بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/19



فصل

قد ذكر ابو عبد الله الرازي في نهاية العقول له لمثبتي الجهة حججا أخرى فنذكر هنا أيضا ما ذكره من الجانبين في الكتابين فقال واحتج مثبتو الجهة بأمور اربعة أولها أنا نعلم بالضرورة ان كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد وأن يكونا متباينين وتعلم بالضرورة أن التباين بين الشيئين لا يخلو عن احد الوجوه الثلاثة التباين بالحقيقة او بالزمان او بالمكان واذا ثبت ذلك فنقول التباين بين الباري تعالى وبين العالم لا يمكن ان يكون بالحقيقة او بالزمان او بهما فقط لأن الجوهر يباين العرض الحال فيه بالحقيقة وبالزمان وكذلك العرضان الحالان في محل واحد قد تباينا تباينا بالحقيقة والزمان مع أنا نعلم بالضرورة أن بين الباري وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر وما حل فيه وبين العرضين الحالين في المحل الواحد اذ لا بد من زيادة بيان على هذين القسمين ولا ثالث يعقل الا التباين بالمكان فوجب أن يكون التباين بين الباري تعالى وبين العالم بالمكان وذلك يقتضي كون الباري تعالى في الجهة

ثم قال والجواب عما تمسكوا به اولا أن المحل مباين للحال في الحقيقة والزمان ولكن أحدهما حال في الآخر محل له ويشتركان أيضا في الحدوث والامكان والحاجة الى المؤثر وأما الباري تعالى كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالا فيه ولا محلا له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والامكان والحاجة فلما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري تعالى وبين العالم اتم من الاختلاف بين الحال وبين المحل فاذا ادعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع

قلت وهذه الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم من بعض الوجوه والكلام على هذا من وجوه

أحدها ان هذا الذي ذكره من الجواب تقرير لحجة المنازع وتوكيد لها ليس بجواب عنها ومثل هذا يفعله هذا وامثاله في مواضع قال تعالى أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين قالوا هي المرأة لا تتكلم بحجة لها الا كانت عليها وهؤلاء فيهم من التخنث بمشابهتهم المشركين الذين قال الله إن يدعون من دونه إلا إناثا وان يدعون إلا شيطانا مريدا ما شابهوا به النساء وكذلك ان حجة المنازع مبنية على مقدمات احداهن ان الله مباين للعالم والثانية ان المباينة ليست بالحقيقة او الزمان أو المكان والثالثة أن مباينته للعالم أعظم من أن يكون بمجرد الحقيقة او الزمان واذا اثبتت هذه المقدمات لزم أن يكون مباينا له بالمكان

ويظهر ذلك بنظم ذلك في قياسين أحدهما ان يقال الباري مباين للعالم وكل مباين لغيره فلا بد وأن يكون مباينا بالحقيقة او الزمان او المكان فينتج ان الباري سبحانه لا بد أن يكون مباينا للعالم بالحقيقة او الزمان أو المكان ثم يقال ومباينته للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان وكل مباينة ليست بمجرد الحقيقة والزمان فلا بد أن تكون بالمكان فينتج أنه لا بد من المباينة بالمكان

اذا تبين نظم الدليل فقولهم الباري مباين للعالم لا منازعة فيه وقد ذكروا ان ذلك معلوم بالضرورة في كل موجودين قائمين بأنفسهما ولم ينازعهم في ذلك وقولهم كل مباين لغيره فلا بد وأن تكون مباينته بأحد الوجوه الثلاثة قد ذكروا أن ذلك معلوم بالضرورة قالوا ويعلم بالضرورة أن التباين بين الشيئين لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاثة التباين بالحقيقة أو بالزمان أو بالمكان وقد سلم لهم ذلك ولم ينازعهم فيه فاثبتوا بذلك أن الباري لا بد أن يكون مباينا للعالم بالحقيقة أو الزمان أو المكان

وأما القياس الثاني قولهم مباينته ليست بمجرد الحقيقة والزمان أثبتوا ذلك بأن قالوا المباينة بالحقيقة وبالزمان بين الحال والمحل وبين الحالين في المحل مع أنا نعلم بالضرورة أن بين الباري وبين العالم من التباين ما ليس بين المحل والحال فيه وبين الحالين في المحل والمحل هو الجوهر والحال فيه هو العرض واذا كان التباين الذي بينه وبين العالم زائدا على تباين هذين وهذان متباينان بالحقيقة وبالزمان لم يكن التباين بينه وبين العالم بمجرد الحقيقة والزمان فانه اذا كانت مباينته للعالم أعظم من مباينة المباين لغيره بالحقيقة والزمان لم تكن من جنسها وهذا بين فانه اذا كانت حقيقة المباينة بمجرد الحقيقة والزمان لم يمتنع أن يكون أحدهما حالا في الآخر او يكونان جميعا حالين في محل واحد وهذا تقوله الحلولية من الجهمية فان القائل اذا قال الباري مباين للعالم وهو مع هذا حال فيه أو محل له ومباينته له بانه قبله وأن حقيقته تخالف حقيقته كما يباين الجوهر العرض والعرض الجوهر لم تكن المباينة بالحقيقة والزمان مانعة من هذه المحايثة فاذا كانت المحايثة منتفية لم يكن بد من اثبات مباينة تتقي هذه المحايثة والمباينة بالحقيقة والزمان لا تنفي المحايثة

ولهذا لما زعم الجهمية أنه ليس مباينا بالمكان اضطربوا بعد ذلك فقال جمهور علمائهم لا هو محايث للعالم ولا هو خارج عنه وقال كثير من عامتهم وعبادهم وعلمائهم بل هو محايث فانه اذا ارتفعت المباينة بالمكان لم يبق الا المحايثة ولا ريب أن قول هؤلاء اقرب الى المعقول لكنه اقرب الى العقل ابتداءا حيث جعلوه موجودا محاثيا للعالم لكنه أعظم تناقضا وجهلا من وجه آخر فان ما به نفوا أن يكون على العرش هو أعظم نفيا لكونه محايثا للعالم ولأن في كونه في نفس المخلوقات من الكفر والضلال ما فيه شناعة تزيد على النفي المطلق الذي لا يفهم بحال وأيضا فالأدلة الدالة على أنه فوق العالم وأنه مباين للعالم تمنع المحايثة أيضا

والمقصود هنا أنهم اذا لم يثبتوا الا المبيانة بالحقيقة أو بالزمان لم يكن العلم بهذه المباينة مانعا من جواز المحايثة عليه لأن العرض والجوهر بينهما تباين بالحقيقة وبالزمان مع تحايثهما وهذا قد اتفقوا على نفيه وقد ذكروا انهم يعلمون بالاضرار ان بين الباري تعالى وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر والعرض الحال فيه وهذا بين اذ لولا زيادة التباين لجاز أن يكون العالم كالعرض في الخالق والخالق جواهر قائمة بنفسها أو يكون الخالق كالعرض القائم بالجوهر ومعلوم أن هذا أشد استحالة باتفاق العقلاء فان الباري قائم بنفسه وهو المقيم لكل قائم فضلا عن أن يكون كالعرض في الجوهر والعالم جواهر قائمة بانفسها فثبت بذلك أن مباينته للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان واذا ثبت ذلك فالمقدمة الثانية وهو أن المباينين الذين ليس تباينهما بمجرد الحقيقة والزمان فلا بد أن يكونا متباينين بالمكان وقد تقدمت وتقدم ما ذكر وسلم فيها من العلم الضروري

اذا تبين ما ذكره من حجتهم فقوله في الجواب ان المحل مباين للحال في الحقيقة والزمان ولكن احدهما حال في الآخر والآخر محل له ويشتركان ايضا في الحدوث والامكان والحاجة الى المؤثر كلام صحيح لكن مضمونهما أنهما مع التباين بالحقيقة والزمان متحايثان مشتركان في الحيز وفي أمور أخرى وهي الحدوث والامكان والحاجة الى المؤثر وهذا الكلام انهما مع هذا التباين متحايثان ومشتركان ومجتمعان في أمور اخرى فتكون المباينة بينهما دون المباينة بين العالم والباري وهكذا قال القوم انا نعلم بالضروة ان بين الباري سبحانه

ومن العالم من التباين ما ليس بين الجوهر الذي هو المحل وبين ما حل فيه فما ذكره تقرير لذلك

وقوله واما الباري كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالا فيه ولا محلا له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والامكان والحاجة فلما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري تعالى وبين العالم أتم من الاختلاف بين الحال والمحل فيقال له هذا توكيد لما قالوه لأنهم ذكروا أن مباينة الباري تعالى أتم فانه غير محايث اذ ليس هو حالا في العالم ولا محلا له بخلاف الجوهر والعرض واما عدم المشاركة في الحدوث فيعود الى المباينة بالزمن فان القديم قبل المحدث والى المباينة بالحقيقة فان حقيقة القديم مخالفة لحقيقة المحدث وأما عدم المشاركة في الامكان والحاجة الى المؤثر فيعود الى المباينة بالحقيقة فان الواجب بنفسه الغنى عن غيره حقيقته مخالفة لحقيقة الممكن في نفسه المفتقر الى غيره فهذا الذي ذكره مضمونه أن مباينة الباري أتم من مباينة الجوهر للعرض لأنه مع المخالفة بالحقيقة وبالزمان غير محايث وهكذا قال القوم ان مباينة العالم أزيد من مباينة الجوهر للعرض فهذا الكلام تقرير لمقدمة من مقدمات دليلهم

وقوله بعد ذلك فاذا ادعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع يقال أولا ليس هذا جوابا للقوم فانك لم تمنعهم شيئا من مقدمات دليلهم ولا عارضتهم ولكن ذكرت كلاما اجنبيا وذكرت أنهم ينازعونك في المباينة بالمكان ولا ريب أنهم ينازعونك في ذلك لكن قد أقاموا حجة ولم تمنع شيئا من مقدماتها ولكن حكيت مذهبك وحكاية المذهب ليست جوابا لم احتج على بطلانه

ثم يقال لم يدعوا ثبوت التباين من غير هذه الوجوه لكن قالوا هذا التباين الذي ثبت بعدم المحايثة وهو أحد الوجوه يستلزم أن يكون بالمكان أو قالوا ان التباين الثابت بهذه الوجوه يجب أن يكون بالمكان أو قالوا ان التباين الثابت بهذه الوجوه لا يجوز ان يكون بمجرد الحقيقة او الزمان فتعين كأن يكون بالمكان اذ لم يبق قسم ثالث

وأيضا فلا ريب أن التباين حاصل بغير هذه الوجوه فانه قد قرر في غير هذا الموضوع ما هو القول الحق وهو أن حقيقة الله غير معلومة للبشر وأنه مخالف لخلقه بحقيقته الخاصة وليست هي ما علمه الناس من قدمه ووجوبه وغناه فهو أيضا مباين للعالم بحقيقته الخاصة الخارجة عما ذكره والتحقيق أنه مباين للعالم بأمور كثيرة لا يحصيها العباد غير ما ذكره ولا ينظر الى من ينازع من أهل العلم في أخص وصف الله الذي به يميز هل هو القدرة على الخلق أو هو الاستغناء او القدم أو أنه ذاته المخصوصة بل كل ما ثبت للرب تعالى من الأسماء والصفات يختص به مثل انه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشاء لم يكن وأنه أرحم الراحمين وأنه خير الناصرين وأنه اذا أراد شيئا قال له كن فيكون وكل هذه الأمور وغيرها من أخص وصفه ليست له صفة يماثله غيره فيها بوجه من الوجوه بل كل صفة له فانها تختص به وتوجب امتيازه بها عن خلقه ولكن ليس هذا موضع ذكر ذلك فان مباينة الله لخلقه بالحقيقة مما لا نزاع فيه وكذلك تقدمه على خلقه

وانما المقصود أنه المباين مباينة زائدة على المباينة بالحقيقة وعلى المباينة بالزمان والمخالفة بينه وبين الخلق أتم من الاختلاف بين الحال وبين المحل وهو قرر ذلك مع أن هذين يتباينان بالحقيقة كما تقدم واذا كانوا القوم بينوا انما ذكره من التباين يستلزم التباين بالمكان والزمان لأن هذه يشاركه فيها المحل والحال فيه

وهذه المباينة لا تمنع أن يكون أحدهما حالا في الآخر فلا بد من المباينة بشيء غير ذلك وليس غير ذلك الا المباينة بالمكان والزمان فاذا كانت المباينة بينه وبين خلقه ليست مجرد الحقيقة والزمان وكان قد قرر هذا التباين كان ما ذكره توكيدا لحجتهم

