تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الأحزاب

{ يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } * { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } * { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } * { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } * { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } * { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } * { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } * { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } * { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } * { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } * { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } * { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } * { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } * { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } * { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } * { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } * { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } * { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } * { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } * { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } * { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } * { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } * { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } * { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } * { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } * { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْقَانِتَاتِ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلصَّادِقَاتِ وَٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّابِرَاتِ وَٱلْخَاشِعِينَ وَٱلْخَاشِعَاتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } * { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } * { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } * { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } * { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } * { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } * { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } * { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } * { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } * { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } * { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً } * { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً } * { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } * { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } * { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } * { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } * { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } * { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } * { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } * { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } * { إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } * { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ } * { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } * { رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } * { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } * { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } * { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

الجوف: معروف، وجمعه أجواف. يثرب: مدينة الرسول، عليه السلام، وقيل: أرض المدينة فيناحية منها. الحنجرة: رأس الغلصمة، وهي منتهى الحلقوم؛ والحلقوم: مدخل الطعام والشراب. الأقطار: النواحي، واحدها قطر، ويقال: قتر بالتاء، لغةفيه. عوّق عن كذا: تثبط عنه. سلقه: اجترأ عليه وضربه، ويقال: صلقه بالصاد. قال الشاعر

:فصلقنا في مراد صلقه وصداء لحقتهم بالثلل    

وقيل: سلقه: خاطبه مخاطبة بليغة، ومنه خطيب سلاق ومسلاق، ولسان سلاق ومسلاق. السحب:النذر، والشيء الذي لا يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به. قال الشاعر

: عشية فر الحارثون بعيد ما     قضى نحبه في ملتقى القوم هزبر

وقال جرير

: بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا     عشية بسطام جرين على نحب

أي على أمر عظيم التزم القيام به، وقد يسمىالموت نحباً. الصياصي: الحصون، واحدها صيصية، وهي كل ما يمتنع به. ويقال لقرن الصور والظبي، ولشوكة الديك، وهي مخلبه الذيفي ساقه لأنه يتحصن به. والصياصي أيضاً: شوكة الحاكة، ويتخذ من حديد، ومنه قول دريد بن الصمة

:كوقع الصياصي في النسيج المدد    

الأسوة: القدوة، وتضم همزته وتكسر، ويتأسى بفلان: يقتدي به؛ والأسوة من الائتساء، كالقدوة منالاقتداء: اسم وضع موضع المصدر. التبرج، قال الليث: تبرجت: أبدت محاسنها من وجهها وجسدها، ويرى مع ذلك من عينها حسننظر. وقال أبو عبيدة: تخرج محاسنها مما تستدعي به شهوة الرجال، وأصله من البرج في عينه وفي أسنانه، برج: أيسعة. الوطر، قال أبو عبيدة: كالأرب، وأنشد للربيع بن أصبغ

: ودعنا قبل أن نودعه     لما قضى من شبابنا وطرا

وقال المبرد: الوطر: الشهوة والمحبة، يقال: ما قضيت منلقائك وطراً، أي ما استمتعت بك حتى تشتهي نفسي وأنشد

: وكيف ثوائي بالمدينة بعدما     قضى وطرا منها جميل بن معمر

الجلباب: ثوب أكبر من الخمار. {مُّنتَظِرُونَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَتُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبّكَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراًوَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوٰجَكُمُ ٱللاَّئِى تُظَـٰهِرُونَ مِنْهُنَّأُمَّهَـٰتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ }. هذه السورة مدنية. وتقدم أن نداءه/ : {مُّنتَظِرُونَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ}،

{ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ }

هو على سبيل التشريف والتكرمة والتنويه بمحله وفضيلته، وجاء نداء غيره باسمه، كقوله:

{ وَعَلَّمَ ءادَمَ }

{ وَنَادَىٰ نُوحٌ }

{ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ }

{ حَدِيثُ مُوسَىٰ }

{ وَقَتَلَ دَاوُودُ }

{ وَءاتَيْنَا عِيسَى }

وحيث ذكره على سبيل الأخبار عنه بأنه رسوله، صرح باسمه فقال:

{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ }

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ }

أعلم أنه رسوله، ولقنهم أن يسموه بذلك. وحيث لم يقصد الإعلام بذلك، جاء اسمهكما جاء في النداء:

{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ }

{ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبّ * رَبّ }

{ ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ }

وغير ذلك من الآي. وأمره بالتقوى للمتلبس بها، أمر بالديموية عليها والازدياد منها. والظاهر أنه أمرللنبي، وإذا كان هو مأموراً بذلك، فغيره أولى بالأمر. وقيل: هو خطاب له لفظاً، وهو لأمّته. وروي أنه لماقدم المدينة، وكان يحب إسلام اليهود، فبايعه ناس منهم على النفاق، وكان يلين لهم جانبه، وكانوا يظهرون النصائح في طرقالمخادعة، ولحلفه وحرصه على ائتلافهم ربما كان يسمع منهم، فنزلت تحذيراً له منهم وتنبيهاً على عداوتهم. وروي أيضاً أن أباسفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي قدموا في الموادعة التي كانت بينهم وبينه، وقام عبد الله بن أبي،ومعتب بن قشير، والجد بن قيس فقالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع، وندعك وربك؛ فشق ذلك عليهوعلى المؤمنين، وهموا بقتلهم، فنزلت. وناسب أن نهاه عن طاعة الكفار، وهم المتظاهرون به، وعن طاعة المنافقين، وهم الذين يظهرونالإيمان ويبطنون الكفر. فالسببان حاويان الطائفتين، أي: ولا تطع الكافرين من أهل مكة، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا إليك.وروي أن أهل مكة دعوه إلى أن يرجع إلى دينهم، ويعطوه شطر أموالهم، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته؛ وخوفه منافقوالمدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع، فنزلت. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة، وهو أنه حكى أنهميستعجلون الفتح، وهو الفصل بينهم، وأخبر تعالى أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم، فأمره في أول هذه السورة بتقوى الله،ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }: عليماً بالصواب من الخطأ، والمصلحة منالمفسدة؛ حكيماً لا يضع الأشياء إلا مواضعها منوطة بالحكمة؛ أو عليماً حيث أمر بتقواه، وأنها تكون عن صميم القلب، حكيماًحيث نهى عن طاعة الكفار والمنافقين. وقيل: هي تسلية للرسول، أي عليماً بمن يتقي، حكيماً في هدي من شاء وإضلالمن شاء. ثم أمره باتباع ما أوحي إليه، وهو القرآن، والاقتصار عليه، وترك مراسيم الجاهلية. وقرأ أبو عمرو: بما يعملون،الأولى والثانية بياء الغيبة؛ وباقي السبعة: بتاء الخطاب، فجاز في الأولى أن يكون من باب الالتفات، وجاز أن يكون مناسبةلقوله: {وَٱتَّبِعْ }، ثم أمره بتفويض أمره إلى الله. وتقدم الكلام في {كَفَىٰ بِٱللَّهِ } في أول ما وقع فيالقرآن. روي أنه كان في بني فهر رجل فيهم يقال له: أبو معمر جميل بن أسد، وقيل: حميد بن معمربن حبيب بن وهب بن حارثة بن جمح، وفيه يقول الشاعر

: وكيف ثوائي بالمدينة بعدما     قضى وطراً منها جميل بن معمر

يدعي أن له قلبين، ويقال له: ذو القلبين، وكان يقول: أناأذكى من محمد وأفهم؛ فلما بلغته هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل، فنزلت. وقال الحسن:هم جماعة، يقول الواحد منهم: نفس تأمرني ونفس تنهاني. وقيل: إن بعض المنافقين قال إن محمداً له قلبان، لأنه ربماكان في شيء، فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه، فنفى الله ذلك عنه وعن كل أحد. قيل: وجهنظم هذه الآية بما قبلها، أنه تعالى لما أمر بالتقوى، كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غيرالله، فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره، وهو لا يتقي غيره إلا بصرف القلب عن جهةالله إلى غيره، ولا يليق ذلك بمن يتقي الله حق تقاته. انتهى، ملخصاً. ولم يجعل الله للإنسان قلبين، لأنه إماأن يفعل أحدهما مثل ما يفعل الآخر من أفعال القلوب، فلا حاجة إلى أحدهما، أو غيره، فيؤدي إلى اتصاف الإنسانبكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً شاكاً موقناً في حال واحدة. وذكر الجوف، وإن كان المعلوم أن القلب لا يكون إلابالجوف، زيادة للتصوير والتجلى للمدلول عليه، كما قال تعالى:

{ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ }

فإذا سمع بذلك،صور لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين يسرع إلى إنكار ذلك. {وَمَا جَعَلَ أَزْوٰجَكُمُ }: لم يجعل تعالى الزوجة المظاهرمنها أماً، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوك، وهما حالتان متنافيتان. وقرأقالون وقنبل: {ٱللاَّئِى } هنا، وفي المجادلة والطلاق: بالهمزة من غير ياء؛ وورش: بياء مختلسة الكسرة؛ والبزي وأبو عمرو: بياءساكنة بدلاً من الهمزة، وهو بدل مسموع لا مقيس، وهي لغة قريش؛ وباقي السبعة: بالهمز وياء بعدها. وقرأ عاصم: {تَظَـٰهَرُونَ} بالتاء للخطاب، وفي المجادلة: بالياء للغيبة، مضارع ظاهر؛ وبشد الظاء والهاء: الحرميان وأبو عمرو؛ وبشد الظاء وألف بعدها: ابنعامر؛ وبتخفيفها والألف: حمزة والكسائي؛ ووافق ابن عامر الآخرين في المجادلة؛ وباقي السبعة فيها بشدها. وقرأ ابن وثاب، فيما نقلابن عطية: بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء، مضارع أظهر؛ وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه: بتخفيف الظاء، لحذفهم تاءالمطاوعة وشد الهاء. وقرأ الحسن: تظهرون، بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء، مضارع ظهر، مشدد الهاء. وقرأ هارون، عن ابيعمرو: تظهورن، بفتح التاء والهاء وسكون الظاء، مضارع ظهر، مخفف الهاء، وفي مصحف أبي: تتظهرون، بتاءين. فتلك تسع قراآت، والمعنى:قال لها: أنت علي كظهر أمي. فتلك الأفعال مأخوذة من هذا اللفظ كقوله: لبى المحرم إذا قال لبيك، وأفف إذاقال أف. وعدى الفعل بمن، لأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية، فيتجنبون المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة، والمعنى: أنه تباعدمنها بجهة الظهار وغيره، أي من امرأته. لما ضمن معنى التباعد، عدى بمن، وكنوا عن البطن بالظهر إبعاداً لما يقاربالفرج، ولكونهم كانوا يقولون: يحرم إتيان المرأة وظهرها للسماء، وأهل المدينة يقولون: يجيء الولد إذ ذاك أحول، فبالغوا في التغليظفي تحريم الزوجة، فشبهها بالظهر، ثم بالغ فجعلها كظهر أمه. وروي أن زيد بن حارثة من كلب سبي صغيراً، فاشتراهحكيم بن حزام لعمته خديجة، فوهبته لرسول الله ، وجاء أبوه وعمه بفدائه، وذلك قبل بعثة رسولالله، فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فنزلت. {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } الآية: وكانوا في الجاهلية وصدر الإسلامإذا تبنى الرجل ولد غيره صار يرثه. وأدعياء: جمع دعي، فعيل بمعنى مفعول، جاء شاذاً، وقياسه فعلى، كجريح وجرحى، وإنماهذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل، نحو: تقي وأتقياء. شبهوا أدعياء بتقي، فجمعوه جمعه شذوذاً، كما شذوا فيجمع أسير وقتيل فقالوا: أسراء وقتلاء، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا: أسرى وقتلى. والبنوة تقتضي التأصل في النسب، والدعوة إلصاقعارض بالتسمية، فلا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل. {ذٰلِكُمْ }: أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لاحقيقة لمدلوله، إذ لا يواطىء اللفظ الاعتقاد، إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه. {وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ }: أي ما يوافقظاهراً وباطناً. {وَهُوَ يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ }: أي سبيل الحق، وهو قوله: {ٱدْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ }، أو سبيل الشرع والإيمان. وقرأ الجمهور:يهدي مضارع هدى؛ وقتادة: بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. و{أَقْسَطُ }: أفعل التفضيل، وتقدم الكلام فيه في أواخر البقرة،ومعناه: أعدل. ولما أمر بأن يدعى المتبني لأبيه إن علم قالوا: زيد بن حارثة {وَمَوٰلِيكُمْ }؛ ولذلك قالوا: سالم مولىأبي حذيفة. وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال: أنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا أخوكم فيالدين ومولاكم. قال الرازي: ولو علم والله أباه حماراً لانتمى إليه، ورجال الحديث يقولون فيه: نفيع بن الحارث. وفي الحديث: من ادعى إلى غير أبيه متعمداً حرم الله عليه الجنة {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ }، قيل: رفع الحرج عنهمفيما كان قبل النهي، وهذا ضعيف لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي. وقيل: فيما سبق إليه اللسان. أما علىسبيل الغلط، إن كان سبق ذلك إليهم قبل النهي، فجرى ذلك على ألسنتهم غلطاً، أو على سبيل التحنن والشفقة، إذكثيراً ما يقول الإنسان للصغير: يا بني، كما يقول للكبير: يا أبي، على سبيل التوقير والتعظيم. وما عطف على ماأخطأتم، أي ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم. وأجيز أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء، أي ولكن ما تعمدت قلوبكمفيه الجناح. {وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً } للعامد إذا تاب، {رَّحِيماً } حيث رفع الجناح عن المخطىء. وكونه، عليه السلام،{أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }: أي أرأف بهم وأعطف عليهم، إذ هو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. ومنهقوله، عليه السلام: أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش ومن حيث ينزل لهم منزلةالأب. وكذلك في محصف أبي، وقراءة عبد الله: {وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ }: وهو أب لهم، يعني في الدين. وقال مجاهد: كلنبي أبو أمته. وقد قيل في قول لوط عليه السلام: هؤلاء بناتي، إنه أراد المؤمنات، أي بناته في الدين؛ ولذلكجاء:

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }

أي في الدين. وعنه عليه السلام: ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة وأقرؤا إن شئتم: {ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }، فأيما مؤمن هلك وترك مالاً، فليرثه عصبتهمن كانوا؛ وإن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي. قيل: وأطلق في قوله تعالى: {أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ }: أي في كل شيء،ولم يقيد. فيجب أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقوقه آثر، إلى غير ذلك ممايجب عليهم في حقه. انتهى. ولو أريد هذا المعنى، لكان التركيب: المؤمنون أولى بالنبي منهم بأنفسهم. {وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ }: أيمثل أمهاتهم في التوقير والاحترام. وفي بعض الأحكام: من تحريم نكاحهن، وغير ذلك مما جرين فيه مجرى الأجانب. وظاهر قوله:{وَأَزْوٰجُهُ }: كل من أطلق عليها أنها زوجة له، عليه السلام، من طلقها ومن لم يطلقها. وقيل: لا يثبت هذاالحكم لمطلقة. وقيل: من دخل بها ثبتت حرمتها قطعاً. وهم عمر برجم امرأة فارقها رسول الله ،ونكحت بعده، فقالت له: ولم هذا، وما ضرب علي حجاباً، ولا سميت للمسلمين أماً؟ فكف عنها. كان أولاً بالمدينة، توارثبأخوة الإسلام وبالهجرة، ثم حكى تعالى بأن أولي الأرحام أحق بالتوارث من الأخ في الإسلام، أو بالهجرة في كتاب الله،أي في اللوح المحفوظ، أو في القرآن من المؤمنين والمهاجرين، أي أولى من المؤمنين الذين كانوا يتوارثون بمجرد الإيمان، ومنالمهاجرين الذين كانوا يتوارثون بالهجرة. وهذا هو الظاهر، فيكون من هنا كهي في: زيد أفضل من عمرو. وقال الزمخشري: يجوزأن يكون بياناً لأولي الأرحام، أي الأقرباء من هؤلاء، بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب. انتهى. والظاهر عموم قوله:{إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ }، فيشمل جميع أقسامه، من قريب وأجنبي، مؤمن وكافر، يحسن إليه ويصله في حياته، ويوصي له عند الموت،قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنفية. وقال مجاهد، وابن زيد، والرماني وغيره: {إِلا * أَوْلِيَائِكُمْ }، مخصوص بالمؤمنين. وسياقما تقدم في المؤمنين يعضد هذا، لكن ولاية النسب لا تدفع في الكافر، إنما تدفع في أن تلقي إليه بالمودة،كولي الإسلام. وهذا الاستثناء في قوله: {إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ } هو مما يفهم من الكلام، أي: {وَأُوْلُو ٱلاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰبِبَعْضٍ } في النفع بميراث وغيره. وعدى بإلى، لأن المعنى: إلا أن توصلوا إلى أوليائكم، كان ذلك إشارة إلى مافي الآيتين. {فِى ٱلْكِتَـٰبِ }: إما اللوح، وإما القرآن، على ما تقدم. {مَسْطُورًا }: أي مثبتاً بالأسطار، وهذه الجملة مستأنفةكالخاتمة، لما ذكر من الأحكام، ولما كان ما سبق أحكام عن الله تعالى، وكان فيها أشياء مما كانت في الجاهلية،وأشياء في الإسلام نسخت. أتبعه بقوله: {وَإِذَا * أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ }: أي في تبليغ الشرائع والدعاء إلى الله،فلست بدعاً في تبليغك عن الله. والعامل في إذ، قاله الحوفي وابن عطية، يجوز أن يكون مسطوراً، أي مسطوراً فيأم الكتاب، ويحن أخذنا. وقيل: العامل: واذكر حين أخذنا، وهذا الميثاق هو في تبليغ رسالات الله والدعاء إلى الإيمان، ولايمنعهم من ذلك مانع، لا من خوف ولا طمع. قال الكلبي: أخذ ميثاقهم بالتبليغ. وقال قتادة: بتصديق بعضهم بعضاً، والإعلانبأن محمداً رسول الله، وإعلان رسول الله أن لا نبي بعده. وقال الزجاج وغيره: الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشرمن صلب آدم كالذر، قالوا: فأخذ الله حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وتصديق بعضهم بعضاً، وبجميع ما تمضنته النبوة. وروي نحوهعن أبيّ بن كعب، وخص هؤلاء الخمسة بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين. وقيل: هم أولو العزم لشرفهم وفضلهم علىغيرهم. وقدم محمد ، لكونه أفضل منهم، وأكثرهم أتباعاً. وقدم نوح في آية الشورى في قوله:

{ شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً }

الآية، لأن إيراده على خلاف. الإيراد، فهناك أورده على طريق وصفدين الإسلام بالأصالة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتمالأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. والميثاق الثاني هو الأول، وكرر لأجل صفته.والغلظ: من صفة الأجسام، واستعير للمعنى مبالغاً في حرمته وعظمته وثقل فرط تحمله. وقيل: الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاءبما حمله. واللام في {لِّيَسْأَلَ }، قيل: يحتمل أن تكون لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلىكذا. والظاهر أنها لام كي، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألهاعن صدقها على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك؛ وفرقة كفرت،فينالها ما أعد لها من العذاب. فالصادقون على هذا المسئولون هم: المؤمنون. والهاء في {صِدْقُهُمْ } عائدة عليهم، ومفعول {صِدْقُهُمْ} محذوف تقديره: عن صدقهم عهده. أو يكون {صِدْقُهُمْ } في معنى: تصديقهم، ومفعوله محذوف، أي عن تصديقهم الأنبياء، لأنمن قال للصادق صدقت، كان صادقاً في قوله. أو ليسأل الأنبياء الذي أجابتهم به أممهم، حكاه علي بن عيسى؛ أوليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم، حكاه ابن شجرة؛ أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، قاله مجاهد،وفي هذا تنبيه، أي إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف بمن سواهم؟ وقال مجاهد أيضاً: {لِّيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ }، أراد المؤدين عنالرسل. انتهى. وسؤال الرسل تبكيت للكافرين بهم، كما قال تعالى:

{ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ }

وقال تعالى:

{ فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ }

{وَأَعَدَّ }: معطوف على {أَخَذْنَا }، لأن المعنى: أنالله أكد على الأنبياء الدعاء إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين. {وَأَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً }، أو على ما دل عليه:{لِّيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ }، كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين، قالهما الزمخشري. ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب بهالصادقون، وهم المؤمنون، وذكرت العلة؛ وحذف من الثاني العلة، وذكر ما عوقبوا به. وكان التقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم، فأثابهم؛ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم، كقوله:

{ وَيَوْمَ يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلاْنبَـاء }

و

{ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }

فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني، ومن الثاني ما أثبت مقابله فيالأول، وهذه طريقة بليغة، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في قوله:

{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى يَنْعِقُ }، وأمعنا الكلام هناك }

{أَلِيماً يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْتَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ }. ذكرهم الله تعالى بنعمته عليهم في غزوة الخندق، وما اتصل بها من أمربني قريظة، وقد استوفى ذلك أهل السير، ونذكر من ذلك ما له تعلق بالآيات التي نفسرها. وإذ معمولة لنعمة،أي إنعامه عليكم وقت مجيء الجنود، والجنود كانوا عشرة الآف قريش، ومن تابعهم من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبوسفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وسليم يقودهم أبو الأعور، واليهود النضيررؤساؤهم حيـي بن أخطب وابنا أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينه وبين الرسول عهد، فنبذه بسعيحيـي بن أخطب. وقيل: فاجتمعوا خمسة عشر ألفاً، وهم الأحزاب، ونزلوا المدينة، فحفروا الخندق بإشار سلمان، وظهرت للرسول به تلكالمعجزة العظيمة من كسر الصخرة التي أعوزت الصحابة ثلاث فرق، ظهرت مع كل فرقة برقة، أراه الله منها مدائن كسرىوما حولها، روما ومدائن قيصر وما حولها، ومدائن الحبشة وما حولها؛ وبشر بفتح ذلك، وأقام الذراري والنساء بالآطام، وخرج رسولالله والمسلمون في ثلاثة آلاف، فنزلوا بظهر سلع، والخندق بينهم وبين المشركين، وكان ذلك في شوال،سنة خمس، قاله ابن إسحاق. وقال مالك: سنة أربع. وقرأ الحسن: وجنوداً، بفتح الجيم؛ والجمهور: بالضم. بعث الله الصباالنصرة نبيه، فأضرت بهم؛ هدمت بيوتهم، وأطفأت نيرانهم، وقطعت حبالهم، وأكفأت قدورهم، ولم يمكنهم معها قرار. وبعث الله مع الصباملائكة تشدد الريح وتفعل نحو فعلها. وقرأ أبو عمر وفي رواية، وأبو بكرة في رواية: لم يروها، بياء الغيبة؛ وباقيالسبعة، والجمهور: بتاء الخطاب. {مّن فَوْقِكُمْ }: من أعلى الوادي من قبل مشرق غطفان، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ }: من أسفلالوادي منه قبل المغرب، وقريش تحزبوا وقالوا: نكون جملة حتى نستأصل محمداً. وقال مجاهد: {مّن فَوْقِكُمْ }، يريدف أهل نجدمع عيينة بن حصن، و{مِنْ * أَسْفَلَ مِنكُمْ }، يريد مكة وسائر تهامة، وهو قول قريب من الأول. وقيل: إنمايراد ما يختص ببقعة المدينة، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة، وطائفة في أسفلها، وهذا قريب من القول الأول، وقديكون ذلك على معنى المبالغة، أي جاوؤكم من جميع الجهات، كأنه قيل: إذ جاوؤكم محيطين بكم، كقوله:

{ يَغْشَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }

المعنى: يغشاهم محيطاً بجميع أبدانهم. وزيغ الأبصار: ميلها عن مستوى نظرها، فعل الواله الجزع.وقال الفراء: زاغت من كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها. وبلوغ القلب الحناجر: مبالغة في اضطرابها ووجيبها، دون أنتنتقل من مقرها إلى الحنجرة. وقيل: بحت القلوب من شدة الفزع، فيتصل وجيبها بالحنجرة، فكأنها بلغتها. وقيل: يجد خشونة وقلبهيصعد علواً لينفصل، فالبلوغ ليس حقيقة. وقيل: القلب عند الغضب يندفع، وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة. وقيل: يفضي إلى أنيسد مخرج النفس، فلا يقدر المرء أن يتنفس، ويموت خوفاً، ومثله:

{ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ }

وقيل: إذا انتفختالرئة من شدّة الفزع والغضب، أو الغم الشديد، ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثم قيل للجبان، انتفخسحره. والظنون: جمع لما اختلفت متعلقاته، وإن كان لا ينقاس عند من جمع المصدر إذا اختلفت متعلقاته، وينقاس عند غيره،وقد جاء الظنون جمعاً في أشعارهم، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان

: إذا الجوزاء أردفت التريا     ظننت بآل فاطمة الظنونا

فظن المؤمنون الخلص أن ما وعدهم الله منالنصر حق، وأنهم يستظهرون؛ وظن الضعيف الإيمان مضطربه، والمنافقون أن الرسول والمؤمنين سيغلبون، وكل هؤلاء يشملهم الضمير في {وَتَظُنُّونَ }.وقال الحسن: ظنوا ظنوناً مختلفة، ظن المنافقون أن المسليمن يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم يبتلون. وقال ابن عطية: أي يكادون يضطربون،ويقولون: ما هذا الخلف للوعد؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين، لا يمكن البشر دفعها. وأما المنافقون فعجلوا ونطقوا. وقالالزمخشري: ظن المؤمنون الثبت القلوب بالله أن يبتلهيهم ويفتنهم، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال؛ والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقونظنوا بالله ما حكى عنهم، وكتب: الظنونا والرسولا والسبيلا في المصحف بالألف، فحذفها حمزة وأبو عمر ووقفاً ووصلاً؛ وابن كثير،والكسائي، وحفص: بحذفها وصلاً خاصة؛ وباقي السبعة: بإثباتها في الحالين. واختار أبو عبيد والحذاق أن يوقف على هذه الكلمة بالألف،ولا يوصل، فيحذف أو يثبت، لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار، ولأن إثباتها الوصل معدوم في لسان العرب،نظمهم ونثرهم، لا في اضطرار ولا غيره. أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقته لبعض مذاهب العرب، لأنهم يثبتونهذه الألف في قوافي أشعارهم وفي تصاريفها، والفواصل في الكلام كالمصارع. وقال أبو علي: هي رؤوس الآي، تشبه بالقوافي منحيث كانت مقاطع، كما كانت القوافي مقاطع. و{هُنَالِكَ }: ظرف مكان للبعيد هذا أصله، فيحمل عليه، أي في ذلكالمكان الذي وقع فيه الحصار والقتال {ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ }، والعامل فيه ابتلي. وقال ابن عطية: {هُنَالِكَ } ظرف زمان؛ قال:ومن قال إن العامل فيه {وَتَظُنُّونَ }، فليس قوله بالقوي، لأن البداءة ليست متمكنة. وابتلاؤهم، قال الضحاك: بالجوع. وقال مجاهد:بالحصار. وقيل: بالصبر على الإيمان. {وَزُلْزِلُواْ }، قال ابن سلام: حركوا بالخوف. وقيل؛ {*زلزلوا}، فثبتوا وصبروا حتى نصروا. وقيل: حركواإلى الفتنة فعصموا. وقرأ الجمهور: وزلزلوا، بضم الزاي. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي، عن أبي عمرو: بكسر الزاي، قال ابنخالويه. وقال الزمخشري، وعن أبي عمرو: إشمام زاي زلزلوا. انتهى، كأنه يعني: إشمامها الكسر، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذةأنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية، ولم يعتد بالساكن، كما يعتدّ به من قال: منتن، بكسر الميم إتباعاً لحركةالتاء، وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجمهور: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً }، بكسر الزاي؛ والجحدري. وعيسى: بفتحها، وكذا: {إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاْرْضُزِلْزَالَهَا }، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح نحو: قلقل قلقالاً. وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل، فصلصالبمعنى مصلصل، فإن كان غير مضاعف، فما سمع منه على فعلان، مكسور الفاء نحو: سرهفه سرهافاً. {وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ}: وهم المظهرون للإيمان المبطنون الكفر. {وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }: هم ضعفاء الإيمان الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم،فهم على حرف، والعطف دال على التغاير، نبه عليهم على جهة الذم. لما ضرب رسول الله الصخرة، وبرقت تلك البوارق، وبشر بفتح فارس والروم واليمن والحبشة، قال معتب بن قشير: يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرىوقيصر ومكة، ونحن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط، ما يعدنا إلا غروراً: أي أمراً يغرنا ويوقعنا فيما لاطاقة لنا به. وقال غيره من المنافقين نحو ذلك. وقولهم: {مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }، هو على سبيلالهزء، إذ لو اعتقدوا أنه رسول حقيقة ما قالوا هذه المقالة، فالمعنى: ورسوله على زعمكم وزعمه، وفي معتب ونظرائه نزلتهذه الآية. {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ }: أي من المنافقين، {لاَ مُقَامَ لَكُمْ } في حومة القتال والممانعة، {فَٱرْجِعُواْ} إلى بيوتكم ومنازلكم، أمروهم بالهرب عن رسول الله . وقيل: فارجعوا كفاراً إلى دينكم الأول وأسلموهإلى أعدائه. قال السدي: والقائل لذلك عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه. وقال مقاتل: بنو مسلمة. وقال أوس بنرومان: أوس بن قبطي وأصحابه. وقال الكلبي: بنو حارثة. ويمكن صحة هذه الأقوال، فإن فيهم من كان منافقاً. {لاَ مُقَامَلَكُمْ }، وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص: بضم الميم، فاحتمل أن يكون مكاناً، أي لا مكان إقامة؛ واحتمل أن يكونمصدراً، أي لا إقامة. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، والحسن، وقتادة، والنخعي، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، وباقي السبعة:بفتحها، واحتمل أيضاً المكان، أي لا مكان قيام، واحتمل المصدر، أي لا قيام لكم. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ ٱلنَّبِىَّ }: هوأوس بن قبطي، استأذن في الدخول إلى المدينة عن اتفاق من عشيرته. {يَقُولُونَ }: حال، أي قائلين: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}: أي منكشفة للعدو، وقيل: خالية للسراق، يقال: أعور المنزل: انكشف. وقال الشاعر

:له الشدة الأولى إذا القرن أعوراً    

وقال ابن عباس: الفريق بنو حارثة، وهم كانوا عاهدوا الله لا يولون الأدبار، اعتذروا بأن بيوتهم معرضةللعدو، ممكنة للسراق، لأنها غير محرزة ولا محصنة، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك، وإنمايريدون الفرار. وقرأ ابن عباس، وابن يعمر، وقتادة، وأبو رجاء، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو طالوت، وابن مقسم، وإسماعيلبن سليمان عن ابن كثير: عورة وبعوزة، بكسر الواو فيهما؛ والجمهور: بإسكانها. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تخفيف عورة وبالكسرهو اسم فاعل. وقال ابن جني: صحة الواو في هذا إشارة لأنها متحركة قبلها فتحة. انتهى. فيعني أنها تنقلب ألفاً،فيقال: عارة، كما يقول: رجل مال، أي ممول. وإذا كان عورة اسم فاعل، فهو من عور الذي صحت عينه، فاسمالفاعل كذلك تصح عينه، فلا تكون صحة العين على هذا شذوذاً. وقيل: السكون على أنه مصدر وصف به، والبيت العور:هو المنفرد المعرض لمن أراد سوءاً. وقال الزجاج: عور المكان يعور عوراً وعورة فهو عور، وبيوت عورة. وقال الفراء: أعورالمنزل: بدا منه عورة، وأعور الفارس: كان فيه موضع خلل للضرب والطعن. قال الشاعر

: متى تلقهم لم تلق في البيت معورا     ولا الضيف مسحوراً ولا الجار مرسلاً

قال الكلبي: {عَوْرَةٌ }: خالية من الرجالضائعة. وقال قتادة: قاصية، يخشى عليها العدو. وقال السدي: قصيرة الحيطان، يخاف عليها السراق. وقال الليث: العورة: سوأة الإنسان، وكلأمر يستحيا منه فهو عورة، يقال: عورة في التذكير والتأنيث، والجمع كالمصدر. وقال ابن عباس: قالت اليهود لعبد الله ابنأبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه؟ فارجعوا إلى المدينة فأنتمآمنون. {إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً }: من الدين، وقيل: من القتل. وقال الضحاك: ورجع ثمانون رجلاً من غير إذن للنبي. والضمير في: {دَخَلَتْ }، الظاهر عوده على البيوت، إذ هو أقرب مذكور. قيل: أو على المديمنة،أي ولو دخلها الأحزاب الذين يفرون خوفاً منها؛ والثالث على أهاليهم وأولادهم. {ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ }: أي الردة والرجوع إلىإظهار الكفر ومقاتلة المسلمين. {لاَتَوْهَا }: أي لجاءوا إليها وفعلوا على قراءة القصر، وهي قراءة نافع وابن كثير. وقرأ باقيالسبعة: لآتوها بالمد، أي لأعطوها. {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا }: وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم {إِلاَّ يَسِيراً }، فإن الله يهلكهمويخرجهم بالمؤمنين. قال ابن عطية: ولو دخلت المدينة من أقطارها، واشتد الحرب الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى اللهعليه وسلم، لطاروا إليها وأتوها مجيبين فيها، ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيراً، قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم. انتهى.وقرأ الجمهور: سئلوا، وقرأ الحسن: سولوا، بواو ساكنة بعد السين المضمومة، قالوا: وهي من سال يسال، كخاف يخاف، لغة منسأل المهموز العين. وحكى أبو زيد: هما يتساولان. انتهى. ويجوز أن يكون أصلها الهمزة، لأنه يجوز أن يكون سولوا علىقول من يقول في ضرب ضرب، ثم سهل الهمزة بإبدالها واواً على قول من قال في بؤس بوس، بإبدال الهمزةواواً لضمة ما قبلها. وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو والأعمش: سيلوا، بكسر السين من غير همز، نحو: قيل. وقرأمجاهد: سوئلوا، بواو بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلاً من الهمزة. وقال الضحاك: {ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ }: أي القتالفي العصبية، لأسرعوا إليه. وقال الحسن: الفتنة، الشرك، والظاهر عود الضمير بها على الفتنة. وقيل: يعود على المدينة. و{عَـٰهَدُواْ }:أجرى مجرى اليمين، ولذلك يتلقى بقوله: {لاَ يُوَلُّونَ ٱلاْدْبَـٰرَ }. وجواب هذا القسم جاء على الغيبة عنهم على المعنى: ولوجاء كما لفظوا به، لكان التركيب: لا نولي الأدبار. والذين عاهدوا: بنو حارثة وبنو مسلمة، وهما الطائفتان اللتان هما بالفشلفي يوم أُحُد، ثم تابوا وعاهدوا أن لا يفروا، فوقع يوم الخندق من بني حارثة ذلك الاستئذان. قال ابن عباس:عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منهم أنفسهم. وقيل: ناس غابوا عن وقعة بدر قالوا: لئن أشهدنا اللهقتالاً لنقاتلن من قبل: أي من قبل هذه الغزوة، غزوة الخندق. {لاَ يُوَلُّونَ ٱلاْدْبَـٰرَ }: كناية عن الفرار والانهزام، سئلوامطلوباً مقتضى حتى يوفى به، وفي ذلك تهديد ووعيد. {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ }: خطاب توبيخ وإعلام أن الفرارلا ينجي من القدر، وأنه تنقطع أعمارهم في يسيرهم من المدة، واليسير مدة: الآجال. قال الربيع بن خيثم: وجواب الشرطمحذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: {إِن فَرَرْتُمْ مّنَ ٱلْمَوْتِ }، أو القتل، لا ينفعكم الفرار، لأن مجيء الأجل لابد منه. وإذاً هنا تقدّمها حرف عطف، فلا يتحتم إعمالها، بل يجوز، ولذلك قرأ بعضهم:

{ وَإِذاً لاَّ * يَلْبَثُواْ * خَلْفَكَ }

في سورة الإسراء، بحذف النون. ومعنى خلفك: أي بعد فراقهم إياك. و{قَلِيلاً }: نعت لمصدر محذوف، أيتمتيعاً قليلاً، أو لزمان محذوف، أي زماناً قليلاً. ومرّ بعض المروانية على حائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية، فقال:ذلك القليل نطلب. وقرأ الجمهور: {لاَّ تُمَتَّعُونَ }، بتاء الخطاب؛ وقرىء: بياء الغيبة. و{مَن ذَا }: استفهام، ركبت ذا معمن وفيه معنى النفي، أي لا أحد يعصمكم من الله. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء فيالعصمة، ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله

:متقلداً سيفاً ورمحاً    

أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. انتهى.أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف،أي يمنعكم من مراد الله. والقائلين لإخوانهم كانوا، أي المنافقون، يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلىالله عليه وسلم، يقولون: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لا تهمهم أبو سفيان، فخلوهم. وقيل: هماليهود، كانوا يقولون لأهل المدينة: تعالوا إلينا وكونوا معنا. وقال ابن زيد: انصرف رجل من عند رسول الله صلى اللهعليه وسلم، يوم الأحزاب، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ، فقال: أنت هاهنا ورسول الله بين الرماحوالسيوف؟ فقال: هلم إليه، فقد أحيط بك وبصاحبك. والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبداً، فقال: كذبت والذي يحلف به،ولأخبرنه بأمرك. فذهب ليخبره، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية. وقال ابن السائب: هي في عبد الله بن أبيّ، ومعتببن قشير، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة. فإذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج، ويكتبونإلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم. وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بدا من إتيانه، فيأتون ليرىالناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فنزلت. وتقدم الكلام في

{ هَلُمَّ }

في أواخر الأنعام. وقال الزمخشري:وهلموا إلينا، أي قربوا أنفسكم إلينا، قال: وهو صوت سمي به فعل متعد مثل: احضر واقرب. انتهى. والذي عليهالنحويون أن هلم ليس صوتاً، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه؛ فقيل: هو مركب من هاالتي للتنبيه ولم، وهومذهب البصريين. وقيل: من هل وأم، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو. وأما قوله: سمي به فعل متعد،ولذلك قدر {هَلُمَّ إِلَيْنَا }: أي قربوا أنفسكم إلينا؛ والنحويون: أنه متعد ولازم؛ فالمتعدي كقوله:

{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ }

أي احضروا شهداءكم، واللازم كقوله: {هَلُمَّ إِلَيْنَا }، وأقبلوا إلينا. {وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ }: أي القتال، {إِلاَّ قَلِيلاً }. يخرجونمع المؤمنين، يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه، كقوله: {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً }.وقلته إما لقصر زمانه، وإما لقلة عقابه، وإنه رياء وتلميع لا تحقيق. {أَشِحَّةً }: جمع شحيح، وهو البخيل، وهوجمع لا ينقاس، وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام فعلاء نحو: خليل وأخلاء؛ فالقياس أشحاء، وهو مسموع أيضاً، ومتعلق الشحبأنفسهم، أو بأحوالهم، أو بأموالهم في النفقات في سبيل الله، أو بالغنيمة عند القسم، أقوال. والصواب: أن يعم شحهم كلما فيه منفعة للمؤمنين. وقال الزمخشري: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } في وقت الحرب، أضناء بكم، يترفرفون عليكم، كما يفعل الرجل بالذابعن المناضل دونه عند الخوف. {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } في تلك الحالة، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، حذراًوخوراً ولواذاً، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة، نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير، وهو المالوالغنيمة وسوء تلك الحالة الأولى، واجترؤوا عليكم وضربوكم بألسنتهم، وقالوا: وفروا قسمتنا، فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم،وبنا نصرتم عليهم. انتهى. وهو تكثير وتحميل للفظ ما لا يحتمله كعادته. وقرأ الجمهور: {أَشِحَّةً }، بالنصب. قال الفراء: علىالذم، وأجاز نصبه على الحال، والعامل يعوقون. وقال الطبري: حال من {هَلُمَّ إِلَيْنَا }. وقال الزجاج: حال من {وَلاَ يَأْتُونَ}؛ وقيل: حال من {ٱلْمُعَوّقِينَ }؛ وقيل: من {*القائلين}، ورد القولان بأن فيهما تفريقاً بين الموصول وما هو من تمامصلته. وقرأ ابن أبي عبلة: أشحة، بالرفع على إضمار مبتدأ، أي هم أشحة. {عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء ٱلْخَوْفُ } منالعدو، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة، لاذ هؤلاء المنافقون بك ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر، الذي يغشى عليه من الموت.و{تَدورُ }: في موضع الحال، أي دائرة أعينهم. {كَٱلَّذِى }: في موضع الصفة لمصدر محذوف، وهو مصدر مشبه، أي دوراناًكدوران عين الذي يغشى عليه. فبعد الكاف محذوفان وهما: دوران وعين، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمصدر من {يَنظُرُونَإِلَيْكَ }، نظراً كنظر الذي يغشى عليه. وقيل: إذا جاء الخوف من القتال، وظهر المسلمون على أعدائهم، {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَتَدورُ أَعْيُنُهُمْ } في رؤوسهم، وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم. قال قتادة: بسطوا ألسنتهم فيكم. قال يزيد ابن رومان:في أذى المؤمنين وسبهم وتنقيص الشرع. وقال قتادة: في طلب العطاء من الغنيمة، والإلحاف في المسألة. وقيل: السلق في مخادعةالمؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمجاملة. وقرأ الجمهور: {سَلَقُوكُم }، بالسين؛ وابن أبي عبلة: بالصاد. وقرأ ابنأبي عبلة: أشحة بالرفع، أي هم أشحة؛ والجمهور: بالنصب على الحال من {سَلَقُوكُم }، وعلى الخبر يدل على عموم الشحفي قوله أولاً: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ }. وقيل: في هذا: أشحة على مال الغنائم. وقيل: على مالهم الذي ينفقونه. وقيل: علىالرسول بظفره. {أوْلَـئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ }، إشارة إلى المنافقين: أي لم يكن لهم قط إيمان. والإحباط: عدم قبول أعمالهم،فكانت كالمحبطة. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا، ولكن تعليم لمن عسىيظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب؛ وأن ما يعمله المنافق من الأعمال يجزى عليه. فبين أن إيمانهليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل. انتهى، وفي كلامه استعمال عسى صلة لمن، وهو لا يجوز. وقال ابنزيد، عن أبيه: نزلت في رجل بدري، نافق بعد ذلك ووقع في هذه المعاني، فأحبط الله عمله في بدر وغيرها.وكان ذلك، أي الإحباط، أو حالهم من شحهم ونظرهم، يسيراً لا يبالى به، ولا له أثر في دفع خير، ولاعليه شر. وقال الزمخشري: {عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }، معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف.انتهى، وهي ألفاظ المعتزلة. {يَحْسَبُونَ } أنهم لم يرحلوا، {وَإِن يَأْتِ ٱلاْحْزَابُ } كرة ثانية، تمنوا لخوفهم بما منوابه عند الكرة أنهم مقيمون في البدو مع الأعراب، وهم أهل العمود، يرحلون من قطر إلى قطر، يسألون من قدممن المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب، يتعرفون أحوالكم بالاستخبار، لا بالمشاهدة، فرقاً وجبناً، وغرضهم من البداوة أن يكونواسالمين من القتال، ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال لم يقاتلوا إلا قليلاً، لعلة ورياء وسمعة. قالابن السائب: رمياً بالحجارة خاصة دون سائر أنواع القتال. وقرأ الجمهور: {بَادُونَ }، جمع سلامة لباد. وقرأ عبد الله، وابنعباس، وابن يعمر، وطلحة: بدى على وزن فعل، كفاز وغزى، وليس بقياس في معتل اللام، بل شبه بضارب، وقياسه فعلة،كقاض وقضاة. وعن ابن عباس: بدا فعلاً ماضياً؛ وفي رواية صاحب الإقليد: بدىّ بوزن عدى. وقرأ الجمهور: {يُسْـئَلُونَ }، مضارعسأل. وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصماً والأعمش قرؤوا: يسالون، بغير همز، نحو قوله:

{ سَلْ بَنِى إِسْرٰءيلَ }

ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما؛ ونقلهما صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش. وقرأ زيد بنعلي، وقتادة، والجحدري، والحسن، ويعقوب بخلاف عنهما: يسأل بعضهم بعضاً، أي يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلونالأعراب، كما تقول: تراءينا الهلال. ثم سلى الله نبيه عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا ما أغنوا وماقاتلوا إلا قتالاً قليلاً. قال: هو قليل من حيث هو رياء، ولو كان كثيراً. {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً * وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلاْحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَاوَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً * مّنَ }. الظاهر أن الخطاب في قوله:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ }، للمؤمنين، لقوله قبل: {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ }، وقوله بعد: {لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ }.والمعنى: أنه/ ج، لكم فيه الاقتداء. فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم، فكسرت رباعيته الكريمة، وشجوجهه الكريم، وقتل عمر، وأودي ضروباً من الإيذاء؛ يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه، ولا عنمكان هو فيه، وتبذلوا أنفسكم دونه؛ فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما تفعلونه معه/ صلى اللهعليه وسلم، من النصرة والجهاد في سبيل الله، ويبعد قول من قال: إن خطاب للمنافقين. {وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ }: يوم القيامة.وقيل: يوم السياق. و{أُسْوَةٌ }: اسم كان، و{لَكُمْ }: الخبر، ويتعلق {فِى رَسُولِ ٱللَّهِ } بما يتعلق به {لَكُمْ }،أو يكون في موضع الحال، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتاً بعد لأسوة، أو يتعلق بكان على مذهب منأجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور، ويجوز أن يكون {فِى رَسُولِ ٱللَّهِ } الخبر، ولكم تبيين،أي لكم، أعني: {لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ }. قال الزمخشري: بدل من لكم، كقوله:

{ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ }

انتهى. ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب، اسم ظاهر فيبدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش، ويدل عليه قول الشاعر

: بكم قريش كفينا كل معضلة     وأمّ نهج الهدى من كان ضليلاً

وقرأ الجمهور: إسوة بكسر الهمزة؛ وعاصمبضمها. والرجاء: بمعنى الأمل أو الخوف. وقرن الرجاء بذكر الله، والمؤتسي برسول الله، هو الذي يكون راجياً ذاكراً. ولما بينتعالى المنافقين وقولهم: {مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }، بين حال المؤمنين، وقولهم صندماً قال المنافقون. وكان الله وعدهمأن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله:

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ }

الآية. فلما جاء الأحزاب، ونهض بهم للقتال،واضطربوا، {قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ }، وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس، قال النبي ،لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً أي في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قدأقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وقيل: الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليه السلام حين أمر بحفر الخندق، فإنهأعلمهم بأنهم يحضرون، وأمرهم بالاستعداد لذلك، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك. فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك، فسلموا الأول الأمر، وانتظرواآخره. وهذا إشارة إلى الخطب، إيماناً بالله وبما أخبر به الرسول مما لم يقع، كقولك: فتح مكة وفارس والروم، فالزيادةفيما يؤمن، لا في نفس الإيمان. وقرأ ابن أبي عبلة: وما زادوهم، بالواو، وضمير الجمع يعود على الأحزاب، وتقول:صدقت زيداً الحديث، وصدقت زيداً في الحديث. وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر، وأصله ذلك، ثم يتسعفيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه، ومنه قولهم في المثل: صدقني سن بكره، أي في سن بكره. فما عاهدوا،إما أن يكون على إسقاط الحرف، أي فيما عاهدوا، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: صدقوا الله، وإما أن يكون صدق يتعدىإلى واحد، كما تقول: صدقني أخوك إذا قال لك الصدق، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب. وكان المعاهد عليه مصدوقاًمجازاً، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفي لك، وهم وافون به، فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه، وكان مكذوباً. وهؤلاء الرجال،قال مقاتل والكلبي: هم أهل العقبة السبعون، أهل البيعة. وقال أنس: نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا أن لايتأخروا عن رسول الله ، فوفوا. وقال زيد بن رومان: بنو حارثة. {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ}، وهذا تجوز، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان، فسمي نحباً لذلك. وقال مجاهد: قضى نحبه: أيعهده. قال أبو عبيدة: نذره. وقال الزمخشري: {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ }، يحتمل موته شهيداً، ويحتمل وفاءه بنذره من الثباتمع رسول الله . وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام.فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه، ويصحح هذاالقول قول رسول الله . وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر؟ فدخل طلحة بنعبيد الله فقال: هذا ممن قضى نحبه. {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ }: إذا فسر قضاء النحب بالشهادة، كان التقدير: ومنهم منينتظر الشهادة؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام، كان التقدير: ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح. وقال مجاهد:ينتظر يوماً فيه جهاد، فيقضي نحبه. {وَمَا بَدَّلُواْ }: لا المستشهدون، ولا من ينتظر. وقد ثبت طلحة يوم أحد حتىأصيبت يده، فقال رسول الله : أوجب طلحة وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حينولو الأدبار، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار. {لّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ }: أي الذين {صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }،{بِصِدْقِهِمْ }: أي بسبب صدقهم. {وَيُعَذّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ إِن شَاء }، وعذابهم متحتم. فكيف يصح تعليقه على المشيئة، وهو قد شاءتعذيبهم إذا وفوا على النفاق؟ فقال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والتوبة موازية لتلكالإقامة، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب. فهما درجتان: إقامة على نفاق، أو توبة منه. وعنهما ثمرتان: تعذيب، أو رحمة. فذكرتعالى، على جهة الإيجاز، واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين. ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أنمعنى قوله: {*لىعذب}، أي: ليديم على النفاق، قوله: {مِصْرَ إِن شَاء }، ومعادلته بالتوبة، وحذف أو. أنتهى. وكان ما ذكريؤول إلى أن التقدير: ليقيموا على النفاق، فيموتوا عليه، إن شاء فيعذبهم، أو يتوب عليهم فيرحمهم. فحذف سبب التعذيب، وأثبتالمسبب، وهو التعذيب. وأثبت سبب الرحمة والغفران، وحذف المسبب، وهو الرحمة والغفران، وهذا من الإيجاز الحسن. وقال الزمخشري: ويعذيهم إنشاء إذا لم يتوبوا، ويتوب عليهم إذا تابوا. انتهى. ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى، لأنه تعالىقد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتماً لا محالة. واللام في {لِيَجْزِىَ }، قيل: لام الصيرورة؛ وقيل: لام التعليل،ويتعلق بقوله: {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً }. قال الزمخشري: جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبةالصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما. وقال السدي: المعنى:إن شاء يميتهم على نفاقهم، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان. وقيل: يعذبهم في الدنيا إن شاء، ويتوبعليهم إن شاء. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي مغيظين غفور اللحوبة، رحيماً بقبول التوبة. {وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَكَفَرُواْ } الأحزاب عن المدينة، والمؤمنين إلى بلادهم. {بِغَيْظِهِمْ }: فهو حال، والباء للمصاحبة؛ و{لَمْ يَنَالُواْ }: حال ثانية، أومن الضمير في بغيظهم، فيكون حالاً متداخلة. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى، أو استئنافاً. انتهى. ولا يظهركونها بياناً للأولى، ولا للاستئناف، لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها. {وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ }، بإرسال الريح والجنود، وهم الملائكة،فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار. وقيل: المراد علي بن أبي طالب ومن معه، برزوا للقتال ودعوا إليه. وقتل عليمن الكفار عمرو بن عبيد مبارزة، حين طلب عمرو المبارزة، فخرج إليه علي، فقال: إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك،فقال له علي: فأنا أوثر قتلك، فقتله علي مبارزة. واقتحم نوفل بن الحارث، من قريش، الخندق بفرسه، فقتل فيه. وقتلمن الكفار أيضاً: منبه بن عثمان، وعبيد بن السباق. واستشهد من المسلمين، في غزوة الخندق: معاذ، وأنس بن أوس بنعتيك، وعبد الله بن سهل، وأبو عمرو، وهم من بني عبد الأشهل؛ والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمه، وهما منبني سلمة؛ وكعب بن زيد، من بني ذبيان بن النجار، أصابه سهم غرب فقتله. ولم تغز قريش المسلمين بعد الخندق،وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك، وذلك بقوته وعزته. وعن أبي سعيد الخدري: حبسنا يوم الخندق، فلمنصل الظهر، ولا العصر، ولا المغرب، ولا العشاء، حتى كان بعد هوى من الليل، كفينا وأنزل الله تعالى: {وَكَفَى ٱللَّهُٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ }، فأمر رسول الله ، بلالاً، فأقام وصلى الظهر فأحسنها، ثم كذلك كل صلاة بإقامة.{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَـٰهَرُوهُم }: أي أعانوا قريشاً ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب، هم يهود بني قريظة، كماهو قول الجمهور. وعن الحسن: بنو النضير. وقذف الرعب سبب لإنزالهم، ولكنه قدم المسبب، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخباربه أهم قدم. وقال رجل: يا رسول الله، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليهم قطيفة ديباج، فقال: ذلك جبريل، عليه السلام، بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم ولما رجعت الأحزاب، جاءجبريل وقت الظهر فقال: إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة. فنادى في الناس: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فخرجوا إليهما، فمصل في الطريق، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال؛ ومصل بعد العشاء، وكلمصيب. فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمسة عشر. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي، لحلف كانبينهم، رجوا حنوه عليهم، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار. فقالتله الأنصار في ذلك، فقال: أردت أن يكون لهم أموال كما لكم، فقال له رسول الله : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة ثم استنزلهم، وخندق لهم في سوق المدينة، وقدمهم فضربأعناقهم، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وجيء يحيـى بن أخطب النضيري، وهو الذيكان أدخلهم في الغدر برسول الله ، فدخل عندهم وفاء لهم، فترك فيمن ترك على حكم سعد.فلما قرب، وعليه حلتان تفاحيتان، مجموعة يداه إلى عنقه، أبصر رسول الله ، فقال: يا محمد واللهما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل. ثم قال: أيها الناس، إنه لا بأس أمر الله وقدره،ومحنة كتبت على بني إسرائيل، ثم تقدم فضربت عنقه. وقال فيه بعض بني ثعلبة

: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه     ولكنه من يخذل الله يخذل لا جهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي الغد كل مقلقل

وقتل من نسائهم امرأة، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي، كانت قد طرحتالرحى على خلاد بن سويد فقتل؛ ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره. ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن،أخو عكاشة بن محصن، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وقرأ الجمهور: وتاسرون، بتاء الخطابوكسر السين؛ وأبو حيوة: بضمهما؛ واليماني: بياء الغيبة؛ وابن أنس، عن ابن ذكوان: بياء الغيبة في: {تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ }. {وَأَوْرَثَكُمْ}: فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم، وقدمت لكثرة المنفعة بها منالنحل والزرع، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانياً وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد، ولأنها كانت في بيوتهم، فوقع الاستيلاء عليهاثالثاً. {وَأَرْضاً لَّمْ }: وعد صادق في فتح البلاد، كالعراق والشام واليمن ومكة، وسائر فتوح المسلمين. وقال عكرمة: أخبر تعالىأن قد قضى بذلك. وقال الحسن: أراد الروم وفارس. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال مقاتل، ويزيد بن رومان،وابن زيد: هي خيبر؛ وقيل: اليمن؛ ولا وجه لهذه التخصيصات، ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وقرأ الجمهور: تطؤوها، بهمزةمضمومة بعدها واو. وقرأ زيد بن علي: لم تطوها، بحذف الهمزة، أبدل همزة تطأ ألفاً على حد قوله

: إن السباع لتهدا في مرابضها والناس لا يهتدى من شرهم أبدا    

فالتقت ساكنة مع الواوفحذفت، كقولك: لم تروها. وختم تعالى: هذه الآية بقدرته على كل شيء، فلا يعجزه شيء، وكان في ذلك إشارة إلىفتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، وأنه لا يستبعد ذلك، فكما ملكهم هذه، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها منالبلاد. {كُلّ شَىْء قَدِيراً يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاْزْوٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاًوَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلاْخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يٰنِسَاء ٱلنَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍمُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـٰلِحاً نُؤْتِهَـا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِوَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً يٰنِسَاء ٱلنَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌوَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ }. سبب نزولها أن أزواجه/ ، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة،فنزلت. ولما نصر الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدنحوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق.وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن مانزل في أمرهن؛ وأزواجه إذ ذاك تسع: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمه، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودةبنت زمعة، وأم سملة بنت أبي أمية، وهؤلاء من قري5. ومن غير قري5: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحشالأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيـي بن أخطب الخيبرية. وقال أبو القاسم الصيرفي: لما خير رسول الله، بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة، وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن، وكان تحته عشرنساء، زاد الحميرية، فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية. وروي أنه قال لعائشة، وبدأ بها، وكانت أحبهن إليه: إن ذاكر لك أمراً، ولا عليك أن لا تعجلي فيه تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال: إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً والظاهر أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها، متعهن رسول الله وطلقهن، وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أنيوقعه هو. وقال الأكثرون: هي آية تخيير، فإذا قال لها: اختاري، فاختارت زوجها، لم يكن ذلك طلاقاً. وعن علي: تكونواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها،وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية عند الشافعي، وهو قول عمر وابن مسعود؛ وثلاثعند مالك. وأكثر الناس ذهبوا إلى أن الآية في التخيير والطلاق، وهو قول علي والحسن وقتادة، قال هذا القائل. وأماأمر الطلاق فمرجأ، فإن اخترن أنفسهن، نظر هو كيف يسرحهن، وليس فيها تخيير في الطلاق، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات،وهو قد قال: {وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً }، وليس مع بت الطلاق سراح جميل. انتهى. والذي يدل عليه ظاهر الآيةهو ما ذكرناه أولاً من أنه علق على إرادتهن زينة الحياة الدنيا وقوع التمتيع والتسريح منه، والمعنى في الآية: أنهكان عظيم همكن ومطلبكن التعمق في الدنيا ونيل نعيمها وزينتها. وتقدم الكلام في: {فَتَعَالَيْنَ } في قوله تعالى:

{ قُلْ تَعَالَوْاْ * نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ }

في آل عمران. {أُمَتّعْكُنَّ }، قيل: المتعة واجبة في الطلاق؛ وقيل: مندوب إليها.والأمر في قوله:

{ وَمَتّعُوهُنَّ }

يقتضي الوجوب في مذهب الفقهاء، وتقدم الكلام في ذلك، وفي تفصيل المذاهب في البقرة.والتسريح الجميل إما في دون البيت، أو جميل الثناء، والمعتقد وحسن العشرة إن كان تاماً. وقرأ الجمهور: {أُمَتّعْكُنَّ }، بالتشديدمن متع؛ وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، ومعنى {أَعَدَّ }: هيأ ويسر، واوقع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على الوصفالذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان، كأنه قال: أعدلكن، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسناً.وقراءة حميد الخراز: {أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ }، بالرفع على الاستئناف؛ والجمهور: بالجزم على جواب الأمر، أو على جواب الشرط، ويكون {فَتَعَالَيْنَ} جملة اعتراض بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض، ومثل ذلك قول الشاعر

: واعلم فعلم المرء ينفعه     إن سوف يأتي كل ما قدرا

ثم نادى نساء النبي، ليجعلن بالهن ممايخاطبن به، إذا كان أمراً يجعل له البال. وقرأ زيد بن علي، والجحدري، وعمرو بن فائد الأسواري، ويعقوب: تأت، بتاءالتأنيث، حملاً على معنى من؛ والجمهور: بالياء، حملاً على لفظ من. {بِفَـٰحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ }: كبيرة من المعاصي، ولا يتوهم أنهاالزنا، لعصمة رسول الله ، من ذلك، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحملالفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك. وكونهن تحت الرسولأكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: {يُضَـٰعِفُ }، بألف وفتح العين؛ والحسن، وعيسى،وأبو عمرو: بالتشديد وفتح العين؛ والجحدري، وابن كثير، وأبو عامر: بالنون وشد العين مكسورة؛ وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة،عن أبي عمرو: بالألف والنون والكسر؛ وفرقة: بياء الغيبة والألف والكسر. ومن فتح العين رفع {ٱلْعَذَابَ }، ومن كسرها نصبه.{ضِعْفَيْنِ }: أي عذابين، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر. وقال أبو عبيدة، وأبو عمرو فيما حكى الطبري عنهما:إنه يضاف إلى العذاب عذابان، فتكون ثلاثة. وكون الأجر مرتين بعد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر فيالطاعة. {وَكَانَ ذٰلِكَ }: أي تضعيف العذاب عليهن، {عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }: أي سهلاً، وفيه إعلام بأن كونهن نساء، معمقارفة الذنب، لا يغني عنهن شيئاً، وهو يغني عنهن، وهو سبب مضاعفة العذاب. {وَمَن يَقْنُتْ }: أي يطع ويخضعبالعبودية لله، وبالموافقة لرسوله. وقرأ الجمهور: ومن يقنت بالمذكر، حملاً على لفظ من، وتعمل بالتاء حملاً على المعنى. {نُؤْتِهَـا }:بنون العظمة. وقرأ الجحدري، والأسواري، ويعقوب، في رواية: ومن تقنت بتاء التأنيث، حملاً على المعنى، وبها قرأ ابن عامر فيرواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقال ابن خالويه: ما سمعت أن أحداً قرأ: ومن يقنت، إلابالتاء. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: بياء من تحت في ثلاثتها. وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ: ومن يقنتبالياء، حملاً على المعنى، ويعمل بالياء حملاً على لفظ من قال؛ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف، لأن التذكير أصل لايجعل تبعاً للتأنيث، وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن، وهو قوله تعالى:

{ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوٰجِنَا }

انتهى. وتقدم الكلام على {خَالِصَةٌ } في الأنعام. والرزق الكريم: الجنة. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون في ذلكوعد دنياوي، أي أن أرزاقها في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد، وبرضا من الله فينيله. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا، ثم عذاب الآخرة؛ وكذلك الأجر، وهو ضعيف. انتهى.وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة والتوقر على عبادة الله. {كَرِيماً يٰنِسَاء ٱلنَّبِىّلَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء }: أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء، أي من نساء عصرك. وليس النفيمنصباً على التشبيه في كونهن نسوة. تقول: ليس زيد كآحاد الناس، لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنساناً، بل فيوصف أخص موجود فيه، وهو كونه عالماً، أو عاملاً، أو مصلياً. فالمعنى: أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجدفي غيركن، وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين. ونزل القرآن فيكن، فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال،كما قال عليه السلام: لست كأحدكم كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به. وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد،وهو الواحد؛ ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعاتالنساء، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومنه قوله عزوجل:

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ }

يريد بين جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهمفي أنهم على الحق المبين. انتهى. أما قوله: أحد في الأصل بمعنى: وحد، وهو الواحد فصحيح. وأما قوله: ثم وضع،إلى قوله: وما وراءه، فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحداً، لأن واحد ينطلق علىكل شيء اتصف بالوحدة، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل. وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال، ومادةأحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادة ومدلولاً. وأما قوله: {لَسْتُنَّ } كجماعة واحدة، فقد قلنا: إنقوله {لَسْتُنَّ } معناه: ليست كل واحدة منكن، فهو حكم على كل واحدة واحدة، ليس حكماً على المجموع من حيثهو مجموع. وقلنا: إن معنى كأحد: كشخص واحد، فأبقينا أحداً على موضوعه من التذكير، ولم نتأوله بجماعة واحدة. وأما

{ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ }

فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام، ولذلك جاء في سياق النفي، فعم وصلحت البينيةللعموم. واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف، أي بين واحد وواحد من رسله، كما قال الشاعر

: فما كان بين الخير لوجا سالما     أبو حجر ألا ليال قلائل

أي: لستن مثلهن إن اتقيتن الله، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآنفي بيتهن وفي حقهن. وقال الزمخشري: {إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ }: إن أردتن التقوى، وإن كن متقيات. {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ }: فلاتجبن بقولكنّ خاضعاً، أي ليناً خنثاً، مثل كلام المريبات والمومسات. {فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ }: أي ريبة وفجورا. انتهى.فعلى القول الأول يكون {إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } قيداً في كونهن لسن كأحد من النساء، ويكون جواب الشرط محذوفاً. وعلى ماقاله الزمخشري، يكون {ءانٍ } ابتداء شرط، وجوابه {ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ }، وكلا القولين فيهما حمل. {إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } علىتقوى الله تعالى، وهو ظاهر الاستعمال، وعندي أنه محمول على أن معناه: إن استقبلتن أحداً، {فَلاَ تَخْضَعْنَ }. واتقى بمعنى:استقبل معروف في اللغة، قال النابغة

: سقط النصيف ولم تردا إسقاطه     فتناولته واتقتنها باليد

أي: استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى،ولا علق نهيهن عن الخضوع بها، إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى. قالابن عباس: لا ترخصن بالقول. وقال الحسن: لا تكلمن بالرفث. وقال الكلبي: لا تكلمن بما يهوى المريب. وقال ابن زيد:الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل. وقيل: لا تلن للرجال القول. أمر تعالى أن يكون الكلام خيراً، لا علىوجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجالبرخيم الصوت ولينه، مثل كلام المومسات، فنهاهن عن ذلك، وقال الشاعر

: يتكلم لو تستطيع كلامه     لانت له أروى الهضاب بالصخر

وقال آخر

: لو أنها عرضت لأشمط راهب     عبد الإله ضرورة المتعبد لرنا لرؤيتها وحسن حديثها

وقرأ الجمهور: {فَيَطْمَعَ }، بفتح الميم ونصب العين، جواباً للنهي؛ وأبان بن عثمان، وابن هرمز:بالجزم، فكسرت العين لالتقاء الساكنين، نهين عن الخضوع بالقول، ونهى مريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضع فلا تطمع.وقراءة النصب أبلغ، لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع. وقال أبو عمر والداني: قرأ الأعرج وعيسى: فيَطمِع، بفتح الياء وكسر الميم.ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء، قال: وقد روي عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج، وهو ابن هرمز، قرأ: فيُطمِعَ،بضم الياء وفتح العين وكسر الميم، أي فيطمع هو، أي الخضوع بالقول؛ والذي مفعول، أو الذي فاعل والمفعول محذوف، أيفيطمع نفسه. والمرض، قال قتادة: النفاق؛ وقال عكرمة: الفسق الغزل. {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }: والمحرم، وهو الذي لا تنكره الشريعةولا العقول. قال ابن عباس: المرأة تندب إذا خالطت الأجانب، عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع الصوت،فإنهما مأمورة بخفض الكلام. وقال الكلبي: معروفاً صحيحاً، بلا هجر ولا تمريض. وقال الضحاك: عنيفاً؛ وقيل: خشناً حسناً؛ وقيل: معروفاً،أي قولاً أُذن لكم فيه؛ وقيل: ذكر الله وما يحتاج إليه من الكلام. وقرأ الجمهور: وقِرن، بكسر القاف، منوقر يقر إذا سكن وأصله، أو قرن، مثل عدن من وعد. وذكر أبو الفتح الهمداني، في كتاب التبيان، وجهاً آخرقال: قاريقار، إذا اجتمع، ومنه القارة لاجتماعها. ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة؟ فالمعنى: اجمعن أنفسكن فيبيوتكن. {وَقَرْنَ }: أمر من قار، كما تقول: خفن من خاف؛ أو من القرار، تقول: قررت بالمكان، وأصله: واقررن، حذفتالراء الثانية تخفيفاً، كما حذفوا لام ظللت، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل. وقال أبو علي: أبدلت الراءونقلت حركتها إلى القاف، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء بعدها. انتهى، وهذا غاية في التحميل كعادته. وقرأ عاصم ونافع:بفتح القاف، وهي لغة العرب؛ يقولون: قررت بالمكان، بكسر الراء وبفتح القاف، حكاه أبو عبيد والزجاج وغيرهما، وأنكرها قوم، منهمالمازني، وقالوا: بكسر الراء، من قرت العين، وبفتحها من القرار. وقرأ ابن أبي عبلة: واقررن، بألف الوصل وكسر الراء الأولى.وتقدم لنا الكلام على قررت، وأنه بالفتح والكسر من القرار ومن القرة. أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلمتعالى أنه فعل الجاهلية الأولى، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية بكت حتى تبل خمارها، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلببدم عثمان. وقيل لسودة: لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل إخوانك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر فيبيتي، فما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. {وَلاَ تَبَرَّجْنَ }، قال مجاهد وقتادة: التبرج: التبختروالتغنج والتكسر. وقالمقاتل: تلقي الخمار على وجهها ولا تشده. وقال المبرد: تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره. و{ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلاْولَىٰ }: يدلعلى أن ثم جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة. فقيل: هما ابنان لآدم، سكن أحدهما الجبل، فذكور أولاده صباح وإناثهم قباح؛ والآخرالسهل، وأولادوه على عكس ذلك. فسوى لهم إبليس عيداً يجتمع جميعهم فيه، فمال ذكور الجبل إلى اناث السهل وبالعكس، فكثرتالفاحشة، فهو تبرج الجاهلية الأولى. وقال عكرمة والحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، كان الرجال صباحاًوالنساء قباحاً، فكانت المرأة تدعو الرجل إلى نفسها. وقال ابن عباس أيضاً: الجاهلية الأولى ما بين إدريس ونوح، كانت ألفسنة، تجمع المرآة بين زوج وعشيق. وقال الكلبي وغيره: ما بين نوح وإبراهيم. قال مقاتل: زمن نمروذ، بغايا يلبسن أرقالدروع ويمشين في الطرق. وقال الزمخشري: والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمان الذي ولد فيهإبراهيم. كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال أبو العالية: من داود وسليمان،كان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين، يظهر منه الأكعاب والسوأتان. وقال المبرد: كانت المرأة تجمع بين زوجها وحلمها،للزوج نصفها الأسفل، وللحلم نصفها، يتمتع به في التقبيل والترشف. وقيل: ما بين موسى وعيس. وقال الشعبي: ما بين عيسىومحمد، عليهما الصلاة والسلام. وقال مقاتل: الأولى زمن إبراهيم، والثانية زمن محمد، عليه الصلاة والسلام، وقال عمر لابن عباس: وهلكانت الجاهلية إلا واحدة؟ فقال ابن عباس: وهل كانت الأولى إلا ولها آخرة؟ فقال عمر: لله درك يا ابن عباس.وقال الزمخشري: والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام قبل ان يبعث، وقال الزجاج:الأشبه قول الشعبي لأنهمهم الجاهلية المعروفون كانوا يتخذون البغايا وانما قيل الأولى لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى وتأويله أنهم تقدموا علىامة محمد فهم اولى وهم أول من امة محمد ويجوز أن يكون الجاهلية الأولىجاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكان المعنى: ولا يجد كن بالتبرج جاهلية في الإسلاميتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روي أن رسول الله ، قال لأبي الدرداء: إن فيك جاهلية قال: جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال: بل جاهلية كفر انتهى. والمعروف في الحديث أنه عليهالصلاة والسلام إنما قال: إنك امرؤ فيك جاهلية لأبي ذر، رضي الله عنه. وقال ابن عطية: والذي يظهرعندي أنه أشار إلى الجاهلية التي خصها، فأمرن بالنقلة من سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر،ولأنهم كانوا إلا غيرة عندهم، وكان أمر النساء دون حجبة، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثمجاهلية أخرى. وقد مر إطلاق اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء. وقال ابن عباسفي البخاري: سمعت، أي في الجاهلية إلى غير هذا. انتهى. {وَقَرْنَ فِى }: أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة، إذهما عمود الطاعة البدنية والمالية، ثم جاء بهما في عموم الأمر بالطاعة، ثم بين أن نهيهن وأمرهن ووعظهن إنما هولإذهاب المأثم عنهن وتصونهن بالتقوى. واستعار الرجس للذنوب، والطهر للتقوى، لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث، كما يتلوث بدنهبالأرجاس. وأما الطاعات، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه، وترغيب فيما أمربه. والرجس يقع على الإثم، وعلى العذاب، وعلى النجاسة، وعلى النقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. وقال الحسن:الرجس هنا: الشرك. وقال السدي: الإثم. وقال ابن زيد: الشيطان. وقال الزجاج: الفسق؛ وقيل: المعاصي كلها، ذكره الماوردي. وقيل: الشك؛وقيل: البخل والطبع؛ وقيل: الأهواء والبدع. وانتصب أهل على النداء، أو على المدح، أو على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب،ومنه

