بداية المجتهد - كتاب الزكاة
كتاب الزكاة @-والكلام المحيط بهذه العبادة بعد معرفة وجوبها ينحصر في خمس جمل: الجملة الأولى: في معرفة من تجب عليه. الثانية: في معرفة ما تجب فيه من الأموال. الثالثة: في معرفة كم تجب ومن كم تجب. الرابعة: في معرفة متى تجب ومتى لا تجب. الخامسة: معرفة لمن تجب وكم يجب له. @-(فأما معرفة وجوبها) فمعلوم من الكتاب والسنة والإجماع ولا خلاف في ذلك.
- 3*(الجملة الأولى)
@-وأما على من تجب فإنهم اتفقوا أنها على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك النصاب ملكا تاما. واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبيد وأهل الذمة والناقص الملك مثل الذي عليه دين أو له الدين، ومثال المال المحبس الأصل. فأما الصغار فإن قوما قالوا: تجب الزكاة في أموالهم، وبه قال علي وابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة ومالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار. وقال قوم: ليس في مال اليتيم صدقة أصلا، وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين. وفرق قوم بين ما تخرج الأرض وبين ما لا تخرجه فقالوا: عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك من الماشية والناض والعروض وغير ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه. وفرق آخرون بين الناض فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناض. وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه أو لا إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية هل هي عبادة كالصلاة والصيام؟ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال أنها عبادة اشترط فيها البلوغ، ومن قال أنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء لم يعتبر في ذلك بلوغا من غيره. وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض أو لا تخرجه وبين الخفي والظاهر فلا أعلم له مستندا في هذا الوقت. وأما أهل الذمة فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، أعني أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وليس عن مالك في ذلك قول، وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه أثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيف ولكن الأصول تعارضه. وأما العبيد فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: لا زكاة في أموالهم أصلا، وهو قول ابن عمر وجابر من الصحابة ومالك وأحمد وأبي عبيد من الفقهاء. وقال آخرون: بل زكاة مال العبد على سيده، وبه قال الشافعي فيما حكاه ابن المنذر والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة، وهو مروي عن ابن عمر من الصحابة، وبه قال عطاء من التابعين وأبو ثور من الفقهاء وأهل الظاهر وبعضهم، وجمهور من قال لا زكاة في مال العبد هم على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق. وقال أبو ثور: في مال المكاتب زكاة. وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد اختلافهم في هل يملك العبد ملكا تاما أو غير تام؟ فمن رأى أنه لا يملك ملكا تاما وأن السيد هو المالك إذ كان لا يخلو مال من مالك قال: الزكاة على السيد، ومن رأى أنه لواحد منهما يملكه ملكا تاما لا السيد إذ كانت يد العبد هي التي عليه لا يد السيد ولا العبد أيضا، لأن للسيد انتزاعه منه قال: لا زكاة في ماله أصلا. ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرفها فيه تشبيها بتصرف يد الحر قال: الزكاة عليه لا سيما من كان عنده أن الخطاب العام يتناول الأحرار والعبيد، وأن الزكاة عبادة تتعلق بالمكلف لتصرف اليد في المال. وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال قوم: لا زكاة في مال حيا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا، وبه قال الثوري وأبو ثور وابن مبارك وجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها. وقال مالك: الدين يمنع الزكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع. وقال قوم: بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا. والسبب في اختلافهم اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين، لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده. ومن قال هي عبادة قال: تجب على من بيده مال لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ وأيضا فإنه تعارض هنالك حقان: حق لله، وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى، والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديان لقوله عليه الصلاة والسلام فيها "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" والمدين ليس بغني. وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة، وقد كان أبو عبيد يقول: إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه، وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة، وإنما هو خلاف لمن يقول: يصدق في الدين كما يصدق في المال. وأما المال الذي هو في الذمة، أعني في ذمة الغير وليس هو بيد المالك وهو الدين فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فقوم قالوا: لا زكاة فيه وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له، وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال الليث، أو هو قياس قوله؛ وقوم قالوا: إذا قبضه زكاة لما مضى من السنين. وقال مالك: يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض. وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول، وفي المذهب تفصيل في ذلك ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الثمار المحبوسة الأصول، وفي زكاة الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما يخرج منها؟ هل على صاحب الأرض أو صاحب الزرع؟ ومن ذلك اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت من أهل الخراج إلى المسلمين وهم أهل العشر، وفي الأرض العشر وهي أرض المسلمين إذا انتقلت إلى الخراج، وأعني أهل الذمة، وذلك أنه يشبه أن يكون سبب الخلاف في هذا كله أنها أملاك ناقصة. @-(وأما المسألة الأولى) وهي زكاة الثمار المحبسة الأصول فإن مالكا والشافعي كانا يوجبان فيها الزكاة، وكان مكحول وطاوس يقولان لا زكاة فيها، وفرق قوم بين أن تكون محبسة على المساكين وبين أن تكون على قوم أعيانهم فأوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على قوم بأعيانهم، ولم يوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على المساكين، ولا معنى لمن أوجبها على المساكين لأنه يجتمع في ذلك شيئان اثنان: أحدهما أنها ملك ناقص، والثانية أنها على قوم غير معينين من الصنف الذين تصرف إليهم الصدقة لا من الذين تجب عليهم. @-(وأما المسألة الثانية) وهي الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما تخرجه فإن قوما قالوا: الزكاة على صاحب الزرع، وبه قال مالك والشافعي والثوري وابن مبارك وأبو ثور وجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الزكاة على رب الأرض وليس على المستأجر منه شيء. والسبب في اختلافهم هل العشر حق الأرض أو حق الزرع أو حق مجموعهما؟ إلا أنه لم يقل أحد إنه حق لمجموعهما وهو في الحقيقة حق مجموعهما، فلما كان عندهم أنه حق لأحد الأمرين اختلفوا في أيهما هو أولى أن ينسب إلى الموضع الذي فيه الاتفاق، وهو كون الزرع والأرض لمالك واحد، فذهب الجمهور إلى أنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة وهو الحب. وذهب أبو حنيفة إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب وهو الأرض. وأما اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت إلى المسلمين هل فيها عشر مع الخراج أم ليس فيها عشر؟ فإن الجمهور على أن فيها العشر: أعني الزكاة. قال أبو حنيفة وأصحابه: ليس فيها عشر. وسبب اختلافهم كما قلنا هل الزكاة حق الأرض، أو حق الحب؟ فإن قلنا إنه حق الأرض لم يجتمع فيها حقان: وهما العشر والخراج، وإن قلنا: الزكاة حق الحب كان الخراج حق الأرض، والزكاة حق الحب، وإنما يجيء هذا الخلاف فيها لأنها ملك ناقص كما قلنا ولذلك اختلف العلماء في جواز بيع أرض الخراج. وأما إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي يزرعها، فإن الجمهور على أنه ليس فيها شيء. وقال النعمان: إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج، فكأنه رأى أن العشر هو حق أرض المسلمين، والخراج هو حق أرض الذميين، لكن كان يجب على هذا الأصل إذا انتقلت أرض الخراج إلى المسلمين أن تعود أرض عشر كما أن عنده إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي عادت أرض خراج، ويتعلق بالمالك مسائل أليق المواضع بذكرها هو هذا الباب: أحدها إذا أخرج المرء الزكاة فضاعت. والثانية إذا أمكن إخراجها فهلك بعض المال قبل الإخراج. والثالثة إذا مات وعليه زكاة. والرابعة إذا باع الزرع أو الثمر وقد وجبت فيه الزكاة على من الزكاة، وكذلك إذا وهبه. @-(فأما المسألة الأولى) وهي إذا أخرج الزكاة فضاعت، فإن قوما قالوا: تجزى عنه؛ وقوم قالوا: هو لها ضامن حتى يضعها موضعها؛ وقوم فرقوا بين أن يخرجها بعد أن أمكنه إخراجها، وبين أن يخرجها أول زمان الوجوب والإمكان، فقال بعضهم: إن أخرجها بعد أيام من الإمكان والوجوب ضمن وإن أخرجها في أول الوجوب ولم يقع منه تفريط لم يضمن وهو مشهور مذهب مالك؛ وقوم قالوا: إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، وبه قال أبو ثور والشافعي، وقال قوم: بل يعد الذاهب من الجميع ويبقى المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال، مثل الشريكين يذهب بعض المال المشترك بينهما ويبقيان شريكين على تلك النسبة في الباقي، فيتحصل في المسألة خمسة أقوال: قول إنه لا يضمن بإطلاق، وقول إنه يضمن بإطلاق، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، والقول الخامس يكونان شريكين في الباقي. @-(وأما المسألة الثانية) إذا ذهب بعض المال بعد الوجوب وقبل تمكن إخراج الزكاة؛ فقوم قالوا: يزكى ما بقي؛ وقوم قالوا: حال المساكين وحال رب المال حال الشريكين يضيع بعض مالهما. والسبب في اختلافهم تشبيه الزكاة بالديون، أعني أن يتعلق الحق فيها بالذمة لا بعين المال، أو تشبيهها بالحقوق التي تتعلق بعين المال لا بذمة الذي يده على المال كالأمناء وغيرهم. فمن شبه مالكي الزكاة بالأمناء قال: إذا اخرج فهلك المخرج فلا شيء عليه؛ ومن شبههم بالغرماء قال: يضمنون؛ ومن فرق بين التفريط ولا تفريط ألحقهم بالأمناء من جميع الوجوه إذا كان الأمين يضمن إذا فرط. وأما من قال: إذا لم يفرط زكى ما بقي فإنه شبه من هلك بعض ماله بعد الإخراج بمن ذهب بعض ماله قبل وجوب الزكاة فيه، كما أنه إذا وجبت الزكاة عليه فإنما يزكى الموجود فقط، وكذلك هذا إنما يزكى الموجود من ماله فقط. وسبب الاختلاف هو تردد شبه المالك بين الغريم والأمين والشريك ومن هلك بعض ماله قبل الوجوب. وأما إذا وجبت الزكاة وتمكن من الإخراج فلم يخرج حتى ذهب بعض المال فإنهم متفقون فيما أحسب أنه ضامن إلا في الماشية عند من رأى أن وجوبها إنما يتم بشرط خروج الساعي مع الحول وهو مذهب مالك. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي إذا مات بعد وجوب الزكاة عليه. فإن قوما قالوا: يخرج من رأس ماله، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقوم قالوا: إن أوصى بها أخرجت عنه من الثلث وإلا فلا شيء عليه، ومن هؤلاء من قال: يبدأ بها إن ضاق الثلث، ومنهم من قال: لا يبدأ بها، وعن مالك القولان جميعا، ولكن المشهور أنها بمنزلة الوصية. وأما اختلافهم في المال يباع بعد وجوب الصدقة فيه، فإن قوما قالوا: يأخذ المصدق الزكاة من المال نفسه ويرجع المشتري بقيمته على البائع، وبه قال أبو ثور. وقال قوم: البيع مفسوخ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: المشتري بالخيار بين إنقاذ البيع ورده، والعشر مأخوذ من الثمرة أو من الحب الذي وجبت فيه الزكاة، وقال مالك: الزكاة على البائع. وسبب اختلافهم تشبيه بيع مال الزكاة بتفويته وإتلاف عينه، فمن شبهه بذلك قال: الزكاة مترتبة في ذمة المتلف والمفوت؛ ومن قال البيع ليس بإتلاف لعين المال ولا تفويت له وإنما هو بمنزلة من باع ما ليس له قال: الزكاة في عين المال، ثم هل البيع مفسوخ أو غير مفسوخ نظر آخر يذكر في باب البيوع إن شاء الله تعالى. ومن هذا النوع اختلافهم في زكاة المال الموهوب، وفي بعض هذه المسائل التي ذكرنا تفصيل في المذهب لم نر أن نتعرض له إذ كان غير موافق لغرضنا مع أنه يعسر فيها إعطاء أسباب تلك الفروق لأنها أكثرها استحسانية مثل تفصيلهم الديون التي تزكى من التي لا تزكى، والديون المسقطة للزكاة من التي لا تسقطها، فهذا ما رأينا أن نذكره في هذه الجملة وهي معرفة من تجب عليه الزكاة وشروط الملك التي تجب به وأحكام من تجب عليه. وقد بقي من أحكامه حكم مشهور، وهو ماذا حكم من منع الزكاة ولم يجحد وجوبها؟ فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى أن حكمه حكم المرتد، وبذلك حكم في مانع الزكاة من العرب وذلك أنه قاتلهم وسبى ذريتهم، وخالفه في ذلك عمر رضي الله عنه، وأطلق من كان استرق منهم، وبقول عمر قال الجمهور. وذهبت طائفة إلى تكفير من منع فريضة من الفرائض وإن لم يجحد وجوبها. وسبب اختلافهم هل اسم الإيمان الذي هو ضد الكفر ينطلق على الاعتقاد دون العمل فقط أو من شرطه وجود العمل معه؟ فمنهم من رأى أن من شرطه وجود العمل معه، ومنهم من لم يشترط ذلك حتى لو لم يلفظ بالشهادة إذا صدق بها فحكمه حكم المؤمن عند الله، والجمهور وهم أهل السنة على أنه ليس يشترط فيه، أعني في اعتقاد الإيمان الذي ضده الكفر من الأعمال إلا التلفظ بالشهادة فقط، لقوله ﷺ "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي" فاشترط مع العلم القول، وهو عمل من الأعمال، فمن شبه سائر الأفعال الواجبة بالقول قال: جميع الأعمال المفروضة شرط في العلم الذي هو الإيمان، ومن شبه القول بسائر الأعمال التي اتفق الجمهور على أنها ليست شرطا في العلم الذي هو الإيمان قال: التصديق فقط هو شرط الإيمان، وبه يكون حكمه عند الله تعالى حكم المؤمن، والقولان شاذان، واستثناء التلفظ بالشهادتين من سائر الأعمال هو الذي عليه الجمهور.
- 3* (الجملة الثانية) وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء. وأما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي، وثلاثة أصناف من الحيوان الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب الحنطة والشعير، وصنفان من الثمر التمر والزبيب، وفي الزيت خلاف شاذ. واختلفوا أما من الذهب ففي الحلي فقط، وذلك أنه ذهب فقهاء الحجاز مالك والليث والشافعي إلى أنه لا زكاة فيه إذا أريد للزينة واللباس؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: فيه الزكاة. والسبب في اختلافهم تردد شبهه بين العروض وبين التبر والفضة اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء، فمن شبهه بالعروض التي المقصود منها المنافع أولا قال: ليس فيه زكاة، ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود منها المعاملة بها أولا قال: فيه الزكاة. ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روى جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "ليس في الحلي زكاة" وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن امرأة أتت إلى رسول الله ﷺ ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسك من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما وألقتهما إلى النبي ﷺ وقالت: هما لله ورسوله" والأثران ضعيفان، وبخاصة حديث جابر، ولكون السبب الأملك لاختلافهم تردد الحلي المتخذ للباس بين التبر والفضة اللذين المقصود منهما أولا المعاملة لا الانتفاع، وبين العروض المقصود منها التي بالوضع الأول خلاف المقصود من التبر والفضة، أعني الانتفاع بها لا المعاملة، وأعني بالمعاملة كونها ثمنا. واختلف قول مالك في الحلي المتخذ للكراء فمرة شبهه بالحلي المتخذ من اللباس، ومرة شبهه بالتبر المتخذ للمعاملة.
@-(وأما ما اختلفوا فيه من الحيوان) فمنه ما اختلفوا في نوعه، ومنه ما اختلفوا في صنفه. وأما ما اختلفوا في نوعه فالخيل، وذلك أن الجمهور على أن لا زكاة في الخيل، فذهب أبو حنيفة إلى أنها إذا كانت سائمة وقصد بها النسل أن فيها الزكاة، أعني إذا كانت ذكرانا وإناثا. والسبب في اختلافهم معارضة القياس للّفظ، وما يظن من معارضة اللفظ للّفظ فيها. أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" وأما القياس الذي عارض هذا العموم، فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل، فأشبه الأبل والبقر. وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام "وقد ذكر الخيل ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها" فذهب أبو حنيفة إلى أن حق الله هو الزكاة، وذلك السائمة منها. قال القاضي: وأن يكون هذا اللفظ مجملا أحرى منه أن يكون عاما، فيحتج به في الزكاة؛ وخالف أبا حنيفة في هذه المسألة صاحباه أبو يوسف ومحمد، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ منها الصدقة، فقيل إنه كان باختيار منهم. وأما ما اختلفوا في صنفه فهي السائمة من الإبل والبقر والغنم من غير السائمة منها، فإن قوما أوجبوا الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة سائمة كانت أو غير سائمة، وبه قال الليث ومالك؛ وقال سائر فقهاء الأمصار: لا زكاة في غير السائمة من هذه الثلاثة الأنواع. وسبب اختلافهم معارضة المطلق للمقيد، ومعارضة القياس لعموم اللفظ. أما المطلق فقوله عليه الصلاة والسلام "في أربعين شاة شاة". أما المقيد فقوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" فمن غلب المطلق على المقيد قال: الزكاة في السائمة وغير السائمة؛ ومن غلب المقيد قال: الزكاة في السائمة منها فقط، ويشبه أن يقال إن من سبب الخلاف في ذلك أيضا معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" يقتضي أن لا زكاة في غير السائمة، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "في أربعين شاة شاة" يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة لكن العموم أقوى من دليل الخطاب، كما أن تغليب المقيد على المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد. وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقتضي على المقيد، وإن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة، وكذلك في الإبل لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقه" وأن البقر لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع، وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط، فتكون التفرقة بين البقر وغيرها قول ثالث. وأما القياس المعارض لعموم قوله عليه الصلاة والسلام فيها "في أربعين شاة شاة" فهو أن السائمة هي التي المقصود منها النماء والربح، وهو الموجود فيها أكثر ذلك، والزكاة إنما هي فضلات الأموال، والفضلات إنما توجد أكثر ذلك في الأموال السائمة، ولذلك اشترط فيها الحول، فمن خصص بهذا القياس ذلك العموم لم يوجب الزكاة في غير السائمة، ومن لم يخصص ذلك ورأى أن العموم أقوى أوجب ذلك في الصنفين جميعا، فهذا هو ما اختلفوا فيه من الحيوان التي تجب فيه الزكاة، وأجمعوا على أنه ليس فيما يخرج من الحيوان زكاة إلا العسل، فإنهم اختلفوا فيه، فالجمهور على أنه لا زكاة فيه، وقال قوم: فيه الزكاة. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في كل عشرة أزق زق" خرجه الترمذي وغيره. وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الأربعة التي ذكرناها فهو جنس النبات الذي تجب فيه الزكاة، فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأربع فقط، وبه قال ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وابن المبارك؛ ومنهم من قال: الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات، وهو قول مالك والشافعي؛ ومنهم من قال: الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب. وهو أبو حنيفة. وسبب الخلاف إما بين من قصر الزكاة على الأصناف المجمع عليها، وبين من عداها إلى المدخر المقتات، فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الأصناف الأربعة هل هو لعينها أو لعلة فيها، وهي الاقتيات فمن قال لعينها قصر الوجوب عليها، ومن قال لعلة الاقتيات عدى الوجوب لجميع المقتات. وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع من الحشيش والحطب والقصب هو معارضة القياس لعموم اللفظ، أما اللفظ الذي يقتضي العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر" وما بمعنى الذي، والذي من ألفاظ العموم وقوله تعالى {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} الآية. إلى قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} . وأما القياس، فهو أن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما هو قوت، فمن خصص العموم بهذا القياس أسقط الزكاة مما عدا المقتات، ومن غلب العموم أوجبها فيما عدا ذلك، إلا ما أخرجه الإجماع، والذين اتفقوا على المقتات اختلفوا في أشياء من قبل اختلافهم فيها، هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة؟ وهل يقاس على ما اتفق عليه أو ليس يقاس؟ مثل اختلاف مالك والشافعي في الزيتون، فإن مالكا ذهب إلى وجوب الزكاة فيه، ومنع ذلك الشافعي في قوله الأخير بمصر. وسبب اختلافهم هل هو قوت أم ليس بقوت؟، ومن هذا الباب اختلاف أصحاب مالك في إيجاب الزكاة في التين أو لا إيجابها. وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر، وهو قول ابن حبيب لقوله سبحانه وتعالى {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} الآية، ومن فرق في الآية بين الثمار والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف. واتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة، واختلفوا في أتجب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة؟ فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك، ومنع ذلك أهل الظاهر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس، واختلافهم في تصحيح حديث سمرة بن جندب أنه قال "كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع" وفيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "أد زكاة البر". وأما القياس الذي اعتمده الجمهور فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني الحرث والماشية والذهب والفضة. وزعم الطحاوي أن زكاة العروض ثابتة عن عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، وبعضهم يرى أن مثل هذا هو إجماع من الصحابة، أعني إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه، وفيه ضعف.