الوجه الثاني أن قوله وأما الباري كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالا فيه ولا محلا له ولا بينهما مشاركة في الامكان والحدوث والحاجة فيقال له قولك ليس بحال ولا محل سلب محض والأمور السلبية لا تتباين بها الحقائق ولا تختلف ولا تتماثل الا أن تكون مستلزمة لأمور وجودية لأن المتماثلين ما قام بأحدهما من الأمور الوجودية مثل ما قام بالآخر والخلافين اختص احدهما بأمور وجودية خالف بها الآخر اذ عدم ما به التماثل والاختلاف مستلزم لعدم التماثل والاختلاف فعدم كونه حالا ومحلا لم يستلزم أمرا وجوديا يحصل به مخالفة وقد علم أنه لا يستلزم الاختلاف في الحقيقة وفي الزمان لان المتماثلين في الحقيقة والزمان قد لا يكون أحدهما حالا في الآخر ولا محلا له كالجسمين المتماثلين

وأيضا فهو قد ذكر أن هذا من المباينة الزائدة على المباينة بالحقيقة والزمان والأمر كذلك واذا كان الأمر كذلك وعدم كونه حالا او محلا هو عدم المحايثة والمباينة فعدم المحايثة مع المباينة بالحقيقة والزمان اذا كان مستلزما لأمر وجودي لم يكن الا المباينة بالجهة وهذا يتقرر بوجهين أحدهما أنه لم تبق مباينة وجودية بعد المباينة بالحقيقة والزمان الا المباينة بالمكان كما تقدم والثاني أن عدم المحايثة يستلزم المبيانة اذ لا يعقل الا متحايثان او متباينان كما تقدم قبل هذا

الوجه الثالث قوله اذا ادعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع يقال له هم قالوا التباين بالوجوه الزائدة على الحقيقة والزمان لا تكون الا بالمكان وقد قرروا ذلك لم يقولوا بالتباين من غير هذه الوجوه حتى يقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان بل قولهم ان هذا التباين الذي سلمه هو الذي هو زائد على الحقيقة والزمان هو مستلزم التباين بالمكان واذا لم يكن لهم حاجة الى ثبوت التباين من غير هذه الوجوه التي سلمها تبين ان هذا الجواب فاسد

الوجه الرابع ان يقال التباين بين الله سبحانه وتعالى وبين العالم هو باكثر مما ذكرته فانه مباين للعالم بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وبأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك من الصفات ومباين العالم بقدرته وعظمته وعلوه وكبريائه وهذه الأمور ليست مباينة بالزمان فاما ان أن يقول هي من التباين بالحقيقة أولا يقول فان قال هي التباين بالحقيقة فالمباينة بوجوبه وقدمه وغناه أولى أن يكون من التباين بالحقيقة فيبطل ما ذكره من كون تلك المباينات زائدة على التباين بالحقيقة وان لم يقل هي من التباين بالحقيقة فقد ثبت تباين زائد على ماذكره فأحد الأمرين لازم اما زيادة على ما ذكره او انحصار ما ذكره غير المحايثة في الحقيقة والزمان وقد علم أن التباين بين الباري والعالم أزيد من التباين بالحقيقة والمحل وزعم أنها بهذه الأمور دون غيرها وقد تبين أن هذه الأمور هي كغيرها فلا يكون ما ذكره من الجواب عن تلك الحجة صحيحا

الوجه الخامس أن قوله وأما الباري تعالى كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالا فيه ولا محلا له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والامكان والحاجة لهما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري وبين العالم أتم من الاختلاف بين الحال وبين المحل يقال له أما عدم المشاركة في الحدوث والامكان والحاجة فمرجعها الى ثبوت الوجوب والى القدم وذلك لا يخرج عن المخالفة بالحقيقة او الزمان كما تقدم وأما كونه ليس حالا فيه ولا محلا له فيقال له ان أردت بهذا أنه مباين عنه بالجهة والمكان فهو المطلوب وأن أردت بذلك أنه ليس حالا ولا محلا ولا مباينا بالجهة فهذا غير معقول ولا متصور فاما أن يقول انه معقول والمنازع مكابر فهم يحلفون الايمان المعلطة أن هذا غير معقول لهم وهم أمم عظيمة وفيهم من الصدق والديانة ما يمنع أقدامهم على الكذب ولقد خاطبت بهذا طوائف مع ذكائهم وصحة فطرتهم فلم يكن فيهم من يتصور ذلك او يعقله وان ادعيت انه معقول لطائفة دون طائفة فهذا لا يستقيم عندك لاشتراك الناس في المعقولات وان قيل ان ذلك لاختصاص بعضهم زيادة ذكاء او فطنة فمعلوم أن هذا لا يختص به أهل هذا القول دون ذاك بل الاستقراء يدل على أن المنازعين له أكمل عقولا وأحد اذهانا واوضح ادراكا وأقل تناقضا وأقل ما يمكن أن تقابل دعواه بمثلها

الوجه السادس أن يقال هب أن هذا معقول وممكن امكانا ذهنيا فما الدليل على انه ليس بحال في محل ولا محياثا للعالم اذا قلت انه ليس بخارج العالم فان المنازع لك يقول نفي كونه محايثا للعالم انما علم بأنه مباين للعالم بالجهة فاذا قدر أنه غير مباين للعالم الا بالحقيقة والزمان دون الجهة لهذا القدر لا يمنع أن يكون حالا في العالم او محلاله كالجوهر مع عرضه فان تباينهما بالحقيقة والزمان لا يمنع ذلك من تحايثهما فلا بد لك من دليل يبين عدم محايثة العالم اذا اثبت مباينته بالجهة وانت لم تذكر على ذلك حجة حتى يتم ما ذكرته من المباينة فان قلت المنازع سلم لي ذلك فهو انما سلم عدم المحايثة التي هي المبيانة بالجهة فاما نفي المحايثة من غير مباينة بالجهة فهذا عند المنازع غير معقول ولا هو حقا عنده فهو لا يسلم لك عدم المحايثة على هذا التقدير ولم تذكر عليها حجة فلا يكون ما ذكرته من المباينة ثابتا بحجة ولا تسليم فلا يصح في النظر ولا المناظرة

الوجه السابع أن يقال هذا الموضع من اصعب المواضع على الجهمية فانهم لما نفوا مباينته للعالم بالجهة ذهب بعضهم الى عدم محايثته أيضا كما ذكره هذا وهو المشهور من قول متكلميهم وذهب بعضهم الى محايثته للعالم وانه بكل مكان وهو قول كثير من عبادهم وبعض متكلميهم فتعارض كل طائفة بقول الأخرى فان قال مثبتوا المحايثة للعالم لا أعقل موجودا لا داخل العالم أو خارجه وليس بخارجه فيكون داخله وهذا معنى حجة طائفة من الجهمية الاتحادية ونحوهم يقال له اذا لم تعقل موجودا الا كذلك دل على أنه اما خارج العالم واما داخله لا يتعين أن يكون داخله وكونه ليس بخارج العالم انما اثبت بهذه الحجة ونحوها فاذا كنت طاعنا فيها كطعن اهل الاثبات بطل اصل قولك ولم يكن لك بعد هذا ان تنفي كونه خارج العالم

وامانا في المحايثة للعالم مثل الرازي ونحوه فقد احتجوا على كونه ليس بحال في محل بما ذكره الرازي في نهايته فقال المسألة الثالثة في أنه لا يمكن أن يكون حالا في محل ولنا فيه مسالك ثلاثة الأول لو حل في محل لكان اما أن يحل في أكثر من حيز واحد أو يحل في حيز واحد وساق الحجة مختصرة ومضمونها أن الأول يستلزم أن يكون منقسما أو يكون الواحد في حيزين الثاني يستلزم أن يكون بقدر الجوهر الفرد وقد تقدم الكلام على هذه الحجة بعينها في نفي التحيز المسلك الثاني لو حل في جسم فاما أن يقال انه أبدا كان حالا فيه فيلزم اما قدم المحل أو حدوثه وهما باطلان او يقال حل بعد ان لم يكن حالا فيه وحينئذ اما أن يكون واجبا او جائزا فان كان واجبا فذاك الوجوب اما أن يكون للمحل او للحال او الثالث والاول باطل لأن الأجسام متساوية في الماهيةخ وجميع اللوازم على ما مر فلو اقتضى شيء منها حلول الله فيه لاقتضى الآخر مثل ذلك فيلزم أن يحل الباري في كلها فيلزم اما انقسام ذاته او حلول واحد في اكثر من محل وأنهما محلان والثاني باطل ايضا لأن اقتضاء الحلول ان لم يكن بشرط حدوث المحل كان حالا في المحل قبل حدوث المحل وهذا محال وان كان بشرط حدوثه فعند حدوث الجواهر الكثيرة لم يكن بأن يحل في واحد منها أولى بأن يحل في غيره فيعود المحال المذكور والثالث أيضا باطل لأن ذلك الثالث أن كان لازما للحال أو المحل عادت المحالات وان لم يكن لازما لها فهو اما موجب واما مختار والموجب لا بد وأن يكون لا جسما ولا جسمانيا والا فليس اختصاصه بهذا الاقتضاء اولى من الاختصاص بسائر الأجسام بل يكون الجسم الذي هو محل اولى بذلك ويعود المحال وان لم يكن ذلك الموجب جسما ولا جسمانيا فليس بأن يقتضي حلول الله في بعض الجواهر أولى من أن يقضي حلوله في غيره فيلزم أن يحل في كل الجواهر فيعود المحال

وأما ان كان مختارا فذلك المختار لا بد وأن يفعل فعلا والا لما افترق الحال بين ما قبل الحلول وبين ما بعده وذلك الفعل لا بد وأن يكون هو الحلول او ما يقتضي الحلول لكن حلول الشيء في غيره ليس أمرا وجوديا حتى يصح أن يجعل اثرا للفاعل او موجودا لأن حلول الشيء في الشيء لو كان صفة موجودة لكانت تلك الصفة أيضا حالة في الشيء الذي صار حالا فيه فيكون حلول الحلول زائدا عليه ولزم التسلسل فثبت أن القول بحلول الله في غيره يفضي الى أقسام فاسدة فيكون القول به فاسدا فليس في النسخة ذكر القسم الآخر وهو أن يكون جائزا فلا أدري هل سقط من النسخة أم من التصنيف ولكن ما ذكره يدل على نظيره

وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام وقد تقدم بيان فساده من وجوه كثيرة ومبنية على امتناع ما سماه انقساما وقد تقدم أيضا بيان فساده وقوله عند حدوث الجواهر الكبيرة لم يكن بأن يحل في واحد منها أولى من أن يحل في غيره فهذا مبني على تماثل الأجسام وقد تقدم وبتقدير تماثلها فهو مبني على أن الرب لا يخص أحد المثلين لمجرد مشيئته وهذا خلاف أصله وأيضا فان تخصيص بعض الأجسام ببعض الصفات أمر موجود فان كل هذا قبل عدم تماثلها وان كان التخصيص بعد التماثل فقد ثبت جواز تخصيص أحد المثلين بما يحل فيه وعلى التقديرين يبطل ما ذكره من القسم الثاني وكذلك ما ذكره في القسم الثالث من أنه ليس اقتضاء المقتضى للحلول في بعض اولى من الحلول في بعض يرد عليه هذه الوجوه الثلاثة

وما ذكره من التخصيص باختيار المختار من أن المختار لا بد وأن يفعل فعلا والحلول ليس بأمر وجودي فهو ابطل من غيره فان هذا لو صح لم يمتنع عليه الحلول في غيره فانه لا يمتنع عليه أن يكون بينه وبين المخلوقات تعلقات غير وجودية وأيضا لو صح ذلك لكان التحيز والعلو على العرش ونحو ذلك أمورا عدمية وبطل نفي ذلك عنه لأن وصفه بالسلوب متفق عليه بين العالمين وأيضا فلو كان ذلك أمرا عدميا لكان نقيضه وجوديا فكان عدم الحلول أمرا وجوديا ولو كان أمرا وجوديا لم يصح أن يكون صفة المعدوم ومن المعلوم أن المعدوم يوصف بأنه ليس حالا في غيره وليس غيره حالا فيه وذلك يمنع أن يكون سبب الحلول وجوديا ويقتضي أن الحلول وجودي

وأما قوله لو كان وجوديا لكانت الصفة حالة في الشيء ولكان للحلول حلول وهو يقتضي التسلسل فيقال الأول هو حلول الشيء القائم بنفسه والثاني حلول الصفة بالموصوف فهذا من باب حلول الاجسام في محالها وهذا من باب حلول الاعراض في الأجسام وأحد النوعين مخالف للآخر وذلك لا يقتضي أن يكون لحلول الصفة بالموصوف حلول فيها لأن العرض لا يقوم بالعرض

ثم قال المسلك الثالث وهو أنه تعالى ان كان محتاجا الى ذلك المحل كان ممكنا لذاته لأن المحتاج الى الغير ممكن لذاته ولكان ذلك المحل غنيا عنه فكان واجبا لذاته او لشيء آخر غيره فيلزم وجود موجودين ولمعنى الوجود وهو محال وان لم يكن محتاجا الى ذلك المحل كان غنيا عنه والغنى بذاته عن المحل يستحيل أن يعرض له ما يحوجه الى المحل لأن العرضيات لا تزيل الصفات الذاتية قال وفي هذا المسلك مباحث وهو أعم من المسلكين السالفين لأنهما ينفيان حلول الله في الجسم وهذا المسلك ينفي حلوله في المحل سواء كان ذلك المحل جسما او غير جسم

