بحر الدموع/ الفصل الحادي عشر


الفصل الحادي عشر

يا من رواحله في طلب الدنيا لها اسراع، متى تحل عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع؟ اذا طلبت الآخرة، تمشي رويدا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبا كيف تشدّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطاع! العمر أمانة أتلفت شبابه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي ونقول: عمري قد ضاع. متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع؟ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع. كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا من يبقى في القاع. يا من على عمره ليل الغفلة طلع الفجر المشيب بين الأضلاع. رافق رفاق التائبين قبل أن تنقطع مع المنقطعين { وما من غائبة في السماء والأرض الا في كتاب مبين} النمل 75. وأنشدوا:

اذا أنا لم أصبر على من أحبه وان حال عن وصلي فما انا صانع أأتركه والقلب من فرط حبه أسير بما تطوي عليه الأضالع أأسمع فيه العذل والوجد حاكم فما يغنني بالعذل ما أنا سامع أأسلوه والشوق يمنع سلوتي وأكتم ما قد أظهرته المدامع ويعتبني قلبي اذا زاد وجده فأضرب صفحا دونه وأمانع وان زاد بي أشتكيه فحسبه على كل حال عند شكواي شافع فلا عشة تصفو ولا موعد يفي ولا نظر يسلي ولا الصبر نافع أرى الدهر يمضي برهة بعد برهة ولم ألف ما مالت اليه المطامع فان ضقت ذرعا بالذي قد لقيته فكل مضيق فهو في الحب واسع

قال ذا النون المصري رضي الله عنه: رأيت امرأة متعبدة، فلما دنوت منها، ودنت مني، سلمت عليّ، فرددت عليها السلام، فقالت لي: من أين أقبلت؟ فقلت" من عند حكيم لا يوجد مثله، فصاحت صيحة شديدة، ثم قالت: ويحك كيف وجدت معه وحشة الغربة حتى فارقته، وهو أنيس الغرباء، ومعين الضعفاء، ومولى الماولي؟! أم كيف سمحت نفسك بمفارقته؟.

فأبكاني كلامها. فقالت لي: مم بكاؤك؟ فقلت لها: وقع الدواء على الجرح، فأسرع في نجاحه، فقالت لو كنت صادقا، فلم بكيت؟ فقلت لها: فالصادق لا يبكي؟ قالت: لا. قلت: ولم؟ قالت: لأن البكاء راحة للقلب. وهو نقص عند ذوي العقول. قلت لها: علميني شيئا ينفعني الله به.

قالت: اخدم مولاك شوقا الى لقائه، فان له يوما يتجلى فيه الى أوليائه، لأنه سبحانه سقاهم في الدنيا من محبته كأسا لا يظمؤون بعدها أبدا. ثم أقبت تبكي وتقول: الهي وسيدي، الى كم تدعني في دار لا أجد لي فيها أنيسا يساعدني على بلائي، ثم جعلت تقول:

اذا كان داء العبد حب مليكه فمن دونه يرجى طبيبا مداويا

يا أخي، اذا طردك مولاك عن بابه؟ فالى باب من ترجع، والى أي طريق تذهب، والى أي جهة تقصد؟ لازم باب مولاك، فلعل وعسى يثمر عودك. وأنشدوا:

حنين قلوب العارفين الى الذكر وتذكارهم عن المناجاة بالسر وأجسامهم في الأرض سكرى بحبه وأرواحهم في ليل حجب العلى تسرى عباد عليهم رحمة الله أنزلت فظلوا عكوفا في الفيافي وفي القفر وراعوا نجوم الليل لا يرقدونه بادمان تثبيت اليقين مع الصبر فهذا نعيم القوم ان كنت فاهما وتعقل عن مولاك آداب من يدري فما عرسوا لا بقرب حبيبهم ولا عرّجوا عن مسّ بؤس ولا ضرّ أديرت كؤوس للمنايا عليهم فغفوا عن الدنيا كاعفاء ذي سكر همومهم جالت لدى حجب العلى وهم أهل ودّ الله كالأنجم الزهر فلا عيش الا مع أناس قلوبهم تحنّ الى التقوى وترتاح للذكر

ويروى عن بعض العبّاد رضي الله عنه أنه قال: بينما أنا في الطريق أسير، وكنت صائما، فرأيت نهرا جاريا، فانغمست فيه، فاذا أنا بسفرجلة على وجه الماء، فأخذتها لأفطر عليها. قال: فلما أفطرت عليها ندمت، وقلت: أفطرت على ما ليس لي، فلما أصبحت سرت، فضربت على باب البستان الذي كان النهر يخرج منه، فخرج اليّ شيخ كبير، فقلت له: يا شيخ، انه خرج من بستانكم هذا بالأمس سفرجلة، فأخذتها وأكلتها، وقد ندمت على ذلك، فعسى أن تجعلني في حل.

فقال لي: أما أنا في هذا البستان أجير، ولي فيه منذ أربعين سنة ما ذقت من فاكهته شيئا قط، وليس لي في البستان شيء. قلت: لمن هو: قال: لأخوين بالموضع الفلاني. قال: فأتيت الموضع، فوجدت أحدهما، فقصيت عليه القصة، فقال: نصف البستان لي، وأنت حل من نصيبي في الك السفرجلة. فقلت له: وأين أجد أخاك؟ قال: بموضع كذا وكذا. فمضيت اليه، وقصيت عليه القصة، فقال لي: والله لا أجعلك في حل الا بشرط. فقلت: وما الشرط؟ قال: أزوّجك ابنتي وأعطيك مائة دينار. قال له العابد: ويحك أنا في شغل عن هذا. أما رأيت ما أصابني لأجل سفرجلتك؟ فاجعلني حل. فقال له: والله ما فعلت الا بالشرط المذكور.

فلما رأى العابد منه الجد، امتثل، وقال افعل، فأعطاه مائة دينار، ثم قال له: أعطني منها ما شئت مهر ابنتي، فرمى بها كلها اليه، فقال له: لا، الا البعض. قال: فزوّجه ابنته، فلامه الناس على ذلك، وقالوا له: خطب ابنتك أرباب الدولة وكبراء الناس، ولم تعطها لهم، فكيف أعطيتها لفقير لا مال له؟ فقال لهم: يا قوم انما رغبت في الورع والدين، ولأن هذا الرجل من عباد الله الصالحين، رضي الله عنهم أجمعين.