النظرات/خطبة الحرب

خطبة الحرب

يا أبطال برقة، وليوث طرابلس، وحماة الثغور، وذادة المعاقل والحصون، صبرًا قليلًا في مجال الموت، فها هي ذي نجمة النصر تخفق في آفاق السماء، فاستنيروا بنورها واهتدوا بهديها حتى يفتح الله عليكم.

إنَّ الله وعدكم النصر، ووعدتموه الصبر، فأنجزوا وعدكم ينجز لكم وعده.

لا تحدثوا أنفسكم بالفرار، فوالله إن فررتم لا تفرون إلا عن عِرضٍ لا يجد له حاميًا، ودِينٍ يشكو إلى الله قومًا أضاعوه، وأنصارًا خذلوه.

إنكم لا تحاربون رجالًا أشدَّاءَ بل أشباحًا تتراءى في ظلال الأساطيل، وخيالاتٍ تلوذ بأكناف الأسوار والجدران، فاحملوا عليهم حملةً صادقة تطير بما بقي من ألبابهم، فلا يجدون لبنادقهم كفًّا ولأسيافهم ساعدًا.

إنهم يطلبون الحياة وأنتم تطلبون الموت، ويطلبون القوت وتطلبون الشرف، ويطلبون غنيمةً يملئون بها فراغ بطونهم، وتطلبون جنةً عرضها السموات والأرض، فلا تجزعوا من لقائهم، فالموت لا يكون مر المذاق في أفواه المؤمنين.

إنكم تعتمدون على الله وتثقون بعدله ورحمته، فتقدموا إلى الموت غير شاكين ولا مرتابين، فما كان الله ليخذلكم ويكلكم إلى أنفسكم وأنتم من القوم الصادقين.

إنَّ هذه القطرات من الدماء التي تسيل من أجسامكم ستستحيل إلى شهبٍ ناريةٍ حمراء تهوي فوق رءوس أعدائكم فتحرقهم. وإنَّ هذه الأنات المترددة في صدوركم ليست إلا أنفاس الدعاء صاعدةً إلى إله السماء أن يأخذ لكم بحقكم ويعديكم على عدوكم، والله سميع الدعاء.

إنَّ أعدائكم قتلوا أطفالكم، وبقروا بطون نسائكم، وأخذوا بلحى شيوخكم الأجلاء فساقوهم إلى حفائر الموت سوقًا، فماذا تنتظرون بأنفسكم؟

أجلبوا عليهم بخيلكم ورجلكم، واصدقوا حملتكم عليهم وجعجعوا بهم، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، واطلبوهم بكل سبيلٍ، وتحت كل أرضٍ وفوق كل سماء، وأزعجوهم حتى عن طعامهم وشرابهم، ويقظتهم ومنامهم، فما أعذب الموت في سبيل تنغيص الظالمين!

احفروا لأنفسكم بسيوفكم قبورًا، فالقبر الذي يحفر بالسيف لا يكون حفرةً من حفر النار.

لا تطلبوا المنزلة بين المنزلتين، ولا الواسطة بين الطرفين، ولا العيش الذي هو بالموت أشبه منه بالحياة، بل اطلبوا إما الحياة أبدًا وإما الموت أبدًا.

غدا يخفر أعداؤكم حرمة أرضكم ودياركم، ويملكون عليكم نساءكم وأولادكم، ويطئون بحوافر خيولهم مساجدكم ومعابدكم، وينظمون في ثقوب آنافكم مقاود يقودونكم بها إلى مواقف الذل والهوان كما تقاد الإبل المخشوشة إلى معاطنها، فافتدوا أنفسكم من هذا المصير المهين بجولة تجولونها في سبيل الله ثم تموتون.

موت الجبان في حياته، وحياة الشجاع في موته، فموتوا لتعيشوا، فوالله ما عاش ذليلٌ ولا مات كريم.

إنَّ هذه الأساطيل الرابضة على شواطئكم، والمدافع الفاغرة أفواهها إليكم، والبنادق المسددة إلى صدوركم ونحوركم لا يمكن أن يتألف منها سورٌ منيعٌ يعترض سبيلكم في رحلتكم من هذه الدار إلى تلك الدار، فسيروا في طريقكم إلى آخرتكم؛ فإن الأعداء إن ملكوا عليكم طريق الحياة لا يملكون عليكم طريق الموت.

المستميت لا يموت، والمستقتل لا يقتل، ومن يهلك في الإدبار أكثر ممن يهلك في الإقدام، فإن كنتم لا بد تطلبون الحياة فانتزعوها من بين ماضغي الموت.

إنَّ كُتَّاب التاريخ قد علقوا أقلامهم بين أناملهم، ووضعوا صحائفهم بين أيديهم، وانتظروا ماذا تملون عليهم من حسناتٍ أو سيئات. فأملوا عليهم من أعمالكم ما يترك في نفوسهم مثل ذلك الأثر الذي تجدونه في نفوسكم عندما تقرءون تلك الصحائف البيضاء التي سجلها التاريخ لأولئك الأبطال العظماء.

موتوا اليوم أعزاء قبل أن تموتوا غدًا أذلاء.

موتوا قبل أن تطلبوا الموت فيعوزكم، وتنشدوه فيعجزكم.

موتوا اليوم شهداء في ساحة الحرب تكفنكم ثيابكم، وتغسلكم دماؤكم، وتصلي عليكم ملائكة الرحمن، قبل أن يسبق قضاء الله فيكم، فيموت أحدكم فلا يجد بجانبه مسلمًا يصلي عليه صلاة الجنازة، ثم يرافق نعشه إلى قبره حتى يودعه حفرته، ويخلي بينه وبين ربه.

إنَّ الشيخين أبا بكر وعمر، والفارسين خالدًا وعليًّا، والأسدين حمزة والزبير، والفاتحين سعدًا وأبا عبيدة، والمهاجرين طارق بن زياد وعقبة بن نافع، وجميع حماة الإسلام وذادته السابقين الأولين المجاهدين الصابرين يشرفون عليكم اليوم من علياء السماء لينظروا ماذا تصنعون بميراثهم الذي تركوه في أيديكم، فامضوا لسبيلكم، واهتكوا بأسيافكم حجاب الموت القائم بينكم وبينهم، وقولوا لهم: «إنا بكم لاحقون، وإنا على آثاركم لمهتدون.»

إنَّ هذا اليوم له ما بعده، فلا تسلموا أعناقكم إلى أعدائكم، فإنكم إن فعلتم لن يعبد اللهُ بعد اليوم على ظهر الأرض أبدًا!