النظرات/الكأس الأولى
كان لي صديق أحبه وأحب منه سلامة قلبه، وصفاء سريرته، وصدقه ووفاءه في حالي بعده وقربه، وغضبه وحلمه، وسخطه ورضاه، ففرق الدهر بيني وبينه فراق حياةٍ لا فراق ممات، فأنا اليوم أبكيه حيًّا أكثر مما كنت أبكيه لو كان ميتًا، بل أنا لا أبكي إلا حياته، ولا أتمنَّى إلا مماته، فهل سمعت بأعجب من هذه الخلَّة الغريبة في طبائع النفوس؟!
عَلِقَتْ حبالي بحباله حقبة من الزمان عرفته فيها وعرفني، ثم سلك سبيلًا غير سبيله فأنكرته وأنكرني حتى ما أمر بباله؛ لأن الكأس التي عَلِق بها لم تدع في قلبه فراغًا يسع غيرها وغير العالقين بها، وربما كان يدفعني عن مخيلته دفعًا إذا تراءيت فيها؛ لأنه إذا ذكرني ذكر معي تلك الكلمات المرة التي كنت ألقاه بها في فاتحة حياته الجديدة، وما كان له وهو يهيم في فضاء سعادته التي يتخيلها أن يُكَدِّرَ على نفسه بمثل هذه الذكرى صفاء هذا الخيال.
ثم لم أعد أعلم من أمره بعد ذلك شيئًا جديدًا؛ لأن حياة المدمنين حياةٌ متشابهةٌ متماثلة، لا فرق بين صبحها ومسائها، وأمسها وغدها، ذَهابٌ إلى الحانات، فشرابٌ فخُمارٌ، فنوم، فذهاب … كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، والمنظر المتكرر لا يلفت النظر ولا يشغل الذهن، حتى إنَّ بعض من ينام على دورة الرحى يستيقظ عند سكونها، وكان أَحْرَى أنْ يوقظه دورانها.
لذلك لم يشغل هذا المسكين محلًّا من قلبي إلا بعد أن سكنت دورته، وهدأت حركته، فلم أعد أراه معربدًا في الحانات، ولا مُطَّرَحًا في مدارج الطرق، ولا معتقلًا في أيدي الشُّرَط، هنالك سألت عنه فقيل لي إنه مريضٌ، فلم أعجب من شيءٍ كنت أعد له الأيام والأعوام كما يَعُدُّ الفلكي الساعات والدقائق لكسوف الشمس واصطدام الكواكب.
دخلت عليه أعوده فلم أجد عنده طبيبًا ولا عائدًا؛ لأنه فقير، والأطباء يظهرون الرحمة بالفقراء ويبطنون حب الصفراء والبيضاء، والأصدقاء يخافون عدوى المرض وعدوى الفقر؛ فلا يعودون المريض ولا يزورون الفقير.
دخلت منزله فلم أجد المنزل ولا صاحبه؛ لأني لم أجد فيه ذلك الروح العالي الذي كان يرفرف بأجنحته في غرفه وقاعاته، ولم أر دخان المطبخ، ولم أسمع ضوضاء الخدم ولا بكاء الأطفال ولا رنين الأجراس، فكأنني دخلت القبر أزور الميت، لا المنزلَ أعود الحيَّ!
ثم تقدمت نحو سرير المريض فكشفت كِلَّتُه البالية عن خيالٍ لم يبق منه إلا إهابٌ لاصقٌ بعظمٍ ناحل، فقلت: «أيها الخيال الشاخص ببصره إلى السماء، قد كان لي في إهابك هذا صديقٌ محبوبٌ فهل لك أنْ تدلني عليه؟» فبعد لأيٍ ما حرك شفتيه وقال: «هل أسمع صوت فلان؟» قلت: «نعم، ممَّ تشكو؟» فزفر زفرةً كادت تتساقط لها أضلاعه، وأجاب: «أشكو الكأس الأولى.» قلت: «أيَّ كأس تريد؟» قال: «أريد الكأس التي أودعتها مالي وعقلي وصحتي وشرفي، وهأنذا اليوم أودعها حياتي.» قلت: «قد كنت نصحتك ووعظتك وأنذرتك بهذا المصير الذي صرت إليه اليوم، فما أجديت عليك شيئًا.» قال: «ما كنت تعلم حين نصحتني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما كنت أعلم، ولكنني كنت شربت الكأس الأولى فخرج الأمر من يدي، كل كأس شربتها جنتها عليَّ الكأس الأولى، أما هي فلم يجنها عليَّ غيرُ ضعفي وقصور عقلي عن إدراك خداع الأصدقاء والخلطاء.