قلت وهذا المسلك ان دل فانما يدل على أنه لا يحل في محل على طريق الحاجة اليه وأما الحلول على غير طريق الحاجة فلا ينفيه هذا المسلك فكيف وليس بمستقيم فان قوله ولكان ذلك المحل غنيا عنه ليس بلازم اذ الممكن لن يكون وجوده مستلزما لمحل يكون ذلك المحل محتاجا اليه وواجب به لا بنفسه فلا يكون فيما يسميه حاجة الى ذلك المحل ما ينافي وجوبه بنفسه لأن الحاجة هنا معناها الملازمة كما يقوله في صفاته اللازمة وأيضا فهو قدح في الحجة المانعة من وجود واجبين

وقد تقدم الكلام على هذا مبسوطا وان لهذا الكلام ثلاثة أوجه أحدها ان يكون ذلك المحل داخلا في صفات الرب كما تقدم بيان ذلك في لفظ الحيز والنزاع في كونه في المحل لا يعني به هذا الثاني انه يراد بالمحل ما اراده هو بالحيز المنفصل عنه وقد زعم هو في موضع انه وجودي والتحقيق انه عدمي الوجه الثالث انه لو قدر انه وجودي فالمقصود هنا ان استلزام ذاته لذلك المحل لا ينافي وجوبه لذاته ولا يقتضي انه ممكن مفتقر اليه فان المتفلسفة القائلين بأن ذاته تستلزم لوجود العالم يعلمون أن ذلك لا ينافي وجوب وجوده بنفسه فهذا أولى وان كان انتفاء هذا المحل معلوما بأدلة اخرى عقلية او سمعية لكن المقصود بيان أنما ذكره ليس بدليل فاذا تبين انه ليس لهم حجة صحيحة تنفي حلوله في المحل اذا قالوا ليس مبانيا للعالم بالجهة كان قولهم حينئذ ليس هو حالا في العالم ولا العالم محلا له اذا لم يقولوا بكونه مباينا العالم قولاا بلا علم ولا حجة فلا يكون مقبولا وكذلك يقتضي انهم لا يثبتون له في المباينة قدرا زائدا على المباننة بالحقيقة والزمان وان كل من قال انه ليس بخارج العالم لم يثبت مباينة زائدة على المباينة التي يشاركها فيه المحل والحال فيه وهذا معلوم الفساد بالضرورة كما تقدم

الوجه الثامن أن اخوانهم الجهمية الموافقون لهم على نفي كونه خارج العالم اذا قالوا لهم هو في كل مكان وحال في كل مكان لم يمكنهم نفي ذلك عنه بهذه الحجج كما تقدم وأولئك اذا قالوا هو في كل مكان لم يمكنهم الاحتجاج على ذلك بما نفي كونه خارج العالم وكان قول طائفة من الطائفتين مانعا من صحة قول الآخرين وذلك يقتضي بطلان قول الطائفتين وبطلانهما جميعا يوجب أن يكون خارج العالم

وايضاح ذلك أن من يقول في كل مكان يجعله مقدرا محدودا بقدر العالم فجميع ما يحتج به على نفي كونه فوق العرش ينفي أن يكون بكل مكان بطريق الأولى والأحرى لأن في هذا القول من وصفه بالصفات الممتنعة عليه وتجويز النقائص عليه وقبوله للزيادة والنقصان وغير ذلك ما ليس في كونه خارج العالم ومن قال انه ليس داخل العالم ولا خارجه اما أن يثبت مباينته للعالم بقدر زائد على المباينة بالحقيقة والزمان او لا يثبته فان اثبت المباينة الزائدة وجب أن يكون مباينا للمكان وان لم يثبتها لم يمكنه نفي حلوله في العالم مع مبيانته بالحقيقة والزمان اذ لا يكون له حجة على نفي حلوله في العالم كما تقدم وهذا باطل وما استلزم الباطل فهو باطل وان قال هو داخل العالم وهو خارجه ايضا كما يقوله بعض الناس فانه يرد عليه كل ما يورد على من قال هو خارج العالم سواء قال هو جسم مع ذلك او ليس بجسم

فقد تبين أن من قال إن الله ليس خارج العالم يلزمه أن لا يكون الله مباينا للعالم منفصلا عنه وهذا باطل عند المنازع ونحوه ومن التزمه وقال بالحلول كان ما يلزمه من الفساد والتناقض اكثر مما يلزم خصمه فيكون قوله من أبطل الباطل وابطال قول هؤلاء زيادة زدناها اذ هو لم يتعرض لذلك هنا وانما أفرد له مسألة ولهذا كان الأئمة كابن المبارك والامام أحمد واسحاق بن ابراهيم وغيرهم يقولون إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ويقولون بجد(؟) لأن نفي المباينة لخلقه يستلزم حلوله فيهم واتحاده بهم

وأما نفي المباينة ونفي المحايثة فانه جمع بين النقيضين من جنس كلام الملاحدة الذين يقولون ليس بعالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز اذ كلام هؤلاء النفاة كله من واد واحد هو الالحاد في اسماء الله وآياته بالقرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه وبالسفسطة في العقليات بدعوى عدم النقيضين او دعوى اجتماعهما لكن فيهم من يلحد في أمور يقر الآخر باثباتها والا فينفي علوه على العرش فقول القائل ليس داخل العالم ولا خارجه هو مثل نفي علمه وقدرته بقول القائل لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز كل هذا من باب واحد ومن لم يثبت انه عالم قادر لزمه أن يكون جاهلا عاجزا كما أن من لم يثبت أنه فوق العالم لزمه أن يكون حالا في العالم وكونه حالا في العالم هو من صفات النقص كوصفه بعدم العلم والقدرة

الوجه التاسع أن الجهمية بعد اشتراكه في أن الله ليس فوق العرش وأنه ليس خارج العالم اختلفوا فقالوا ما يمكن أن يخطر بالبال من الأقوال والممكن أن يقال اما أن يكون في كل مكان أو هو جسم بقدر العالم او هو جسم فاضل عن العالم متناه او هو في كل مكان وليس بجسم او يقال انه في كل مكان بذاته وهو مع ذلك فوق العرش وليس بجسم او يقال ليس لمساحته نهاية ولا غاية وهو ذاهب في الجهات الست وليس بجسم او يقال هو مع ذلك جسم أو يقال ليس داخل العالم ولا خارجه وهذه الأقوال قد ذكرها أرباب المقالات كما تقدم ذلك

واذا كان كذلك فهؤلاء الذين يقولون هو في كل مكان بذاته ليس مع ذلك خارج العالم أو هو مع ذلك خارج العالم ببعد متناه او أنه لا نهاية له سواء قالوا هو جسم او قالوا ليس بجسم أو قالوا ليس داخل العالم ولا خارجه فهذه الأقوال السبعة يقابل بعضها بعضا كما تراه وهم كما قال الامام أحمد مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب وهم مع ذلك لا بد أن يقولوا هو مخالف للعالم في حقيقته ليست حقيقته مثل حقيقة العالم كما تقدم وأنه متقدم عليه أيضا فهم يثبتون المباينة بالحقيقة والزمان وأما المباينة بالجهة فلا يثبتها أحد منهم لكن منهم من ينفي المحايثة ومنهم من لا ينفيها بل يثبت المحايثة للعالم فمن نفي المحايثة للعالم لزمه أن يثبت المباينة بالجهة والا جمع بين النقيضين ولم يمكن أن ينفي المحايثة مع نفي المباينة بالجهة كما تقدم ومن أثبت المحايثة لم يجعله مباينا للعالم بالجهة بل غايته أن يجعل مباينته للعالم بالحقيقة والزمان وهذه المباينة تثبت للجوهر مع عرضه ونحن نعلم بالاضطرار أن مباينة الله للمخلوق أعظم من مباينة المخلوق بعضه لبعض ومن مباينة الجوهر للعرض فكل من هؤلاء لا يذكر بجحد الضرورة العقلية

الوجه العاشر أن هؤلاء جميعا فروا بزعمهم من التشبيه ومن المعلوم أن هذا فيه من تشبيههم اياه بكل شيء من الجواهر والأجسام بل ومن المعدومات ما ليس في قول أهل الفطرة والشرعة فان نفي المباينة والمحايثة صفة للمعدوم والقول بالمحايثة تمثيل له بكل جوهر فان أحدهما محايث للآخر مع مباينته له بالحقيقة والزمان على أن فيهم من يجعل الأشياء حالة فيه ومنهم من يجعله حالا فيها فيكون هؤلاء مثلوه بالجواهر وهؤلاء مثلوه بالأعراض

الوجه الحادي عشر انه قد ثبت بالشرع والعقل ان الله سبحانه ليس كمثله شيء وان حقيقته لا تماثلها حقيقة وذلك انه لو كان له مثل والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على احدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر لوجب للمخلوق ما يجب له من الوجوب والقدم والخلق وسائر خصائص الربوبية ولجاز عليه ما يجوز على المخلوق من العدم والحاجة والحدوث وسائر صفات النقص ولا ممتنع على المخلوق ما يمتنع عليه من العدم ونحو ذلك وذلك يستلزم ان يكون الشيء موجودا معدوما قديما محدثا خالقا مخلوقا واجبا ممكنا الى غير ذلك من الأمور المتناقضة واذا كان كذلك فمن المعلوم ان عدم مماثلته لشيء من المخلوقات اعظم من عدم مماثلة المخلوق للمخلوق اذ المخلوقات تشترك في كثير مما يجوز ويجب ويمتنع عليها واذا كان عدم مماثلته للعالم أعظم فالمباينة والمخالفة ونحوهما تتبع عدم المماثلة فكلما كان الشيء عن مماثلة الشيء أبعد كانت مباينته له ومخالفته له أعظم وذلك يوجب أن يكون مباينته له أعظم من مباينة كل جوهر وكل عرض لكل جوهر ولكل عرض فاذا لم يكن مباينا الا بالحقيقة والزمان لم يكن كذلك فعلم ان ذلك باطل

الوجه الثاني عشر يقال لو كان لا يباين العالم الا بالحقيقة والزمان وهذه المباينة يشاركه فيها الجواهر وما يقوم بها من الأعراض لم يكن لمباينته للعالم قدر زائد على مباينة الجوهر للعرض واذا انتفت المباينة الزائدة ثبتت المماثلة والمشابهة في المباينة فان الشيئين اذا كان كل منهما لا يباين ما يباينه الا بالحقيقة والزمان كانت نسبة كل منهما الى ما يباينه كنسبة الآخر الى ما يباينه فتكون نسبته الى العالم كنسبة كل من الجواهر والأعراض المخلوقه الى الآخر اكثر ما يقال ان حقيقته اكثر مباينة لحقيقة غيره من لجوهر للعرض والعرض للعرض كما ان تقدمه للعالم اعظم من تقدم بعض العالم لبعض لكن بكل حال اذا كانت مباينته من جنس المباينة بالحقيقة والزمان لم يخرج عما يجوز على هذا الجنس كما انه اذا كان موجودا وقائما بنفسه لم يخرج عما يجوز على جنس الموجود والقائم بنفسه فاذا كان الموجود والقائم بنفسه لا يكون الا واجبا او ممكنا ولا يكون الا قديما او محدثا لم يخرج عن أحد القسمين

واذا كان التباين بالحقيقة أو الزمان لا يخرج عن ان يكون محلا لحال يقوم به او حالا في محل والحال مفتقر الى محله والمحل لا يوجد بدون وجود الحال فيه اذ العرض مفتقر الى الجوهر مستلزم للعرض وقد يقال هو محتاج اليه ايضا لزم اذا جعل حالا في العالم ان يكون مفتقرا الى العالم محتاجا اليه لا يقوم وجوده الا بالعالم مع ان العالم قائم بنفسه بدونه وهذا يقتضي ان يكون غنيا عن الله تعالى والله مفتقر اليه وان يكون هو الى العالم أحوج من العالم اليه او ان يكون كل منهما محتاجا الى الآخر

وهذا قد صرح به الاتحادية كصاحب الفصوص وقال بان العالم والحق كل منهما محتاج الى الآخر ونحو ذلك مما قد ذكرناه في غير هذا الموضوع ويقال ان أعيان العالم هي ثابتة في العدم مستغنية عن الحق وأن وجود الحق ظهر فيها وهذا من جنس حلوله في تلك الأعيان لكن هما متحدان لا يتميز الحال عن المحل ولهذا يقول بنوع من الحلول وبنوع من الاتحاد وهو في ذلك متناقض كتناقض النصارى في الحلول والاتحاد الخاص بالمسيح وذلك لأنه يجعل الثبوت غير الوجود كما يقوله من يقول المعدوم شيء وهذا باطل وان كان محققوا هؤلاء لا يرضون بالحلول الذي يقتضي اثنين حالا ومحلا بل عندهم ما ثم الا وجود واحد ومنهم من يقول هو الوجود المطلق وان كان المطلق لا وجود له في الخارج الا معينا مخصصا فيكون هو وجود المخلوقات بعينه ومنهم من يصرح بذلك فيقول هو عين الموجودات لا يفرق بين ثبوت ووجود ولا بين مطلق ومعين فهؤلاء يجعلونه نفس المخلوقات فالحلول والاتحاد المطلق يشبه الحلول والاتحاد المعين

