بائعة الورد

​بائعة الورد​ المؤلف إيليا أبو ماضي


من الفرنسيس قيد العين صورتها
عذراء قد ملئت أجفانها حورا
كأنّما و هبتها الشّمس صفحتها
وجها و حاكت لها أسلاكها شعرا
يد المنيّة طاحت غبّ مولدها
بأمّها، و أبوها مات منتحرا
في قرية من قرى باريس ما صغرت
عن الفتاة و لكن همّها كبرا
و النّفس تعشق في الأهلين موطنها
و ليس تعشقه يحويهم حفرا
و تعظم الأرض في عينيك محترما
و ليس تعظم في عينيك محتقرا
فغادرتها و ما في نفسها أثر
منها و لا تركت في أهلها أثرا
إلى التي تفتن الدّنيا محاسنها
و حسن من سكنوها يفتن البشرا
إلى التي تجمع الأضداد دارتها
و يحرس الأمن في أرجائها الخطرا
إذا رآها تقيّ ظنّها " عدنا "
و إن رآها شقيّ ظنّها " سقرا "
تودّ شمس الضّحى لو أنّها فلك
و الأفق لو طلعت في أوجه قمرا
و الغرب لو كان عودا في منابرها
و الشّرق لو كان في جدرانها حجرا
في كلّ قلب هوى كأنّ له
في أهلها صاحبا، في أرضها وطرا
(باريس) أعجوبة الدّنيا و جنّتها
وربّة الحسن مطروقا و مبتكرا
حلّت عليها فلم تنكر زخارفها
فطالما أبصرت أشباهها صورا
و لا خلائق أهليها وزيّهم
فطالما قرأت أخلاقهم سيرا
و إنّما أنكرت في الأرض وحدها
كذلك الطّير إما فارق الوكرا
يتيمة مالها أم تلوذ بها
و لا أب إن دعته نحوها حضرا
غريبة يقتفيها البؤس كيف مشت
ما عزّ في أرض " باريس " من افتقرا
مرّت عليها ليال و هي في شغل
عن سالف الهمّ بالهمّ الذي ظهرا
حتّى إذا عضّها ناب الطّوى نفرت
تستنزل الرّزق فيها الفرد و النّفرا
تجني اللّجين الباذلوه لها
من كفّها الرود منظوما و منتثرا
لا تتّقي الله فيه و هو في يدها
و تتّقي فيه فوق الوجنة النّظرا
تغار حتّى من الأرواح سارية
فلو تمرّ قبول أطرقت خفرا
أذالت الورد قانية و أصفره
كيما تصون الذي في خدّها نضرا
حمته عن كلّ طرف فاسق غزل
لو استطاعت حمته الوهم و الفكرا
تضاحك لا زهرا و لا لعبا
و تجحد الفقر لا كبرا و لا أشرا
فإن خلت هاجت الذكرى لواعجها
فاستنفدت طرفها الدمع الذي اذّخرا
تعلّقته فتى كالغصن قامته
حلو اللّسان أغرّ الوجه مزدهرا
وهام فيها تريه الشمس غرّتها
و الفجر مرتصفا في ثغرها دررا
إذا دنا رغبت لا يفارقها
و إن نأى أصبحت تشتاق لو ذكرا
تغالب الوجد فيه و هو مقترب
و تهجر الغمض فيه كلّما هجرا
كانت توقّى الهوى إذ لا يخامرها
فأصبحت تتوقّى في الهوى الحذرا
قد عرّضت نفسها للحبّ واهية
فنال الهوى الجبّار مقتدرا
و الحبّ كاللّص لا يدريك موعده
لكنّه قلّما، كالسّارق، استترا
و ليلة من ليالي الصّيف مقمرة
لا تسأم العين فيها الأنجم الزهرا
تلاقيا فشكاها الوجد فاضطربت
ثمّ استمرّ فباتت كالذي سحرا
شكا فحرّك بالشّكوى عواطفها
كما تحرّك كفّ العازف الوترا
وزاد حتّى تمنّت كلّ جارحة
لو أصبحت مسمعا أو أصبحت بصرا
ران الهيام على الصّبّين فاعتنقا
لا يملكان النّهى وردا و لا صدرا
" كان ما كان ممّا لست أذكره "
تكفي الإشارة أهل الفطنة الخبرا
هامت به و هي لا تدري لشقوتها
بأنّها قد أحبّت أرقما ذكرا
رأته خشفا فأدنته فراء بها
شاة فأنشب فيها نابه نمرا
ما زال يؤمن فيها غير مكترث
بالعاذلين فلمّا آمنت كفرا
جنى عليها الذي تخشى، و قاطعها
كأنّما قد جنت ما ليس مغتفرا
كانت و كان يرى في خدّها صعرا
عنه فباتت ترى في خدّه صعرا
فكلّما استعطفته ازور محتدما
و كلّما ابتسمت في وجهه كشرا
قال النّفار و " فرجيني " على مضض
تجرّع الأنقعين: الصّاب و الصّبرا
قالت، و قد زارها يوما، معرّضة
متى، لعمرك، يجني الغارس الثّمرا؟
كم ذا الصّدود، و لا ذنب جنته يدي
أرجو بك الصّفو لا أرجو بك الكدرا
تركتني لا أذوق الماء من ولهي
كما تركت جفوني لا تذوق كرى
أشفق عليّ و لا تنس وعودك لي
فإنّ ما بي لو بالصّخر لانفطرا
أطالت العتب ترجو أن يرقّ لها
فؤاده فأطال الصّمت مختصرا
و أحرجته لأنّ الهمّ أحرجها
و كلّما أحرجته راغ معتذرا
و ضاق ذرعا بما يخفى لها
إلى م ألزم فيك العيّ و الحصرا
أهواك صاحبة... أمّا اقترانك بي
فليس يخطر في بالي و لا خطرا
أهوى رضاك و لكن إن سعيت له
أغضبت نفسي و الدّيّان و البشرا
عنيت مالي من قلبين في جسدي
و ليس قلبي إلى قسمين منشطرا
تطالبني فؤادي و هو مرتهن
في كفّ غيرك، رمت المطلب العسرا
يكفيك أنّي فيك خنت إمرأتي!
و لم يخن قلبها عهدي و لا خفرا
قد كان طيشا هيامي فيك بل نزفا
و كان حبّك ضعفا بل خورا
قالت متى صرت بعلا؟ قال من أمد
لا أحسب العمر إلاّه و إن قصرا
يا هول ما أبصرت يا هول ما سمعت
كادت تكذّب فيه السّمع و البصرا
لولا بقيّة صبر في جوانبها
طارت له نفسها من وقعة شذرا
يا للخيانة! صاحت و هي هائجة
كما تهيّج ليث بابنه و ترا
الآن أيقنت أنّي كنت واهمة
و أنّ ما كلّ برق يصحب المطرا
و هبت قلبك غيري و هو ملك يدي
ما خفت شرعا و لا باليت مزدجرا
ليست شرائع هذي الأرض عادلة
كان الضّعيف و لا ينفكّ محتقرا
قد كنت أخشى يد الأقدار تصدعنا
و كان أجدر أن أخشاك لا القدرا
و صلتني مثل الشمس الأفق ناصعة
و عفتني مثل جنح اللّيل معتكرا
كما تعاف السّراة الثّوب قد بليت
خيوطه و الرّواة المورد القذرا
خفت الأقاويل بي قد نام قائلها
هلّا خشيت انتقامي و هو قد سهرا
يا سالبي عفّتي من قبل تهجرني
أردد عليّ عفافي واردد الطّهرا
هيهات ما من عفّتي عوض
لاح الرّشاد و بان الغيّ وانحسرا...
و أقبلت نحوه تغلي مراجلها
كأنّها بركان ثار و انفجرا
في صدرها النّار، نار الحقد، مضرمة
لكنّما مقلتاها تقذف الشّررا
و أبصر النّصل تخفيه أناملها
فراح يركض نحو الباب منذعرا
لكنّها عاجلته غير وانية
بطعنة فجّرت في صدره نهرا
فخرّ في الأرض جسما لا حراك به
لكنّ " فرجين " ماتت قبلما احتضرا
جنّت من الرّعب و الأحزان فانتحرت
ما حبّت الموت لكن خافت الوضرا
كانت قبيل الرّدى منسيّة فغدت
بعد الحمام حديث القوم و السّمرا
تتلو الفتاة عظات في حكايتها
كما يطالع فيها النّاشيء العبرا