لم تكن شهوة الشراب مركبةً في الإنسان كبقية الشهوات فيعذر في الانقياد إليها كما يعذر في الانقياد إلى غيرها من الشهوات الغريزية، فلا سلطان لها عليه إلا بعد أن يتناول الكأس الأولى، فلم يتناولها؟ يتناولها لأن الخونة الكاذبين من خلَّانه وعشرائه خدعوه عن نفسه في أمرها، ليستكملوا بانضمامه إليهم لذاتهم التي لا تتم إلا بقراع الكئوس وضوضاء الاجتماع، ولو علمْتَ كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه، وأيُّ ذريعةٍ تذرعوا بها إلى ذلك، لتحققت أنه أبله إلى النهاية من البلاهة، وضعيفٌ إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.
أنا ذلك الأبله وذلك الضعيف، فاسمع كيف خدعني الأصدقاء وزينوا لي ما يزينه الشيطان للإنسان، قالوا: «إنَّ حياتك حياة هموم وأكدار، ولا دواء لهذه الأدواء إلا الشراب.» وقالوا: «إنَّ الشراب يزيد رونق الجسم ويبعث نشاطه، وإنه يفتِّق اللسان، ويعلم الإنسانَ البيان، وإنه يشجع الجبان، ويبعث في القلب الجرأة والإقدام.» هذا ما سمعته فصدقته وخدعت به؛ صدقت أنَّ في الشراب أربع مزايا: السعادة والصحة والفصاحة والإقدام، فوجدت فيه أربع رزايا: الفقر والمرض والسقوط والجنون.
غرَّهم من الصحة ذلك اللون الأحمر الذي يتركه الشراب وراءه في الأعضاء وهو يتغلغل في الأحشاء، ومن الفصاحة الهذر والهذيان، وهُجْرُ القول وبذاءة اللسان، ومن الإقدام العربدة التي لا تسكن إلا في غرفة السجن، ومن السعادة اللحظات القليلة التي يغشَّى فيها على عقل الشارب فيعمى عن رؤية ما يحيط به من الأشياء كما هي، فتنعكس في نظره الحقائق حتى يتخيَّل الشتم طُرْفةً والصفع تحيةً فيضحكه من ذلك ما يُضْحِكُ الأطفالَ والممرورين.
أي سرورٍ لمن يعيش في منزلٍ لا يزور الابتسامُ ثغرًا من ثغور ساكنيه؟! أيُّ سرورٍ لمن يودعه أهله كل يوم في صباحه بالحسرات، ويستقبلونه في مسائه بالزفرات؟! أيُّ سعادة لمن يمشي دائمًا في طريقه متلوِّيًا متمعِّجًا يتسرب في المنعطفات والأزقة، ويعوذ بألواذ الجدر والأسوار فرارًا من نظرات الجزار، وتهكُّمات العطَّار، وصرخات الخمار؟!
ولقد كنت أرى هؤلاء الأشقياء في فاتحة حياتي التعِسة، فكان يمر بخاطري ما يمر بخاطر أمثالي أنهم قتلى الإدمان لا قتلى الشراب، وكنت أقدر لنفسي القصدَ فيه، إنْ قُدِّرَ لي في أمره شيءٌ حتى لا أبلغ مبلغهم ولا أنزل منزلتهم، فلما شربت أخطأ العدُّ وضاع الحساب، وفسد التدبير، واختلف التقدير، وغُلبت على أمري كما يُغلب على أمره كلُّ مخدوعٍ بمثل ما خُدعتُ به، ولولا الكأسُ الأولى ما هلكت ولا شكوت الذي شكوت، ولولاها ما عافني الأصدقاء، ولا زهد فيَّ الأقرباء، فكن أنت وحدَك صديق السراء والضراء.»
فعاهدته على ذلك، ثم تركته في حالةٍ: