ترحلت عن زمني عائدا

​ترحلت عن زمني عائدا​ المؤلف جبران خليل جبران


ترحلت عن زمني عائدا
خلال القرون إلى ما وراء
وما طيتي غير أني وقفت بآثار فن عداها الفناء
هياكل شيدها للخلود
نبوغ جبابرة أقوياء
فجسمي في دهره ماكث
وقلبي في أول الدهر ناء
أجلت بتلك الرسوم لحاظا
يغالب فيها السرور البكاء
فما ارتهن الطرف إلا مثال
عتيق الجمال جديد الرواء
مثال لإيزيس في صلده
تحس الحياة وتجري الدماء
يروعك من عطفه لينه
ويرويك من رونق الوجه ماء
به فجر الحسن من منبع
فيا عجبا للرمال الظماء
فتون الدلال وردع الجلال
وأمر الحياة ونهي الحياء
فأدركت كيف استبت عابديها
بسحر الجمال وسر الذكاء
وبث العيون شعاع النهى
يبيح السرائر من كل راء
لقد غبرت حقب لا تعد
يدول النعيم بها والشقاء
تزول البلاد وتفنى العباد
وإيزيس تزهو بغير ازدهاء
إذا انتابها الدهر ما زادها
وقد حسر الموج إلا جلاء
لبثت أفكر في شأنها
مطيفا بها هائما في العراء
فلما براني حر الضحى
وأدركني في الطواف العياء
أويت إلى السمح من ظلها
وفي ظلها الروح لي والشفاء
يجول بي الفكر كل مجال
إذا أقعد الجسم فرط العناء
فما أنا إلا وتلك الإلهة
ذات الجلالة والكبرياء
قد اهتز جانبها وانتحت
تخطر بين السنى والسناء
وترمقني بالعيون التي
تفيض محاجرها بالضياء
بتلك العيون التي لم تزل
يدان لعزتها من إباء
فما في الملوك سوى أعبد
وما في المليكات إلا إماء
وقالت بذاك الفم الكوثري
الذي رصعته نجوم السماء
أيا ناشد الحسن في كل فن
رصين المعاني مكين البناء
لقد جئت من آهلات الديار
تحج الجمال بهذا العراء
فلا يوحشنك فقد أنيس
سوى الذكر يعمر هذا الخلاء
وإن الرسوم لحال تحول
وللحسن دون الرسوم البقاء
له صور أبدا تستجد
وجوهره أبدا في صفاء
بكل زمان وكل مكان
ينوع في الشكل للأتقياء
فليس القديم وليس الحديث
لدى قدرة الله إلا سواء
رفعت لك الحجب المسدلات
وأبرحت عن ناظريك الخفاء
تيمم بفكرك أرضا لنا
بها صلة من قديم الإخاء
بلاد الشآم التي لم تزل
بلاد النوابغ والأنبياء
ففي سفح لبنان حورية
تفنن مبدعها ما يشاء
إذا ما بدت من خباء العفاف
كما تتجلى صباحا ذكاء
تبينتها وهي لي صورة
أعيدت إلى الخلق بعد العفاء
فتعرفها وبها حليتاي
سحر الجمال وسر الذكاء