تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الأعراف

{ الۤمۤصۤ } * { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } * { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } * { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } * { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } * { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } * { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } * { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } * { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } * { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } * { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } * { قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } * { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } * { قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } * { وَيَا آدَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } * { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } * { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } * { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } * { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } * { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } * { يَابَنِيۤ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { يَابَنِيۤ آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }

عدل

كم اسم بسيط لا مركّب من كاف التشبيه وما الاستفهامية حذف ألفها لدخولحرف الجرّ عليها وسكنت كما قالوا لم تركيباً لا ينفكّ كما ركبت في كأين مع أي وتأتي استفهاميّة وخبريّة وكثيراًما جاءت الخبرية في القرآن ولم يأتِ تمييزها في القرآن إلا مجروراً بمن وأحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو.القيلولة نوم نصف النهار وهي القائلة قاله الليث، وقال الأزهري الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرّ ولم يكن نوم، وقالالفرّاء: قال: يقيل قيلولة وقيلاً وقائلة ومقيلاً استراح وسط النهار. العيش الحياة عاش يعيش عيشاً ومعاشاً وعيشةً ومعيشة ومعيشاً. قالرؤبة:

إليك أشكو شدّة المعيش     وجهد أيام نتفن ريشي

غوى يغوي غيّاًوغوايةً فسد عليه أمره وفسد هو في نفسه ومنه غوى الفصيل أكثر من شرب لبن أمّه حتى فسد جوفه وأشرفعلى الهلاك، وقيل أصله الهلاك ومنه

{ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }

. الشمائل جمع وهو جمع تكسير وجمعه في القلة علىأشمل قال الشاعر:

يــأتي لهــا مــن أيمــن وأشمــل    

وشمال يطلق على اليد اليسرى وعلى ناحيتها، والشمائل أيضاً جمع شمال وهيالريح والشمائل أيضاً الأخلاق يقال هو حسن الشمائل. ذأمه عابه يذأمه ذأماً بسكون الهمزة ويجوز إبدالها ألفاً قال الشاعر:

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة     فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها

وفي المثل لن يعدم الحسناءذأماً. وقيل: أردت أن تديمه فمدحته، وقال الليث ذأمته حقرته، وقال ابن قتيبة وابن الأنباري: ذأمه وذمّه، دحره أبعده وأقصاهدحوراً قال الشاعر:

دحرت بني الحصيب إلى قديد     وقد كانوا ذوي أشَر وفخر

وسوس تكلم كلاماًخفياً يكرّره والوسواس صوت الحلي شبه الهمس به وهو فعل لا يتعدّى إلى منصوب نحو ولولت ووعوع. قال ابن الأعرابي:رجل موسوس، بكسر الواو، ولا يقال: موسوَس بفتحها. وقال غيره: يقال موسوس له وموسوس إليه. وقال رؤبة يصف صياداً:

وسوس يدعو مخلصاً ربَّ الفلق     لمّا دنا الصيد دنا من الوهق

يقول لما أحس بالصيدوأراد رميه وسوس في نفسه أيخطىء أم يصيب. قال الأزهري: وسوس وورور معناهما واحد، نصح بذل المجهود في تبيين الخيروهو ضد غش ويتعدى بنفسه وباللام نصحْتُ زيداً ونصحتُ لزيد ويبعد أن يكون يتعدى لواحد بنفسه ولآخر بحرف الجرّ وأصلهنصحت لزيد، من قولهم نصحت لزيد الثوب بمعنى خطته خلافاً لمن ذهب إلى ذلك. ذاق الشيء يذوقه ذوقاً مسه بلسانهأو بفمه ويطلق على الأكل. طفق، بكسر الفاء وفتحها، ويقال: طبق بالباء وهي بمعنى أخذ من أفعال المقاربة. خصف الفعلوضع جلداً على جلد وجمع بينهما بسير والخصف الخرز. الريش معروف وهو للطائر ويستعمل في معان يأتي ذكرها في تفسيرالمركبات واشتقوا منه قالوا راشه يريشه، وقيل الريش مصدر راش. النزع الإزالة والجذب بقوة {المص * كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَيَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } هذه السورة مكية كلها قاله ابن عباس والحسن ومجاهدوعكرمة وعطاء وجابر بن زيد والضحاك وغيرهم، وقال مقاتل إلا قوله {وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ } إلى قوله: {مِن ظُهُورِهِمْ }فإن ذلك مدني وروي هذا أيضاً عن ابن عباس. وقيل إلى قوله: {ٱلْمُصْلِحِينَ وَإِذ نَتَقْنَا } واعتلاق هذه السورة بماقبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله

{ وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ }

واستطرد منه لما بعده وإلى قولهآخر السورة

{ وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ }

وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعيّة ذكر مايكون به التكاليف وهو الكتاب الإلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ } وتقدّمالكلام على هذه الحروف المقطّعة أوائل السورة في أول البقرة وذكر ما حدسه الناس فيها ولم يقم دليل على شيءمن تفسيرهم يعين ما قالوا وزادوا هنا لأجل الصاد أنّ معناه أنا الله أعلم وأفصّل رواه أبو الضحى عن ابنعباس أو المصور قاله السدي: أو الله الملك النصير قاله بعضهم أو أنا الله المصير إليّ، حكاه الماوردي أو المصيركتاب فحذف الياء والراء ترخيماً وعبّر عن المصير بالمص قاله التبريزي. وقيل عنه: أنا الله الصادق. وقيل معناه

{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }

قاله الكرماني قال: واكتفى ببعض الكلام وهذه الأقوال في الحروف المقطعة لولا أن المفسرين شحنوا بها كتبهمخلفاً عن سلف لضربنا عن ذكرها صفحاً فإن ذكرها يدل على ما لا ينبغي ذكره من تأويلات الباطنية وأصحاب الألغازوالرموز ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه أيّ من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لميؤمن بكتاب ولا اعتقد صحة رسالة وتكليف الناس أحكامها وهذه أمور صعبة ومعانيها يشق عليه ذلك وأسند النهي إلى الحرجومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج، وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أنّ الحرج لو كان مما ينهىلنهيناه عنك فانتهِ أنت عنه بعدم التعرّض له ولأن فيه تنزيه نبيه بأن ينهاه فيأتي التركيبفلا تخرج منه لأنّ ما أنزله الله تعالى إليه يناسب أن يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفهحيث أهّله لإنزال كتابه عليه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهي الحرج وفسر الحرجهنا بالشك وهو تفسير قلق وسمّى الشكّ حرجاً لأن الشاكّ ضيّق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وإن صحّ هذاعن ابن عباس فيكون مما توجه فيه الخطاب إليه لفظاً وهو لأمته معنى أي فلا يشكوا أنه من عند الله.وقال الحسن: الحرج هنا الضيق أي لا يضيق صدرك من تبليغ ما أرسلت به خوفاً من أن لا تقوم بحقّه.وقال الفرّاء: معناه لا يضيق صدرك بأن يكذّبوك كما قال تعالى:

{ فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً }

وقيل: الحرج هنا الخوف أي لا تخف منهم وإن كذبوك وتمالؤوا عليك قالوا: ويحتمل أن يكون الخطابله ولأمته، والظاهر أنّ الضمير في {مِنْهُ } عائد على الكتاب، وقيل على التبليغ الذي تضمنه المعنى. وقيل على التكذيبالذي دلّ عليه المعنى، وقيل على الإنزال، وقيل على الإنذار. قال ابن عطية: وهذا التخصيص كله لا وجه له إذاللفظ يعمّ جميع الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرّض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك{فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً {وَلِتُنذِرَ} متعلق بأنزل انتهى. وكذا قال الحوفي والزمخشري أنّ اللام متعلقة بقوله {أَنَزلَ } وقاله قبلهم الفرّاء ولزم من قولهمأن يكون قوله: فلا يكن {فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ } اعتراضاً بين العامل والمعمول. وقال ابن الأنباري: التقدير فلا يكن فيصدرك حرج منه كي تنذر به فجعله متعلقاً بما تعلّق به في صدرك وكذا علقه به صاحب النظم فعلى هذالا تكون الجملة معترضة وجوّز الزمخشري وأبو البقاء الوجهين إلا أنّ الزمخشري قال: (فإن قلت): بم يتعلق قوله: {لّتُنذِرَ }(قلت): بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ولذلك إذا أيقن أنه من عندالله شجّعه اليقين على الإنذار لأنّ صاحب اليقين جَسور متوكّل على عصمته انتهى. فقوله أو بالنهي ظاهره أنه يتعلق بالنّهيفيكون متعلقاً بقوله فلا يكن كان عندهم في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلاف ومبناه على أنه هل تدلّكان الناقصة على الحدث أم لا فمن قال إنها تدلّ على الحدث جوّز فيها ذلك، ومن قال إنها لا تدلّعليه لم يجوّز ذلك، وأعرب الفرّاء وغيره {المص } مبتدأ و {كِتَابٌ } خبره وأعرب أيضاً {كِتَابٌ } خبر مبتدأمحذوف أي هذا كتاب و {ذِكْرِى } هو مصدر ذكر بتخفيف الكاف وجوّزوا فيه أن يكون مرفوعاً عطف على كتابأو خبر مبتدأ محذوف أي وهو ذكرى، والنصب على المصدر على إضمار فعل معطوف على {لّتُنذِرَ } أي وتذكر ذكرىأو على موضع لتنذر لأن موضعه نصب فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى كما عطفت الحال على موضع المجرور فيقوله دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً ويكون مفعولاً من أجله وكما تقول جئتك للإحسان وشوقاً إليك، والجرّ على موضعالناصبة {لّتُنذِرَ } المنسبك منها ومن الفعل مصدر التقدير لإنذارك به وذكرى. وقال قوم: هو معطوف على الضمير من بهوهو مذهب كوفيّ وتعاور النصب والجرّ هو على معنى وتذكير مصدر ذكر المشدّد. وقال أبو عبد الله الرازي: النفوس قسمانجاهلة غريقة في طلب اللّذات الجسمانية وشريفة مشرقة بالأنوار الإلهية، مستشعرة بالحوادث الروحانيّة فبعثت الأنبياء والرّسل في حقّ القسم الأولللإنذار والتخويف لما غرقوا في بحر الغفلة ورقدة الجاهلية احتاجوا إلى موقظٍ ومنبه، وفي حقّ القسم الثاني لتذكير وتنبيه لأنّهذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستشعرةً بالانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمديّة إلا أنه ربما غشيها من غواشي عالمالحسّ فيعرض نوع ذهول فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتّصل بها أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ماحصل هناك من الروح والراحة والريحان. فثبت أنه تعالى إنما أنزل الكتاب على رسوله ليكون إنذار في حق طائفة، وذكرىفي حق أخرى وهو كلام فلسفي خارج عن كلام المتشرّعين وهكذا. كلام هذا الرجل أعاذنا الله منه. {ٱتَّبِعُواْ مَاأُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } لما ذكر تعالى أن هذا الكتاب أنزلإلى الرسول أمر الأمة باتّباعه وما أنزل إليكم يشمل القرآن والسنة لقوله

{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ }

ونهاهم عن ابتغاء أولياء من دون الله كالأصنام والرّهبان والكهّان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك والظاهر أنالضمير في {مِن دُونِهِ } عائد على {رَبُّكُـمْ }. وقيل على ما وقيل على الكتاب والمعنى لا تعدلوا عنه إلىالكتب المنسوخة. وقيل أراد بالأولياء الشياطين شياطين الجنّ والإنس وإنهم الذين يحملون على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلّون عن دينالله. وقرأ الجحدري: ابتغوا من الإبتغاء. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار. ولا تبتغوا من الابتغاء أيضاً والظاهر أنّ الخطاب هولجميع الناس. وقال الطبري وحكاه: التقدير {قُلْ * ٱتَّبَعُواْ } فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدّم الذكر عليه وانتصب {قَلِيلاً }على أنه نعت لمصدر محذوف و {مَا } زائدة أي يتذكرون تذكراً قليلاً أي حيث يتركون دين الله ويتّبعون غيرهوأجاز الحوفي أن يكون نعتاً لمصدر محذوف والناصب له ولا تتّبعوا أي اتّباعاً قليلاً. وحكى ابن عطيّة عن الفارسيّ: إن{مَا } موصولة بالفعل وهي مصدرية انتهى. وتمّم غيره هذا الإعراب بأنّ نصب قليلاً على أنه نعت لظرف محذوف أيزماناً قليلاً نذكّركم أخبر أنهم لا يدّعون الذكر إنما يعرض لهم في زمان قليل وما يذكرون في موضع رفع علىأنه مبتدأ والظرف قبله في موضع الخبر وأبعد من ذهب إلى أن {مَا } نافية. وقرأ حفص والإخوان {تَذَكَّرُونَ }بتاء واحدة وتخفيف الذال، وقرأ ابن عامر {يَتَذَكَّرُونَ } بالياء والتاء وتخفيف الذال، وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وتشديد الذالوقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتاءين، وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال. {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَافَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } {كَمْ } هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناهاعلى معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمارفعل يفسّره أهلكناها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بدّ في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله أو هم قائلونفمنهم من قدّره وكم من أهل قرية ومنهم من قدّره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدّر عند قوله {فَجَاءهَا } أيفجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورةتدعو إلى حذف المضاف قبل قوله {فَجَاءهَا }. وقرأ ابن أبي عبلة {وَكَم مّن قَرْيَةٍ * أَهْلَكْنَـٰهُمْ } فيقدّر المضافوكم من أهل قرية ولا بد من تقديره صفة للقرية محذوفة أي من قرية عاصية ويعقّب مجيء البأس وقوع الإهلاكلا يتصوّر فلا بدّ من تجوّز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها أو حكمنا بإهلاكها {أَهْلَكْنَـٰهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا} وأما أن يحتلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك وإما أن يكون التجوّزفي الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكهاثم قال فكان من أمرها مجيء البأس. وقال الفرّاء: إنّ الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازمالم يبالِ أيّهما قدّم في الرتبة، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة والشتم شيء واحد. وقيل: الفاء ليستللتعقيب وإنما هي للتفسير، كقوله: توضّأ فغسل كذا ثم كذا وانتصب بياناً على الحال وهو مصدر أي {فَجَاءهَا بَأْسُنَا }بائتين أو قائلين وأو هنا للتنويع أي جاء مرة ليلاً كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب وهذا فيه نشرلما لفّ في قوله {فَجَاءهَا } وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدّعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطعوأشقّ ولأنه يكون المجيء فيه على غفلة من المهلكين، فهو كالمجيء بغتةً وقوله {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } جملة في موضعالحال ونصّ أصحابنا أنه إذ دخل على جملة الحال واو العطف فإنه لا يجوز دخول واو الحال عليها فلا يجوّزجاء زيد ماشياً وهو راكب. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لا يقال جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قولهتعالى: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } (قلت): قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزّجاج. وقال: لو قلت جاءني زيد راجلاً أوهو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول والصحيح أنهاإذا عطفت على حال قبلها حُذفت الواو استثقالاً لاجتماع حر في عطف لأنّ واو الحال هي واو العطف استُعيرت للوصلفقولك جاء زيد راجلاً أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدّة وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث انتهى. فأمابعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفرّاء، وأما قول الزّجاج في التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو لأنّ الذكر قدعاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز أن يدخل في المثال الثاني فانتفاء الاحتياجليس على حدّ سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول وفي الثاني لكثرة الدخول لا لامتناعه، وأما قول الزمخشري والصحيح إلىآخرها فتعليله ليس بصحيح لأنّ واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حر في عطف لأنها لو كانتللعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال فمجيئها في ما لا يمكن أن يكونحالاً دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول جاء زيد والشمس طالعة فجاء زيدليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كماتأتي للقسم وليست فيه للعطف إذا قلت والله ليخرجنّ وأما قوله: فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناه على أن الجملةالإسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإنّ حذف الواو منها شاذ وتبع في ذلك الفرّاء وليس بشاذ بل هوكثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين وقد ذكرنا كثرة مجيءذلك في شرح التسهيل وقد رجع عن هذا المذهب الزمخشري إلى مذهب الجماعة. {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَاإِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } قال ابن عباس: دعواهم تضرّعهم إلا إقرارهم بالشرك. وقيل دعواهم دعاؤهم. قال الخليل:يقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه فما زالت تلك دعواهم. وقيل: ادعاؤهم أي ادعوا معاذير تحسّن حالهم وتقيّمحجتهم في زعمهم. قال ابن عطية: وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلىاعتراف ومنه قول الشاعر:

وقد شهّدت قيس فما كان نصرها     قتيبة إلا عضّها بالأباهم

وقال الزمخشري:ويجوز فما كان استغاثتهم إلاّ قولهم هذا لأنه لا مستغاث من الله بغيره من قولهم {دَعْوَاهُمْ } بالكعب قالوا ودعواهماسم كان وإلا أن قالوا الخبر وأجازوا العكس والأول هو الذي يقتضي نصوص المتأخّرين أن لا يجوز إلا هو فيكون{دَعْوَاهُمْ } الإسم و{إِلاَّ أَن قَالُواْ } الخبر لأنه إذا لم تكن قرينة لفظية ولا معنوية تبين الفاعل من المفعولوجب تقديم الفاعل وتأخير المفعول نحو: ضرب موسى عيسى وكان وأخواتها مشبّهة في عملها بالفعل الذي يتعدّى إلى واحد، فكماوجب ذلك فيه وجب ذلك في المشبّه به وهو كان ودعواهم وإلا أن قالوا لا يظهر فيهما لفظ يبين الإسممن الخبر ولا معنى فوجب أن يكون السابق هو الإسم واللاحق الخبر. {فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ }أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعن ما بلّغه إليهم الرّسل لقوله و

{ يَوْمٍ * يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أجبتم ٱلْمُرْسَلِينَ }

، ويسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله،

{ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ }

وسؤال الأممتقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذاباً وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثواباً وكرامة. وقد جاء السؤال منفيّاً ومثبتاً بحسب المواطنأو بحسب الكيفيّات كسؤال التوبيخ والتأنيس وسؤال الاستعلام البحث منفيّ عن الله تعالى إذ أحاط بكل شيء علماً. وقيل المرسلإليهم الأنبياء والمرسلون الملائكة وهذا بعيد. {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } أي نسرد عليهم أعمالهم قصّة قصّة{بِعِلْمِ } منّا لذلك واطّلاع عليه {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عن شيء منه بل علمنا محيط بجميع أعمالهم، ظاهرها وباطنها،وهذا من أعظم التوبيخ والتقريع حيث يقرّون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقصّ الله عليهم أعمالهم. قال وهب: يقال للرجل منهمأتذكر يوم فعلت كذا أتذكر حين قلت كذا حتى يأتي على آخر ما فعله وقاله في دنياه وفي قوله {بِعِلْمِ} دليل على إثبات هذه الصفة لله تعالى وإبطال لقول من قال لا علم الله. {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَنثَقُلَتْ مَوٰزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوٰزِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَـٰتِنَا يَظْلِمُونَ } اختلفوا هلثم وزن وميزان حقيقة أم ذلك عبارة عن إظهار العدل التام والقضاء السويّ والحساب المحرّر فذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزانوتقدّمهم إلى هذا مجاهد والضحّاك والأعمش وغيرهم، وعبّر بالثقل عن كثرة الحسنات وبالخفة عن قلّتها، وقال جمهور الأمّة بالأول وأنّالميزان له عمود وكفّتان ولسان وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنّة ينظر إليه الخلائق تأكيداً للحجة وإظهاراً للنصفة وقطعاًللمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم وتشهد عليهم بها أيديهم وأرجلهم وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وأما الثقلوالخفة فمن صفات الأجسام وقد ورد أنّ الموزون هي الصّحائف التي أثبتت فيها الأعمال، فيُحدث الله تعالى فيها ثقلاً وخفةًوما ورد في هيئته وطوله وأحواله لم يصحَّ إسناده وجمعت الموازين باعتبار الموزونات والميزان واحد، هذا قول الجمهور. وقال الحسنلكل أحد يوم القيامة ميزان على حدة وقد يعبّر عن الحسنات بالموازين فيكون ذلك على حذف مضاف أي من ثقلتكفّه موازينه أي موزوناته فيكون موازين جميع موزون لا جمع ميزان، وكذلك ومن خفّت كفّة حسناته و {ٱلْوَزْنَ } مبتدأوخبره ظرف الزمان والتقدير والوزن كائن يوم أن نسألهم ونقّص عليهم وهو يوم القيامة و {ٱلْحَقّ } صفة للوزون ويجوزأن يكون {يَوْمَئِذٍ } ظرفاً للوزن معمولاً له و {ٱلْحَقّ } خبر ويتعلّق {بِـئَايَـٰتِنَا } بقوله {يَظْلِمُونَ } لتضمّنه معنىيكذّبون أو لأنها بمعنى يجحدون وجحد تعدّى بالباء قال:

{ وَجَحَدُواْ بِهَا }

والظاهر أنّ هذا التقسيم هو بالنسبة للمؤمنين منأطاع ومن عصى وللكفّار فتوزن أعمال الكفار. وقال قوم: لا ينصب لهم ميزان ولا يحاسبون لقوله

{ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً }

وإنما توزن أعمال المؤمن طائعهم وعاصيهم. {وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰكُمْ فِى ٱلاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَامَعَـٰيِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } تقدّم معنى {مَكَّنَّـٰكُمْ } في قوله في أول الأنعام

{ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلاْرْضِ }

والخطاب راجعللذين خوطبوا بقوله تعالى

{ ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ }

وما بينهما أورد مورد الاعتبار والإيقاظ بذكر ما آلإليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة والمعائش جمع معيشة ويحتمل أن يكون وزنها مفعلة ومفعلة بكسر العينوضمّها قالهما سيبويه. وقال الفرّاء: معيشة بفتح عين الكلمة والمعيشة ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما مما يتوصّل بهإلى ذلك وهي في الأصل مصدر تنزّل منزلة الآلات. وقيل على حذف مضاف التقدير أسباب معايش كالزرع والحصد والتجارة ومايجري مجرى ذلك وسمّاها معايش لأنها وصلة إلى ما يعاش به، وقيل المعائش وجوه المنافع وهي إمّا يحدثه الله ابتداءًكالثمار أو ما يحدثه بطريق اكتساب من العدو وكلاهما يوجب الشكر، وقرأ الجمهور: {مَعَـٰيِشَ } وهو القياس لأنّ الياء فيالمفرد هي أصل لا زائدة فتهمز وإنما تهمز الزائدة نحو: صحائف في صحيفة، وقرأ الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وخارجةعن نافع وابن عامر في رواية: معائش بالهمزة وليس بالقياس لكنّهم رووه وهم ثقات فوجب قبوله وشذّ هذا الهمز، كماشذ في منابر جمع منارة وأصلها منورة وفي مصائب جمع مصيبة وأصلها مصوبة وكان القياس مناور ومصاوب. وقد قالوا مصاوبعلى الأصل كما قالوا في جمع مقامة مقاوم ومعونة معاون، وقال الزّجاج: جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ولاأعلم لها وجهاً إلا التشبيه بصحيفة وصحائف ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة. وقال المازنيّ: أصل أخذ هذه القراءة عننافع ولم يكن يدري ما العربية وكلام العرب التصحيح في نحو هذا انتهى. ولسنا متعبّدين بأقوال نحاة البصرة. وقال الفرّاء:ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهّمون أنها فعلية فيشبّهون مفعلة بفعيلة انتهى. فهذا نقل من الفرّاء عن العرب أنهم ربمايهمزون هذا وشبهه وجاء به نقل القراءة الثقات ابن عامر وهو عربيّ صراح وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهوراللحن والأعرج وهو من كبار قرّاء التابعين وزيد بن عليّ وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلّ أن يدانيه فيذلك أحد، والأعمش وهو من الضبط والإتقان والحفظ والثقة بمكان، ونافع وهو قد قرأ على سبعين من التابعين وهم منالفصاحة والضبط والثقة بالمحلّ الذي لا يجهل، فوجب قبول ما نقلوه إلينا ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا،وأما قول المازنيّ أصل أخذ هذه القراءة عن نافع فليس بصحيح لأنها نقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بنعليّ والأعمش وأما قوله إنّ نافعاً لم يكن يدري ما العربية فشهادة على النفي ولو فرضنا أنه لا يدري ماالعربية وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك إذ هو فصيح متكلم بالعربيةناقل للقراءة عن العرب الفصحاء وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظنّ بالقرّاء ولا يجوز لهم وإعراب { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} كإعراب {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } {وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنمّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } لمّا تقدّم ما يدلّ على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاصٍ فالطائع ممتثل ما أمر الله به مجتنبما نهى عنه والعاصي بضدّه أخذ ينبّه على أنّ هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر الله للملائكة بالسجودفامتثل من امتثل وامتنع من امتنع، وأنه أمر تعالى آدم ونهى فحكى عنه ما يأتي خبره فنبّه أولاً على موضعالاعتبار وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكّنة من بدائع الصانع والظاهر أنّالخطاب عام لجميع بني آدم ويكون على قوله ثم قلنا ما أن تكون فيه ثم بمعنى الواو فلم ترتّب ويكونالترتيب بين الخلق والتصوير أو تكون {ثُمَّ } في {ثُمَّ قُلْنَا } للترتيب في الإخبار لا في الزمان وهذا أسهلمحمل في الآية ومنهم من جعل {ثُمَّ } للترتيب في الزمان واختلفوا في المخاطب، فقيل المراد به آدم وهو منإطلاق الجمع على الواحد، وقيل المراد به بنوه فعلى القول الأول يكون الخطاب في الجملتين لآدم لأنّ العرب تخاطب العظيمالواحد بخطاب الجمع، وقيل الخطاب في الأولى لآدم وفي االثانية لذرّيته فتحصل المهلة بينهما {*وثم} الثالثة لترتيب الأخبار، وروى هذاالعوفي عن ابن عباس. وقيل: خلقناكم لآدم ثم صوّرناكم لبنيه يعني في صلبه عند أخذ الميثاق ثم قلنا فيكون الترتيبواقعاً على بابه وعلى القول الثاني وهو أنّ الخطاب لبني آدم، فقيل: الخطاب على ظاهره وإن اختلف محل الخلق والتصويرفروي الحارث عن ابن عباس خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم في الأرحام، وقال ابن جبير عنه خلقناكم في أصلابالرجل ثم صوّرناكم في أرحام النساء، وقاله عكرمة وقتادة والضحّاك والأعمش، وقال ابن السائب خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائبالنساء ثم صوّرناكم عند اجتماع النطف في الأرحام، وقال معمّر بن راشد حاكياً عن بعض أهل العلم خلقناكم في بطونأمهاتكم وصوّرناكم فيها بعد الخلق شقّ السّمع والبصر {*وثم} على هذه الأقوال في قوله {صَوَّرْنَـٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا } للترتيب فيالأخبار، وقيل الخطاب لبني آدم إلا أنه على حذف مضاف التقدير ولقد خلقنا أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم حكاه القاضي أبويعلى في المعتمد ويكون {ثُمَّ } في {ثُمَّ قُلْنَا } لترتيب الأخبار، وقيل التقدير ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرنا أباكمثم قلنا فثم على هذا للترتيب الزماني والمهلة على أصل وضعها، وقيل هو من تلوين الخطاب يخاطب العين ويراد بهالغير فيكون الخطاب لبني آدم والمراد آدم كقوله

{ وَإِذْ نَجَّيْنَـٰكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ }

{ فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ }

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا }

هو خطاب لمن كان بحضرة الرسول من بني إسرائيل والمراد أسلافهم. ومنه قول الشاعر:

إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها     وزادت على ما وطّدت من مناقب فأنتم بذي قارٍ أمالت سيوفكم عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

وهذه الوقعة كانت لآبائهم وتقدّم تفسير

{ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ }

في سورة البقرةفأغنى عن إعادته وقوله {لَمْ يَكُن مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } جملة لا موضع لها من الإعراب مؤكدة لمعنى ما أخرجه الاستثناءمن نفي سجود إبليس كقوله {أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ } بعد قوله {إِلاَّ إِبْلِيسَ } في البقرة. {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّتَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } الظاهر أنّ لا زائدة تفيد التوكيد والتحقيق كهي في قوله لئلا يعلم أي لأن يعلم وكأنهقيل ليتحقّق علم أهل الكتاب وما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك ويدلّ على زيادتها قوله تعالى {مَامَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } وسقوطها في هذا دليل على زيادتها في {أَلاَّ تَسْجُدَ } والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعهمن السجود وإن كان تعالى عالماً بما منعه من السجود وما استفهامية تدلّ على التوبيخ كما قلنا وأنشدوا على زيادةلا قول الشاعر:

أفعنك لا برق كأنّ وميضه     غاب تسقمه ضرام مثقب

وقول الآخر:

أبي جوده لا البخل واستعجلت به     نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وأقول لا حجّة في البيتالأول إذ يحتمل أن لا تكون فيه لا زائدة لاحتمال أن تكون عاطفة وحذف المعطوف والتقدير أفعنك لا عن غيركوأما البيت الثاني فقال الزّجاج لا مفعولة والبخل بدل منها، وقال أبو عمرو بنُ العلاء: الرواية فيه لا البخل بخفضاللام جعلها مضافة إلى البخل لأنّ لا قد ينطق بها ولا تكون للبخل انتهى. وقد خرّجته أنا تخريجاً آخر وهوأن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعولة، وقال قوم: لا في أن لا تسجد ليست زائدة واختلفوا،فقيل يقدّر محذوف يصحّ معه المعنى وهو ما منعك فأحوجك أن لا تسجد، وقيل يحمل قوله ما منعك يصحّ معهالنفي، فقيل معنى ما منعك من أمرك ومن قال لك أن لا تسجد. {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِننَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } هذا ليس بجواب مطابق للسؤال لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصريعلى عنصره وهذا يقتضي عنده أنّ النار خير من الطين وإذا كان كذلك فالناشىء من الأفضل لا يسجد للمفضول، قالوا:وذلك أنّ النار جسم مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات ملاصق لها، والطين مظلم كثيف ثقيل بارديابس بعيد عن مجاورة السموات، والنار قويّة التأثير والفعل والطين ليس له إلا القبول والانفعال، والفعل أشرف من الانفعال والنارمناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادة الحياة والطين ببرده ويبسه مناسب للموت وإذا تقرّر هذا فالمخلوق من الأفضل أفضل فلا يؤمرالأفضل بخدمة المفضول ألا ترى أنه لو أمر مثلاً مالك وأبو حنيفة بخدمة من هو دونهما في العلم لكان ذلكقبيحاً في العقل ثم قالوا أخطأ إبليس من حيث فضل النار على الطين وهما في درجة واحدة من حيث هماجماد مخلوق والطين أفضل من النار وجوه، أحدها أنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر وذلكهو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له في التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ومن جوهرالنار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت إلى الاستكبار والإصرار فأورثه الهلاك واللعنةوالعذاب قاله القفال، ثم ذكروا وجوهاً عشرة يظهر بها فضل التراب على النار ثم قالوا: لا يدل من كانت مادتهأفضل على أنه تكون صورته أفضل إذ الفضيلة عطية من الله تعالى، ألا تراه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن منالكافر وأن الحبشيّ المؤمن خير من القرشيّ الكافر وإذا كانت المقدّمة غير مسلمة لم ينتج والمقدمتان أن تقول إبليس ناريالمادة وكلّ ناريّ المادة أفضل من ترابي المادة فإبليس أفضل من ترابي المادة والمقدمة الثانية ممنوعة فلا تنتج. وقال ابنعباس والحسن وابن سيرين أول من قاس إبليس، قال ابن عباس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس،وقالا: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقال بعض العلماء: أخطأ قياسه وذهب علمه أنّ الرّوح الذي نفخ في آدمليس من طين واستدلّ نفاة القياس على إبطاله بقصّه إبليس ولا حجّة فيها لأنه قياس في مورد النص فهو فاسدفلا يدلّ على بطلان القياس حيث لا نصّ واستدلّ بقوله {إِذْ أَمَرْتُكَ } على أنّ مطلق الأمر يدلّ على الوجوبويدلّ على الفور لذمّ إبليس على امتناعه من السجود في الحال ولو لم يدلّ على الوجوب ولا على الفور لميستوجب الذمّ في الحال ولا مطلقاً. {قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ}. لما كان امتناعه من السجود لسبب ظهور شفوقه على آدم عند نفسه قابلة الله بالهبوط المشعر بالنزول من علوّإلى أسفل والضمير في منها لم يتقدّم له مفسر يعود عليه، فقيل: يعود على الجنة وكان إبليس من سكانها، وقالابن عباس: كانوا في جنة عدن لا في جنة الخلد وخلق آدم من جنة عدن، وقال ابن عطية: أهبط أولاًوأخرج من الجنة وصار في السماء لأنّ الأخبار تظافرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخراً بالهبوطمن السماء مع آدم وحواء والحية وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم انتهى، وقيل: يعود على السماء، قال الزمخشري:فاهبط منها من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين،وقيل: يعود على الأرض فكأنه كان له ملكها أمره أن يهبط منها إلى جزائر البحار فسلطانه فيها فلا يدخل الأرضإلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها وهذا يحتاج إلى صحة نقل، وقيل: يعود على صورته التي كان فيهالأنه افتخر أنه من النار فشوّهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه قاله أبو روق، وقيل: عائد على المدينة التي كان فيهاذكره الكرماني ويحتاج إلى تصحيح نقل، وقيل يعود على المنزلة والرّتبة الشريفة التي كان فيها في محل الاصطفاء والتقريب إلىمحل الطّرد والتعذيب ومعنى فما يكون لك لا يصح لك أو لا يتم أو لا ينبغي بل التكبّر منهيّ عنهفي كل موضع، وقيل: هو على حذف معطوف دلّ عليه المعنى التقدير فيها ولا في غيرها، وقيل المعنى ما للمتكبرأن يكون فيها وكرّر معنى الهبوط بقوله فاخرج لأنّ الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلّته وهو أنه جزاء علىتكبّره قوبل بالضدّ مما اتّصف به وهو الصغار هو ضدّ التكبر والتكبر تفعل منه لأنه خلق كبيراً عظيماً ولكنه هوالذي تعاطى الكبر ومن كلام عمر ومن تكبّر وعدا طوره رهصه الله إلى الأرض. {قَالَ أَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلمُنظَرِينَ } هذا يدلّ على إقراره بالبعث وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمّرون الأرضثم يموتون وإن منهم من ينظر فيكون طلبه الإنظار بأن يغويهم ويوسوس إليهم فالضمير في يبعثون عائد على ما دلّعليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه وحكمة استنظاره وإن كان ذلك سبب للغواية والفتنة إنّ في ذلكابتلاء تالعباد بمخالفته وطواعيته وما يترتب على ذلك من إعظام الثّواب بالمخالفة وإدامة العقاب بالطواعيّة وأجابه تعالى بأنه من المنظرينأي من المؤخرين ولم يأتِ هنا بغاية للانتظار وجاء مغياً في الحجر وفي ص بقوله

{ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ }

ويأتي تفسيره في الحجر إن شاء الله، ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخّرت أعمارها كثيراً حتى جاءت آجالها علىاختلاف أوقاتها فقد شمل تلك الطائفة انظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر، وقيل من المنظرين جمع كثير مثل قوميونس. {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } الظاهر أن الباء للقسم وما مصدرية ولذلك تلقيت الالية بقوله:لأقعدن، قال الزمخشري وإنما أقسم بالإغواء لأنّه كان تكليفاً من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد، فكان جديراً أنيقسم به انتهى، وقيل: الباء للسبب أي بسبب إغوائك إياي وعبر ابن عطية عنها بأن يراد بها معنى المجازاة قال:كما تقول فبإكرامك لي يا زيد لأكرمنك قال وهذا أليق بالقصة، قال الزمخشري، (فإن قلت): بم تعلقت الباء فإن تعليقهابلأقعدن تصد عنه لام القسم لا تقول والله بزيد لأمرن (قلتلله تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } أقسمبالله {لاقْعُدَنَّ } أي بسبب إغوائك أقسم انتهى، وما ذكره من أن اللام تصدّ عن تعلّق الباء بلأقعدن ليس حكماًمجمعاً عليه بل في ذلك خلاف، وقيل: ما استفهامية كأنه استفهم عن السبب الذي أغواه وقال بأي شيء أغويتني ثمابتدأه مقسماً فقال: لأقعدنّ لهم وضعف بإثبات الألف في ما الاستفهامية، وذلك شاذّ أو ضرورة نحو قولهم عما تسأل فهذاشاذّ والضرورة كقوله:

علــى مــا قــام يشتنــي لئيــم    

ومعنى {أَغْوَيْتَنِى } أضللتني قاله ابن عباس والأكثرون أو لعنتني قاله الحسنأو أهلكتني قاله ابن الأنباري، أو خيبتني قاله بعضهم، وقيل: أليقيتني غاوياً، وقيل: سميتني غاوياً لتكبّري عن السجود لمن أناخير منه، وقيل: جعلتني في الغيّ وهو العذاب، وقيل: قضيت على من الأفعال الذّميمة، وقيل: أدخلت على داء الكبر، وقالالزمخشري: فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغيّ كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضلمنه ومن آدم نفساً ومناصب وعن الأصم أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك والمعنى فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن فيإغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم انتهى، وهو والأصمّ فُسّرا على مذهب الاعتزال في نفي نسبة الإغواء حقيقة وهوالإضلال إلى الله وكذلك من فسر {أَغْوَيْتَنِى } معنى ألفيتني غاوياً وهو فرار من ذلك وقوله في الملائكة إنهم أفضلمن آدم نفساً ومناصب هو مذهب المعتزلة، وقال محمد بن كعب القرظي: قاتل الله القدريّة لإبليس أعلم بالله منهم يريدفي أنه علم أن الله يهدي ويضلّ وجاء رجل من كبار الفقهاء يرمي بالقدر فجلس إلى طاووس في المسجد الحرامفقال له طاووس: تقوم أو تقام فقام الرّجل فقيل له: أتقول هذا الرجل فقيه، فقال: إبليس أفقه منه قال: ربّبما أغويتني، وهذا يقول أنا أغوي نفسي وجعل الزمخشري هذه الحكاية من تكاذيب المجبرة وذكرها ثم قال كلاماً قبيحاً يوقفعليه في كتابه وعبر بالقعود عن الثبوت في المكان والثابت فيه قالوا: وانتصب صراطك على إسقاط على قاله الزجاج، وشبهبقول العرب ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجرّ لا ينقاس في مثل هذا لا يقالقعدت الخشبة تريد قعدت على الخشبة قالوا أو على الظرف كما قال الشّاعر فيه.

