النظرات/النظامون



النظَّامون


ما لهؤلاء النَّظَّامِينَ لا يهدءون ساعةً واحدةً عن صَدْع رءوسنا وجرح قلوبنا بهذه الصواعق التي يمطرونها علينا كُلَّ يومٍ من سماء الصحف، حتى صرنا كلما فتحنا صحيفةً ورأينا في وسطها جدولًا أبيض مستطيلًا تخيلناه حَيَّةً رقطاء، ففزعنا وألقينا الصحيفة كما ألقاها الشاعر المُتَلَمِّس لينجو بنفسه ويسلم بحياته!

من لي بالقلم العريض الذي يكتب به كُتَّاب الصحف عناوين مقالاتهم في معرض التهويل والتجسيم، فأكتب به إلى هؤلاء المساكين هذه الكلمة الآتية:

«أيها القوم! إنَّ علماء الضاد الذين عرَّفوا الشعر بأنه الكلام الموزون المقفي لم يكونوا شعراء ولا أدباء، ولا يعرفون من الشعر أكثر من إعرابه وبنائه، أو اشتقاقه وتصريفه، وإنما جروا في ذلك التعريف مجرى علماء العروض، الذين لا مناص لهم من أن يقفوا في تعريف الشعر عند هذا القدْر ما دام لا يتعلَّق لهم غرضٌ منه بغير أوزانه وقوافيه، وعلله وزحافاته.

لا تظنوا أنَّ الشعر كما تظنون، وإلا لاستطاع كل قارئٍ، بل كل إنسانٍ، أن يكون شاعرًا؛ لأنه لا يوجد في الناس من يعجزه تصور النغمة الموسيقية والتوقيع عليها من أخصر طريق.

أيها القوم! ما الشعر إلا روحٌ يودعها الله فطرة الإنسان من مبدأ نشأته، ولا تزال كامنةً فيه كمون النار في الزند، حتى إذا شدا فاضت على أسلات أقلامه كما تفيض الكهرباء على أسلاكها، فمن أحسَّ منكم بهذه الروح في نفسه فليعلم أنه شاعر، أو لا، فَلْيَكْفِ نفسه مَئُونَةَ التخطيط والتسطير، وليصرفها إلى معاناة ما يلائم طبعه ويناسب فطرته من أعمال الحياة، فوالله لَلْمِحْراثُ في يد الفلاح والقَدوم في يد النجار والمِسْبر في يد الحدَّاد أشرفُ وأنفع من القلم في يد النَّظَّام.

فإن غُمَّ عليكم الأمرُ وأعجزكم أن تعلموا مكان الروح الشعري من نفوسكم، فاعرضوا أنفسكم على من يرشدكم إليه ويدلكم عليه، حتى تكونوا على بينةٍ من أمركم.»