه لو كان تارة يتحقق مع وجود المدلول عليه وتارة يتحقق مع عدمه فإذا تحقق لم يعلم هل وجد المدلول أم لا فإنه كما يوجد مع وجوده يوجد مع عدمه ولهذا كان الدليل إما مساويا للمدلول عليه وإما أخص منه لا يكون أعم من المدلول ولهذا لم يكن للأمور المعتادة دلالة على ما هو أخص كطلوع الشمس والقمر والكواكب لا يدل على صدق أحد ولا كذبه لا مدعي النبوة ولا غيره فإنها توجد مع كذب الكاذب كما توجد مع صدق الصادق لكن يدل على ما هو أعم منها وهو وجود الرب وقدرته ومشيئته وحكمته فان وجود ذاته وصفاته ثابت سواء كانت هذه المخلوقات موجودة أو لم تكن فيلزم من وجود المخلوق وجود خالقه ولا يلزم من عدمه عدم خالقه فلهذا كانت المخلوقات كلها آيات للرب فما من مخلوق إلا وهو آية له هو دليل وبرهان وعلامة على ذاته وصفاته ووحدانيته وإذا عدم كان غيره من المخلوقات يدل على ما دل عليه ويجتمع على المعلوم الواحد من الادلة ما لا يحصيه الا الله وقد يكون الشيء مستلزما لدليل معين فإذا عدم عرف انتفاؤه وهذا مما يكون لازما ملزوما فتكون الملازمة من الطرفين فيكون كل منهما دليلا وإذا قدر انتفاؤه كان دليلا على انتفاء الآخر كالادلة على الاحكام الشرعية فما من حكم إلا جعل الله عليه دليلا وإذا قدر انتفاء جميع الأدلة الشرعية على حكم علم أنه ليس حكما شرعيا وكذلك ما تتوفر الههم والدواعي على نقله فإنه اذا نقل دل التواتر على وجوده وإذا لم ينقل مع توفر الهمم والدواعي على نقله لو كان موجودا علم أنه لم يوجد كالأمور الظاهرة التي يشترك فيها الناس مثل موت ملك وتبدل ملك بملك وبناء مدينة ظاهرة وحدوث حادث عظيم في المسجد أو البلد فمثل هذه الامور لا بد أن ينقلها الناس اذا وقعت فإذا لم تنقل نقلا عاما بل نقلها واحد علم أنه قد كذب وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وقد بسط في غير هذا الموضع الفرق بين الآية التي هي علامة تدل على نفس المعلوم وبين القياس الشمولي الذي لا يدل الا على قدر كلي مشترك لا يدل على شيء معين اذ كان لا بد فيه من قضية كلية وأن ذلك القياس لا يفيد العلم بأعيان الأمور الموجودة ولا يفيد معرفة شيء لا الخالق ولا نبي من أنبيائه ولا نحو ذلك بل اذا قيل كل محدث فلا بد له من محدث دل على محدث مطلق لا يدل على عينه بخلاف آيات الله فانها تدل على عينه وبينا أن القرآن ذكر الاستدلال بآيات الله وقد يستدل بالقياس الشمولي والتمثيلي لكن دلالة الآيات أكمل وأتم وتبين غلط من عظم دلالة القياس الشمولي المنطقي وأنهم من أبعد الناس عن العلم والبيان وذكرنا أيضا غلط من فضل الشمولي على التمثيلي وأنهما من جنس واحد والتمثيلي أنفع وإنما الآيات تكون أحسن وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي ما ذكره أبو بكر بن الأنباري وغيره في الآيات آيات القرآن مثل قوله قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين ثلاثة اقوال قال في معنى الآية ثلاثة أقوال أحدها أنها العلامة فمعنى آية علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها قال الشاعر ... ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما ...

وقال النابغة ... توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع ...