- 3*(الجملة الثالثة) وأما معرفة النصاب في واحد واحد من هذه الأموال المزكاة، وهو المقدار الذي فيه تجب الزكاة فيما له منها نصاب، ومعرفة الواجب من ذلك، أعني في عينه وقدره، فإنا نذكر من ذلك ما اتفقوا عليه واختلفوا فيه في جنس جنس من هذه الأجناس المتفق عليها والمختلف فيها عند الذين اتفقوا عليه، ولنجعل الكلام في ذلك في فصول: الفصل الأول: في الذهب والفضة. الثاني: في الإبل. الثالث: في الغنم. الرابع: في البقر. الخامس: في النبات. السادس: في العروض.
- 4*الفصل الأول في الذهب والفضة.
@-أما المقدار الذي تجب فيه الزكاة من الفضة، فإنهم اتفقوا على أنه خمس أواق لقوله عليه الصلاة والسلام الثابت "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" ما عدا المعدن من الفضة، فإنهم اختلفوا في اشتراط النصاب منه وفي المقدار الواجب فيه، والأوقية عندهم أربعون درهما كيلا. وأما القدر الواجب فيه، فإنهم اتفقوا على أن الواجب في ذلك هو ربع العشر: أعني في الفضة والذهب معا ما لم يكونا خرجا من معدن. واختلفوا من هذا الباب في مواضع خمسة: أحدها: في نصاب الذهب. والثاني: هل فيهما أوقاص أم لا؟ أعني هل فوق النصاب قدر لا تزيد الزكاة بزيادته؟. والثالث: هل يضم بعضها إلى بعض في الزكاة فيعدان كصنف واحد؟ أعني عند إقامة النصاب أم هما صنفان مختلفان؟. والرابع: هل من شرط النصاب أن يكون المالك واحدا لا اثنين؟. الخامس: في اعتبار نصاب المعدن وحوله وقدر الواجب فيه. @-(وأما المسألة الأولى) وهي اختلافهم في نصاب الذهب، فإن أكثر العلماء على أن الزكاة تجب في عشرين دينارا وزنا كما تجب في مائتي درهم، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأحمد وجماعة فقهاء الأمصار وقالت طائفة منهم الحسن بن أبي الحسن البصري وأكثر أصحاب داود بن علي: ليس في الذهب شيء حتى يبلغ أربعين دينارا، ففيها ربع عشرها دينار واحد. وقالت طائفة ثالثة: ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفها مائتي درهم أو قيمتها فإذا بلغت ففيها ربع عشرها كان وزن ذلك من الذهب عشرين دينارا أو أقل أو أكثر، هذا فيما كان منها دون الأربعين دينارا. فإذا بلغت أربعين دينارا كان الاعتبار بها لنفسه لا بالدراهم لا صرفا ولا قيمة. وسبب اختلافهم في نصاب الذهب أنه لم يثبت في ذلك شيء عن النبي ﷺ كما ثبت ذلك في نصاب الفضة. وما روي عن الحسن بن عمارة من حديث علي أنه عليه الصلاة والسلام قال "هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار" فليس عند الأكثر مما يجب العمل به لانفراد الحسن بن عمارة به، فمن لم يصح عنده هذا الحديث اعتمد في ذلك على الإجماع، وهو اتفاقهم على وجوبها في الأربعين. وأما مالك فاعتمد في ذلك على العمل، ولذلك قال في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم. وأما الذين جعلوا الزكاة فيما دون الأربعين تبعا للدراهم، فإنه لما كانا عندهم من جنس واحد جعلوا الفضة هي الأصل، إذ كان النص قد ثبت فيها، وجعلوا الذهب تابعا لها في القيمة لا في الوزن، وذلك فيما دون موضع الإجماع، ولما قيل أيضا إن الرقة اسم يتناول الذهب والفضة وجاء في بعض الآثار "ليس فيها دون خمس أواق من الرقة صدقة" @-(المسألة الثانية) وأما اختلافهم فيما زاد على النصاب فيها، فإن الجمهور قالوا: إن ما زاد على مائتي درهم من الوزن ففيه بحساب ذلك، أعني ربع العشر، وممن قال بهذا القول مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وجماعة. وقالت طائفة من أهل العلم أكثرهم العراق: لا شيء فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما، فإذا بلغتها كان فيها ربع عشرها وذلك درهم، وبهذا القول قال أبو حنيفة وزفر وطائفة من أصحابهما. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث الحسن ابن عمارة، ومعارضة دليل الخطاب له، وترددهما بين أصلين في هذا الباب مختلفين في هذا الحكم وهي الماشية والحبوب. أما حديث الحسن بن عمارة فإنه رواه عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي ﷺ قال "قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا من الرقة ربع العشر من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين دينارا نصف دينار، وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول ففيها خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهما درهم، وفي كل أربعة دنانير تزيد على العشرين دينارا درهم حتى تبلغ أربعين دينارا، ففي كل أربعين دينار، وفي كل أربعة وعشرين نصف دينار ودرهم". وأما دليل الخطاب المعارض له، فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" ومفهومه أن فيما زاد على ذلك الصدقة قل أو كثر. وأما ترددهما بين الأصلين اللذين هما الماشية والحبوب، فإن النص على الأوقاص ورد في الماشية. وأجمعوا على أنه لا أوقاص في الحبوب، فمن شبه الفضة والذهب بالماشية قال فيهما الأوقاص، ومن شبههما بالحبوب قال لا وقص. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي ضم الذهب إلى الفضة في الزكاة، فإن عند مالك وأبي حنيفة وجماعة أنها تضم الدراهم إلى الدنانير، فإذا كمل من مجموعهما نصاب وجبت فيه الزكاة؛ وقال الشافعي وأبو ثور وداود: لا يضم ذهب إلى فضة ولا فضة إلى ذهب. وسبب اختلافهم هل كل واحد منهما يجب فيه الزكاة لعينه أم لسبب يعمهما، وهو كونهما كما يقول الفقهاء رءوس الأموال وقيم المتلفات؟ فمن رأى أن المعتبر في كل واحد منهما هو عينه ولذلك اختلف النصاب فيهما قال: هما جنسان لا يضم أحدهما إلى الثاني كالحال في البقر والغنم؛ ومن رأى أن المعتبر فيهما هو ذلك الأمر الجامع الذي قلناه أوجب ضم بعضهما إلى بعض، ويشبه أن يكون الأظهر اختلاف الأحكام حيث تختلف الأسماء وتختلف الموجودات أنفسها، وإن كان قد يوهم اتحادهما اتفاق المنافع، وهو الذي اعتمد مالك رحمه الله في هذا الباب وفي باب الربا، والذين أجازوا ضمهما اختلفوا في صفة الضم. فرأى مالك ضمهما بصرف محدود، وذلك بأن ينزل الدينار بعشرة دراهم على ما كانت عليه قديما، فمن كانت عنده عشرة دنانير ومائة درهم وجبت عليه فيهما الزكاة عنده، وجاز أن يخرج من الواحد عن الآخر. وقال من هؤلاء آخرون: تضم بالقيمة في وقت الزكاة، فمن كانت عنده مثلا مائة درهم وتسعة مثاقيل قيمتها مائة درهم وجبت عليه فيهما الزكاة، ومن كانت عنده مائة درهم تساوي أحد عشر مثقالا وتسعة مثاقيل وجبت عليه أيضا فيهما الزكاة، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة، وبمثل هذا القول قال الثوري إلا أنه يراعي الأحوط للمساكين في الضم: أعني القيمة أو الصرف المحدود: ومنهم من قال: يضم الأقل منها إلى الأكثر ولا يضم الأكثر إلى الأقل؛ وقال آخرون: تضم الدنانير بقيمتها أبدا كانت الدنانير أقل من الدراهم أو أكثر، ولا تضم الدراهم إلى الدنانير لأن الدراهم أصل والدنانير فرع، إذ كان لم يثبت في الدنانير حديث ولا إجماع حتى تبلغ أربعين، وقال بعضهم: إذا كان عنده نصاب من أحدهما ضم إليه قليل الآخر وكثيره، ولم ير الضم في تكميل النصاب إذا لم يكن في واحد منهما نصاب بل في مجموعهما. وسبب هذا الارتباك ما راموه من أن يجعلوا من شيئين نصابهما مختلف في الوزن نصابا واحدا، وهذا كله لا معنى له، ولعل من رام ضم أحدهما إلى الآخر فقد أحدث حكما في الشرع حيث لا حكم، لأنه قد قال بنصاب ليس هو بنصاب ذهب ولا فضة، ويستحيل في عادة التكليف والأمر بالبيان أن يكون في أمثال هذه الأشياء المحتملة حكم مخصوص، فيسكت عنه الشارع حتى يكون سكوته سببا لأن يعرض فيه من الاختلاف ما مقداره هذا المقدار، والشارع إنما بعث ﷺ لرفع الاختلاف. @-(وأما المسألة الرابعة) فإن عند مالك وأبي حنيفة أن الشريكين ليس يجب على أحدهما زكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب؛ وعند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد. وسبب اختلافهم الإجماع الذي في قوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه إنما يخصه هذا الحكم إذا كان لمالك واحد فقط، ويمكن منه أنه يخصه هذا الحكم كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد، إلا أنه لما كان مفهوم اشتراط النصاب إنما هو الرفق فواجب أن يكون النصاب من شرطه أن يكون لمالك واحد، وهو الأظهر والله أعلم. والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلطة، ولكن تأثير الخلطة في الزكاة غير متفق عليه على ما سيأتي بعد. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي اختلافهم في اعتبار النصاب في المعدن وقدر الواجب فيه، فإن مالكا والشافعي راعيا النصاب في المعدن، وإنما الخلاف بينهما أن مالكا لم يشترط الحول واشترطه الشافعي على ما سنقول بعد في الجملة الرابعة، وكذلك لم يختلف قولهما إن الواجب فيما يخرج منه هو ربع العشر؛ وأما أبو حنيفة فلم ير فيه نصابا ولا حولا، وقال: الواجب هو الخمس. وسبب الخلاف في ذلك هل اسم الركاز يتناول المعدن أم لا يتناوله؟ لأنه قال عليه الصلاة والسلام "وفي الركاز الخمس" وروى أشهب عن مالك أن المعدن الذي يوجد بغير عمل أنه ركاز وفيه الخمس. فسبب اختلافهم في هذا هو اختلافهم في دلالة اللفظ، وهو أحد أسباب الاختلافات العامة التي ذكرناها.
