الشرف


لو فهم الناس معنى الشرف لأصبحوا كلهم شرفاء.

ما من عاملٍ يعمل في هذه الحياة إلا وهو يطلب في عمله الشرف الذي يتصوره أو يُصوِّرُهُ له الناس، إلا أنه تارةً يخطئ مكانه وتارةً يصيبه.

يقتل القاتل وفي اعتقاده أنَّ الشرف في أن ينتقم لنفسه أو عِرضه بإراقة هذه الكمية من الدم، ولا يبالي أن يسميه القانون بعد ذلك مجرمًا؛ لأن البيئة التي يعيش فيها لا توافق على هذه التسمية، وهي في نظره أعدل من القانون حُكْمًا وأصدق قولًا.

يفسُق الفاسق وفي اعتقاده أنه قد نفَض عن نفسه بعمله هذا غبار الخمول والبَلَه الذي يُظَلِّلُ الأعِفَّاءَ والمستقيمين، وأنه استطاع أن يعمل عملًا لا يقدم عليه إلا كل ذي حذقٍ وبراعةٍ وشجاعةٍ وإقدام.

يسرق السارق ويُزَوِّرُ المزوِّر ويخون الخائن، وفي اعتقاد كلٍّ منهم أنَّ الشرف كلَّ الشرف في المال، وإن كان السبيل إليه دنيئًا وسافلًا، وأنَّ للذهب رنينًا تخفِت بجانب صوته أصوات المعترضين والناقدين شيئًا فشيئًا ثم تنقطع حتى لا يُسْمَعَ بجانبه صوتٌ سواه.

هكذا يتصور الأدنياء أنهم شرفاء، وهكذا يطلبون الشرف ويُخطئون مكانه، وما أفسد عليهم تصورهم إلا الذين أحـاطوا بهم من سُجَرائهم وخلطائهم وذوي جامعتهم، أولئك الذين يحتقرون الموتور حتى يغسل الدم بالدم فيعظمونه، وَيَنْعَوْنَ على الرجل المستقيم العفيف بلاهته وخموله حتى يفجر ويُستهتر فيبخبخون له ويقرِّظونه، ويكرمون صاحب الذهب ولو أنَّ كل دينار من دنانيره محجمٌ من الدم، وأولئك الذين يسمون الفقير سافلًا، وطيَّب القلب مغفلًا، وطاهر السريرة بليدًا، والحليم عاجزًا.

لا تعجب إنْ سمعت أنَّ جماعة الأغنياء الجهلاء تنعكس في أدمغتهم صور الحقائق حتى تلبس في نظرهم ثوبًا غير ثوبها، وتتراءى في لونٍ غير لونها، فإن بين الخاصة الذين نعتد بعقولهم ونمتدح أفهامهم ومداركهم من لا يفرِّق بين الرذيلة والفضيلة، حتى إنه ليكاد يفخر بالأولى ويستحيي من الأخرى.

لولا فساد التصور ما افتخر قائد الجيش بأنه قتل مائة ألفٍ من النفوس البشرية في حربٍ لا يُدافِعُ فيها عن فضيلةٍ ولا يؤيِّد بها حقًّا من الحقوق الشرعية، ولولا فساد التصور ما وضع المؤرخون اسم ذلك السفاح بجانب أسماء العلماء والحكماء والأطباء؛ خَدَمة الإنسانية وَحمَلةِ عرشها وأصحاب الأيادي البيضاء عليها، في سطرٍ واحدٍ من صحيفةٍ واحدة. ولولا فساد التصور ما جلس القاضي المرتشي فوق كرسيِّ القضاء يفتل شاربيه، وَيُصَعِّرُ خدَّيه، وينظر نظرات الاحتقار والازدراء إلى المتهم الواقف بين يديه موقف الضراعة والذل، ولا ذنب له إلا أنه جاع وضاقت به مذاهب العيش فسرق درهمًا، ولا توهَّم — وهو اللص الكبير — أنه أشرف من هذا اللص الصغير، ولو باتا عند قدريهما لوقفا معًا في موقفٍ واحدٍ أمام قاضٍ عادل يحكم بإدانة الأول لأنه سرق مختارًا ليرفه عيشه، وبراءة الثاني لأنه سرق مضطرًّا لينقذ حياته من براثن الموت.

فمن شاء أن يهذب أخلاق الناس ويُقَوِّمَ اعوجاجها فليهذِّب تصوراتهم، وليقوم أفهامهم، يُوافِه ما يريد من التهذيب والتقويم.

ليس من الرأي أن يشير المعلِّمُ على المتعلِّم أن يجعل هذا المجتَمع الإنسانيَّ ميزانًا يزن به أعماله، أو مرآة يرى فيها حسناتِه وسيئاتِه، فالمجتمع الإنسانيُّ مصابٌ بالسقم في فهمه، والاضطراب في تصوره، فلا عبرة بحكمه، ولا ثقة بوزنه وتقديره.

ليس من الرأي أن يرشد المعلِّم المتعلَّم إلى أن يطلب في حياته الشرف الاعتباريَّ، فليس كل ما يعتبره الناس شرفًا هو في الحقيقة كذلك، ألا تراهم يعدُّون أشرف الشرف أن يتناول الرجل من الملك قطعةً من الفضة أو الذهب يحلِّي بها صدره؟ وربما كانوا يعلمون أنه ابتاعها كما تبتاع المرأة من الصائغ حِليتها.

لا شرف إلا الشرفُ الحقيقيُّ، وهو الذي يناله الإنسان ببذل حياته أو ماله أو راحته في خدمة المجتمع البشريِّ جميعه، أو خدمة نوعٍ من أنواعه.

فالعالم شريفٌ؛ لأنه يجلو صدأ العقل الإنساني ويصقل مرآته. والمجاهد في سبيل الدفاع عن وطنه شريفٌ؛ لأنه يحمي مواطنيه غائلةَ الأعداء، ويقيهم عادية الفناء. والمحسن الذي يضع الإحسان في موضعه شريفٌ؛ لأنه يأخذ بأيدي الضعفاء، ويحيي أنفس البؤساء. والحاكم العادل شريف؛ لأنه رسول العناية الإلهية إلى المظلومين، يمنعهم أن يبغي عليهم الظالمون. وصاحب الأخلاق الكريمة شريفٌ؛ لأنه يؤثِّر بكرم أخلاقه وجمال صفاته في عشرائه وخلطائه، ويلقي عليهم بالقدوة الصالحة أفضلَ درسٍ في الأخلاق والآداب. والصانع والزارع والتاجر أشرافٌ متى كانوا أمناء مستقيمين؛ لأنهم هم الذين يحملون على عواتقهم هذا المجتمع البشريَّ، وهم الذين يحتملون ما يحتملون من المئونة والمشقة في سبيله؛ حذرًا عليه من التهافت والسقوط.

فإن رأيت في نفسك أيها القارئ أنك واحدٌ من هؤلاء فاعلم أنك شريف، وإلا فاسلك طريقهم جُهدَك، فإن لم تبلغ غايته فَأَخْذُ القليل خيرٌ من ترك الكثير، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فَلْتَبْكِ على عقلك البواكي.