بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الأول (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/كلمة المؤلف


كلمة المؤلف


قضت ظروف الأتراك العثمانيين بفتح يسير. فاكتفوا بالطاعة والضرائب. ولم ينتدبوا للقيام بمهام الحكم من أبناء جنسهم سوى أكبر كبراء الموظفين. فجاء فتحهم قليلاً ضعيفاً. وبقيت شؤون الأقطار الشامية في معظمها على ما كانت عليه قبل الفتح.

وانحاز اللبنانيون عن المماليك في أثناء الفتح، أو قبله، ومالوا إلى الأتراك. فنالوا بذلك امتيازات في الحكم لم يتمتع بها غيرهم من بين طوروس وسيناء. فكان على الولاة العثمانيين بعد ذلك أن يعترفوا بحكومة لبنانية تدير شؤون لبنان الداخلية بزعامة أمير لبناني معني ثم شهابي.

وكان للحكومة العثمانية أن تنحط سريعاً وتتدهور. وكان لحكامها في الولايات أن يضوا بكل ظاهرة من ظواهر الحكم، ما عدا العدل والأمن. وطمعوا في لبنان، ولاسيما في «بقاعه العزيز» فردوا على أعقابهم خائبين. ووقع أحدهم (مصطفى) أسيراً في مجدل عنجر. وفر غيره (كنج) من مركز ولايته دمشق، لدى وصول اللبنانيين إليها. وفاوض ثالث (درویش) صاغراً.

ونزعت نفس فخر الدين الثاني إلى الاستقلال التام. وفاوض في ذلك واستعد له. ولكن الحظ لم يسعده، فباء بالفشل. ولم تسمح ظروف الشهابيين الداخلية بشيء من الاهتمام بالاستقلال قبل أيام بشير الثاني. ورأى هذا الشهابي الكبير بثاقب نظره أن لا فائدة ترتجى من الأتراك العثمانيين وسلطنتهم، ولمس في الوقت نفسه عبقرية محمد علي لمس اليد، فاتصل به في مصر وفاوضه في تحالف لا نزال نجهل تفاصيله حتى ساعتنا هذه، ثم خرج الاثنان معاً على السلطان وتعاونا تعاوناً وثيقاً. وكان لبنان آنئـذٍ يقدم إلى ساحات الوغى أكبر العناصر العسكرية المحلية عدداً، وأشدها بأساً، وأحذقها يداً في استعمال السلاحين الناري والأبيض. فرجحت كفة العزيز في سورية وفلسطين وتوابعها في أثناء الحرب الأولى بين العزيز والسلطان. وتمكن العزيز، بفضل الشهابي ورجاله، من إخماد الثورات في فلسطين، وفي الأردن، ومناطق عكار، والعلويين.

ثم التبس على العزيز وجه الصواب، فتدخل في شؤون اللبنانيين. وطلب منهم سلاحهم ثم أبناءهم للخدمة في جيشه. فرأوا في هذين الأمرين محاولة جدية لسلب حرياتهم. فنفروا منه وأذاقوه الأمرين في حوران أولاً، ثم في وادي التيم، فكسروان، والمتن. وتدخلت الدول، واضطر محيي مصر بعد ذلك إلى أن يعود إلى بلاده، وأن ينكمش على نفسه فيها.

وخسر لبنان بشيره الثاني. ودخل في دور من الفوضى لم ينته قبـل السنة ١٨٦١. ولكنه دافع عن الحرية، والكرامة، والصدق، والأمانة، بخروجه مع العزيز على السلطان أولاً؛ ثم بصموده في وجه العزيز نفسه وإكراهه على العودة إلى مصر. وحافظ بعمله هذا على حرمة الشخص البشري، على هذه الأنسنة التي لا يزال يباهي بها حتى يومنا هذا.

أسد رستم