- 4*الفصل الثاني في نصاب الإبل والواجب فيه.
@-وأجمع المسلمون على أن في كل خمس من الإبل شاة إلى أربع وعشرين، فإذا كانت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة إلى ستين، فإذا كانت واحدا وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا كانت ستا وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا كانت واحدا وتسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة لثبوت هذا كله في كتاب الصدقة الذي أمر به رسول الله ﷺ، وعمل به بعده أبو بكر وعمر. واختلفوا منها في مواضع: منها فيما زاد على العشرين والمائة، ومنها إذا عدم السن الواجبة عليه وعنده السن الذي فوقه أو الذي تحته ما حكمه؟ ومنها هل تجب الزكاة في صغار الإبل وإن وجبت فما الواجب؟. @-(فأما المسألة الأولى) وهي اختلافهم فيما زاد على المائة وعشرين، فإن مالكا قال: إذا زادت على عشرين ومائة واحدة، فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فيكون فيها حقه وابنتا لبون. وقال ابن القاسم من أصحابه: بل يأخذ ثلاث بنات لبون من غير خيار إلى أن تبلغ ثمانين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون، وبهذا القول قال الشافعي. قال عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك: بل يأخذ الساعي حقتين فقط من غير خيارإلى أن تبلغ مائة وثلاثين. وقال الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا زادت على عشرين ومائة عادت الفريضة على أولها، ومعنى عودتها أن يكون عندهم في كل خمس ذود شاة، فإذا كانت الإبل مائة وخمسة وعشرين كان فيها حقتان وشاة، الحقتان للمائة والعشرين، والشاة للخمس، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقتان وشاتان، فإذا كانت خمسا وثلاثين ففيها حقتان وثلاث شياه إلى خمس وأربعين ومائة، ففيها حقتان وأربع شياه إلى خمس وأربعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وابنة مخاض، الحقتان للمائة والعشرين، وابنة المخاض للخمس وعشرين كما كانت في الفرض الأول إلى خمسين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق، فإذا زادت على الخمسين ومائة استقبل بها الفريضة الأولى إلى أن تبلغ مائتين، فيكون فيها أربع حقاق ثم يستقبل بها الفريضة. وأما ما عدا الكوفيين من الفقهاء، فإنهم اتفقوا على أن ما زاد على المائة والثلاثين، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه. وسبب اختلافهم في عودة الفرض أو لا عودته اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ثبت في كتاب الصدقة أنه قال عليه الصلاة والسلام "فما زاد على العشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة" وروي من طريق أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كتب كتاب الصدقة وفيه "إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة" فذهب الجمهور إلى ترجيح الحديث الأول إذ هو أثبت، وذهب الكوفيون إلى ترجيح حديث عمرو بن حزم لأنه ثبت عندهم هذا من قول علي وابن مسعود، قالوا: ولا يصح أن يكون مثل هذا إلا توقيفا إذ كان مثل هذا لا يقال بالقياس. وأما سبب اختلاف مالك وأصحابه والشافعي فيما زاد على المائة وعشرين إلى الثلاثين فلأنه لم يستقم لهم حساب الأربعينات ولا الخمسينات، فمن رأى أن ما بين المائة وعشرين إلى أن يستقيم الحساب وقص قال: ليس فيما زاد على ظاهر الحديث الثابت شيء ظاهر حتى يبلغ مائة وثلاثين وهو ظاهر الحديث. وأما الشافعي وابن القاسم فإنما ذهبا إلى أن فيها ثلاث بنات لبون، لأنه قد روي عن ابن شهاب في كتاب الصدقة أنها إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة. فسبب اختلاف ابن الماجشون وابن القاسم هو معارضة ظاهر الأثر الثابت للتفسير الذي في هذا الحديث فإن ابن الماجشون رجح ظاهر الأثر للاتفاق على ثبوته، وابن القاسم والشافعي حملا المجمل على المفصل المفسر. وأما تخيير مالك الساعي، فكأنه جمع بين الأثرين والله أعلم. @-(وأما المسألة الثانية) وهو إذا عدم السن الواجب من الإبل الواجبة وعنده السن الذي فوق هذا السن أو تحته، فإن مالكا قال: يكلف شراء ذلك السن. وقال قوم بل يعطي السن الذي عنده وزيادة عشرين درهما إن كان السن الذي عنده أحط أو شاتين، وإن كان أعلى دفع إليه المصدق عشرين درهما أو شاتين، وهذا ثابت في كتاب الصدقة فلا معنى للمنازعة فيه، ولعل مالكا لم يبلغه هذا الحديث، وبهذا الحديث قال الشافعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: الواجب عليه القيمة على أصله في إخراج القيم في الزكاة. وقال قوم: بل يعطي السن الذي عنده، وما بينهما من القيمة. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي هل تجب في صغار الإبل، وإن وجبت فماذا يكلف؟ فإن قوما قالوا: تجب فيها الزكاة، وقوم قالوا: لا تجب. وسبب اختلافهم هل يتناول اسم الجنس الصغار أو لا يتناوله. والذين قالوا: لا تجب فيها زكاة هو أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، وقد احتجوا بحديث سويد ابن غفلة أنه قال: أتانا مصدق النبي عليه الصلاة والسلام، فأتيته فجلست إليه فسمعته يقول: إن في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن، ولا أجمع بين مفترق ولا نفرق بين مجتمع، قال: وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها. والذين أوجبوا الزكاة فيها منهم من قال: يكلف شراء السن الواجبة عليه، ومنهم من قال: يأخذ منها وهو الأقيس، وبنحو هذا الاختلاف اختلفوا في صغار البقر وسخال الغنم.
- 4*الفصل الثالث في نصاب البقر وقدر الواجب في ذلك.
@-جمهور العلماء على أن في ثلاثين من البقر تبيعا وفي أربعين مسنة، وقالت طائفة: في كل عشر من البقر شاة إلى ثلاثين ففيها تبيع، وقيل إذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين ففيها بقرتان إذا جاوزت ذلك، فإذا بلغت مائة وعشرين ففي كل أربعين بقرة، وهذا عن سعيد بن المسيب. واختلف فقهاء الأمصار فيما بين الأربعين والستين؛ فذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري وجماعة أن لا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ الستين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان إلى سبعين، ففيها مسنة وتبيع إلى ثمانين، ففيها مسنتان إلى تسعين، ففيها ثلاثة أتبعة إلى مائة، ففيها تبيعان ومسنة، ثم هكذا ما زاد، ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. وسبب اختلافهم في النصاب أن حديث معاذ غير متفق على صحته، ولذلك لم يخرجه الشيخان. وسبب اختلاف فقهاء الأمصار في الوقص في البقر أنه جاء في حديث معاذ هذا أنه توقف في الأوقاص وقال: حتى أسأل فيها النبي ﷺ، فلما قدم عليه وجده قد توفي ﷺ، فلما لم يرد في ذلك نص طلب حكمه من طريق القياس، فمن قاسها على الإبل والغنم لم ير في الأوقاص شيئا، ومن قال إن الأصل في الأوقاص الزكاة إلا ما استثناه الدليل من ذلك وجب أن لا يكون عنده في البقر وقص، إذ لا دليل هنالك من إجماع ولا غيره.
- 4*الفصل الرابع في نصاب الغنم وقدر الواجب من ذلك.
@-وأجمعوا من هذا الباب على أن في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على العشرين ومائة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت على المائتين فثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على الثلاثمائة ففي كل مائة شاة، وذلك عند الجمهور إلا الحسن بن صالح فإنه قال: إذا كانت الغنم ثلاثمائة شاة وشاة واحدة أن فيها أربع شياه، وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه، وروى قوله هذا عن منصور عن إبراهيم، والآثار الثابتة المرفوعة في كتاب الصدقة على ما قال الجمهور. واتفقوا على أن المعز تضم مع الغنم، واختلفوا من أي صنف منها يأخذ المصدق، فقال مالك: يأخذ من الأكثر عددا، فإن استوت خير الساعي. وقال أبو حنيفة: بل الساعي يخير إذا اختلفت الأصناف. وقال الشافعي: يأخذ الوسط من الأصناف المختلفة لقول عمر رضي الله عنه: نعد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ولا نأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم، ونأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين خيار المال ووسطه. وكذلك اتفق جماعة فقهاء الأمصار على أنه لا يؤخذ في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عور لثبوت ذلك في كتاب الصدقة، إلا أنه يرى المصدق أن ذلك خير للمساكين. واختلفوا في العمياء وذات العلة هل تعد على صاحب المال أم لا؟ فرأى مالك والشافعي أن تعد، وروي عن أبي حنيفة أنها لا تعد. وسبب اختلافهم هل مطلق الاسم يتناول الأصحاء والمرضى أم لا يتناولهما؟. واختلفوا من هذا الباب في نسل الأمهات هل تعد مع الأمهات فيكمل النصاب بها إذا لم تبلغ نصابا؟ فقال مالك يعتد بها، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور: لا يعتد بالسخال إلا أن تكون الأمهات نصابا. وسبب اختلافهم احتمال قول عمر رضي الله عنه إذ أمر أن تعتد عليهم بالسخال ولا يؤخذ منها شيء، فإن قوما فهموا من هذا إذا كانت الأمهات نصابا، وقوم فهموا هذا مطلقا، وأحسب أن أهل الظاهر لا يوجبون في السخال شيئا، ولا يعدون بها لو كانت الأمهات نصابا ولو لم تكن لأن اسم الجنس لا ينطلق عليها عندهم، وأكثر الفقهاء على أن للخلطة تأثير في قدر الواجب من الزكاة. واختلف القائلون بذلك هل لها تأثير في قدر النصاب أم لا؟ وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا للخلطة تأثيرا، لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب، وتفسير ذلك أن مالكا والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء يزكون زكاة المالك الواحد. واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما في نصاب الخلطاء هل يعد نصاب مالك واحد سواء كان لكل واحد منهم نصاب أو لم يكن؟ أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهم نصاب؟. والثاني في صفة الخلطة التي لها تأثير في ذلك. وأما اختلافهم أولا في هل للخلطة تأثير في النصاب وفي الواجب أو ليس لها تأثير؟. فسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، فإن كل واحد من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك أن الذين رأوا للخلطة تأثير ما في النصاب والقدر الواجب أو في القدر الواجب فقط قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" وقوله "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" يدل دلالة واضحة على أن ملك الخليطين كملك رجل واحد، فإن هذا الأثر مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" إما في الزكاة عند مالك وأصحابه: أعني في قدر الواجب، وإما في الزكاة والنصاب معا عند الشافعي وأصحابه. وأما الذين لم يقولوا بالخلطة فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما خليطان، ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" إنما هو نهي للسعاة أن يقسم ملك الرجل الواحد قسمة توجب عليه كثرة الصدقة، مثل رجل يكون له مائة وعشرون شاة فيقسم عليه إلى أربعين ثلاث مرات، أو يجمع ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب أن لا تخصص به الأصول الثابتة المجمع عليها أعني أن النصاب والحق الواجب في الزكاة يعتبر بملك الرجل الواحد. وأما الذين قالوا بالخلطة، فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة، وإذا كان ذلك كذلك فقوله عليه الصلاة والسلام فيهما "إنهما يتراجعان بالسوية" مما يدل على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجل واحد، وأن قوله عليه الصلاة والسلام "إنهما يتراجعان بالسوية" يدل على أن الخليطين ليسا بشريكين، لأن الشريكين ليس يتصور بينهما تراجع إذ المأخوذ هو من مال الشركة، فمن اقتصر على هذا المفهوم ولم يقس عليه النصاب قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهما نصاب، ومن جعل حكم النصاب تابعا لحكم الحق الواجب قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد، كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد، وكل واحد من هؤلاء أنزل قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" على ما ذهب إليه. فأما مالك رحمه الله تعالى فإنه قال: معنى قوله "لا يفرق بين مجتمع" أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فتكون عليهما فيهما ثلاثة شياه، فإذا افترقا كان على واحد منهما شاة، ومعنى قوله "لا يجمع بين مفترق" أن يكون النفر الثلاث لكل واحد منهم أربعون شاة، فإذا جمعوها كان عليهم شاة واحدة، فعلى مذهبه النهي إنما هو متجه نحو الخلطاء الذين لكل واحد منهم نصاب. وأما الشافعي فقال معنى قوله "ولا يفرق بين مجتمع" أن يكون رجلان لهما أربعون شاة، فإذا فرقا غنمهما لم يجب عليهما فيها زكاة، إذ كان نصاب الخلطاء عنده نصاب ملك واحد في الحكم. وأما القائلون بالخلطة فإنهم اختلفوا فيما هي الخلطة المؤثرة بالزكاة. فأما الشافعي فقال: إن من شرط الخلطة أن تختلط ماشيتهما وتراحا لواحد وتحلبا لواحد وتسرحا لواحد وتسقيا معا، وتكون فحولهما مختلطة ولا فرق عنده بالجملة والشركة ولذلك يعتبر كمال النصاب لكل واحد من الشريكين كما تقدم. وأما مالك فالخليطان عنده ما اشتركا في الدلو والحوض والمراح والراعي والفحل، واختلف أصحابه في مراعاة بعض هذه الأوصاف أو جميعها. وسبب اختلافهم اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم ير قوم تأثير الخلطة في الزكاة، وهو مذهب أبي محمد بن حزم الأندلسي.
- 4*الفصل الخامس. في نصاب الحبوب والثمار والقدر الواجب في ذلك.
@-وأجمعوا على أن الواجب في الحبوب، أما ما سقي بالسماء فالعشر، وأما ما سقي بالنضح فنصف العشر لثبوت ذلك عنه ﷺ. وأما النصاب فإنهم اختلفوا في وجوبه في هذا الجنس من مال الزكاة، فصار الجمهور إلى إيجاب النصاب فيه وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بإجماع، والصاع أربعة أمداد بمد النبي عليه الصلاة والسلام، والجمهور على أن مده رطل وثلث وزيادة يسيرة بالبغدادي، وإليه رجع أبو يوسف حين ناظره مالك على مذهب أهل العراق لشهادة أهل المدينة بذلك، وكان أبو حنيفة يقول في المد إنه رطلان، وفي الصاع إنه ثمانية أرطال. وقال أبو حنيفة: ليس في الحبوب والثمار نصاب. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" وأما الخصوص فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" والحديثان ثابتان، فمن رأى الخصوص يبنى على العموم قال لا بد من النصاب وهو المشهور، ومن رأى أن العموم والخصوص متعارضان إذا جهل المتقدم فيهما والمتأخر إذ كان قد ينسخ الخصوص بالعموم عنده، وينسخ العموم بالخصوص، إذ كل ما وجب العمل به جاز نسخه، والنسخ قد يكون للبعض وقد يكون للكل، ومن رجح العموم قال لا نصاب، ولكن حمل الجمهور عندي الخصوص على العموم هو من باب ترجيح الخصوص على العموم في الجزء الذي تعارضا فيه فإن العموم فيه ظاهر والخصوص فيه نص، فتأمل هذا فإنه السبب الذي صير الجمهور إلى أن يقولوا بنى العام على الخاص وعلى الحقيقة ليس بنيانا، فإن التعارض بينهما موجود إلا أن يمكن الخصوص متصلا بالعموم فيكون استثناء، واحتجاج أبي حنيفة في النصاب بهذا العموم فيه ضعف، فإن الحديث إنما خرج مخرج تبين القدر الواجب منه. واختلفوا من هذا الباب في النصاب في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في ضم الحبوب بعضهما إلى بعض في النصاب. الثانية: في جواز تقدير النصاب في العنب والتمر بالخرص. الثالثة: هل يحسب على الرجل ما يأكله من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجذاذ في النصاب أم لا؟. @-(أما المسألة الأولى) فإنهم أجمعوا على أن الصنف الواحد من الحبوب والثمر يجمع جيده إلى رديئه وتؤخذ الزكاة عن جميعه بحسب قدر كل واحد منهما: أعني من الجيد والردئ، فإن كان الثمر أصنافا أخذ من وسطه. واختلفوا في ضم القطاني بعضها إلى بعض، وفي ضم الحنطة والشعير والسلت فقال مالك: القطينة كلها صنف واحد الحنطة والشعير والسلت أيضا. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة: القطاني كلها أصناف كثيرة بحسب أسمائها، ولا يضم منها شيء إلى غيره في حساب النصاب، وكذلك الشعير والسلت والحنطة عندهم أصناف ثلاثة لا يضم واحد منها إلى الآخر لتكميل النصاب. وسبب الخلاف هل المراعاة في الصنف الواحد هو اتفاق المنافع أو اتفاق الأسماء؟ فمن قال اتفاق الأسماء قال: كلما اختلفت أسماؤها فهي أصناف كثيرة، ومن قال اتفاق المنافع قال: كلما اتفقت منافعها فهي صنف واحد وإن اختلفت أسماؤها، فكل واحد منهما يروم أن يقرر قاعدته باستقراء الشرع، أعني أن أحدهما يحتج لمذهبه بالأشياء التي اعتبر فيها الشرع الأسماء، والآخر بالأشياء التي اعتبر الشرع فيها المنافع، ويشبه أن يكون شهادة الشرع للأسماء في الزكاة أكثر من شهادته للمنافع وإن كان كلا الاعتبارين موجودا في الشرع، والله أعلم. @-(وأما المسألة الثانية) وهي تقدير النصاب بالخرص واعتباره به دون الكيل فإن جمهور العلماء على إجازة الخرص في النخيل والأعناب حين يبدو صلاحها لضرورة أن يخلى بينها وبين أهلها يأكلونها رطبا، وقال داود: لا خرص إلا في النخيل فقط. وقال أبو حنيفة وصاحباه: الخرص باطل وعلى رب المال أن يؤدي عشر ما تحصل بيده زاد على الخرص أو نقص منه. والسبب في اختلافهم في جواز الخرص معارضة الأصول للأثر الوارد في ذلك. أما الأثر الوارد في ذلك وهو الذي تمسك به الجمهور فهو ما روي "أن رسول الله ﷺ كان يرسل عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص عليهم النخل". وأما الأصول التي تعارضه فلأنه من باب المزابنة المنهي عنها، وهو بيع الثمر في رءوس النخل بالثمر كيلا، ولأنه أيضا من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة فيدخله المنع من التفاضل ومن النسيئة وكلاهما من أصول الربا، فلما رأى الكوفيون هذا مع أن الخرص الذي كان يخرص على أهل خيبر لم يكن للزكاة إذ كانوا ليسوا بأهل زكاة قالوا: يحتمل أن يكون تخمينا ليعلم ما بأيدي كل قوم من الثمار. قال القاضي: أما بحسب خبر مالك، فالظاهر أنه كان في القسمة لما روي أن عبد الله بن رواحة كان إذا فرغ من الخرص قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، أعني في قسمة الثمار لا في قسمة الحب. وأما بحسب حديث عائشة الذي رواه أبو داود فإنما الخرص لموضع النصيب الواجب عليهم في ذلك، والحديث هو أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر "كان النبي ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه" وخرص الثمار لم يخرجه الشيخان، وكيفما كان فالخرص مستثنى من تلك الأصول، هذا إن ثبت أنه كان منه عليه الصلاة والسلام حكما منه على المسلمين، فإن الحكم لو ثبت على أهل الذمة ليس يجب أن يكون حكما على المسلمين إلا بدليل والله أعلم. ولو صح حديث عتاب بن أسيد لكان جواز الخرص بينا والله أعلم، وحديث عتاب بن أسيد هو أنه قال "أمرني رسول الله ﷺ أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا" وحديث عتاب بن أسيد طعن فيه، لأن راويه عنه هو سعيد بن المسيب وهو لم يسمع منه، ولذلك لم يجز داود خرص العنب. واختلف من أوجب الزكاة في الزيتون في جواز خرصه. والسبب في اختلافهم اختلافهم في قياسه في ذلك على النخل والعنب؛ والمخرج عند الجميع من النخل في الزكاة هو التمر لا الرطب، وكذلك الزبيب من العنب لا العنب نفسه، وكذلك عند القائلين بوجوب الزكاة في الزيتون هو الزيت لا الحب قياسا على التمر والزبيب. وقال مالك في العنب الذي لا يتزبب والزيتون الذي لا ينعصر أرى أن يؤخذ منه حبا. @-(وأما المسألة الثالثة) فإن مالكا وأبو حنيفة قالا: يحسب على الرجل ما أكل من ثمره وزرعه قبل الحصاد في النصاب، وقال الشافعي: لا يحسب عليه ويترك الخارص لرب المال ما يأكل هو وأهله. والسبب في اختلافهم ما يعارض الآثار في ذلك من الكتاب والقياس. أما السنة في ذلك فما رواه سهل بن أبي حثمة "أن النبي ﷺ بعث أبا حثمة خارصا، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي، فقال رسول الله ﷺ: إن ابن عمك يزعم أنك زدت عليه، فقال: يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعمه المساكين وما تسقطه الريح، فقال: قد زادك ابن عمك وأنصفك" وروي أن رسول الله ﷺ قال "إذا خرصتم فدعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" وروي عن جابر أن رسول الله ﷺ قال "خففوا في الخرص فإن في المال العرية والآكلة والوصية والعامل والنوائب وما وجب في الثمر من الحق" وأما الكتاب المعارض لهذه الآثار والقياس فقوله تعالى {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} . وأما القياس فلأنه مال فوجبت فيه الزكاة أصله سائر الأموال. فهذه هي المسائل المشهورة التي تتعلق بقدر الواجب في الزكاة والواجب منه في هذه الأجناس الثلاثة التي الزكاة مخرجة من أعيانها، لم يختلفوا أنها إذا خرجت من الأعيان أنفسها أنها مجزئة، واختلفوا هل يجوز فيها أن يخرج بدل العين القيمة أو لا يجوز؟ فقال مالك والشافعي: لا يجوز إخراج القيم في الزكوات بدل المنصوص عليه في الزكوات، وقال أبو حنيفة: يجوز سواء قدر على المنصوص عليه أو لم يقدر. وسبب اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق واجب للمساكين، فمن قال إنها عبادة: قال إن أخرج من غير تلك الأعيان لم يجز لأنه إذا أتى بالعبادة على غير الجهة المأمور بها فهي فاسدة، ومن قال هي حق للمساكين فلا فرق بين القيمة والعين عنده، وقد قالت الشافعية: لنا أن نقول وإن سلمنا أنها حق للمساكين أن الشارع إنما علق الحق بالعين قصدا منه لتشريك الفقراء مع الأغنياء في أعيان الأموال: والحنفية تقول: إنما خصت بالذكر أعيان الأموال تسهيلا على أرباب الأموال، لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذي بين يديه، ولذلك جاء في بعض الأثر أنه جعل في الدية على أهل الحلل حللا على ما سيأتي في كتاب الحدود.