وكما أن النصارى في المسيح منهم من يقول اللاهوت والناسوت جوهر واحد وصفة واحدة كاليعقوبية القائلين بأن اللاهوت والناسوت اتحدا كاتحاد الماء واللبن وبأن نفس المصلوب المسمر هو خالق العالم ومنهم من يقول بالحلول كحلول الماء في الظرف كالنسطورية القائلين بأنهما جوهران وطبيعتان واقنومان ومنهم من يقول بالحلول من وجه بالاتحاد من وجه كالملكية الذين يقولون كالنار في الحديدة

فهؤلاء الذين يقولون بالحلول والاتحاد المطلق في المخلوقات جميعها من الجهمية قولهم ذلك شر من مقالة النصاري في الاتحاد فان قولهم من جنس قول المشركين والمعطلين وهم شر حال من النصارى وذلك من وجهين

أحدهما أن النصارى قالوا بالاتحاد والحلول في شخص واحد وهؤلاء قالوا انه في العالم كله حتى ذكروا عن صاحب الفصوص أنه قال النصارى ما كفروا الا لأنهم خصصوا وقال ذلك التلمساني وغيره من شيوخهم وقد صرح في غير موضوع بأن المشركين عباد الأوثان انما أخطئوا من حيث عبادة بعض الأشياء دون البعض والمحقق عندهم من يعبد كل شيء ويرى كل شيء عابدا للحق ومعبودا له وكل من عبد شيءا غير الله عنده فما عبد الا الله وهذا يجمع كل شرك في العالم مع قوله ان الشريك هو الله كما زعمت النصارى ان الله هو المسيح بن مريم ولهذا كثيرا ما يصرح شيوخ الجهمية بأن الله في العالم كالزبد في اللبن وهذا قول اليعقوبية في المسيح وقد قالوا في مجموع الوجود ما يقوله النصارى في المسيح

الوجه الثاني ان النصارى يقولون بأن الاتحاد والحلول فعل من أفعال الرب وان اللاهوت اتحد بالناسوت مرة وانفصل عنه أخرى وهؤلاء عندهم ما يتصور أن يتميز وجود الحق عن المخلوقات ولا يباينها ولا ينفصل عنها وهؤلاء الاتحادية هم أكفر وأضل ممن يقول ان الله تعالى بذاته في كل مكان ونحو ذلك من المقالات الشنيعة المتقدمة ولكن هم مشاركون لهم في أصل المقالة وزائدون عليهم في الضلالة

والمقصود هنا التنبيه على ان اولئك الجهمية الذين لا يثبتون المباينة يضطرون الى ان يجعلوا الرب مفتقرا الى العالم اذا جعلوه حالا فيه مع استغناء العالم عنه وان جعلوه محلاله مع أن ذاته لا تباين ذات العالم بل تحايثه كما هو قولهم بانهم يقولون بأنه لا وجود للرب الا بوجود العالم ولا يمكن وجود الرب بدون وجود العالم كما لا يمكن وجود المحل الذي هو الجوهر او الهيولي بدون ما يحل فيه من الأعراض او الصورة فيكون العالم مقويا لوجود الرب والرب محتاج اليه أيضا وهو اعظم من قدم جميع العالم

الوجه الثالث عشر أن هؤلاء الجهمية يقولون انه لا تحله الصفات ولا تقوم به فانه اذا قامت به الصفات والأعراض كان محتاجا اليها وكانت مقومة له ومنافية لوحدته ووجوب وجوده وقدمه فاذا قال منهم طائفة بأن المخلوقات كلها تحله وتقوم به كان هذا مع فيه من الكفر والضلال في الاختلاف والتناقض اعظم من ان يوصف وكذلك قالوا انه لا يكون فوق العرش لئلا يكون حالا بغيره وقائما بغيره وكأننا في كل مكان ونحو ذلك مع انه متميز عن العرش منفصل عنه فاذا قالوا أنه حال في المخلوقات مختلط بالقاذورات كان هذا مع ما فيه من الكفر والضلالات من أعظم المتناقضات

والمقصود ان هؤلاء الجهمية لا يفرون من شيء من الحق لما يظنونه شبهة الا وقعوا في اضعاف مضاعفة من الباطل التي يلزمها ذلك المحذور عندهم فهم دائما متناقضون فان كل من نفي عن الله ان يكون فوق العرش لا بد أن يحتج بحجة تقتضي السلب والنفي فهو مع قوله بالمحايثة او قوله بالمباينة بلا محايثة يكون مثبتا لكل ما سلبه ولأضعافه او يلزمه ذلك فلم يستفيدوا الا التناقض في المقال وجحدوا الخالق الذي هو من أعظم الضلال ونفس تناقض القولين يقتضي فساده فكيف بما زاد على ذلك

فانهم اذا قالوا الوجود الواجب لا يكون الا واحدا ليس هو صفة ولا قدرة ونحو ذلك مما أصل قولهم فكل ما يقولونه بعد ذلك من كونه بكل مكان او كونه داخل العالم وخارجه او كونه هو الوجود القائم بالكائنات ونحو ذلك مما يناقض هذا فان المحايث لجواهر العالم وأعراضه يجب ان يوصف بما توصف به الجواهر والأعراض من التركيب والانقسام وغير ذلك وان لم يوصف بذلك مع قولهم بالمحايثة له كان هذا مع فساده في ضرورة العقل ناقضا لجميع اصولهم فانهم اذا جعلوا ذاتين محايثتين وجعلوا احداهما منقسمة ومركبة وغير ذلك دون الأخرى وجعلوا الواحد الذي لا تركيب فيه محايثا لكل مركب كان هذا مفسدا لكل حجة لهم وقولهم انه غير محايث له مع قولهم انه لا يباينه الا بالحقيقة والزمان جمع بين النقيضين حيث جعلوا مباينته غير زائدة على مباينة المحل للحال فيه وقالوا مع ذلك انه غير مباين بغير هذه المباينة كما تقدم

ولو أن هذا الموضع ليس هو موضع الرد على من يقول هو بذاته في كل مكان اذ المؤسس وذووه لا يقولون هذا لكنا نوسع المقال فيه وانما المقصود هنا قول من يقول انه لا داخل العالم ولا خارجه وان كان القولان جميعا خارجين من مشكاة واحدة وهي التعطيل لكونه فوق العرش فانهم لاما جحدوا هذا الحق الذي فطر الله عليه عباده وبعث به رسله وانزل به كتبه واجتمع عليه المؤمنون به تفرقوا بعد ذلك وفسادا احد القولين مستلزم لفساد اصل القول الآخر وكل من القولين يناقض الآخر وكل منهما لا يمكنه افساد قول خصمه مع مقامه على قوله فيلزم اما القول بباطل خصمه واما الرجوع الى الحق ومتى ابطل قول خصمه ابطالا محققا لزم ابطال قوله

وأدلة ابطال قول الحولية والاتحادية الذين يقولون انه في كل مكان ونحو ذلك كثيرة ليس هذا موضعها وكل آية في القرآن تبين ان لله ما في السموات والأرض وما بينهما ونحو ذلك فانها تبطل هذا القول فان السموات والأرض وما بينهما وما فيهما اذا كان الجميع له وملكه ومخلوقه امتنع ان يكون شيء من ذلك ذاته فان المملوك ليس هو المالك والمربوب ليس هو الرب والمخلوق ليس هو الخالق ولهذا كان حقيقة قول الاتحادية ان المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع لا يفرقون بينهما حتى انه يمتنع عندهم انه يكون الله رب العالمين كما يمتنع ان يكون رب نفسه اذ ليس العالمون شيئا خارجا عن نفسه عندهم

وقد قدمنا فيما مضى طرفا من كلام السلف والأئمة في الرد على هؤلاء مثل الأثر المشهور عن ابن المبارك انه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه لا نقول كما تقول الجهمية انه ها هنا في الأرض وقول الامام احمد هكذا هو عندنا وروي عن ابي حاتم في كتاب الرد على الجهمية حدثنا علي بن الحسن بن مهران حدثنا سبشار بن موسى الخفاف قال جاء بشر بن الوليد الى ابي يوسف فقال له تنهاني عن الكلام وبشر المريسي وعلي الأحوال وفلان يتكلمون فقال وما يقولون قال يقولون الله في كل مكان فبعث أبو يوسف وقال علي بهم فأتوا اليهم وقد قام بشر فجيء بعلي الأحول والشيخ يعني الآخر فنظر ابو يوسف الى الشيخ وقال لو أن فيك موضع ادب لأوجعتك فأمر به الى الحبس وضرب علي الأحول وطوف به

وقال ايضا حدثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت ابي يقول حبس رجل في التجهم فتاب فجيء به الى هشام بن عبيد الله الرازي ليمتحنه فقال له أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال لا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه فانه لم يتب بعد وقال عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق لما روي حديث ابن عباس ما بين السماء السابعة الى كرسيه سبعة آلاف نور فهو فوق ذلك قال من زعم ان الله هاهنا فهو جهمي خبيث ان الله سبحانه فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة وقال عبد الرحمن بن ابي حاتم سألت ابي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك فقالا أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا فكان من مذاهبهم أن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه بلا كيف احاط بكل شيء علما وقال عثمان بن سعيد الرازي قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته وقال ايضا قال أهل السنة ان الله بكماله فوق عرشه يعلم ويسمع من فوق العرش لا يخفي عليه خافية من خلقه لا يحجبهم عنه شيء وقال محمد بن عثمان بن ابي شيبة في كتاب العرش له ذكروا أن الجهمية يقولون ليس بين الله وبين خلقه حجاب أي يحجبهم عن أن يروه وانكروا العرش وأن يكون الله فوقه وقالوا انه في كل مكان الى أن قال فسرت العلماء وهو معكم يعني بعلمه ثم تواترت الأخبار ان الله خلق العرش فاستوى عليه بذاته فهو فوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا منهم

وقال عمرو بن عثمان المكي رفيق الجنيد في كتاب آداب المريدين والتعرف لأحوال العباد في باب ما يجيء به الشيطان للتائبين من الوسوسة أما الوجه الثالث الذي يأتي به للتائبين اذا هم امتنعوا عليه واعتصموا بالله فانه يوسوس لهم في أمر الخالق ليفسد عليهم اصول التوحيد وذكر كلاما طويلا الى أن قال فهذا من أعظم ما يوسوس به في التوحيد بالتشكيك أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه أو بالجحد لها والتعطيل وأن يدخل عليه مقاييسس عظمة الرب بقدر عقولهم فهلكوا ان قبلوا وتضعضع أركانهم ان لم يلجؤا بذلك الى العلم وتحقيق المعرفة لله عز وجل من حيث أخبر عن نفسه ووصف به نفسه وما وصفه به رسول الى أن قال فهو تعالى القائل انا الله لا الشجرة الجائي بعد أن لم يكن جائيا لا أمره المستوي على عرشه بعظمته وجلاله دون كل مكان الذي كلم موسى تكليما وأراه من آياته عظيما فسمع موسى كلام الله الوارث لخلقه السميع لأصواتهم الناظر بعينه الى أجسامهم يداه مبسوطتان وهما غير نعمته وقدرته خلق آدم بيده وذكر أشياء أخر

وذكر زكريا بن يحيى الساجي امام البصرة في زمانه وعنه أخذ الاشعري كثيرا مما اخذه من مذاهب أهل السنة والحديث والفقه قال القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم أن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وقال نظيره ابو بكر بن محمد اسحاق بن خزيمة رضي الله عنه من لم يقر بأن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فانه ايستتاب فان تاب والا ضربت عنقه والقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه اهل القبلة وأهل الذمة

وقال ابو عبد الله بن بطة في الابانة الكبرى اجمع المسلمون من الصحابة والتابعين ان الله على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه

وقال الحافظ ابو نعيم الاصبهاني في الاعتقاد الذي جمعه طريقتنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة واجماع الأمة ومما اعتقدوه ان الله سبحانه لم يزل كاملا بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول لم يزل عالما بعلم بصيرا ببصر سميعا بسمع متكلما بكلام ثم أحدث الأشياء من غير شيء وان القرآن كلام الله وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق وان القرآن من جميع الجهات مقروءا ومتلوا ومحفوظا ومسموعا ومكتوبا وملفوظا كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة وأنه بالفاظنا كلام الله غير مخلوق وان الواقفة واللفظية من الجهمية وأن من قصد القرآن بوجه من الجوه يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية وان الجهمي عندهم كافر الى ان قال وأن الاحاديث التي ثبتت عن النبي في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وان الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج به وهو مستو على عرشه في سمائه من دون ارضه وذكر سائر اعتقاد السلف واجماعهم على ذلك

