بينما قد خرجت من عند سعدى

بينما قد خرجتُ من عند سُعدَى

​بينما قد خرجتُ من عند سُعدَى​ المؤلف رفاعة الطهطاوي


بينما قد خرجتُ من عند سُعدَى
حيثُ منها بالوصل قد نلتُ قَصْدا
وقطفتُ زهراً وقبّلتُ خَدا
إذ بنظم القريضِ قد زدتُ وجدَا
زاد بي الحالُ إذ صفا لي حَانِي
في غنائي بالعودِ والألحانِ
باسم ربيِّ والسادةِ الأعيانِ
وترنمتُ شجوةً بالحسانِ
فصغَى سمعُهما إلى إنشادِي
ورمى اللنارَ لحظُها في فؤادِي
فلهذا شعري بدا ذا اتّقادٍ
وغدا من حماسهِ في انفراد
أحرقَ العشقُ قلبها كاحتراقِ
فأتتْ تُطفى اللظى بعِناقي
فتضاممّنا ضمةَ المشتاقِ
وتلاثمنا عادةَ العشاق
شنّفْ السمعَ من رفيقِ التغاني
واستمعْ يا أُخَّي صوتَ المثانيِ
يا خليليَّ بالله هلا تراني
أنني قد أحييْتُ شعرَ ابن هانيِ
حيثُ شِعري نَجلُ الشجاعة يُملَى
لستُ أحجوه في البراعةِ إلا
أنه قدر رقىَ العُلا وتملاّ
وغدا لائقاً بحضرة المولى
واحيائي واخجلتي صار فنِّي
أنني في هوى المِلاحِ أُغنّى
برخيمِ الغنا كظبيٍ أغنِّ
وبأوتاري أبتدي وأُثنِّى
أفأيَّامي كلُّها لي عَقيمهْ
أو مَالي عواقبٌ مستقيمهُ
بل على طاعةُ الهوى مُستديمه
أفما هذه مَراقِي ذميمه
أعلى اجتراع كأسِ نصيبِ
خاملٍ ليس كافياً لأريبِ
مع أني والله غيرُ مُريبٍ
همّتِي همةُ الذكي النجيبِ
غيره كان قد تسلطنَ عِشقي
وسبا قانوني له في الرقِّ
فليقم في المغنى بأوفر حقِ
بُليتْ الألفاظُ من نارِ شوقي
مثلُ أرياحِ مصرَ ذاتُ اضطرابِ
آه من مصر إذ غَدتْ في حِسابي
أدهشتني بسحرها المستهاب
وأثارتْ عليَّ ذكري صَابي
ما أحيي سعيدَ بِركَ ألزمْ
فرطٌ بالعودِ أنْ قد تَرنم
وبأنغامِه القوية سلم
وتمنى لو كان قال وعلم
أنا أدركتُ نحوك الحنيّه
واعْتَرى قلبي رأفةٌ بنويّهْ
ولقد قِستُ فكرتي والرويّه
بعلاك فجاءتا بالسويّه
أنا في إنشادي القريضَ أُصدرْ
نحوَ عمرانك المديحَ وأُظهرْ
لك تاريخٌ بالعجائبِ مُبْهرْ
وبتجديدي هيكلاً لا أقصر
وبتأسيسٍ فيكِ كل الفنونِ
بهدايا تغتني عن يقينِ
وبإنشائي المبينِ المتينِ
أنقلُ أوربا فيك يا نورَ عيني
واحدٌ من بنيك يَصنع عُرفَا
حيث الفضلُ فيك ينشرُ عَرفا
هل ترين السوى يفيدك لطفا
فاقَ هذا الشذى وأرغَم أنفا
أنا إنْ شاء الله حققَ عوْدِي
فيك أعجوبةً رقتْ في الصعودِ
وتولى على ثراكِ السعيد
وأزال الذي عفَى بالجديد
لكن المفخرَ الذي قد تخبَّا
تحتَ أطلالِك القديمةِ حِقبا
قد أُزيلَ القناعُ عنه فهبّا
ضوؤه في الأنام شرقا وغربا
خبريني من الذي قد تولَّى
شأنك البالغَ الجدودَ وعلاَّ
سمكُ إيوانِك الذي فيه حَلاَّ
يا لَه من عظيم رأيٍ تجلاَّ
مذْ دنا مُشِهراً للسلاحِ
صَغُر الكلُ في جميع النواحي
أورنا ناطقاً بعين الفلاحِ
قام من قبره فخارُك صَاحِي
بسياساتٍ فيك أضحى كفيلاَ
بيدٍ دانتْ من مُضي التقبيلا
حددتْ في جبينِك الإكليلا
نضرتْ غُصناً فيكِ حاز ذبولا
يا وزيراً بأرضِ مصرَ عطوفْ
حوله كلُّ المكرماتِ تَطوفْ
أعَدن روْنقاً بمصر ينوف
حُزْتِ تختاً عن الملوكِ طريفْ
فعلُكَ الخيرَ بعده حسنُ ذكرِ
مستمرٌ على مدى كل دهرِ
فاغتنم حفظ مشتَهى نيلِ مصرِ
فلقد شابه دماً سيفُ نصرِ
فأدِم في سبيل المحاسِن سَعيَا
وارْعَ في روضةِ الأحاسِن رعيا
وأبِنْ عن بهاءِ مصر المحيَّا
ما تخبّا من حسنها قد تهيا
أنا عن وجهِ مصرَ صرتُ بعيدا
فوق برَ بالفضل أضحى سَعيدا
ولوادٍ شرفتَه لن أريدا
حيث عنِي اغتني وصار وَحيدا
مع أني بالقرب من مَيْدانِ
عامرٍ من تناضُل الفِرسان
كلُّ أقراني بالسباق مُعاني
وجميعُ الأنام طُراً يراني
أيهذا الوادي رفيعُ الفخارِ
صار في شطك المنيع قَراري
في الحشا قد غرسْتَ حبَّ اشتهاري
حيث كل الكمالِ نحوك سَارِي
مع ما قد حملتُ حيث فريقي
محرقاتٌ من الدم الأفريقِي
وصَبُوحي بلوعَتي وغَبوقي
كل هذا غدا هباءً بشوقِي
أنا أسلمتُ للمقادير نفسي
ونَصيبي عاملْتُه بالتأسّي
وإذا العودُ في يدي أنا أُمِسي
نحوَ باريز ثمَّ مجلسُ أُنسي
وإفادِي أسيرَ عقلٍ ذكيٍّ
يزدرِي فيها شعرَ كل كمىً
يرتقي أوجَ كلَّ معنى بهىِّ
ينتقي لفظَ ماهرٍ ألمعيِّ
يا إله السماءِ يا ذا البقاء
قد تيقنتُ فيك نيلَ رجائي
لم أحدْ عن موائدِ الأحياء
قبل أن أستريحَ تحت لواء
أنتِ يا سُعدي قد مَلكتِ حشائي
وسبيتِ حريتي بالتهائي
ولقد أذهبتِ شديدَ بهائِي
عن محيّا وقتي الذي باعتنائي
وسلبتِ بغير حقٍ شبابي
وحسبتُ لَدَيْكِ كلَّ اكْتآبي
وعلى حُكمك المعيبِ انتسابي
ولك أن تصرفي في انتهابي
ادهبي الآن قد رفضتُ الغراما
لست من أسراه نقضتُ الذِّماما
عن عبوديتي نحوتُ مُراما
لستُ أرضى لشرعتي استسلاما
أحرقْتني بلثمها وَاعنائي
مزجتْ خمرَ ثغرها بدمائي
في عُروقي جرت وفي أعضائي
اذهبي يا سُعدي أديمي التنائي
اقبلي منيِّ طيباتِ الوداعِ
واجعليها نهايةَ الاجتماعِ
قد تسليتُ رغبةً في ارتفاعي
ولأحيي ذِكري بغير انقطاع
أمنياتي من غِفلتي أيقظتني
وبإلهامها الهُدى وعظتني
ودواعي الغرام قد لَفِظتني
فتناولْتُ آلةً حفظتني
حسْبُكُ الله أن عُودِي حياتي
أتريدي أن تظفري بوفاتِي
يا فجارِ الفرارَ عن مُزهقاتي
أنا مسكينٌ في الورى أنا ذاتي
أيُّ شيءٍ قد قلتُه من جُنوني
وتفننتُ في القَلا بفُنونِ
يا مرامي المباينَ التبين