- 4*الفصل السادس في نصاب العروض.
@-والنصاب في العروض على مذهب القائلين بذلك إنما هو فيما اتخذ منها للبيع خاصة على ما يقدر قبل، والنصاب فيها على مذهبهم هو النصاب في العين إذ كانت هذه هي قيم المتلفات ورءوس الأموال، وكذلك الحول في العروض عند الذين أوجبوا الزكاة في العروض، فإن مالكا قال، إذا باع العروض زكاة لسنة واحدة كالحال في الدين، وذلك عنده في التاجر الذي تضبط له أوقات شراء عروضه. وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ولا يشترونه وهم الذين يخصون باسم المدير، فحكم هؤلاء عند مالك إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم إلى أن يقوم ما بيده من العروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العين وماله من الدين الذي يرتجى قبضه إن لم يكن عليه دين مثله: وذلك بخلاف قوله في دين غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابا أدى زكاته، وسواء نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض بلغ نصابا أو لم يبلغ نصابا، وهذه رواية ابن الماجشون عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: إذا لم يكن له ناض وكان يتجر بالعروض لم يكن عليه في العروض شيء. فمنهم من لم يشترط وجود الناض عنده، ومنهم من شرطه. والذي شرطه، منهم من اعتبر فيه النصاب، ومنهم من لم يعتبر ذلك. وقال المازني: زكاة العروض تكون من أعيانها لا من أثمانها. وقال الجمهور، الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم: المدير وغير المدير حكمه واحد، وأنه من اشترى عرضا للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه. وقال قوم: بل يزكي ثمنه الذي ابتاعه به لا قيمته، وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئا لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه. وأما مالك فشبه النوع ههنا بالعين لئلا تسقط الزكاة رأسا على المدير، وهذا هو بأن يكون شرعا زائدا أشبه منه بأن يكون شرعا مستنبطا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه، ومالك رحمه الله يعتبر المصالح وإن لم يستند إلى أصول منصوص عليها.
- 3*(الجملة الرابعة في وقت الزكاة) وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم، ولانتشار العمل به، ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعا من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار، وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية. وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت. واختلفوا من هذا الباب في مسائل ثمانية مشهورة: إحداها: هل يشترط الحول في المعدن إذا قلنا إن الواجب فيه ربع العشر؟. الثانية: في اعتبار حولي ربح المال. الثالثة: حول الفوائد الواردة على مال تجب فيه الزكاة. الرابعة: في اعتبار حول الدين إذا قلنا إن فيه الزكاة. الخامسة: في اعتبار حول العروض إذا قلنا إن فيها الزكاة. السادسة: في حول فائدة الماشية. السابعة: في حول نسل الغنم إذا قلنا إنها تضم إلى الأمهات، إما على رأي من يشترط أن تكون الأمهات نصابا وهو الشافعي وأبو حنيفة، وإما على مذهب من لا يشترط ذلك، وهو مذهب مالك. والثامنة: في جواز إخراج الزكاة قبل الحول.
@-(أما المسألة الأولى) وهي المعدن، فإن الشافعي راعى فيه الحول مع النصاب وأما مالك فراعى فيه النصاب دون الحول. وسبب اختلافهم تردد شبهة بين ما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة وبين التبر والفضة المقتنيين، فمن شبهه بما تخرجه الأرض لم يعتبر الحول فيه، ومن شبهه بالتبر والفضة المقتنيين أوجب الحول، وتشبيهه بالتبر والفضة أبين والله أعلم. @-(المسألة الثانية) وأما اعتبار حول ربح المال فإنهم اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: فرأى الشافعي أن حوله يعتبر من يوم استفيد سواء كان الأصل نصابا أو لم يكن، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب أن لا يعرض لأرباح التجارة حتى يحول عليها الحول. وقال مالك: حول الربح هو حول الأصل: أي إذا كمل للأصول حول زكى الربح معه، سواء كان الأصل نصابا أو أقل من نصاب إذا بلغ الأصل مع ربحه نصابا، قال أبو عبيد: ولم يتابعه عليه أحد من الفقهاء إلا أصحابه. وفرق قوم بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصابا أو لا يكون فقالوا: إن كان نصابا زكى الربح مع رأس ماله، وإن لم يك نصابا لم يزك وممن قال بهذا القول الأوزاعي وأبو ثور وأبو حنيفة. وسبب اختلافهم تردد الربح بين أن يكون حكمه حكم المال المستفاد أو حكم الأصل، فمن شبهه بالمال المستفاد ابتداء قال: يستقبل به الحول، ومن شبهه بالأصل وهو رأس المال قال: حكمه حكم رأس المال، إلا أن من شروط هذا التشبيه أن يكون رأس المال قد وجبت فيه الزكاة، وذلك لا يكون إلا إذا كان نصابا، ولذلك يضعف قياس الربح على الأصل في مذهب مالك، ويشبه أن يكون الذي اعتمده مالك رضي الله عنه في ذلك هو تشبيه ربح المال بنسل الغنم، لكن نسل الغنم مختلف أيضا فيه، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي حول الفوائد، فإنهم أجمعوا على أن المال إذا كان أقل من نصاب واستفيد إليه مال من غير ربحه يكمل من مجموعهما نصاب أنه يستقل به الحول من يوم كمل. واختلفوا إذا استفاد مالا وعنده نصاب مال آخر قد حال عليه الحول، فقال مالك: يزكى المستفاد إن كان نصابا لحوله ولا يضم إلى المال الذي وجبت فيه الزكاة، وبهذا القول في الفوائد قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: الفوائد كلها تزكى بحول الأصل إذا كان الأصل نصابا، وكذلك الربح عندهم. وسبب اختلافهم هل حكمه حكم المال الوارد عليه أم حكمه حكم مال لم يرد على مال آخر؟ فمن قال حكمه حكم مال لم يرد على مال آخر: أعني مالا فيه زكاة. قال: لا زكاة في الفائدة، ومن جعل حكمه حكم الوارد عليه وأنه مال واحد قال: إذا كان في الوارد عليه الزكاة بكونه نصابا اعتبر حوله بحول المال الوارد عليه، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" يقتضي أن لا يضاف مال إلى مال إلا بدليل وكأن أبا حنيفة اعتمد في هذا قياس الناض على الماشية، ومن أصله الذي يعتمده في هذا الباب أنه ليس من شرط الحول أن يوجد المال نصابا في جميع أجزائه بل أن يوجد نصابا في طرفيه فقط وبعضا منه في كله؛ فعنده أنه إذا كان مال في أول الحول نصابا ثم هلك بعضه فصار أقل من نصاب ثم استفاد مالا في آخر الحول صار به نصابا أنه تجب فيه الزكاة، وهذا عنده موجود في هذا المال لأنه لم يستكمل الحول، وهو في جميع أجزائه مال واحد بعينه، بل زاد ولكن ألفى في طرفي الحول نصابا، والظاهر أن الحول الذي اشترط في المال إنما هو في مال معين لا يزيد ولا ينقص لا بربح ولا بفائدة ولا بغير ذلك، إذ كان المقصود بالحول هو كون المال فضلة مستغنى عنه وذلك أن ما بقي حولا عند المالك لم يتغير عنده فليس به حاجة إليه فجعل فيه الزكاة فإن الزكاة إنما هي في فضول الأموال. وأما من رأى أن اشتراط الحول في المال إنما سببه النماء فواجب عليه أن يقول: تضم الفوائد فضلا عن الأرباح إلى الأصول وأن يعتبر النصاب في طرفي الحول فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. ولذلك رأى مالك أن من كان عنده في أول الحول ماشية تجب فيها الزكاة ثم باعها وأبدلها في آخر الحول بماشية من نوعها أنها تجب فيها الزكاة، فكأنه اعتبر أيضا طرفي الحول على مذهب أبي حنيفة، وأخذ أيضا ما اعتمد أبو حنيفة في فائدة الناض القياس على فائدة الماشية على ما قلناه. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي اعتبار حول الدين إذا قلنا إن فيه الزكاة فإن قوما قالوا: يعتبر ذلك فيه من أول ما كان دينا يزكيه لعدة ذلك إن كان حولا فحول، وإن كان أحوالا فأحوال، أعني أنه إن كان حولا تجب فيه زكاة واحدة، وإن أحوالا وجبت فيه الزكاة لعدة تلك الأحوال. وقوم قالوا: يزكيه لعام واحد، وإن أقام الدين أحوالا عند الذي عنده الدين. وقوم قالوا: يستقبل به الحول. وأما من قال يستقبل بالدين الحول من يوم قبض فلم يقل بإيجاب الزكاة في الدين. ومن قال فيه: الزكاة بعدد الأحوال التي أقام فمصيرا إلى تشبيه الدين بالمال الحاضر. وأما من قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالا، فلا أعرف له مستندا في وقتي هذا، لأنه لا يخلو ما دام دينا أن يقول إن فيه زكاة أو لا يقول ذلك، فإن لم يكن فيه زكاة فلا كلام بل يستأنف به، وإن كان فيه زكاة فلا يخلو أن يشترط فيها الحول أو لا يشترط ذلك، فإن اشترطنا وجب أن يعتبر عدد الأحوال إلا أن يقول كلما انقضى حول فلم يتمكن من أدائه سقط عنه ذلك الحق اللازم في ذلك الحول، فإن الزكاة وجبت بشرطين: حضور عين المال، وحلول الحول، فلم يبق إلا حق العام الأخير، وهذا يشبهه مالك بالعروض التي للتجارة، فإنها لا تجب عنده فيها زكاة إلا إذا باعها وإن أقامت عنده أحوالا كثيرة، وفيه ما شبه بالماشية التي لا يأتي الساعي أعواما إليها ثم يأتي فيجدها قد انقضت فإنه يزكي على مذهب مالك الذي وجد فقط لأنه لما أن حال عليها الحول فيما تقدم ولم يتمكن من إخراج الزكاة إذ كان مجيء الساعي شرطا عنده في إخراجها مع حلول الحول سقط عنه حق ذلك الحول الحاضر وحوسب به في الأعوام السالفة كان الواجب فيها أقل أو أكثر إذا كانت مما تجب فيه الزكاة، وهو شيء يجري على غير قياس، وإنما اعتبر مالك فيه العمل. وأما الشافعي فيراه ضامنا لأنه ليس مجيء الساعي شرطا عنده في الوجوب، وعلى هذا كل من رأى أنه لا يجوز أن يخرج زكاة ماله إلا بأن يدفعها إلى الإمام فعدم الإمام، أو عدم الإمام العادل إن كان ممن شرط العدالة في ذلك أنه إذا هلكت بعد انقضاء الحول وقبل التمكن من دفعها إلى الإمام فلا شيء عليه. ومالك تنقسم عنده زكاة الديون لهذه الأحوال الثلاثة، أعني أن من الديون عنده ما يزكى لعام واحد فقط مثل ديون التجارة، ومنها ما يستقبل بها الحول مثل ديون المواريث. والثالث دين المدبر وتحصيل قوله في الديون ليس بغرضنا. @-(المسألة الخامسة) وهي حول العروض، وقد تقدم القول فيها عند القول في نصاب العروض. @-(وأما المسألة السادسة) وهي فوائد الماشية، فإن مذهب مالك فيها بخلاف مذهبه في فوائد الناض، وذلك أنه يبني الفائدة على الأصل إذا كان الأصل نصابا كما يفعل أبو حنيفة في فائدة الدارهم وفي فائدة الماشية، فأبو حنيفة مذهبه في الفوائد حكم واحد، أعني أنها تبنى على الأصل إذا كانت نصابا كانت فائدة غنم أو فائدة ناض، والأرباح عنده والنسل كالفوائد. وأما مالك فالربح والنسل عنده حكمهما واحد، ويفرق بين فوائد الناض وفوائد الماشية. وأما الشافعي فالأرباح والفوائد عنده حكمهما واحد باعتبار حولهما بأنفسهما، وفوائد الماشية ونسلها واحد باعتبار حولهما بالأصل إذا كان نصابا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة، وكأنه إنما فرق مالك بين الماشية والناض اتباعا لعمر، وإلا فالقياس فيهما واحد، أعني أن الربح شبيه بالنسل والفائدة بالفائدة، وحديث عمر هذا هو أنه أمر أن يعد عليهم بالسخال ولا يأخذ منها شيئا، وقد تقدم الحديث في باب النصاب. @-(المسألة السابعة) وهي اعتبار حول نسل الغنم، فإن مالكا قال: حول النسل هو حول الأمهات كانت الأمهات نصابا أو لم تكن كما قال في ربح الناض. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور: لا يكون حول النسل حول الأمهات إلا أن تكون الأمهات نصابا. وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في ربح المال. @-(وأما المسألة الثامنة) وهي جواز إخراج الزكاة قبل الحول، فإن مالكا منع ذلك وجوزه أبو حنيفة والشافعي. وسبب الخلاف هل هي عبادة أو حق واجب للمساكين، فمن قال عبادة وشبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع وقد احتج الشافعي لرأيه بحديث علي "أن النبي عليه الصلاة والسلام استسلف صدقة العباس قبل محلها".
- 3*(الجملة الخامسة فيمن تجب له الصدقة)
- 4*الفصل الأول في عدد الأصناف الذين تجب لهم الزكاة:
@-فأما عددهم فهم الثمانية الذين نص الله عليهم في قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية. واختلفوا من العدد في مسألتين: إحداهما هل يجوز أن تصرف جميع الصدقة إلى صنف واحد من هؤلاء الأصناف أم هم شركاء في الصدقة لا يجوز أن يخص منهم صنف دون صنف؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد أو أكثر من صنف واحد إذا رأى ذلك بحسب الحاجة. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك بل يقسم على الأصناف الثمانية كما سمى الله تعالى، وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى، فإن اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم، والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود به سد الخلة، فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء إنما ورد لتمييز الجنس أعني أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من جهة المعنى. ومن الحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن الصُّدائي أن رجلا سأل النبي ﷺ أن يعطيه من الصدقة، فقال له رسول الله ﷺ: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك". وأما (المسألة الثانية): فهل المؤلفة قلوبهم حقهم باق إلى اليوم أم لا؟ فقال مالك: لا مؤلفة اليوم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل حق المؤلفة باق إلى اليوم إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألفهم الإمام على الإسلام: وسبب اختلافهم هل ذلك خاص بالنبي ﷺ، أو عام له ولسائر الأمة؟ والأظهر أنه عام، وهل يجوز ذلك للإمام في كل أحواله أو في حال دون حال؟ أعني في حال الضعف لا في حال القوة، ولذلك قال مالك: لا حاجة إلى المؤلفة الآن لقوة الإسلام، وهذا كما قلنا التفات منه إلى المصالح.
- 4*الفصل الثاني في الصفة التي تقتضي صرفها إليهم:
@-وأما صفاتهم التي يستوجبون بها الصدقة ويمنعون منها بأضدادها: فأحدها الفقر الذي هو ضد الغنى لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} واختلفوا في الغني الذي تجوز له الصدقة من الذي لا تجوز، وما مقدار الغنى المحرم للصدقة. فأما الغني الذي لا تجوز له الصدقة فإن الجمهور على أنه لا تجوز الصدقة للأغنياء بأجمعهم إلا للخمس الذين نص عليهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغنى" وروي عن ابن القاسم أنه لا يجوز أخذ الصدقة لغني أصلا مجاهدا كان أو عاملا، والذين أجازوها للعامل وإن كان غنيا أجازوها للقضاة ومن في معناهم ممن المنفعة بهم عامة للمسلمين، ومن لم يجز ذلك فقياس ذلك عنده هو أن لا تجوز لغني أصلا. وسبب اختلافهم هو هل العلة في إيجاب الصدقة للأصناف المذكورين هو الحاجة فقط أو الحاجة والمنفعة العامة؟ فمن اعتبر ذلك بأهل الحاجة المنصوص عليهم في الآية قال: الحاجة فقط، ومن قال الحاجة والمنفعة العامة توجب أخذ الصدقة اعتبر المنفعة للعامل والحاجة بسائر الأصناف المنصوص عليهم. وأما حد الغنى الذي يمنع من الصدقة فذهب الشافعي إلى أن المانع من الصدقة هو أقل ما ينطلق عليه الإسم. وذهب أبو حنيفة إلى أن الغني هو مالك النصاب لأنهم الذين سماهم النبي عليه الصلاة والسلام أغنياء لقوله في حديث معاذ له فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإذا كان الأغنياء هم الذين هم أهل النصاب وجب أن يكون الفقراء ضدهم. وقال مالك: ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الإجتهاد. وسبب اختلافهم هل الغنى المانع هو معنى شرعي أم معنى لغوي؟ فمن قال معنى شرعي قال: وجود النصاب هو الغنى، ومن قال معنى لغوي اعتبر في ذلك أقل ما ينطلق عليه الإسم، فمن رأى أن أقل ما ينطلق عليه الإسم هو محدود في كل وقت وفي كل شخص جعل حده هذا، ومن رأى أنه غير محدود وأن ذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة والأزمنة وغير ذلك قال: هو غير محدود، وأن ذلك راجع إلى الإجتهاد. وقد روى أبو داود في هذا حديث الغنى الذي يمنع الصدقة عن النبي ﷺ أنه ملك خمسين درهما، وفي أثر آخر أنه ملك أوقية وهي أربعون درهما، وأحسب أن قوما قالوا بهذه الآثار في حد الغنى. واختلفوا من هذا الباب في صفة الفقير والمسكين والفصل الذي بينهما، فقال قوم: الفقير أحسن حالا من المسكين، وبه قال البغداديون من أصحاب مالك، وقال آخرون: المسكين أحسن حالا من الفقير، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه وفي قوله الثاني أنهما إسمان دالان على معنى واحد، وإلى هذا ذهب ابن القاسم، وهذا النظر هو لغوي إن لم تكن له دلالة شرعية. والأشبه عند استقراء اللغة أن يكونا اسمين دالين على معنى واحد يختلف بالأقل والأكثر في كل واحد منهما لا أن هذا راتب من أحدهما على قدر غير القدر الذي الآخر راتب عليه، واختلفوا في قوله تعالى {وفي الرقاب} فقال مالك: هم العبيد يعتقهم الإمام ويكون ولاؤهم للمسلمين وقال الشافعي وأبو حنيفة: هم المكاتبون وابن السبيل هو عندهم المسافر في طاعة ينفذ زاده فلا يجد ما ينفقه. وبعضهم يشترط فيه أن يكون ابن السبيل جار الصدقة. وأما في سبيل الله فقال مالك: سبيل الله مواضع الجهاد والرباط وبه قال أبو حنيفة. وقال غيره: الحجاج والعمار. وقال الشافعي: هو الغازي جار الصدقة، وإنما اشترط جار الصدقة لأن عند أكثرهم أنه لا يجوز تنقيل الصدقة من بلد إلى بلد إلا من ضرورة.