.بل الله نرجو الفضل    

وأكثر ما يكون في المتكلم، وقوله

: نحن بنات طارق     نمشي على النمارق

ولما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن،غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في: {عَنْكُمْ }، {وَيُطَهّرَكُمْ }. وقول عكرمة، ومقاتل، وابن السائب: أن أهل البيت فيهذه الآية مختص بزوجاته عليه السلام ليس بجيد، إذ لو كان كما قالوا، لكان التركيب: عنكن ويطهركن، وإن كان هذاالقول مروياً عن ابن عباس، فلعله لا يصح عنه. وقال أبو سعيد الخدري: هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسنوالحسين. وروي نحوه عن أنس وعائشة وأم سلمة. وقال الضحاك: هم أهله وأزواجه. وقال زيد بن أرقم، والثعلبي: بنو هاشمالذين يحرمون الصدقة آل عباس، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، ويظهر أنهم زوجاته وأهله، فلا تخرج الزوجات عن أهلالبيت، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن بيته، عليه الصلاة والسلام. وقال ابن عطية: والذي يظهر أن زوجاته لايخرجن عن ذلك ألبتة، فأهل البيت: زوجاته وبنته وبنوها وزوجها. وقال الزمخشري: وفي هذا دليل على أن نساء النبي منأهل بيته. ثم ذكر لهن أن بيوتهن مهابط الوحي، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بينأمرين: وهو آيات بينات تدل على صدق النبوة، لأنه معجز بنظمه، وهو حكمة وعلوم وشرائع. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}، حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم، أو علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن تكونوا أهلبيته، أو حيث جعل الكلام جامعاً بين الغرضين. انتهى. واتصال {وَٱذْكُـرْنَ } بما قبله يدل على أنهن من البيت، ومنلم يدخلهن قال: هي ابتداء مخاطبة. {وَٱذْكُـرْنَ }، إما بمعنى احفظن وتذكرنه، وإما اذكرنه لغيركن واروينه حتى ينقل. و{مِنْ آيَـٰتِٱللَّهِ }: هو القرآن، {وَٱلْحِكْــمَةِ }: هي ما كان من حديثه وسنته، عليه الصلاة والسلام، غير القرآن، ويحتمل أن يكونوصفاً للآيات. وفي قوله: {لَطِيفاً }، تليين، وفي {خَبِيراً }، تحذير مّا. وقرأ زيد بن علي: ما تتلى بتاء التأنيث،والجمهور: بالياء. وروي أن نساءه عليه الصلاة والسلام، قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكرنا؛وقيل: السائلة أم سلمة. وقيل: لما نزل في نسائه ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء، فنزلت: {إِنَّٱلْمُسْلِمِينَ } الآية، وهذه الأوصاف العشرة تقدّم شرحها، فبدأ أولاً بالانقياد الظاهر، ثم بالتصديق، ثم بالأوصاف التي بعدهما تندرج فيالإسلام وهو الانقياد، وفي الإيمان وهو التصديق، ثم ختمها بخلة المراقبة وهي ذكر الله كثيراً. ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاًإلا في قوله: {وَٱلْحَـٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلذكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً }، نص على متعلق الحفظ لكونه منزلة العقلاء ومركب الشهوة الغالبة، وعلىمتعلق الذكر بالاسم الأعظم، وهو لفظ الله، إذ هو العلم المحتوي على جميع أوصافه، ليتذكر المسلم من تذكره، وهو اللهتعالى، وحذف من الحافظات والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدّم، والتقدير: والحافظاتها والذاكراته. {أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ }: غلب الذكور، فجمع الإناثمعهم وأدرجهم في الضمير، ولم يأت التركيب لهم ولهن. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراًأَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ }. قال الجمهور، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم: خطب الرسوللزيد زينب بنت جحش، فأبت وقالت: لست بناكحة، فقال: بلى فأنكحيه فقد رضيته لك فأبت، فنزلت. وذكر أنهاوأخاها عبد الله كرها ذلك، فلما نزلت الآية رضيا. وقال ابن زيد: وهبت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط،وهي أول امرأة وهبت للنبي نفسها، فقال: قد قبلتك وزوجتك زيد بن حارثة فسخطتهي وأخوها، قالا: إنما أردناه فزوجنا عبده، فنزلت، والسبب الأول أصح. ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقةمن الإسلام فما بعده، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين، إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له، فأنكرعليهم، إذ طاعته، عليه السلام، من طاعة الله، وأمره من أمره. و{ٱلْخِيَرَةُ }: مصدر من تخير على غير قياس،كالطيرة من تطير. وقرىء: بسكون الياء، ذكره عيسى بن سليمان. وقرأ الحرميان، والعربيان، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وعيسى: أن تكون،بتاء التأنيث؛ والكوفيون، والحسن، والأعمش، والسلمي: بالياء. ولما كان قوله: {لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ }، يعم في سياق النفي، جاء الضميرمجموعاً على المعنى في قوله: {لَهُمْ }، مغلباً فيه المذكر على المؤنث. وقال الزمخشري: كان من حق الضمير أن يوحد،كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. انتهى. ليس كما ذكر، لأن هذا عطفبالواو، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف، أي: ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا، وتقول:ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضرباً خالداً، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف، كما قلنا. {وَإِذْ تَقُولُ}: الخطاب للرسول، عليه السلام. {لِلَّذِى أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }، بالإسلام، وهو أجل النعم، وهو زيد بن حارثة الذي كانالرسول تبناه. {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ }: وهو عتقه، وتقدّم طرف من قصته في أوائل السورة. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ }: وهي زينببنت جحش، وتقدّم أن الرسول كان خطبها له. وقيل: أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك، وأنعمت عليه بتبنيه. فجاء زيد فقال:يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: أرا بك منها شيء قال: لا والله ولكنها تعظمعلي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } أي لا تطلقها، وهو أمر ندب، {وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } في معاشرتها فطلقها، وتزوجها رسول الله ، بعد انقضاء عدّتها. وعلل تزويجه إياها بقوله: {لِكَىْلاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ } في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلاتفيما حرم في قوله:

{ وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ }

وقال علي بن الحسين: كان قد أوحى الله إليه أن زيداًسيطلقها، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها. فلما شكا زيد خلقها، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال: له {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها. وهذا هو الذي أخفي فينفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق. ولما علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس فيأن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه اللهبأن قال؛ {أَمْسِكْ }، مع علمه أنه يطلق، فأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. انتهى. وهذا المرويعن علي بن الحسين، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبي بكر بنالعربي وغيرهم. والمراد بقوله: {وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ }، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء، والنبي معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحاً. وقيل؛ قوله {وَٱتَّقِٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ }: خطاب من الله عز وجل، أو من النبي لزيد، فإنه أخفى الميل إليها، وأظهر الرغبة عنها، لما توهم أن رسول الله أراد أن تكونمن نسائه. انتهى. وللزمخشري: في هذه الآية كلام طويل، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرىفيه على مذهب الاعتزال وغيره، واخترت منه ما أنصه. قال: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيـي من إطلاع الناسعليه، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله. وربما كان الدخول في ذلكالمباح سلماً إلى حصول واجبات، لعظم أثرها في الدين، ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه، لأطلق كثير من الناس فيهألسنتهم، إلا من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوافي بيوت رسول الله ، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث. وكان رسول الله صلىالله عليه وسلم يؤذيه قعودهم، ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصدّه أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْبُيُوتَ ٱلنَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ }. ولو أبرز رسول الله مكنون ضميره، وأمرهم أنينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة. فهذا من ذلك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته، من امرأة أوغيرها، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع. وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً، وهو خطبة زينب ونكاحهامن غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه. ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه، ولامستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر. فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة، استهم الأنصار بكل شيء، حتى أن الرجل منهمإذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر. وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته، ولم يكن فيه وجهمن وجوه القبح، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجراً مصالح؛ ناهيك بواحدة منها: أن بنت عمةرسول الله ، أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أماً من أمّهات المؤمنين، إلى ما ذكر اللهعز وجل من المصلحة العامّة في قوله: {لِكَىْ لاَ يَكُونَ } الآية. انتهى ما اخترناه من كلام الزمخشري. وقوله: {أَمْسِكْعَلَيْكَ } فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهماً لشخص واحد، فهو كقوله

:هوّن عليك ودع عنك نهياً صيح في حجراته    

وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان، ولا يجوز أنيكونا حرفين، لامتناع فكر فيك، وأعني بك، بل هذا مما يكون فيه النفس، أي فكر في نفسك، وأعني بنفسك، وقدتكلمنا على هذا في قوله:

{ هزي إِلَيْكَ }

{ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }

وقال الحوفي: {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ }:مستأنف، {وَتَخْشَى }: معطوف على وتخفي. وقال الزمخشري: واو الحال، أي تقول لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ }، مخفياً في نفسكإرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشياً قاله الناس، أو واو العطف، كأنه قيل: وأن تجمع بين قولك: {أَمْسِكْ }، وإخفاءقالة، وخشية الناس. انتهى. ولا يكون {وَتُخْفِى } حالاً على إضمار مبتدأ، أي وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا يدخلعليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر، لا يبنى على مثله القواعد؛ ومنه قولهم: قمت وأصكعينه، أي وأنا أصك عينه.

{ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـٰهُ }

تقدّم إعراب نظيره في التوبة. {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌمّنْهَا وَطَراً }: أي حاجة، قيل: وهو الجماع، قاله ابن عباس. وروي أبو عصمة: نوح ابن أبي مريم، بإسناد رفعهإلى زينب أنها قالت: ما كنت أمتنع منه، غير أن الله منعني منه. وقيل: إنه مذ تزوجها لم يتمكن منالاستمتاع بها. وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقر بها. وقال قتادة: الوطر هنا: الطلاق. وقرأ الجمهور:{زَوَّجْنَـٰكَهَا }، بنون العظمة؛ وجعفر بن محمد، وابن الحنفية، وأخواه الحسن والحسين، وأبوهم علي: زوجتكها، بتاء الضمير للمتكلم. ونفى تعالىالحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج النبين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن. {وَكَانَأَمْرُ ٱللَّهِ }: أي مقتضى أمر الله، أو مضمن أمره. قال ابن عطية: وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول،ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل. وقال الزمخشري: {وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ } الذي يريدأن يكونه، {مَفْعُولاً }: مكوناً لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله زينب. ويجوز أن يراد بأمر الله المكون، لأنه مفعول يكن. ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر، واندرج الرسول فيهم،إذ هو سيد المؤمنين، نفى عنه الحرج بخصوصه، وذلك على سبيل التكريم والتشريف، ونفى الحرج عنه مرتين، إحداهما بالاندراج فيالعموم، والأخرى بالخصوص. {فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ }، قال الحسن: فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق. وقالقتادة: فيما أحل له. وقال الضحاك: في الزيادة على الأربع، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج، فرد الله عليهمبقوله: {سُنَّةَ ٱللَّهِ }: أي في الأنبياء بكثرة النساء، حتى كان لسليمان، عليه السلام، ثلاثمائة حرة وسبعماىة سرية، وكان لداودمائة امرأة وثلاثمائة سرية. وقيل: الإشارة إلى أن الرسول جمع بينه وبين زينب، كما جمع بين داود وبين التي تزوجهابعد قتل زوجها. وانتصب {سُنَّةَ ٱللَّهِ } على أنه اسم موضوع موضع المصدر، قاله الزمخشري؛ أ على المصدر؛ أو علىإضمار فعل تقديره: ألزم أو نحوه، أو على الإغراء، كأنه قال: فعليه سنة الله. قال ابن عطية: وقوله: أو علىالإغراء، ليس بجيد، لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضاً فتقديره: فعليه سنة الله بضمير الغيبة، ولا يجوزذلك في الإغراء، إذ لا يغرى غائب. وما جاء من قولهم: عليه رجلاً، ليسنى له تأويل، وهو مع ذلك نادر.و{ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ }: الأنبياء، بدليل وصفهم بعد قوله: {ٱلَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـٰتِ ٱللَّهِ }. {وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ }: أي مأموراته، والكائناتمن أمره، فهي مقدورة. وقوله: {قَدْراً }: أي ذا قدر، أو عن قدر، أو قضاء مقضياً وحكماً مثبوتاً. و{ٱلَّذِينَ }:صفة الذين خلوا، أو مرفوع، أو منصوب على إضمارهم، أو على أمدح. وقرأ عبد الله: الذين بلغوا، جعله فعلاً ماضياً.وقرأ أبي: رسالة الله على التوحيد؛ والجمهور: يبلغون رسالات جمعاً. {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }: أي محاسباً على جميع الأعمال والعقائد،أو محسباً: أي كافياً. ثم نفى تعالى كون رسوله {أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ }، بينه وبين من تبناه منحرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده. هذا مقصود هذه الجملة، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد، فيحتاجإلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين. وإضافة رجالكم إلى ضميرالمخاطبين يخرج من كان من بنيه، لأنهم رجاله، لا رجال المخاطبين. وقرأ الجمهور؛ {وَلَـٰكِن رَّسُولَ }، بتخفيف لكن ونصب رسولعلى إضمار كان، لدلالة كان المتقدّمة عليه؛ قيل: أو على العطف على {أَبَا أَحَدٍ }. وقرأ عبد الوارث، عن أبيعمرو: بالتشديد والنصب على أنه خبر لكن، والخبر محذوف تقديره: {وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيّينَ } هو، أي محمد صلىالله عليه وسلم. وحذف خبر لكن واخواتها جائز إذا دل عليه الدليل. ومما جاء في ذلك قول الشاعر

: فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي     ولكنّ زنجياً عظيم المشافر

أي: أنت لاتعرف قرابتي. وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة: بالتخفيف، ورفع ورسوله وخاتم، أي ولكن هو رسول الله، كما قالالشاعر

: ولست الشاعر السقاف فيهم     ولكن مدرة الحرب العوال

أي: لكن أنا مدرة. وقرأ الجمهور: {*خاتم}، بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. وروي عنه أنه قال:أنا خاتم نبي، وعنه: أنا خاتم النبيين في حديث واللبنة. وروي عنه، عليه السلام، ألفاظ تقتضي نصاً أنه لا نبيبعده ، والمعنى أن لا يتنبأ أحد بعده، ولا يرد نزول عيسى آخر الزمان، لأنه ممن نبىءقبله، وينزل عاملاً على شريعة محمد مصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته. قال ابن عطية: وماذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية، من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، وما ذكره الغزالي فيهذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، وتطرق إلى ترك تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى اللهعليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه، والله الهادي برحمته. وقرأ الحسن، والشعبي، وزيد بن علي، والأعرج: بخلاف؛ وعاصم: بفتح التاءبمعنى: أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم. ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أنالولي أفضل من النبي، فهو زنديق يجب قتله. وقد ادعى النبوة ناس، فقتلهم المسلمون على ذلك. وكان في عصرنا شخصمن الفقراء ادعى النبوة بمدينة مالقة، فقتله السلطان بن الأحمر، ملك الأندلس بغرناطة، وصلب إلى أن تناثر لحمه. {ٱلنَّبِيّينَوَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً }: هذا عام، والقصد هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح لرسوله، وبما قدّره في الأمركله، ثم أمر المؤمنين بذكره بالثناء عليه وتحميده وتقديسه، وتنزيهه عما لا يليق به. والذكر الكثير، قال ابن عباس: أنلا ينساه أبداً، أو التسبيح مندرج في الذكر، لكنه خص بأنه ينزهه تعالى عما لا يليق به، فهو أفضل، أومن أفضل الأذكار. وعن قتادة: قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوةإلا بالله. وعن مجاهد: هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب. و{بُكْرَةً وَأَصِيلاً }: يقتضيهما اذكروا وسبحوا، والنصب بالثاني على طريق الإعمال،والوقتان كناية عن جميع الزمان، ذكر الطرفين إشعار بالاستغراق. وقال ابن عباس: أي صلوا صلاة الفجر والعشاء. وقال الأخفش: مابين العصر إلى العشاء. وقال قتادة: الإشارة بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر؛ ويجوز أن يكون الأمر بالذكر وإكثارةتكثير الطاعات والإقبال على الطاعات، فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً،وهي الصلاة في جميع أوقاتها، تفضل الصلاة غيرها، أو صلاة الفجر والعشاء، لأن أداءهما أشق. ولما أمرهم بالذكر والتسبيح،ذكر إحسانه تعالى بصلاته عليهم هو وملائكته. قال الحسن: {يُصَلّى عَلَيْكُمْ }: يرحمكم. وقال ابن جبير: يغفر لكم. وقال أبوالعالية يثني عليكم. وقيل: يترأف بكم. وصلاة الملائكة الاستغفار، كقوله تعالى:

{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ }

وقال مقاتل: الدعاء، والمعنى:هو الذي يترحم عليكم، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة. وقالابن زيد: من الضلالة إلى الهدى. وقال مقاتل: من الكفر إلى الإيمان. وقيل: من النار إلى الجنة، حكاه الماوردي. وقيل:من القبور إلى البعث. {وَمَلَـئِكَتُهُ }: معطوف على الضمير المرفوع المستكن في {يُصَلّى }، فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد،وصلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا في قدر مشترك؟ وهو إرادة وصول الخير إليهم. فالله تعالى يريد برحمته إياهمإيصال الخير إليهم، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك. وقال الزمخشري: جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة، كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة، ونظيره قولهم: حياكالله: أي أحياك وأبقاك، وحييتك: أي دعوت لك بأن يحييك الله، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة؛وكذلك عمرك الله وعمرتك، وسقاك الله وسقيتك، وعليه قوله؛ {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا * أَيُّهَا *ٱلَّذِينَ ءامَنُواْصَلُّواْ عَلَيْهِ }: أي ادعوا له بأن يصلى عليه. {وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }: دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة. انتهى.وما ذكره من قوله، كأنهم فاعلون فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما ذكرناه من أن الصلاتين اشتركتا في قدر مشتركأولى. {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ }: أي يوم القيامة. {سَلَـٰمٌ }: أي تحية الله لهم. يقول للمؤمنين: السلام عليكم، مرحباًبعبادي الذين أرضوني باتباع أمري، قاله الرقاشي. وقيل: يحييهم الملائكة بالسلامة من كل مكروه. وقال البراء بن عازب: معناه أنملك الموت لا يقبض روح المؤمن حتى يسلم عليه. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال:ربك يقرؤك السلام، قيل: فعلى هذا الهاء في قوله: {يَلْقَوْنَهُ } كناية عن غير مذكور، وقيل: سلام الملائكة عند خروجهممن القبور. وقال قتادة: يوم دخولهم الجنة يحيـي بعضهم بعضاً بالسلام، أي سلمنا وسلمت من كل مخوف. وقيل: تحييهم الملائكةيومئذ. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم، وبشارتهم بالجنة. والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول، إلافي قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيـي والمحيا، لا على جهة العمل، لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلاً مفعولاً،ولكنه كقوله:

{ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـٰهِدِينَ }

أي للحكم الذي جرى بينهم، وليبعث إليهم، فكذلك هذه التحية الجارية بينهم هيسلام. وفرق المبرد بين التحية والسلام فقال: التحية يكون ذلك دعاء، والسلام مخصوص، ومنه:

{ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً }

والأجر الكريم: الجنة، {شَـٰهِداً } على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي مفعولاً قولك عند الله، وشاهداً بالتبليغ إليهم،وبتبليغ الأنبياء قولك. وانتصب {شَـٰهِداً } على أنه حال مقدّرة، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال لم يكن شاهداًعليهم، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة وعند أدائها، أو لأنه أقرب زمان البعثة، وإيمان من آمن وتكذيب من كذبكان ذلك وقع في زمان واحد. {وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ }، قال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله.وقال ابن عيسى: إلى الطاعة. {بِإِذْنِهِ }: أي بتسهيله وتيسيره، ولا يراد به حقيقة الإذن، لأنه قد فهم في قوله:إنا أرسلناك داعياً أنه مأذون له في الدعاء. ولما كان دعاء المشرك إلى التوحيد صعباً جداً، قيل: بإذنه، أي بتسهيلهتعالى. و{سِرَاجاً * مُّنِيراً }: جلي من ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير. ويهتدى بهإذا مد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة، لأن من السراج ما لايضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وقال الزجاج: هو معطوف على {شَـٰهِداً }، أي وذا سراج منير، أي كتاب نير.وقال الفراء: إن شئت كان نصباً على معنى: وتالياً سراجاً منيراً. وقال الزمخشري؛ ويجوز على هذا التفسير أن يعطف علىكاف {أَرْسَلْنَـٰكَ }. انتهى. ولا يتضح هذا الذي قاله، إذ يصير المعنى: أرسلنا ذا سراج منير، وهو القرآن. ولا يوصفبالإرسال القرآن، إنما يوصف بالإنزال. وكذلك أيضاً إذا كان التقدير: وتالياً، يصير المعنى: أرسلنا تالياً سراجاً منيراً، ففيه عطف الصفةالتي للذات على الذات، كقولك: رأيت زيداً والعالم. إذا كان العالم صفة لزيد، والعطف مشعر بالتغاير، لا يحسن مثل هذاالتخريج في كلام الله، وثم حمل على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة. ولما ذكر تعالى أنه أرسل نبيه {شَـٰهِداً }إلى آخره، تضمن ذلك الأمر بتلك الأحوال، فكأنه قال؛ فاشهد وبشر وأنذر وادع وانه، ثم قال؛ {وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }؛ فهذامتصل بما قبله من جهة المعنى، وإن كان يظهر أنه منقطع من الذي قبله. والفضل الكبير الثواب من قولهم: للعطايافضول وفواضل، أو المزيد على الثواب. وإذا ذكر المتفضل به وكبره، فما ظنك بالثواب؟ أو ما فضلوا به على سائرالأمم، وذلك من جهته تعالى، أو الجنة وما أوتوا فيها، ويفسره:

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فِى رَوْضَـٰتِ ٱلْجَنَّـٰتِ لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }

{وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ }: نهى له عليه السلام عن السماعمنهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب، وفي أشياء ينتصحون بها وهي غش. {وَدَعْ أَذَاهُمْ }: الظاهر إضافته إلىالمفعول. لما نهى عن طاعتهم، أمر بتركه إذا يتهم وعقوبتهم، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف. {وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ}، فإنه ينصرك ويخذلهم. ويجوز أن يكون مصدراً مضافاً للفاعل، أي ودع إذايتهم إياك، أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيرهحتى تؤمر، وهذا تأويل مجاهد. {وَكِـيلاً يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَالَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ وَسَرّحُوهُنَّ }. لما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها، وكانت مدخولاً بها،واعتدت، وخطبها الرسول، عليه السلام، بعد انقضاء عدتها، بين حال من طلقت قبل المسيس، وأنها لا عدة عليها. ومعنى{نَكَحْتُمُ }: عقدتم عليهن. وسمى العقد نكاحاً لأنه سبب إليه، كما سميت الخمر إثماً لأنها سبب له. قالوا: ولفظ النكاحفي كتاب الله لم يرد إلا في العقد، وهو من آداب القرآن؛ كما كنى عن الوطء بالمماسة والملامسة والقربان والتغشيوالإتيان، قيل: إلا في قوله:

{ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }

فإنه بمعنى الوطء، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.والكتابيات، وإن شاركت المؤمنات في هذا الحكم، فتخصيص المؤمنات بالذكر تنبيه على أن المؤمن لا ينبغي أن يتخير لنطفته إلاالمؤمنة. وفائدة المجيء بثم، وإن كان الحكم ثابتاً، إن تزوجت وطلقت على الفور، ولمن تأخر طلاقها. قال الزمخشري: نفي التوهمعمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها، وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح، وتتراخى بهاالمدة في حيالة الزوج ثم يطلقها. انتهى. واستعمل صلة لمن عسى، وهو لا يجوز، أو لو حظ في ذلك الغالب.فإن من أقدم على العقد على امرأة، إنما يكون ذلك لرغبة، فيبعد أن يطلقها على الفور، لأن الطلاق مشعر بعدمالرغبة، فلا بد أن يتخلل بين العقد والطلاق مهلة يظهر فيها للزوج نأيه عن المرأة، وأن المصلحة في ذلك له.والظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد، ولا يصح طلاق من لم يعقد عليها عينها أو قبيلتها أو البلد،وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. وقالت طائفة كبيرة، منهم مالك: يصح ذلك. والظاهر أن المسيس هنا كناية عن الجماع،وأنه إذا خلا بها ثم طلقها، لا يعقد. وعند أبي حنيفة وأصحابه: حكم الخلوة الصحيحة حكم المسيس. والظاهر أن المطلقةرجعية، إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها، ثم فارقها قبل أن يمسها، لا تتم عدتها من الطلقة الأولى، ولاتستقبل عدة، لأنها مطلقة قبل الدخول، وبه قال داود. وقال عطاء وجماعة: تمضي في عدتها عن طلاقها الأول، وهو أحدقولي الشافعي. وقال مالك: لا تبنى على العدة من الطلاق الأول، وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني، وهو قولفقهاء جمهور الأمصار. والظاهر أيضاً أنها لو كانت بائناً غير مبتوتة، فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول، كالرجعية فيقول داود، ليس عليها عدة، لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة الثاني، ولها نصف المهر. وقال الحسن، وعطاء،وعكرمة، وابن شهاب، ومالك، والشافعي، وعثمان البتي، وزفر: لها نصف الصداق، وتتم بقية العدة الأولى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة،وأبو يونس: لها مهر كامل للنكاح الثاني، وعدة مستقبلة، جعلوها في حكم المدخول بها، لاعتدادها من مائة. وقرأ الجمهور:{تَعْتَدُّونَهَا }، بتشديد الدال: افتعل من العد، أي تستوفون عددها، من قولك: عد الدراهم فاعتدها، أي استوفى عددها؛ نحو قولك:كلته واكتاله، وزنته فاتزنته. وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة: بتخفيف الدال، ونقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبوالفضل الرازي. وقال ابن عطية: وروي عن أبي برزة، عن ابن كثير: بتخفيف الدال من العدوان، كأنه قال: فما لكمعدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهنّ، والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير، وتخفيف الدال وهم من أبي برزة. انتهى. وليس بوهم،إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح في شواذ القراءات)، ونقلها الرازي المذكورعن أهل مكة وقال: هو من الإعتداد لا محالة، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه. فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلمضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. انتهى. وإذا كان يتعدى بعلى، فيجوز أن لا يحذف على، ويصل الفعل إلى الضمير، نحوقوله

: تحن فتبدى ما بها من صبابة     وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

أي: لقضى علي. وقال الزمخشري: وقريء: تعتدونها مخففاً، أي تعتدون فيها، كقوله: ويوماً شهدناه. والمراد بالاعتداء ما في قوله: ولاتمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا. انتهى. ويعني أنه اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة، كقوله

:ويوماً شهدناه سليماً وعامراً    

أي: شهدنا فيه. وأما على تقدير على، فالمعنى: تعتدون عليهنّ فيها. وقرأ الحسن: بإسكانالعين كغيره، وتشديد الدال جمعاً بين الساكنين. وقوله: {فَمَا لَكُمْ } يدل على أن العدة حق الزوج فيها غالب، وإنكانت لا تسقط بإسقاطه، لما فيه من حق الله تعالى. والظاهر أن من طلقت قبل المسيس لها المتعة مطلقاً، سواءكانت ممدودة أم مفروضاً لها. وقيل: يختص هذا الحكم بمن لا مسمى لها. والظاهر أن الأمر في {فَمَتّعُوهُنَّ } للوجوب،وقيل: للندب، وتقدم الكلام مشبعاً في المتعة في البقرة. والسراج الجميل: هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب. وقيل:أن لا يطالبها بما آتاها. ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين، أتبعه بذكر طرف من نساء النبي صلى اللهعليه وسلم. والأجور: المهور، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع. وفي وصفهنّ بـ{يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّا }،تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى، لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره، ليتفصى الزوج عن عهدة الدينوشغل ذمته به، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجاناً دون عوض تسلمته، والتعجيل كان سنة السلف، لا يعرف منهمغيره. ألا ترى إلى قوله، عليه السلام، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج: فأين درعك الحطمية وكذلك تخصيصما ملكت يمينه بقوله: {مِمَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَيْكَ }، لأنها إذا كانت مسبية، فملكها مما غنمه الله من أهل دارالحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب. فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة، وممن له عهدقيل فيه سبي خبيثة، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث. والظاهر أن قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَأَزْوٰجَكَ }، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته، كعائشة وحفصة، ومن تزوجها بمهر. وقال ابن زيد: أي من تزوجهابمهر، ومن تزوجها بلا مهر، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به. ثم قال بعد{تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ }: أي من هذه الأصناف كلها، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَبِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ }، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط، وفي التأيل الأول تضييق. وعن ابن عباس: كانرسول الله يتزوج أي النساء شاء، وكان ذلك يشق على نسائه. فلما نزلت هذه الآية، وحرمعليه بها النساء، إلا من سمي سر نساؤه بذلك، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر، وبنات العم، ومن ذكر معهنّيسير. ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة، والواجب أيضاً من النساء قليل،فلذلك سر بانحصار الأمر. ثم مجيء {تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ }، إشارة إلى ما تقدم، ثم مجيء {وَلاَ أَن تَبَدَّلَبِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ }، إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل، فيأتي الكلام مثبتاً مطرداً أكثر من اطرادهعلى التأيل الآخر. {وَبَنَاتِ عَمّكَ }، قالت أم هانىء، بنت أبي طالب: خطبني رسول الله ،فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه، لأني لم أهاجر معه، وإنما كنت من الطلقاء. والتخصيص بـ {ٱللاَّتِىهَـٰجَرْنَ مَعَكَ }، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات. وقيل: شرط الهجرة في التحليلمنسوخ. وحكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق. والثاني: أنه شرط في إحلالقرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات، والمعية هنا: الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها، فيقال: دخل فلان معي وخرجمعي، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان. ولو قلت: فرجعنا معاً، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل، والاقترانفي الزمان. وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس، والعمة والخالة كذلك، وهذا حرف لغوي قاله أبو بكر بن العربي القاضي.{وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً }، قال ابن عباس، وقتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال علي بن الحسين، والضحاك، ومقاتل: هي أمشريك. وقال عروة، والشعبي: هي زينب بنت خزيمة، أم المساكين، امرأة من الأنصار. وقال عروة أيضاً: هي خولة بنت حكيمبن الأوقص السلمية. واختلف في ذلك. فعن ابن عباس: لم يكن عند رسول الله أحد منهنبالهبة. وقيل: الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، ومن ذكر معها قبل. وقرأ الجمهور: {وَٱمْرَأَتَ }، بالنصب؛ {إِن وَهَبَتْ }، بكسرالهمزة: أي أحللنا لك. {إِن وَهَبَتْ }، {إِنْ أَرَادَ }، فهنا شرطان، والثاني في معنى الحال، شرط في الإحلال هبتهانفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادتههي قبوله الهبة وما به تتم، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله:

{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ }

وإذا اجتمع شرطان، فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم فيالوقوع، ما لم تدل قرينة على الترتيب، نحو: إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر. واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل،وقد استوفينا ذلك في (شرح التسهيل)، في باب الجوازم. وقرأ أبو حيوة: وامرأة مؤمنة، بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف: أيأحللناها لك. وقرأ أبي، والحسن، والشعبي، وعيسى، وسلام: أن بفتح الهمزة، وتقديره: لأن وهبت، وذلك حكم في امرأة بعينها، فهوفعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسهما دون واحدة بعينها. وقرأ زيد بن علي: اذ وهبت،إذ ظرف لما مضى، فهو في امرأة بعينها. وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي، {إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِىُّ }،ثم رجع إلى الخطاب في قوله: {خَالِصَةً لَّكَ }، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر. ومجيئه على لفظ النبي، لدلالةعلى أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه. والجمهور:على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة. وقال أبو الحسن الكرخي: يجوز بلفظ الإجارة لقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّإِنَّا }، وحجة من منع: أن عقد الإجارة مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فتنافيا. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقدالنكاح بلفظ الهبة إذا وهبت، فأشهد على نفسه بمهر، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام، إلا فيما خصه الدليل.وحجة الجمهور: أنه، عليه السلام، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعاً، لأن اللفظ تابع للمعنى، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلىدليل. وقرأ الجمهور: {خَالِصَةٌ }، بالنصب، وهو مصدر مؤكد،

{ كوعد ٱللَّهِ }

و

{ صِبْغَةَ ٱللَّهِ }

أي أخلصلك إخلاصاً. {أَحْلَلْنَا لَكَ }، {خَالِصَةٌ } بمعنى خلوصاً، ويجىء المصدر على فاعل وعلى فاعلة. وقال الزمخشري: والفاعل والفاعلة فيالمصادر على غير عزيزين، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة. انتهى، وليس كما ذكر، بل هما عزيزان، وتمثيله كالخارج يشير إلى قولالفرزدق

:ولا خارج من في زور كلام    

والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله

:أقاعداً وقد سار الركب    

والكاذبة إلى قوله تعالى:

{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ }

وقد تتأول هذه الألفاظ على أنهاليست مصادر. وقرىء: خالصة، بالرفع، فمن جعله مصدراً، قدره ذلك خلوص لك، وخلوص من دون المؤمنين. والظاهر أن قوله: {خَالِصَةًلَّكَ } من صفة الواهبة نفسها لك، فقراءة النصب على الحال، قاله الزجاج: أي أحللناها خالصة لك، والرفع خبر مبتدأ:أي هي خالصة لك، أي هبة النساء أنفسهنّ مختص بك، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك. وأجمعوا على أنذلك غير جائز لغيره، عليه السلام. ويظهر من كلام أبيّ بن كعب أن معنى قوله: {خَالِصَةً لَّكَ } يراد بهجميع هذه الإباحة، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع. وقال الزمخشري: والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربعمخصوصة برسول الله ، على سبيل التوكيد لها قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوٰجِهِـمْ وَمَامَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ }، بعد قوله: {مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }، وهي جملة اعتراضية. وقوله: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } متصل بـ{خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } في الأزواج الإماء، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم، ففرضه وعلم المصلحةفي اختصاص رسول الله بما اختصه به، ففعل. ومعنى {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ }: أيلكيلا يكون عليك ضيق في دينك، حيث اختصصناك بالتنزيه، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك، حيث احللنا لك أجناسالمنكوحات، وزدناك الواهبة نفسها؛ ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من دونهم. انتهى. والظاهر أن{لّكَيْلاَ } متعلق بقوله: {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوٰجَكَ }. وقال ابن عطية: {لِكَيْلاَ يَكُونَ }، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذاالشرح لكي لا يكون عليك حرج، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته. وقالالزمخشري: {غَفُوراً } للواقع في الحرج إذا تاب، {رَّحِيماً } بالتوسعة على عباده. انتهى، وفيه دسيسه اعتزالية. {قَدْ عَلِمْنَا مَافَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } الآية، معناه: أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك فعندنا علمه، وسنبينه لهم. وإنماذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي ، فإن له في النكاحوالتسري خصائص ليست لغيره. وقال مجاهد: {مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ }، هو أن لا يجاوزوا أربعاً. وقال قتادة: هو الولي والشهودوالمهر. وقيل: ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة. {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ }، قيل: لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممنيجوز سبيها. وقيل: ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور، والمعنى: قد علمنا إصلاحكل منك ومن أمتك، وما هو الأصلح لك ولهم، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا. روي أنأزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة، فهجرهن شهراً، ونزل التخيير، فأشفقن أن يطلقن فقلن: يا رسول الله، افرضلنا من نفسك ومالك ما شئت. وتقدم الكلام في معنى ترجي في قوله:

{ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ ٱللَّهِ }

فيسورة براءة. والظاهر أن الضمير في {مِنْهُنَّ } عائد على أزواجه عليه السلام، والإرجاء: الإيواء. قال ابن عباس، والحسن: فيطلاق ممن تشاء ممن حصل في عصمتك، وإمساك من تشاء. وقالت فرقة: في تزوج من تشاء من الواهبات، وتأخير منتشاء. وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: وتقرر من شئت في القسمة لها، وتؤخر عنك من شئت، وتقلل لمن شئت، وتكثر لمنشئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أن هذا حكم الله وقضاؤه، زالت الإحنة والغيرة عنهن ورضين وقرت أعينهن،وهذا مناسب لما روي في سبب هذه الآية المتقدم ذكره. {وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ }: أي ومن طلبتها منالمعزولات ومن المفردات، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } في ردها وإيوائها إليك. ويجوز أن يكون ذلك توكيداً لما قبله، أي ومنابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء، لا جناح عليك. كما تقول: من لقيك ممن لم يلقك، جميعهم لك شاكر، تريدمن لقيك ومن لم يلقك، وفي هذا الوجه حذف المعطوف، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب، والراجح القولالأول. وقال الحسن: المعنى: من مات من نسائك اللواتي عندك، أو خليت سبيلها، فلا جناح عليك أن تستبدل عوضها مناللاتي أحللت لك، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك. وقال الزمخشري: بمعنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع منتشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت، أو تترك من تشاءمن أمتك وتتزوج من شئت. وعن الحسن: كان النبي/ إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أنيخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وأما أن يمسك. فإذا أمسك ضاجع، أوترك وقسم، أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلي المعزولة لا يتبعها، أو يتبعها. وروي أنه ارجأ منهن:سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة. فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن أوى إليه: عائشة، وحفصة، وأمسملة، وزينب، أرجأ خمساً وأوى أربعاً. وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنهاوهبت نفسها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. انتهى. ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهنوانتفاء حزنهن ووجود رضاهن، إذا علمت أن ذلك التفويض من عند الله، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك.وقرأ الجمهور: {ءانٍ }: مبنياً للفاعل من قرت العين؛ وابن محيصن: يقر من أقرأ عينهن بالنصب، وفاعل تقر ضميرالخطاب، أيأنت. وقرىء: تقر مبنياً للمفعول، وأعينهن بالرفع. وقرأ الجمهور: {بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } بالرفع، تأكيداً النون {*يرضين}؛ وأبو إياس حوبةبن عائد: بالنصب تأكيداً لضمير النصب في {بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ }. {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ }: عام. قال ابن عطية:والإشارة به ههنا إلى ما في قلب رسول الله من محبة شخص دون شخص، ويدخل فيالمعنى المؤمنون. وقال الزمخشري، وعبيدة: من لم يرض منهن بما يريد الله من ذلك، وفوض إلى مشيئة رسوله، وبعث علىتواطؤ قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على طلب رضا رسول الله ، وما فيه طيب نفسه. انتهى. {وَكَانَٱللَّهُ عَلِيماً } بما انطوت عليه القلوب، {حَلِيماً }: يصفح عما يغلب على القلب من المسؤول، إذ هي مما لايملك غالباً. واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام، كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات، ولم يستعمل شيئاً مماأبيح له، ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل، غير ما جرى لسودة مما ذكرناه. {لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنّسَاء مِن بَعْدُ }:الظاهر أنها محكمة، وهو قول أبيّ بن كعب وجماعة، منهم الحسن وابن سيرين، واختاره الطبري. ومن بعد المحذوف منه مختلففيه، فقال أبيّ، وعكرمة، والضحاك: ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوٰجَكَ }. فعلى هذا المعنى،لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة: لا أعرابية، ولا عربية،ولا كتابية، ولا أمة بنكاح. وقال ابن عباس، وقتادة: من بعد، لأن التسع نصاب رسول الله من الأزواج، كما أنالأربع نصاب أمته منهن. قال: لما خيرن فاخترن الله ورسوله، جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن، ونسخ بذلكما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء. وقال مجاهد، وابن جبير: وروي عن عكرمة: من بعد، أي منبعد إباحة النساء على العموم، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا نصرانية. وكذلك: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّمِنْ أَزْوَاجٍ }: أي بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات. وقيل: في قوله {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ }، هو من البدل الذيكان في الجاهلية. كان يقول الرجل: بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر. قال معناه ابنزيد، وأنه كان في الجاهلية، وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية، وما فعلت العرب قط هذا. وما رويمن حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله ، حين دخل عليه بغير استئذان، وعنده عائشة.من هذه الحميراء؟ فقال: عائشة فقال عيينة: يا رسول الله، إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العربجمالاً: ونسباً، فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية. ومن في {مِنْ أَزْوَاجٍ } زائدة لتأكيدالنفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل: الآية منسوخة، واختلف في الناسخ فقيل: بالسنة. قال عائشة: ما مات حتى حلله النساء. وروي ذلك عن أم سلمة، وهو قول علي وابن عباس والضحاك، وقيل بالقرآن، وهو قوله: {تُرْجِى مَن تَشَاءمِنْهُنَّ } الآية. قال هبة الله الضرير: في الناسخ والمنسوخ له، وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوىهذا. قال ابن عطية: وكلامه يضعف من جهات. انتهى. وقيل: قوله {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوٰجَكَ } الآية، فترتيب النزول ليسعلى ترتيب كتابة المصحف. وقد روي عن ابن عباس القولان: إنها محكمة، وإنها منسوخة. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ }، قيل:منهن أسماء بنت عميس الخثعمية، امرأة جعفر بن أبي طالب. والجملة، قال الزمخشري، في موضع الحال من الفاعل، وهو الضميرفي {تُبَدَّلُ }، لا من المفعول الذي هو {مِنْ أَزْوَاجٍ }، لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضاً إعجابك لهن؛ وتقدملنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة، أي {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } على كلحال، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل، وهي حالة الإعجاب بالحسن. قال ابن عطية: وفي هذا اللفظ {أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}، دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. انتهى. وقد جاء ذلك في السنة من حديث المغيرةبن شعبة، وحديث محمد بن مسلمة. {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ }: أي فإنه يحل لك. وأما إن كانت موصولةواقعة على الجنس، فهو استثناء من الجنس، يختار فيه الرفع على البدل من النساء. ويجوز النصب على الاستثناء، وإن كانتمصدرية، ففي موضع نصب، لأنه استثناء من غير جنس الأول، قاله ابن عطية، وليس بجيد، لأنه قال: والتقدير: إلا، ملكاليمين، وملك بمعنى: مملوك، فإذا كان بمعنى مملوك صار من حملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر، فيكون الرفع هوأرجح، ولأنه قال: وهو في موضع نصب، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب. ولو فرضنا أنه من غير الجنسحقيقة، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل، لأنه مستثنى، يمكن توجه العامل عليه، وإنما يكون النصب متحتماً حيث كان المستثنى لايمكن توجه العامل عليه نحو: ما زاد المال إلا النقص، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص، ولأنه قال: استثناء منغير الجنس. وقال مالك: بمعنى مملوك فناقض. {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء رَّقِيباً }: أي راقباً، أو مراقباً، ومعناه: حافظوشاهد ومطلع، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه. {رَّقِيباً يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىّ إِلاَّأَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ }. في الصحيحين، أنه صلى الله عليهوسلم لما تزوج زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأىذلك قام، وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، فجاء فدخل، فإذا القوم جلوس، فرجع وأنهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرتهأنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل عليه هذه الآية. قال ابن عباس: كانناس يتحينون طعامه، عليه الصلاة والسلام، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان يتأذى بهم،فنزلت. وأما سبب الحجاب، فعمر قال: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البار والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت.وقال مجاهد: طعم معه بعض أصحابه، ومعهم عائشة، فمست يد رجل منهم يد عائشة، فكره ذلك عليه السلام، فنزلت آيةالحجاب. ولما كان نزول الآية في شيء خاص وقع للصحابة، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز دخول بيوتالنبي إلا إن كان عن إذن {إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ }، لا يجوز دخول بيوته، عليه السلام، إلا بإذن،سواء كان لطعام أم لغيره. وأيضاً فإذا كان النهي إلا بإذن إلى طعام، وهو ما تمس الحاجة إليه لجهة الأولى.و{بُيُوتِ }: جمع، وإن كانت الواقعة في بيت واحد خاص يعم جميع بيوته. و{إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ }، قال الزمخشري: {إِلاَّأَن يُؤْذَنَ } في معنى الظرف تقديره: وقت أن يؤذن لكم، و{غَيْرَ نَـٰظِرِينَ }: حال من {لاَ تَدْخُلُواْ }، أوقعالاستثناء على الوقت والحال معاً، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه.انتهى. فقوله: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ } في معنى الظرف وتقديره: وقت أن يؤذن لكم، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليسبصحيح، وقد نصوا على أن أنْ المصدرية لا تكون في معنى الظرف. تقول: أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج، ولا يجوز:أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج. وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معاً، فلا يجوز على مذهبالجمهور، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى، أو المستثنى منه، أو صفة المستثنى منه: وأجاز الأخفش والكسائي ذلكفي الحال، أجازا: ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال. وأما قوله: {إِلاَّأَن يُؤْذَنَ لَكُمْ }، فلا يتعين أن يكون ظرفاً، لأنه يكون التقدير: إلا بأن يؤذن لكم، فتكون الباء للسببية، كقوله:

{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ }

أو للحال، أي مصحوبين بالإذن. وأما {غَيْرَ نَـٰظِرِينَ }، كما قرر في قوله:

{ بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ }

أرسلناهم بالبينات والزبر، دل عليه {لاَ تَدْخُلُواْ }، كما دل عليه أرسلناهم قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا }.ومعنى {غَيْرَ نَـٰظِرِينَ } فحال، والعامل فيه محذوف تقديره: ادخلوا بالإذن غير ناظرين. كما قرر في قوله: {بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ }،أي غير منتظرين وقته، أي وقت استوائه وتهيئته. وقرأ الجمهور: {غَيْرِ } بالنصب على الحال؛ وابن أبي عبلة: بالكسر، صفةلطعام. قال الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير من هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرزمن إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقوله: هند زيد ضاربته هي. انتهى. وحذف هذا الضمير جائزو عند الكوفيينإذا لم يلبس وأنى الطعام إدراكه، يقال: أني الطعام أنى، كقوله: قلاه قلى، وقيل: وقته، أي غير ناظرين ساعة أكله.وقرأ الجمهور: إناه مفرداً؛ والأعمش: إناءه، بمدة بعد النون. ورتب تعالى الدخول على أن يدعوا، فلا يقدمون عليه الدخول حينيدعوا، ثم أمر بالاستثناء إذا طعموا. {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ }: معطوف على {نَـٰظِرِينَ }، فهو مجرور أو معطوف على {غَيْرِ}، فهو منصوب، أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين. وقيل: ثم حال محذوفة، أي لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين،فيعطف عليه. واللام في {لِحَدِيثٍ } إما لام العلة، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه، بهأو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول، فنهوا أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوحشه. {إِنَّ ذَلِكُمْ }:أي انتظاركم واستئناسكم، {يُؤْذِى ٱلنَّبِىّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ }: أي من إنهاضكم من البيوت، أو من إخراجكم منها بدليل قوله: {وَٱللَّهُلاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ٱلْحَقّ }: يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان الحياء مما يمنع الحيمن بعض الأفعال، قيل: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىّ } بمعنى: لا يمتنع، وجاء ذلك على سبيل المقابلة لقوله: {فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ}. وعن عائشة، وابن عباس: حسبك في الثقلاء، أن الله لم يحتملهم. وقرئت هذه الآية بين يدي إسماعيل بن أبيحكيم فقال: هنا أدب أدب الله به الثقلاء. وقرأت فرقة: فيستحيـي بكسر الحاء، مضارع استحى، وهي لغة بني تميم. واختلفواما المحذوف، أعين الكلمة أم لامها؟ فإن كان العين فوزنها يستفل، وإن كان اللام فوزنها يستفع، والترجيح مذكور في النحو.وقرأ الجمهور: بياءين وسكون الحاء، والمتاع عام في ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافقللدين والدنيا. {ذٰلِكُمْ }، أي السؤال من وراء الحجاب، {أَطْهَرُ }: يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء،والنساء في امر الرجال، إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة. ألا ترى إلى قول الشاعر

: والمرء ما دام ذاعين يقلبها     في أعين العين موقوف على الخطر يسر مقلته ما ساء مهجتهلامر حباً بانتفاع جاء بالضرر

وذكر أن بعضهم قال: أنتهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟ لئنمات محمد لا تزوجن فلانة. وقال ابن عباس وبعض الصحابة: وفلانة عائشة. وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحةبن عبيد الله. قال ابن عطية: وهذا عندى لا يصح على طلحة فإن الله عصمه منه. وفي التحرير أنه طلحة،فنزلت: {وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً }، فتاب وأعتق رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحجماشياً. وروي أن بعض المنافقين قال: حين تزوج رسول الله ، أم سلمة بعده، أي بعدسلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه. ولماتوفي رسول الله ، وارتدت العرب ثم رجعت، تزوج عكرمة ابن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بنقيس، وكان رسول الله ، قد تزوجها ولم يبن بها. فصعب ذلك على أبي بكر وقلق، فقالله عمر: مهلاً يا خليفة رسول الله، إنها ليست من نسائه، إنه لم يبن بها، ولا أرخى عليها حجاباً، وقدأبانتها منه ردتها مع قومها. فسكن أبو بكر، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم عنها،مراعاة للحجاب، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة، ومنعهعمر. وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله . {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنتؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ }: عام في كل ما يتأذى به، {وَلاَ أَن تَنكِحُواْ }: خاص بعد عام، لأن ذلك يكونأعظم الأذى، فحرم الله نكاح أزواجه بعد وفاته. {إِنَّ ذَلِكُمْ }: أي إذايته ونكاح أزواجه، {كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً }:وهذا من أعلام تعظيم الله لرسوله، وإيجابه حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه، فإن نحو هذا ممايحدث به المرء نفسه. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت، لئلا تنكح من بعده، وخصوصاًالعرب، فإنهم أشد الناس غيرة. وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قبل جارية كان يحبها في حكاية قال: تصوراً لما عسىأن يتفق من بقائها بعده، وحصولها تحت يد غيره. انتهى. فقال لما عسى، صلة للموصول، وقد كثر منه هذا وهولا يجوز. وعن بعض الفقهاء، أن الزوج الثاني في هدير الثلث يجري مجرى العقوبة، فعنى رسول الله صلى الله عليهوسلم، عملاً يلاحظ ذلك. {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ }: وعيد لما تقدم التعرض به في الآية ممن أشير إليهبقوله: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ }، ومن أشير إليه: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ }، فقيل: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } على ألسنتكم،{*أوتخفوه} في صدوركم، مما يقع عليه العقاب، فالله يعلمه، فيجازي عليه. وقال: {تَكُ شَيْئاً }، ليدخل فيه ما يؤذيه، عليهالسلام، من نكاحهن وغيره، وهو صالح لكل باد وخاف. وروي أنه لما نزلت آية الحجاب قال: الآباء والأبناء والأقارب،أو نحن يا رسول الله أيضاً، نكلمهن من وراء حجاب، فنزلت: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ }: أي لا إثم عليهن. قالقتادة: في ترك الحجاب. وقال مجاهد: في وضع الجلباب وإبداء الزينة. وقال الشعبي: لم يذكر العم والخال، وإن كانا منالمحارم، لئلا يصفا للأبناء، وليسوا من المحارم. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها، وقيل:لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أباً. وذكر هنا بعض المحارم، والجميع في سورة النور. ودخل في: {وَلاَنِسَائِهِنَّ }، الأمهات والأخوات وسائر القربات، ومن يتصل بهن من المتطرفات لهن. وقال ابن زيد وغيره: أراد جميع النساء المؤمنات،وتخصيص الإضافة إنما هي في الإيمان. وقال مجاهد: من أهل دينهن، وهو كقول ابن زيد. والظاهر من قوله: {أَمَّا *مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ }، دخول العبيد والإماء دون ما ملك غيرهن. وقيل: مخصوص بالإماء، وقيل: جميع العبيد ممن في ملكهن أوملك غيرهن. وقال النخعي: يباح لعبدها النظر إلى ما يواريه الدرع من ظاهر بدنها، وإذا كان للعبد المكاتب ما يؤدي،فقد أمر رسول الله بضرب الحجاب دونه، وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان. {وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ}: أمر بالتقوى وخروج من الغيبة إلى الخطاب، أي واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب، وأنزل الله فيه الوحيمن الاستتار، وكأن في الكلام جملة حذفت تقديره: اقتصرن على هذا، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره. ثم توعدبقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيداً }، من السر والعلن، وظاهر الحجاب وباطنه، وغير ذلك. {شَهِيداً }: لاتتفاوت الأحوال في علمه. وقرأ الجمهور: {وَمَلَـئِكَتُهُ } نصباً؛ وابن عباس، وعبد الوارث عن أبي عمرو: رفعاً. فعند الكوفيين غيرالفراء هو عطف على موضع اسم إن، والفراء يشترط خفاء إعراب اسم إن. وعند البصريين هو على حذف الخبر، أييصلي على النبي، وملائكته يصلون، وتقدم الكلام على كيفية اجتماع الصلاتين في قوله: {هُوَ ٱلَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَـئِكَتُهُ }. فالضميرفي {يَصِلُونَ } عائد على {ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ }، وقيل: في الكلام حذف، أي يصلي وملائكته يصلون، فراراً من اشتراك الضمير،والظاهر وجوب الصلاة والسلام عليه، وقيل: سنة. إذا كانت الصلاة واجبة فقيل: كلما جرى ذكره قيل في كل مجلس مرة.وقد ورد في الحديث في الصلاة عليه، فضائل كثيرة. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال قوم من الصحابة:السلام عليك يا رسول الله عرفناه، فكيف نصلي عليك قال: قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وارحم محمداً وآل محمد، كما رحمت وباركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد وفي بعض الروايات زيادة ونقص. {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، قال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حيناتخذ صفية بنت حيـي زوجاً. انتهى. والطعن في تأمير أسامة بن زيد: أن إيذاءه عليه السلام، وإيذاء الله والرسول فعلما نهى الله ورسوله عنه من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوة ومخالفة الشرع، وما يصيبون به الرسول من أنواع الأذى. ولايتصور الأذى حقيقة في حق الله، فقيل: هو على حذف مضاف، أي يؤذون أولياء الله، وقيل: المراد يؤذون رسول الله،وقيل: في أذى الله، هو قول اليهود والنصارى والمشركين:

{ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }

و

{ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ }

و

{ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ }

و{ٱلْمَلَـٰئِكَةَ * بَنَاتٍ * ٱللَّهِ }، و{ٱلاْصْنَامَ }. وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذينيزورون خلقاً مثل خلق الله، وقيل: في أذى رسول الله قولهم: ساحر شاعر كاهن مجنون، وقيل: كسر رباعيته وشج وجههيوم أُحد. وأطلق إيذاء الله ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله: {وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ }، لأن إيذاءهما لا يكونإلا بغير حق، بخلاف إيذاء المؤمن، فقد يكون بحق. ومعنى {بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ }: بغير جناية واستحقاق أذى. وقال مقاتل:نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً، كرم الله وجهه، ويسمعونه؛ وقيل: في الذين أفكوا على عائشة. وقال الضحاك، والسدي،والكلبي: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات؛ وقيل: في عمر، رأى من الريبة على جارية من جواري الأنصار ماكره، فضربها، فأذوى أهل عمر باللسان، فنزلت. قال ابن عباس: وروي أن عمر قال يوماً لأبي: قرأت البارحة {وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } ففزعت منها، وإني لأضربهم وأنهرهم، فقال له: لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم. {مُّبِيناً يأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّقُل لاِزْوٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً }.كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهنفي النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبسالأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن. وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤيةالنساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت. قيل: والجلابيب: الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل، وقال ابن جبير: المقانع؛ وقيل: الملاحف،وقيل: الجلباب: كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل: كل ما تستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زيد

:تجلببت من سواد الليل جلباباً    

وقيل: الجلباب أكبر من الخمار. وقال عكرمة: تلقي جانب الجلباب علىغيرها ولا يرى. وقال أبو عبيدة السلماني، حين سئل عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتىتضعه على أنفها. وقال السدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين. انتهى. وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهرمن المرأة إلا عينها الواحدة. وقال الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالإنضمام معنى: الإدناء. وقال ابن عباس، وقتادة: وذلكأن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. والظاهر أن قوله:{وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ } يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليلواضح. ومن في: {مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ } للتبعيض، و{عَلَيْهِنَّ }: شامل لجميع أجسادهن، أو {عَلَيْهِنَّ }: على وجوههن، لأن الذي كانيبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ }: لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن؛لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام، لم يقدم عليها، بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها. {وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}: تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك. ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، والمجاهرالذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسر الذي يؤذي الله ورسوله، ويظهر الحق ويضمر النفاق. ولما كان المؤذون ثلاثة، باعتبار إذايتهملله ولرسوله وللمؤمنين، كان المشركون ثلاثة: منافق، ومن في قلبه مرض، ومرجف. فالمنافق يؤذي سراً، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه،والثالث يرجف بالرسول، يقول: غلب، سيخرج من المدينة، سيؤخذ، هزمت سراياه. وظاهر العطف التغاير بالشخص، فيكون المعنى: لئن لم ينتهالمنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه. ويجوز أن يكون التغاير بالوصف، فيكونواحداً بالشخص ثلاثة بالوصف. كما جاء أن المسلمين والمسلمات، فذكر أوصافاً عشرة، والموصوف بها واحد، ونص على هذين الوصفين منالمنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين. قال عكرمة: {ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }، هو العزل وحب الزنا، ومنه فيطمع الذي فيقلبه مرض. وقال السدي: المرض: النفاق، ومن في قلوبهم مرض. وقال ابن عباس: هم الذين آذوا عمر. وقال الكلبي: منآذى المسلمين. وقال ابن عباس: {*المرجفون}: ملتمسوا الفتن. وقال قتادة: الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة. {ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}: أي لنسلطنك عليهم، قاله ابن عباس. وقال قتادة: لنحرسنك بهم. {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا }: أي في المدينة،و{ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ } معطوف على {لَنُغْرِيَنَّكَ }، ولم يكن العطف بالفاء، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء، بلكونه جواباً للقسم أبلغ. وكان العطف بثم، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا، به فتراختحالة الجلاء عن حالة الإغراء. {إِلاَّ قَلِيلاً }: أي جواراً قليلاً، أو زماناً قليلاً، أو عدداً قليلاً، وهذا الأخير استثناءمن المنطوق، وهو ضمير الرفع في {يُجَاوِرُونَكَ }، أو ينتصب قليلاً على الحال، أي إلا قليلين، والأول استثناء من المصدرالدال عليه {يُجَاوِرُونَكَ }، والثاني من الزمان الدال عليه {يُجَاوِرُونَكَ }، والمعنى: أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوفالقتل. وانتصب {مَّلْعُونِينَ } على الذم، قاله الطبري؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من {قَلِيلاً }، قال: هو منإقلاء الذي قدرناه؛ وأجاز هو أيضاً أن يكون حالاً من الضمير في {يُجَاوِرُونَكَ }، قال: كأنه قال: ينتفون من المدينةمعلونين، فلا يقدر {لاَ يُجَاوِرُونَكَ }، فقدر ينتفون حسن هذا. انتهى. وقال الزمخشري، والحوفي، وتبعهما أبو البقاء: يجوز أن يكونحالاً من الضمير في {لاَ يُجَاوِرُونَكَ }، كما قال ابن عطية. قال الزمخشري: وهذا نصه معلونين، نصب على الشتم أوالحال، أي لا يجاورونك، إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً، كما مر في قول: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَلَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ }، ولا يصح أن ينتصب من أخذ، والأن ما بعد كلمة الشرط لا يعملفيما قبلها. انتهى. وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا، فيكون الاستثناء منصباًعليهما، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك. وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلاً، فالبدل بالمشتق قليل. وأما قول الزمخشري:لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها، فليس هذا مجمعاً عليه، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان: فعلالشرط والجواب. فأما فعل الشرط، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة، أجاز زيد أن يضرب اضربه، وأما الجواب فقد أجازأيضاً تقديم معموله عليه نحو: إن يقم زيد عمراً يضرب. وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: المعنى: {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ}: أخذوا ملعونين، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل، أي إلا قليلين ملعونين، ويكون قليلاً مستثنى من الواو في لا يجاورونك،والجملة الشرطية صفة أيضاً، أي مقهورين مغلوباً عليهم. ومعنى {ثُقِفُواْ }: حصروا وظفر بهم، ومعنى {أُخِذُواْ }: أسروا، والأخيذ: الأسير.وقرأ الجمهور: {قَـٰتِلُواْ }، بتشديد التاء؛ وفرقة: بتخفيفها، فيكون {تَقْتِيلاً } مصدراً على غير قياس المصدر. والظاهر أن المنافقينانتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين، وتستر جميعهم، وكفوا خوفاً من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه، وهوالإغراء والجلاء والأخذ والقتل. وقيل: لم يمتثلوا للانتهاء جملة، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً. ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد،ونهيه عن الصلاة عليهم، وما نزل فيهم في سورة براءة؟ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف، ولمينفذ الله الوعيد عليهم، ففيه دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة، ويكون هذا الوعيد مفروضاً ومشروطاً بالمشيئة.{سُنَّةَ ٱللَّهِ }: مصدر مؤكد، أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ظفر بهم. وعن مقاتل: كماقتل أهل بدر وأسروا، فالذين خلوا يشمل أتباع الأنبياء الذين نافقوا، ومن قتل يوم بدر. {يَسْـئَلُكَ ٱلنَّاسُ }: أي المشركون،عن وقت قيام الساعة، استعجالاً على سبيل الهزء، واليهود على سبيل الامتحان، إذ كانت معمى وقتها في التوراة، فنزلت الآيةبأن يرد العلم إلى الله، إذ لم يطلع عليها ملكاً ولا نبياً. ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم معلونون مهانونمقتولون، بيّن حالهم في الآخرة. {وَمَا يُدْرِيكَ }: ما استفهام في موضع رفع بالابتداء، أي: وأي شيء يدريك بها؟ ومعناهالنفي، أي ما يدريك بها أحد. {لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }: بين قرب الساعة، وفي ذلك تسلية للممتحن، وتهديد للمستعجل.وانتصب قريباً على الظرف، أي في زمان قريب، إذ استعماله ظرفاً كثير، ويستعمل أيضاً غير ظرف، تقول: إن قريباً منكزيد، فجاز أن يكون التقدير شيئاً قريباً، أو تكون الساعة بمعنى الوقت، فذكر قريباً على المعنى. أو يكون التقدير: لعلقيام الساعة، فلوحظ الساعة في تكون فأنث، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريباً فذكر. {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِىٱلنَّارِ }: يجوز أن ينتصب يوم بقوله: {لاَ يَجِدُونَ }، ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم، أو تم الكلام عند قولهم:{وَلاَ نَصِيراً }. وينتصب يوم بقوله: {يَقُولُونَ }، أو بمحذوف، أي اذكر ويقولون حال. وقرأ الجمهور: تقلب مبنياً للمفعول؛ والحسن،وعيسى، وأبو جعفر الرواسي: بفتح التاء، أي تتقلب؛ وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة. وقال ابن خالويه عن أبي حيوة:نقلب بالنون، وجوههم بالنصب. وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضاً وخارجة. زاد صاحب اللوامح أنها قراءة عيسى البصري. وقرأعيسى الكوفي كذلك، إلا أن بدل النون تاء، وفاعل تقلب ضمير يعود على {سَعِيراً }، وعلى جهنم أسند إليهما اتساعاً.وقراءة ابن أبي عبلة: تتقلب بتاءين، وتقليب الوجوه في النار: تحركها في الجهات، أو تغيرها عن هيئاتها، أو إلقاؤها فيالنار منكوسة. والظاهر هو الأول، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى. وعبربالوجه عن الجملة، وتمنيهم حيث لا ينفع، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي. وقرأ الجمهور: {سَادَتَنَا }، جمعاً على وزن فعلات،أصله سودة، وهو شاذ في جمع فيعل، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، والسلمي،وابن عامر، والعامة في الجامع بالبصرة: ساداتنا على الجمع بالألف والتاء، وهو لا ينقاس، كسوقات ومواليات بني هاشم وسادتهم، رؤساءالكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. قال قتادة: سادتنا: رؤساؤنا. وقال طاوس: أشرافنا؛ وقال أبو أسامة: أمراؤنا، وقال الشاعر

: تسلسل قوم سادة ثم زادة     يبدون أهل الجمع يوم المحصب

ويقال:ضل السبيل، وضل عن السبيل. فإذا دخلت همزة النقل تعدى لاثنين؛ وتقدم الكلام على إثبات الألف في الرسولاً والسبيلا فيقوله: {وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ }. ولما لم يجد تمنيهم الإيمان بطاعة الله ورسوله، ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممنأضلهم، دعوا على ساداتهم. {رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ }: ضعفاً على ضلالهم في أنفسهم، وضعفاً على إضلال من أضلوا.وقرأ الجمهور: كثيراً بالثاء المثلثة. وقرأ حذيفة بن اليمان، وابن عامر، وعاصم، والأعرج: بخلاف عنه بالباء. {كَٱلَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَىٰ }،قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قاله بعض الناس. وقيل: المراد حديث الإفك على أنه ماأوذي نبي مثل ما أوذيت. وفي حديث الرجل الذي قال لقسم قسمه رسول الله: إن هذه لقسمة ما أريد بهاوجه الله، فغضب وقال: رحم الله أخي موسى، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر. وإذاية موسى قولهم: إنه أبرص وآدر،وأنه حسد أخاه هارون وقتله. أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول: إن موسى زنى بها، أو ما نسبوه إليه منالسحر والجنون، أقوال. {مِمَّا قَالُواْ }: أي من وصم ما قالوا، وما موصولة أو مصدرية. وقرأ الجمهور: {وَكَانَ عِندَٱللَّهِ }: الظرف معمول لوجيهاً، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى، تميط عنه الأذى وتدفع التهم. وقرأ عبد الله،والأعمش، وأبو حيوة: عبد من العبودية، لله جر بلام الجر، وعبداً خبر كان، ووجيهاً صفة له. قال ابن خالويه: صليتخلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ: وكان عبد الله، على قراءة ابن مسعود. قال ابن زيد: {وَجِيهاً }:مقبولاً. وقال الحسن: مستجاب الدعوة، ما سأل شيئاً إلا أعطي، إلا الرؤية في الدنيا. وقال قطرب: رفيع القدر؛ وقيل: وجاهتهأنه كلمة ولقبه كليم الله. والسديد: تقدم شرحه في أوائل النساء. وقال ابن عباس: هنا صواباً. وقال مقاتل، وقتادة: سديداًفي شأن زيد وزينب والرسول. وقال ابن عباس، وعكرمة أيضاً: لا إله إلا الله، وقيل: ما يوافق ظاهره باطنه؛ وقيل:ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض؛ وقيل: السديد يعم الخيرات. ورتب على القول السديد: صلاح الأعمال وغفران الدنوب.قال الزمخشري: وهذه الآية مقررة للتي قبلها. بنيت تلك على النهي عما يؤدي به رسول الله، وهذه على الأمر باتقاءالله في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى، واتباع الأمر الوعدالبليغ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى، وهو كلام حسن. {إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ }: لما أرشد المؤمنينإلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول، ورتب على الطاعة ما رتب، بيّن أن ما كلفه الإنسانأمر عظيم، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ }، تعظيماً الأمر التكليف. والأمانة: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهيوشأن دين ودنيا. والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، ولذلك قال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن اؤتمنت المرأة علىفرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، والظاهر عرض الإمانة على هذه المخلوقات العظام، وهي الأوامر والنواهي، فتثاب إن أحسنت،وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها، وهذا غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفهعليه الصلاة والسلام، وحن الجذع إليه، وكلمته الذراع، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة. قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهماًوتمييزاً، فخيرت في الحمل، وذكر الجبال، مع أنها مع الأرض، لزيادة قوتها وصلابتها، تعظيماً للأمر. وقال ابن الأنباري: عرضت بمسمعمن آدم، عليه الصلاة والسلام، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه، فيتجاسر على الحمل غيره، ويظهر فضله على الخلائق،حرصاً على العبودية، وتشريفاً على البرية بعلو الهمة. وقيل: هو مجاز، فقيل: من مجاز الحذف، أي على من فيها منالملائكة، وقيل: من باب التمثيل. قال الزمخشري: إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض علىأعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى محمله والاستقلال به، وحملها الإنسان على ضعفهورخاوة قوته. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }، حيث حملّ الأمانة، ثم لم يف بها. ونحو هذا من الكلام كثير فيلسان العرب، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. من ذلك قول العرب: لو قيل للشحم أين تذهب لقيل:أسوي العوج. وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات وتصور مقالة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوانمما يحسن قبحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه؛ فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع، وهيبه آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت:قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حالتميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه، وكلواحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، فليس كذلك ما في الآية. فإن عرض الأمانة علىالجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بها التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبهشيئاً، والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية، وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ وفي نظائره مفروض،والمفروض أن يتخيل في الذهن. كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض، لو عرضت علىالسموات والأرض والجبال {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }. انتهى. وقال أيضاً: إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمرالله انقياد مثلها، وهو ما تأتي من الجمادات، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكالمتنوعة. كما قال:

{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }

وأما الإنسان، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر اللهونواهيه، وهو حيوان إن صالح للتكليف، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد. والمراد بالأمانة: الطاعة،لأنها لازمة للوجود. كما أن الأمانة لازمة للأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز. وحمل الأمانة من قولك: فلان حاملللأمانة ومحتمل لها، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبةللمؤتمن عليها، وهو حامل لها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون؟ ولي عليه حق؟ فأبين أن لا يؤدونها، وأبى الإنسان أنلا يكون محتملاً لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منهوهو أداؤها. انتهى، وفيه بعض حذف. وقال قوم: الآية من المجاز، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرضوالجبال، رأيتهما أنهما لا تطيقها، وأنها لو تكلمت، لأبتها وأشفقت عنها؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا } الآية،وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل، فرأيتها تقصر عنه؛ ونحوه قول ابن بحر معنى عرضنا: عارضناها وقابلناها بها. {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا }: أي قصرن ونقص عنها، كما تقول: أبتالصنجة أن تحمل ما قابلها. {وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ }، قال ابن عباس، وابن جبير: التزم القيام بحقها، والإنسان آدم، وهو فيذلك ظلوم نفسه، جهول بقدر ما دخل فيه. وقال ابن عباس: ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة. وقالالضحاك، والحسن: وحملها معناه: خان فيها، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره. وقال ابن مسعود، وابن عباس أيضاً: ابن آدمقابيل الذي قتل أخاه هابيل، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم مسافراً عنهم إلى مكة،في حديث طويل ذكره الطبري. وقال ابن إسحاق: عرض الأمانة: وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات. والحمل: الخيانة، كما تقول: حملخفي واحتمله، أي ذهب به. قال الشاعر

: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة     وتحمل أخرى أخرجتك الودائع

انتهى. وليس وتحمل أخرى نصفاً في الذهاب بها، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى، فتؤديواحدة وتتحمل أخرى، فلا تزال دائماً ذا أمانات، فتخرج إذ ذاك. واللام في {لّيُعَذّبَ } لام الصيرورة، لأنه لميحملها لأن يعذب، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك، ويتوب على من آمن. وقال الزمخشري: لامالتعليل على طريق المجاز، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش: فيتوب،يعني بالرفع، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدىء ويتوب. ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيرهممن لم يحملها، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب القتال. انتهى. وذهب صاحب اللوامحأن الحسن قرأ ويتوب بالرفع.