قال وهذا اختيار أبي عبيد قلت أما أن الآية هي العلامة في اللغة فهذا صحيح وما استشهد به من الشعر يشهد لذلك وأما تسمية الآية من القرآن آية لأنها علامة صحيح لكن قول القائل إنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها ليس بطائل فإن هذا المعنى الحد والفصل فالآية مفصولة عما قبلها وعما بعدها وليس معنى كونها آية هو هذا وكيف وآخر الآيات آية مثل آخر سورة الناس وكذلك آخر آية من السورة وليس بعدها شيء وأول الآيات آية وليس قبلها شيء مثل أول آية من القرآن ومن السورة وإذا قرئت الآية وحدها كانت آية وليس معها غيرها وقد قام النبي بآية يرددها حتى أصبح ان تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فهي آية في نفسها لا لكونها منقطعة مما قبلها وما بعدها وأيضا فكونه علامة على هذا الانقطاع قدر مشترك بين جميع الاشياء التي يتميز بعضها عن بعض ولا تسمى آيات والسورة متميزة عما قبلها وما بعدها وهي آيات كثيرة وأيضا فالكلام الذي قبلها منقطع وما قبلها آية فليست دلالة الثانية على الانقطاع بأولى من دلالة الأولى عليه وأيضا فكيف يكون كونها آية علامة للتمييز بينها وبين غيرها والله سماها آياته فقال تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق والصواب أنها آية من آيات الله أي علامة من علاماته ودلالة من أدلة الله وبيان من بيانه فان كل آية قد بين فيها من أمره وخبره ما هي دليل عليه وعلامة عليه فهي آية من آياته وهي أيضا دالة على كلام الله المباين لكلام المخلوقين فهي دلالة على الله سبحانه وعلى ما أرسل بها رسوله ولما كانت كل آية مفصولة بمقاطع الآي التي يختم بها كل آية صارت كل جملة مفصولة بمقاطع الآي آية ولهذا كان النبي يقف على رءوس الآي كما نعتت قراءته الحمد لله رب العالمين ويقف الرحمن الرحيم ويقف مالك يوم الدين ويقف ويسمى أصحاب الوقف وقف السنة لأن كل آية لها فصل ومقطع تتميز به عن الاخرى قال والوجه الثاني أنها سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه قال أبو عمر الشيباني يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم وأنشدوا ... خرجنا من النقبين لاحي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا ...

قلت هذا فيه نظر فإن قولهم خرج القوم بآيتهم قد يراد به بالعلامة التي تجمعهم مثل الراية واللواء فإن العادة أن كل قوم لهم أمير تكون له آية يعرفون بها فاذا أخرج الامير آيتهم اجتمعوا اليه ولهذا سمى ذلك علما والعلم هي العلامة والآية ويسمى راية لانه يرى فخروجهم بآيتهم أي بالعلم والآية التي تجمعهم فيستدل به على خروجهم جميعهم فإن الامير المطاع اذا خرج لم يتخلف أحد بخلاف ما اذا خرج بعض أمرائه وإلا فلفظ الآية هي العلامة وهذا معلوم بالاضطرار من اللغة والاشتراك في اللفظ لا يثبت بأمر محتمل قال والثالث أنها سميت آية لانها عجب وذلك أن قارئها يستدل اذا قرأها على مباينتها لكلام المخلوقين وهذا كما يقول فلان آية من الآيات أي عجب من العجائب ذكره ابن الأنباري قلت هذا القول هو داخل في معنى كونها آية من آيات الله فإن آيات الله كلها عجيبة فإنها خارجة عن قدرة البشر وعما قد يشبه بها من مقدور البشر والقرآن كله عجب تعجبت به الجن كما حكى عنهم تعالى انهم قالوا انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فإنه كلام خارج عن المعهود من الكلام وهو كما في الحديث لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد وكل آية لله خرجت عن المعتاد فهي عجب كما قال تعالى أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا فالآيات العلامات والدلالة ومنها مألوف معتاد ومنها خارج عن المألوف المعتاد وآيات القرآن من هذا الباب فالقرآن عجب لا لأن مسمى الآية هو مسمى العجب بل مسمى الآية أعم ولهذا قال كانوا من آياتنا عجبا ولكن لفظ الآية قد يخص في العرف بما يحدثه الله وإنها غير المعتاد دائما كما قال النبي ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وانهما لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده وقد قال تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات الا تخويفا وفي الحديث الصحيح لما دخلت أسماء على عائشة وهي في الصلاة فسألتها فقالت سبحان الله فقالت آية فأشارت أي نعم وتسمى صلاة الكسوف صلاة الآيات وهي مشروعة في أحد القولين في مذهب أحمد في جميع الآيات التي يحصل بها التخويف كانتثار الكواكب والظلمة الشديدة وتصلى للزلزلة نص عليه كما جاء الأثر بذلك فهذه الآيات أخص من مطلق الآيات وقد قال تعالى وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين وقال ثلاث آيات يتعلمهن خير له من ثلاث خلفات سمان

فصل عدل

والدليل الذي هو الآية والعلامة ينقسم إلى ما يدل بنفسه وإلى ما يدل بدلالة الدال به فيكون الدليل في الحقيقة هو الدال به الذي قصد أن يدل به وقد جعل ذلك علامة وآية ودليلا والذي يدل بنفسه يعلم أنه يدل بنفسه وان لم يعلم أن أحدا جعله دليلا وان كان في نفس الأمر كل مخلوق قد جعله الله آية ودلالة وهو سبحانه عليم مريد فلا يمكن أن يقال لم يرد بالمخلوقات أن تكون أدلة له ولا أنها ليست دليلا يجعلها أدلة كما قد يطلقه طائفة من النظار ولكن يستدل بها مع عدم النظر في كونها جعلت أدلة كما قد يطلقه اذ كان فيها مقاصد كثيرة غير الدلالة والذي جعلها دليلا وهو الله جعل ذاتها يستدل بها مع قطع النظر عن كونها هي دليلا فما من مخلوق إلا ويمكن الاستدلال به على الخالق والمحدث نفسه يعلم بصريح العقل أن له محدثا وهذه الأدلة التي تدل بنفسها قد تسمى الأدلة العقلية ويسمى النوع الآخر الادلة الوضعية لكونها انما دلت بوضع واضع والتحقيق أن كلاهما عقلي إذا نظر فيه العقل علم مدلوله لكن هذه تدل بنفسها وتلك تدل بقصد الدال بها فيعلم بها قصده وقصده هو الدال بها كالكلام فإنه يدل بقصد المتكلم به وارادته وهو يدل على مراده وهو يدلنا بالكلام على ما أراد ثم يستدل بارادته على لوازمها فإن اللازم أبدا مدلول عليه بملزومه والآيات التي تدل بنفسها مجردة نوعان منها ما هو ملزوم مدلول عليه بذاته لا يمكن وجود ذاته دون وجود لازمه المدلول عليه مثل دلالة المخلوقات على الخالق ومنها ما هو مستلزم له مدة طويلة أو قصيرة فتدل عليه تلك المدة مثل نجوم السماوات فإنه يستدل بها على الجهات والامكنة وعلى غيرها من النجوم وعلى الزمان ماضيه وغابره ما دام العالم على هذه الصورة قال تعالى وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالتجم هم يهتدون وقال تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ثم قال وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ثم قال وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا الى قوله ان في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون وقوله وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات هي علامات ألقاها في الأرض وهذا قول الأكثرين قالت طائفة هي معالم الطرق يستدل بها بالنهار ويستدل بالنجم بالليل وقالت طائفة هي الجبال وهي أيضا مما يستدل به ولهذا سماها الله أعلاما في قوله وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان أي كالجبال والأعلام جمع علم والعلم ما يعلم به كالعلامة ومنه أعلام الطرق المنصوبة ومنه يقال لدلائل النبوة أعلام النبوة ويقال للراية المرفوعة انها علم وإنها جعلت علامة لصاحبها وأتباعه والعالم بالفتح مثل الخاتم ما يعلم به كما أن الخاتم ما يختم به وهو بمعنى العالم ويسمى كل صنف من المخلوقات عالما لأنه علم وبرهان على الخالق تعالى بخلاف العالم بالكسر فانه الذي يعلم كالخاتم بالكسر فإنه الذي يختم قال تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين لأنه ختمهم كما يسمى الماحي والحاشر والعاقب وقد قرئ وخاتم أي ختموا به فالجبال أعلام وهي علامات لمن في البر والبحر يستدل بها على ما يقاربها من الأمكنة فانه يلزم من وجودها وجوده وهي لا تزال دالة ما دامت موجودة ومدلولها موجودا وهي أثبت من غيرها فقد يكون عندها قرية وسكان فيكون علما عليهم ثم قد تخرب القرية ويذهب السكان فتزول الدلالة لزوال الملزوم وهذا كله مما يبين أن الدليل قد يكون معينا بل الآيات كلها معينة وأن يكون مطابقا ملازما لمدلوله ليس أحدهما أعم من الآخر كالثريا مع الدبران وكالجدي مع بنات نعش ونحو ذلك فتبين غلط من ذكر أنه يحصر الادلة فيقال إما أن يستدل بالعام على الخاص أو بالخاص على العام أو بأحد الخاصين على الآخر والأول هو القياس الشمولي والثاني هو الاستقراء والثالث هو التمثيل وقد بينا ما في هذا الكلام من الغلط في حصره وفي حكم أقسامه فإن هؤلاء المقسمون للأمور العامة كثيرا ما يغلطون في هذا وهذا إذ كان المقسم يجب أن يستوفي جميع الأقسام ولا يدخل فيها ما ليس منها كالحاد وهم يغلطون فيها كثيرا لعدم إحاطتهم بأقسام المقسوم كما يقسمون أقسام الموجودات أو أقسام مدارك العلم أو أقسام العلوم أو غير ذلك وليس معهم دليل على الحصر الا عدم العلم وحصر الأقسام في المقسوم هو من الاستقراء ثم إذا حكموا على تلك الأقسام بأحكام فقد يغلطون أيضا كما قد ذكر هذا في غير هذا الموضع مثل غلط من حصر الأدلة في هذه الأنواع من أهل المنطق ومن تبعهم وقد بسط هذا في مواضع وذلك مثل قولهم الدليل إما أن يستدل بالعام على الخاص أو بالخاص على العام أو بأحد الخاصين على الآخر فان الدليل أولا لا يكون قط أعم من المدلول عليه إما مساويا له وإما أخص منه فإن الدليل ملزوم للمدلول عليه والملزوم حيث تحقق تحقق اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فحيث تحقق الدليل تحقق المدلول عليه فإذا كان مساويا له أو أخص كان حيث تحقق المدلول كما أنه حيث تحقق ما هو ناطق النطق الذي يختص الانسان تحقق الانسان وتحقق أيضا ما هو أعم من الانسان وهو ثبوت حيوان وجسم حساس تام متحرك بالارادة بمعنى أنه تحقق مطلق هذا الجنس وإلا فلم يوجد شيء أعم من الانسان بمجرد وجوده لكن وجد من صفاته ما يشبه به غيره ويصح اطلاقه عليه وعلى غيره وهو مسمى الجسم والحيوان ونحو ذلك وكذلك إذا وجد آية أو خبر يدل على الايجاب أو التحريم لزم ثبوت الايجاب أو التحريم وقد ثبت الايجاب والتحريم بآية أخرى