قد تلعبتَ في الهوى بالمجون
يا فؤادي قد أسلمتُك الأمورا
وأباحتْ تجارةً لن تبُورا
كيف ترضى على الظبا أن تجورا
لستَ ألفوك آسفاً مقهورا
أفنهنيك شِدةُ الإيلامِ
لفتاةٍ صعيفة في الأنَامِ
يا شريفاً لدى الملوكِ الكرامِ
بامتداحٍ لهم مدى الأيَّام
فتأملْ منها انهمالَ الدموعِ
من عيونٍ مريضةٍ بالولوع
الفرارَ الفرارَ فهو شفيعي
غير أن الفرار ألقى بروعي
هذه فكرةٌ أراعتْ فؤادي
وأضاعتْ عَزمي وكلَّ اعتمادي
وأثارتْ دمي ووارتْ رشادي
لست أنجو جبانَ نصرِ اجتهادي
ويحَ عزٍ وسؤددٍ نشتريه
بنواحِ المِلاح إذ نشتهيهِ
يا فؤادي سلْ عند أي فقيه
يغفرُ الذنبَ من قتالِ بنيه
فخرُ ذا الجُرْم ليس يكسو إلا
فوق كتفيه من خَطاياه ثِقلا
أنا صدقتُ مأرباً معتلا
ورجاءً عن الطريقةِ ضَلاّ
أذهبُ اليوم خائناً للودادِ
لسؤال العُلا أمدُّ الأيادي
وجبيني قدمتُه بتمادي
نحوَ تاج على اتهامِي يُنادي
لا رَعى اللهُ فكرةَ التأسيفِ
مَزّقتني بسهم قوسٍ عَنيفِ
وصياحي الخفيُّ مزَّقَ خُوفي
وغضوبُ الإكليل في تعنيفي
تخذ الصمتَ عادةً منك عُودِي
حيث بانتْ تلهفاتُ الصدودِ
وغدا في أناملي كالعميدِ
ميتاً لا يظن فيه بعوْدِ
وأنا الذي قد رميتُ السلاحا
ولشرع الهوى خفضتُ الجناحا
لا تزالي إنْ تفعلي إصلاحا
ترفعِي في الغرام عني جناحا
ليتني أشتري رضاءك عني
الذي الآن فيه حسَّنتُ ظنِّي
بنصيفِ الحياة لو كان يُغنى
وبما قد بقى أعيشُ بأمنِ
فحقيقٌ أن المفاخرَ كانتْ
قد أرادتْ ضِيافتي ما توانتْ
بسعاداتٍ لم تكن لي بانتْ
لكن النصرةَ التي قد تدانتْ
فإذن قد وكلتِ شمسَ رجاءِ
بك أضحى شروقُها في ازدهاءِ
وتهنىَّ غروبها بهناءِ
وإذن أنا حاضرٌ يا منائي
إن رشفي مدامعَ الأحزانِ
من عيونٍ مَريضةِ الأجْفانِ
قد رَددتِ إليكِ خِلاً مُعاني
أو صددتِ الذميمَ من طيشاني
هو عودٌ كما علمتِ أثيمُ
حظه في القصاصِ حظ جسيمُ
فهو ملقيٌ على التراب ثَليمُ
حيثما كان للمعالي يَرومُ
فدعي ذكراكِ قصيرَ خَيالِ
غَرّني فيه لهجتي في كَمالي
وأنا الآن فديةٌ للجمالِ
قد ذبحتُ الفخارَ مما جَرى لي
إن روحي قد أغربتْ في المودهْ
بابتهاجٍ قد صيَّر العزَّ جُنده
وجناني بجنةٍ مستعده
في حياتي كيما أسامرُ مجده
فمن الآن للمماتِ خُذيني
عبدَّ رقٍ بين الورى شَرِّفيني
أي شيء من الأماني يَليني
فلتكوني مولاةَ عِزّي وديني
فهلميِّ لتشمليني لُطفَا
وأسكريني بخمرِ عزِّك صِرْفا
فلنا عهدٌ بالمحبةِ وَفَى
ليس يفنى ذكراه لو نُتَوفَّى
وإذا ما لديك حانَتْ وفاتي
لك كفُّ بغمضِ جفني تاتي
وكذا في قبرٍ يُؤْهل ذاتي
أتهنّى بآخرِ اللثماتِ