وقال يحيى بن عمار السبحستاني في رسالته وفيه لا نقول كما قالت الجهمية انه مداخل الأمكنة وممازج لكل شيء ولا يعلم أين هو بل نقول هو بذاته على العرش وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله وهو معكم أين ما كنتم هذا الذي قلنا أن الأمكنة غير خالية من علمه وقدرته وأنه مدرك لها بسمعه وبصره وهو بذاته على العرش سبحانه وكما قال رسول الله

وقال معمر بن زياد شيخ الصوفية في عصر أبي نعيم ويحيى بن عمار احببت أن اوصي أصحابي بوصية من السنة واجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر أشياء في الوصية الى أن قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وأنه مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة وأنه عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة الى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل فمن انكر النزول او تأول فهو مبتدع ضال

وقال أبو عثمان اسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتاب الرسالة في السنة له ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سمواته على عرشه كما نطق به كتابه وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سماواته

وقال ابو بكر البيهقي في كتاب الاعتقادر له في باب القول في الاستواء قال الله تعالى الرحمن على العرش استوى ثم استوى على العرش وهو القاهر فوق عباده يخافون ربهم من فوقهم اليه يصعد الكلم الطيب أأمنتم من في السماء أراد فوق السماء كما قال ولأصلبنكم في جذوع النخل وقال فسيحوا في الأرض يعني على الأرض وكل ما علا فهو سماء والعرش على السموات فمعنى الآية أأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات وقال فيما كتبنا من الآيات دلالة على ابطال قول من زعم من الجهمية بأن الله بذاته في كل مكان وقوله وهو معكم أينما كنتم انما أراد بعلمه لا بذاته

وقال ابو عمر بن عبد البر لما تكلم على حديث النزول قال هذا حديث ثابت من النقل صحيح الاسناد لا يختلف اهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم ان الله في كل مكان قال والدليل على صحة قول اهل الحق قول الله تعال وذكر بعض الآيات الى أن قال وهذا اشهر واعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج الى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم

وقال ابو اسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب شيخ الإسلام في كتاب الصفات له باب اثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة بائنا من خلقه من الكتاب والسنة فذكر رحمه الله دلالات ذلك من الكتاب والسنة الى أن قال ففي أخبار شتى أن الله تعالى فوق السماء السابعة على العرش بنفسه وهو ينظر كيف يعملون وعلمه وقدرته واستماعه ونظره ورحمته في كل مكان

وهذا باب واسع لا يحصيه الا الله تعالى فان الذين نقلوا اجماع السلف او اجماع اهل السنة أو اجماع الصحابة والتابعين على أن الله فوق العرش بائن من خلقه لا يحصيهم الا الله وما من أحد من هؤلاء المذكورين الا وشهرته في الإسلام بالعلم والدين أعظم من أن يتسع لها هذا الموضع وان كان بعضهم أفضل من بعض وفي شيء دون شيء وما زال علماء السلف يثبتون المباينة ويردون قول الجهمية بنفيها مع أن نفيها بالحقيقة أو الزمان لا ينكره أحد وانما ينكرون المباينة بالجهة ثم هم مضطربون في ثبوت المحايثة وعدمها كما تقدم واثبات المحايثة اقرب الى الفطر ابتداءا من نفي المباينة والمحايثة فلهذا كان هذا هو الذي تتظاهر به الجهمية وان كان منهم من يتأول قوله انه في كل مكان بمعنى علمه وقدرته لكن منهم من يقول ان ذاته في كل مكان وهو قول طوائف من علمائهم وعبادهم حتى انهم قالوا انه نفس وجود الأمكنة ومعلوم ان في هذا من الفساد أمور كثيرة من وصف الله تعالى بالنقائص والعيوب وما هو منزه عنه وقد التزم ذلك جميعه من التزمه من هؤلاء كالاتحادية وقالوا ان من كماله أن يكون هو الموصوف بكل مدح وذم ولعن وشتم وهو الناكح المنكوح والشاتم والمشتوم وأمثال ذلك مما هو من أعظم الكفر والسب والشتم والالحاد والمحادة لرب العالمين فكان السلف يحتجون على الجهمية بما يلزم قولهم ممن كونه مخالطا للأجسام المذمومة من النجاسات والشياطين

وقد اخذ هذه الحجة عنهم من اتبعهم في ذلك من متكلمة الصفاتية ونحوهم كما ذكر القاضي ابو بكر الباقلاني في غير موضع من كتبه قال فان قال قائل فهل تقولون ان الله في كل مكان قيل له معاذ الله بل مستو على العرش كما أخبر في كتابه فقال الرحمن على العرش استوى وقال اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فاذا هي تمور وذكر آيات أخر الى أن قال ولو كان في مكان لكان في بطن الانسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولو وجب أن يزيد بزيادة الأمكنة اذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها اذا بطل منها ما كان ولصح أن يرغب اليه الى نحو الأرض والى خلفنا والى يميننا وشمالنا وهذا قد اجمع السملمون على خلافه وتخطئه قائله

فذكر بعد ما ذكره من النصوص ثلاث حجج قياسية عقلية أحدها أن ذلك يستلزم أن يكون في الأمكنة والأجسام القبيحة المذمومة كالحشوش وأن يكون في جوف الانسان وفمه وهذا مما يعلم الانسان بفطرته وبديهة عقله أن الله سبحانه منزه عنه يعلم بضرورة حسه وعقله أن الله ليس في جوفه وأن ذاته لا تصلح أن تلاصق النجاسات والأجواف بل ملائكته عليهم السلام مثل جبريل ونحوه قد نزههم أن يدخلوا بيتا فيه كلب أو جنب وانما يحضر الحشوش الشياطين كما قال النبي ان هذه الحشوش محتضرة

والحجة الثانية أنه كان يجب ان يزيد بزيادة الأمكنة اذا زيد فيها بالخلق وينقص بنقصها اذا نقص منها وهذا على قول من يقول منهم أنه في كل مكان لا يفضل عن العالم فان الأمكنة اذا زادت زاد واذا نقصت نقص بالضرورة

والحجة الثالثة ان ذلك يوجب دعاءه والرغبة اليه الى جهة السفل واليمين والشمال وذلك مخالف لاجماع المسلمين لأن الرغبة اليه هنا كالرغبة اليه هناك

والأشعري قبله قد احتج في كتاب الابانة المشهور بهذا التنزيه. فاحتج بتنزيهه عن أن يكون مستويا على الأقذار على المنع أن يكون الاستواء هو الاستيلاء واحتج على نفي كونه في كل مكان بتنزيهه عن أن يكون في النجاسات وقال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية ان معنى قوله الرحمن على العرش استوى انه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء على العرش الى معنى القدرة ولو كان هذا كما قالوه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى لأن الله عز وجل قادر على كل شيء والأرض والسموات وكل شيء في العالم فالله قادر عليه فلو كان الاستواء بمعنى الاستيلاءلكان الله مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والانتان والأقذار لأن الله سبحانه وتعالى قادر على الأشياء كلها ولما لم نجد أحدا من المسلمين يقول أن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون معنى الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء قال وزعمت المعتزلة والجهمية والحرورية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أن يكون في بطن مريم وفي الحشوش تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا

ويقال لهم اذا لم يكن الله مستويا على العرش بمعنى يختص به العرش دون غيره كما قال ذلك نقلة الآثار وكان الله في كل مكان فهو سبحانه تحت الأرض والأرض فوق والسماء فوق الأرض وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا ان الله تحت ما هو ما فوقه وفوق التحت والأشياء فوق وإنه فوق الإشياء كلها تحته وفي هذا ما يوجب أنه تحت ما هو تحته وهذا المحال الفاسد المتناقض تعالى الله ربنا جل جلاله عن ذلك علوا كبيرا

فاحتج ابو الحسن بما يعلم بالاضطرار انه ليس في الأجواف والحشوش وخص بطن مريم بالذكر لأن ذلك مشاركة للنصارى الذين يقولون ان الله حل في بطن مريم لما تدرع اللاهوت بالناسوت مع ان هذا حين تقوله علماء النصارى لعامتهم تنكره فطرتهم وتدفعه عقولهم لما يجدون في انفسهم من العلم الضروري بنفي ذلك فانهم كما قال النبي كل مولود يولد على الفطرة فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فالنصارى مولودون على الفطرة التي تنكر ذلك ولكن الدين الذي وجدوا عليه آباءهم هو الذي اوجب تغيير فطرتهم وهذه حال هؤلاء الجهمية اجمعين فما منهم من أحد الا حين يذكر قول الجهمية تنكره فطرته وترده ضرورة عقله لكن يتبع سادته وكبراءة في خلاف طاعة الرسول حتى يغيروا فطرته لأجل المذهب الذي وجد عليه أباه وأمه أو من يجري مجري ذلك من سيد مالك او معلم او نحو ذلك

وهم اعنى متكلمة الصفاتية أخذوا ما أخذوه من هذه الحجج عن السلف والأئمة وان كان في كلام السلف ولأئمة ما لم يهتدوا اليه هؤلاء من التحقيق

قال الامام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية ومما أنكرت الجهمية الضلال ان الله سبحانه على العرش قلت لم أنكرتم أن الله سبحانه على العرش وقد قال سبحانه الرحمن على العرش استوى وقال ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا قالوا هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش فهو على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان وتلوا آيات من القرآن وهو الله في السموات وفي الأرض فقلنا عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء فقلنا أحشاءكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والاماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب سبحانه وتعالى شيء

فهذا الذي ذكره الامام احمد متضمن اجماع المسلمين ويتضمن أن ذلك من المعروف في فطرتهم التي فطروا عليها وقوله من عظم الرب كلمة شديدة فان اسمه العظيم يدل على العظم الذي هو قدره كما بيناه في غير هذا الموضوع وذكر الاحشاش والاجواف لأن علم المسلمين بذلك ببديهة حسهم وعقلهم ولأن في ذلك ما يجب تنزيه الرب عنه اذ كان من أعظم كفر النصارى دعواهم ذلك في واحد من البشر فكيف من يدعيه في البشر كلهم وكذلك ما ذكره من أجواف الخنازير والحشوش والاماكن القذرة فان هذا كما تقدم مما يعلم بالضرورة العقلية الفطرية أنه يجب تنزيه الرب وتقديسه أن يكون فيها أو ملاصقا لها او مماسا وتخصيص هذه الأجسام القذرة والاجواف بالذكر فيه اتباع لطريقة القرآن في الأمثال والأقيسة المستعملة في باب صفات الله سبحانه

فان الامام احمد ونحوه من الأئمة هم في ذلك جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة وهو المنهج العقلي المستقيم فيستعملون في هذا الباب قياس الأولى والأمرى والتنبيه في باب النفي والاثبات فما وجب اثباته للعباد من صفات المدح والحمد والكمال فالرب أولى بذلك وما وجب تنزيه العباد عنه من النقص والعيب والذم فالرب سبحانه أحق بتنزيهه وتقديسه عن العيوب والنقائص من الخلق وبهذا جاء القرآن في مثل قوله ضرب لكم مثلا من انفسكم وفي مثل قوله واذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا وغير ذلك فانه احتج على نفي ما يثبتونه له من الشريك والولد بأنهم ينزهون أنفسهم عن ذلك لأنه نقص وعيب عندهم فاذا كانوا لا يرضون بهذا الوصف ومثل السؤ بوكيف يصفون ربهم به ويجعلون لله مثل السوء بل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثلى الأعلى ومما يشبه هذا في حقنا قول النبي صلى الله عله وسلم ليس لنا مثل السوء ولهذا شبه الله من ذمه بالحمار تارة وبالكلب أخرى

والأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة كالتي تسمى أقيسة منطقية وبراهين عقلية ونحو ذلك استعمل سلف الأمة وأئمتها منها في حق الله سبحانه وتعالى ما هو الواجب وهو ما يتضمن نفيا واثباتا بطريق الأولى لأن الله تعالى وغيره لا يكونان متماثلين في شيء من الأشياء لافي نفي ولا في اثبات بل ما كان من الاثبات الذي ثبت لله تعالى ولغيره فانه لا يكون الا حقا متضمنا مدحا وثناءا وكمالا والله احق به ليس هو فيه مماثلا لغيره وما كان من النفي الذي ينفي عن الله وعن غيره فانه لا يكون الا نفي عيب ونقص والله سبحانه احق بنفي العيوب والنقائص عنه من المخلوق فهذه الأقيسة العادلة والطريقة العقلية السلفية الشرعية الكاملة

فاما ما يفعله طوائف من اهل الكلام من ادخال الخالق والمخلوقات تحت قياس او تمثيل يتساويان فيه فهذا من الشرك والعدل بالله وهو من الظلم وهو ضرب الامثال لله وهو من القياس والكلام الذي ذمه السلف وعابوه ولهذا ظن طوائف من عامة أهل الحديث والفقه والتصوف انه لا يتكلم في أصول الدين ولا يتكلم في باب الصفات بالقياس العقلي وان ذلك بدعة وهو من الكلام الذي ذمه السلف وكان هذا مما اطمع الأولين فيهم لما رأوهم ممسكين عن هذا كله اما عجزا او جهلا وأما لاعتقاد أن ذلك بدعة وليس من الدين وقال لهم الأولون ردكم أيضا علينا بدعة فان السلف والأئمة لم يردوا مثل ما رددتم وصار اولئك يقولون عن هؤلاء انهم ينكرون العقليات وانهم لا يقولون بالمعقول واتفق اولئك المتكلمون مع طوائف من المشركين والصائبين والمجوس وغيرهم من الفلاسفة الروم والهند والفرس وغيرهم على ما جعلوه معقولا يقيسون فيه الحق تارة والباطل اخرى وحصل من هؤلاء تفريط وعدوان ومن هؤلاء تفريط وعدوان اوجب تفرقا واختلافا بين الأمة ليس هذا موضعه

ودين الإسلام هو الوسط وهو الحق والعدل وهو متضمن لما يستحق ان يكون معقولا ولما ينبغي عقله وعلمه ومنزه عن الجهل والضلال والعجز وغير ذلك مما دخل فيه أهل الانحراف فسلك الامام احمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالاجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى وذلك ان النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها وتوعد على ذلك بالعقاب كما قال في الحديث الصحيح تنزهوا عن البول فان عامة عذاب القبر منه وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وهي مما فطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة فاذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الرب عنه لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة واذا كان لحاجة يجب تطهيرها ثم انه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير فاذا أوجب الرب على عبده في حال من جاته ان يتطهر له وينزه عن النجاسة كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة اعظم واكثر للعلم بأن الرب احق بالتنزيه عن كلما ينزه عن غيره

وأيضا فالمعبود اعظم من العابد وهذا معلوم في بداية العقول لا سيما وهو سبحانه القدوس السلام والقدوس مأخوذ من التقديس وهو التطهير ومنه سمي القدوس قدوسا والجهمية تدعي انها تقدسه بنفي الصفات ويسمون كلامهم تأسيس التقديس ومنهم من يقول بمخالطته للنجاسات والباقون يلتزمون ذلك فهم منجسون لا مقدسون ومن أنكر الأمور في بداية العقول أن يكون العابد واجبا عليه التنزيه عن النجاسات التي تخرج منه مع أن المعبود مختلط بها ملاصق لها واذا كان العلم بأن الرب سبحانه أحق بالتنزيه والتعظيم من العبد والمعبود أحق بذلك من العابد كان هذا القياس وأمثاله من اظهر الأقيسة في بديهة العقول بل قد قال تعالى لخليله وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود فاذا أمر عبده بتطهير بيته الذي يطاف به ويصلى فيه واليه ويعكف عنده من النجاسة الم يكن هو أحق بالطيب والطهارة والنزاهة من بيته وبدن عبده وثيابه

ولهذا كان هؤلاء الاتحادية والحلولية يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة ويصرحون بذلك وهؤلاء من أعظم الناس كفرا وشتما لله وسبا لله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وحصل بما ذكره الأئمة ان هؤلاء الجهمية أصل قولهم الذي به يموهون على الناس انما هو التنزيه ويسمون انفسهم المنزهون وهم ابعد الخلق عن تنزيه الله واقرب الناس لتنجيس تقديسه وهذا يظهر بوجوه كثيرة لكن المذكور هنا كونهم يقولون انه في كل مكان من الأمكنة النجسة القذرة فأي تنزيه وتقديس يكون مع جعلهم له في النجاسات والقاذورات والكلاب والخنازير بل وتصريحهم بذلك حتى حدثني من شهد أحذق محققيهم التلمساني وآخر من طواغيتهم وقد اجتاز بكلب جرب ميت فقال ذلك للتلمساني وهذا الكلب ايضا ذلك فقال او ثم شيء خارج عن الذات

وهذا التلمساني هو وسائر الاتحادية كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وغيره وابن سبعين وابن الفارض والقونوي صاحب ابن عربي شيخ التلمساني وسعيد الفرغاني انما يدعون الكشف والشهود لما يخبرون عنه وأن تحققهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث وانما هو شهود الحقائق وكشفها ويقولون ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون لمن يسلكونه لا بد أن يجمع بين النقيضين وأن يخالف العقل والنقل ويقولون القرآن كله شرك وانما التوحيد في كلامنا ويقولون لا فرق عندنا بين الاخوات والبنات والزوجات فان الوجود واحد لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم ومن شعر هذا التلمساني قبحه الله

يا عاذلي انت تنهاني وتأمرني... والوجد اصدق نهاء وأمار

فان اطعك واعصى الوجد عدت عمي... عن العيان الى اوهام اخبار

وعين ما انت تدعوني اليه اذا... حققته تره المنهي يا جاري

يقول انت تدعوني الى أن اعبد الله ولا اعبد غيره وما ثم غيره بل هو الذي تظنه غيرا وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

وأصل ذلك ان علم الانسان كله انما يحصل بطريق الاحساس والمشاهدة الباطنة والظاهرة او بطريق القياس والاعتبار العقلي او بطريق السمع والخبر والكلام كما قال تعالى ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا والعبد الصالح يحصل له من المشاهدة الباطنة ما ينكشف له به أمور كانت مغطاة عنه ويفهم من كلام الله ورسوله والسلف معاني يشهدها لم يكن قبل ذلك يشهدها بل يظهر له قوله تعالى سنريهم آياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق ثم قال او لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد اي اولم يكف بشهادته وعلمه التي اخبرهم عنها في كتابه

وهؤلاء المنافقون المرتدون الزنادقة ومن وقع في بعض ضلالاتهم من الغالطين الضالين هم في الشهود الذي يحصل لهم ويجعلونها من جنس شهود المؤمنين مثل ما هم في المخاطبة التي تقع لهم ويجعلونها من جنس مخاطبة المؤمنين التي قال فيها النبي انه كان في الأمم محدثون فان يكن في امتي احد فعمر وقد رواه البخاري في صحيحه من حديث ابراهيم بن سعد عن ابيه عن ابي هريرة عن النبي قال البخاري ورواه زكريا بن ابي زائدة عن سعد عن ابي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة عن النبي انه كان يقول قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في امتي منهم احد فان عمر بن الخطاب منهم قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون قال ابو مسعود الدمشقي الصواب من حديث ابراهيم بن سعد عن ابي هريرة كما ذكره البخاري وأما حديث ابن عجلان عن سعد فانه يقول فيه عن عائشه

والمخاطبة التي تقع لهؤلاء المنافقين والغالطين المتشبهين بالمؤمنين هي من الشياطين التي تنزل على امثالهم من كل افاك اثيم ومن حديث النفس ولهذا يكثرون من الشعر والكهانةالتي يقترن بأهلها الشياطين كثيرا قالوا لابن عمر ولابن عباس ان المختار يزعم انه ينزل عليه فقال صدق هل انبئكم على من تنزل الشياطين وقالوا للآخر انه يزعم انه يوحي اليه فقال صدق وان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم فلهم وحي وتنزيل ولكن من الشياطين كما تنزل على اشباههم من السحرة والكهان وبينهم قدر مشترك في كثير من الأمور

واما المشاهدة فان احدهم يشهد بباطنه الوجود المطلق الساري في الكون كله الذي لا يختص بشيء دون شيء وهذا شهود صحيح لكن ضلوا في ظنهم ان ذلك هو الله رب العالمين وان ما وراء السموات والأرض شيئا اخر حيث يقولون ما فوق العرش رب ولا فوق العالم اله ويقول احدهم لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله فكانوا في هذا الشهود والذوق والوجود كما ذكرته لمن خاطبته من اهل المعرفة والتحقيق في بيان الشبهة التي ضل بها هؤلاء مع كثرة ما فيهم من العبادة والصدق في ذلك والعلم والفضيلة فقلت هم بمنزلة من شاهد شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس وليس وراء الشعاع شىء آخر أصلا وجحد أن يكون في الوجود شمس غير ما شهده من الشعاع وهذا مثل بعيد والا فالله سبحانه وتعالى أجل وأعلاه وأعظم وأكبر من جميع المخلوقات أن يكون نسبته إليها كنسبة الشمس إلى شعاعها ولكن هذا كما تقدم من باب قياس الأولى فإنه إذا كان من شهد شعاع الشمس ووجده فظن أنها عين الشمس وحقيقتها من أعظم الجاهلين الضالين فالذي شهد وجود المخلوقات فاعتقد أن عين وجود رب العالمين هو الأرض والسموات أعظم جهلا وضلالا وهؤلاء لم يكن ضلالهم فيما علموه وشهدوه من وجود رب المخلوقات ولكن في نفي ما لم يشهدوه وأنكروه من وجود رب السموات ثم ضلوا فظنوا وجود المخلوق هو وجود خالق الكائنات فوافقوا فرعون في ذلك النفي وامتازوا عنه بهذا الإثبات وهذا حال عامة الكفار وأهل البدع أنما ضلالتهم في التكذيب بما لم يعرفوه من الحق فلا بما علموه من الحق لكن يضمون الى ذلك التكذيب ظنونا كاذبة تنشأ عن الهوى يصدقون لأجلها بالباطل

وذكر الأئمة في الرد على الجهمية ما علمه المسلمون بضرورة حسهم وعقلهم ودينهم من تنزيهه عن أن يكون في أجوافهم وأحشائهم أيضا مع ما ذكروه من تنزهه عن الأنجاس لأن ذلك أقرب إلى حس الإنسان وبديهة عقله فكلما كان المعلوم مما يحسه الأنسان ويعقله بديهة كان أعلم به لاسيما مع تكرر إحساسه به وعقله له

وأيضا فنبهوا بذلك على ما ذكره الله تعالى من كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وأن الله تعالى حل في بطن مريم فإن هذا تكفير لكل من قال في بشر أنه الله بطريق الأولى فمن قال في الوجود كله ذلك أكفر وأكفر ولهذا اجتمع جماعة عظيمة بدمشق في سماع فأنشد فيه القوال شعرا لابن اسرائيل وكان شاعرا من شعراء الفقراء في شعره ايمان وكفر وهدىو ضلال وفي شعره كثير من كلام الاتحادية لكن التلمساني وابن الفارض أحذق في الاتحادمنه فأنشد القوال له

وما أنت غير الكون بل أنت عينه... ويفهم هذا السر من هو ذايق

وكان هناك شيخ يعرف بالشيخ نجم الدين بن الحكيم صحب الشيخ اسماعيل الكوراني فانكر ذلك وتلا قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم والتفت الى القوال وقال له قل

وما أنت عين الكون بل أنت غيره... ويشهد هذا الأمر من هو صادق

وهي واقعة مشهورة حدثني بها غير واحد ممن شهدها ولقد أحسن هذا الشيخ التالي لهذه الآية في الرد على هذا الشعر الذي هو من أقوال الملاحدة والاتحادية

وأيضا نبهوا بذلك على ضلال من يقول انه الله أو أن الله فيه من أهل الاتحاد والحلول الخاص فان المسلمين يعلمون بضرورة حسهم وعقلهم أن الله ليس في أجوافهم ولا أحشائهم

ثم احتج الامام أحمد بالنصوص وقال وقد أخبرنا الله أنه في السماء فقال سبحانه أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض أم امنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا الآية وقال إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال اني متوفيك ورافعك الي وقال بل رفعه الله إليه وقال وله من في السموات ومن في الأرض ومن عنده وقال يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقال ذي المعارج تعرج الملائكة والروح اليه وقال وهو القاهر فوق عباده وقال وهو العلي العظيم وقال فقد أخبر الله أنه في السماء

ثم احتج بحجة أخرى من الأقسية العقلية وقال وجدنا كل شيء أسفل مذموما قال الله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن ولانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهو أن السفل مذموم في المخلوق حيث جعل الله أعداءه في أسفل السافلين وذلك مستقر في فطر العباد حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت اقدامهم ليكونوا من الأسفلين وإذا كان هذا مما ينزه عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن ان يكون في السفل او يكون موصوفا بالسفل هو اوشى منه أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه بل هو العلى الأعلى بكل وجه ولهذا يروى عن بشر المريسي انه كان يقول في سجوده سبحان ربي الأسفل وكذلك بلغني عن طائفة من أهل زماننا أن منهم من يقول إن يونس عرج به الى بطن الحوت كما عرج بمحمد إلى السماء وانه قال لاتفضلوني على يونس وأراد هذا المعنى وقد بينا كذب هذا الحديث وبطلان التفسير في غير هذا الموضع

وهذه الحجة التي احتج بها الأئمة اجود من حجة التناقض التي احتج بها ابو الحسن فانه يرد على تلك الأسولة ما لم يرد على هذه حيث يمكن ان يقال هو يجمع بين مايتناقض في حق غيره كما قيل لأبي سعيد الخراز بماذا عرفت ربك قال بالجمع بين النقيضين ثم تلا قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم وأما هذا القياس قياس الأولى ووجوب تنزيه الرب عن كل نقص ينزه عنه غيره ويذم به سواه فهذا فطري ضروري متفق عليه

ثم ذكر احمد حجة اخرى عقلية قياسية قال وقلنا لهم اليس تعلمون ان ابليس مكانه مكان ومكان الشياطين مكانهم مكان فلم يكن الله ليجتمع هو وابليس في مكان واحد وهذا التنزيه عن مجامعة الخبيث والنجس من الأحياء نظير التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الجمادات ولهذا نهي عن الصلاة في المواطن التي تسكنها الشياطين كالحمام والحش واعطان الابل ونحو ذلك وان كان المكان ليس فيه من النجاسات الجامدة شيء بل أرواث الابل طاهرة بل قد بثبت عن النبي في الصحيح من غير وجه انه ذكر ان الكلب يقطع الصلاة وخصه في الحديث الصحيح بالأسود وقال انه شيطان لما سئل عن الفرق بين الأحمر والأبيض والأسود فقال الأسود شيطان وفي الصحيح عنه انه قال ان الشيطان تفلت علي البارحة فاراد أن يقطع علي صلاتي فامكنني الله منه فاخذته فذعته ولها امر النبي بمقاتلة المار بين يدي المصلي وقال ان معه القرين فأما مرور الانسي فقد قال ابن مسعود انه يذهب بنصف اجر الصلاة واما شيطان الجن فقد قال طائفة من الفقهاء من اصحاب أحمد وغيرهم انه يقطع الصلاة اذا علم ذلك كما يقطعها الكلب الاسود أليهم الذي هو شيطان الدواب

وأيضا فالشيطان معلون رجيم كما قال تعالى وان يدعون الا شيطانا مريدا لعنه الله وقد اخبر سبحانه وتعالى ان الشياطين ترجم بالشهب لئلا يسترق السمع من الملائكة فقال تعالى انا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون الى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب الا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب

وقد امر الله عباده بالاستعاذة من الشيطان فقد قال لكبيرهم في السماء اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم اجمعين وقد قال النبي لبعض عباد الله وهو عمر بن الخطاب ما رآك الشيطان سالكا فجا الا سلك فجا غير فجك وقد اخبر الله في كتابه عن هرب الشيطان من الملائكة حيث قال واذ زين لهم الشيطان اعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني ارى مالا ترون اني اخاف الله والله شديد العقاب فاذا كان ملعونا مبعدا مطرودا عن ان يجتمع بملائكة الله او يسمع منهم ما يتكلمون به من الوحي فمن المعلوم ان بعده عن الله اعظم وتنزه الله وتقدسه عن قرب الشياطين فاذا كان كثير من الأمكنة مملوءا وكان تعالى في كل مكان كان الشياطين قريبين منه غير مبعدين عنه ولا مطرودين بل كانوا متمكنين من سمع كلامه منه دع الملائكة وهذا يعلم بالاضطرار وجوب تنزه الله وتقديسه عنه اعظم من تنزيه الملائكة والأنبياء والصالحين وكلامه الذي يبلغه هؤلاء ومواضع عباداته فان نفسه احق بالتنزيه والتقديس عن جميع هذه الأعيان المخلوقة ومن كلامه الذي يتلوه هؤلاء

ثم أجاب الامام احمد عن حجتهم فقال واما معنى قوله تبارك وتعالى وهو الله في السموات وفي الارض يقول هو اله من في السموات واله من في الأرض وهو على العرش وقد احاط بعلمه ما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان وكذلك قوله تعالى لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد أحاط بكل شيء علما

ثم ذكر الامام احمد حجة اعتبارية عقلية قياسية لا مكان ذلك هي من باب الاولى قال ومن الاعتبار في ذلك لو ان رجلا كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شيء كان بصر ابن آدم قد احاط بالقدح من غيران يكون ابن آدم في القدح فالله سبحانه له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه قلت وقد تقدم ان كل ما يثبت من صفات الكمال للخلق فالخالق احق به واولى فضرب احمد رحمه الله مثلا وذكر قياسا وهو ان العبد اذا امكنه ان يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير ان يكون داخلا فيه ولا محايثا له فالله سبحانه اولى باستحقاق ذلك واتصافه به واحق بأن لا يكون ذلك ممتنعا في حقه وذكر احمد في ضمن هذا القياس قول الله تعالى وله المثل الأعلى مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأخرى بالمثل الأعلى اذ القياس الأولى والأخرى هو من المثل اذ القياس الأولى والأخرى هو من المثل الأعلى واما المثل الساوي او الناقص فليس لله بحال ففي هذا الكلام الذي ذكره واستدلاله بهذه الاية تحقيق لما قدمناه من أن الأقيسة في باب صفات الله وهي أقيسة الأولى كما ذكره من هذا القياس فان العبد اذا كان هذا الكمال ثابتا له فالله الذي له المثل الأعلى احق بذلك

ثم ذكر قياسا آخر فقال وخصلة اخرى لو ان رجلا بني دارا بجميع مرافقها ثم اغلق بابها وخرج منها كان لا يخفى عليه كم بيت في داره وكم سعة كل بيت من غير ان يكون صاحب الدار في جوف الدار فالله سبحانه له المثل الاعلى قد أحاط بجميع ما خلق وقد علم كيف هو وما هو من غير ان يكون في جوف شيء مما خلق وهذا ايضا قياس عقلي من قياس الأولى قرر به امكان العلم بدون المخالطة فذكر ان العبد اذا فعل مصنوعا كدار بناها فانه يعلم مقدارها وعدد بيوتها مع كونه ليس هو فيها لكونه هو بناها فالله الذي خلق كل شيء اليس هو احق بأن يعلم مخلوقاته ومقاديرها وصفاتها وان لم يكن فيها محايثا لها وهذا من ابين الأدلة العقلية وهذان القياسان احدهما لاحاطته بخلقه اذ الخلق جميعا في قبضته وهو محيط بهم ببصره والثاني لعلمه بهم لانه هو الخالق كما قال سبحانه الا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير

وهؤلاء الجهمية نفاة الصفات كثيرا مما يجمعون بين نفي علوه وكونه فوق العالم وبين الريب في علمه فان كثيرا منهم مستريب في علمه لا سيما من تفلسف منهم فتارة يقولون لا علم له وتارة يقولون لا يعلم الا نفسه وتارة يقولون انما يعلم غيره على وجه كلي ولهم من الاضطراب في مسألة العلم ما هو نظير اضطرابهم في علوه وفوقيته وكا ما ذكره الله في كتابه وما كان عليه سلف الأمة وائمتها من الجمع بين هذين ردا لضلال هؤلاء في الأمرين كما قال تعالى هو الذي خلق السموات والأرض في ستة ايام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في ألأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم اينما كنتم والله بما تعملون بصير وهؤلاء جاحدون او مستريبون بأنه فوق العرش وبأنه معنا أينما كنا ومن هؤلاء طوائف موجودون وان كان لهم من الفضيلة والذكاء ما تميزوا به على من لم يشركهم في ذلك ولهم من السمعة والرياسة مالهم ففيهم من الجهل والنفاق هذا وغيره ولا حول ولا قورة الا بالله

قال الامام احمد ومما تأول الجهمية من قول الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم الآية قالوا ان الله عز وجل معنا وفينا فقلنا لم قطعتهم الخبر من أوله ان الله يقول الم تر ان الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم يعني ان الله يعلمه رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم ولا ادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهم يعني بعلمه فيهم اينما كانوا ثم ينبؤهم بما عملوا يوم القياسمة ان الله بكل شيء عليم يفتح الخبر بعلمه ويختم الخبر بعلمه

ثم ذكر حجتين عقليتين على مباينته فقال ويقال للجهمي ان الله اذا كان معنا بعظمة نفسه فقل له هل يغفر الله لكم فيما بينكم وبين خلقه فان قال نعم فقد زعم ان الله بائن من خلقه وان خلقه دونه وان قال لا كفر وذلك ان من اثبت ان شيئا بين الله وبين خلقه فقد جعله مباينا فان المباينة والبين من اشتقاق واحد واذا كان شيء بين شيئين فالثلاثة مباينة بعضها عن بعض وهذا الوسط من هذا وهو ما بينه وبين هذا هو مباينته ومباين المباينين اولى ان يكون مباينا

وقد ذكر في كتابه انه يحجب بعض خلقه عنه فقال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب وقال كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون واختصاص بعض خلقه بالحجاب يمنع ان يكون الجميع محجوبين واذا كان البعض محجوبا والبعض ليس محجوبا امتنع ان يكون فيهم كلهم لان نسبتهم اليه حينئذ تكون نسبة واحدة ووجب ان يكون بينه وبين بعضهم حجابا وذلك يقتضي المباينة كما تقدم

ومثل هذا قوله ثم ردوا الى الله مولاهم الحق وقوله ولو ترى اذ وقفوا على ربهم وقوله وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم اول مرة ولو ترى اذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم فلفظ اليه وعنده وعليه بحيث يكون بعض الخلق مردودا اليه وبعضهم موقوفا عليه ومعروضا عليه وبعضهم ناكسو رؤوسهم عنده يقتضي ان الخلق ليسوا كلهم كذلك وانهم قبل ذلك لم يكونوا كذلك وأنهم مباينون له منفصلون عنه وأنه بحيث يكون شيء عنده ويرد شيء اليه ويعرض ولون كانت ذاته مختلطة بذواتهم لامتنع ذلك وهذا يقتضي مباينته وامتيازه واختصاصه بجهة وحد وبطلان قول من يقول ان ذاته مختلطة بذواتهم او يجعل الموجودات لا تختلف نسبتها اليه بل ما فوق السماء كما تحتها وعلى قول هذا يمتنع لقاه والعروج اليه والرد اليه والوقوف عليه والعرض عليه وأمثال ذلك مما دل عليه القرآن وعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا يجعلون ما جعل له في هذه الآيات انما هو لبعض المخلوقات اما ثوابه واما عقابه واما غير ذلك او يجعلون ذلك عبارة عن حصول العلم به وأمثال ذلك من التأويلات التي هي من جنس تأويل القرامطة

قال الامام احمد واذا اردت ان تعلم ان الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم انه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له اليس كان الله ولا شيء فسيقول نعم فقل له حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه او خارجا عن نفسه فانه يصير الى ثلاثة اقاويل واحد منها ان زعم ان الله خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم انه خلق الجن والشياطين وابليس في نفسه وبأن قال خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم انه في كل مكان وحش قذر رديء وان قال خلقهم خارجا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله اجمع وهو قول اهل السنة وهذه الحجة التي ذكرها الامام احمد مبناها على انه يخلو عن المباينة للخلق والمحايثة لهم وهذا كما انه معلوم بالفطرة العقلية الضرورية كما تقدم فان الجهمية كثيرا مما يضطرون الى تسليم ذلك كقوله انه في كل مكان ولأن الخروج عن هذين القسمين مما تنكره قلوبهم بفطرتهم ومما ينكره الناس عليهم

واذا كان كذلك فالامام احمد بنى الحجة على أن الله تعالى كان وحده متميزا عن الخلق وهذا مخاطبة للمسلمين وسائر اهل الملل الذين يقرون بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وانها محدثة بعد ان لم تكن فان الأمر اذا كان كذلك فمن أثبت محايثته للخلق اثبت محايثة بعد أن لم تكن محايثة بخلاف ما لو لم يقر بذلك فانه لا يثبت انفراده ومباينته أصلا وهذا لا ريب أنه اعظم كفرا وجحودا للخالق كما تفعله الاتحادية من هؤلاء فان هؤلاء كثيرا اما أن يكونوا متفلسفة لكن المتفلسفة الضالون يقولون بقدم العالم اما معلولا عن علة واجبة كما يقوله ارسطو وذووه واما غير معلول كما يقوله غيرهم وهؤلاء ضموا الى ذلك انه هو العالم او في العالم وأولئك الجهمية الذين ناظرهم الامام احمد وأمثاله كانوا اقرب الى العقل والدين فانهم لم يكونوا يقولون انه عين الموجودات ولا يقولون انه لم يزل محايثا لها ولا كانوا يظهرون انه ليس بمباين للعالم ولا محايث له بل يقولون بنفي الاختصاص بالعرش بقولهم انه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان واذا كان وحده ثم خلق الخلق فاما ان يقولوا انه محل الخلق او يقولوا انه حل في الخلق او يقولوا انه ليس بحال ولا محل فهذه القسمة حاصرة كما ذكره احمد انه لا بد من قول من هذه الأقوال الثلاثة فان جعلوه محلا للمخلوقات فقد جعلوا ابليس والشياطين والنجاسات مما يبعد عن الله ملعون مطرود جعلوه في جوف الله وذلك كفر وان جعلوه حالا فيها فقد جعلوه حالا في كل مكان يتنزه عن مقاربته وملاصقته والقرب منه وذلك أيضا كفر كما تقدم

وفرق الامام احمد في كونه محلا وكونه حالا بين الخبيث الحي وبين الخبيث الموات الجامد فذكر في القسم الأول الخبيث الحي وهم الشياطين وفي الثاني الخبيث الجامد وهي النجس الرديء لانه في هذا القسم يكون التقدير ان المخلوق امكنة له ومحل والمكان والمحل في شأنه ان لا يكون من الحيوانات فالزمهم المكان من الأجسام النجسة الخبيثة القذرة وفي القسم الأول ذكر انه هو المحل والمكان فذكر المتمكن في المكان الحال فيه والعادة ان الحيوانات تكون في الأمكنة فالحيوان يتحرك في المكان واليه ليس المكان هو يتحرك الى الحيوان يجيء اليه واذا انتفى هذان القسمان بقي القسم الثالث هو انه سبحانه وتعالى خلق الخلق خارجا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم وهو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة وعموم الخلائق من كل ذي فطرة سليمة

قال الامام احمد بيان ما ذكر الله في القرآن وهو معكم وهذا على وجوه قول الله تعالى لموسى انني معكما اسمع وأرى يقول في الدفع عنكما وقال تعالى ثاني اثنين اذهما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا يعني في الدفع عنا وقال والله مع الصابرين يعني في النصرة لهم على عدوهم وقوله وانتم الأعلون والله معكم في النصرة لكم على عدوكم وقال سبحانه وهو معهم اذ يبيتون ما لا يرضى من القول يقول بعلمه فيهم وقوله كلا ان معي ربي سيهدين يقول في العون على فرعون

قال فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله عز وجل انه مع خلقه قال هو في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا اذا كان غير مباين اليس هو مماس فلم يحسن الجواب فقال بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة موه عليهم فقلنا له اذا كان يوم القيامة اليس انما هو الجنة والنار والعرش والهواء قال بلى قلنا فأين يكون ربنا قال يكون في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا فقلنا فان مذهبكم ان ما كان من الله على العرش فهو من العرش وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله عز وجل

فذكر الامام احمد بعد تفسير المعية التي احتجوا بها من جهة السمع حجتين عقليتين فذكر قول الجهمية انه في كل شيء غير مماس للأشياء ولا مباين لها وهذا قول الجهميةس الذين ينفون مباينته ثم يبقون مع ذلك مماسته فيقولون هو في كل مكان والصنف الآخر كالمؤسس ينفون مباينته الحقيقية وان قالوا انهم يثبتون مباينته بالحقيقة الزمان فان اؤلئك ايضا وان نفوا المباينة فانهم يثبتونها بالحقيقة والزمان فكلا الطائفتين يقولون انهم يثبتون مباينته لكن ينفون ان يكون خارج العالم وكل من الصنفين خصم للآخر فيما يوافقه عليه الجماعة فالأولون يقولون كما تقول الجماعة انه اذا لم يكن مباينا للعالم بغير الحقيقة والزمان كان محايثا له خلافا للطائفة الأخرى ثم يقول بما تقول به الأخرى وليس بمباين للعالم بغير الحقيقة والزمان فيلزم ان يكون محايثا له والآخرون يقولون اذا كان محايثا للعالم كان مماسا له كما تقول الجماعة خلافا لتلك الطائفة ثم يقولون مع الجماعة وليس بمماس للعالم فيلزم ان لا يكون فيه ولا مباينا له بغير الحقيقة والزمان فلا يكون خارجا عنه

واحمد رحمه الله ذكر ما يعلم بضرورة العقل من انه اذا كان فيه وليس بمباين فانه لا بد أن يكون مماسا له فانه لا يعقل كون الشيء في الشيء الا مماسا له او مباينا له فانه لما كان خطابه مع الجهمية الذين يقولون انه في كل مكان ذكر انه لا بد من المماسة او المباينة على هذا التقدير وهو تقدير المحايثة فان اولئك لم يكونوا ينكرون دخوله في العالم وانما ينكرون خروجه وذكر دعوى الجهمية بنفي هذين النقيضين قال فقلنا اذا كان غير مباين اليس هو مماس قال لا قال فكيف يكون في كل شيء غير مماس يقول احمد ان هذا لا يعقل فكيف يكون ذلك وذكر ان الخصم لم يحسن الجواب عن ذلك فانه لا يمكنه ان يذكر ما يعقل كونه في كل شيء وهو مع ذلك غير مماس فلما كان هذا غير معقول لجأ الخصم الى ان قال بلا كيف قال احمد رحمه الله فخدع الجهال بهذه الكلمة موه عليهم

فبين احمد أن هذه الكلمة انما يقبلها الجهال فينخدعون بها لأنهم يعتقدون ان ما ذكره هذا ممكن وأن لم نعلم نحن كيفيته وانما كانوا جهالا لأنهم خالفوا العقل والشرع وقبلوا ما لا يقبله العقل واعتقدوا هذا من جنس ما اخبر به الشارع من الصفات التي لا نعلم نحن كيفيتها والفرق بينهما من وجهين

أحدهما ان الله ورسوله عالم صادق فيما اخبر به عن نفسه وهو اعلم من عباده فاذا اخبرنا بأمر فقد علمنا صدقه في ذلك وعلمنا مما أخبرنا به ما أفهمناه وما لم نعلم كيفيته من ذلك لا يضرنا عدم علمنا به بعد أن نعلم صدق المخبر

وأما هؤلاء فانما يدعون ما يقولونه بالعقل لا يثبتونه بالشرع فاذا كان العقل الذي به يعتصمون لا يقبل ما يقولونه ولا يثبته بل ينفيه كان ما يقولون باطلا ولم يكن لهم به علم وكانوا أسوأ حالا ممن استشهد بشاهد فكذبه او نزع بآية ليحتج بها وكانت حجة عليه اذ كان مفزعهم العقل والعقل عليهم لالهم

وهذا الذي ذكره الامام احمد هو كما ذكرناه على كلام هذا المؤسس ونحوه من أنهم يدعون بالعقل مالا يقبله العقل بل يرده كدعواهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه كما قال اخوانهم بوجود موجود في العالم لا مباين العالم ولا مماس له ثم ان صنف المؤسس وهذا الصنف الآخر كل منهما يقول بأن الالهيات تثبت على خلاف ما يعلمه الناس وتثبت بلا كيفية ويدعون ذلك فيما يثبتونه بالعقل والعقل نفسه لا يقبل ما يقولونه بل يرده بضرورته وفطرته فضلا عن قياسه ونظره

الوجه الثاني ان الشارع لم يخبر بما يعلم بالعقل بطلانه ولا بما يحيله العقل حتى يكون نظيرا لهذا وهؤلاء ادعوا ما يرده العقل ويحله فلهذا كان ما اخبر به الشارع يقال له والكسيف مجهول ويقال فيه بلا كيف لعدم امتناعه في العقل وهؤلاء الجهمية ادعوا محالا في العقل فلم يقبل منهم بلا كيف ولهذا قال الامام احمد انه خدع الجهال بهذه الكلمة موه عليهم حيث لم يثبتوا الفرق بين خبر الشارع وبين كلام هؤلاء الضلال ولم يثبتوا الفرق بين ما يقبله العقل ويرده وهذا الذي ذكره احمد عنهم من قولهم هو فيه غير مباين ولا مماس وقول الآخرين الذين منهم المؤسس لا داخله ولا خارجه قد علم بالفطرة الضرورية انه خروج عن النقيضين كما علم مثل ذلك في قول سائر الجهمية من الملاحدة والباطنية ونحوهم حيث قالوا هو لا حي ولا ميت ولا عاجز ولا قادر ولا عالم ولا جاهل وكلام هؤلاء كلهم من جنس واحد يتضمن الخروج عن النقيضين ويتضمن تعطيل ما يستحقه الباري وحقيقته تعطيل ذاته بالكلية وتعطيل معرفته وذكره وعبادته بحيث مانعوه من ذلك

فان قيل ما ذكره الامام احمد وقدرتموه من امتناع كونه في العالم غير مباين ولا مماس معارض بما يذكره المؤلف عن أهل الاثبات من أصحاب الامام احمد وغيرهم القائلون بأنه فوق العرش فانهم يقولون هو فوق العرش غير مباين ولا مماس فما الفرق بين الموضعين قيل هؤلاء الذين يقولون هذا انما يقولونه لأنهم يقولون انه فوق العرش وليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف ممن اتبعهم من أهل الفقه وغيرهم وطوائف كثيرة من أهل الكلام والفقه يقولون بل هو مماس للعرش ومنهم من يقول هو مباين له ولأصحاب احمد ونحوهم من أهل الحديث والفقه والتصوف في هذه المسألة ثلاثة اقوال منهم من يثبت المماسة كما جاءت بها الآثار ثم من هؤلاء من يقول انما اثبت ادراك اللمس من غير مماسة للمخلوق بل اثبت الادراكات الخمسة له وهذا قول اكثر الأشعرية والقاضي ابي يعلي وغيره فلهم في المسألة قولان كما تقدم بيانه وعلى هذا فلا يرد السؤال ومنهم من اصحاب احمد وغيره من ينفي المماسة ومنهم من يقول لا اثبتها ولا أنفيها فلا اقول هو مماس مباين ولا غير مماس ولا مباين

وهذه المباينة التي تقابل المماسة اخص من المباينة التي تقابل المحايثة فان هذه العامة متفق عليها عند أهل الاثبات وهي تكون للجسم مع الجسم وللجسم مع العرض وأما التي تقابل المماسةس فانها لا تكون له مع العرض

والعرض يحايث الجسم فلا يباينه المباينة العامة وأما الخاصة فلا يقال فيها مباينة ومماسة فامتناع خلوه عن المباينة العامة والمحايثة اولى فان المباينة الخاصة والمماسة نوعان للمباينة العامة فاذا امتنع رفع النوع فامتناع رفع الجنس اولى وليس هذا موضع الكلام في هذه الأقوال

ولكن نذكر جوابا عاما فنقول كونه فوق العرش ثبت بالشرع المتواتر واجماع سلف الأمة مع دلالة العقل ضرورة ونظرا انه خارج العالم فلا يخلو مع ذلك اما أن يلزم ان يكون مماسا او مباينا اولا يلزم فان لزم احدهما كان ذلك لازما للحق ولازم الحق حق وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك فان تنزيهه عن ذلك انما اثبتناه لوجوب بعد هذه الاشياء وكونها ملعونة مطرودة لم نثبته لاستحالة المماسة عليه وتلك الأدلة منتفية في مماسته للعرش ونحوه كما روي في مس آدم وغيره وهذا جواب جمهور اهل الحديث وكثير من أهل الكلام وان لم يلزم من كونه فوق العرش ان يكون مماسا او مباينا فقد اندفع السؤال فهذا الجواب هنا قاطع من غير حاجة الى تغيير القول الصحيح في هذا المقام وبين من قال انه فوق العرش ليس بمباين كما يقوله من الكلابية والأشعرية من يقول ومن اتبعهم من اهل الفقه والحديث والتصوف والحنبلية وغيرهم ان كان قولهم حقا فلا كلام وان كان باطلا فليس ظهور بطلانه موجود قائم بنفسه مع وجود قائم بنفسه انه فيه ليس بمماس ولا مباين له وأنه ليس هو فيه ولا هو خارجا عنه

ثم ذكر احمد الحجة الثانية فقال قلنا لهم اذا كان يوم القيامة أليس انما الجنة او النار والعرش والهواء الى آخره فبين ان موجب قولهم ان يكون بعضه على العرش وبعضه في الجنة وبعضه في النار وبعضه في الهواء لأن هذه هي الأمكنة التي ادعوا ان الله فيها فيتبعض ويتجزى بتبعض الامكنة وتجزيها وذكر انه عند ذلك تبين للناس كذبهم على الله لان الناس في الدنيا آمنوا بالغيب وبأمور أخرى لم يروها في الدنيا وسوف يرونها في الآخرة فاذا ظهر لهم أن هؤلاء يقولون انه يكون في الآخرة كما كان في الدنيا متفرقا متجزءا لم يمكن أن يراه أحد ولا أن يحايث احدا ولا أن يختص أوليائه بالقرب منه دون اعدائه بل يكون في النار مع اعدائه كما هو في الجنة مع اوليائه فظهر بذلك من كذبهم على الله ما يلم يظهر بما ذكروه في أمر الدنيا

وقال عبد العزيز الكناني في رده على الجهمية بعد ان بين انه على العرش وأجاب عما احتجوا به ثم قال ولكن يلزمك انت ايها الجهمي ان تقول ان الله عز وجل محدود حوته الاماكن اذ زعمت في دعواك انه لا يعقل شيء في مكان الا والمكان قد حواه كما تقول العرب فلان في البيت والماء في الجب والبيت قد حوى فلانا والجب قد حوى الماء ويلزمك اشنع من ذلك لأنك قلت افظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا ان الله حل في عيسى وعيسى بدن انسان واحد وكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى اذ جعلتموه في بطن مريم وانتم تقولون انه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وابدان الناس كلهم ويلزمك ايضا ان تقول انه في اجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك انه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

فلما شنعت مقالته قال اقول ان الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء مع الشيء خارجا عن الشيء ولا مباينا للشيء يقال له أن اصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على انك لا تعبد شيئا لأنه اذا كان شيئا ما خلا في القياس والمعقول ان يكون داخلا في الشيء او خارجا عنه فلما لم يكن في قولك شيئا استحال ان يكون كالشيء في الشيء او خارجا عن الشيء فوصفته لعمري ملتبسا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19