أو خبر آخر فلهذا قيل الدليل يجب طرده ولا يجب عكسه وإذا كان الدليل لا يكون أعم من المدلول عليه فقولهم إما أن يستدل بالعام على الخاص إنما أرادوا به القياس الشمولي الذي هو مقدمتان صغرى وكبرى كقولنا النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام أو كل مسكر خمر كما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي أنه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام بين أن المسكر موصوف بأنه خمر وبأنه حرام ولم يقصد القياس الشمولي وهو أن يستدل على أن المسكر حرام فالرسول أجل من هذا شرعا وعقلا فإنه بكلامه تثبت الاحكام وغيره إذا قال كل مسكر خمر أو حرام احتاج أن يستدل عليه وأما هو فيستدل بنفس كلامه والنظم الشمولي المنطقي لا يوجد في كلام فصيح بل هو طويل لا يحتاج اليه كما قد بسط في مواضع وبين أن الدليل قد يكون مقدمة واحدة وقد يكون مقدمتين وقد يكون ثلاث مقدمات وأربعا وأكثر بحسب ما يحتاج اليه المستدل الطالب لدلالة نفسه أو الطالب ليدل غيره فإنه قد لا يحتاج الا الى مقدمة واحدة مثل من عرف أن الخمر حرام لكن لم يعرف أن كل مسكر هو خمر فإذا عرف بالنص أن كل مسكر خمر عرف أن مسكر حرام وكان علمه موقوفا على مقدمة واحدة بخلاف من لم يكن عرف بعد أن الخمر حرام فيحتاج الى مقدمة ثانية ثم ان كان عرف أن محمدا رسول الله بنصوصه المتواترة كفاه ذلك وإن كان لم يقر بنبوته احتاج الى مقدمة ثالثة وهو الايمان بأنه رسول الله لا يقول على الله الا الحق ويذكر له من دلائل النبوة وأعلامها ما يعرف به ذلك فيهتدي أن كان طالب علم وتقوم عليه الحجة ان لم يكن كذلك فقول هؤلاء في مثل هذا انا استدللنا بالعام على الخاص لبس عظيم فإن المدلول عليه وهو تحريم النبيذ المتنازع فيه مثلا وان كان أخص من تحريم المسكر والخمر فالدليل ليس هو القضية العامة بل الدليل أن النبيذ المتنازع فيه مسكر وهو احدى المقدمتين وهذه قضية خاصة أخص من مسمى المسكر فإن المسكر يتناول المتفق على تحريمه والمتنازع فيه وهذا هو الحد الاوسط وهو المتكرر في المقدمتين الذي هو محمول في الصغرى موضوع في الكبرى فالاستدلال وقع بإسكاره على أنه خمر ومحرم ومسكر النبيذ المتنازع فيه أخص من مسمى المسكر والخمر والمقدمة الثانية الكبرى وهي قولنا وكل مسكر خمر ليست هي الدليل بل لا بد من الصغرى معها وهي خاصة فالمدلول عليه ان كان تحريم النبيذ المتنازع فيه فهذا انما يدل على تحريمه أنه مسكر وليس اسكاره أعم منه بل يلزم من ثبوت اسكاره ثبوته فان ثبوت الموصوف بدون الصفة ممتنع فاسكاره دل على تحريمه وليس تحريمه أعم من اسكاره بل جنس الاسكار والحرام أعم من هذا المسكر فهذا المحرم لكن هذا العام ليس هو الدليل بدون الخاص بل قوله كل مسكر حرام يدل على تحريم كل مسكر مطلقا من غير تعيين فيكون الإسكار مستلزما للتحريم والمسكر أخص من الحرام وهذا إستدلال بالخاص على العام فوجود المسكر أخص من وجود الحرام حيث كان مسكر كان الحرام موجودا وليس اذا كان الحرام موجودا يجب وجود المسكر لان المحرمات كثيرة كالدم والميتة ولحم الخنزير فالحد الأوسط وهو المسكر دل على ثبوت الاعم وهو التحريم من الأخص في الاخص وهو النبيذ المتنازع فيه فالمدلول عليه التحريم وهو أعم من المسكر فهو استدلال بالخاص على العام لكن المعنى العام الكلي لا يوجد في الخارج عاما كليا بل معينا فهو استدلال على نوع من أنواعه وهو التحريم الثابت في النبيذ المتنازع فيه وهذا أخص من مطلق التحريم كما أن مسكره أخص من مطلق المسكر ومن هنا ظنوا أنهم استدلوا بالعام على الخاص حيث استدلوا بتحريم كل مسكر على تحريم هذا المسكر وليس الامر كذلك بل الذي دل على تحريم هذا المسكر ليس هو مجرد القضية العامة الكليةبل لا بد معها من قضية أخص منها جزئية مثل قولنا هذا النبيذ مسكر وبهذا الخاص يعلم ثبوت ذلك لا بمجرد العام والدليل هنا ليس هو أعم من المدلول عليه ولا يمكن ذلك قط وأما قولهم ان الاستدلال بالخاص على العام هو الاستقراء فمجرد الخاص ان لم يستلزم العام لا يدل عليه والمستقرئ ان لم يحصر الافراد لا يعلم أن ذلك المعنى شامل لها فما استدل بخاص على عام بل بعام مثله مطابق له وقولهم في قياس التمثيل انه استدلال بخاص على خاص ليس كذلك فان مجرد ثبوت الحكم في صورة لا يستلزم ثبوته في أخرى ان لم يكن بينهما قدر مشترك ولا يثبت بذلك حتى يقوم دليل على أن ذلك المشترك مستلزم للحكم والمشترك هو الذي يسمى في قياس التمثيل الجامع والوصف والعلة والمناط ونحو ذلك فإن لم يقم دليل على أن الحكم متعلق به لازم له لم يصح الاستدلال وهذا المشترك في قياس التمثيل هو الحد الاوسط في قياس الشمول بعينه فالمعنى في القياسين واحد ولكن التأليف والنظم متنوع اذا أراد أن يثبت تحريم النبيذ بقياس الشمول قال هذا هو حرام لأنه شراب مسكر فيكون حراما قياسا على المسكر من العنب فالدليل هو المسكر وهو المشترك وهو الحد الاوسط ثم لا يكفي ذلك حتى يبين أن العلة في الاصل هي المشترك فيقول وعصير العنب حرم لكونه مسكرا وهذا الوصف موجود في الفرع الذي هو صورة النزاع فيجب اشتراكهما في التحريم وقوله انه حرام لكونه مسكرا هي المقدمة الكبرى في قياس الشمول وهي قولنا كل مسكر حرام فثبت أن علة التحريم هي السكر إما بالنص وهو قوله كل مسكر حرام وإما بدلالة القرآن وهو أنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وإما بالمناسبة وإما بالدوران وإما بالسبر والتقسيم كما قد عرف في موضعه وهو نظير ما يستدل به على ثبوت القضية الكبرى ثم الدليل قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا لخصوص المادة لا تعلق لذلك بصورة القياس فمن جعل قياس الشمول هو القطعي دون قياس التمثيل فقط غلط كما أن من جعل مسمى القياس هو التمثيل دون الشمول فلم يفهم معناه والذي عليه جمهور العلماء أن كلا منهما قياس قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا وطائفة يقولون اسم القياس لا يستعمل الا في الشمول كما يقوله ابن حزم ومن يقوله من المنطقيين وطائفة يقولون لا يستعمل حقيقة إلا في التمثيل ومن هؤلاء من يقول ليس في العقليات قياس وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا التنبيه على جنس الادلة وأيضا فالدليل قد يكون مطابقا للمدلول عليه ملازما له ليس أعم منه كالكواكب التي في السماء المتلازمة التي يستدل بكل منها على الآخر وكالناطقية والانسانية التي يستدل بثبوت كل منهما على ثبوت الآخر وهذا خارج عن تقسيمهم فان هذا ليس استدلالا بعام على خاص ولا بخاص على عام ولا بخاص على نظيره بطريق التمثيل بل هو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر قد يكونان عامين وخاصين فالكواكب خاصة والعام كالاستدلال بالحيوانية على الحس والحركة الا أنه استدلال بعام على عام ملازم له وكذلك الاستدلال بكونه جسما على وجود جنس العرض والاستدلال بوجود جنس العرض على وجود جنس الجسم هو استدلال بأحد العامين المتلازمين على الآخر والمقصود هنا أن هذه المعينات كالنجوم والجبال والطرق كلها آيات وأعلام وعلامات على ما هو لازم لها في العادة وكذلك قد يستدل على منزل الشخص بما هو ملازم من دور الجيران والباب وغير ذلك وشجرة هناك وغير ذلك من العلامات التي يذكرها الناس يستدلون بها ويدلون غيرهم بها وسميت الجبال أعلاما لأنها مرتفعة عالية والعالي يظهر ويعلم ويعرف قبل الشيء المنخفض ولهذا يوصف العالي بالظهور كقوله فما استطاعوا أن يظهروه ويقال ظهر الخطيب على المنبر ومنه قوله النبي في الحديث الصحيح وأنت الظاهر فليس فوقك شيء فأدخل معنى العلو في اسمه الظاهر لأن الظاهر يعلو والعالي يظهر وكذلك العالي يعرف قبل غيره ومنه قيل عرف الديك أصله فعل بمعنى مفعول أي معروف كما يقال كره بمعنى مكروهه ومنه الأعراف وهي أمكنة عالية بين الجنة والنار وقد قيل في قوله وعلامات وبالنجم أن العلامات هي النجوم منها ما يكون علامة لا يهتدى به ومنها ما يهتدى به وقول الأكثرين أصح فإن العلامات كلها يهتدى بها ولأنه قال وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وهذا كله مما ألقاه في الأرض وهو منصوب بألقى أو بفعل من جنسه كما قال بعضهم أي وجعل في الأرض أنهارا لأن الألقاء من جنس الجعل وبسط ما في هذا من إعراب ومعان له مقام آخر والمقصود هنا ذكر العلامات والعلامات يدخل فيها ما تقدم من الرواسي والسبل فإن كونها رواسي وسبلا يسلكها الناس غير كونها علامات والعطف قد يكون لتغاير الصفات مع اتحاد الذات كقوله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى وأمثاله فكيف اذا كانت العلامات تتناول هذا وغيره فإن الجبال أعلام وهي علامات وكذلك الطرق يستدل بها السالك فيها ولهذا يسمى الطريق إماما لأن السالك يأتم به وكذلك يسمون ما يستدل به المستدل طريقا ومسلكا ويقال لاصحاب هذا القول عدة طرق ومسالك حتى أطلقوا على ما يصنف من الاحتجاج على مسائل النزاع طريقة لأنه فيه أدلة المصنف على موارد النزاع ومن هذا الباب الاستدلال على المرض بعلامات له والاستدلال بالاصوات فان كانت كلاما كانت الدلالة قصدية إرادية قصد المتكلم أن يدل بها وهي دلالة وضعية عقلية وان كانت غير كلام كانت الدلالة عقلية طبعية كما يستدل بالاصوات التي هي بكاء وانتحاب وضحك وقهقهة ونحنحة وتنخم ونحو ذلك على أحوال المصوت ومن الدلائل الشعائر مثل شعائر الاسلام الظاهرة التي تدل على أن الدار دار الاسلام كالأذان والجمع والأعياد وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وان لم يسمع أذانا أغار بعدما يصبح هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم كان يغير اذا طلع الفجر وكان يستمع الاذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول الله اكبر فقال رسول الله على الفطرة ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال خرجت من النار وعن عصام المزني قال كان النبي اذا بعث السرية يقول اذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مناديا فلا تقتلوا أحدا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ومن هذا النوع دلائل الجهات ومنه دلائل القبلة يستدل عليها بالنجوم والشمس والقمر والرياح والطرق وغير ذلك من الدلائل كما قد ذكر الناس ما ذكروه من دلائل القبلة