- 4*الفصل الثالث كم يجب لهم؟
@-وأما قدر ما يعطى من ذلك، أما الغارم فبقدر ما عليه إذا كان دينه في طاعة وفي غير سرف بل في أمر ضروري، وكذلك ابن السبيل يعطى ما يحمله إلى بلده، ويشبه أن يكون ما يحمله إلى مغزاه عند من جعل ابن السبيل الغازي. واختلفوا في مقدار ما يعطى المسكين الواحد من الصدقة، فلم يحد مالك في ذلك حدا وصرفه إلى الإجتهاد، وبه قال الشافعي قال: وسواء كان ما يعطى من ذلك نصابا أو أقل من نصاب. وكره أبو حنيفة أن يعطى أحد من المساكين مقدار نصاب من الصدقة. وقال الثوري: لا يعطى أحد أكثر من خمسين درهما. وقال الليث: يعطى ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال وكانت الزكاة كثيرة، وكان أكثرهم مجمعون على أنه لا يجب أن يعطى عطية يصير بها من الغنى في مرتبة من لا تجوز له الصدقة، لأن ما حصل له من ذلك المال فوق القدر الذي هو به من أهل الصدقة صار في أول مراتب الغنى فهو حرام عليه. وإنما اختلفوا في ذلك لاختلافهم في هذا القدر، فهذه المسألة كأنها تبنى على معرفة أول مراتب الغنى. وأما العامل عليها فلا خلاف عند الفقهاء أنه إنما يأخذ بقدر عمله، فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الكتاب، وإن تذكرنا شيئا مما يشاكل غرضنا ألحقناه به إن شاء الله تعالى.
- 2*كتاب زكاة الفطر:
@-والكلام في هذا الكتاب يتعلق بفصول: أحدها في معرفة حكمها، والثاني في معرفة من تجب عليه، والثالث كم تجب عليه، ومن ماذا تجب عليه، والرابع متى تجب عليه؟ ، والخامس من تجوز له؟ .
- 3*الفصل الأول في معرفة حكمها:
@-فأما زكاة الفطر، فإن الجمهور على أنها فرض، وذهب بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أنها سنة، وبه قال أهل العراق. وقال قوم: هي منسوخة بالزكاة. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك بأنه ثبت من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين. وظاهر هذا يقتضي الوجوب على مذهب من يقلد الصاحب في فهم الوجوب أو الندب من أمره عليه الصلاة والسلام إذا لم يحد لنا لفظه، وثبت أن رسول الله ﷺ قال في حديث الأعرابي المشهور وذكر رسول الله ﷺ الزكاة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. فذهب الجمهور إلى أن هذه الزكاة داخلة تحت الزكاة المفروضة، وذهب الغير إلى أنها غير داخلة، واحتجوا في ذلك بما روي عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: كان رسول الله ﷺ يأمرنا بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم نؤمر بها ولم ننه عنها ونحن نفعله.
- 3*الفصل الثاني في من تجب عليه وعن من تجب؟
@-وأجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها ذكرانا كانوا أو إناثا، صغارا أو كبارا، عبيدا أو أحرارا لحديث عمر المتقدم إلا ما شذ فيه الليث فقال ليس على أهل العمود زكاة الفطر، وإنما هي على أهل القرى ولا حجة له، وما شذ أيضا من قول من لم يوجبها على اليتيم. وأما عن من تجب؟ فإنهم اتفقوا على أنها تجب على المرء في نفسه، وأنها زكاة بدن لا زكاة مال، وأنها تجب في ولده الصغار عليه إذا لم يكن لهم مال، وكذلك في عبيده إذا لم يكن لهم مال واختلفوا فيما سوى ذلك. وتلخيص مذهب مالك في ذلك: أنها تلزم الرجل عمن ألزمه الشرع النفقة عليه، ووافقه في ذلك الشافعي. وإنما يختلفان من قبل اختلافهم فيمن تلزم المرء نفقته إذا كان معسرا ومن ليس تلزمه، وخالفه أبو حنيفة في الزوجة وقال تؤدي عن نفسها، وخالفهم أبو ثور في العبد إذا كان له مال، فقال: إذا كان له مال زكى عن نفسه ولم يزك عنه سيده، وبه قال أهل الظاهر والجمهور على أنه لا تجب على المرء في أولاده الصغار إذا كان لهم مال زكاة فطر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، وقال الحسن هي على الأب وإن أعطاها من مال الإبن فهو ضامن، وليس من شرط هذه الزكاة الغنى عند أكثرهم ولا نصاب بل أن تكون فضلا عن قوته وقوت عياله. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجب على من تجوز له الصدقة، لأنه لا يجتمع أن تجوز له وأن تجب عليه، وذلك بين والله أعلم، وإنما اتفق الجمهور على أن هذه الزكاة ليست بلازمة لمكلف، مكلف في ذاته فقط كالحال في سائر العبادات، بل ومن قبل غيره لإيجابها على الصغير والعبيد، فمن فهم من هذا أن علة الحكم الولاية قال: الولي يلزمه إخراج الصدقة على كل من يليه، ومن فهم من هذه النفقة قال: المنفق يجب أن يخرج الزكاة عن كل من ينفق عليه بالشرع. وإنما عرض هذا الاختلاف لأنه اتفق في الصغير والعبد، وهما اللذان نبها على أن هذه الزكاة ليست معلقة بذات المكلف فقط بل ومن قبل غيره إن وجدت الولاية فيها ووجوب النفقة، فذهب مالك إلى أن العلة في ذلك وجوب النفقة، وذهب أبو حنيفة إلى أن العلة في ذلك الولاية، ولذلك اختلفوا في الزوجة. وقد روي مرفوعا "أدوا زكاة الفطر عن كل من تمونون" ولكنه غير مشهور. واختلفوا من العبيد في مسائل: إحداها كما قلنا وجوب زكاته على السيد إذا كان له مال، وذلك مبني على أنه يملك أو لا يملك. والثانية في العبد الكافر هل يؤدي عنه زكاته أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: ليس على السيد في العبد الكافر زكاة. وقال الكوفيون: عليه الزكاة فيه. والسبب في اختلافهم اختلافهم في الزيادة الواردة في ذلك في حديث ابن عمر، وهو قوله من المسلمين، فإنه قد خولف فيها نافع بكون ابن عمر أيضا الذي هو راوي الحديث من مذهبه إخراج الزكاة عن العبيد الكفار. وللخلاف أيضا سبب آخر، وهو كون الزكاة الواجبة على السيد في العبد هل هي لمكان أن العبد يكلف أو أنه مال؟ فمن قال لمكان أنه مكلف اشترط الإسلام، ومن قال لمكان أنه مال لم يشترطه، قالوا: ويدل على ذلك إجماع العلماء على أن العبد إذا أعتق ولم يخرج عنه مولاه زكاة الفطر أنه لا يلزمه إخراجها عن نفسه بخلاف الكفارات. والثالثة في المكاتب، فإن مالكا وأبا ثور قالا: يؤدي عنه سيده زكاة الفطر. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: لا زكاة عليه فيه. والسبب في اختلافهم تردد المكاتب بين الحر والعبد. والرابعة في عبيد التجارة، ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن على السيد فيهم زكاة الفطر، وقال أبو حنيفة وغيره: ليس في عبيد التجارة صدقة. وسبب الخلاف معارضة القياس للعموم وذلك أن عموم اسم العبد يقتضي وجوب الزكاة في عبيد التجارة وغيرهم، وعند أبي حنيفة أن هذا العموم مخصص بالقياس، وذلك هو اجتماع زكاتين في مال واحد، وكذلك اختلفوا في العبيد وفروع هذا الباب كثيرة.
- 3*الفصل الثالث مماذا تجب؟
@-وأما مماذا تجب؟ فإن قوما ذهبوا ظغلى أنها تجب إما من البر أو من التمر أو من الشعير أو من الأقط، وأن ذلك على التخيير للذي تجب عليه، وقوم ذهبوا إلى أن الواجب عليه هو غالب قوت البلد أو قوت المكلف إذا لم يقدر على قوت البلد، وهو الذي حكاه عبد الوهاب عن المذهب. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث أبي سعيد الخدري أنه قال "كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله ﷺ صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من تمر" فمن فهم من هذا الحديث التخيير قال أيّا أخرج من هذا أجزأ عنه، ومن فهم منه أن اختلاف المخرج ليس سببه الإباحة وإنما سببه اعتبار قوت المخرج أو قوت غالب البلد قال بالقول الثاني. وأما كم يجب؟ فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يؤدي في زكاة الفطر من التمر والشعير أقل من صاع لثبوت ذلك في حديث ابن عمر، واختلفوا في قدر ما يؤدى من القمح، فقال مالك والشافعي: لا يجزئ منه أقل من صاع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجزئ من البر نصف صاع. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار، وذلك أنه جاء في حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: "كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله ﷺ صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب" وظاهره أنه أراد بالطعام القمح. وروى الزهري أيضا عن أبي سعيد عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: "في صدقة الفطر صاعا من بر بين اثنين أو صاعا من شعير أو تمر عن كل واحد" خرجه أبو داود. وروي عن ابن المسيب أنه قال: "كانت صدقة الفطر على عهد رسول الله ﷺ نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر". فمن أخذ بهذه الأحاديث قال: نصف صاع من البر، ومن أخذ بظاهر حديث أبي سعيد وقال البر في ذلك على الشعير سوَّى بينهما في الوجوب
- 3*الفصل الرابع متى تجب زكاة الفطر؟
@-وأما متى يجب إخراج زكاة الفطر؟ فإنهم اتفقوا على أنها تجب في آخر رمضان لحديث ابن عمر "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر من رمضان" واختلفوا في تحديد الوقت، فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر. وروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم رمضان، وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي. وسبب اختلافهم هل هي عبادة متعلقة بيوم العيد: أو بخروج شهر رمضان؟ لأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان، وفائدة هذا الاختلاف في المولود يولد قبل الفجر من يوم العيد وبعد مغيب الشمس هل تجب عليه أم لا تجب؟.
- 3*الفصل الخامس في معرفتها:
@-وأما لمن تصرف فأجمعوا على أنه تصرف لفقراء المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" واختلفوا هل تجوز لفقراء الذمة، والجمهور على أنها لا تجوز لهم، وقال أبو حنيفة: تجوز لهم. وسبب اختلافهم هل سبب جوازها هو الفقر فقط، أو الفقر والإسلام معا؟ فمن قال الفقر والإسلام لم يجزها للذميين، ومن قال الفقر فقط أجازها لهم، واشترط قوم في أهل الذمة الذين تجوز لهم أن يكونوا رهبانا، وأجمع المسلمون على أن زكاة الأموال لاتجوز لأهل الذمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم". بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما