النظرات/الكبرياء

الكبرياء

حضرة السيد الفاضل

لي في البلدة التي أسكنها كرامةُ الحاكم؛ لأني أشغل وظيفةً عالية فيها، وقد بدا لي أن أختلف إلى المسجد لصلاة الجمعة، فاختلفتُ حتى فاجأني يومًا من الأيام ما لم يكن في الحسبان.

حدث أنَّ صعلوكًا يعرفني ويعرف مقامي تمادى في وقاحته وسوء أدبه حتى وقف بجانبي في الصلاة، فاشمأزت نفسي من هذا الأمر كل الاشمئزاز، وحاولت أنْ أحتمله فلم أستطِع، وخفت إنْ طردته أنْ يؤاخذني الناس به، فهل تعرف مسوغًا شرعيًّا يفرِّق بين درجات الناس في مواقف الصلوات؟

سائل

يا مولانا الحاكم

رحماك بهذا الصعلوك المفلوك الواقف بجانبك، لا تضنَّ عليه بظلك الظليل أنْ يمتد إليه فيقيه أشعَّة التصعلك الحارة ساعةً من الزمان، ولا تحرمه نفحةً من نفحات السعادة التي تهبُّ عليه من بين أردانك العطرة، علة يجد في تلك اللذة الخيالية ما يهون عليه مصابرة البلاء، ومعاناة الشقاء، وأحسن كما أحسن الله إليك، إنَّ الله يحب المحسنين.

ليُفرخ رُوعك، وليثلج صدرك، واعلم أنَّ هذا الفقير الصعلوك الواقف بجانبك لا يستطيع مهما نال منه العدم وبرَّح به الشقاء أن يقتطع قطعةً من سعادتك، أو يفتلذ فلذةً من شرفك، فسعادتك وشرفك كالمصباح تستنير منه المصابيح، ونوره نوره، وبهاؤه بهاؤه.

لا تظلم الرجل، ولا تقل إنه وَقاح الوجه، أو سيئ الأدب، فإني أعلم بما أعرف من آمال هؤلاء البؤساء وأمانيهم أنه ما وقف بجانبك إلا طمعًا في دورة الفَلَك التي علَتْ بك وأنزلتك منازل العظماء أن تدور به دورتها بك، وأنْ تنزله منزلتك، فاغفرْ له جهلَه وقصورَه، فمثلك من يقيل العثرة ويستر الزلة!

إنك تريد مني أنْ أتلمَّس لك في أبواب الشريعة الإسلامية مسوِّغًا يسوِّغ لك طرد هذا الصعلوك المجترئ عليك من موقفه الذي اختاره لنفسه بجانبك، فاسمع ما أُلقي عليك: إنَّ الذي وقفت بين يديه في مُصلَّاك أجلُّ شأنًا وأعظم خطرًا من أن يحفل بثوبك اللامع، وجبينك الساطع، وردائك المطرز، وقميصك المحبر، وأنْ يعرف لك من الفضل والشرف أكثر ممَّا يعرف لصاحبك، فما كان له أنْ يأمرك أنْ تتقدَّمه، أو يأمره أنْ يقِفَ منك موقف العبد من السيد، والمحكوم من الحاكم.

إنَّ للجمعة والجماعة فضائل كثيرة وحِكمًا جمةً أرادها الشارع منهما، وإنك لن تجد بين هذه الحكم وتلك الفضائل حِكمةً أدق، ولا فضيلةً أَنفَسَ من التواضع الذي يُشعره العظيم قلبه كلما رأى أنه قد وقف من الفقير في ذلك الموطن المقدَّس موقف الأخ من أخيه والنظير من نظيره.

إن كنت تريد يا مولانا الحاكم من الاختلاف إلى المسجد ألا تترك للفقير موطنًا من المواطن يملك فيه الخيار لنفسه في مواقفه ومذاهبه حتى موقفه بين يدي ربه، فخيرٌ لك أن تستصحب معك فريقًا من شُرطتك وأعوانك لتأمرهم في ذلك الفقير بما يرضيك من إقصائه أو طرده أو التنكيل به كلما رأيته تمادى في وقاحته وسوء أدبه، فإن تم لك من ذلك ما أردت، فاحذر أن يخدعك خادعٌ عن نفسك، فيزين لك أن تنطق في موقفك هذا بآية العبودية بعدما نطقت بكلمة الألوهية، حتى لا تجمع على نفسك بين رذيلتين: رذيلة الظلم ورذيلة الرياء.

فإن كنت تريد الصلاة للصلاة فاعلم أنَّ الله لا يقبلها منك، ولا يجزل لك ثوابها حتى تقف بين يديه موقف من ألمَّت بقلبه الخشية، وملكت عليه السكينة سمعه وبصره، فلم يعد يبصر شيئًا مما حوله، ولا يعلم إن كان واقفًا في حضرة الملوك أو في زمرة الصعاليك.

أيها العظماء

ليست العظمة التي تعرفونها لأنفسكم إلا منحةً من منح الفقراء عليكم، وحسنةً من حسناتهم إليكم، فلولا تواضعهم بين أيديكم ما علوتم، ولولا تصاغرهم في حضراتكم ما استكبرتم، فلا تجزوهم بالإحسان سوءًا، ولا تجعلوا الكفر مكان الشكر تستدفعوا النقم وتستديموا النعم.

أيها العظماء

ما هذه القصور التي تسكنونها، ولا هذه النعم التي ترفلون في أثوابها، ولا هذه الحاشية التي تدلون بها إلا ألوانًا وأصباغًا لا علاقة بينها وبين نفوسكم، ولا دخل لها في جوهرٍ من جواهر أفئدتكم وقلوبكم، وما هي إلا أن تشرق عليها شمس الحقيقة فتذهب بها ذهابها بألوان السحاب وأصباغ الثياب، فإذا أنتم عراةٌ مجردون لا تشفع لكم إلا فضائلكم، ولا تنفعكم إلا مواهبكم ومزاياكم.

أيها العظماء

لا عذر لكم في الكبرياء في جميع حالاتكم وشئونكم، فإن كنتم من أرباب الفضائل فَحَريٌّ بالفاضل ألا يشوه وجه فضيلته برذيلة الكبرياء، أوْ لا، فما تحمل الأرض على ظهرها أسمج وجهًا ولا أصلب خدًّا من جهلة المتكبرين، فانظروا أين تنزلون؟ وفي أيِّ مقامٍ تقيمون؟