كما عسل الطريق الثعلب    

وهذاأيضاً تخريج فيه ضعف لأنّ صراطك ظرف مكان مختص وكذلك الطريق فلا يتعدّى إليه الفعل إلا بواسطة في، وما جاءخلاف ذلك شاذّ أو ضرورة وعلى الضرورة أنشدوا:

كمـا عســل الـطـريــق الثـعلـب    

وما ذهب إليه أبو الحسين بن الذرّاوةمن أنّ الصراط والطريق الطرف مبهم لا مختص ردّه عليه أهل العربية، والأولى أن يُضمّن لأقعدنّ معنى ما يتعدّى بنفسه فينتصب الصّراط على أنه مفعول به والتقدير لألزمنّ بقعودي صراطك المستقيم وهذا الصّراط هو دين الإسلام وهو الموصل إلى الجنة،ويضعف ما روي عن ابن مسعود وعون بن عبد الله أنه طريق مكة خصوصاً على العقبة المعروفة بعقبة الشيطان يضلّ ا لناس عن الحج ومعنى قعوده أنه يعترض لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة وفيالحديث أن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه نهاه عن الإسلام وقال أتترك دين آبائك فعصاه وأسلم فنهاه عن الهجرة، وقال: تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر فنهاه عن الجهاد وقال: تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة . {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّنبَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ }. الظاهر أنّ إتيانه من هذه الجهات الأربعكناية عن وسوسته وإغوائه له والجدّ في إضلاله من كل وجه يمكن ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدوّ غالباً ذكرها لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة، وقال ابن عباس: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ * ٱلاْخِرَةَ } أشككهم فيها وأنهلا بعث {وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الدّنيا أرغبهم فيها وزيّنها لهم وعنه أيضاً وعن النخعي والحكم بن عتبة عكس هذا، وعنهو {عَنْ * أَيْمَـٰنِهِمْ } الحقّ وعن {شَمَائِلِهِمْ } الباطل وعنه أيضاً: و {عَنْ * أَيْمَـٰنِهِمْ } الحسنات وعن {شَمَائِلِهِمْ} السيئات، وقال مجاهد: الأوّلان حيث ينصرون والآخران حيث لا ينصرون، وقال أبو صالح الأوّلان الحقّ والباطل والآخران الآخرة والدنيا،وقيل: الأولان بفسحة الأمل وبنسيان الأجل والآخران فيما تيسر وفيما تعسر، وقيل الأولان فيما بقي من أعمارهم فلا يطيعون وفيمامضى منها فلا يندمون على معصية والآخران فيما ملكته أيمانهم فلا ينفقونه في معروف ومن قبل فقرهم فلا يمتنعون عن محظور، وقال أبو عبد الله الرازي حاكياً عن من سماه هو حكماء الإسلام من بين أيديهم القوة الخياليّة وهي تجمعمثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدّم من الدماغ ومن خلفهم القوة الوهميّة وهي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وعن أيمانهم قوة الشهوة وهي موضوعة في البطن الأيمن من القلبوعن شمائلهم قوة الغضب وهي موضوعة في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربعة هي التي يتولد عنها أحوال توجبزوال السعادة الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تشعر بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هوالسبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه تحقيق انتهى، وهو بعيد من مناحي كلام العرب والمتشرّعين قال: وعلى هذالم يحتج إلى ذكر العلوّ والسّفل لأن هاتين الجهتين ليستا بمقرّ شيء من القوى المفسدة لمصالح السعادة الروحانية انتهى، وقالابن عباس: لم يقل من فوقهم لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منتحتهم فيه توحش، وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف قيل {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } ومن خلفهم بحرف الابتداء و {عَنْ *أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ } بحرف المجاوزة، (قلت): المفعول فيه عدى إليه الفعل تعديته إلى المفعول به كما اختلفت حروف التعديةفي ذلك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون: جلسعن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه أنه يمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى منالمستعلي عليه ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعملفي المتجافي وغيره كما ذكرنا في فعال ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأنّالسّهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها فكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيلأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل تريدبعض الليل انتهى، وهو كلام لا بأس به، وأقول إنما خصّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان لأنهما أغلب ما يجيء العدو وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه والخلف من جهة غدر ومخاتلة وجهالة القرنبمن يغتاله ويتطلب غرّته وغفلته وخصّ الأيمان والشمائل الحرف الذي يدل على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّوإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك وقدمت الأيمان على الشمائل لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدوّ، وبالأيمان البطش والدفع فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالأيمان، وقال ابن عباس شاكرين موحدين وعنه وعن غيره مؤمنين لأنّ ابن آدملا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن، وقال مقاتل شاكرين لنعمتك، وقال الحسن: ثابتين على طاعتك ولا يشكرك إلا القليل منهم وهذه الجملة المنفية يحتمل أن تكون داخلة في خبر القسم معطوفة على جوابه ويحتمل أن تكون استئناف إخبار ليمقسماً عليه أخبر أنّ سعايته وإتيانه إيّاهم من جميع الوجوه يفعل ذلك وهل هذا الإخبار منه كان على سبيل التظنيل قوله { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ }

أو على سبيل العلم قولان وسبيل العلم إما رؤيته ذلك في اللوح المحفوظأو استفادته من قوله

{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ }

أو من الملائكة بإخبار الله لهم أو بقولهم

{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا }

أو بإغواء آدم وذريته أضعف منه أو يكون قوى ابن آدم تسعة عشر قوة وهي خمس حواسظاهرة وخمس باطنة والشهوة والغضب، وسبع سابقة وهي الجاذبة والممسكة والهاضمة والدّافعة والقاذفة والنامية والمولدة وكلها تدعو إلى عالم الجسمإلى اللذات البدنية، والعقل قوة واحدة تدعو إلى عبادة الله وتلك في أول الخلق والعقل إذ ذاك ضعيف أقوال ستة.{قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } الجمهور على أنّ الضمير عائد على الجنة والخلاف فيه كالخلاف في {فَٱهْبِطْ مِنْهَا} وهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقاً، وأمر بالخروج مخبراً أنه ذو صغار، وأمر بالخروج مقيداً بالذمّ والطرد، وقال قتادة:{*مذؤوماً} لعيناً، وقال الكلبي: ملوماً، وقال مجاهد: منفيّاً، وقيل: ممقوتاً و {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } مبعداً من رحمة الله أو منالخير أو من الجنة أو من التوفيق أو من خواصّ المؤمنين أقوال متقاربة، وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش: مذوماً بضمالذال من غير همز فتحتمل هذه القراءة وجهين أحدهما، وهو الأظهر، أن تكون من ذأم المهموز سهل الهمزة وحذفها وألقىحركتها على الذّال والثاني أن يكون من ذام غير المهموز يذيم كباع يبيع فأبدل الواو بياء كما قالوا في مكيلمكول، وانتصب {مَّدْحُورًا } على أنه حال ثانية على من جوّز ذلك أو حال من الضمير في مذؤوماً أو صفةلقوله {*مذؤوماً}. {مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الجمهور {لِمَنْ } بفتح اللام الابتداء ومنموصولة {*ولأملأنّ} جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة، وقرأ الجحدري وعصمةعن أبي بكر عن عاصم لمن تبعك منهم بكسر اللام واختلفوا في تخريجها، فقال ابن عطية: المعنى لأجل من تبعكمنهم {رَبّكَ لاَمْلاَنَّ } انتهى، فظاهر هذا التقدير أنّ اللام تتعلق بلأملأن ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعدلام القسم لا يعمل فيما قبله، وقال الزمخشري بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله {لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ }على أنّ {لاَمْلاَنَّ } في محل الابتداء ولمن تبعك خبره انتهى فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريينلأنّ قوله {لاَمْلاَنَّ } جملة هي جواب قسم محذوف فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة ومنحيث كونها جواباً للقسم يمتنع أيضاً لأنها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإعراب ومن حيث كونهامبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكونفي موضع رفع لا في موضع رفع داخلاً عليها عامل غير داخل وذلك لا يتصور، وقال أبو الفضل عبد الرحمنبن أحمد بن الحسن الرازي: اللام متعلقة من الذأم والدّحر ومعناه أخرج بهاتين الصفتين لأجل أتباعك ذكر ذلك في كتاباللوامح في شواذ القراءات ومعنى {مّنكُمْ } منك وممن تبعك فغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وإخوتك أكرمكم.{أَجْمَعِينَ وَيَــئَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }. أي وقلنايا آدم وتقدّم تفسير هذه الآية في البقرة. إلا أن هنا فكلا من حيث شئتما وفي البقرة

{ وكلا منها رغداً حيث شئتما }

، قالوا: وجاءت على أحد محاملها وهو أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغداً هنا على سبيل الاختصار وأثبتهناك لأنّ تلك مدنية وهذه مكية فوُفّي المعنى هناك باللفظ. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنسَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَـٰلِدِينَ } أي فعل الوسوسةلأجلهما وأما قوله {فَوَسْوَسَ } إليه فمعناه ألقى الوسوسة إليه، قال الحسن: وصلت وسوسته لهما في الجنة وهو في الأرضبالقوة التي خلقها الله له، قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف يردّه لفظ القرآن، وقيل: كان في السماء وكانا يخرجانإليه، وقيل: من باب الجنة وهما بها، وقيل: كان يدخل إليهما في فم الحية، وقال الكرماني: ألهمهما، وقال ابن القشيري:أورد عليهما الخواطر المزيّنة وهذان القولان يخالفان ظاهر القرآن لأن ظاهره يدلّ على قول ومحاورة وقسم والظاهر أنّ اللام لامكي قصد إبداء سوءاتهما وتنحطّ مرتبتهما بذلك ويسوءهما بكشف ما ينبغي ستره ولا يجتنبان نهى الله فيكونن هو وهما سواءفي المخالفة هو أمر بالسجود فأبى، وهما نهيا فلم ينتهيا، وقال قوم: إنها لام الصيرورة لأنه لم يكن له علمبهذه العقوبة المخصوصة فيقصدها، قال الزمخشري: وفيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور وأنه لم يزل مستهجناً فيالطّباع مستقبحاً في العقول انتهى، وهو على مذهبه الاعتزالي في أنّ العقل يقبح ويحسن، والظاهر أنه يراد مدلول سوآتهما نفسهماوهما الفرْج والدّبر قيل: وكانا لا يريانهما قبل أكل الشجرة فلما أكلا بدتا لهما، وقيل: لم يكن كل واحد يرىسوأة صاحبه، وقال قتادة كنى سوءاتهما عن جميع بدنهما وذكر السوأة لأنها أقبح ما يظهر من بني آدم، وقرأ الجمهور{وُورِيَ }، وقرأ عبد الله أوري بإبدال الواو همزة وهو بدل جائز، وقرأ ابن وثاب ما وري بواو مضمومة منغير واو بعدها على وزن كسى، وقرأ مجاهد والحسن من سوّتهما بالإفراد وتسهيل الهمزة بإبدالها واواً وإدغام الواو فيها، وقرأالحسن أيضاً وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصّاح من سوّاتهما بتسيهل الهمزة وتشديد الواو، وقرىء من سواتهما بواو واحدةوحذف الهمزة ووجهه أنه حذفها وألقى حركتها على الواو فمن قرأ بالجمع فهو من وضع الجمع موضع التثنية كراهة اجتماعمثلين ومن قرأ بالإفراد فمن وضعه موضع التثنية ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أنّ كل عورة هيالدّبر والفرْج وذلك أربعة: فهي جمع وإلا أن تكونا ملكين استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي ما نهاكما ربّكمالشيء إلا كراهة أن تكونا ملكين ويقدره الكوفيّون إلا أن تكونا وإضمار الاسم وهو كراهة أحسن من إضمار الحرف وهولا، وقال الزمخشري: وفيه دليل على أنّ الملائكة بالمنظر الأعلى وأن البشريّة تلمح مرتبتها انتهى. وقال ابن فورك: لا حجةفي هذه الآية على أنّ الملائكة أفضل من البشر لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوةفي طعام انتهى، وقرأ ابن عباس والحسن بن علي والضحّاك ويحيـى بن كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير ملكينبكسر اللام، ويدلّ لهذه القراءة

{ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ }

ومن الخالدين من الذين لا يموتونويبقون في الجنة ساكنين. {وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } لم يكتف إبليس بالوسوسة وهو الإلقاء في خفية سرًّاولا بالقول حتى أقسم على أنه ناصح لهما والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في الفعل فتقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمتفلاناً خالفته وتقاسما تحالفاً وأما هنا فمعنى وقاسمهما أقسم لهما لأنّ اليمين لم يشاركاه فيها. وهو كقول الشاعر:

وقاسمهما بالله جهداً لأنتم     ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

وفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحوباعدت الشيء وأبعدته، وقال ابن عطية وقاسمهما أي حلف لهما وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمينكالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعني أنها من واحد، وقال الزمخشري: كأنه قال لهما أقسم لكما أني لمن الناصحينوقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمة بينهم أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها أو أخرجقسم إبليس على وزن المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم انتهى، وقرىء وقاسمهما بالله و {لَّكُمَا } متعلّق بمحذوف تقديرهناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أنّ أل موصولة وتسومح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما أوعلى أنّ أل لتعريف الجنس لا موصولة أوجه مقولة. {فَدَلَّـٰهُمَا بِغُرُورٍ } أي استنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغروره أيبخداعه إياهما وإظهار النّصح وإبطان الغش وإطماعهما أن يكونا ملكين أو خالدين وبإقسامه أنه ناصح لهما جعل من يغترّ بالكلامحتى يصدق فيقع في مصيبة بالذي يدلي من علو إلى أسفل بحبل ضعيف فينقطع به فيهلك، وقال الأزهري: لهذه الكلمةأصلان أحدهما أنّ الرجل يدلي دلوه في البئر ليأخذ المائ فلا يجد فيها ماء، وضعت التدلية موضع الطمع فيما لافائدة فيه فيقال: دلاّه أي أطمعه الثاني جرأهما على أكل الشجرة والأصل فيه دللهما من الدّال والدّلالة وهما الجراءة انتهى،فأبدل من المضاعف الأخير حرف علة، كما قالوا: تظنيت وأصله تظننت ومن كلام بعض العلماء: خدع الشيطان آدم فانخدع ونحنمن خدعنا بالله عزّ وجل انخدعنا له وروى نحوه عن قتادة وعن ابن عمر. {فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا }أي وجدا طعمها آكلين منها كما قال تعالى

{ فأكلا منها }

وتطايرت عنهما ملابس الجنة فظهرت لهما عوراتهما وتقدّم أنهما كاناقبل ذلك لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر، وقال ابن عباس وقتادة وابن جبير: كان عليهما ظفر كاسفلما أكلا تبلس عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المخالفة فيجددان النّدم، وقال وهب بنمنبه: كان عليهما نور يسترة عورة كلّ واحد منهما فانقشع بالأكل ذلك النور وقيل كان عليهما نور فنقص وتجسّد منهشيء في أظفار اليدين والرجلين تذكرة لهما ليستغفروا في كلّ وقت وأبناؤهما بعدهما كما جرى لأويس القرني حين أذهب اللهعنه البرص إلا لمعة أبقاها ليتذكر نعمه فيشكر. وقال قوم: لم يقصد بالسوأة العورة والمعنى انكشف لهما معايشهما وما يسؤهماوهذا القول ينبو عنه دلالة اللفظ ويخالف قول الجمهور، وقيل: أكلت حواء أوّل فلم يصبها شيء ثم آدم فكان البدو.{سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة ويلصقانهما بعدما كانت كساهما حللالجنة ظلا يستتران بالورق كما قيل:

لله درّهم من فتية بكروا     مثل الملوك وراحوا كالمساكين

والأولى أن يعود الضمير في {عَلَيْهِمَا } على عورتيهما كأنه قيل {يَخْصِفَانِ } على سوآتهما من ورق الجنة، وعادبضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرر في علم العربيةأنه لا يتعدى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى المضمر المتصل المنصوب لفظاً أو محلاًّ في غير باب ظنّ وفقد وعلمووجد لا يجوز زيد ضربه ولا ضربه زيد ولا زيد مر به زيد فلو جعلنا الضمير في {عَلَيْهِمَا } عائداًعلى آدم وحواء للزم من ذلك تعدّى يخصف إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في يخصفانفإن أخذ ذلك على حذف مضاف مراد جاز ذلك وتقديره يخصفان على بدنيهما، قال ابن عباس: الورق الذي خصفا منهورق الزيتون، وقيل: ورق شجر التين، وقيل: ورق الموز ولم يثبت تعيينها لا في القرآن ولا في حديث صحيح، وقرأأبو السّمال {وَطَفِقَا } بفتح الفاء، وقرأ الزهري {يَخْصِفَانِ } من أخصف فيحتمل أن يكون أفعل بمعنى فعل ويحتمل أنتكون الهمزة للتعدية من خصف أي يخصفان أنفسهما، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب {يَخْصِفَانِ } بفتح الياء وكسر الخاءوالصاد وشدّها، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب كذلك إلا أنه فتح الخاء، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب، وقرىء{يَخْصِفَانِ } بالتشديد من خصف على وزن فعل، وقرأ عبد الله بن يزيد يخصفان بضمّ الياء والخاء وتشديد الصاد وكسرهاوتقرير هذه القراآت في علم العربية. {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّمُّبِينٌ } لما كان وقت النداء شرّف بالتصريح باسمه في النداء فقيل ويا آدم اسكن وحين كان وقت العتاب أخبرأنه ناداه ولم يصرّح باسمه والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة ويدلّ على أن الله كلم آدم ما في تاريخابن أبي خيثمة أنه عليه السلام سئل عن آدم فقال: نبيّ مكلم، وقال الجمهور: إنّ النداء كان بواسطة الوحي ويؤيدهأنّ موسى عليه السلام هو الذي خصّ من بين العالم بالكلام وفي حديث الشفاعة أنهم يقولون له أنت الذي خصّكالله بكلامه وقد يقال: إنه خصه بكلامه وهو في الأرض وأما آدم فكان ذلك له في الجنة وقد تقدّم لنافي قوله منهم من كلم الله إنّ منهم محمداً كلّمه الله ليلة الإسراء ولم يكلمه في الأرض فيكون موسى مختصّاًبكلامه في الأرض، وقيل: النداء لآدم على الحقيقة ولم يرو قط أنّ الله كلم حواء والنداء هو دعاء الشّخص باسمهالعلم أو بنوعه أو بوصفه ولم يصرّح هنا بشيء من ذلك والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلاً: ألم أنهكما وهواستفهام معناه العتاب على ما صدر منهما والتنبيه على موضع الغفلة في قوله {تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ * وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} إشارة لطيفة حيث كان مباحاً له الأكل قاراً ساكناً أشير إلى الشجرة باللفظ الدّال على القرب والتمكّن من الأشجارفقيل: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } وحيث كان تعاطى مخالفة النهي وقرب إخراجه من الجنة واضطراب حاله فيها وفرّ علىوجهه فيها قيل: ألم أنهكما عن تلكما فأشير إلى الشجرة باللفظ الدّال على البعد والإنذار بالخروج منها {وَأَقُل لَّكُمَا }إشارة إلى قوله تعالى:

{ فَقُلْنَا يٰـئَادَمُ * أَن لاَّ *هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ }

وهذاهو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يحمل النسيان على بابه}. قال ابن عباس بين العداوة حيث أبي السّجودوقال {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } روى أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحةعن هذه الشجرة فقال بلى وعزّتك ولكن ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف كاذباً قال فوعزّتي لأهبطنّك إلى الأرضثم لا تنال إلا كدّاً فاهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرّى وعجن وخبز، وقرأ أبيّألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما. {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} قال الزمخشري وسمّيا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلماً وقالا {لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } على عادة الأولياء والصالحين فياستعظامهم الصغير من السيئات، وقال ابن عطية اعتراف من آدم وحوّاء عليهما السلام وطلب للتوبة والسّتر والتغمّد بالرّحمة فطلب آدمهذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه، قال الضحاك: هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم منربه، وقيل: سعد آدم بخمسة أشياء اعترف بالمخالفة وندم عليها، ولام نفسه وسارع إلى التوبة ولم يقنط من الرحمة، وشقيإبليس بخمسة أشياء لم يقرّ بالذنب، ولم يندم، ولم يسلم نفسه بل أضاف إلى ربّه الغواية، وقنط من الرحمة، و{لَنَكُونَنَّ } جواب قسم محذوف قبل {إن} كقوله و

{ إِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ }

التقدير والله إن لميغفر لنا وأكثر ما تأتي إنّ هذه ولام التوطئة قبلها كقوله

{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ }

ثم قال: لنغرينّك بهم. {قَالَٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ } تقدّم تفسير هذا في البقرة. {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَوَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }. هذا كالتفسير لقوله

{ وَلَكُمْ فِى ٱلارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }

أي بالحياة إلى حينالموت ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية أو كالتفسيرية أنتعطف على الجملة قبلها فتقول قال فلان كذا، وقال كذا وتقول زيد قائم وعمرو قاعد ويقل في كلامهم قال فلانكذا قال كذا وكذلك يقل زيد قائم عمرو قاعد وهنا جاء {قَالَ ٱهْبِطُواْ } الآية {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ } لماكانت كالتفسير لما قبلها وتمم هنا المقصود بالتنبيه علي البعث والنشور بقوله {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } أي إلى المجازاة بالثواب والعقابوهذا كقوله

{ مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ }

. وقرأ الأخوان وابن ذكوان تخرجون مبنياً للفاعل هنا وعنابن ذكوان في أوّل الروم خلاف، وقرأ باقي السّبعة مبنياً للمفعول. {تُخْرَجُونَ يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِىسَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنهتعالى لما ذكر قصة آدم وفيها ستر السوءات وجعل له في الأرض مستقرّاً ومتاعاً ذكر ما امتنّ به على بنيهوما أنعم به عليهم من اللّباس الذي يواري السوءآت والرّياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم، وقالمجاهد: نزلت هذه الآية والثلاث بعدها فيمن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت وذكر النقاش أنها كانت عادة ثقيفوخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج والحرث وعامر ابني عبد مناة نسائهم ورجالهم وأنزلنا قيل على حقيقته من الانحطاطمن علو إلى سفل فأنزل مع آدم وحواء شيئاً من اللباس مثالاً لغيره ثم توسع بنوهما في الصّنعة استنباطاً منذلك المثال أو أنزل من السماء أصل كل شيء عند إهباطهما أو أنزل معه الحديد فاتخذ منه آلات الصنائع أوأنزل الملك فعلم آدم النسج أربعة أقوال، وقيل: الإنزال مجاز من إطلاق السّبب على مسببه فأنزل المطر وهو سبب مايتهيأ منه اللباس أو بمعنى خلق كقوله

{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلاْنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ }

أو بمعنى الهم، وقال الزمخشري جعلما في الأرض منزلاً من السماء لأنه قضى ثم وكتب ومنه وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج، وقال ابن عطية:أنزلنا يحتمل أن يريد بالتدريج أي لما أنزل المطر فكان عنه جميع ما يلبس قال عن اللباس {أَنزَلْنَا } وهذانحو قول الشاعر يصف مطراً:

أقبل في المشين من سحابة     أسنمة الآبال في ربابه

أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة بأنزلنا كقوله

{ وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ }

وقوله {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلاْنْعَـٰمِ } وأيضاًفخلق الله وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة انتهى واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر والرّيش عبارة عنسعة الرزق ورفاهية العيش ووجود اللبس والتمتع وأكثر أهل اللغة على أنّ الريش ما يستر من لباس أو معيشة، وقالقوم: الإناث، وقال ابن عباس والسدّي ومجاهد: المال، وقال ابن زيد: الجمال، وقال الزمخشري: لباس الزينة استعير من ريش الطائرلأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزيّنكم لأنّ الزينة غرض صحيح كما قال تعالى:

{ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ }

انتهى. وعطف {*الريش} على {ٱلَّيْلَ لِبَاساً } يقتضي المغايرة وأنه قسيم للباس لا قسممنه، وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش وعاصمفي رواية وأبو عمرو في رواية ورياشا، فقيل: هما مصدران بمعنى واحد راشه الله يريشه ريشاً ورياشاً أنعم عليه، وقالالزمخشري: جمع ريش كشعب وشعاب، وقال الزّجاج: هما اللباس، وقال الفرّاء: هما ما يستر من ثياب ومال كما يقال لبسولباس، وقال معبد الجهني: الرياش المعاش، وقال ابن الأعرابي: الريش الأكل والشرب والرياش المال المستفاد، وقيل: الريش ما بطن والرياشما ظهر، وقرأ الصاحبان والكسائي: {وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ } بالنصب عطفاً على المنصوب قبله، وقرأ باقي السّبعة بالرفع، فقيل هو علىإضمار مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى قاله الزّجاج {وَذَلِكَ * خَيْرٌ } على هذا مبتدأ وخبر وأجاز أبو البقاءأن يكون {وَلِبَاسُ } مبتدأ وخبره محذوف تقديره ولباس التّقوى ساتر عوراتكم، وهذا ليس بشيء والظاهر أنه مبتدأ ثانٍ {وَخَيْرٌ} والجملة خبر عن {وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ } والرابط اسم الإشارة وهو أحد الروابط الخمس المتفق عليها في ربط الجملةالواقعة خبراً للمبتدأ إذا لم يكن إياه، وقيل: ذلك بدل من لباس، وقيل: عطف بيان، وقيل: صفة وخبر {وَلِبَاسُ }هو {خَيْرٌ }، وقال الحوفي: وأنا أرى أن لا يكون ذلك نعتاً للباس التقوى لأنّ الأسماء المبهمة أعرف مما فيهالألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلّ منه تعريفاً فإن كان قدتقدّم قول أحدٍ به فهو سهو وأجاز الحوفي أن يكون ذلك فصلاً لا موضع له من الإعراب ويكون {خَيْرٌ }خبراً لقوله {وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ } فجعل اسم الإشارة فصلاً كالمضمر ولا أعلم أحداً قال بهذا وأما قوله فإن كان قدتقدّم قول أحد به فهو سهو فقد ذكره ابن عطية وقال: هو أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة انتهى؛وأجازه أيضاً أبو البقاء وما ذكره الحوفي هو الصواب على أشهر الأقوال في ترتيب المعارف، وقرأ عبد الله وأبيّ ولباسالتقوى خير بإسقاط ذلك فهو مبتدأ وخبر والظاهر حمله على اللباس حقيقة، فقال ابن زيد هو ستر العورة وهذا فيهتكرار لأنه قد قال {لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءتِكُمْ }، وقال زيد بن علي: الدّرع والمغفر والساعدان لأنه يتقي بها في الحرب.وقيل: الصّوف ولبس الخشن، وروي اخشوشنوا وكلوا الطعام الخشن، وقيل ما يقي من الحرّ والبرد، وقال عثمان بن عطاء: لباسالمتقين في الآخرة، وقيل لباس التقوى مجاز، وقال ابن عباس: العمل الصالح، وقال أيضاً: العفة، وقال عثمان بن عفّان وابنعباس أيضاً: السّمت الحسن في الوجه، وقال معبد الجهني: الحياء، وقال الحسن: الورع والسّمت الحسن، وقال عروة بن الزبير:خشية الله، وقال ابن جريج: الإيمان، وقيل ما يظهر من السكينة والإخبات، وقال يحيـى بن يحيـى: الخشوع والأحسن أن يجعلعاماً فكلّ ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى والإشارة بقوله ذلك من آيات الله إلى ما تقدّممن إنزال اللباس والرّياش ولباس التقوى والمعنى من آيات الله الدالّة على فضله ورحمته على عباده، وقيل: من موجب آياتالله، وقيل: الإشارة إلى {لِبَاسَ * ٱلتَّقْوَىٰ } أي هو في العبر آية أي علامة وأمارة من الله أنه قدرضي عنه ورحمه لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها. {يَذَّكَّرُونَ يَـٰبَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُممّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا }. أي لا يستهوينّكم ويغلب عليكم وهو نهي للشيطان والمعنى نهيهم أنفسهم عنالإصغاء إليه والطواعية لأمره كما قالوا لا أرينك هنا ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه، وكما في موضع نصب أيفتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ويجوز أن يكون المعنى لا يخرجنّكم عن الدين بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم، وقرأ يحيـىوإبراهيم: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ } بضمّ الياء من أفتن، وقرأ زيد بن علي: لا يفتنكم بغير نون توكيد والظاهر أنّ لباسهماهو الذي كان عليهما في الجنة، وقال مجاهد هو لباس التقوى {*وسوءاتهما} هو ما يسوءهما من المعصية وينزع حال منالضمير في {كَمَا أَخْرَجَ } أو من {أَبَوَيْكُم } لأنّ الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين فلو كان بدل ينزعنازعاً تعين الأول لأنه إذ ذاك لوجوز الثاني لكان وصفاً جرى على غير من هوله فكان يجب إبراز الضمير وذلكعلى مذهب البصريين وينزع حكاية أمر قد وقع لأنّ نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ونسب النزع إلى الشيطان لماكان متسبباً فيه. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } أي إنّ الشيطان وهو إبليس يبصركم هو وجنودهونوعه وذريته من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة وجودهم، كما أنّ الملائكة أيضاًمعلوم وجودهم من هذه الشريعة ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدّاً لا نراها نحن ألا ترى أنّ الهواء جسم لطيفلا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده وقد صحّ تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهمفي تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة حين جعل يحفظ تمرّ الصدقة والعفريت الذي رآه الرسول وقال فيه: «لولادعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد»، وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخلصة، وكحديث سوادبن قارب مع رئية من الجنّ إلا أنّ رؤيتهم في الصور نادرة كما أنّ الملائكة تبدو في صور كحديث جبريلوحديث الملك الذي أتى الأعمى والأقرع والأبرص وهذا أمر قد استفاض في الشريعة فلا يمكن ردّه أعني تصورهم في بعضالأحيان في الصّور الكثيفة، وقال الزمخشري: وفيه دليل بيّن على أنّ الجن لا يُرون ولا يظهرون للإنس وأنّ إظهارهم أنفسهمليس في استطاعتهم وأنّ زعم من يدّعي رؤيتهم زور ومخرفة انتهى، ولا دليل في الآية على ما ذكر لأنه تعالىأثبت أنهم يروننا من جهة لا نراهم نحن فيها وهي الجهة التي يكونون فيها على أصل خلقتهم من الأجسام اللطيفةولو أراد نفي رؤيتنا على العموم لم يتقيّد بهذه الحيثية وكان يكون التركيب أنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا ترونهموأيضاً فلو فرضنا أنّ في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي المستفيض فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعضالناس في بعض الأحيان وفي كتب التحرير أنكر جماعة من الحكماء تكرّر الجن والشياطين وتصوّرهم على أي جهة شاؤوا وقوله{إِنَّهُ يَرَاكُمْ } تعليل للنهي وتحذير من فتنته فإنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون وفي الحديثأنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم إشارة إلى أنه لا يفارقه وأنه يرصد غفلاته فيتسلط عليه والظاهر أنالضمير في {أَنَّهُ } عائد على الشيطان، وقال الزمخشري: والضمير في {أَنَّهُ } ضمير الشأن والحديث انتهى، ولا ضرورة تدعوإلى هذا {وَقَبِيلُهُ } معطوف على الضمير المستكن في {يَرَاكُمْ } ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أو معطوفاً علىموضع اسم إن على مذهب من يجيز ذلك، وقرأ اليزيدي {وَقَبِيلُهُ } بنصب اللام عطفا على اسم إنّ إن كانالضمير يعود على الشيطان {وَقَبِيلُهُ } مفعول معه أي مع قبيله، وقرىء شاذاً من حيث لا ترونه بإفراد الضمير فيحتملأن يكون عائداً على الشيطان {وَقَبِيلُهُ } إجراء له مجرى اسم الإشارة فيكون كقوله:

فيها خطوط من سواد وبلق     كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان ذلك ويحتمل أن يكون عاد الضمير على الشيطانوحده لكونه رأسهم وكبيرهم وهم له تبع وهو المفرد بالنّهي أولاً. {إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }أي صيّرنا الشياطين ناصريهم وعاضديهم في الباطل، وقال الزجاج: سلطناهم عليهم يزيدن في غيّهم فيتابعونهم على ذلك فصاروا أولياءهم، وقيل:جعلناهم قرناء لهم، وحكى الزهراوي أنّ جعل هنا بمعنى وصف وهي نزغة اعتزالية، وقال الزمخشري: خلّينا بينهم وبينهم لم نكفهم عنهم حتى نولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي وهذا تحذير آخر أبلغ من الأوّل، انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.

{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

عدل

{وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } أي إذافعلوا ما تفاحش من الذموب اعتذروا والتقدير وطلبوا بحجة على ارتكابها قالوا: آباؤنا كانوا يفعلونها فنحن نقتدي بهم والله أمرنابها، كانوا يقولون لو كره الله منّا ما نفعله لنقلنا عنه والإخبار الأوّل يتضمّن التقليد لآبائهم والتقليد باطل إذ ليسطريقاً للعلم، والإخبار الثاني افتراء على الله تعالى، قال ابن عطية والفاحشة وإن كان اللفظ عاماً هي كشف العورة فيالطواف، فقد رُوي عن الزهري أنه قال: في ذلك نزلت هذه الآيات، وقاله ابن عباس ومجاهد انتهى، وبه قال زيدبن أسلم والسّدي، وقال الحسن وعطاء والزجاج: الفاحشة هنا الشرك، وقيل: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وقيل: الكبائر والظاهر من قوله{وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً } أنه إخبار مستأنف عن هؤلاء الكفار بما كانوا يقولون إذا ارتكبوا الفواحش، وقال ابن عطية: وإذافعلوا وما بعده داخل في صلة {ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ليقع التوبيخ بصفة قوم قد جعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبّهفعلهم فعل الممثل بهم، وقال الزمخشري: وعن الحسن أنّ الله تعالى بعث محمد إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله تعالى وتصديقه قول الله عز وجل {وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً }، انتهتحكايته عن الحسن ولعلها لا تصحّ عن الحسن وانظر إلى دسيسة الزمخشري في قوله وهم قدرية فإنّ أهل السنة يجعلونالمعتزلة هم القدرية فعكس هو عليهم وجعلهم هم القدرية حتى أن ما جاء من الذّم للقدرية يكون لهم وهذه النسبةمن حيث العربية هي أليق بمن أثبت القدر لا بمن نفاه، وقول أهل السنة في المعتزلة أنهم قدرية معناه أنهم ينفون القدر ويزعمون أنّ الأمر آنف وذلك شبيه بما يقول بعضهم في داود الظاهري أنه القياسي ومعناه نافي القياس.{قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء } أي بفعل الفحشاء وإنما لم يرد التقليد لظهور بطلانه لكلّ أحد للزومه الأخذبالمتناقضات وأبطل تعالى دعواهم أنّ الله أمر بها إذ مدرك ذلك إنما هو الوحي على لسان الرسل والأبياء ولم يقعذلك، وقال الزمخشري: لأن فعل القبيح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف فكيف يأمر بفعله. {أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَتَعْلَمُونَ } إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أنّ مبني أمرهم على الجهل المفرط انتهى، وهو على طريقة المعتزلة، وقالابن عطية: وبّخهم على كذبهم ووقفهم على ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هي دعوى واختلاق.

{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } * { فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } * { يَابَنِيۤ آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } * { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } * { يَابَنِيۤ آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوۤاْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } * { قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فِي ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } * { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ } * { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ كَافِرُونَ } * { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } * { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلأَعْرَافِ رِجَالاٍ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } * { أَهَـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } * { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } * { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }

عدل

بدأ الشيء أنشأه واخترعه، الجمل الحيوان المعروف وجمعه جمال وأجمل ولا يسمّى جملاًحتى يبلغ أربع سنين والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي في المركبات. سمّ الخياط ثقبه وتضم سين سم وتفتح وتكسر، وكلثقب في أنف أو أذن أو غير ذلك، فالعرب تسميه سماً والخياط وهما آلتان كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع.الغل الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء. نعم حرف يكون تصديقاً لإثبات محض أولما تضمّنه استفهام وكسر عينها لغة لقريش وإبدال عينها بالحاء لغة ووقوعها جواباً بعد نفي يراد به التقرير نادر. الأعرافجمع عرف وهو المرتفع من الأرض. قال الشاعر:

كل كناز لحمه يناف     كالجبل الموفى على الأعراف

وقال الشماخ:

فظلت بأعراف تعادي كأنها     رماح نحاها وجهة الرمح راكز

ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوّهما. الستة رتبة من العدد معروفة وأصلها سدسة فأبدلوا من السين تاء ولزم الإبدالثم أدغموا الدّال في التاء بعد إبدال الدّال بالتاء ولزم الإدغام وتصغيره سديس وسديسة. الحثّ الإعجال حثثت فلاناً فأحثثت قالهالليث وقال: فهو حثيث ومحثوث. {قُلْ أَمَرَ رَبّي بِٱلْقِسْطِ }. قال ابن عباس القسط هنا لا إله إلا اللهلأن أسباب الخير كلها تنشأ عنها، وقال عطاء والسدّي: العدل وما يظهر في القول كونه حسناً صواباً، وقيل الصدق والحق.{وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ }. وأقيموا معطوف على ما ينحل إليه المصدر الذي هو القسطأي بأن أقسطوا وأقيموا وكما ينحل المصدر لـ(أن) والفعل الماضي نحو عجبت من قيام زيد وخرج أي من أن قاموخرج وأن والمضارع نحو:

للـبــس عبــاءة وتقــرّ عينــي    

أي لأن ألبس عباءة وتقر عيني كذلك ينحل لأن وفعل الأمر ألاترى أنّ أن توصل بفعل الأمر نحو كتبت إليه بأن فم كما توصل بالماضي والمضارع بخلاف ما المصدرية فإنها لاتوصل بفعل الأمر وبخلاف كي إذا لم تكن حرفاً وكانت مصدرية فإنها توصل بالمضارع فقط ولما أشكل هذا التخريج جعلالزمخشري {وَأَقِيمُواْ } على تقدير وقل فقال: أقيموا فيحتمل قوله وقل أقيموا أن يكون {أَقِيمُواْ } معمولاً لهذا الفعل الملفوظبه، ويحتمل أن يكون قوله {وَأَقِيمُواْ } معطوفاً على {أَمَرَ رَبّي بِٱلْقِسْطِ } فيكون معمولاً لقل الملفوظ بها أولاً وقدّرهاليبيّن أنها معطوفة عليها وعلى ما خرّجناه نحن يكون في خبر معمول أمر، وقيل: {وَأَقِيمُواْ } معطوف على أمر محذوفتقديره فأقبلوا وأقيموا، وقال ابن عباس والضحّاك واختاره ابن قتيبة: المعنى إذا حضرت الصلاة فصلوا في كل مسجد ولا يقلأحدكم أصلي في مسجدي، وقال مجاهد والسدّي وابن زيد: معناه توجّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، وقال الرّبيع: اجعلواسجودكم خالصاً لله دون غيره، وقيل: معناه اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة أمراً بالجماعة ذكره الماوردي، وقيل: معناه إذاكان في جواركم مسجد فأقيموا الجماعة فيه ولا تتجاوزوا إلى غيره ذكره التبريزي، وقيل هو أمر بإحضار النيّة لله فيكل صلاة والقصد نحوه كما تقول

{ وَجَّهْتُ وَجْهِىَ }

الآية قاله الربيع أيضاً، وقيل معناه إباحة الصّلاة في كل موضعمن الأرض أي حيثما كنتم فهو مسجد لكم يلزمكم عنده الصّلاة وإقامة وجوهكم فيه لله وفي الحديث: جعلت لي الأرض مسجداً فأيّما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث كان . وقال الزمخشري: أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليه غير عادلين إلى غيرها عندكل مسجد في وقت كل سجود وفي كل مكان سجود وهو الصلاة وادعوه مخلصين له الدين. قيل: الدعاء على بابهأمر به مقروناً بالإخلاص لأنّ دعاء من لا يخلص الدين لله لا يجاب، وقيل: معناه اعبدوا، وقيل: قولوا لا إلهإلا الله. {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ }. قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادةهو إعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت ولم يذكر الزمخشري غير هذا القول. قال: كما أنشأكمابتداء يعيدكم احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة انتهى، وهذاقول الزّجاج قال: كما أحياكم في الدّنيا يحييكم في الآخرة وليس بعثكم بأشد من ابتداء إنشائكم وهذا احتجاج عليهم فيإنكارهم البعث انتهى، وقال ابن عباس أيضاً وجابر بن عبد الله وأبو العالية ومحمد بن كعب وابن جبير والسدّي ومجاهدأيضاً والفرّاء، وروى معناه عن الرّسول أنه إعلام بأنّ من كتب عليه أنه من أهل الشقاوة والكفر في الدّنيا همأهل ذلك في الآخرة وكذلك من كتب له السعادة والإيمان في الدنيا هم أهل ذلك في الآخرة لا يتبدّل شيءمما أحكمه ودبّره تعالى ويؤيد هذا المعنى قراءة أبيّ {تَعُودُونَ } فريقين {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ } وعلىهذا المعنى يكون الوقف على {تَعُودُونَ } غير حسن لأنّ {فَرِيقاً } نصب على الحال وفريقاً عطف عليه والجملة من{هُدًى } ومن {حَقّ } في موضع الصفة لما قبله وقد حذف الضمير من جملة الصفة أي هداهم، وجوّز أبوالبقاء أن يكون {فَرِيقاً } مفعول {هُدًى } {وَفَرِيقًا } مفعول أضل مضمرة والجملتان الفعليتان حال، وهدى على إضمار قدأي تعودون قد هدى فريقاً وأضلّ فريقاً، وعلى المعنى الأوّل يحسن الوقف على {تَعُودُونَ } ويكون {فَرِيقاً } مفعولاً بهدىويكون {وَفَرِيقًا } منصوباً بإضمار فعل يفسّر قوله {حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ }، وقال الزمخشري: {فَرِيقًا هَدَىٰ } وهم الذين أسلمواأي وفّقهم للإيمان وفريقاً حقّ عليهم الضلالة أي كلمة الضلالة وعلم الله تعالى أنهم يضلون ولا يهتدون وانتصاب قوله تعالى{وَفَرِيقًا } بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقاً حقّ عليهم الضلالة انتهى؛ وهي تقادير على مذهب الاعتزال، وقيلالمعنى تعودون لا ناصر لكم ولا معين لقوله

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ }

، وقال الحسن: كما بدأكم من التراب يعيدكم إلىالتراب، وقيل: معناه كما خلقكم عراة تبعثون عراة ومعنى {حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ } أي حقّ عليهم من الله أو حقّعليهم عقوبة الضّلالة هكذا قدّره بعضهم، وجاء إسناد الهدى إلى الله ولم يجيء مقابله وفريقاً أضلّ لأنّ المساق مساق مننهى عن أن يفتنه الشيطان وإخبار أنّ الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وأنّ الله لا يأمر بالفشحاء وأمر بالقسط وإقامةالصلاة فناسب هذا المساق أن لا يسند إليه تعالى الضّلال، وإن كان تعالى هو الهادي وفاعل الضلالة فكذلك عدل إلىقوله {حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ }. {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي إنّ الفريقالضالّ {ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَاء } أنصار وأعواناً يتولونهم وينتصرون بهم كقول بعضهم أعل هبل أعل هبل والظاهر أن المراد حقيقةالشياطين فهم يعينونهم على كفرهم والضالّون يتولونهم بانقيادهم إلى وسوستهم، وقيل: الشياطين أحبارهم وكبراؤهم، قال الطبري: وهذه الآية دليل علىخطأ قول من زعم أنّ الله تعالى لا يعذّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلاّ أن يأتيها علىعلم منه بموضع الصّواب انتهى، ووجه الدلالة قوله {وَيَحْسَبُونَ } والمحسبة الظنّ لا العلم، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بنشعيب وعيسى بن عمر {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا } بفتح الهمزة وهو تعليل لحقّ الضلالة عليهم والعكس يحتمل التعليل من حيث المعنى،وقال الزمخشري: أي تولّوهم بالطاعة فيما أمروهم به وهذا دليل على أنّ علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهموأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله تعالى انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {يَـٰبَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَكُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ قُلْ } كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة وكانوا لايأكلون في أيام حجهم دسماً ولا ينالون من الطعام إلاّ قوتاً تعظيماً لحجهم فنزلت، وقيل: كان أحدهم يطوف عرياناً ويدعثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل:تفاؤلاً ليتعرُّوا من الذنوب كما تعروا من الثياب. والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يُتجمل به من ثياب وغيرهاكقوله

{ وازّينت }

أي بالنبات والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة قاله مجاهد والسدّي والزجاج، وقال طاووسالشملة من الزّينة، وقال مجاهد: ما وارى عورتك ولو عباءة فهو زينة. وقيل ما يستر العورة في الطّواف، وفي صحيحمسلم عن عروة أنّ العرب كانت تطوف عراة إلا الخمس وهم قريش إلاّ أن تعطيهم الخمس ثياباً فيعطي الرجال الرجالوالنساء النساء وفي غير مسلم: من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوباً طاف عرياناً أو في ثيابه وألقاها بعدفلا يمسّها أحد ويسمّى اللقاء. وقال بعضهم:

كفى زحزناً كرى عليه كأنه     لقي بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تنشد وهي تطوف عريانة:

اليوم يبدو بعضه أو كله     وما بدا منه فلا أحلّه

فلما بعث الله رسوله وأنزل عليه {يَـٰبَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَكُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ } أذّن مؤذّن الرسول ألاّ لا يحجّ البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وكان النداءبمكة سنة تسع، وقال عطاء وأبو روق: تسريح اللحى وتنويرها بالمشط والترجيل، وقيل: التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد ذكرهالماوردي، وقيل: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والرّكوع والرفع منه، وقيل إقامة الصلاة في الجماعة بالمساجد وكان ذلك زينة لهملما في الصلاة من حسن الهيئة ومشابهة صفوف الملائكة ولما فيها من إظهار الإلفة وإقامة شعائر الدين، وقيل: ليس النّعالفي الصلاة وفيه حديث عن أبي هريرة، وقال ابن عطيّة: وما أحسبه يصحّ، وقال أيضاً: الزّينة هنا الثّياب الساترة ويدخلفيها ما كان من الطيّب للجمعة والسّواك وبدل الثياب وكل ما أوجد استحسانه في الشّريعة ولم يقصد به الخيلاء وعندكل مسجد يريد عند كل موضع سجود، فهو إشارة إلى الصّلوات وستر العورة فيها هو مهم الأمر ويدخل في الصّلاةمواطن الخير كلها ومع ستر العورة ما ذكرنا من الطيب للجمعة انتهى، وقال الزمخشري: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أي ريشكم ولباسزينتكم {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } كلما صلّيتم وكانوا يطوفون عراة انتهى، والذي يظهر أنّ الزّينة هو ما يتجمل به ويتزينعند الصلاة ولا يدخل فيه ما يستر العورة لأنّ ذلك مأمور به مطلقاً ولا يختصّ بأن يكون ذلك عند كلّمسجد، ولفظة {كُلّ مَسْجِدٍ } تأتي أن يكون أيضاً ما يستر العورة في الطّواف لعمومه والطّواف إنما هو الخاص وهوالمسجد الحرام وليس بظاهر حمل العموم على كل بقعة منه وأيضاً فيا بني آدم عام وتقييد الأمر بما يستر العورةفي الطّواف مفض إلى تخصيصه بمن يطوف بالبيت، وقال أبو بكر الرازي في الآية دليل على فرض ستر العورة فيالصلاة وهو قول أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والشافعي لقوله: {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } علق الأمر بد فدلعلى أنه الستر للصلاة، وقال: مالك والليث: كشف العورة حرام ويوجبان الإعادة في الوقت استحباباً إن صلّى مكشوفها، وقال الأبهري:هي فرض في الجملة وعلى الإنسان أن يسترها في الصلاة وغيرها وهو الصحيح لقوله للمسور ابنمخرمة: ارجع إلى قومك ولا تمشوا عراة ، أخرجه مسلم {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ }، قال الكلبي: معناه كلوا من اللحم والدّسم واشربوامن الألبان وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام، وقال السدّي: كلوا من البحيرة وأخواتها والظاهر أنه أمر بإباحة الأكل والشربمن كل ما يمكن أن يؤكل أو يشرب مما يحظر أكله وشربه في الشريعة وإن كان النزول على سبب خاصكما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدّسم أيام إحرامهم أو بني عامر دون سائر العرب من ذلك وقولالمسلمين بذلك والنهي عن الإسراف يدلّ على التحريم لقوله {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ }، قال ابن عباس: الإسراف الخروج عنحد الاستواء، وقال أيضاً {لا * تُسْرِفُواْ } في تحريم ما أحل لكم، وقال أيضاً: كل ما شئت والبس ماشئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، وقال ابن زيد: الإسراف أكل الحرام، وقال الزجاج الإسراف الأكل من الحلال فوق الحاجة،وقال مقاتل: الإسراف الإشراك، وقيل: الإسراف مخالفة أمر الله في طوافهم عراة يصفقون ويصفرون، وقال ابن عباس أيضاً: ليس فيالحلال سرف إنما السّرف في ارتكاب المعاصي، قال ابن عطية: يريد في الحلال القصد واللفظة تقتضي النهي عن السّرف مطلقاًفيمن تلبس بفعل حرام فتأوّل تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيهعلى القصد وأوساط الأمور فحسن وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه، مثال ذلك أنيفرط في شراء ثياب أو نحوها ويستنفد في ذلك حلّ ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلكأو نحوه فالله عزّ وجل لا يحبّ شيئاً من هذا وقد نهت الشريعة عنه انتهى، وحكى المفسّرون هنا أن نصرانياًطبيباً للرشيد أنكر أن يكون في القرآن أو في حديث الرسول شيء من الطبّ فأجيب بقوله {وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} بقوله المعدة بيت الداء والحميّة رأس كل دواء و أعطِ كلّ بدن ما عودته فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولانبيّكم لجالينوس طبّاً. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرّزْقِ } {زِينَةَ ٱللَّهِ } ماحسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به من الثياب وغيرها وأضيفت إلى الله لأنه هو الذي أباحها والطيّبات هي المستلذات منالمأكول والمشروب بطريقة وهو الحل، وقيل: الطيبات المحلّلات ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها وقد كانوا يحرمون أشياءمن لحوم الطّيبات وألبانها والاستفهام إذا تضمّن الإنكار لا جواب له وتوهم مكي هنا أن له جواباً هنا وهو قوله{قُلْ هِى } توهم فاسد ومعنى {أَخْرَجَ } أبرزها وأظهرها، وقيل فصل حلالها من حرامها. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَٱللَّهِ ٱلَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـٰتِ مِنَ } قرأ قتادة {قُلْ هِى } لمن آمن، وقرأ نافع {خَالِصَةٌ } بالرفع، وقرأباقي السبعة بالنصب فأما النصب فعلى الحال والتقدير {قُلْ هِى } مستقرّة {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } في حال خلوصها لهم يومالقيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبراً لهي {وَفِى * ٱلْحَيَوٰةَ } متعلق بآمنوا ويصير المعنىقل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن في الدّنيا ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليهاوإلى هذا المعنى يشير تفسير ابن جبير، وجوّزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأوّل هو {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ }{وَفِى * قَالُواْ لَن } متعلق بما تعلق به للذين وهو الكون المطلق أي قل هي كائنة في الحياة الدنياللمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدّنيا الكفّار {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } ويراد بيوم القيامة استمرار الكون فيالجنة وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدّنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ابن عباس والضحّاك وقتادة والحسنوابن جريج وابن زيد وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري، (فإن قلت): إذا كان معنى الآية أنها لهم في الدنيا علىالشركة بينهم وبين الكفار فكيف جاء {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ }، (فالجواب): من وجوه، أحدها: إنّ في الكلام حذفاً تقديرهقل هي للمؤمنين والكافرين في الدنيا خالصة للمؤمنين في القيامة لا يشاركون فيها قاله الكرماني، الثاني: إنّ ما تعلق به{لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } ليس كوناً مطلقاً بل كوناه مقيّداً يدلّ على حذفه مقابله وهو {خَالِصَةٌ } تقديره قل هي غيرخالصة للذين آمنوا قاله الزمخشري قال: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأنّ المشركين شركاؤهم فيهاخالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد ثم قال الزمخشري: (فإن قلت): هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم، (قلت): النية علىأنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة وأنّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى

{ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ }

انتهى وجواب الزمخشري هو للتبريزي رحمه الله، قال التبريزي معنى الآية أنها للمؤمنين خالصة في الآخرة لا يشركهم الكفّار فيهاهذا وإن كان مفهومه الشركة بين الذين آمنوا والذين أشركوا وهو كذلك لأنّ الدّنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجرإلا أنه أضاف إلى المؤمنين ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً على أنه إنما خلقها للذينآمنوا بطريق الأصالة والكفّار تبع لهم فيها في الدنيا ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى:

{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً }

انتهى، وقال أبو عليّ في الحجة ويصح أن يعلق قوله {وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ } بقوله {حَرَّمَ} ولا يصح أن يتعلق بقوله {أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ} لأنّ ذلك كلام يشدّ القصة وليس بأجنبي منها جدّاً كما جاز ذلك في قوله

{ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ }

فقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } معطوف على كسبوا داخل في الصلاة والتعلّق بأخرج هو قول الأخفش، ويصحّأن يتعلق بقوله {وَٱلطَّيّبَـٰتُ } ويصح أن يتعلق بقوله {مِنَ ٱلرّزْقِ } انتهى. وتقادير أبي عليّ والأخفش فيها تفكيك للكلاموسلوك به غير ما تقتضيه الفصاحة، وهي تقادير أعجمية بعيدة عن البلاغة لا تناسب في كتاب الله بل لو قدّرتفي شعر الشنفري ما ناسب والنحاة الصّرف غير الأدباء بمعزل عن إدراك الفصاحة وأما تشبيه ذلك بقوله {وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ }فليس ما قاله بمتعيّن فيه بل ولا ظاهر بل قوله {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } هو خبر عن النهي أي جزاءسيئة منهم بمثلها وحذف منهم لدلالة المعنى عليه كما حذف من قولهم السّمن منوان درهم أي منوان منه وقوله {وَتَرْهَقُهُمْذِلَّةٌ } معطوف على {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } وسيأتي توضيح هذا بأكثر في موضعه إن شاء الله تعالى. {كَذَلِكَ نُفَصِلُٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي مثل تفصيلنا وتقسيمنا السابق {*نقسم} في المستقبل {سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ } لهم علم وإدراك لأنه لاينتفع بذلك إلا من علم لقوله:

{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ }

. {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَاوَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ } قال الكلبي لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيتعيّرهم المشركون بذلك وقالوا استحلوا الحرم فنزلت، وتقدّم تفسير {ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } في أواخر الأنعام وزيدهنا أقوال، أحدها: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا } طواف الرّجل بالنهار عرياناً {وَمَا بَطَنَ } طوافها بالليل عارية قاله التبريزي، وقالمجاهد: {مَا ظَهَرَ } طواف الجاهلية عراة {وَمَا بَطَنَ } الزنا، وقيل: {مَا ظَهَرَ } الظلم {وَمَا بَطَنَ } السّرقة،وقال ابن عباس ومجاهد في رواية: {مَا ظَهَرَ } ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأباء نساء الآباء والجمع بينالأختين وأن ينكح المرأة على عمتها وخالتها {وَمَا بَطَنَ } الزّنا {وَٱلإِثْمَ } عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليهاالإثم، هذا قول الجمهور، وقيل هو صغار الذنوب، وقيل: الخمر، وهذا قول لا يصح هنا لأن السّورة مكية ولم تحرمالخمر إلا بالمدينة بعد أحد وجماعة من الصحابة اصطبحوها يوم أحد وماتوا شهداء وهي في أجوافهم وأما تسمية الخمر إثماًفقيل هو من قول الشاعر:

شـربـت الإثـم حـتى زلّ عـقلــي    

وهو بيت مصنوع مختلَق وإن صحّ فهو على حذف مضافأي موجب الإثم ولا يذلّ قول ابن عباس والحسن {ٱلإِثْمِ } الخمر على أنه من أسمائها إذ يكون ذلك منإطلاق المسبب على السبب وأنكر أبو العباس أن يكون {ٱلإِثْمِ } من أسماء الخمر وقال الفضل: {ٱلإِثْمِ } الخمر، وأنشد:

نهانا رسول الله أن نقرب الخنا     وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وأنشد الأصمعي أيضاً:

ورحت حزيناً ذاهل العقل بعدهم     كأني شربت الإثم أو مسّني خبل

قال: وقد تسمّى الخمر إثماً وأنشد:

شــربــت الإثــم حـتـى زلّ عقــلــي    

وقال ابن عباس والفراء: {ٱلْبَغْىُ } الاستطالة، وقال الحسن: السّكر من كل شراب، وقال ثعلب: تكلم الرّجل في الرجلبغير الحقّ إلا أن ينتصر منه بحق، وقيل: الظّلم والكبر، قاله الزمخشري، وقال وأفردوه بالذكر كما قال تعالى:

{ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى }

. وقال ابن عطية: {ٱلْبَغْىُ } التعدّي وتجاوز الحدّ مبتدئاً كان أو منتصراً وقوله {بِغَيْرِ ٱلْحَقّ }زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحقّ لا يسمى بغياً وتقدّم تفسير {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً} في الأنعام، وقال الزمخشري فيه تهكّم لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره ما لا تعلمونمن تحريم البحائر وغيرها، وقال ابن عباس أراد بذلك أنّ الملائكة بنات الله، وقيل قولهم أنه حرّم عليهم مآكل وملابسومشارب في الإحرام من قبل أنفسهم. {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } هذا وعيدلأهل مكّة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم أي أجل مؤثت لمجيء العذاب إذا خالفوا أمرربهم فأنتم أيتها الأمّة كذلك، وقيل: الأجل هنا أجل الدّنيا التقدير: كلّها أجل أي يقدّمون فيه على ما قدموا منعمل، وقيل: الأجل مدّة العمر والتقدير ولكل واحد من الأمة عمر ينتهي إليه بقاؤه في الدّنيا وإذا مات علم ماكان عليه من حقّ أو باطل، وقال ابن عطية: أي فرقة وجماعة وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس، وقالغيره: والأمة الجماعة قلّوا أو كثروا وقد يطلق على الواحد كقوله في قس بن ساعدة يبعث يوم القيامة أمّة وحدهوأفرد الأجل لأنه اسم جنس أو لتقارب أعمال أهل كل عصر أو لكون التقدير لكل واحد من أمة، وقرأ الحسنوابن سيرين فإذا جاء آجالهم بالجمع وقال ساعة لأنها أقلّ الأوقات في استعمال الناس يقول المستعجل لصاحبه في ساعة يريدفي أقصر وقت وأقربه قاله الزمخشري، وقال ابن عطية لفظ عنى به الجزء القليل من الزمان والمراد جمع أجزائه انتهى،والمضارع المنفي بلا إذا وقع في الظاهر جواباً لإذا يجوز أن يتلقى بفاء الجزاء ويجوز أن لا يتلقى بها وينبغيأن يعتقد أنّ بين الفاء والفعل مبتدأ محذوفاً وتكون الجملة إذ ذاك إسميّة والجملة الإسمية إذا وقعت جواباً لإذا فلابد فيها من الفاء أو إذا الفجائية، قال بعضهم: ودخلت الفاء على إذا حيث وقع إلا في يونس لأنها عطفتجملة على جملة بينهما اتصال وتعقيب فكان الموضع موضع الفاء وما في يونس يأتي في موضعه إن شاء الله انتهى،وقال الحوفي {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } معطوف على {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } انتهى، وهذا لا يمكن لأنّ إذا شرطيّة فالذي يترتب عليهاإنما هو مستقبل ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاءالاستقدام لأنّ الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال فيصير نظير قولك إذا قمت في المستقبل لم يتقدّم قيامك فيالماضي ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدّم قيامه هذا في الماضي وهذا شبيه بقول زهير:

بدا لي أني لست مدرك ما مضى     ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا

ومعلوم أن لشيء اذا كان جاثيا إليهلا يسبقه والذي تخرج عليه الآية أن قوله {وَلاَ } منقطع من الجواب على سبيل استئناف إخبار أي لا يستقدمونالأجل أي لا يسبقونه وصار معنى الأية أنهم لا يسبقون الأجل ولا يتأخرون عنه. {يَسْتَقْدِمُونَ يَـٰبَنِى آدَمَ إِمَّايَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءايَـٰتِى فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَاأُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ }. هذا الخطاب لبني آدم. قيل: هو في الأول، وقيل: هو مراعى به وقتالإنزال وجاء بصورة الاستقبال لتقوى الإشارة بصحّة النبوة إلى محمد {وَمَا } في إمّا تأكيد، قالابن عطية وإذا لم يكن ما لم يجز دخول النون الثقيلة انتهى، وبعض النحويين يجيز ذلك وجواب الشرط {فَمَنِ ٱتَّقَىٰ} فيحتمل أن تكون من شرطيّة وجوابه {فَلاَ خَوْفٌ } وتكون هذه الجملة الشرطية مستقلة بجواب الشرط الأوّل من جهةاللفظ ويحتمل أن تكون من موصولة فتكون هذه الجملة والتي بعدها من قوله {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ } مجموعهما هو جواب الشرطوكأنه قصد بالكلام التقسيم وجعل القسمان جواباً للشّرط أي {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } فالمتّقون لا خوف عليهم والمكذبون أصحاب النار فثمرةإتيان الرّسل وفائدته هذا وتضمن قوله {فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ } سبق الإيمان إذ التقوى والإصلاح هما ناشئان عنه وجاء فيقسمه {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ } والتكذيب هو بدوّ الشقاوة إذ لا ينشأ عنه إلا الانهماك والإفساد وقال بل الإصلاح بالاستكبار لأنّإصلاح العمل من نتيجة التقوى والاستكبار من نتيجة التكذيب وهو التعاظم فلم يكونوا ليتّبعوا الرسل فيما جاؤوا به ولا يقتدوابما أمروا به لأنّ من كذب بالشيء نأي بنفسه عن اتباعه، وقال ابن عطية: هاتان حالتان تعمّ جميع من يصدّعن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده أنه كذب وإما أن يستكبر فيكذب وإن كان غير مصمّم في اعتقادهعلى التكذيب وهذا نحو الكفر عناد انتهى، وتضمّنت الجملتان حذف رابط وتقديره {فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ } منكم، {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ }منكم وتقدّم تفسير {فَلاَ خَوْفٌ } و {أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ } الجملتان، وقرأ أبي والأعرج إما تأتينكم بالتاء على تأنيثالجماعة {*ويقصّون} محمول على المعنى إذ ذاك إذ لو حمل على اللفظ لكان تقصّ. {خَـٰلِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰعَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَـٰتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } لما ذكر المكذّبين ذكر أسوأ حالاً منهم وهومن يفتري الكذب على الله وذكر أيضاً من كذّب بآياته، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد: ما كتب لهم منالسعادة والشقاوة ولا يناسب هذا التفسير الجملة التي بعد هذا، وقال الحسن: ما كتب لهم من العذاب، وقال الربيع ومحمدبن كعب وابن زيد: ما سبق لهم في أمّ الكتاب، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد أيضاً وقتادة: ما كتب الحفظةفي صحائف الناس من الخير والشرّ فيقال: هذا نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي وقال الحكم وأبو صالح ما كتبلهم من الأرزاق والأعمار والخير والشر في الدنيا. وقال الضحاك: ما كتب لهم من الثّواب والعقاب، وقال ابن عباس أيضاًوالضحاك أيضاً ومجاهد ما كتب لهم من الكفر والمعاصي، وقال الحسن أيضاً: ما كتب لهم من الضلالة والهدى، وقال ابنعباس أيضاً: ما كتب لهم من الأعمال. وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك: {مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } يراد به من القرآن وحظّهمفيه سواد وجوههم يوم القيامة، وقيل: ما أوجب من حفظ عهودهم إذا أعطوا الجزية. وقال الحسن والسدّي وأبو صالح: منالمقرّر في اللوح المحفوظ وقد تقرر في الشّرع أنّ حظّهم فيه العذاب والسّخط والذي يظهر أن الذي كتب لهم فيالدنيا من رزق وأجل وغيرهما ينالهم فيها ولذلك جاءت التغيية بعد هذا بحتى وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري، قال: أيما كتب لهم من الأرزاق والأعمال. {حَتَّىٰ إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِقَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }. تقدّم الكلام على {حَتَّىٰ إِذَا } في الأوائل الأنعام، ووقع في التحرير {حَتَّىٰ} هنا ليس بغاية بل هي ابتداء وجر والجملة بعدها في موضع جرّ وهذا وهم بل معناها هنا الغاية والخلاففيها إذا كانت حرف ابتداء أهي حرف جر والجملة بعدها في موضع جرّ وتتعلق بما قبلها كما تتعلق حروف الجرّأم ليست حرف جر ولا تتعلق بما قبلها تعلّق حروف الجر من حيث المعنى لا من حيث الإعراب قولان: الأوّللابن درستويه والزّجاج، والثاني للجمهور وإذا كانت حرف ابتداء فهي للغاية ألا تراها في قول الشاعر:

سريت بهم حتى تكلّ مطيهم     وحتى الجياد ما يقدن بارسان

وقول الآخر:

فما زالت القتلى تمجّ دماءها     بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

تفيد الغاية لأن المعنى أنه مد همهم في السير إلىكلال المطي والجياد ومجت الدماء إلى تغيير ماء دجلة. قال الزمخشري: وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام انتهى، وقال الحوفيوحتى غاية متعلقة ينالهم فيحتمل قوله أن يريد التعلق الصّناعي وأن يريد التعلق المعنوي والمعنى أنهم ينالهم حظهم مما كتبلهم إلى أن يأتيهم رسل الموت يقبضون أرواحهم فيسألونهم سؤال توبيخ وتقرير أين معبوداتكم من دون الله؟ فيجيبون بأنهم حادواعنا وأخذوا طريقاً غير طريقنا أو ضلوا عنا هلكوا واضمحلّوا والرّسل ملك الموت وأعوانه، {*ويتوفونهم} في موضع الحال وكتبت {فَتِيلاًأَيْنَمَا } متّصلة وكان قياسه كتابتها بالانفصال لأن ما موصولة كهي في

{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ }

إذ التقدير أينالآلهة التي كنتم تعبدون؟ وقيل: معنى {تَدْعُونَ } أي تستغيثونهم لقضاء حوائجكم وما ذكرناه من أنّ هذه المحاورة بين الملائكةوهؤلاء تكون وقت الموت وأنّ التوفي هو بقبض الأرواح هو قول المفسرين، وقالت فرقة منهم الحسن: {ٱلرُّسُلَ } ملائكة العذابيوم القيامة والمحاورة في ذلك اليوم ومعنى {يَتَوَفَّوْنَهُمْ } يستوفونهم عدداً في السّوق إلى جهنم ونيل النصيب على هذا إنماهو في الآخرة إذ لو كان في الدّنيا لما تحققت الغاية لانقطاع النّيل قبلها بمدد كثيرة ويحتمل {وَشَهِدُواْ } أنيكون مقطوعاً على {قَالُواْ } فيكون من جملة جواب السؤال ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بإقرارهم علىأنفسهم بالكفر ولا تعارض بين هذا وبين قوله {وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } لاحتمال ذلك من طوائف مختلفة أوفي أوقات وجواب سؤالهم ليس مطابقاً من جهة اللفظ لأنه سؤال عن مكان، وأجيب بفعل وهو مطابق من جهة المعنىإذ تقدير السؤال ما فعل معبودوكم من دون الله معكم {قَـالُواْ ضَـلُّواْ عَنَّا }. {قَالَ ٱدْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْخَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ فِى ٱلنَّارِ }. أي يقول الله لهم أي لكفار العرب وهم المفترون الكذب والمكذبونبالآيات وذلك يوم القيامة وعبر بالماضي لتحقّق وقوعه وقوله ذلك على لسان الملائكة ويتعلق {فِى أُمَمٍ } في الظاهر بادخلواوالمعنى في جملة أمم ويحتمل أن يتعلق بمحذوف فيكون في موضع الحال و {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ } أي تقدّمتكمفي الحياة الدنيا أو تقدّمتكم أي تقدّم ذخولها في النار وقدّم الجنّ لأنهم الأصل في الإغواء والإضلال ودلّ ذلك علىأنّ عصاة الجنّ يدخلون النار، وفي النار متعلق بخلت على أنّ المعنى تقدّم دخولها أو بمحذوف وهو صفة لأمم أيفي أمم سابقة في الزمان كائنة من الجنّ والإنس كائنة في النار أو بادخلوا على تقدير أن تكون في بمعنىمع وقد قاله بعض المفسرين فاختلف مدلول في إذ الأولى تفيد الصحبة والثانية تفيد الظّرفية وإذا اختلف مدلول الحرف جازأن يتعلق اللفظان بفعل واحد ويكون إذ ذاك {أَدْخِلُواْ } قد تعدّى إلى الظرف المختص بفي وهو الأصل وإن كانقد تعدّى في موضع آخر بنفسه لا بوساطة في كقوله

{ وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ }

{ ٱدْخُلُواْ أَبْوٰبَ جَهَنَّمَ }

ويجوز أنتكون في باقية على مدلولها من الظرفية و {فِى ٱلنَّارِ } كذلك ويتعلّقان بلفظ {أَدْخِلُواْ } وذلك على أن يكون{فِى ٱلنَّارِ } بدل اشتمال كقوله

{ قتل أصحاب الأخدود النار }

ويجوز أن يتعدّى الفعل إلى حرفي جرّ بمعنى واحد علىطريقة البدل. {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } {كُلَّمَا } للتّكرار ولا يستوي ذلك في الأمة الأولى فاللاحقة تلعن السابقةأو يلعن بعض الأمة الدّاخلة بعضها ومعنى {أُخْتَهَا } أي في الدين والمعنى كلما دخلت أمة من اليهود والنصارى وعبدةالأوثان وغيرهم من الكفار، وقال الزمخشري: {أُخْتَهَا } التي ضلّت بالاقتداء بها انتهى، والمعنى أنّ أهل النار يلعن بعضهم بعضاًويعادي بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض، كما جاء في آيات أخر. {حَتَّى إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَـٰهُمْرَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَـئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ ٱلنَّارِ } {حَتَّىٰ } غاية لما قبلها والمعنى أنهم يدخلون فوجاً ففوجاً لاعناًبعضهم بعضاً إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها وأصل {ٱدَّارَكُواْ } تداركوا أدغمت التاء في الدّال فاجتلبت همزةالوصل، قال ابن عطية، وقرأ أبو عمرو {*وادّاركوا} بقطع ألف الوصل، قال أبو الفتح: هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعهاارتجالاً فذلك إنما يجيء شاذّاً في ضرورة الشّعر في الاسم أيضاً لكنّه وقف مثل وقفة المستنكر ثم ابتدأ فقطع، وقرأمجاهد بقطع الألف وسكون الدّال وفتح الراء بمعنى أدرك بعضهم بعضاً، وقرأ حميد أدركوا بضمّ الهمزة وكسر الرّاء أي ادخلوافي إدْراكها، وقال مكي في قراءة مجاهد: إنها ادّركوا بشدّ الدال المفتوحة وفتح الرّاء قال وأصلها ادتركوا وزنها افتعلوا، وقرأابن مسعود والأعمش تداركوا ورويت عن أبي عمر انتهى، وقال أبو البقاء، وقرىء إذا {إِذَا ٱدَّارَكُواْ } بألف واحدة ساكنةوالدّال بعدها مشدّدة وهو جمع بين ساكنين وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل، وقد قال: بعضهم اثنا عشر بإثباتالألف وسكون العين انتهى ويعني بقوله كما جاز في المتصل نحو الضالين وجان و {أُخْرَاهُمْ } الأمّة الأخيرة في الزمانالتي وجدت ضلالات مقررة مستعملة {لاْولَـٰهُمْ } التي شرعت ذلك وافترت وسلكت سبيل الضّلال ابتداء أو {أُخْرَاهُمْ } منزلة ورتبةوهم الأتباع والسفلة {لاْولَـٰهُمْ } منزلة ورتبة وهم القادة المتبوعون، أو {أُخْرَاهُمْ } في الدّخول إلى النار وهم {*الأتباع} {أُخْرَاهُمْلاْولَـٰهُمْ } دخولاً وهم القادة أقوال آخرها لمقاتل، وقال ابن عباس: آخر أمة لأول أمة وأخرى هنا بمعنى آخرة مؤنّثآخر فمقابل أوّل لا مؤنث له آخر بمعنى غير لقوله

{ وِزْرَ أُخْرَىٰ }

واللام في {لاْولَـٰهُمْ } لام السبب أيلأجل أولاهم لأنّ خطابهم مع الله لا معهم {أَضَلُّونَا } شرعوا لنا الضلال أو جعلونا نضلّ وحملونا عليه ضعفاً زائداًعلى عذابنا إذ هم كافرون ومسببو كفرنا. {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } أي لكلّ من الأخرى والأولىعذاب وللأولى عذاب متضاعف زائد إلى غير نهاية وذلك أنّ العذاب مؤبّد فكل ألم يعقبه آخر، وقرأ الجمهور بالتاء علىالخطاب للسائلين أي {لاَ تَعْلَمُونَ } ما لكلّ فريق من العذاب أو لا تعلمون ما لكلّ فريق من العذاب أولا تعلمون المقادير وصور العذاب قيل أو خطاب لأهل الدّنيا أي ولكن يا أهل الدّنيا لا تعلمون مقدار ذلك، وقرأأبو بكر والمفضّل عن عاصم بالياء فيحتمل أن يكون إخباراً عن الأمة ويكون الضمير في {لاَّ يَعْلَمُونَ } عائداً علىالأمة الأخيرة التي طلبت أن يضعف العذاب على أولاها ويحتمل أن يكون خبراً عن الطائفتين أي لا يعلم كل فريققدر ما أعدّ له من العذاب أو قدر ما أعدّ للفريق الآخر من العذاب وروي عن ابن مسعود أن الضّعفهنا الأفاعي والحيّات وهذه الجملة ردّ على أولئك السّائلين وعدم إسعاف لما طلبوا. {وَقَالَتْ أُولَـٰهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْعَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }. أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة واللام في {لاِخْرَاهُمْ } لامالتبليغ نحو قلت لك اصنع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام أي في {لاْولَـٰهُمْ } فإنها كما ذكرنالام السبب لأنّ الخطاب هناك مع الله تعالى والمعنى أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم الرّسل والنذربل دمتم في كفركم وتركتم النّظر فاستوت حالنا وحالكم قال الزمخشري: أي قد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنامتساوون في استحقاق الضّعف، وقال مجاهد: معنى {مِن فَضْلِ } من التخفيف لما قال الله {لِكُلّ ضِعْفٌ } قالت الأولىللأخرى لم تبلغوا أملاً بأنّ عذابكم أخفّ من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف انتهى، والفاء في {فَمَا } قال الزمخشري: عطفواهذا الكلام على قول الله تعالى للسّلفة {لِكُلّ ضِعْفٌ } والذي يظهر أنّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السّفلةفي الدّنيا بسبب اتباعهم إياهم وموافقتهم لهم في الكفر أي اتباعكم إيانا وعدم اتباعكم سواء لأنكم كنتم في الدّنيا أقلعندنا من أن يكون لكم علينا فضل باتباعكم بل كفرتم اختياراً لا إنّا حملناكم على ذلك إجباراً وأنّ قوله {فَمَا} معطوف على جملة محذوفة بعد القول دلّ عليها ما سبق من الكلام والتقدير {قَالَتْ * أُولَـٰهُمْ لاِخْرَاهُمْ } مادعاؤكم الله بأنّا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم فما كان لكم علينا من فضل بضلالكم وأن قوله {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } منكلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفي منهم وأنّ ذوق العذاب هو بما كسبت من الآثام لا بسبب دعواكم أناأضللناكم، وقيل: {فَذُوقُواْ } من خطاب الله لجميعهم. {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰبُ ٱلسَّمَاء }قال ابن عباس {لاَ تُفَتَّحُ } لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لما يريدون به طاعة الله تعالى أي لا يصعد لهمصالح فتفتح أبواب السماء له وهذا منتزع من قوله

{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ }

ومن قوله

{ إن كتاب الأبرار لفي عليين }

، وقال السدي وغيره: {لاَ تُفَتَّحُ } لأرواحهم وذكروا في صعود الرّوحين إلى السماء الإذن لروح المؤمنوردّ روح الكافر أحاديث وذلك عند موتهما، وقيل: المعنى {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰبُ ٱلسَّمَاء } في القيامة ليدخلوا منها إلىالجنة أي لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء، وقيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون، وقرأ أبو عمرو {لاَتُفَتَّحُ } بتاء التأنيث والتخفيف، وقرأ الأخوان بالياء والتخفيف، وقرأ باقي السّبعة بالتاء من أعلى والتشديد. وقرأ أبو حيوة وأبوالبرهسم بالثاء من أعلى مفتوحة والتشديد. {وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِى سَمّ ٱلْخِيَاطِ } هذا نفي مغيابمستحيل والولوج التقحّم في الشيء وذكر الجمل لأنه أعظم الحيوان المزاول للإنسان جنّة فلا يلج إلا في باب واسع كماقال، لقد عظم البعير بغير لبّ، وقال: جسم الجمال وأحلام العصافير، وذكر {سَمّ ٱلْخِيَاطِ } لأنه يضرب به المثل فيضيق المسلك يقال: أضيق من خرت الإبرة، وقيل: للدليل خريت لاهتدائه في المضايق تشبيهاً بإخرات الإبرة والمعنى أنّهم لا يدخلونالجنة أبداً، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه شهره بن حوشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخيروأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وإبان عن عاصم الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشدّدة وفسّر بالفلس الغليظ وهو حبلالسفينة تجمع حبال وتفتل وتصير حبلاً واحداً، وقيل: هو الحبل الغليظ من القنب، وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل،وروي عن ابن عباس ولعله لا يصحّ أن الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أنه لا يناسب والحبليناسب الخيط الذي يسلك به في خرم الإبرة، وعن الكسائي أن الذي روى {ٱلْجَمَلُ } عن ابن عباس كان أعجمياًفشدّد الجيم لعجمته، قال ابن عطية: وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة انتهى، ولكثرة القرّاء بها غيرابن عباس، وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية مجاهد وابن جبير وقتادة وسالم الأفطي بضمّ الجيم وفتح الميم مخففة، وقرأابن عباس في رواية عطاء والضحّاك والجحدري بضمّ الجيم والميم مخففة، وقرأ عكرمة وابن جبير في رواية بضم الجيم وسكونالميم الجمل، وقرأ المتوكِّل وأبو الجوزاء بفتح الجيم وسكون الميم ومعناه في هذه القراءات الفلس الغليظ وهو حبل السفينة وقراءةالجمهور {ٱلْجَمَلُ } بفتح الجيم والميم أوقع لأنّ سم الإبرة يضرب بها المثل في الضّيق والجمل وهو هذا الحيوان المعروفيضرب به المثل في عظم الجثة كما ذكرنا، وسئل ابن مسعود عن الحمل فقال روح الناقة وذلك منه استجهال للسائلومنع منه أن يتكلف له معنى آخر، وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وابن مصرف وطلحة بضم سين {سَمّ }،وقرأ أبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع بكسر السين{سَمّ }، وقرأ عبد الله وأبور رزين وأبو مجلز المخيطبكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء، وقرأ طلحة بفتح الميم. {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُجْرِمِينَ } أي مثل ذلك الجزاء {نُجْزِى }أهل الجرائم، وقال الزمخشري ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل وأن كل من أجرم عوقب ثم كرره تعال فقال {وَكَذٰلِكَنَجْزِى ٱلظَّـٰلِمِينَ } لأن كل مجرم ظالم لنفسه انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذٰلِكَنَجْزِى ٱلظَّـٰلِمِينَ } هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كما قال لهم

{ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ }

والغواشي جميع غاشية، قال ابن عباس والقرظي وابن زيد: هي اللحف، وقال عكرمة: يغشاهم الدّخانمن فوقهم، وقال الزّجاج: غاشية من النار، وقال الضحاك: المهاد الفرش والغواشي اللحف والتنوين في {غَوَاشٍ } تنوين صرف أوتنوين عوض قولان وتنوين عوض من الياء أو من الحركة قولان كل ذلك مقرّر في علم النحو، وقرىء {غَوَاشٍ }بالرفع كقراءة عبد الله

{ وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ }

. {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } لما أخبر بوعيد الكفار أخبر بوعد المؤمنين وخبر و {ٱلَّذِينَ } الجملة من {لاَ نُكَلّفُنَفْسًا } منهم أو الجملة من {أُوْلَـٰئِكَ } وما بعده وتكون جملة {لاَ نُكَلّفُ } اعتراضاً بين المبتدأ والخبر، وفائدتهأنه لما ذكر قوله و {عَمِلُواْ * ٱلصَّـٰلِحَاتِ } نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيهتنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم مجالها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة، وقال القاضي أبو بكر بنالطيّب: لم يكلف أحداً في نفقات الزوجات إلا ما وجد وتمكن منه دون ما لا تناله يده ولم يرد إثباتالاستطاعة قبل الفعل، ونظيره

{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا }

انتهى، وليس السياق يقتضي ما ذكر، وقال الزمخشري:جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع العظيم بما هومن الواسع وهو الإمكان الواسع غير الضّيق من الإيمان والعمل الصالح انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال، وقرأ الأعمش لا تكلف نفس.{وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلاْنْهَـٰرُ } أي أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم منالحقود. وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل منازلهم، وقال الحسن: غلّ الجاهلية، وقال سهلبن عبد الله الأهواء والبدع، وروي عن عليّ كرم الله وجهه فينا والله أهل بدر نزلت وعنه إني لأرجو أنأكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قيل فيهم ونزعنا الآية، والذي يظهر أنّ النزع للغلّ كناية عن خلقهم فيالآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادّين متعاطفين، كما قال

{ إخواناً على سرر متقابلين }

و{تجري} حال قاله الحوفي قال: والعامل فيه {نزعنا}،وقال أبو البقاء: حال والعامل فيها معنى الإضافة وكلا القولين لا يصح لأن {تجري} ليس من صفات الفاعل الذي هوضمير نزعنا ولا صفات المفعول الذي هو ما في صدورهم ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكنللمضاف أن يعمل إذا جرّد من الإضافة رفعاً أو نصباً فيما بعده والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم.{وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا } أي وفّقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هونعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده والثناء عليه تعالى، وقيل: الهداية هنا هو الإرشاد إلى طريق الجنة ومنازلهم فيها وفيالحديث أنّ أحدهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله في الدنيا ، وقيل: الإشارة بهذا إلى العمل الصالح الذي هذاجزاؤه، وقيل إلى الإيمان الذي تأهّلوا به لهذا النعيم المقيم، وقال الزمخشري: أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمانوالعمل الصالح انتهى، وفي لفظه واجب والعمل الصالح دسيسة الاعتزال، وقال أبو عبد الله الرازي معنى {هَدَانَا } الله أعطاناالقدرة وضمّ إليها الدّاعية الجازمة، وصير مجموعهما لحصول تلك الفضيلة وقالت المعتزلة التّحميد إنما وقع على أنه تعالى خلق العقلووضع الدلائل وأزال الموانع انتهى، وفي صحيح مسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ أنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وأنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وأنّ لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً فلذلك قالوا: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا }. {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ }أي وماكانت توجد منا أنفسنا وجدها الهداية لولا أن الله هدانا وهذه الجملة توضح أن الله خالق الهداية فيهم وأنهم لوخلوا وأنفسهم لم تكن منهم هداية، وقال الزمخشري: وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله تعالى وتوفيقه، وقالأبو البقاء: و الواو للحال ويجوز أن تكون مستأنفة انتهى، والثاني: أظهر. وقرأ ابن عامر {مَا كُنَّا } بغير واووكذا هي في مصاحف أهل الشام وهي على هذا جملة موضحة للأولى ومن أجاز فيها الحال مع الواو ينبغي أنيجيزها دونها، والذي تقتضيه أصول العربية أنّ جواب {لَوْلاَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه أي {لَوْلا أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ} ما كنا لنهتدي أو لضللنا لأنّ {لَوْلاَ } للتعليق فهي في ذلك كأدوات الشرط على أنّ بعض الناس خرجقوله

{ لولا أن رأى برهان ربّه }

على أنه جواب تقدم وهو قوله {وَهَمَّ بِهَا } وسيأتي ذلك إن شاء اللهتعالى، وهذا على مذهب جمهور البصريين في منع تقديم جواب الشرط. {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِٱلْحَقّ } أي بالموعودالذي وعدنا في الدنيا قضوا بأنّ ذلك حقّ قضاء مشاهدة بالحسّ وكانوا في الدنيا يقضون بذلك بالاستدلال، وقال الكرماني: وقعالموعود به على ما سبق به الوعد، وقال الزمخشري فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون: ذلك سروراً واغتباطاًبما نالوا وتلذّذا بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلّم بنحو ذلك ولا يتمالكأن يقوله للفرح لا للقربة. {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يحتمل أن يكون النداء من اللهوهو أسرّ لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي {وَنُودُواْ }بأنه {تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ } واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خفّفت ويحتمل أن تكون {ءانٍ } مفسرة لوجود شرطها وهما أنيكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل: {تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ }. قال ابن عطية {تِلْكُمُ } إشارة إلىغائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك أي {تِلْكُمُ } هذه {ٱلْجَنَّةِ } وحذفت هذه وإماقبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله انتهى، وفي كتاب التحرير و{تِلْكُمُ } إشارة إلى غائب وإنما قال هنا {تِلْكُمُ } لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمةالعهد قوله للصديق في الاستخبار عن عائشة «كيف تيكم للعهد السابق» انتهى، {*والجنة} جوّزوا فيها أنتكون خبراً لتلكم {*وأورثتموها} حال كقوله

{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً }

. قال أبو البقاء: حال من {ٱلْجَنَّةِ } والعامل فيهاما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالاً من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعملفي الحال انتهى، وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائماً خلاف في النحو وأن يكون نعتاً وبدلاً {*وأورثتموها}الخبر أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة ومعنى {ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا } صيرت لكم كالإرث وأبعد منذهب إلى أنّ المعنى أورثتموها عن آبائكم لأنها كانت منازلهم لو آمنوا فحرموها بكفرهم وبعده إنّ ذلك عامّ في جميعالمؤمنين ولم تكن آباؤهم كلهم كفاراً والباء في {بِمَا } للسبب المجازي والأعمال أمارة من الله ودليل على قوة الرجاءودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله والقسم فيها على قدر العمل ولفظ {أُورِثْتُمُوهَا } مشير إلى الأقسام وليس ذلكواجباً على الله تعالى، وقال الزمخشري: {أُورِثْتُمُوهَا } بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى، وهذامذهب المعتزلة، وفي صحيح مسلم لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل . {وَنَادَى أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْوَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ }. عبر بالماضي عن المستقبل لتحقّق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف علىمآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن شرفوا عليهم وبخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم، قال الزمخشري:وإنما قالوا لهم ذلك اعتباطاً بحالهم وشماتة بأهل النار وزيادة في غمّهم وليكون حكايته لطفاً لمن سمعها وكذلك قول المؤذّنبينهم أن لعنة الله على الظالمين وهو ملك يأمره الله تعالى فينادي بينهم يسمع أهل الجنة وأهل النار وأتى فيإخبار أهل الجنة {مَّا وَعَدَنَا } بذكر المفعول وفي قصة أهل النار ما وعد ولم يذكر مفعول {وَعْدُ } لأنّأهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق {وَعْدُ }باسم الخطاب فيقولوا: {مَا * وَعَدَكُمُ } ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعمتصديقاً لجميع ما وعد الله بوقوعه في الآخرة للصفين ويكون ذلك اعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسّروا على ما فاتهممن نعيمهم إذ نعيم أهل الجنة مما يخزيهم ويزيد في عذابهم ويحتمل أن يكون حذف المفعول الذي للخطاب لدلالة ماقبله عليه وتقديره {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ }، وقرأ ابن وثاب والأعمش والكسائي {نِعْمَ } بكسر العين، ويحتمل أنتكون تفسيريّة وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد فيالأجود كقوله: {أَن قَدْ وَجَدْنَا }. {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ * ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِٱلاْخِرَةِ كَـٰفِرُونَ } أي فأعلم معلم، قيل: هو إسرافيل صاحب الصور، وقيل: جبريل يسمع الفريقين تفريحاًوتبريحاً، وقيل: ملك غيره معين ودخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له: إحذر يوم الأذان فقال: وما يومالأذان قال: يوم {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ } الآية فصعق هشام فقال: طاووس هذا ذلّ الصفة فكيف ذلّ المعاينة وبينهم يحتمل أنيكون معمولاً لأذّن ويحتمل أن يكون صفة لمؤذن فالعامل فيه محذوف، وقرأ الأخوان وابن عامر والبزي {أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ }بتثقيل {ءانٍ } ونصب {لَّعْنَةُ } وعصمة عن الأعمش إنّ بكسر الهمزة والتثقيل ونصب {لَّعْنَةُ } على إضمار القول أوإجراء أذن مجرى قال، وقرأ باق السبعة أن يفتح الهمزة خفيفة النون ورفع {لَّعْنَةُ } على الابتداء وأن مخففة منالثقيلة أو مفسرة و {يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } تقدّم تفسير مثله وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عنقولهم السابق والمعنى الذين كانوا يصدون عن سبيل الله لأنهم وقت الأذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف، والمعنى بالظلم الكفارويدفع قول من قال: إنه عام في الكافر والفاسق قوله أخيراً {وَهُم بِٱلاْخِرَةِ كَـٰفِرُونَ } لأنّ الفاسق ليس كافراً بالآخرةبل مؤمن مصدّق بها. {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي بين الفريقين لأنهم المحدّث عنهم وهو الظاهر، وقيل: بين الجنة والنار وبهذابدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعنى بقوله فضرب بينهم بسور وقاله ابن عباس: ويقوي أنه بين الفريقين لفظبينهم إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السّور بعدما بين الجنة والنار وإن كانت تلك في السماء والنار أسفلالسافلين. {وَعَلَى ٱلاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَـٰهُمْ } أي وعلى أعراف الحجاب وهو السّور المضروب {رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ } منفريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميّزهم الله بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه أو بغير ذلك من العلامات أو بعلامتهمالتي يلهمهم الله معرفتها و {ٱلاْعْرَافِ } تل بين الجنة والنار، قاله ابن عباس، وقال مجاهد: حجاب بين الجنة والنار،وقيل: هو أحد ممثل بين الجنة والنارروي هذا في حديث وفي آخر أنّ أحداً على ركن من أركان الجنة ، وقيل:أعالي السّور الذي ضرب بين الجنة والنار قاله الزمخشري، والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وقفوا هنالك ما شاء الله، لمتبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئاتهم دخول النار، وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله حديث فيه قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ، وقاله ابن مسعود وابن عباس وحذيفة وأبو هريرة، قال حذيفة بن اليمان أيضاً هم قوم أبطأت بهم صغائرهمإلى آخر الناس، وقيل غزاة جاهدوا من غير إذن والديهم فقتلوا في المعركة وهذا مرويّ عن الرسول أنهم حبسوا عنالجنة بمعصية آبائهم وأعتقهم الله من النار لأنهم قتلوا في سبيله، وقيل: قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو بالعكس،وقيل: هم أولاد الزنا، وقيل: أولاد المشركين، وقيل: الذين كانوا في الأسر ولم يبدّلوا دينهم، وقيل: علماء شكوا في أرزاقهم،وقال الزمخشري: رجال من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم كأنهم المرجئون لأمر الله يحبسون بين الجنة والنارإلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة، وقال ابن عطية: واللازم من الآية أنّ على أعراف ذلك السور أوعلى مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله رجالاً من أهل الجنة يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبارفي الفريقين {فَاقِرَةٌ كَلاَّ } بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة وسوادها وقبحها في أهل النار انتهى، والأقوالالسابقة تحتاج إلى دليل واضح في التخصيص والجيّد منها هو الأوّل لحديث جابر ولتفسير جماعة من الصحابة وهذه الأقوال هيعلى قول من قال إنّ {ٱلاْعْرَافِ } هو بين الجنة والنار، وفي شعر أمية بن الصّلت:

وآخرون على الأعراف قد طمعوا     في جنّة حفّها الرمّان والخضر

وقال قوم: إنه الصراط، وقيل: موضع على الصراط، وقال قوم: هو جبلفي وسط الجنة أو أعلاها واختلف هؤلاء في تفسير رجال، وقال أبو مجلز: ملائكة في صور رجال ذكور وسمّوا رجالاًلقوله:

{ وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً }

وقال مجاهد والحسن هم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم، وقيل: هم الشهداء وقاله الكرماني: واختارهالنحّاس، وقال هو أحسن ما قيل فيه، وقيل: حمزة والعبّاس وعلي وجعفر الطيّار، وروي هذا عن ابن عباس، وقيل: همالأنبياء. {وَنَادَى أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ * أَن سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـٰرُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِقَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ }. الظاهر أن الضمير في ونادوا إلى آخر الآية عائد على الرّجال الذينعلى الأعراف وعلى هذا لا يمكن أن تكون تلك الضمائر للأنبياء ولا لشيء مما فسر به أنهم على جبل فيوسط الجنة أو أعلى الجنة وفي غاية البعد ما تؤول من ذلك ليصح شيء من تلك الأقوال أنهم أجلسوا علىتلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال الفريقين فيلحقهم السرّور بتلك الأحوال ثم إذا استقر الفريقان نقلوا إلى أمكنتم التي أعدّت لهمفي الجنة فمعنى {لَمْ يَدْخُلُوهَا } لم يدخلوا منازلهم المعدّة لهم فيها ومعنى {وَهُمْ يَطْمَعُونَ } يتيقّنون ما أعدّ اللهلهم من الزلفى وقد جاء الطمع بمعنى اليقين قال

{ وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ }

وطمع ابراهيمعليه السلام يقين. وقال الشاعر:

وإني لأطمع أنّ الإلۤه     قدير بحسن يقيني يقيني

وأما قول من قال:إنّ الأعراف جبل بين الجنة والنار فقد طعن فيه القاضي والجبائي وقالا: هو فاسد لأنّ قوله {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }يدلّ على أنّ كل من دخل الجنة لا بد أن يكون مستحقاً لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لايستحقّون الجنة ولا النار ثم يدخلون الجنة بمحض الفضل لا بسبب الاستحقاق ولأن كونهم من أهل الأعراف يدّل على ميزهممن جميع أهل القيامة فإنّ إجلاسهم على الأماكن المرتفعة العالية على أهل الجنة والنار تشريف عظيم لا يليق إلا بالأشرافومن تساوت حسناته وسيئاته درجته قاصرة لا يليق بهم ذلك التشريف، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ونودوا خطاب مع أقواممعينين فلا يلزم أن تكون أهل الجنة والنار و {أَن سَلَـٰمٌ } يحتمل أن {ءانٍ } تكون تفسرية ومخففة منالثقيلة ولم يدخلوها حال من المفعول أي ناداهم وهم في هذه الحال يعني أهل الجنة وهم يطمعون جملة خبريّة لاموضع لها من الإعراب أي نادوا أهل الجنة غير داخليها ثم أخبر أنهم طامعون في دخولها قال معناه أبو البقاء،وقيل: المعنى ونادى أصحاب الأعراب أصحاب الجنة بالسلام وهم قد دخلوا الجنة وأهل الأعراف لم يدخلوها فيكون قوله {لَمْ يَدْخُلُوهَا} حالاً من ضمير ونادوا العائد على أهل الأعراف فقط وهذا تأويل ابن مسعود وقتادة والسدّي وغيرهم، وقال ابن مسعود:والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم وهذا هو الأظهر والأليق بمساق الآية، وقال ابنمسعود أيضاً: إنما طمع أصحاب الأعراف لأنّ النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ حين طفىء نور ما بأيديالمنافقين، وقيل: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ } حال من ضمير الفاعل في {يَدْخُلُوهَا } والمعنى لم يدخلوها في حال طمع لها بلكانوا في حال يأس وخوف لكن عمّهم عفو الله. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل قوله {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْيَطْمَعُونَ } قلت: لا محلّ له لأنه استئناف كأنّ سائلاً سأل عن أصحاب الأعراف فقيل له {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} يعني أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا ويجوز أنيكون له محل بأن يقع صفة انتهى، وهذا توجيه ضعيف للفصل بين الموصوف وصفته بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض وقرأابن النحوي وهم طامعون، وقرأ إياد بن لقيط وهم ساخطون، وقرأ الأعمش وإذا قلبت {أَبْصَـٰرَهُمْ } والضمير في أبصارهم عائدعلى رجال الأعراف يسلّمون على أهل الجنّة وإذا نظروا إلى أهل النّار دعوا الله في التخلّص منها قاله ابن عباسوجماعة، وقال أبو مجلز: الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد وفي قوله {صُرِفَتْ } دليل أنّ أكثر أحوالهم النظرإلى تلقاء أصحاب الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار هو بكونهم صرفت أبصارهم تلقاءهم فليس الصّرف من قبلهم بل هممحمولون عليه مفعول بهم ذلك لأنّ ذلك المطلع مخوف من سماعه فضلاً عن رؤيته فضلاً عن التلبيس به والمعنى أنهمإذا حملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما هم عليه من العذاب استغاثوا بربّهم من أن يجعلهم معهم ولفظه {رَبَّنَا }مشعرة بوصفه تعالى بأنه مصلحهم وسيدهم وهم عبيد فبالدعاء به طلب رحمته واستعطاف كرمه. {وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْبِسِيمَـٰهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } يحتمل أن يكون هذا النداء وأولئك الرجال في النار ومعرفتهمإياهم في الدنيا بعلامات ويحتمل أن يكون وهم يحملون إلى النار وسيماهم تسويد الوجه وتشويه الخلق، وقال أبو مجلز: الملائكةتنادي رجالاً في النار وهذا على تفسيره أنّ الأعراف هم ملائكة والجمهور على أنهم آدميون ولفظ {رِجَالاً } يدل علىأنهم غير معينين، وقال ابن القشيري: ينادي أصحاب الأعراف رؤساء المشركين قبل امتحاء صورهم بالنار يا وليد بن المغيرة ياأبا جهل بن هشام يا عاصي بن وائل يا عتبة بن أبي معيط يا أمية بن خلف يا أبي بنخلف يا سائر رؤساء الكفّار {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } في الدنيا المال والولد والأجناد والحجاب والجيوش {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان انتهى، {وَمَا أُغْنِى } استفهام توبيخ وتقريع، وقيل: نافية و {مَا } في و {مَّا كُنتُمْ }مصدريّة أي وكونكم تستكبرون وقرأت فرقة تستكثرون بالثاء مثلثة من الكثرة. {أَهَـٰؤُلاء ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ * بِرَحْمَتِهِ*ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } الظاهر أنّ هذا من جملة مقول أهل الأعراف وتكون الإشارة إلىأهل الجنة الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحقّرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم في الدنيا وكانوا يقسمون بالله تعالى لا يدخلهم الجنةقاله الزمخشري، وذكره ابن عطية عن بعض المتأوّلين، قال: الإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة والمخاطبون هم أهل الأعراف والذين خوطبواأهل النار والمعنى {أَهَـٰؤُلاء } الضعفاء في الدنيا الذين حلفتهم أن الله لا يعبأ بهم قبل لهم ادخلوا الجنة، وقالابن عباس: {أَهَـٰؤُلاء } من كلام ملك بأمر الله إشارة إلى أهل الأعراف ومخاطبة لأهل النار، قال النقاش لما وبخوهمبقولهم {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } أقسم أهل النار أنّ أهل الأعراف داخلون النار معهم فنادتهم الملائكة {أَهَـٰؤُلاء } ثمنادى أهل الأعراف ادخلوا الجنة، وقيل: الإشارة بهؤلاء إلى أهل الأعراف والقائلون هم أصحاب الأعراف ثم يرجعون إلى مخاطبة أنفسهمفيقول بعضهم لبعض {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } قاله الحسن، وقيل: الإشارة إلى المؤمنين الذين كان الكفار يحلفون أنهم لا يدخلون الجنةوالقائل إما الله وإما الملائكة، وقيل: المشار بهؤلاء أصحاب الأعراف والقائل مالك خازن النار يأمر الله تعالى، وقال أبو مجلز:أهل الأعراف هم الملائكة وهم القائلون {أَهَـٰؤُلاء } إشارة إلى أهل الجنة، وكذلك مجيء قول من قال أهل الأعراف أنبياءوشهداء، وقرأ الحسن وابن هرمز: أدخلوا من أدخل أي أدخلوا أنفسكم أو يكون خطاباً للملائكة ثم خاطب بعد البشر.وقرأ عكرمة دخلوا إخباراً بفعل ماض، وقرأ طلحة وابن وثاب والنخعي {أَدْخِلُواْ } خيراً مبنيّاً للمفعول وعلى هاتين القراءتين يكونقوله {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ } على تقدير مقولاً لهم لا خوف عليكم، قال الزمخشري: يقال لأهل الأعراف ادخلوا الجنة بعدأن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون وفائدة ذلك بيان أنّ الجزاء على قدر الأعمالوأنّ التقدّم والتأخر على حسبها وأنّ أحداً لا يسبق عند الله تعالى إلا بسبقه من العمل ولا يتخلّفه إلا بتخلّفهوليرغب السامعون في حال السابقين ويحصروا على إحراز قصبهم وأنّ كلاًّ يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بهامن أهل الخير والشرّ فيرتدع المسيء عن إساءته ويزيد المحسن في إحسانه وليعلم أن العصاة يوبخهم كلّ أحد حتى أقصرالناس عملاً انتهى، وهو تكثير من باب الخطابة لا طائل تحته وفيه دسيسة الاعتزال، وعن حذيفة أنّ أهل الأعراف يرغبونفي الشفاعة فيأتون آدم فيدفعهم إلى نوح ثم يتدافعهم الأنبياء حتى يأتوا محمداً فيشفع لهم فيشفعفيدخلون الجنة فيلقون في نهر الحياة فيبيضون ويسمون مساكين الجنة، قال سالم مولى أبي حذيفة: ليت أني من أهل الأعراف.{وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى} وهذا يقتضي سماع كل من الفريقين كلام الآخر وهذا جائز عقلاً على بعد المسافة بينهما من العلو والسّفل وجائزأن يكون ذلك مع رؤية واطّلاع من الله وذلك أخزى وأنكى للكفّار، وجائز أن يكون ذلك وبينهم الحجاب والسّور، وعنابن عباس أنه لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرح بعد اليأس فقالوا: يا ربّ لناقرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فينظرون إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر أهلالجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهموأخبروهم بقراباتهم فينادي الرجل أخوه فيقول يا أخي قد احترقت فأغثني فيقول: إنّ الله حرّمهما على الكافرين ويحتمل أن تكونمصدرية ومفسّرة، وكلام ابن عباس يدل على أنّ هذه النداء كان عن رجاء وطمع حصول ذلك، وقال القاضي هو معاليأس لأنهم قد علموا دوام عقابهم وأنهم لا يفتر عنهم ولكن اليائس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثلالغريق يتعلق بالزّبد وإن علم أنه لا يغنيه انتهى، و {أَفِيضُواْ } أمكن من اسقونا لأنها تقتضي التوسعة كما يقالأفاض الله عليه نعمه أي وسعها وسؤالهم الماء لشدّة التهابهم واحتراقهم ولأنّ من عادته إطفاء النار أو مما رزقكم اللهلأنّ البنية البشرية لا تستغني عن الطعام إذ هو مقوّيها أو لرجائهم الرّحمة بأكل طعام و {أَوْ } على بابهامن كونهم سألوا أحد الشيئين وأتى {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } عاماً والعطف بأو يدل على أنّ الأول لا يندرجفي العموم، وقيل: أو بمعنى الواو لقولهم إنّ الله حرمهما، وقيل المعنى حرم كلاًّ منهما فأو على بابها وما رزقكمالله عام فيدخل فيه الطعام والفاكهة والأشربة غير الماء وتخصيصه بالثمرة أو بالطعام أو غير الماء من الأشربة أقوال ثانيهاللسدّي وثالثها للزمخشري قال: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة فقال: ويجوز أنيراد وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله:

علفتها تبناً وماء باردا    

وإنما يطلبون ذلك مع يأسهممن الإجابة إليه حيرة في أمرهم كما يفعله المضطر الممتحن انتهى وقوله وإنما يطلبون إلى آخره هو كلام القاضي وقدقدّمناه ويجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون {أَفِيضُواْ } ضمنمعنى ألقوا {عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } فيصحّ العطف ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكون أضمرفعلاً بعد {أَوْ } يصل إلى {مِمَّا رَزَقَكُمُ } وهو ألقوا وهما مذهبان للنحاة فيما عطف على شيء بحرف عطفوالفعل لا يصل إليه والصحيح منهما التضمين لا الإضمار على ما قرّرناه في علم العربية ومعنى التحريم هنا المنع كماقال:

حرام على عينيّ أن تطعما الكرى    

وإخبارهم بذلك هو عن أمر الله.{الذين اتخذوا دينهملهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا} تقدم تفسير مثل هذا في الأنعام. {فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـٰذَا وَمَاكَانُواْ بِـئَايَـٰتِنَا يَجْحَدُونَ } هذا إخبار من الله عما يفعل بهم، قال ابن عباس وجماعة يتركهم في العذاب كما تركواالنظر للقاء هذا اليوم، وقال قتادة: {نَسُواْ } من الخير ولم ينسوا من الشر، وقال الزمخشري: يفعل بهم فعل الناسينالذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به {كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـٰذَا } كما فعلوا بلقائه فعل الناسين فلميخطروه ببالهم ولم يهتمّوا به، وقال الحسن والسدّي أيضاً والأكثرون تتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم انتهى، وإنقدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة الله بتسمية العقوبة باسم الذنب {وَمَا كَانُواْ } معطوف على مانسوا وما فيهما مصدرية ويظهر أنّ الكاف في {كَمَا } للتعليل. {وَلَقَدْ جِئْنَـٰهُمْ بِكِتَـٰبٍ فَصَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةًلّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الضمير في {وَلَقَدْ جِئْنَـٰهُمْ } عائد على من تقدم ذكره ويكون الكتاب على هذا جنساً أي {بِكِتَـٰبٍ} إلۤهي إذ الضمير عام في الكفار، وقال يحيى بن سلام الضمير لمكذبي محمد وهو ابتداءكلام وتمّ الكلام عند قوله {يَجْحَدُونَ } والكتاب هو القرآن و {فَصَّلْنَاهُ } عالمين كيفية تفصيله من أحكام ومواعظ وقصصوسائر معانيه، وقيل: {فَصَّلْنَاهُ } بإيضاح الحق من الباطل، وقيل: نزلناه في فصول مختلفة. وقرأ ابن محيصن والجحدري فضلناه بالضادالمنقوطة والمعنى فضلناه على جميع الكتب عالمين بأنه أهل للتفضيل عليها وفي التحرير أنه فضل على سائر الكتب المنزلة بثلاثينخصلة لم تكن في غيره و {فَصَّلْنَاهُ } صفة لكتاب وعلى علم الظاهر أنه حال من فاعل {فَصَّلْنَاهُ } وقيلالتقدير مشتملاً على علم فيكون حالاً من المفعول وانتصب {هُدًى وَرَحْمَةً } على الحال، وقيل مفعول من أجله، وقرىء بالرفعأي هو {هُدًى وَرَحْمَةً }، وقرأ زيد بن عليّ هدى ورحمة بالخفض على البدل من كتاب أو النعت وعلى النعتلكتاب خرّجه الكسائي والفرّاء رحمهما الله. {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي مآل أمره وعاقبته قاله قتادة ومجاهد وغيرهما،قال ابن عباس مآله يوم القيامة. وقال السدّي في الدنيا كوقعة بدر ويوم القيامة أيضاً، وقال الزمخشري ما يؤول إليهمن تبيين صدقه وظهور صحته ما نطق به من الوعد الوعيد والتأويل مادته همزة وواو ولام من آل يؤول، وقالالخطابي: أوّلت الشيء رددته إلى أوّله فاللفظة مأخوذة من الأول انتهى وهو خطأ لاختلاف المادتين. {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِٱلْحَقّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا } أي يظهر عاقبة ماأخبر به من الوعد والوعيد وذلك يوم القيامة يسأل تاركوا أتباع الرسول هل لنا من شفعاء سؤالاً عن وجه الخلاصفي وقت أن لا خلاص وفي الكلام حذف أي لقد جاءت رسل ربّنا بالحق ولم نصدقهم أو ولم نتبعهم {فَهَللَّنَا مِن شُفَعَاء } والرّسل هنا الأنبياء أخبروا يوم القيامة أنّ الذي جاءتهم به رسلهم هو الحق. وقيل: ملائكة العذابعند المعاينة ما أنذروا به، وقرأ الجمهور {أَوْ نُرَدُّ } برفع الدّال فنعمل بنصب اللام عطف جملة فعلية على جملةاسمية وتقدّمهما استفهام فانتصب الجوابان أي هل شفعاء لنا فيشفعوا لنا في الخلاص من العذاب أو هل نرد إلى الدّنيافنعمل عملاً صالحاً، وقرأ الحسن: فيما نقل الزمخشري بنصب الدال ورفع اللام، وقرأ الحسن فيما نقل ابن عطية وغيره برفعهماعطف {فَنَعْمَلَ } على {نُرَدُّ }، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة بنصبهما فنصب {أَوْ نُرَدُّ } عطفاً على {فَيَشْفَعُواْلَنَا } جواباً على جواب فيكون الشفعاء في أحد أمرين إما في الخلاص من العذاب وإما من الرّد إلى الدنيالاستئناف العمل الصالح وتكون الشفاعة قد انسحبت على الردّ أو الخلاص و {فَنَعْمَلَ } عطف على فنرد ويحتمل أن يكون{أَوْ نُرَدُّ } من باب لألزمنك أو تقضيني حقي على تقدير من قدّر ذلك حتى تقضيني حقي أو كي تقضينيحقي فجعل اللزوم مغياً بقضاء حقه أو معلولاً له لقضاء حقه وتكون الشفاعة إذ ذاك في الرد فقط وأما علىتقدير سيبويه ألا إني لألزمنك إلا أن تقضيني فليس يظهر أنّ معنى {أَوْ } معنى إلا هنا إذ يصير المعنىهل تشفع لنا شفعاء إلا أن نرد وهذا استثناء غير ظاهر وقولهم هذا هل هو مع الرّجاء أو مع اليأسفيه الخلاف الذي في ندائهم {أَنْ أَفِيضُواْ }، قال القاضي وهي تدل على حكمين على أنهم كانوا قادرين على الإيمانوالتوبة ولذلك سألوا الردّ الثاني إن أهل الآخرة غير مكلفين خلافاً للمجبرة والنجار لأنها لو كانت كذلك ما سألوا الردّبل كانوا يتوبون ويؤمنون. {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي خسروا في تجارة أنفسهم حيثابتاعوا الخسيس الفاني من الدّنيا بالنفيس الباقي من الآخرة وبطل عنهم افتراؤهم على الله ما لم يقله ولا أمرهم بهوكذّبهم في اتخاذ آلهة من دون الله. {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *فِي سِتَّةِ * أَيَّامٍثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكرمعادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكما القدرة والعلم والقضاء ثمبعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة، وربّكم خطاب عام للمؤمن والكافر،وروى بكار بن {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ } بنصب الهاء عطف بيان والظاهر أنه {خُلِقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * فِي سِتَّةِأَيَّامٍ } وعلى هذا الظاهر فسّر معظم الناس وبدأ بالخلق يوم الأحد وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أخذبيدي رسول الله فقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بعد العصر إلى الليل ، وقال عدي بن زيد العبادي:قضى لستة أيام خليقته، وكان آخر يوم صوّر الرّجلا، وهو اختيار محمد بن إسحاق، قال ابن الأنباري هذا إجماع أهلالعلم. وقال عبد الله بن سلام وكعب والضحّاك ومجاهد واختاره الطبري بدأ بالخلق يوم الأحد وبه يقول أهل التوراة،وقيل يوم الإثنين وبه يقول أهل الإنجيل، قال ابن عباس وكعب ومجاهد والضحّاك مقدار كل يوم من تلك الأيام ألفسنة ولا فرق بين خلقه تعالى ذلك في لحظة واحدة أو في مدد متوالية بالنسبة إلى قدرته تعالى وإبداء معانلذلك كما زعمه بعض المفسرين قول بلا برهان فلا نسوّد كتابنا بذكره وهو تعالى المنفرد بعلم ذلك، وذهب بعض المفسرينإلى أنّ التقدير في قوله {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } في مقدار ستة أيام فليست ستة الأيام أنفسها وقع فيها الخلقوهذا كقوله

{ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }

والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولانهار وإنما ذهب الذاهب إلى هذا لأنه إنما يمتاز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها قبل خلق الشمس والقمر كيفيعقل خلق الأيام والذي أقول: إنه متى أمكن حمل الشيء على ظاهره أو على قريب من ظاهره كان أولى منحمله على ما لا يشمله العقل أو على ما يخالف الظاهر جملة وذلك بأن يجعل قوله {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }ظرفاً لخلق الأرض لا ظرفاً لخلق السموات والأرض فيكون {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } مدة لخلق الأرض بتربتها وجبالها وشجرها ومكروههاونورها ودوابها وآدم عليه السلام وهذا يطابق الحديث الثابت في الصحيح وتبقى ستة أيام على ظاهرها من العددية ومن كونهاأياماً باعتبار امتياز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها وأما استواؤه على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته علىالعرش قوم والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها علىما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات. وقال سفيان الثوري فعل فعلاً فيالعرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال {ٱلْعَرْشِ } مصدر عرش يعرش عرشاً والمراد بالعرش في قوله{ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين ومسألة الاستواءمذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد الله الرازي وذكر ذلكفي التحرير فيطالع هناك ولفظة {ٱلْعَرْشِ } مشتركة بين معان كثيرة فالعرش سرير الملك ومنه ورفع أبويه على العرش نكروالها عرشها و {ٱلْعَرْشِ } السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش و {ٱلْعَرْشِ } الملك والسلطان والعزّ، وقال زهير:

تداركتما عبساً وقد ثل عرشها     وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل

وقال آخر:

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم     بعتيبة بن الحارث بن شهاب

والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة والعرش أربعة كواكبصغار أسفل من العواء يقال لها: عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع واستوى أيضاًيستعمل بمعنى استقرّ وبمعنى علا وبمعنى قصد وبمعنى ساوى وبمعنى تساوى وقيل بمعنى استولى وأنشدوا:

هما استويا بفضلهما جميعا     على عرش الملوك بغير زور

وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰعَلَى ٱلْعَرْشِ } يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }

لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبرمبتدأ محذوف والضمير في {ٱسْتَوَىٰ } عائد على الخلق المفهوم من قوله

تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلاْرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى    

أيهو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسعمن السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا معالدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك. وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه الآية فقال:كيف استوى فأطرق رأسه مليّاً وعلّته الرخصاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعةوما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج. {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ } التغشية التغطية والمعنى أنه يذهبالليل نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل والنهار فالليل للسكون والنهار للحركة وفحوى الكلام يدلّ على أنّالنهار يغشيه الله الليل وهما مفعولان لأنّ التضعيف والهمزة معدّيان، وقرأ بالتضعيف الأخوان وأبو بكر وبإسكان الغين باقي السبعة وبفتحالياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس كذا قال عنه أبو عمرو الداني، وقال أبو الفتح عثمانبن جني عن حميد بنصب {ٱلَّيْلَ } ورفع {ٱلنَّهَارَ }، قال ابن عطية وأبو الفتح أثبت انتهى وهذا الذي قالهمن أنّ أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلكبالمكان الذي لا يدانيه أحد من أثمة القراءات فضلاً عن النحاة الذين ليسوا مقرئي ولا رووا القرآن عن أحد ولاروي عنهم القرآن هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النّقل وعدم التجاسر ووفور الخط من العربية فقد رأيت له كتاباًفي كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاًّ على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أثمة النحاة ولاالمقرئين إلى سائر تصانيفه رحمه الله والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأنّ ذلك موافقلقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وإن كان منصوباً هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيرهمفعولاً ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدّى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنىفيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيداً عمراً إذ رتبة التقديم هي الموضّحة أنه الفاعل منحيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى والجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليلإذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثاً ويجوز أن يكون حالاً من النهار وتقديره محثوثاً ويجوز أن ينتصب نعتاًلمصدر محذوف أي طلباً حثيثاً أي حثاً أو محثاً ونسبة الطلب إلى الليل مجازية وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكأنهطالب له لا يدركه بل هو في إثره بحيث يكاد يدركه وقدّم الليل هنا كما قدمه في

{ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ }

وفي

{ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ }

وفي

وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ    

، وقال أبو عبد الله الرازي وصف هذهالحركة بالسرعة والشدة لأنّ تعاقب الليل والنهار يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدّة حتى إنّالباحثين عن أحوال الموجودات قالوا: الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل قبل أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظمثلاثة آلاف ميل ولهذا قال: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } ونظيره { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا } الآية شبه ذلك المسير وتلك الحركةبالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على السرعة والسهولة وكمال الاتصال انتهى وفيه بعض تلخيص. {وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ بِأَمْرِهِ} انتصب {مُسَخَّرٰتٍ } على الحال من المجموع أي وخلق الشمس، وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر،وقرأ أبلان بن ثعلب برفع {وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ } فقط على الابتداء والخبر ومعنى {بِأَمْرِهِ } بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخراتأي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنّهن مأمورات بذلك، وقال أبوعبد الله الرازي الشمس لها نوعان من الحركة أحدهما بحسب ذاتها وذلك يتم في سنة كاملة وبسبب ذلك تحصل السّنة،والثاني حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ويتم في اليوم بليلته فتقول الليل والنهار لا يحصلان بحركة الشمس وإنما يحصلان بحركةالسماء الأقصى الذي يقال له العرش فلهذا السبب لما دل على العرش بقوله {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } وربط بقوله{وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ بِأَمْرِهِ } تنبيهاً على أنّ الفلك الأعظم وهو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها منالمشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم الشمس قوة قاهرة باعتبارها قويت على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها علىخلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله، انتهى. وتكلم في قوله {مُسَخَّرٰتٍ بِأَمْرِهِ} كلاماً كثيراً هو من علم الهيئة وهو علم لم ننظر فيه قال: أربابه وهو علم شريف يطلع فيه علىجزئيات غريبة من صنعة الله تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجمليتها، وقيل {بِأَمْرِهِ} أي بنفاذ إرادته إذ المقصود تبيين عظيم قدرته لقوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } وقوله { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء }

.وقيل الأمر هو الكلام. {أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلاْمْرُ } لما تقدّم ذكر خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمرهفيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه فيذلك ولا في شيء منه، وقيل: الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلىهذا قال النقاش وغيره: الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى،وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعيّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه، وقال الشعبي: الخلق عبارة عن الدنياوالأمر عبارة عن الآخرة. {تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي علا وعظم ولما تقدّم {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ } صدرالآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء {ٱلْعَـٰلَمِينَ } أعمّ من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهيعوالم كثيرة فجاء العالمين جمعاً لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم.

{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

عدل

{ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } الظاهر أنّ الدعاء هو مناجاة الله بندائهلطلب أشياء ولدفع أشياء، وقال الزّجاج: المعنى اعبدوا وانتصب {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } على الحال أي متضرّعين ومخفين أو ذوي تضرّعواختفاء في دعائكم وفي الحديث الصحيح إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وكان الصحابة حين أخبرهمالرسول بذلك قد جهروا بالذكر أمر تعالى بالدعاء مقروناً بالتذلل والاستكانة والاختفاء إذ ذاك ادّعى للإجابة وأبعد عن الرياء والدعاءخفية أفضل من الجهر ولذلك أثنى الله على زكريا عليه السلام فقال:

{ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً }

وفي الحديث خير الذّكر الخفي وقواعد الشريعة مقررة أن السرّ فيما لم يفترض من أعمال البر أعظم أجراً من الجهر. قال الحسن:أدركنا أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سراً فيكون جهراً أبداً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاءولا يسمع لهم صوت إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم انتهى ولو عاش الحسن إلى هذا الزمان العجيب الذيظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصّلاح ويتركون الاكتساب ويرتبون لهم إذكاراً لم ترد في الشريعةيجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداماً يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعون عنهم كرامات ويرون لهم منامات يدوّنونهافي أسفار ويحضون على ترك العلم والاشتغال بالسنّة ويرون الوصول إلى الله بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بهاكتاب منزل ولا نبي مرسل ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة ونصب أيديهم للتقبيل وقلّة الكلام وإطراق الرؤوس وتعيين خادميقول الشيخ مشغول في الخلوة رسم الشيخ قال الشيخ رأى الشيخ الشيخ نظر إليك الشيخ كان البارحة يذكرك إلى نحومن هذه الألفاظ التي يخشون بها على العامة ويجلبون بها عقول الجهلة هذا إن سلم الشيخ وخادمه من الاعتقاد الذيغلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول أو القول بالوحدة فإذ ذاك يكون منسلخاً عن شريعة الإسلام بالكليّةوالتعجب لمثل هؤلاء كيف ترتب لهم الرّواتب وتبنى لهم الربط وتوقف عليها الأوقاف ويخدمهم الناس في عروهم عن سائر الفضائلولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلم فينتفع به،وقرأ أبو بكر بكسر ضمة الخاء وهما لغتان ويظهر ذلك من كلام أبي علي ولا يتأتى إلا على ادعاء القلبوهو خلاف الأصل ونقل ابن سيده في المحكم أنّ فرقة قرأت {وَخِيفَةً } من الخوف أي ادعوه باستكانة وخوف. وقالأبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } وقرأ ابن أبي عبلة إن الله جعل مكانالمضمر المظهر وهذا اللفظ عام يدخل فيه أوّلاً الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرّع وعدم الخفية بأن يدعوهوهو ملتبس بالكبر والزهو أو أن ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك له صنعة وعادة فلا يلحقه تضرّع ولاتذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات، وقال العلماء الاعتداء في الدعاء على وجوهمنها الجهر الكثير والصّياح وأن يدعو أن يكون له منزلة نبي وأن يدعو بمحال ونحوه من الشّطط وأن يدعو طالبمعصية، وقال ابن جريج والكلبي الاعتداء رفع الصوت بالدعاء وعنه الصّياح في الدعاء مكروه وبدعة وقيل هو الإسهاب في الدعاءقال القرطبي وقد ذكر وجوهاً من الاعتداء في الدعاء قال: ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب العزيز ولا فيالسّنة فيتخير ألفاظاً مقفاة وكلمات مسجعة وقد وجدها في كراريس لهؤلاء يعني المشايخ لا معوّل عليها في فيجعلها شعاره يتركما دعا به رسول الله وكل هذا يمنع من استجابة الدّاء، وقال ابن جبير: الاعتداء فيالدّعاء أن يدعو على المؤمنين بالخزي والشّرك واللعنة، وفي سنن ابن ماجة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول:اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: أي بني سل الله الجنة وعُذْ به من النارفإنّي سمعت رسول الله يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء زاد ابن عطية والزمخشري في هذاالحديث وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا }.هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إيقاع الفساد في الأرض وإدخالماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان ومعنى {بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا } بعد أنْ أصلحالله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وما روي عن المفسّرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح ينبغيأن يحمل ذلك على التمثيل إذا ادّعاءه تخصيص شيء من ذلك لا دليل عليه كالظلم بعد العدل أو الكفر بعدالإيمان أو المعصية بعد الطاعة أو بالمعصية فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بعد إصلاحها بالمطر والخصب أو يقتل المؤمن بعدبقائه أو بتكذيب الرّسل بعد الوحي أو بتغوير الماء المعين وقطع الشجر والثمر ضراراً أو يقطع الدنانير والدراهم أو بتجارةالحكام أو بالإشراك بالله بعد بعثة الرسل وتقرير الشرائع وإيضاح الملة. {وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } لما كان الدّعاء منالله بمكان كرره فقال أولاً {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوتليست من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين فبدأ أوّلاً بأفعال الجوارح ثم ثانياً بأفعال القلوب وانتصب {خَوْفًا وَطَمَعًا} على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاءمتساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان وقد قال كثير من العلماء: ينبغيأن يغلب الخوف الرّجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرّجاء ورأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب ومنهتمنى الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة وتمنّى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون منأصحاب الأعراف لأنّ مذهبه أنهم مذنبون وسالم هذا من رتبة الدّين والفضل بحيث قال عمر بن الخطاب كلاماً معناه لوكان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته الخلافة وأبعد من ذهب إلى أن المعنى خوفاً من الردّ وطمعاً في الإجابة.{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا } قال الزمخشري: كقوله:

{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً }

، انتهى.يعني أنّ الرحمة مختصة بالمحسن وهو من تاب وآمن وعمل صالحاً وهذا كله حمل القرآن وإنما على مذهبه من الاعتزالوالرحمة مؤنثة فقياسها أن يخبر عنها إخبار المؤنّث فيقال قريبة، فقيل: ذكر على المعنى لأنّ الرحمة بمعنى الرحم والترحّم، وقيل:ذكر لأنّ الرحمة بمعنى الغفران والعفو قاله النضر بن شميل واختاره الزّجاج، وقيل بمعنى المطر قاله الأخفش أو الثواب قالهابن جبير فالرحمة في هذه الأقوال بدل عن مذكر. وقيل: التذكير على طريق النسب أي ذات قرب، وقيل: قريب نعتلمذكر محذوف أي شيء قريب، وقيل: قريب مشبّه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول نحو خصيب وجريح كما شبه فعيل بهفقيل شيئاً من أحكامه فقيل في جمعه فعلاء كأسير وأسراء وقتيل وقتلاء كما قالوا: رحيم ورحماء وعليم وعلماء، وقيل: هومصدر جاء على فعيل كالضغيث وهو صوت الأرنب والنقيق وإذا كان مصدر أصح أن يخبر به عن المذكر والمؤنث والمفردوالمثنى والمجموع بلفظ المصدر، وقيل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي قاله الجوهري، وهذا ليس بجيد إلاّ مع تقديم الفعل أماإذا تأخر فلا يجوز إلا التأنيث تقول الشمس طالعة ولا يجوز طالع إلا في ضرورة الشعر بخلاف التقديم فيجوز أطالعةالشمس وأطالع الشمس كما يجوز طلعت الشمس وطلع الشمس ولا يجوز طلع إلا في الشّعر، وقيل: فعيل هنا بمعنى المفعولأي مقربة فيصير من باب كفّ خضيب وعين كحيل قاله الكرماني، وليس بجيد لأن ما ورد من ذلك إنما هومن الثلاثي غير المزيد وهذا بمعنى مقربة فهو من الثلاثي المزيد ومع ذلك فهو لا ينقاس، وقال الفرّاء إذا استعملفي النسب والقرابة فهو مع المؤنث بتاء ولا بدّ تقول هذه قريبة فلان وإن استعملت في قرب المسافة أو الزمنفقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول دارك مني قريب وفلانة منا قريب، ومنه هذا وقول الشاعر:

عشية لا عفراء منك قريبة     فتدنو ولا عفراء منك بعيد

فجمع في هذا البيت بين الوجهين، قال ابنعطية: هذا قول الفرّاء في كتابه وقد مرّ في كتب بعض المفسرين مغيراً انتهى، وردّ الزّجاج وقال هذا على الفراءهذا خطأ لأنّ سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما وقال من احتج له هذا كلام العرب، قال تعالى:

{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }

. وقال الشاعر:

له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم     قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

وقال أبو عبيدة {قَرِيبٌ } في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع فتجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجمع وكذلك بعيد فإن جعلوها صفة بمعنى مقتربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات. قال علي بن سليمان وهذا خطأولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول إنّ زيداً قريباً منك انتهى وليس بخطأ لأنه يكون قد اتسعفي الظرف فاستعمله غير ظرف كما تقول هند خلفك وفاطمة أمامك بالرّفع إذا اتسعت في الخلف والأمام وإنما يلزم النصبإذا بقيتا على الظّرفية ولم يتسع فيهما وقد أجازوا أنّ قريباً منك زيد على أن يكون قريباً اسم إنّ وزيدالخبر فاتسع في قريب واستعمل اسما لا منصوباً على الظّرف والظاهر عدم تقييد قرب الرحمة من المحسن بزمان بل هيقريب منه مطلقاً وذكر الطبري أنه وقت مفارقة الأرواح للأجساد تنالهم الرحمة.

وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } * { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } * { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } * { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } * { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } * { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً فَٱذْكُرُوۤاْ آلآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } * { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيۤ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ } * { فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } * { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً فَٱذْكُرُوۤاْ آلآءَ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } * { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا بِٱلَّذِيۤ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } * { فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } * { فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّاصِحِينَ } * { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن ٱلْعَالَمِينَ } * { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } * { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } * { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ } * { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

عدل

أقلّ الشيء حمله ورفعه من غير مشقة ومنه إقلال البطن عن الفخذفي الركوع والسجود ومنه القلّة لأنّ البعير يحملها من غير مشقة وأصله من القلة فكان المقلّ يرى ما يرفعه قليلاًواستقل به أقله، السّوق حمل الشيء بعنف. النّكد العسر القليل. قال الشاعر:

لا تنجز الوعد إن وعدت وإن     أعطيت أعطيت قافها نكدا

ونكد الرجل سئل إلحافاً وأخجل. قال الشاعر:

وأعطِ ما أعطيته طيبا     لا خير في المنكود والناكد

الآلاء النعم واحدها إلى كمعى. أنشد الزجاج:

أبيض لا يرهب الهزال ولا     يقطع رحمي ولا يخون إلى

وإلى بمعنى الوقت أو إلى كقفا وإلى كحسى أو إلى كجرو، وقع قال النضر بن شميل قرع وصدر كوقوعالميقعة وقال غيره: نزل والواقعة النازلة من الشدائد والوقائع الحروب والميقعة المطرقة. قال بعض أدبائنا:

ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعة     وتارة في ذرى تاج على ملك

ثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها ويأتي ذكره في التفسير إنشاء الله. النّاقة الأنثى من الجمال وألفهامنقلبة عن الواو وجمعها في القلة أنوق وأنيق وفيه القلب والإبدال وفي الكثرة نياقونوق واستنوق الجمل إذا صار يشبه الناقة. السّهل ما لان من الأرض وانخفض وهو ضدّ الحزن. القصر الدار التي قصرتعلى بقعة من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود سمي بذلك لقصور الناس عن ارتقائه أو لقصور عامّتهم عن بنائه. النّحتالنجر والنّشر في الشيء الصلب كالحجر والخشب. قال الشاعر:

أما النهار ففي قيد وسلسلة     والليل في بطن منحوت من السّاج

عقرت الناقة قتلتها فهي معقورة وعقير ومنه من عقر جواده قاله ابن قتيبة. وقال الأزهري العقر عند العربكشف عرقوب البعير، ولما كان سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وإن لم يكن هناكقطع للعرقوب. قال امرؤ القيس:

ويوم عقرت للعذارى مطيّتي     فيا عجباً من كورها المتحمّل

وقال غيره والعقر بمعنىالجرح. قال:

تقول وقد مال الغبيط بنا معا     عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

عتا يعتو عتوّاً استكبر.الرجفة الطامّة التي يرجف لها الإنسان أي يتزعزع ويضطرب ويرتعد ومنه ترجف بوادره وأصل الرّجف الاضطراب، رجفت الأرض والبحر رجافلاضطرابه، وأرجف الناس بالشر خاضوا فيه واضطربوا، ومنه الأراجيف ورجف بهم الجبل. قال الشاعر:

ولما رأيت الحج قد حان وقته     وظلت جمال القوم بالحي ترجف

الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض السّاقين كما يرقد الأرنب والطير. غبربقي. قال أبو ذؤيب:

فغبرت بعدهم بعيش ناضب     وإخال أني لاحق مستبقع

هذا المشهور في اللغة ومنه غبرالحيض. قال أبو بكر الهذلي:

ومبرّأ من كل غبر حيضة     وفساد مرضعة وداء معضل

وغبر اللبن في الضّرعبقيته وحكى أهل اللغة غبر بمعنى مضى، قال الأعشى:

غض بما ألقى المواسي له     من أمّه في الزمن الغابر

وبمعنى غاب ومنه عبر عنا زماناً أي غاب قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة غبر عمر دهراً طويلاً حتى هرم،المطر معروف، وقال أبو عبيد يقال في الرّحمة مطر وفي العذاب أمطر وهذا معارض بقوله

{ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا }

فإنهملم يريدوا إلا الرّحمة وكلاهما متعدّ يقال مطرتهم السماء وأمطرتهم، شعيب اسم نبيّ وسيأتي ذكر نسبه في التفسير إن شاءالله. {وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ * بُشْرًاَ بَيْنَ * يَدَىْ رَحْمَتِهِ } لما ذكر تعالى الدلائل على كمال إلۤهيتهوقدرته وعلمه من العالم العلوي أتبعهما بالدلائل من العالم السفلي وهي محصورة في آثار العالم العلوي ومنها الرّيح والسحاب والمطروفي المعدن والنبات والحيوان ويترتب على نزول المطر أحوال النبات وذلك هو المذكور في الآية وانجرّ مع ذلك الدلالة علىصحة الحشر والنشر البعث والقيامة وانتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد وجعل الخبر موصولاً في أنّ ربكم الله الذي وفى{وَهُوَ ٱلَّذِى } دلالة على كون ذلك معهوداً عند السامع مفروغاً من تحقّق النسبة فيه والعلم به ولم يأتِ التركيبإنّ ربكم خلق ولا وهو يرسل الرياح، وقرأ الرّياح نشراً جمعين وبضم الشين جمع ناشر على النسب أي ذات نشرمن الطي كلابن وتامر وقالوا نازل ونزل وشارف وشرف وهو جمع نادر في فاعل أو نشور من الحياة أو جمعنشور كصبور وصبر وهو جمع مقيس لا جمع نشور بمعنى منشور خلافاً لمن أجاز ذلك لأنّ فعولاً كركوب بمعنى مركوبلا ينقاس ومع كونه لا ينقاس لا يجمع على فعل الحسن والسلمي وأبو رجاء واختلف عنهم والأعرج وأبو جعفر وشيبةوعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان ونافع وأبو عمرو، وقرأ كذلك جمعاً إلا أنهم سكّنوا الشين تخفيفاً منالضم كرسل عبد الله وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر، وقرأ نشراً بفتحالنون والشين مسروق فيما حكى عنه أبو الفتح وهو اسم جمع كغيب ونشىء في غائبة وناشئة، وقرأ ابن كثير الرّيحمفرداً نشراً بالنون وضمّها وضمّ الشين فاحتمل نشراً أن يكون جمعاً حالاً من المفرد لأنه أريد به الجنس كقولهم: العربهم البيض واحتمل أن يكون مفرداً كناقة سرح، وقرأ حمزة والكسائي نشراً بفتح النون وسكون الشين مصدراً كنشر خلاف طوىأو كنشر بمعنى حيي من قولهم أنشر الله الموتى فنشروا أي حيوا. قال الشاعر:

حتى يقول الناس مما رأوا     يا عجباً للميت الناشر

وقرأ {ٱلرّيَاحِ } جمعاً ابن عباس والسّلمي وابن أبي عبلة {بَشَرًا } بضم الباء والشينورويت عن عاصم وهو جمع بشيرةٍ كنذيرة ونذر، وقرأ عاصم كذلك إلا أنه سكن الشين تخفيفاً من الضم، وقرأ السلميأيضاً {بَشَرًا } بفتح الباء وسكون الشين وهو مصدر بشر المخفف ورويت عن عاصم، وقرأ ابن السميقع وابن قطيب بشرىبألف مقصورة كرجعى وهو مصدر فهذه ثماني قراءات أربعة في النون وأربع في الباء فمن قرأ بالباء جمعاً أو مصدراًبألف التأنيث ففي موضع الحال من المفعول أو مصدراً بغير ألف التأنيث فيحتمل ذلك ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعلومن قرأ بالنون جمعاً أو اسم جمع فحال من المفعول أو مصدراً فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل وأن كونحالاً من المفعول أو مصدراً ليرسل من المعنى لأنّ إرسالها هو إطلاقها وهو بمعنى النّشر فكأنه قيل بنشر الرياح نشراًووصف الريح بالنشر بأحد معنيين بخلاف الطي وبالحياة، قال أبو عبيدة: في النشر أنها المتفرقة في الوجوه، وقال الشاعر فيوصف الرّيح بالإحياء والموت:

وهبّت له ريح الجنوب وأحييت     له ريدة يحيي المياه نسيمها

والرّيدة والمريد أنه الرّيح.وقال الآخر:

إني لأرجو أن تموت الرّيح     فأقعد اليوم وأستريح

ومعنى {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } أما نعمته وهوالمطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثراً والتعيين عن إمام الرحمة بقوله {بَيْنَ يَدَىِ } من مجاز الاستعارة إذالحقيقة هو ما بين يدي الإنسان من الإحرام وقال الكرماني: قال هنا {يُرْسِلُ } لأنّ قبل ذلك {وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} فهماً في المستقبل فناسبه المستقبل وفي الفرقان وفاطر {أُرْسِلَ } لأن قبله {أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ} وبعده {وَهُوَ ٱلَّذِى } وكذا في الروم

{ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن يُرْسِلَ }

ليوافق ما قبله من المستقبل وفيفاطر قبله

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ }

وذلك ماضٍ فناسبه الماضي انتهى ملخصاً.{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ }. هذه غاية لإرسال الرّياح والمعنى أنه تعالى يرسل الرّياح مبشراتأو مبشرات إلى سوق السّحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت والسحاب اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث فيذكر كقوله

{ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ }

كقوله

{ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ }

ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله

{ وَيُنْشِىء ٱلسَّحَابَ ٱلثّقَالَ }

وكقوله

{ وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ }

وثقله بالماء الذي فيه ونسب السّوق إليه تعالى بنون العظمة التفافاً لما فيه من عظيم المنةوذكر الضمير في {سُقْنَـٰهُ } رعياً للفظ كما قلنا إنه يذكر. وقال السدّي يرسل تعالى الرياح فتأتي السحاب من بينالخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فيخرجه من ثم ثم ينتشر ويبسطه في السماء وتفتح أبواب السماء ويسيل الماء علىالسحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك قال وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي انتهى. ومذهب أهلالحق أن الله تعالى هو الذي يسخّر الرّياح ويصرفها حيث أراد بمشيئته وتقديره لا مشارك له في ذلك وللفلاسفة كيفيةفي حصول الرياح ذكرها أبو عبد الله الرازي وأبطلها من وجوه أربعة يوقف عليها في كلامه وللمنجمين أيضاً كلام فيذلك أبطله، وقال في آخره فثبت بهذا البرهان أنّ محرّك الرّياح هو الله تعالى وثبت بالدليل العقلي صحّة قوله {وَهُوَٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ }. وعن ابن عمران الرّياح ثمان أربع منها عذاب هي: القاصف والعاصف والصّرصر والعقيم وأربع منهارحمة: الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات واللام في {لِبَلَدٍ } عندي لام التبليغ كقولك قلت لك، وقال الزمخشري: لأجل بلد فجعلاللام لام العلة ولا يظهر فرق بين قولك سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً فإنّ الأوّل معناه أوصلته لك وأبلغتكهوالثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له الماء غير الذي علّل به السوق ألا ترىإلى صحة قول القائل لأجل زيد سقت لك مالك. ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدبه وعدم نباته كأنه من حيثعد الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه ولما كان ذلك موضع قرب رحمة الله وإظهار إحسانه ذكر أخص الأرضوهو البلد حيث مجتمع الناس ومكان استقرارهم ولما كان في سورة يۤس المقصد إظهار الآيات العظيمة الدالة على البعث جاءالتركيب باللفظ العام وهو قوله

{ وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلاْرْضُ ٱلْمَيْتَةُ }

وبعده {وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ * وَءايَةٌ لَّهُمْأَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ } وسكن باء الميت عاصم وأبو عمرو والأعمش. {فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَاء } الظاهر أنّ الباء ظرفيةوالضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور ويحسن عوده إليه فلا يجعل لأبعد مذكور، وقيلالباء سببيّة والضمير عائد على السحاب. وقيل عائد على المصدر المفهوم من سقناه فالتقدير بالسّحاب أو بالسّوق والثالث ضعيف لأنهعائد على غير مذكور مع وجود المذكور وصلاحيته للعود عليه. وقيل: عائد على السحاب والباء بمعنى من أي فأنزلنا منهالماء كقوله

{ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ }

أي منها وهذا ليس بجيد لأنه تضمين من الحروف. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنكُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } الخلاف في {بِهِ } كالخلاف السابق في به. وقيل: الأول عائد على السحاب والثاني على البلد عدلعن كناية إلى كناية من غير فاصل كقوله:

{ ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ }

وفاعل أملى لهم الله تعالى.{كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي مثل هذا الإخراج {نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ } من قبورهم أحياء إلى الحشر {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بإخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذ الإخراجات سواء فهذا الإخراج المشاهد نظير الإخراج الموعود به خرج البيهقي وغيره عنرزين العقيلي قال قلت: يا رسول الله كيف يعيد الله الخلق وما آية ذلك في خلقه؟ قال أما مررت بوادي قومك جدياً ثم مررت به خضراً قال: نعم قال: فتلك آية الله في خلقه انتهى، وهل التشبيه في مطلق الإخراجودلالة إخراج الثمرات على القدرة في إخراج الأموات أم في كيفيّة الإخراج وأنه ينزل مطر عليهم فيحيون كما ينزل المطرعلى البلد الميّت فيحيا نباته احتمالان، وقد روي عن أبي هريرة أنه يمطر عليهم من ماء تحت العرش يقال لهماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع فإذا كملت أجسامهم نفخ فيها الرّوح ثم يلقي عليهم نومة فينامون فإذانفخ في الصّور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي هذا ماوعد الرحمن وصدق المرسلون. {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَٱلَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا } {ٱلطَّيّبِ }الجيّد الترب الكريم الأرض، {وَٱلَّذِى خَبُثَ } المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض، ولماقال {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } تمم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السّبخةوتلك عادة الله في إنبات الأرضين وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافياً حسناً وحذفت لفهم المعنى ولدلالة {وَٱلْبَلَدُٱلطَّيّبُ } عليها ولمقابلتها بقوله {إِلاَّ نَكِدًا } ولدلالة {بِإِذْنِ رَبّهِ } لأنّ ما أذن الله في إخراجه لا يكونإلا على أحسن حال و {بِإِذْنِ رَبّهِ } في موضع الحال وخصّ خروج نبات الطيّب بقوله {بِإِذْنِ رَبّهِ } علىسبيل المدح له والتشريف ونسبة الإسناد الشريفة الطبية إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإذنه تعالى ومعنى {بِإِذْنِ رَبّهِ} بتيسيره وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضاً والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ } عليه فكلّ من الجملتينفيه حذف وغاير بين الموصولين فصاحة وتفنّناً ففي الأولى قال: {ٱلطَّيّبِ } وفي الثانية قال: {ٱلَّذِى * خَبُثَ } وكانإبراز الصّلة هنا فعلاً بخلاف الأوّل لتعادل اللفظ يكون ذلك كلمتين الكلمتين في قوله {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ } والطيب والخبيث متقابلانفي القرآن كثيراً

{ قُل لاَّ يَسْتَوِى ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيّبُ }

و

{ يَحِلَّ * لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـائِثَ }

{ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ }

إلى غير ذلك والفاعل في {لاَ يَخْرُجُ } عائد على {ٱلَّذِى * خَبُثَ} وقد قلنا إنه صفة لموصوف محذوف والبلد لا يخرج فيكون على حذف مضاف إما من الأوّل أي ونبات الذيخبث أو من الثاني أي لا يخرج نباته فلما حذف استكنّ الضمير الذي كان مجروراً لأنه فاعل، وقيل هاتان الجملتانقصد بهما التمثيل، فقال ابن عباس وقتادة مثال لروح المؤمن يرجع إلى جسده سهلاً طيّباً كما خرج إذا مات ولروحالكافر لا يرجع إلاّ بالنّكد كما خرج إذ مات انتهى، فيكون هذا راجعاً من حيث المعنى إلى قوله {كَذٰلِكَ نُخْرِجُٱلْموْتَىٰ } أي على هذين الوصفين. وقال السدّي مثال للقلوب لما نزل القرآن كنزول المطر على الأرض فقلب المؤمنكالأرض الطيبة يقبل الماء وانتفع بما يخرج، وقلب الكافر كالسّبخة لا ينتفع بما يقبل من الماء، وقال النحاس: هو مثالللفهيم والبليد، وقال الزمخشري: وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلكوعن مجاهد ذرّية آدم خبيث وطيّب وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر وإنزله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به علىطريق الاستطراد انتهى، والأظهر ما قدّمناه من أنّ المقصود التعريف بعبادة الله تعالى في إخراج النبات في الأرض الطيبة والأرضالخبيثة دون قصد إلى التمثيل بشيء مما ذكروا، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ }مبنيّاً للمفعول، وقرأ ابن القعقاع {نَكِدًا } بفتح الكاف، قال الزّجاج: وهي قراءة أهل المدينة، وقرأ ابن مصرّف بسكونها وهمامصدران أي ذا نكد وكون نبات الذي خبث محصوراً خروجه على حالة النكد مبالغة شديدة في كونه لا يكون إلاهكذا ولا يمكن أن يوجد {إِلاَّ نَكِدًا } وهي إشارة إلى من استقر فيه وصف الخبيث يبعدعنه النزوع إلى الخير.{كَذٰلِكَ نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أي مثل هذا التصريف والترديد والتنويع ننوّع الآيات ونردّدها وهي الحجج الدالة علىالوحدانية والقدرة الباهرة التامة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرّياح منتشرات ومبشرات سبباً لإيجاد النّبات الذيهو سبب وجود الحياة وديمومتها كان ذلك أكبر نعمة الله على الخلق فقال {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أي {بِإِذْنِ رَبّهِ }.{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَـٰقَوْمِ * قَوْمٌ *ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْعَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم عليه السلام وقصّ من أخباره ماقصّ واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار وأمره تعالى بترك الذين اتخذوادينهم لعباً ولهواً وكان من بعث إليهم رسول الله أولاً غير مستجيبين له ولا مصدّقين لماجاء به عن الله قصّ تعالى عليه أحوال الرّسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التّسلية له والتأسي بهم، فبدأ بنوح إذ هو آدم الأصغر وأول رسول بعث إلى من في الأرض وأمتهأدوم تكذيباً له وأقلّ استجابة وتقدم رفع نسبه إلى آدم وكان نجّاراً بعثه الله إلى قومه وهو ابن أربعين سنةقاله ابن عباس، وقيل: ابن خمسين، وقال مقاتل ابن مائة، وقيل: ابن مائتين وخمسين، وقيل: ابن ثلاثمائة. وقال عون بنشداد: ابن ثلاثمائة وخمسين، وقال وهب: ابن أربعمائة وهذا اضطراب كثير من أربعين إلى أربعمائة فما بينهما وروي أنّ الطوفانكان سنة ألف وستمائة من عمره وهو أوّل الرّسل بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمّات والخالات وجميع الخلق الآن منذرية نوح عليه السلام وعن الزهري أنّ العرب وفارساً والروم وأهل الشام واليمن من ذرية سام بن نوح والهند والسّندوالزنج والحبشة والزّط والنوبة وكلّ جلد أسود من ولد حام بن نوح والتّرك والبربر ووراء الصين وياجوج وماجوج والصقالبة منولد يافث بن نوح، ولقد أرسلنا استئناف كلام دون واو وفي هود والمؤمنون ولقد بواو العطف، قال الكرماني لما تقدّمذكر الرسول مرات في هود وتقدّم ذكر نوح ضمنا في قوله وعلى الفلك لأنه أول من صنعها عطف في السورتينانتهى واللام جواب قسم محذوف أكّد تعالى هذا الإخبار بالقسم، قال الزمخشري: فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذهاللام إلاّ مع قد وقل عنهم قوله:

حلفت لها بالله خلفة فاجر    

لناموا قلت: إنما كان ذلك لأنّ الجملةالقسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنّة لمعنى التوقّع الذي هو معنى قد عنداستماع المخاطب كلمة القسم انتهى، وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماضٍ مثبت متصرف وكان قريباً من زمانالحال أثبت مع اللام بقد الدالّة على التقريب من زمن الحال ولم تأتِ بقد بل باللام وحدها إن لم يردالتقريب، قال ابن عباس: {أَرْسَلْنَا } بعثنا وقال غيره حملناه رسالة يؤدّيها فعلى هذا تكون الرسالة متضمنة للبعث وهنا فقالبفاء العطف وكذا في المؤمنون في قصّة عاد وصالح وشعيب هنا قال بغير فاء والأصل الفاء وحذفت في القصتين توسّعاً.واكتفاءً بالرّبط المعنوي وفي قصة نوح في هو

{ إِنِّي لَكُمْ }

على إضمار القول أي فقال إني وفي ندائه قومهتنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحدهورفض آلهتهم المسمّاة ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وغيرها والجملة المنبهة على الوصف الدّاعي إلى عبادة الله وهو انفراده بالألوهيةالمرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم ولم تأتِ بحرف عطف لأنها بيان وتفسير لعلّة اختصاصه تعالى بأن يعبد، وقرأ ابنوثاب الأعمش وأبو جعفر والكسائي غيره بالجرّ على لفظ {إِلَـهٍ } بدلاً أو نعتاً، وقرأ باقي السّبعة غيره بالرفع عطفاًعلى موضع {مِنْ إِلَـهٍ } لأنّ من زائدة بدلاً أو نعتاً، وقرأ عيسى بن عمر غيره بالنصب على الاستثناء والجرّوالرفع أفصح {وَمِنْ * إِلَـهٍ } مبتدأ و {لَكُمْ } في موضع الخبر، وقيل: الخبر محذوف أي في الوجود و{لَكُمْ } تبيين وتخصيص، و {أَخَافُ } قيل: بمعنى أتيقن وأجزم لأنه عالم أن العذاب بنزل بهم إن لم يؤمنوا،وقيل: الخوف على بابه بمعنى الحذر لأنه جوّز أن يؤمنوا وأن يستمروا على كفرهم و {يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يومالقيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان وفي هذه الجملة إظهار الشّفقة والحنوّ عليهم.{قَالَ ٱلْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } قال ابن عطية قرأ ابن عامر الملو بالواو وكذلك هيفي مصاحف أهل الشام انتهى وليس مشهوراً عن ابن عامر بل قراءته كقراءة باقي السبعة بهمزة ولم يجبه من قومهإلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرّسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلوّ فيهما. ونراك الأظهر أنها من رؤيةالقلب، وقيل: من رؤية العين ومعنى {فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } أي في ذهاب عن طريق الصواب وجهالة بما تسلك بينةواضحة وجاءت جملة الجواب مؤكدة بأن وباللام وفي للوعاء فكان الضلال جاء ظرفاً له وهو فيه ولم يأتِ ضالاً ولاذا ضلال. {قَالَ يَـاءادَمُ * قَوْمٌ * لَيْسَ بِى ضَلَـٰلَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّىوَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه فلم يأتِ التركيبلست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكونفي ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانياً والإعراضعن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم. ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنهعلى الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لايخلو من أحد الشيئين: الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة وفي قوله: {مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أنه ربهملأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولاً يدعوكم إلى إفراده بالعبادةو {أُبَلّغُكُمْ } استئناف على سبيل البيان بكونه رسولاً أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبراً لضميرمتكلم كما تقول أنه رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلموالمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى:

{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ }

بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيّاًمراعاة للفظ {قَوْمٌ } لأنه غائب، وقرأ أبو عمرو {أُبَلّغُكُمْ } هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديدوالهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع {رِسَالـٰتِ } باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمروالنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله، قيل: في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفةوفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها، وقال الزمخشري: وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاضالنصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصوداً به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعاً ولا نصيحةأنفع من نصيحة الله تعالى ورسله، وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك، وقال النابغة:

نصحت بني عوف فلم يتقبلوا    

وفي قوله {مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التييخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عُذِّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن {يُرِيدُ * مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من صفاتالله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلۤهاً معه أو {يُرِيدُ * مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مما أوحي إلي، قالابن عطية: ولا بدّ أنّ نوماً عليه السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم منعرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولاً {أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى } وهذا مبدأ أمرهمعهم وهو التبليغ، كما قال: إنْ عليك إلا البلاغ ثم قال {وَأَنصَحُ لَكُمْ } أي أخلص لكم في تبيين الرّشدوالسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ثم قال وأعلم من الله {مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من بطشه بكم وهومآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم. {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌمّن رَّبّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } يتضمّن قولهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } استبعادهم واستمحالهمما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك، وقال أبوعبد الله الرازي سبب استبعادهم إرسال نوح والهمزة للإنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى، التصرّفالتام بإرسال من يشاء لمن يشاء، قال الزمخشري: الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل أو كذبتم وعجبتم أن جاءكم انتهى،وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنّحاة لأنّهم يقولون: إنّ الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذفهناك وكأنّ الأصل وأعجبتم لكنه اعنى بهمزة الاستفهام فقدّمت على حروف العطف لأنّ الاستفهام له صدر الكلام وقد تقدّم الكلاممعه في نظير هذه المسألة وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أوكتاب معجز أو البيان أقوال والأولى أن يكون قوله {عَلَىٰ رَجُلٍ } فيه إضمار أي على لسان رجل كما قال

{ مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ }

، وقيل: {عَلَىٰ } بمعنى مع، وقيل: لا حذف ولا تضمين في الحرف بل قوله {عَلَىٰرَجُلٍ } هو على ظاهره لأن {جَاءكُمْ } بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح ويقولون ما سمعنا بهذافي آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر

{ وَلَوْ شَاء * رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَـٰئِكَةً }

وذكر عليه المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذيرمن سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرّحمة وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف والإنذار بالمخوف لأجل وجودالتقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأنّ المترتب على السبب سبب. {فَكَذَّبُوهُفَأَنجَيْنَـٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ }. أخبر تعالى أنهم كذبوه هذا معحسن ملاطفته لهم ومراجعته لهم وشفقته عليهم فلم يكن نتيجة هذا إلاّ التكذيب له فيما جاء به عن الله {وَٱلَّذِينَمَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ } هم من آمن به وصدّقه وكانوا أربعين رجلاً، وقيل ثمانين رجلاً وأربعين امرأة قاله الكلبي وإليهمتنسب القرية التي ينسب إليها الثمانون وهي بالموصل، وقيل: عشرة فيهم أولاده الثلاثة، وقيل: تسعة منهم بنوه الثلاثة وفي قوله{وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ } إعلام بعلّة الغرق وهو التكذيب و {بِـئَايَـٰتِنَا } يقتضي أنّ نوحاً كانت له آيات ومعجزات تدلعلى إرساله ويتعلق {فِى ٱلْفُلْكِ } بما يتعلّق به الظّرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك ويحتمل أنيتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السّفينة من الطّوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في {*سببية} أي بالفلك كقوله «دخلت النارفي هرة» أي بسبب هرة و {قَوْماً عَمِينَ } من عمي القلب أي غير مستبصرين ويدل على ثبوت هذا الوصفكونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذاقصد به حدوث الضّيق والثقل، قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، وقال معاذ النحوي: رجل عمفي أمره لا يبصره وأعمى في البصر. قال:

ما في غد عم ولكنني عن علم    

وقد يكون العمى والأعمىكالخضر والأخضر، وقال الليث: رجل عم إذا كان أعمى القلب. {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ *قَوْمٌ *ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } عاد اسم الحي ولذلك صرفه وبعضهم جعله اسماً للقبيلةفمنعه الصرف قال الشاعر:

لو شهدت عاد في زمان عاد     لانتزها مبارك الجلاد

سميت القبيلة باسم أبيهم وهوعاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وهود قال شيخنا أبو الحسن الآبدي النحوي: المعروف أنّهوداً عربي والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده انتهى، وذكر الشريفالنسّابة أبو البركات الجواني أنّ يَعرُب بن قحطان بن هود هو الذي زعمت يمن أنه أول من تكلم بالعربية ونزلأرض اليمن فهو أبو اليمن كلها وأنّ العرب إنما سميت عرباً به انتهى فعلى هذا لا يكون هود عربيّاً وهودهو ابن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح و {أَخَـٰهُمْ } معطوف على نوحاً ومعناه واحداً منهموليس هود من بني عاد كما ذكرنا وهذا كما تقول أيا أخا العرب للواحد منهم، وقيل: هو من عاد وهوهود بن عبد الله بن رياح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح فعلى هذايكون من عاد واسم أمه مرجانة وكان رجلاً تاجراً أشبه خلق الله بآدم عليهما السلام، روي أنّ عاداً كانت لهثلاث عشرة قبيلة ينزلون رمال عالج وهي عاد الأولى وكانوا أصحاب بساتين وزروع وعمارة وبلادهم أخصب بلاد فسخط الله عليهمفجعلها مفاوز وكانت بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن وكانوا يعبدون الأصنام ولما هلكوا لحق هود ومن آمن معه بمكةفلم يزالوا بها حتى ماتوا ولم يأتِ فقال بالفاء لأنه جواب سؤال مقدّر أي فما قال لهم {عَلَيْهِ قَوْمٌ }وكذا {قَالَ ٱلْمَلاَ } وفي قوله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ } استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى ولما كان ما حلّ بقوم نوحمن أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وواقعة هود كانتمسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها اكتفى هود بقوله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ } والمعنى تعرفون أنّ قوم نوح لما لميتقوا الله وعبدوا اغيره حلّ بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فقوله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ } إشارة إلى التخويفبتلك الواقعة المشهورة. {قَالَ ٱلْمَلا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } أتىبوصف {ٱلْمَلاَ } بالذين كفروا ولم يأتِ بهذا الوصف في قوم نوح لأنّ قوم هود كان في أشرافهم من آمنبه منهم مرثد بن سعد بن عفير ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ألا ترى إلى قولهم

{ وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا }

وقولهم

{ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلاْرْذَلُونَ }

ويحتمل أن يكون وصفاً جاء للذم لم يقصدبه الفرق ولنراك يحتمل أن يكون من رؤية العين ومن رؤية القلب كما تقدم القول في قصة نوح و {فِيسَفَاهَةٍ } أي في خفة حلم وسخافة عقل حيث تترك دين قومك إلى دين غيره وفي سفاهة يقتضي أنه فيهاقد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشيء ولما كان كلام نوح لقومه أشد منكلام هود تقوية لقوله {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْعَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } كان جوابهم أغلظ وهو {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } وكان كلام هود ألطف لقوله {أَفَلاَتَتَّقُونَ } فكان جوابهم له ألطف من جواب قوم نوح لنوح بقولهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } ثم أتبعوا ذلكبقولهم {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب إن لم يتقوا اللهأو علّقوا الظن بقوله {مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي إنّ لنا آلهة فحصرها في واحد كذب. وقيل: الظنهنا بمعنى اليقين أو بمعنى ترجيح أحد الجائزين قولان للمفسرين والثاني للحسن والزّجاج، وقال الكرماني: خوّف نوح الكفار بالطوفان العامواشتغل بعمل السفينة فقالوا {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } حيث تتعب نفسك في إصلاح سفينة كبيرة في مفازة ليسفيها ماء ولم يظهر ما يدل على ذلك وهو رديف عبادة الأوثان ونسب قومه في السفاهة فقابلوه بمثل ذلك.{قَالَ يَـاءادَمُ * قَوْمٌ * لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌأَمِينٌ } تقدّمت كيفية هذا النفي في قوله {لَيْسَ بِى ضَلَـٰلَةٌ } وهناك جاء {وَأَنصَحُ لَكُمْ } وهنا جاء {وَأَنَاْلَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } لما كان آخر جوابهم جملة اسمية جاء قوله كذلك فقالوا هم {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ }قال هو {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي حمله الإنسان ولا أمانة أعظم منأمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين والمعنى أني عُرفت فيكم بالنصح فلا يحق لكم أن تتهموني وبالأمانة فيما أقول فلاينبغي أن أكذب، قال ابن عطية: وقوله {أَمِينٌ } يحتمل أن يريد على الوحي والذكر النازل من قبل الله ويحتملأنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم والعرب تقول فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب ويحتمل أن يريدبه من الأمن أي جهتي ذات أمن لكم من الكذب والغش، قال القشيري: شتّان ما بين من دفع عنه ربهبقوله

{ مَا ضَلَّ صَـٰحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ }

و

{ مَا صَـٰحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ }

ومن دفع عن نفسه بقوله: {لَيْسَ بِىضَلَـٰلَةٌ } {لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ }، قال الزمخشري: وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهممن الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أصل السفاهين وأسفلهم أدب حسنوخلق عظيم وحكاية الله عز وجل عنهم ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على مايكون منهم. {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ * ذٰلِكَ مِنْ *رَّبّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أتى هنا بعلة واحدةوهي الإنذار وهو التخويف بالعذاب واختصر ما يترتب على الإنذار من التقوى ورجاء الرحمة. {وَذَكَرُواْ * إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءمِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي سكان الأرض بعدهم قاله السدّي وابن إسحاق، أو جعلكم ملوكاً في الأرض استخلفكم فيهاقاله الزمخشري، وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله {مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } و {إِذْ} ظرف في قول الحوفي فيكون مفعول {ٱذْكُرُواْ } محذوفاً أي واذكروا آلاء الله عليكم وقت كذا والعامل في {إِذْ} ما تضمنه النعم من الفعل وفي قول الزمخشري {إِذْ } مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم.{وَزَادَكُمْ فِى ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً } ظاهر التواريخ أنّ البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال فيحتمل إذ ذاك أنيكون الخلق بمعنى المخلوقين ويحتمل أن يكون مصدراً أي وزادكم في خلقكم بسطة أي مد وطول حسن خلقكم قيل: كانأقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع قاله الكلبي والسدّي، وقال أبو حمزة اليماني: سبعون ذراعاً. وقال ابن عباس ثمانون ذراعاً.وقال مقاتل: اثنا عشر ذراعاً. وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وعينه تفرخ فيها الضباع وكذلك منخره وإذاكان الخلق بمعنى المخلوقين فالخلق قوم نوح أو أهل زمانهم أو الناس كلهم أقوال، وقيل: الزيادة في الإجرام وهي ماتصل إليه يد الإنسان إذا رفعها، وقيل الزيادة هي في القوة والجلادة لا في الإجرام. وقيل: زيادة البسطة كونهم منقبيلة واحدة مشاركين في القوة متناصرين يحبّ بعضهم بعضاً ويحتمل أن يكون المعنى {وَزَادَكُمْ بَسْطَةً } أي اقتداراً في المخلوقينواستيلاء. {فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} ذكرهم أولاً بإنعامه عليهم حيث جعلهم خلفاء وزادهم بسطة وذكرهم ثانياً بنعمه عليهممطلقاً لا بتقييد زمان الجعل واذكروا الظاهر أنه من الذكر وهو أن لا يتناسوا نعمه بل تكون نعمه على ذكرمنكم رجاء أن تفلحوا وتعليق رجاء الفلاح على مجرّد الذّكر لا يظهر فيحتاج إلى تقدير محذوف بترتب عليه رجاء الفلاحوتقديره والله أعلم {فاذكروا آلاء الله} وإفراده بالعبادة ألا ترى إلى قوله {أجئتنا لنعبد الله وحده} وفي ذكرهم {آلاء الله}ذكر المنعم عليهم المستحقّ لإفراده بالعبادة ونبذه ما سواه، وقيل: اذكروا هنا بمعنى اشكروا. {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحدهونذر ما كان يعبد آباؤنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين} الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا اللهبالعبادة مع اعترافهم بالله حبّاً لما نشؤوا عليه وتآلفاً لما وجدوا آباءهم عليه ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم{لنعبد الله وحده} أي على قولك يا هود ودعواك قاله ابن عطية، وقال التأويل الأوّل أظهر فيهم وفي عباد الأوثانولا يجحد ربوبية الله من الكفرة إلا من ادّعاها لنفسه كفرعون ونمرود انتهى، وكان في قول هود لقومه {فاذكروا آلاءالله} دليل قاطع على أنه لا يعبد إلا المنعم وأصنامهم جمادات لا قدرة على شيء البتة والعبادة هي نهاية التعظيمفلا يليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ولما نبّه على هذه الحجة ولم يكن لهم أن يجيبوا عنها عدلواإلى التقليد البحت فقالوا {أجئتنا لنعبد الله وحده} والمجيء هنا يحتمل أن يكون حقيقة بكونه متغيباً عن قومه منفرداً بعبادةربه ثم أرسله الله إليهم فجاءهم من مكان متغيبه ويحتمل أن يكون قولهم ذلك على سبيل الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدونأنّ الله لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ولا يريدون حقيقة المجيء ولكن التعرّضوالقصد كما يقال ذهب يشتمني لا يريدون حقيقة الذهاب كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكاليف ذلك وفيقولهم {فائتنا بما تعدنا} دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر وقولهم ذلك يدلّ على تصميمهمعلى تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوّة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلاً وقد تقدّم قوله {إنا لنراك في سفاهة}و {إنا لنظنّك من الكاذبين} فلما كانوا يعتقدون كونه كاذباً قالوا {فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} أي فينبوّتك وإرسالك أو في العذاب نازل بنا. {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} أي حلّ بكم وتحتّمعليكم قال زيد بن أسلم والأكثرون: الرّجس هنا العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب. وقال ابن عباس: السخط. وقال أبو عبدالله الرازي: لا يكون العذاب لأنه لم يكن حاصلاً في ذلك الوقت، وقال القفال: يجوز أن يكون الازدياد في الكفربالرين على القلوب أي لتماديهم على الكفر {وقع عليكم} من الله رين على قلوبكم كقوله

{ فزادتهم رجساً إلى رجسهم }

فإنّالرجس السخط أو الرين فقوله {قد وقع} على حقيقته من المضي وإن كان العذاب فيكون من جعل الماضي موضع المستقبللتحقّق وقوعه. {أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهوذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول يستحقّ العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك ومعنى {سميتموها} سميتم بها أنتم وآباؤكم أي أحدثتموها قريباًأنتم وآباؤكم وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكرها مرثد بن سعد في شعره فقال:

عصت عاد رسولهم فأضحوا     عطاشاً ما تبلّهم السماء لهم صنم يقال له صمود
يقابله صداء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد     فأبصرنا الهدى وجلى العماء وإنّ إلۤه هود هو إلۤهي

فالجدال إذ ذاك يكون في الألفاظ لا مدلولاتهاويحتمل أن يكون الجدال وقع في المسمّيات وهي الأصنام فيكون أطلق الأسماء وأراد بها المسميات وكان ذلك على حذف مضافأي {أتجادلونني} في ذوات أسماء ويكون المعنى {سميتموها} آلهة وعبدتموها من دون الله، قيل: سموا كل صنم باسم على مااشتهوا وزعموا أنّ بعضهم يسقيهم المطر وبعضهم يشفيهم من المرض وبعضهم يصحبهم في السّفر وبعضهم يأتيهم بالرزق. {ما نزلالله بها من سلطان} والجملة من قوله {ما نزل} في موضع الصفة والمعنى أنه ليس لكم بذلك حجة ولا برهانوجاء هنا {نزل} وفي المكان غيره أنزل وكلاهما فصيح والتعدية بالتضعيف والهمزة سواء. {فانتظروا إني معكم من المنتظرين} وهذاغاية في التهديد والوعيد أي {فانتظروا} عاقبة أمركم في عبادة غير الله وفي تكذيب رسوله وهذا غاية في الوثوق بمايحل بهم وإنه كائن لا محالة. {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} يعني من آمن معه {برحمة} سابقة لهم منالله وفضل عليهم حيث جعلهم آمنوا فكان ذلك سبباً لنجاتهم مما أصاب قومهم من العذاب. {وقطعنا دابر الذين كذبوابآياتنا} كناية عن استئصالهم بالهلاك بالعذاب وتقدّم الكلام في {دابر} في قوله

{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا }

وفي قوله {الذينكذبوا} تنبيه على علة قطع دابرهم وفي قوله {بآياتنا} دليل على أنه كانت لهود معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعيينها.{وما كانوا مؤمنين} جملة مؤكدة لقوله {كذبوا بآياتنا} ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى أنهم ممن علم اللهتعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيماناً البتة ولو علم الله تعالى أنهم يؤمنون لأبقاهموذلك أنّ المكذّب بالآيات قد يؤمن بها بعد ذلك ويحسن حاله فأما من حتم الله عليه بالكفر فلا يؤمن أبداًوفي ذلك تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد ومن نجا مع هود عليه السلام كأنه قال {وقطعنا دابر القومالذين كذّبوا} منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين ونجّى الله المؤمنين قاله الزمخشري: وذكرالمفسرون هنا قصة هلاك عاد وذكروا فيها أشياء لا تعلق لها بلفظ القرآن ولا صحّت عن الرسول فضربت عن ذكرهاصفحاً وأما ما له تعلق بلفظ القرآن فيأتي في مواضعه إن شاء الله تعالى. {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قاليا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلۤه غيره} ثمود اسم القبيلة سميت باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود أخو جديسوهما ابنا جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى.وقيل سميت ثمود لقلة ما بها من الثمد وهو الماء القليل. قال الشاعر:

أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت     إلى حمام شراع وارد الثمد

وكانت ثمود عرباً في سعة من العيش فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره وأفسدوا فبعثالله لهم صالحاً نبياً من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً فدعاهم إلى الله حتى شمط ولا يتبعه منهم إلا القليل، قالهوهب: بعثه الله حين راهق الحلم فلما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة فأقاموا معه حتى ماتوا فقبورهم بيندار الندوة والحجر، وصالح هو صالح بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر بن إرم بن سامبن نوح هكذا نسبه الشريف النسّابة الجواني وهو المنتهى إليه في علم النسب. ووقع في بعض التفاسير بين صالح وآسفزيادة أب وهو عبيد فقالوا صالح بن عبيد بن آسف ونقص في الأجداد وتصحيف جاثر بقولهم عابر، قال الشريف الجوانيفي المقدمة الفاضلية والعقب من جاثر بن إرم بن سام بن نوح وجديس والعقب من ثمود بن جاثر فالخ وهيلعوتنوق وأروم من ولده صالح النبي بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود. وقرأابن وثاب والأعمش: {وإلى ثمود} بكسر الدال والتنوين مصروفاً في جميع القرآن جعله اسم الحي والجمهور منعوه الصرف جعلوه اسمالقبيلة والأخوة هنا في القرابة، لأنّ نسبه ونسبهم راجع إلى ثمود بن جاثر وكل واحد من هؤلاء الأنبياء نوح وهودوصالح تواردوا على الأمر بعبادة الله والتنبيه على أنه لا إلۤه غيره إذ كان قومهم عابدي أصنام ومتخذي آلهة معالله كما كانت قريش والعرب ففي هذه القصص توبيخهوم وتهديدهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك من الهلاك المستأصل منالعذاب وكانت قصة نوح مشهورة طبقت الآفاق وقصة هود وصالح مشهورة عند العرب وغيرهم بحيث ذكرها قدماء الشعراء في الجاهليةوشبهوا مفسدي قومهم بمفسدي قوم هود وصالح قال بعض قدمائهم في الجاهلية:

فينا معاشر لن يبغوا لقومهم     وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته
إذا أهلكت بالذي سدّى لها عاد أو بعده كقدار حين تابعه     على الغواية أقوام فقد بادوا

وقيل ابن عنز هو من قوم هود وسيأتي ذكر خبره عندذكر إرسال الريح على قوم هود إن شاء الله وقدار هو ابن سالف عاقر ناقة صالح ويأتي خبره إن شاءالله. {قد جاءتكم بيّنة من ربكم} أي آية ظاهرة جلية وشاهد على صحة نبوتي وكثر استعمال هذه الصفة استعمالالأسماء في القرآن فولّيت العوامل كقوله حتى جاءتهم البيّنة وقوله

{ بالبينات والزبر }

والمعنى الآية البينة وبالآيات البينات فقارب أن تكونكالأبطح والأبرق إذ لا يكاد يصرح بالموصول معها وقوله {قد جاءتكم بينة من ربكم} كأنه جواب لقولهم {ائتنا ببينة} تدلّعلى صدقك وأنك مرسل إلينا و {من ربكم} متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لآية على تقدير محذوف أي منآيات ربكم. {هذه ناقة الله لكم آية} لما أبهم في قوله {قد جاءتكم بينة من ربكم} بيّن ما الآيةفكأنه قيل له ما البينة قال {هذه ناقة الله} وأضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً نحو بيت الله وروح الله ولكونهخلقها بغير واسطة ذكر وأنثى ولأنه لا مالك لها غيره ولأنها حجة على القوم ولما أودع فيها من الآيات ذكرهافي قصة قوم صالح و {لكم} بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناسأخبروا عنها كأنه قال {لكم} خصوصاً وانتصب {آية} على الحال والعامل فيها ها بما فيها من معنى التنبيه أو اسمالإشارة بما فيه من معنى الإشارة أو فعل مضمر تدلّ عليه الجملة كأنه قيل انظر إليها في حال كونها آيةأقوال ثلاثة ذكرت في علم النحو، وقال الحسن هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب، وقال الزّجاج: قيل إنهأخذ ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شرباً يوماً ولهم شرب يوم وكانت الآية في شربها وحلبها، قيل: وجاءبها من تلقاء نفسه، وقال الجمهور: هي آية مقترحة لما حذرهم وأنذرهم سألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرجمعنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السّنة فتدعو إلۤهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنااتبعتنا قل صالح نعم فخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها الإجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو بن جواسوأشار إلى صخرة منفردة من ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء،والمخترجة ما شاكلت البحت من الإبل فأخذ صالح عليه السلام مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا: نعم فصلى ركعتينودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحرّكت فانصدعت عن ناقة كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلاالله عظماً وهم ينظرون ثم نتجت سقباً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أنيؤمنوا فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحبا أوثانهم وريّان ابن كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود وهذه الناقة وسقبهامشهور قصتهما عند جاهلية العرب وقد ذكروا السّقب في أشعارهم. قال بعضهم يصف ناساً قتلوا بمعركة حرب بأجمعهم:

كأنهم صابت عليهم سحابة     صواعقها كالطير هن دبيب رغى فوقهم سقب السماء فداحض

قال أبوموسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً. {فذروها تأكل في أرض الله} لما أضاف الناقةإلى الله أضاف محل رعيها إلى الله إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى لا ملككم ولا إنباتكم وفي هذاالكلام إشارة إلى أن هذه الناقة نعمة من الله ينال خيرها من غير مشقّة تكلف علف ولا طعمة وهو شأنالإبل كما جاء في الحديث قال فضالة الإبل، قال مالك: ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاهاربّها و {تأكل} جزم على جواب الأمر، وقرأ أبو جعفر في رواية {تأكل} بالرفع وموضعه حال كانت الناقة مع ولدهاترعى الشجر وتشرب الماء ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيهاثم تفجج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون. {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} نهاهم عن مسّهابشيء من الأذى وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهاهم عن مسّها بسوء إكراماً لآية الله فنهيه عننحرها وعقرها ومنعها عن الماء والكلأ أولى وأحرى والمسّ والأخذ هنا استعارة وهذا وعيد شديد لمن مسّها بسوء والعذاب الأليمهو ما حلّ بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة. {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكمفي الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ذكر صالح قومهبما ذكر به هود قومه فذكر أولاً نعماً خاصة وهي جعلهم خلفاء بعد الأمة التي سبقتهم وذكر هود لقومه مااختصوا به من زيادة البسطة في الخلق وذكر صالح لقومه ما اختصوا به من اتخاذ القصور من السهول ونحت الجبالبيوتاً ثم ذكرا نعماً عامة بقولهما {فاذكروا آلاء الله} ومعنى {وبوّأكم في الأرض} أنزلكم بها وأسكنكم إياها والمباءة المنزل فيالأرض وهو من باء أي رجع وتقدم ذكره و {الأرض} فلا موضع ما بين الحجاز والشام و {تتخذون} حال أوتفسير لقوله {وبوّأكم في الأرض} فلا موضع له من الإعراب والظاهر أن بعض السهول اتخذوه قصوراً أي بنوا فيه قصوراًوأنشؤوها فيه ولم يستوعبوا جميع سهولها بالقصور وقال الزمخشري: {من سهولها قصوراً} أي يبنونها من سهولة الأرض بما يعملون منهاالرهض واللبن والآجر يعني أن القصور التي بنوها أجزاؤها متخذة من لين الأرض كالجيار والآجر والجصّ كقوله

{ واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً }

يعني أنّ الصورة كانت مادّتها من الحلي كما أن القصور مادتها من سهول الأرض والأجزاءالتي صنعت منها وظاهر الاتخاذ هنا العمل فيتعدّى {تتخذون} إلى مفعول واحد، وقيل: يتعدى إلى اثنين والمجرور هو الثاني، وقرأالحسن {وتنحَتون} بفتح الحاء، وزاد الزمخشري: أنه قرأ وتنحاتون بإشباع الفتحة قال كقوله:

ينباع من دفري أسيل حرّه    

انتهى. وقرأابن مصرف بالياء من أسفل وكسر الحاء وقرأ أبو مالك بالباء من أسفل وفتح الحاء ومن نقرأ بالياء فهو التفاتوانتصب {بيوتاً} على أنها حال مقدّرة إذ لم تكن الجبال وقت النحت بيوتاً كقولك إبرِ لي هذه اليراعة قلماً وخَّطلي هذا قباء، وقيل: مفعول ثانٍ على تضمين {وتنحتون} معنى و {تتخذون}، وقيل: مفعول بتنحتون و {الجبال} نصب على إسقاطمن أي من الجبال، وقرأ الأعمش {تعثوا} بكسر التاء لقولهم أنت تعلم وهي لغة و {مفسدين} حال مؤكدة، قال ابنعباس: القصور لمصيفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم، وقيل: نحتوا الجبال لطول أعمارهم كانت القصور تخرب قبل موتهم، قال وهب: كانالرجل يبني البنيان فتمرّ عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائةسنة فيخرب فأضجرهم ذلك فاتخذوا الجبال بيوتاً. {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمنمنهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسل من ربّه} قرأ ابن عامر {وقال الملأ} بواو عطف والجمهور قال بغير واو و {الذيناستكبروا} وصف للملأ إما للتخصيص الأنّ من أشرافهم من آمن مثل جندع بن عمرو وإما للذم و {استكبروا} وطلبوا الهيبةلأنفسهم وهو من الكبر فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو تكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا لكثرة المال والجاه فيكونمثل عجب واستعجب والذين {استضعفوا} أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم أتباع الرّسل و {لمن} بدل من الذيناستضعفوا والضمير في {منهم} إن عاد على المستضعفين كان بدل بعض من كلّ ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين وإنعاد على {قومه} كان بدل كل من كلّ وكان الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين وكان الذين استضعفوا قسماً واحداً ومن آمنمفسراً للمستضعفين من قومه واللام في {للذين} للتبليغ والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف وفي قولهم {من ربه} اختصاصبصالح ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم. {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون} جواب للمستضعفين وعدولهم عن قولهمهو مرسل إلى قولهم {إنا بما أرسل به مؤمنون} في غاية الحسن إذ أمر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخلهريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلمبإرساله فأخبروا بأنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلاّ التصديق بما جاء به وتضمن كلامهمالعلم بأنه مرسل من الله تعالى. {قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} فالذي آمنتم به هو منحيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعمّ قصدوا الردّ لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً. {فعقرواالنّاقة} نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادراً عن بعضهم لما كان عقرها عن تمالىء واتفاق حتى روي أنّ قداراًلم يعقرها إلا عن مشاورة الرّجال والنساء والصبيان فأجمعوا على ذلك وسبب عقرها أنها كانت إذا وقع الحر نصبت بظهرالوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تلبث ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهموكانت تستوفي ماءهم شرباً ويحلبونها ما شاء الله حتى ملوها وقالوا ما نصنع باللبن الماء أحبّ إلينا منه وقال لهمصالح يوماً إنّ هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه فولد لعشرة نفر فذبح التّسعة أولادهم وبقي العاشروهو سالف بن قدار وكان قدار أحمر أزرق قصيراً ولذلك قال بعض شعراء الجاهلية:

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم     كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

قال الشّراح غلط وإنما هو أحمر ثمود وهو قدار وكان يشبّ في اليوم شبابغيره في السّنة وكان التسعة إذا رأوه قالوا: لو عاش بنونا كانوا مثل هذا فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالحفأجمعوا على قتله فكمنوا له في غار ليبيتوه، ويأتي خبر التبييت وما جرى لهم في سورة النمل إن شاء الله،وروي أنّ السبب في عقرها أن امرأتين من ثمود من أعداء صالح وهما عنيزة بنت غنم أم مجلز زوجة ذؤاببن عمرو وتكنّى أم غنم عجوز ذات بنات حسان ومال من إبل وبقر وغنم وصدوف بنت المحيّا جميلة غنية ذاتمواش كثيرة فدعت عنيزة على عقرها قداراً على أن تعطيه أيّ بناتها شاء وكان عزيزاً منيعاً في قومه ودعت صدوفرجلاً من ثمود يقال له الحباب إلى ذلك وعرضت نفسها عليه إن فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال لهمصدع بن مهرج بن المحيا لذلك وجعلت له نفسها فأجاب قدار ومصدع واستغويا سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فرصدوا الناقةحين صدرت عن الماء وكمن قدار في أصل صخرة ومصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم بهعضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة بابنتها وكانت من أحسن النساء فسفرت لقدار ثم مرت الناقة به فشدّ عليها بالسيففكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فطعن في لبّتها ونحرها وخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها وطبخوه وذكروا لسبقها حكاية اللهأعلم بصحتها، وقيل سبب عقرها أنّ قداراً شرب الخمر وطلبوا ماء لمزجها فلم يجدوه لشرب الناقة فعزموا على عقرها وكمنلها فرماها بالحرية ثم سقطت فعقرها، وقال بعض شعراء العرب وقد ذكر قصة الناقة:

فأتاها أحيمر كأخي السهـ     ـم بعضب فقال كوني عقيرا

{وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } أي استكبروا عن امتثال أمر ربهم وهو ما أمربه تعالى على لسان صالح من قوله {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ ٱللَّهِ } ولا تمسّوها بسوء ومن اتباع أمر اللهوهو دينه وشرعه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم عن أمر ربهم كأنّ أمر ربهم بتركها كان هو السبب فيعتوّهم ونحو عن هذه ما في قوله

{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى }

. {وَقَالُواْ يأَيُّهَا * صَـٰلِحٌ * ٱئْتِنَا بِمَاتَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فاستعجلواما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الإخبار بذلك الوعيد وبغيره ولذلك علقوه بما هم به كافرونوهو كونه من المرسلين، وقرأ ورش والأعمش {أَن قَالُواْ ٱئْتِنَا } وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فاء {ٱئْتِنَا }واو الضمة جاء صالح، وقرأ باقي السبعة بإسكانها وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم: قرأ عيسى وعاصم أوتنا بهمزوإشباع ضمّ انتهى، فلعله عاصم الجحدري لا عاصم بن أبي النجود أحد قراء السبعة. {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْجَـٰثِمِينَ } روي أن السّقب لما عقروا الناقة رغا ثلاثاً فقال صالح لكلّ رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثةأيام فقالوا هازئين به متى ذلك وما آية ذلك فقال تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمريها ويومشيار مسوديها ثم يصبحكم العذاب يوم أول يوم وهو يوم الأحد فرام التسعة عاقرو الناقة قتله وبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجارةفقالوا له أنت قتلتهم وهمّوا بقتله فحمته عشيرته وقالوا: وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث فإن صدق لم تزيدواربكم عليكم إلا غضباً وإن كذّب فأنتم من وراء ما تريدون فأصبحوا يوم الخميس مصفرّي الوجوه كأنها طليت بالخلوق فطلبوهليقتلوه فهرب إلى بطن من ثمود يقال له بنو غنم فنزل على سيدهم أبي هدب لقيل وهو مشرك فغيبه ولميقدروا عليه فعذّبوا أصحاب صالح فقال: منهم مبدع بن هدم يا نبي الله عذّبونا لندلّهم عليك أفندلّهم قال: نعم فدلّهمعليه فأتوا أبا هدب فقال لهم: عندي صالح ولا سبيل لكم عليه فأعرضوا عنه وشغلهم ما نزل بهم فأصبحوا فيالثاني محمّري الوجوه كأنها خضبت بالدّم وفي الثالث مسوديها كأنها طليت بالقار ولية الأحد خرج صالح ومن أسلم معه إلىأن نزل رملة فلسطين من الشام فأصبحوا متكفنين متحنطين ملقين أنفسهم بالأرض يقلبون أبصارهم لا يدرون من أين يأتيهم العذابفلما اشتد الضحى أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهموهلكوا كلهم إلا امرأة مقعدة كافرة اسمها دريعة بنت سلف عندما عاينت العذاب خرجت أسرع ما يرى حتى أتت واديالقرى فأخبرت بما أصاب ثمود واستسقت فشربت وماتت، وقيل: خرج صالح ومن معه من قومه وهم أربعة آلاف إلى حضرموتفلما دخلوها مات صالح فسمي المكان حضرموت، وقيل مات بمكة ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.قال مجاهد والسدّي: {ٱلرَّجْفَةُ } الصيحة، وقال أبو مسلم: الزلزلة الشديدة، قال الزمخشري: {جَـٰثِمِينَ } هامدين لا يتحركون موتى يقال:الناس جثوم أي قعود لا حراك بهم ولا ينسبون بنسبة ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة تربط وتجمعقوائمها لترمى انتهى، وقيل: معناه حمماً محترقين كالرّماد الجاثم ذهب هذا القائل إلى أنّ الصيحة اقترن بها صواعق محرقة، قالالكرماني: حيث ذكر الرّجفة وهي الزلزلة وحدّ الدار وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغمن الزلزلة فاتصل كل واحد منهما بما هو لائق به، وقيل في دارهم أي في بلدهم كنى بالدار عن البلد،وقيل: وحدّ والمراد به الجنس والفاء في {فَأَخَذَتْهُمُ } للتعقيب فيمكن العطف بها على قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } علىتقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب الإتيان بالوعد ولقرب ذلك كان العطف بالفاء ويمكن أن يقدر ما يصحّ العطفبالفاء عليه أي فواعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } ولا منافاة بين {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } وبين {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ} وبين {فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } كما ظنّ قوم من الملاحدة لأنّ الرجفة ناشئة عن الصّيحة صيح بهم فرجفوا فناسب أنيسند الأخذ لكل واحد منهما وأما فأهلكوا بالطاغية فالباء فيه للسببية أي أهلكوا بالفعلة الطاغية وهي الكفر أو عقر الناقةوالطاغية من طغى إذا تجاوز الحدّ وغلب ومنه تسمية الملك والعاتي بالطاغية وقوله

{ إِنَّا لَمَّا * طَغَىٰ * ٱلْمَاء }

وقال تعالى:

{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا }

أي بسبب طغيانها حصل تكذيبهم ويمكن أن يراد بالطاغية الرّجفة أو الصّيحة لتجاوز كلمنهما الحدّ. {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَـٰقَوْمِ * قَوْمٌ *لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ }ظاهر العطف بالفاء أنّ هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم فيكون الخطاب على سبيل التفجّع عليهم والتحسّرلكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزدادوا إيماناً وانتفاء عن معصية الله واقتضاءلما جاء به نبيه عن الله ويكون معنى قوله ولكن {لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } ولكن كنتم لا تحبون الناصحين فتكونحكاية حال ماضية وقد خاطب رسول الله أهل قليب بدر وروي أنه خرج في مائة وعشرينمن المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار، وروي أنه رجع بمن معهفسكنوا ديارهم، وقيل: كان توليه عنهم وقت عقر الناقة وقولهم {ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } وذلك قبل نزول العذاب وهو الذييقتضيه ظاهر مخاطبته لهم وقوله {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } وهو الذي في قصصهم من أنه رحل عنهم ليلة أنأخذتهم الرّجفة صبحتها، وبعد ظهور أمارات الهلاك التي وعد بها قال الطبري: وقيل لهم تهلك أمة ونبيها فيها، وروي أنهاترحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في هلاكهم وخطابههذا كخطابهم نوح وهود عليهما السلام في قولهما {أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى } وذكر النصح بعد ذلك لكنه لما كان قوله{أَبْلَغْتُكُمْ } ماضياً عطف عليه ماضياً فقال: {وَنَصَحْتُ }، وقوله: {لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } أي من نصح لك من رسولأو غيره أي ديدنكم ذلك لغلبة شهواتكم على عقولكم. وجاء لفظ {ٱلنَّـٰصِحِينَ } عامّاً أي أيّ شخص نصح لكم لمتقبلوا في أي شيء نصح لكم وذلك مبالغة في ذمّهم. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها ولا يستقوا منها فقالوا: يا رسولالله قد طبخنا وعجنّا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك الطبيخ والعجين ويهرقوا ذلك الماء وأمرهم أن يستقوا من الماء الذي كانتترده ناقة صالح وإلى الأخذ بهذا الحديث، أخذ أبو محمد بن حزم في ذهابه إلى أنه لا يجوز الوضوء بماءأرض ثمود إلا إن كان من العين التي كانت تردها الناقة، وعن جابر أن رسول الله لما مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم وفي الحديث أنه مر بقبر فقال {فَيَقُولُ مَا هَـٰذَا }؟قالوا لا قال هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ثمود فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلّم فلما خرج من الحرم أصابه فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن.{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ٱلْعَـٰلَمِينَ } هو لوط بن هارون أخيإبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تارح بن ناحور وتقدّم رفع نسبه وقوله هم أهل سدوم وسائر القرى المؤتفكة بعثهالله تعالى إليهم، وقال ابن عطية بعثه الله إلى أمّة تسمى سدوم وانتصب {لُوطاً } بإضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياءقبله و {إِذْ } معمولة {*لأرسلنا} وجوّز الزمخشري وابن عطية: نصبه بواذكر مضمرة زاد الزمخشري أنّ {ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ } بدلمن لوط أي واذكر وقت قال لقومه، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولاً بها صريحاً لأذكر وأنّ ذلكتصرف فيها والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح و {ٱلْفَـٰحِشَةُ } هنا إتيان ذكرانالآدميين في الادبار ولما كان هذا بالفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرّفاً بالألف واللام أن تكون ألفيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنافإنه قال فيه:

{ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً }

فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش وكان كثير منالعرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم والجملة المنفية تدلّ على أنهم هم أول من فعل هذهالفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها والمبالغة في {مّنْ أَحَدٍ } حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جمعاً.قال عمر بن دينار: ما رئي ذكر على ذكر قبل قوم لوط روي أنهم كان يأتي بعضهم بعضاً، وقال الحسن:كانوا يتون الغرباء كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها فقال لهم إبليس هو في صورة غلام إن أردتمدفع الغرباء فافعلوا بهم هكذا فمكنهم من نفسه تعليماً ثم فشا واستحلوا ما استحلوا وأبعد من ذهب إلى أنّ المرادمن عالمي زمانهم ومن ذهب إلى أن المعنى {مَا سَبَقَكُمْ } إلى لزومها ويشهدها وفي تسمية هذا الفعل بالفاحشة دليلعلى أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن ويجلد من لم يحصن وفعله عبد الله بن الزبير أتى بسبعة منهمفرجم ربعة أحصنوا وجلد ثلاثة وعنده ابن عمر وابن عباس ولم ينكروا وبه قال الشافعي، وقال مالك: يرجم أحصن أولم يحصن وكذا المفعول به إن كان محتلماً وعنده يرجم المحصن ويؤدّب ويحبس غير المحصن وهو مذهب عطية وابن المسيبوالنخعي وغيرهم وعن مالك أيضاً يعزر أو لم يحصن وهو مذهب أبي حنيفة وحرق خالد بن الوليد رجلاً يقال لهالفجاء عمل ذلك العمل وذلك برأي أبي بكر وعليّ وأنّ أصحاب رسول الله أجمع رأيهم عليهوفيهم عليّ بن أبي طالب، وروي أنّ ابن الزبير أحرقهم في زمانه وخالد القشيري بالعراق وهشام. {وَمَا * سَبَقَكُمْ} جملة حالية من الفاعل أو من {ٱلْفَـٰحِشَةُ } لأنّ في {سَبَقَكُمْ بِهَا } ضميرهم وضميرها، وقال الزمخشري: هي جملةمستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله {أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ } ثم وبّخهم عليها فقال: أنتم أول من عملها أو على أنه جوابلسؤال مقدر كأنهم قالوا لم لا نأتيها فقال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا * أَحَدٌ } فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به،وقال الزمخشري: والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه قوله عليه السلام سبقك بها عكاشة انتهى، ومعنىالتعدية هنا قلق جداً لأنّ الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي بجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بمادخلت عليه الباء فهي كالهمزة وبيان ذلك أنك إذا قلت صككت الحجر بالحجر فمعناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجريصك الحجر وكذلك دفعت زيداً بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عنخالد فللمفعول الأوّل تأثير في الثاني ولا يتأتّى هذا المعنى هنا إذ لا يصحّ أن يقدّر أسبقت زيداً الكرة أيجعلت زيداً يسبق الكرة إلا بمجاز متكلّف وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها أي تقدّمها فيالزمان فلم يجتمعا. {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ٱلنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } هذا بيان لقوله {أَتَأْتُونَٱلْفَـٰحِشَةَ } وأتى هنا من قوله أتى المرأة غشيها وهو استفهام على جهة التوبيخ والإنكار، وقرأ نافع وحفص {إِنَّكُمْ }على الخبر المستأنف و {شَهْوَةً } مصدر في موضع الحال قاله الحوفي وابن عطية، وجوّزه الزمخشري وأبو البقاء أي مشتهينتابعين للشهوة غير ملتفتين لقبحها أو مفعول من أجله قاله الزمخشري، وبدأ به البقاء أي للاشتهاء لا حامل لكم علىذلك إلا مجرد الشهوة ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم باليهيمة وأنهم لا داعي لهم من جهة العقل كطلبالنسل ونحوه و {مّن دُونِ ٱلنّسَاء } في موضع الحال أي منفردين عن النساء، وقال الحوفي: {مّن دُونِ ٱلنّسَاء }متعلّق بشهوة و {بَلِ } هنا للخروج من قصة إلى قصة تنبىء بأنهم متجاوزو الحد في الاعتداء، وقيل إضراب عنتقريرهم وتوبيخهم والإنكار أو عن الإخبار عنهم بهذه المعصية الشنيعة إلى الحكم عليهم بالحال التي تنشأ عنها القبائح وتدعوا إلىاتّباع الشهوات وهي الإسراف وهو الزيادة المفسدة لما كانت عادتهم الإسراف أسرفوا حتى في باب قضاء الشهوة وتجاوزوا المعتاد إلىغيره ونحوه

{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ }

، وقيل إضراب عن محذوف تقديره ما عدلتم بل أنتم، وقال الكرماني بل ردّلجواب زعموا أن يكون لهم عذر أي لا عذر لكم ولا حجّة {بَلْ أَنتُمْ } وجاء هنا {مُّسْرِفُونَ } باسمالفاعل ليدلّ على الثبوت ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء وجاء في النمل

{ تَجْهَلُونَ }

بالمضارع لتجددالجهل فيهم ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال. {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُممّن قَرْيَتِكُمْ } الضمير في {أَخْرِجُوهُم } عائد على لوط ومن آمن به ولما تأخر نزول هذه السورة عن سورةالنمل أضمر ما فسره الظاهر في النمل من قوله

{ أخرجوا آل لوط من قريتكم }

وآل لوط ابنتاه وهما رغواءوريفاء ومن تبعه من المؤمنين، وقيل: لم يكن معه إلا ابنتاه كما قال تعالى:

{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }

وقال ابن عطية: والضمير عائد على آل لوط وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم،وقرأ الحسن {جَوَابَ } بالرفع انتهى وهنا جاء العطف بالواو والمراد بها أحد محاملها الثلاث من التعقيب المعني في النملفي قوله {تَجْهَلُونَ } فما وفي العنكبوت

{ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ }

فما وكان التعقيب مبالغة في الرد حيث لميمهلوا في الجواب زماناً بل أعجلوه بالجواب سرعة وعدم البراءة بما يجاوبون به ولم يطابق الجواب قوله لأنه لما أنكرعليهم الفاحشة وعظم أمرها ونسبهم إلى الإسراف بادروا بشيء لا تعلّق له بكلامه وهو الأمر بالإخراج ونظيره جواب قوم إبراهيمبأن قالوا

{ حَرّقُوهُ وَٱنصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ }

حتى قبح عليهم بقوله

{ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

فأتوا بجواب لا يطابق كلامه والقرية هي سدوم سميت باسم سدوم بن باقيم الذي يضرب المثل في الحكومات هاجر لوطمع عمه إبراهيم من أرض بابل فنزل إبراهيم أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن. {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قال ابنعباس ومجاهد يتقذّرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء، وقيل يأتون النساء في الأطهار، وقال ابن بحر: يرتقبون أطهار النساء فيجامعونهنّفيها، وقيل: يتنزهون عن فعلتا وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد، وقيل: يغتسلون من الجنابة ويتطهرون بالماء عيروهم بذلك ويسمىهذا النوع في علم البيان التعريض بما يوهم الذمّ وهو مدح كقوله:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهنّ فلول من قراع الكتائب

ولذلك قال ابن عباس: عابوهم بما يمدح به، والظاهر أن قوله {أَنَّهُمْ } تعليل للإخراجأي لأنهم لا يوافقوننا على ما نحن عليه ومن لا يوافقنا وجب أن نخرجه، وقال الزمخشري: وقولهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذاوعظهم أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهّد. {فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ } أي {فَأَنجَيْنَـٰهُوَأَهْلَهُ } من العذاب الذي حل بقومه {وَأَهْلَهُ } هم المؤمنون معه أو ابنتاه على الخلاف الذي سبق واستثنى منأهله امرأته فلم تنجُ واسمها واهلة كانت منافقة تسرّ الكفر موالية لأهل سدوم ومعنى {مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ } من الذين بقوافي ديارهم فهلكوا وعلى هذا يكون قوله {كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ } تفسيراً وتوكيداً لما تضمنه الاستثناء من كونها لم ينجهاالله تعالى. وقال أبو عبيدة: {إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } اكتفى به في أنها لم تنجُ ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفةلا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة وهي أنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة أيمتقدّمة في السن كما قال: إلا عجوزاً في الغابرين إلى أن هلكت مع قومها انتهى، وجاء {مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ } تغليباًللذكور على الإناث، وقال الزّجاج: من الغائبين عن النجاة فيكون توكيداً لما تضمنه الاستثناء انتهى، و {كَانَتْ } بمعنى صارتأو كانت في علم الله أو باقية على ظاهرها من تقييد غبورها بالزمان الماضي أقوال. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا }ضمن {*أمطرنا} معنى أرسلنا فلذلك عداه بعلى كقوله فأمطرنا عليهم حجارة من السماء والمطر هنا هي حجارة وقد ذكرت فيغير آية خسف بهم وأمطرت عليهم الحجارة، وقيل: كانت المؤتفكة خمس مدائن، وقيل: ست، وقيل: أربع اقتلعها جبريل بجناحه فرفعهاحتى سمع أهل السماء نهيق الحمير وصياح الديكة ثم عكسها فرد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض، وتبعتهم الحجارة مع هذافأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجاً عن البقاع وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجّة واقوماه والتفتت فأصابتها صخرةفقتلتها، والظاهر أن الأمطار شملهم كلهم، وقيل: خسف بأهل المدن وأمطرت الحجارة على المسافرين منهم، وسئل مجاهد هل سلم منهمأحد قال لا إلا رجلاً كان بمكة تاجراً وقف الحجر له أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فأصابهفمات وكان عددهم مائة ألف. {مَّطَرًا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ } خطاب للرسول أو للسامع قصتهم كيف كانمآل من أجرم وفيه إيقاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة هذا المسلك و {ٱلْمُجْرِمِينَ } عام في قوم نوح وهودوصالح ولوط وغيرهم وهو من نظر التفكر أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوطكما قال تعالى

{ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مَّسَـٰكِنِهِمْ }

. {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَـٰقَوْمِ * قَوْمٌ* ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ }. قال الفرّاء {مَدْيَنَ } اسم بلد وقطر وأنشد:

رهبان مدين لو زأوك تنزلوا    

فعلى هذا التقدير وإلى أهل مدين، وقيل: اسم قبيلة سميت باسم أبيها مدين بن إبراهيم قاله مقاتلوأبو سليمان الدمشقي، وشعيب قيل: هو ابن بنت لوط، وقيل زوج بنته وهذه مناسبة بين قصته وقصة لوط وشعيب اسمعربي تصغير شعب أو شعب والجمهور على أنّ مدين أعجمي فإن كان عربياً احتمل أن يكون فعيلاً من مدين بالمكانأقام به وهو بناء نادر، وقيل: مهمل أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ كمريم ومكورة ومطيبة وهو ممنوع الصّرف علىكل حال سواء كان اسم أرض أو اسم قبيلة أعجمياً أم عربياً واختلفوا في نسب شعيب، فقال عطاء وابن إسحاقوغيرهما: هو شعيب بن ميكيل بن سجن بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسّريانية بيروت، وقال الشرقي بن القطامي: شعيب بنعنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم، وقال أبو القاسم اسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي الطلحيّ الأصبهاني فيكتاب الإيضاح في التفسير من تأليفه: هو شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم، وقيل: شعيب بن جذي بن سجنبن اللام بن يعقوب، وكذا قال ابن سمعان إلا أنه جعل مكان اللام لاوي ولا يعرف في أولاد يعقوب اللامفلعله تصحيف من لاوي، وقيل: شعيب بن صفوان بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم، وقال الشريف النسابة الجوّاني:وهو المنتهى إليه في هذا العلم هو شعيب بن حبيش بن وائل بن مالك بن حرام بن جذام واسمه عامرأخو نجم وهما ولدا الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بنسبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر هود عليه السلام فبينه وبين هود في هذا النسب الأخير ثمانيةعشر أباً وبينهما في بعض النسب المذكور سبعة آباء لأنه ذكر فيه أنه شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيموإبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أزغو بن فالغ بن عابر وهو هود عليه السلام وكان يقاللشعيب: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، قال قتادة: أرسل مرتين مرّة إلى مدين ومرة إلى أصحاب الأيكة وتعلّق إلى مدينوانتصب {أَخَـٰهُمْ } بأرسلنا وهذا يقوي قول من نصب لوطاً بأرسلنا وجعله معطوفاً على الأنبياء قبله. {قَدْجَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } قرأ الحسن آية من ربكم وهذا دليل على أنه جاء بالمعجزة إذ كان نبيّ لابدّ له من معجزة تدلّ على صدقه لكنه لم يعين هنا ما المعجزة ولا من أي نوع هي كما أنهلرسول الله معجزات كثيرة جدّاً لم تعين في القرآن وقال قوم: كان شعيب نبيّاً ولم تكنله بينة والبينة هنا الموعظة وأنكر الزجاج هذا القول وقال: لا تقبل نبوة بغير معجزة ومن معجزاته أنه دفع إلىموسى عصاه وتلك العصا صارت تنيناً، وقال الزمخشري: ومن معجزات شعيب ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفعإليه غنمة وولادة الغنم الدّرع خاصة حين وعده أن يكون له الدّرع من أولادها ووقوع عصا آدم على يده فيالمرّات السبع وغير ذلك من الآيات لأنّ هذه كلها كانت قبل أن ينبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب، وقالالزجاج: وأيضاً قال لموسى عليه السلام هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض وقد وهبتها لك فكان الأمر كما أخبرعنه وهذه الأحوال كلها كانت معجزة لشعيب عليه السلام لأنّ موسى عليه السلام في ذلك الوقت ما ادّعى الرسالة انتهى،وما قاله الزمخشري متّبعاً فيه الزجاج هو قول المعتزلة وذلك أن الإرهاص وهو ظهور المعجزة على يد من سيصير نبيّاًورسولاً بعد ذلك مختلف في جوازه فالمعتزلة تقول: هو غير جائز فلذلك جعلوا هذه المعجزات لشعيب وأهل السنّة يقولون بجوازهفهي إرهاص لموسى بالنبوة قبل الوحي إليه والحجج للمذهبين مذكورة في أصول الدين. {فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَأَشْيَاءهُمْ } أمرهم أولاً بشيء خاص وهو إيفاء الكيل والميزان ثم نهاهم عن شيء عام وهو قوله {أَشْيَاءهُمْ } و{ٱلْكَيْلَ } مصدر كنى به عن الآلة التي يكال بها كقوله في هود

{ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ }

فطابق قوله {وَٱلْمِيزَانَ }أو هو باق على المصدرية وأريد بالميزان المصدر كالميعاد لا الآلة فتطابقا أو أخذ الميزان على حذف مضاف أي ووزنالميزان والكيل على إرادة المكيال فتطابقا والبخس تقدّم شرحه في قوله {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } و

{ أَشْيَاءهُمْ }

عامفي كل شيء لهم، وقيل: أموالهم، وقال التبريزي: حقوقهم وفي إضافة الأشياء إلى الناس دليل على ملكهم إياها خلافاً للإباحيّةالزنادقة كانوا يبخسون الناس في مبايعاتهم وكانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه ومنه قيل للمكس البخس وروي أنهم كانواإذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعاً ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفاً وكانتهذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمان مع كفرهم الذي نالتهم الرّجفة بسببه. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ بَعْدَإِصْلَـٰحِهَا } تقدّم تفسير هذه الجملة قريباً في هذه السورة. {ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } الإشارة إلىإيفاء الكيل والميزان وترك البخس والإفساد وخير أفعل التفضيل أي من التطفيف والبخس والإفساد لأنّ خيرية هذه لكم عاجلة جداًمنقضية عن قريب منكم إذ يقطع الناس معاملتكم ويحذرونكم فإذا أوفيتم وتركتم البخس والإفساد جملت سيرتكم وحسنت الأحدوثة عنكم وقصدكمالناس بالتجارات والمكاسب فيكون ذلك أخير مما كنتم تفعلون لديمومة التجارة والأرباح بالعدل في المعاملات والتحلي بالأمانات، وقيل: {ذٰلِكُمْ }إشارة إلى الإيمان الذي تضمنه قوله {ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } وإلى ترك البخس في الكيل والميزان،وقيل: {خَيْرٌ } هنا ليست على بابها من التفضيل ولذلك فسّره ابن عطية بقوله أي ذاك نافع عند الله مكسبفوزه ورضوانه وظاهر قوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أنهم كانوا كافرين وعلى ذلك يدل صدر الآية وآخر القصة فمعنى ذلكأنه لا يكون ذلك لكم خيراً ونافعاً عند الله إلا بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان، وقالالزمخشري {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كنتم مصدقين لي في قولي {ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ }.

{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }

عدل

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِوَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } الظاهر النهي عن القعود بكل طريق لهم عن ما كانوا يفعلونه من إيعاد الناس وصدّهم عن طريقالدّين، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونهويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله ، وقالالسدّي: هذا نهي العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، وقال أبو هيريرة: هو نهي عن ا لسّلب وقطعالطريق وكان ذلك من فعلهم وروي عن النبي قال: رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا مثل لقوم من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ تُوعِدُونَ } وفي هذا القول والقول الذي قبله مناسبةلقوله {وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } لكن لا تظهر مناسبة لهما بقوله {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ }بل ذلك يناسب القول الأول قال القرطبي: قال علماؤنا ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهمشرعاً من الوظائف الماليّة بالقهر والجبر وضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي والمترتّبون في الطرق إلىغير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها فإنهغضب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء فإنا للهوإنا إليه راجعون، لم يبق من الإسلام إلا رسمه ولا من الدّين إلا اسمه انتهى كلامه. وقد قرن رسول الله الأموال والأعراض بالدماء في قوله في حجة الوداع: ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراماً وماأكثر ما تساهل الناس في أخذ الأموال وفي الغيبة، وقال رسول الله : من قتل دون ماله فهو شهيد والعجب إطباق من يتظاهر بالصلاح والدين والعلم على عدم إنكار هذه المكوس والضمانات وادعاء بعضهم أنه لهتصرف في الوجود ودلال على الله تعالى بحيث إنه يدعو فيستجاب له فيما أراد ويضمن لمن كان من أصحابه وأتباعهالجنة وهو مع ذلك يتردّد لأصحاب المكوس ويتذلل إليهم في نزع شيء حقير وأخذه من المكس الذي حصّلوه وهذه وقاحةلا تصدر ممن شمّ رائحة الإيمان ولا تعلق بشيء من الإسلام، وقال بعض الشعراء:

تساوى الكلّ منا في المساوي     فأفضلنا فتيلاً ما يساوي

وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة وحمل القعود والصراط الزمخشري على المجاز، فقالولا تقتدوا بالشيطان في قوله

{ لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدّين والدليلعلى أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }، فإن قلت: صراط الحقّ واحد

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }

فكيف قيل بكل صراط، قلت: صراط الحقّ واحد ولكنه يتشعّبإلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحداً يشرع في شيء منه منعوه وصدّوه انتهى. ولا تظهر الدلالةعلى أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كلصراط وخصوص سبيل الله فيكون {بِكُلّ صِرٰطٍ } حقيقة في الطرق، و {سَبِيلِ ٱللَّهِ } مجاز عن دين الله والباءفي {بِكُلّ صِرٰطٍ } ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله {تُوعَدُونَ } {وَتَصُدُّونَ} {وَتَبْغُونَهَا } أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيهكل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء. قال أبومنصور الجواليقي: إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا: أوعدته بالضرب ولا يقولون أعدته الضربوالصدّ يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازاً عن الإيعادمن الصادّ بوجه ما أوعن وعد المصدود بالمنافع على تركه و {مَنْ ءامَنَ } مفعول بتصدون على إعمال الثاني ومفعول{تُوعَدُونَ } ضمير محذوف والضمير في {بِهِ } الظاهر أنه على {سَبِيلِ ٱللَّهِ } وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث، وقيلعائد على الله، وقال الزمخشري: فإن قلت: إلام يرجع الضمير في آمن به، قلت: إلى كلّ صراط تقديره توعدون منآمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم مايصدّون عنه انتهى وهذا تعسّف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهرموضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان السائغالحسن الراجح وجعل {مَنْ ءامَنَ } منصوباً بتوعدون فيصير من إعمال الأوّل وهو قليل. وقد قال النحاة أنه لميرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب {*وتصدونه} أووتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل منالكلام ويدلّ على {وَٱلصَّـٰبِئِينَ مَنْ ءامَنَ } منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله:

{ قُلْ يٰأَهْلَ * أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن * تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ }

ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر وأجاز بعضهم حذفه على قلةمع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة وأجاز ابن عطيةأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهذا بعيد لأن القائل {وَلاَ تَقْعُدُواْ} وهو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفافاً لو قلت: يا هند أناأقول لك لا تهيني من أكرمه تريد من أكرمني لم يصحّ وتقدم تفسير مثل قوله

{ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا }

في آلعمران. {وَٱذْكُرُواْ * إِذَا كُنتُمْ * قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } قال الزمخشري {إِذْ } مفعول به غير ظرف أي {وَٱذْكُرُواْ} على جهة الشكر وقت كونكم {قَلِيلاً } عددكم {فَكَثَّرَكُمْ } الله ووفر عددكم انتهى؛ وذكر غيره أنه منصوب علىالظرف فلا يمكن أن يعمل فيه {وَٱذْكُرُواْ } لاستقبال اذكروا وكون {إِذْ } ظرفاً لما مضى والقلّة والتكثير هنا بالنسبةإلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول. قيل: إن مدين بن إبراهيمتزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا، وقال الزمخشري: إذ كنتم أقلة أذلّة فأعزّكم بكثرةالعدد والعدد انتهى ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلّة ولا إلى تحميل قوله {فَكَثَّرَكُمْ } معنى بالعدد ألاترى أنّ القلة لا تستلزم الذلّة ولا الكثرة تستلزم العزّ، وقال الشاعر:

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا     فقلت لها إنّ الكرام قليل وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا

وقيل: المراد مجموع الأقوال الأربعة فإنه تعالى كثّر عددهم وأرزاقهم وطوّل أعمارهم وأعزّهم بعد أن كانوا على مقابلاتها. {وَٱنظُرُواْكَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن جلّ به العذاب منقوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أجاب المؤتفكة. {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِٱلَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِوَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ } هذا الكلام من أحسن ما تلطف به فيالمحاورة إذ برز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإيمان

{ لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك }

وهو أيضاً من بارع التقسيم إذ لا يخلو قومه من القسمين والذي أرسل به هناما أمرهم به من إفراد الله تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان ونهاهم عنه من البخس والإفساد والقعود المذكور ومتعلق {لَمْيُؤْمِنُواْ } محذوف دلّ عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به والخطاب بقوله {مّنكُمْ } لقومه وينبغي أن يكون قوله{فَٱصْبِرُواْ } خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن {بَيْنِنَا } أي بين الجميع فيكون ذلك وعداً للمؤمنين بالنصرالاذي هو نتيجة الصّبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وعيداً للكافرين بالعقوبة والخسار، وقال ابن عطية: المعنىوإن كنتم يا قوم قد اختلفتم علي وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكمالله بيني وبينكم ففي قوله فاصبروا قوة التهديد والوعيد هذا ظاهر الكلام وأنّ المخاطبة بجميع الآية للكفار، قال النقاش وقالمقاتل بن سليمان: المعنى {فَٱصْبِرُواْ } يا معشر الكفار قال: وهذا قول الجماعة انتهى، وهذا القول بدأ به الزمخشري، فقال{فَٱصْبِرُواْ } فتربصوا وانتظروا {حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } أي بين الفريقينن بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم وهذاوعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم لقوله تعالى

{ فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ }

انتهى. قال ابن عطية: وحكى منذر بنسعيد عن أبي سعيد أنّ الخطاب بقوله فاصبروا للمؤمنين على معنى الوعد لهم وقاله مقاتل بن حيان انتهى وثنى بهالزمخشري فقال أو هو موعظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم اللهبينهم وينتقم لهم منهم انتهى، والذي قدمناه أولاً من أنه خطاب للفريقين هو قول أبي علي وأتى به الزمخشري ثالثاًفقال: ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمنمنهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيّب انتهى، وهو جار على عادته من ذكر تجويزات في الكلام توهّم أنهامن قوله وهي أفعال للعلماء المتقدمين {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ } لأنّ حكمه عدل لا يخشى أن يكون يه حيف وجور.

{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } * { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } * { وَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } * { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ } * { فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرِّعُونَ } * { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } * { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } * { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } * { تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَافِرِينَ } * { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } * { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } * { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } * { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } * { قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } * { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } * { وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } * { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } * { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ } * { قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } * { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } * { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } * { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } * { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } * { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }

عدل

عاد رجع إلى ما كان عليه وتأتي بمعنى صار. قال:

تعد فيكم جزر الجزور رماحنا     ويرجعن بالأسياف منكسرات

ضحى ظرف متصرّف إن كان نكرة وغير متصرّف إذاكان من يوم بعينه وهو وقت ارتفاع الشمس إذا طلعت وهو مؤنث وشذّوا في تصغيره فقالوا: ضحى بغير تاء التأنيثوتقول أتيته ضحى وضحاء إذا فتحت الضّاد مددت، الثعبان ذكر الحيّات العظيم أخذ من ثعبت بالمكان فجرته بالماء والمثعب موضعانفجار الماء لأن الثعبان يجري كالماء عند الانفجار. الإرجاء التأخير، المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة ومن ذهب إلىأنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا مدائن بالهمزة ولا يحفظ فيه مداين بالياءولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة.{قَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ * شُعَيْبٌ *وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي الكفار {ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } عن الإيمان أقسموا على أحد الأمرين إخراج شعيب وأتباعه أو عودتهم في ملته والقسميكون على فعل المقسم وفعل غيره سوّوا بين نفيه ونفي أتباعه وبين العود في الملّة وهذا يدلّ على صعوبة مفارقةالوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي وعاد كما تقدّم لها استعمالان أحدهما أن تكونبمعنى صار والثاني بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأوّل لا إشكال في قوله أو لتعودن إذ صار فعلاًمسنداً إلى شعيب وأتباعه ولا يدلّ على أن شعيباً كان في ملتهم وعلى المعنى الثاني يشكل لأنّ شعيباً لم يكنفي ملتهم قط لكن أتباعهم كانوا فيها، وأجيب عن هذا بوجوه، أحدها: أن يراد بعود شعيب في الملة حال سكوتهعنهم قبل أن يبعث لإحالة الضلال فإنه كان يخفي دينه إلى أن أوحى الله إليه، الثاني: أن يكون من بابتغليب حكم الجماعة على الواحد لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج سحبوا عليه حكمهم في العود وإن كان شعيببريئاً مما كان عليه أتباعه قبل الإيمان، الثالث: أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامّة والإيهام أنه كانمنهم {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَ } أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلكوالاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإخراج عن مواطنهم ظلماً أو الإقرار بالعود في ملتهم، قال الزمخشريالهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أو مع كوننا كارهين انتهى، فجعل الاستفهام خاصاًبالعود في ملتهم وليس كذلك بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين الإخراج أو العود وجعل الواو واو الحال وقدره أتعيدوننافي حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبّر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفةكقوله {رُدُّواْ * ٱلسَّائِلَ * وَلَوْ } ليس المعنى ردّوه في حال الصدفة عليه بظلف محرق بل المعنى ردّوه مصحوباًبالصدقة ولو مصحوباً بظلف مخرق تقدم لنا إشباع القول في نحو هذا. {كُنَّا كَـٰرِهِينَ قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاإِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوفمن حيث الصناعة وتقديره {إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } فقد افترينا وليس قوله {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } هوجواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه وجوّزوا في هذهالجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً، قال الزمخشري: فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنافي الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على الله الكذب حيثيزعم أن لله ندًّا ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ماخفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل. وقال ابن عطية: الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماًفي الرجوع إلى الكفر، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا ذكره الزمخشري وأوردهابن عطية احتمالاً قال: ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر:

بقيت وفري وانحرفت عن العلا     ولقيت أضيافي بوجه عبوس

وكما تقول افتريت على الله أن كلمتفلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله:

إن لم أشن على ابن هند غارة     لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس

ولما كان أمر الدّين هو الأعظم عندالمؤمن والمؤثر على أمر الدنيا لم يلتفتوا إلى الإخراج وإن كان أحد الأمرين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على الكذبأقسم على وقوعه الكفار فقالوا قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم وتقدّم تفسير العود بالصيرورة وتأويله إنكان في معنى الرجوع إلى ما كان الإنسان فيه بالنسبة إلى النبي المعصوم من الكبائر والصغائر. {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَننَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّنَا } أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا أن نعود في ملّتكم إلا أنيشاء الله ربّنا فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة الله وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلىملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلاًفي حكم الجمع، وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرةمن القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارضملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى، وهذا الاحتمال لا يصحّلأن قوله {بَعْدَ إِذْ * نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ، وقالابن عطية: ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل فيسم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى، وهذاتأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من الله تعالى، وقال الزمخشري: (فإن قلت): وما معنى قوله{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ } والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم فيالكفر، (قلت): معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثاً والعبث قبيحلا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكونوهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفربعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله {إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } حسماً لطمعهم في العود لأن مشيئة الله تعالى بعودهمفي الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة، وقيل: هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب، قالابن عطية: وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقويهذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ انّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْالمضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {فِيهَا } يعود على القرية لا على الملح.{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام. {عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا }أي في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام الله وتمسّك بلطفه وذلك يؤيد التأويل الأوّلفي إلا أن يشاء الله، وقال الزمخشري: يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. {رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ وَأَنتَخَيْرُ ٱلْفَـٰتِحِينَ } أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير وقيل بلغة مراد، وقال بعضهم:

ألا أبلغ بني عصم رسولا     فإني عن فتاحتكم غني

وقال ابن عباس: ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتىسمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحْك أي أحاكمك، وقال الفرّاء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح، وقال السدّي وابنبحر: احكم بيننا، قال أبو إسحاق وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف ذلكوذلك بأن ينزل بعدوّهم من العذاب ما يظهر به أنّ الحق معهم، قال ابن عباس: كان كثير الصلاة ولما طالتمادى قومه في كفرهم ويئس من صلاحهم دعا عليهم فاستجاب دعاءه وأهلكهم بالرّجفة، وقال الحسن: إنّ كل نبي أراد هلاكقومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم. {وَقَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاًلَّخَـٰسِرُونَ } أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطاً عن الإيمان: {لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا } فيما أمركم به ونهاكمعنه، قال الزمخشري: (فإن قلت): ما جواب القسم الذي وطأته اللام في {لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ } وجواب الشرط (قلت): قوله {إِنَّكُمْإِذاً لَّخَـٰسِرُونَ } سادّ مسدّ الجوابين انتهى، والذي تقول النحويون إنّ جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجبمضي فعل الشرط فإن عنى الزمخشري بقوله سادّ مسدّ الجوابين إنه اجتزىء به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب وإنعنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعرابوأن يكون لها موضع من الإعراب {وَإِذَا } هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقدلا يكون وزعم بعض النحويين أنها في هذا الموضع ظرف العامل فيه {لَّخَـٰسِرُونَ } والنون عوض من المحذوف والتقدير أنكمإذا اتبعتموه {لَّخَـٰسِرُونَ } فلما حذف ما أضيف إليه عوض من ذلك النون فصادفت الألف فالتقى ساكنان فحذف الألف لالتقائهماوالتعويض فيه مثل التعويض في يومئذ وحينئذ ونحوه وما ذهب إليه هذا الزاعم ليس بشيء لأنه لم يثبت التعويض والحذففي {إِذَا } التي للاستقبال في موضع فيحمل هذا عليه، {لَّخَـٰسِرُونَ } قال ابن عباس: مغبونون، وقال عطاء: جاهلون، وقالالضحاك: عجزة، وقال الزمخشري: لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى لقوله

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ }

. وقيل تخسرونباتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنه ويحملكم على الإيفاء والتسوية انتهى. {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَـٰثِمِينَ } تقدمتفسير مثل هذه الجملة، قال ابن عباس وغيره: لما دعى عليهم فتح عليهم باب من جهنم بحرَ شديد أخذ بأنفاسهمفلم ينفعهم ظلّ ولا ماء فإذا دخلوا الأسراب ليتبرّدوا وجدوها أشدّ حرًّا من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فأظلتهم سحابةفيها ريح طيبة فتنادوا عليكم الظلة فاجتمعوا تحتها كلهم فانطبقت عليهم وألهبها الله ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترقالجراد المقلو فصاروا رماداً. وروي أن الريح حبست عنهم سبعة أيام ثم سلّط عليهم الحر، وقال يزيد الجريري: سلط عليهمالرّيح سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلكالجبل عليهم، وقال قتادة: أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلّة وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحةً فهلكوا جميعاًوقال ابن عطية: ويحتمل أنّ فرقة من قوم شعيب هلكت بالرّجفة وفرقة هلكت بالظلّة، وقال الطبري بلغني أنّ رجلاً منهيقال له عمرو بن جلّها لما رأى الظلة. قال الشاعر:

يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا     عنكم سميراً وعمران بن شدّاد إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت تدعو بصوت على صمانة الواد وإنه لن تروا فيها صحاء غد إلا الرّقيم تمشي بين أنجاد

سمير وعمران كاهناهم والرّقيم كلبهم، وعن أبي عبد الله البجلي:أبو جاد وهوّز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت أسماء كملوك مدين وكان كلمن ملكهم يوم نزول العذاب بهم زمان شعيب عليهالسلام فلما هلك قالت ابنته تبكيه:

كلمن قد هدّ ركني     هلكه وسط المحله سيّد القوم أتاه
حتف نار وسط ظله جُعلت نار عليهم     دارهم كالمضمحله

{الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي كأن لميقيموا ناعمي البال رخيـي العيش في دارهم وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقولهتعالى:

{ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلاْمْسِ }

وكقول الشاعر:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا     أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وقال ابن عطية: وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذاالذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة وأنشد على ذلك عدّة أبيان ثم قال وأما قول الشاعر:

غنينا زماناً بالتصعلك والغنى     فكلاًّ سقانا بكاسيهما الدهر

فمعناه استغنينا ورضينا مع أنّ هذهاللفظه ليست مقترنة بمكان انتهى، وقال ابن عباس: كأن لم يعمروا، وقال قتادة: كأن لم ينعموا، وقال الأخفش: كأن لميعيشوا، وقال أيضاً قتادة وابن زيد ومقاتل: كأن لم يكونوا، وقال الزجاج: كأن لم ينزلوا، وقال ابن قتيبة: كأن لميقيموا و {ٱلَّذِينَ } مبتدأ والجملة التشبيهية خبره، قال الزمخشري: وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل {ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ }شعيباً المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى انتهى، وجوّزأبو البقاء أن يكون الخبر {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } كانوا هم الخاسرين و {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } حال من الضميرفي {كَذَّبُواْ } وجوّز أيضاً أن يكون الذين كذبوا صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلاً منه وعلىهذين الوجهين يكون {كَانَ } حالاً انتهى، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهةالإعراب. {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَـٰسِرِينَ } هذا أيضاً مبتدأ وخبره، وقال الزمخشري: وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصونبالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهموتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهمقالوا {لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ * شُعَيْبٌ } فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا: {لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْإِذاً لَّخَـٰسِرُونَ } فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب {ٱلَّذِينَ } هنا أن يكون بدلاً منالضمير في {يُغْنُواْ } أو منصوباً بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل. {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَـٰقَوْمِ * قَوْمٌ *لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ } تقدّم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام. {فَكَيْفَ ءاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَـٰفِرِينَ} أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهيالكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءىٰ ناراً هما وكأنه وجد فينفسه رقّة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوةفذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرّسل وعلى المناوأة الشديدة حتى لايساكنواه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه وهو عودهم إلى ملتهم، قال مكي: وسار شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها وقرأ ابنوثاب وابن مصرّف والأعمش إيسي بكسر الهمزة وهي لغة تقدّم ذكرها في الفاتحة. {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّإِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } لما ذكر تعالى ما حلّ بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخرأمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصرّوا على تكذيبهم وجاء بعدإلا فعل ماض وهو {أَخَذْنَا } ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدّمهفعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله {أَخَذْنَا } حاليّة أيإلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرّغ من الأحوال وتقدّم تفسير نظير قوله {إِلا أَخَذْنَا } إلى آخره. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَٱلسَّيّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ } أي مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السّرّاء والنعمة، قال ابن عباس ومجاهد والحسنوقتادة مكان الشدّة الرخاء، وقيل مكان الشرّ الخير ومكان و {ٱلْحَسَنَةَ } مفعولاً بدل و {مَّكَانَ } هو محل الباءأي بمكان السيئة وفي لفظ {مَّكَانَ } إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم {مَّكَانَ }ظرفاً أي في مكان {حَتَّىٰ عَفَواْ } أي كثروا وتناسلوا، وقال مجاهد: كثرت أموالهم وأولادهم، وقال ابن بحر حتى أعرضوامن عفا عن ذنبه أي أعرض عنه، وقال الحسن: سمنوا، وقال قتادة سرّوا بكثرتهم وذلك استدراج منه لهم لأنه أخذهمبالشدة ليتعظوا ويزدجروتا فلم يفعلوا ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا. {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ٱلضَّرَّاء وَٱلسَّرَّاء } أبطرتهم النعمة وأشروا فقالواهذه عادة الدّهر ضرّاء وسرّاء وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبرالأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلاً لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر. {فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةًوَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } تقدّم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين أخذوا هذا الأخذ. {وَلَوْ أَنَّأَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي لو كانواممن سبق في علم الله أنهم يتلبسون بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان ليتيسر لهم منبركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذّبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سبقبه القدر وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسباً والموجد لهما هو الله تعالى لا يسأل عما يفعل، وقال الزمخشري: اللامفي القرى إشارة إلى {ٱلْقُرَىٰ } التي دلّ عليها قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } كأنه قالولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاءوَٱلاْرْضِ } لآتيناهم بالخير من كل وجه، وقيل: أراد المطر والنبات {وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ } بسوء كسبهم ويجوز أن تكوناللام في {ٱلْقُرَىٰ } للجنس انتهى، وفي قوله واتقوا المعاصي نزغة الاعتزال رتب تعالى على الإيمان والتقوى فتح البركات ورتبعلى التكذيب وحده وهو المقابل للإيمان الهلاك ولم يذكر مقابل التقوى لأنّ التكذيب لم ينفع معه الخير بخلاف الإيمان فإنهينفع وإن لم يكن معه فعل الطاعات والظاهر أن قوله {بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ } لا يرتاد بها معين ولذلكجاءت نكرة، وقيل: بركات السماء المطر وبركات الأرض الثمار، وقال السدّي: المعنى لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق، وقيل بركاتالسماء إجابة الدعاء، وبركات الأرض تيسيرالحاجات، وقيل: بركات السماء المطر وبركات الأرض المواشي والأنعام وحصول السلامة والأمن، وقيل: البركات النمووالزيادات فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت هذا الذي تدركه فطر البشر وللهخدام غير ذلك لا يحصى عددهم وما علم الله أكثر وذلك أنّ السماء تجري مجرى الأب والأرض مجرى الأم ومنهماتحصل جميع الخيرات يخلق الله وتدبيره والأخذ أخذ إهلاك بالذنوب، وقرأ ابن عامر: وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن {لَفَتَحْنَا }بتشديد التاء ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم كما تيسر على الأبواب المستغلقة بفتحها ومنه فتحت على القارىء إذا يسرت عليهبتلقينك إياه ما تعذّر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة. {أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـٰتاً وَهُمْنَائِمُونَ } الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار والوعيد للكافرين المعاصرين للرسول أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها، وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما المعطوفعليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو، (قلت): المعطوف عليه قوله {فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً } وقوله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ *إِلَىٰ * يَكْسِبُونَ } وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأنّ المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعدذلك أمن {أَهْلُ ٱلْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـٰتاً } وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى انتهى. وهذا الذي ذكره الزمخشري منأن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام وهو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع إلى مذهبالجماعة في ذلك وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرّر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بينالهمزة وحرف العطف يصحّ بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه وأنّ الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبارتقديم حرف العطف على الهمزة في التقدير وأنه قدّم الاستفهام اعتناء لأنه له صدر الكلام وقد تقدّم كلامنا معه علىهذه المسألة وبأسنا عذابنا وبياتاً ليلاً وتقدم تفسيره أول السورة، ونصبه على الظرف أي وقت مبيتهم أو الحال وذلك وقتالغفلة والنوم فمجيء العذاب في ذلك الوقت وهو وقت الراحة والاجتماع في غاية الصعوبة إذ أتى وقت المأمن، {أَوَ أَمِنَأَهْلُ ٱلْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي في حال الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون{*وضحى} منصوب على الظرف أي صحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبة من الحال فيقيد البيات بالنوم والضحى باللعب وجاء {وَهُمْنَائِمُونَ } باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائنين وجاء {يَلْعَبُونَ } بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجدّدة شيئاً فشيئاً فيذلك الوقت، وقرأ نافع والابنان {أَوَ أَمِنَ } بسكون الواو جعل أو عاطفة ومعناها التنويع لا أنّ معناها الإباحة أوالتخيير خلافاً لمن ذهب إلى ذلك وحذف ورش همزة أمن ونقل حركتها إلى الواو الساكنة والباقون بهمزة الاستفهام بعدها واوالعطف وتكرر لفظ {أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ } لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضميرلو جاء أو أمنوا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر. {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِإِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله {أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَى }{أَوَ أَمِنَ } وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبدمن حيث لا يشعر، قال ابن عطية: {وَمَكَرَ ٱللَّهُ } هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيتالله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمى العقوبة على أيجهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله

{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }

انتهى، وقال عطية العوفي:{مَكْرَ ٱللَّهِ } عذابه وجزاؤه على مكرهم، وقيل مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرّة وكرّر المكر مضافاً إلى اللهتحقيقاً لوقوع جزاء المكر بهم. {أَوَ لَمْ * يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلارْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـٰهُمْبِذُنُوبِهِمْ } قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد {يَهْدِ } يبين وهذا كقوله

{ وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ }

أي بيّنالهم طريق الهدى والفاعل بيهد يحتمل وجوهاً، أحدها أن يعود على الله ويؤيد قراءة من قرأ {يَهْدِ } بالنون، والثانيأن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم من سياق الكلام السابق أي {أَوَ لَمْ * يَهْدِ } ما جرى للأممالسالفة أهل القرى وغيرهم وعلى هذين الوجهين يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد أي أو لميبيّن الله أو ما سبق من قصص القرى ومآل أمرهم للوارثين أصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتناأو قدرتنا على إصابتنا إياهم، والمعنى أنكم مذنبون لهم وقد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحلّ بكم ماحل بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا، والوجه الثالث أن يكون الفاعل بيهد قوله {أَن لَّوْ نَشَاء } فينسبكالمصدر من جواب لو والتقدير أو لم نبين ونوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهمبإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم والمعنى على التقديرين إذا كانت {ءانٍ } مفعولة و {ءانٍ } هنا هي المخففةمن الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف والخبر الجملة المصدرية بلو و {نَشَاء } في معنىشينا لا أن لو التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المضي ومفعول{نَشَاء } محذوف دلّ عليه جواب {لَوْ } والجواب {أَصَبْنَـٰهُمْ } ولم يأتِ باللام وإن كان الفعل مثتباً إذ حذفهاجائز فيصحّ كقوله

{ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجاً }

والأكثر الإتيان باللام كقوله

{ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَـٰماً }

{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا }

والذين يرثون الأرض أي يحلفون فيها من بعد هلاك أهلها وظاهره التسميع لمن كان في عصر الرسول صلىالله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم، وقال ابن عباس يريد أهل مكة، {وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن {نَطْبَعُ عَلَىٰ * قُلُوبِهِمْ } والمعنى أنّ من أوضح الله له سبل الهدى وذكرله أمثالاً ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبوسمعه عن سماع الحق، وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفاً على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضعالمستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذٰلِكَ }

أي إنيشأ يدل عليه قوله

{ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً }

انتهى فجعل {لَوْ } شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لماكان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر:

لا يلفك الراجيك إلاّ مظهرا     خلق الكرام ولو تكون عديما

وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري منجهة المعنى لكن بتقدير أن يكون {وَنَطْبَعُ } بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب {لَّوْنَشَاء } فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتجردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ، قال الزمخشري: (فإن قلت): هل يجوز أن يكون {وَنَطْبَعُ } بمعنى طبعنا كماكان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على {أَصَبْنَـٰهُمْ }، (قلت): لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعاً علىقلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن اللهتعالى لو شاء لاتصفوا بها انتهى هذا الردّ ظاهره الصحة وملخصة أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليهأم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابةلم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل {وَنَطْبَعُ } على معنى ونستمر علىالطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاتسقرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع، وقال أبو عبد الله الرازي:تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن منافياً لصحة العطف وكانقد قرّر أن المعنى أو لم يبين للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن تهلكهم بعدهموهو معنى قوله {أَن لَّوْ نَشَاء } أصبناهم أي بعقاب ذنوبهم {وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي لم نهلكهم بالعذاب {نَطْبَعُعَلَىٰ * قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يقبلون ولا يتّعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاكوإما الطّبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبهانتهى، والعطف في {وَنَطْبَعُ } بالواو بمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك وإما الطبع وظاهر العطفبالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لمنهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد الله الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونهمطبوعاً عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به والله أعلم الجبائي الطّبع سمة في القلبمن نكتة سوداء إن صاحبها لا يفلح وقال الأصم: أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلاتقبل توبتهم، وقال أبو مسلم: الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذهالأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو وأجاز الزمخشري في عطف {وَنَطْبَعُ } وجهينآخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ، قال الزمخشري: (فإن قلت): بم يتعلق قوله تعالى {وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }، (قلت): فيه أوجهأو يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى أو {لَّمْ يَهْدِنِى * لَهُمْ } كأنه قيل يغفلون عن الهداية {وَنَطْبَعُعَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أو على {يَرِثُونَ ٱلارْضَ } انتهى فقوله أنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنهإضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموعالجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره، وقوله أنه معطوف علي {يَرِثُونَ } خطأ لأنه إذا كان معطوفاً علىيرثون كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله{أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـٰهُمْ } بذنوبهم سواء قدرنا {أَن لَّوْ نَشَاء } في موضع الفاعل ليهدأوا في موضع المفعول فهومعمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة {ٱلَّذِينَ } وهو لا يجوز ومعنى قوله {أَصَبْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } بعقاب ذنوبهمأو يضمن {أَصَبْنَـٰهُمْ } معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب علىوجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له. {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } الخطاب للرسول {*والقرى} هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمهوحصل الرّبط بين هذه وبين قوله و {لَوْ أَنَّ * أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ } {وَنَقْصٍ } يحتمل إبقاؤه على حاله منالاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك {مِنْ أَنبَائِهَا } ونحن نقصّ عليك أيضاً منها مفرقاً في السّور ويجوز أن يكون عبربالمضارع عن الماضي أي {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ } قصصنا والأنباء هنا إخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم، و {تِلْكَ } مبتدأ {*والقرى}خبر {وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ } جملة حالية نحو قوله

{ فتلك بيوتهم خاوية }

وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها، كما قيل فيقوله تعالى

{ ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ }

وفي قوله عليه السلام أولئك الملأ من قريش وكقول أمية.

تلك المكارم لا قعبان من لبن    

ولما كان الخبر مقيّداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون {نَقُصُّ }خبراً بعد خبر وأن يكون خبراً {*والقرى} صفة ومعنى {صَـلَحَ مِنْ } التبعيض فدلّ على أنّ لها أنباء أخر لمتقصّ عليه وإنما قصّ ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرّسل ليتّعظ بذلك السامع من هذهالأمة. {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } قال أبي بن كعب ليؤمنوا اليومبما كذبوا من قبل يوم الميثاق، وقال ابن عباس ما كانوا ليخالفوا علم الله فيهم، وقال يمان بن رئاب بماكذبوا أسلافهم من الأمم الخالية لقوله

{ مَا أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَـٰحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }

فالفعلفي {لِيُؤْمِنُواْ } لقوم وفي {بِمَا كَذَّبُواْ } لقوم آخرين. وقيل {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } بالمعجزات التي اقترحوها {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بعد المعجزات {بِمَا كَذَّبُواْ } به قبلها كما قال

{ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين }

، وقالالكرماني: {مِن قَبْلُ } يعود على الرسل تقديره من قبل مجيء الرسل لم يسلب عنهم اسم الكفر والتكذيب بل بقواكافرين مكذبين كما كانوا قبل الرسل، قال الزمخشري: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات اللهقبل مجيء الرسل أو مما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حتى جاءتهم الرسل أي استمروا علىالتكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن باتوا مصرّين لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرارالمواعظ عليهم وتتابع الآيات وقال ابن عطية: يحتمل أربعة وجوه من التأويل، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريقمنهم فكذّبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولميؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصّرامة عليه ويؤيد هذا التأويلقوله

{ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين }

ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمانبسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهمفي الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعضفي الكفر أشار إلى هذا القول النقاش، فكان الضمير في قوله {كَانُواْ } يختص بالآخرين والضمير في قوله {كَذَّبُواْ }يختص بالقدماء منهم، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردّوا إلى الدنيا ومكنوا منالعودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم قاله مجاهد وقرّبه بقوله تعالى

{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ }

وهذه أيضاً صفة بليغة في اللحاج والثبوت على الكفر بل هي غاية في ذلك، والرابع منالوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى بأنهم مكذبون بهفحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرّسل وذكر هذاالقول المفسرون وقربوه بأن الله تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق وهو قول أبي بن كعب انتهى كلام ابنعطية: والذي يظهر أنّ الضمير في كانوا وفي ليؤمنوا عائد على أهل القرى وأن الباء في بما ليست سببية فالمعنىأنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبلظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإتيان بلام الجحود في ليؤمنوا مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهوأبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في بما كذبوا موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّزأن تكون مصدرية، قال الكرماني: وجاء هنا بما كذبوا فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في ولو أنّ أهل القرىآمنوا وقوله ولكن كذبوا وفي يونس أبرزه فقال بما كذبوا به من قبل لما كان قد أبرز في

{ فكذبوه فنجيناه ثم كذّبوا بآياتنا }

فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله انتهى، ملخصاً. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِٱلْكَـٰفِرِينَ } أي مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى حين انتفت عنهم قابلية الإيمان وتساوي أمرهم في الكفر قبلالمعجزات وبعدها يطبع الله على قلوب الكافرين ممن أتى بعدهم، قال الكرماني تقدم ذكر الله بالصريح وبالكناية فجمع بينهما فقال{وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } وختم بالصريح فقال {كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ }، وفي يونس بني على ما قبله بنون العظمة فيقوله {فَنَجَّيْنَـٰهُ * وَجَعَلْنَـٰهُمْ * ثُمَّ بَعَثْنَا } فناسب لطبع بالنون. {وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } أي لأكثر الناسأو أهل القرى أو الأمم الماضية احتمالات ثلاثة قاله التبريزي والعهد هنا هو الذي عوهدوا عليه في صلب آدم قالهأبيّ وابن عباس أو الإيمان قاله ابن مسعود ويدلّ عليه الأمن اتخذ عند الله عهداً وهو لا إله إلا اللهفالمعنى من إيفاء أو التزام عهد، وقيل العهد هو وضع الأدلة على صحة التوحيد والنبوة إذ ذلك عهد في رقابالعقلاء كالعقود فعبر عن صرف عقولهم إلى النظر في ذلك بانتفاء وجدان العهد و {مِنْ } في {مَّنْ عَـٰهَدَ }زائدة تدلّ على الاستغراق لجنس العهد. {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـٰسِقِينَ } إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علمومفعول {وَجَدْنَا } الأولى {لاِكْثَرِهِم } ومفعول الثانية {لَفَـٰسِقِينَ } واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية وتقدّمالكلام على ذلك في قوله

{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً }

ودعوى بعض الكوفيين أنّ إن في نحو هذا التركيب هي النافيةواللام بمعنى إلا، وقال الزمخشري: وإنّ الشأن والحديث وجدنا انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكان الزمخشري يزعم أنّ إنإذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاءً لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء وقد تقدّ لنا تقديرنظير ذلك ورددنا عليه. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُٱلْمُفْسِدِينَ } لما قصّ الله تعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما آل إليه أمر قومهم وكانهؤلاء لم يبقَ منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثرالأمم تكذيباً وتعنتاً واقتراحاً وجهلاً وكان قد بقي من اتباعه عالم وهم اليهود فقصّ الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجرعن أن نتشبه بهم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى الله فيكتابه ونسب لكونهما من نسل إبراهيم ولما استفتح قصة نوح {*بأرسلنا} بنون العظمة اتبع ذلك قصة موسى فقال: {ٱلْمُنْذَرِينَ ثُمَّبَعَثْنَا } والضمير في {مّن بَعْدِهِمْ } عائد على الرسل من قوله و {لَقَدِ * جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ } أوللأمم السابقة والآيات الحجج التي آتاه الله على قومه أو الآيات التسع أو التوراة أقوال وتعدية فظلموا بالباء إما علىسبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله

{ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

وإما أن تكون الباء سببية أيظلموا أنفسهم بسببها أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان أو الرسول فقالوا سحر وتمويه أقوال، وقال الأصم: ظلموا تلك النعمالتي آتاهم الله بأن استعانوا بها على معصية الله تعالى فانظرو أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين جعلهممثالاً توعد به كفرة عصر الرسول عليه السلام. {وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ * فِرْعَونُ إِنّى * رَسُولٌ مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ* حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ * بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ * فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِىإِسْرٰءيلَ } هذه محاورة من موسى عليه السلام لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعى به وأحبّها إليه إذ كان منملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان، وقيصر في الروم، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لايكون فرعون وأمثاله علماً شخصيّاً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الرّبوبية فاتحه موسى بقوله:{إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق ولما كان قوله {حَقِيقٌعَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أردفها بما يدلّ على صحتها وهو قوله {قَدْ جِئْتُكُم } ولماقرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله {فَأَرْسِلْ } ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكرهموسى إلا أنه طلب المعجزة ودلّ ذلك على موافقته لموسى وأنّ الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها بلقال: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ } ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة، وقرأ نافع {عَلَىَّ أَنْ * لاأَقُولَ } بتشديد الياء جعل {عَلَىٰ } داخلة على ياء المتكلم ومعنى {حَقِيقٌ } جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفةلرسول أو خبر بعد خبر و {أَن لا أَقُولَ } الأحسن فيه إن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل يحقّ علىكذا ويجب ويجوز أن يكون {أَن لا أَقُولَ } مبتدأ و {حَقِيقٌ } خبره، وقال قوم: ثمّ الكلام عند قوله{حَقِيقٌ } و {عَلَى أَن لا أَقُولَ } مبتدأ وخبره، وقرأ باقي السبعة على بجرها {أَن لا أَقُولَ } أي{حَقِيقٌ } على قول الحق، فقال قوم: ضمن {حَقِيقٌ } معنى حريص، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي: على بمعنى الباءكما أنّ الباء بمعنى على في قوله

ولا * تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ    

أي على كل صراط فكأنه قيل:{حَقِيقٌ } بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراة أبيّ بأن لاأقول وضع مكان على الباء، قال الأخفش: وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز، وقالالزمخشري: وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه، أحدها: أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله:

وتشقــى الرمــاح بالضيــاطــرة الحمــر    

ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح انتهى، هذا الوجه وأصحابنا يخصُّون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغيأن ينزه القراءة عنه، وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع، قال الزمخشري: والثاني أن ما لزمك لزمتهفلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقّ أي لازماً له، قال الزمخشري: والثالث أن يضمن{حَقِيقٌ } معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه والبيت:

إذا تغنى الحمام الورق هيجني     ولو تسليت عنها أم عمار

قال الزمخشري: والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكتالقرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدوّ اللهفرعون قال لما قال {إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحقّ أي واجب علىقول الحق أنْ أكون أنا قائلة والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به انتهى ولا يتّضح هذا الوجه إلاإن عنى أنه يكون {عَلَى أَن لا أَقُولَ } صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قولالحق، وقال ابن مقسم {حَقِيقٌ } من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقولعلى الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق {عَلَىٰ } برسولولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله {حَقِيقٌ } انتهى. وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولاً العامل في {عَلَىٰ} {أَرْسَلْتَ }، وقال آخر: إنهم غفلوا عن تعليق {عَلَىٰ } برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريينلأنّ رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز وأما التقدير الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسولفهو تقدير سائغ وتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول، وقرأعبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتملأن يكون على إضمار الباء كقراءة أبيّ وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق. ولما ذكر أنه رسول من عند اللهوأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في {جِئْتُكُم }لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى {بَيّنَةً } بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل: التسع الآيات المذكورة فيقوله {في تسع آيات إلى فرعون وقومه }، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاءبدليل ما بعده من قوله {فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ }، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله {مّن رَّبّكُمْ } تعريضأن فرعون ليس ربّاً لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده {فَأَرْسِلْ } أي فخل والإرسال ضدالإمساك {مَعِىَ بَنِى إِسْرٰءيلَ } أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه السلام لماتوفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى عليه السلاموكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلبمن فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية اللهتعالى وتوحيده قال تعالى

{ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبّكَ فَتَخْشَىٰ }

وكل نبي داع إلىتوحيد الله تعالى، وقال تعالى حكاية عن فرعون

{ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـٰبِدُونَ }

فهذا ونظائره دليل على أنهطلب منه الإيمان خلافاً لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل منقوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى. {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِـئَايَةٍفَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهومجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدالّ على الصدق وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختباروتحويزه ذلك ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرّر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينةوالمعنى إن كنت جئت بآية من ربك فاحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك. {فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزعمن قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياةمن أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيوناً وضربهبها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بهاالماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرامومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة. قال ابن عباس والسدّي: صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بينلحييها ثمانون ذراعاً، وقيل: أربعون ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطرابفرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعاً أشياء لم تتعرّضإليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى {مُّبِينٌ } ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبانحقيقة، قال ابن عطية {وَإِذَا } ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبراً عن جثة والصحيحالذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبراً عن جثةليست في هذا المكان خبراً عن جثة بل خبر هي قوله {ثُعْبَانٌ } ولو قلت {فَإِذَا هِىَ } لم يكنكلاماً وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبراً عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلهاظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضاً إلى سيبويهومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم. {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّـٰظِرِينَ } أي جذب {يَدَهُ }قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله

{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تخرج }

، وقيل من كمّه و {لِلنَّـٰظِرِينَ } أي للنظار وفيذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة يجتمعالناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب، قال مجاهد: {بَيْضَاء } كاللبن أو أشدّ بياضاً، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافةكالشمس ثم يردّها فترجع إلى لون موسى وكان آدم عليه السلام شديد الأدمة، وقال ابن عباس صارت نوراً ساطعاً يضيءله ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم، وقال الكلبي: بلغنا أن موسى عليه السلامقال يا فرعون ما هذه بيدي قال: هي عصا فألقاها موسى فإذا هي ثعبان، وروي أن فرعون رأى يد موسىفقال لفرعون ما هذه فقال: يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعهاشعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء، والأخر في غير نفسه وهي العصا وجمعبذينك تبدّل الذرات وتبدل الاعراض فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع، قال أبو محمد بن عطية: هاتانالآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما وخرق العادة بهما وتحدّى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلناالتحدّي الدّعاء إلى الدين مطلقاً فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدّي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذالعصا بذلك لأنّ المعارضة والمعجز فيها وقعا ويقال: التحدّي هو الدعاء ألى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث وعليه يكونتحدّي موسى بالآيتين جميعاً لأنّ الظاهر من أمره أنه عرضهما معاً وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهماانتهى، وهو كلام فيه تثبيج. {قَالَ ٱلْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ }. وفي الشعراء

{ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ }

والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أوقاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهمالرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة والدليل عليه أ نهم أجابوه في قوله {أَرْجِهْ }وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب فلما رأوا انقلاب العصا ثعباناً والأدماء بيضاء وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمهبوصفه بالسحر وحطّ قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا فيوصفه بأن قالوا: {عَلِيمٌ } أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كانمن كلام الكفار في التنقص والاستغراب كما قال

{ أَهَـٰذَا ٱلَّذِى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ }

{ أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً }

{ إنْ هذا إلا أساطير الأولين }

{ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ }

{ إِنْ هَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ }

{ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ }

يعدلون عن لفظ اسم ذلك الشيء إلى لفظ الإشارة وأكدّوا نسبة السحر إليه بدخول إن واللام.من بني إسرائيلفبعث بهم إلى قرية. قال البغوي: هي الفرما يعلمونهم السحر كما يعلمون الصبيان في المكتب فعلموهم سحراً كثيراً وواعد فرعونموسى موعداً ثم دعاهم وسألهم فقال: ماذا صنعتم قالوا علمناهم من السحر ما لا يقاومهم به أهل الأرض إلا أنيكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به، وقرأ الأخوان بكل سحّار هنا وفي يونس والباقون {سَـٰحِرٌ } وفيالشعراء أجمعوا على سحار وتناسب سحار {عَلِيمٌ } لكونهما من ألفاظ المبالغة ولما كان قد تقدّم

{ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ }

ناسب هنا أن يقابل بقوله {بِكُلّ سَـٰحِرٍ عَلِيمٍ }. {وَجَاء ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّانَحْنُ ٱلْغَـٰلِبِينَ } في الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره فأرسل حاشرين وجمعوا السحرة وأمرهم بالمجيء واضطرب الناقلون للأخبار في عددهماضطراباً متناقضاً يعجب العاقل من تسطيره في الكتب فمن قائل تسعمائة ألف ساحر وقائل سبعين ساحراً فما بينهما من الأعدادالمعينة المتناقضة {وَجَاء } قالوا: بغير حرف عطف لأنه على تقدير جواب سائل سأل ما قالوه إذ جاء قالوا {إِنَّلَنَا لاجْرًا } أي جعلاً، وقال الحوفي {وَقَالُواْ } في موضع الحال من السحرة والعامل {جَاء }، وقرأ الحرميان وحفص{ءانٍ } على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى لأجراً عظيماً ولهذاقال الزمخشري: والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة وجوّز أبو علي أن تكون {ءانٍ} استفهاماً حذفت منه الهمزة كقراءة الباقين الذين أثبتوها وهم الأخوان وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو فمنهم من حققهماومنهم من سهل الثانية ومنهم من أدخل بينهما ألفاً والخلاف في كتب القراءات وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل علىاستطالتهم عليه باحتياجه إليهم وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثل علمهو {نَحْنُ } إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف، وقال الحوفي في جوابه ما تقدم. {قَالَ نَعَمْوَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } أي نعم إن لكم لأجراً {وَإِنَّكُمْ } فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد {نِعْمَ }التي هي نائبة عنها والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكمأن تكونوا من المقربين فتحوزون إلى الأجر الكرامة والرّفعة والجاه والمنزلة والمثاب إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز إلى ذلكالإكرام، وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدّة اضطراره لهم وإنهم كانوا عالمين بأنه عاجز ولذلك احتاجإلى السحرة في دفع موسى عليه السلام. {قَالُواْ يأَبَانَا * مُوسَىٰ إَمَامًا * أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُٱلْمُلْقِينَ }. قال الزمخشري تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوافي الجدال والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع انتهى. وقال القرطبي تأدّبوا مع موسى عليه السلام بقولهم {إِمَّا أَن تُلْقِىَ} فكان ذلك سبب إيمانهم والذي يظهر أنّ تخييرهم إياه ليس من باب الأدب بل ذلك من باب الإدلال لمايعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى كما قال الفرّاء لسيبويه حين جمع الرشيد بينسيبويه والكسائي أتسأل فأجيب أم أبتدىء وتجيب فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه والملاءة بما عنده وعدم الاكتراثبمناظرته والوثوق بأنه هو الغالب، قال الزمخشري: وقولهم {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ } فيه ما يدل على رغبتهم فيأن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل انتهى، وأجازوا في {أَن تُلْقِىَ } وفي {أَننَّكُونَ } النصب أي اختر وافعل إما إلقاءك وإما أمرك الإلقاء أي البداءة به أو إما أمرنا الإلقاء فيكون خبرمبتدأ محذوف ودخلت {ءانٍ } لأنه لا يكون الفعل وحده مفعولاً ولا مبتدأ بخلاف قوله

{ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ }

فالفعل بعد {أَمَّا } هنا خبر ثان لقوله {وَءاخَرُونَ } أو صفة فليس منمواضع أن ومفعول {تُلْقِىَ } محذوف أي إما أن تلقي عصاك وكذلك مفعول {ٱلْمُلْقِينَ } أي الملقين العصى والحبال.{قَالَ أَلْقَوْاْ } أعطاهم موسى عليه السلام التقدّم وثوقاً بالحق وعلماً أنه تعالى يبطله كما حكى الله عنه

{ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ }

. قال الزمخشري: وقد سوّغ لهم موسى عليه السلام ما تراغبوا فيه ازدراءًلشأنهم وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبداً انتهى والمعنى ألقوا حبالكم وعصيكم والظاهرأنه أمر بالإلقاء. وقيل هو تهديد أي فسترون ما حل بكم من الافتضاح. {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْوَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى

{ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ }

. {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهممن أرضهم وخلوّ مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا إلى الإخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ غرّق الله فرعون وآلهوأخلى منازلهم منهم ونبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لفتل الأنفس كما قال

{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَـٰرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ }

وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسالخدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم وأما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليهمن بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجاً كالجزية فرأوا أنّ ملكهم يذهب بزوالذلك وجاء في سورة الشعراء

{ بِسِحْرِهِ }

وهنا حذفت لأنّ الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ولأن لفظساحر يدل على السحر و {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } من قول فرعون أو من قول الملأ إمّا لفرعون وأصحابه وإما لهوحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر، وقال ابن عباس: معناه تشيرون به، قال الزمخشري: من أمرتهفأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي، وقرأ الجمهور {تَأْمُرُونَ } بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافعبكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاماً وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسّع فيه بأن حذف منهحرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أي أيّ شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوزأن تكون ما استفهاماً مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و {تَأْمُرُونَ } صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي{تَأْمُرُونَ } الأوّل وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني بهوكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدرابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي {تَأْمُرُونَ } ضمير عائد على {ٱلَّذِى} تقديره تأمرون به انتهى، وهذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف الجر وذلك الشرطهو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحدالمتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ويتّحد معنى الحرف أيضاً لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليهالفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع. {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي قال من حضر مناظرة موسى منعقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل: ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروابالقتل وقالوا: إنْ قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة وقرىء بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد، وقيلالمعنى احبسه، وقيل {أَرْجِهْ } بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه {وَأَخَاهُ } ولاتقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظنّ أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبيَّن منغير آبة أنهما ذهبا معاً وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقاً له في دعواه ومؤازراً أشاروا بإرجائهما، وقرأ ابن كثيروهشام أرجئهو بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل، وروي هذا عن هشام وعن يحيىعن أبي بكر، وقرأ ورش والكسائي أرجهي بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء، وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاءوقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء، وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي وفي المشهور عنه أرجئه بالهمزوكسر الهاء من غير صلة، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء، قال ابن عطية وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاءبهمزة قبلها، قال الفارسي: وهذا غلط انتهى، ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيّد لأن الذي روى ذلكإنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وقال بعضهم:قال أبو علي ضمّ الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال: ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابنمجاهد بعده وهذا لا يجوز لأنّ الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة، وقال الحوفي: ومنالقراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد، وقال أبو البقاء: ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأنّ الهمز حرفصحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضاً علىتوهّم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيراً ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة فيكسر ما بعده وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة، وأنها لا تجوز قول فاسد لأنها قراءة ثابتةمتواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلةللتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة. {وَأَرْسِلْ فِى ٱلْمَدَائِنِ حَـٰشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلّ سَـٰحِرٍ عَلِيمٍ} {ٱلْمَدَائِنِ } مدائن مصر وقراها والحاشرون، قال ابن عباس هم أصحاب الشرط، وقال محمد بن إسحاق لما رأىفرعون من آيات الله عز وجل ما رأى قال: لن نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلماناً وفي قوله{سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ } دلالة على أنّ السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخيل واسترهبوهم أي أرهبوهم واستفعلهنا بمعنى افعل كأبل واستبل والرّهبة الخوف والفزع، وقال الزمخشري: {وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهبتهم انتهى، وقالابن عطية {وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } بمعنى وأرهبوهم فكان فعلهم اقتضى واستدى الرّهبة من الناس انتهى ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاءوالطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب والظاهر هنا حصول الرّهبة فلذلك قلنا إن استفعل فيه موافق افعل وصرّح أبوالبقاء بأنّ معنى {*استرهبوهم} طلبوا منهم الرّهبة ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي رويأنهم جاؤوا بحبال من أدم وأخشاب مجوفة مملوءة زنبقاً وأوقدوا في الوادي ناراً فحميت بالنار من تحت وبالشمس من فوقفتحركت وركب بعضها بعضاً وهذا من باب الشعبذة والدك وروي غير هذا من حيلهم وفي الكلام حذف تقديره قال ألقوافألقوا فلما ألقوا والفاء عاطفة على هذا المحذوف، وقال الحوفي الفاء جواب الأمر انتهى، وهو لا يعقل ما قال ونقولوصف بعظيم لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصى والحبال حيات وفيالأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف ولما كانت الرّهبة ناشئة عن رؤية الأعين تأخرت الجملة الدالة عليها.

{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } * { قَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } * { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } * { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } * { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } * { قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } * { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } * { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } * { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ } * { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } * { فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } * { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } * { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } * { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

عدل

لقف الشيء لقفاً ولقفاناً أخذه بسرعة فأكله أو ابتلعه ورجل ثقف لقف سريعالأخذ ولقيف ثقيف بين الثقافة واللقافة ولقم ولهم ولقف بمعنى ومنه التقفته وتلقفته تلقيفاً. مهما اسم خلافاً للسهيلي إذ زعمأنها قد تأتي حرفاً وهي أداة شرط وندر الاستفهام بها في قوله:

مهما لي الليلة مهماليه     أودي بنعلي وسرباليه

وزعم بعضهم أنها إذا كانت اسم شرط قد تأتي ظرف زمان وفي بساطتها وتركيبها منماما أو من مه ما خلاف ذكر في النحو وينبغي أن يحمل قول الشاعر:

أما ويّ مه من يستمع في صديقه     أقاويل هذا الناس ما وي يندم

على أنه لا تركيب فيها بل مه بمعنى أكففومن هي اسم الشرط، الجراد معروف واحده جرادة بالتاء للذكر والأنثى ويميز بينهما الوصف وذكر التصريفيون أنه مشتقّ من الجرادقالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً. القمل قال أبو عبيدة: هو الحمنان واحده حمنانة وهو ضرب من القردان وستأتيأقوال المفسرين فيه. الضفدع هو الحيوان المعروف وتكسر داله وتفتح وهو مؤنث وشذّ جمعهم له بالألف والتاء قالوا: ضفدعات. النكثالنقض. اليم البحر. قال ذو الرمة:

داوية ودجى ليل كأنهما     يم تراطن في حافاته الروم

وتقدّمت هذه المادة في فتيمموا إلا أن ابن قتيبة قال: اليم البحر بالسّريانية. وقيل بالعبرانية. التدمير الإهلاك وإخراب البناء.التتبير الإهلاك ومنه التبر لتهالك الناس عليه. وقال ابن عطية والكرماني: التتبير الإهلاك وسوء العقبى وأصله الكسر ومنه تبر الذهبلأنه كساره. {عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }. الظاهر أنه وحيُ إعلامكما روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال له أنّ الحق يأمرك أن تلقى عصاك وكونه وحي إعلام فيه تثبيتللجأش وتبشير بالنصر، وقال قوم: هو وحي إلهام ألقى ذلك في روعه وأن يحتمل أن تكون المفسّرة وأن تكون الناصبةأي بأن ألق، وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها {فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } وتكون الجملة الفجائية إخباراً بماترتب على الإلقاء ولا يكون موحى بها في الذكر ومن يذهب إلى أنّ الفاء في نحو خرجت فإذا الأسد زائدةيحتمل على قوله أن تكون هذه الجملة موحى بها في الذكر إلا أنه يقدر المحذوف بعدها أي فألقاها فلقفته، وقرأحفص {تَلْقَفْ } بسكون اللام من لقف، وقرأ باقي السبعة {تَلْقَفْ } مضارع لقف حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف،وقرأ البزي بإدغام المضارعة في التاء في الأصل، وقرأ ابن جبير تلقم بالميم أي تبلع كاللقمة {وَمَا } موصولة أيما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه قالوا أو مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمفعول بالمصدر. روي أنموسى عليه السلام لما كان يوم الجمع خرج متوكئاً على عصاه ويده في يد أخيه وقد صفّ له السحرة فيعدد عظيم فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه فألقى فإذا هي ثعبان عظيم حتى كان كالجبل، وقيل: طال حتى جازالنيل، وقيل: طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم، وقيل كان الجمع باسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة، وروي أنهم جعلوايرقون وحبالهم وعصيهم تعظم وعصا موسى تعظم حتى سدّت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد عصا وأعدم الله العصيّ والحبال ومدّموسى يده في الثعبان فعاد عصا كما كان فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجّداً مؤمنينبالله ورسوله، قال الزمخشري: أعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة وقالت السّحرة لو كان هذا سحراًلبقيت حبالنا وعصينا. {فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال ابن عباس والحسن ظهر واستبان، وقال أرباب المعاني الوقوعظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره، قال القاضي: فوقع الحقّ يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصحّ فيه البطلان كمالا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعاً ومع ثبوت الحقّ بطلب وزالت تلك الأعيان التي أتوا بها وهي الحبالوالعصي، قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير فوقع في قلوبهم أي فأثر فيها من قولهم فاس وقيع أي مجرد انتهى، و{مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعم سحر السحرة وسعى فرعون وشيعته. {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَـٰغِرِينَ } أي غلب جميعهم في مكاناجتماعهم أو ذلك الوقت {وَٱنقَلَبُواْ } أذلاّء وذلك أنّ الانقلاب إن كان قبل إيمان السحرة فهم شركاؤهم في ضمير {ٱنقَلَبُواْ} وإن كان بعد الإيمان فليسوا داخلين في الضمير ولا لحقّهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا وهذا إذاكان الانقلاب حقيقة أما إذا لوحظ فيه معنى الصيرورة فالضمير في {وَٱنقَلَبُواْ } شامل للسحرة وغيرهم ولذلك فسّره الزمخشري بقولهوصاروا أذلاّء بهوتين. {وَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ } لما كان الضمير قبل مشتركاً جرد المؤمنون وأفردوا بالذكر والمعنى خرُّوا سجداً كأنماألقاهم ملق لشدة خرورهم، وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا وسجودهم كان لله تعالى لما رأوا من قدرة اللهتعالى فتيقنوا نبوّة موسى عليه السلام واستعظموا هذا النوع من قدرة الله تعالى، وقيل: ألقاهم الله سجداً سبب لهم منالهدى ما وقعوا به ساجدين، وقيل سجدوا موافقة لموسى وهارون فإنهم سجدا لله شكراً على وقوع الحقّ فوافقوهما إذ عرفواالحقّ فكأنما ألقياهم، قال قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة، وقال الحسن: تراه ولد في الإسلامونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى. {قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ* رَبّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ } أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في {سَـٰجِدِينَ } أو من السحرةوعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله شكراً على المعرفة والإيمان والقول المنبىء عن التصديق الذي محله القلوب ولما كان السجودأعظم القرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به متلبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليهإذ الدخول في الإيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقاً لقول موسى إني رسول من ربّ العالمين ولماكان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى كقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصّوا بالبدل على أنّ ربّ العالمين {رَبّمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ } وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة، وقيل: بل قاله رؤساؤهم وسمى ابنإسحاق منهم الرؤساء فقال هم سابور وعازور وخطخط ومصفى وحكاه ابن ماكولا أيضاً، وقال مقاتل: أكبرهم شمعون وبدأوا بموسى قبلهارون وإن كان أكبر سناً من موسى قيل بثلاث سنين لأنّ موسى هو الذي ناظر فرعون وظهرت المعجزتان في يدهوعصاه ولأن قوله {وَهَـٰرُونَ } فاصلة وجاء في طه

{ رَبّ هَـٰرُونَ مُوسَىٰ }

لأنّ موسى فيها فاصلة ويحتمل وقوع كلمنهما مرتّباً من طائفة وطائفة فنسب فعل بعض إلى المجموع في سورة وبعض إلى المجموع في شورة أخرى، قال المتكلمون:وفي الآية دلالة على فضيلة العلم العلم لأنهم لما كانوا كاملين في علم السحر علموا أنّ ما جاء به موسىحقّ خارج عن جنس السحر ولولا العلم لتوهّموا أنه سحر وأنه أسحر منهم. {قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْءاذَنَ لَكُمْ } قرأ حفص {أَمِنتُمْ } على الخبر في كل القرآن أي فعلتم هذا الفعل الشنيع وبّخهم بذلك وقرعهم،وقرأ العربيان ونافع والبزي بهمزة استفهام ومدة بعدها مطولة في تقدير ألفين إلا ورشاً فإنه يسهل الثانية ولم يدخل أحدألفاً بين المحققة والملينة وكذلك في طه والشعراء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر فيهن بالاستفهام وحققا الهمزة وبعدها ألف وقرأقنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واواً الضمة نون فرعون وتحقيق الهمزة بعدها أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجهوقرأ في طه مثل حفص وفي الشعراء مثل البزي هذا الاستفهام معناه الإنكار والاستبعاد والضمير في {بِهِ } عائد علىالله تعالى لقولهم {قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، وقيل يحتمل أن يعود على موسى وفي طه والشعراء يعود في قولهله على موسى لقوله

{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ }

، وقيل آمنت به وآمنت له واحد في قوله {قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ }دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم بمفارقة الإذن ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط. {إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌمَّكَرْتُمُوهُ فِى ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } أي صنيعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منهاإلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل قال هذا تمويهاً علىالناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان روي عن ابن مسعود وابن عباس أن موسى عليه السلام اجتمع مع رئيس السحرةشمعون فقال له موسى أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم فعلم بذلك فرعون فقال ما قال انتهى، ولماخاف فرعون أن يكون إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبه أحدهما إنّ هذا تواطؤ منهم لاأنّ ما جاء به حق والثاني {إِنَّ ذٰلِكَ }. {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تهديد ووعيد ومفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف أي ما يحلّ بكم أبهم في متعلق {تَعْلَمُونَ } ثم عين ما يفعل بهم فقال مقسماً: {لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْوَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء إذا غلبوا من تعذيب منناوأهم وإن كان محقّاً ومعنى {مّنْ خِلَـٰفٍ } أي يد يمنى ورجل يسرى والعكس، قيل هو أول من فعل هذا،وقيل المعنى من أجل الخلاف الذي ظهر منكم والصلب التعليق على الخشب وهذا التوعد الذي توعده فرعون السحرة ليس فيالقرآن نص على أنه أنفذه وأوقعه بهم ولكن روي في القصص أنه قطع بعضاً وصلب بعضاً وتقدم قول قتادة، ورويعن ابن عباس أنهم أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقرأ مجاهد وحميد المكي وابن محيصن {لاقَطّعَنَّ } مضارع قطع الثلاثي {لاَصَلّبَنَّكُمْ} مضارع صلب الثلاثي بضم لام {لاَصَلّبَنَّكُمْ } وروي بكسرها وجاء هنا {ثُمَّ } وفي السورتين

{ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ }

بالواو فدلعلى أن الواو أريد بها معنى ثم من كون الصلب بعد القطع والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون.{قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } هذا تسليم واتّكال على الله تعالى وثقه بما عنده والمعنى أنا نرجع إلىثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد أو أنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائكأو أنا ميتون منقلبون إلى الله فلا نبالي بالموت إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بدّ لنامنه فالانقلاب الأول يكون المراد به يوم الجزاء وهذان الانقلابان المراد بهما في الدنيا ويبعد أن يراد بقوله {وَأَنَا }ضمير أنفسهم وفرعون أي ننقلب إلى الله جميعاً فيحكم بيننا لقوله {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } فإنّ هذا الضمير يخصُّ مؤمنيالسحرة والأولى اتحاد الضمائر والذي أجاز هذا الوجه هو الزمخشري: وفي قولهم {إِلَىٰ رَبّنَا } تبرؤ من فرعون ومن ربوبيتهوفي الشعراء لا ضير لأن هذه السورة اختصرت فيها القصة واتسعت في الشعراء ذكر فيها أحوال فرعون من أوّلها إلىآخرها فبدأ بقوله

{ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً }

وختم بقوله

{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلاْخَرِينَ }

فوقع فيها زوائد لم تقع فيهذه السورة ولا في طه قاله الكرماني. {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } قالالضحاك: وما تطعن علينا، وقال غيره: وما تكره منا، وقال الزمخشري: وما تعيب منا، وقال ابن عطية: وما تعد عليناذنباً وتؤاخذنا به وعلى هذه التأويلات يكون قوله {إلا أن آمنا } في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرّغ منالمفعول وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله

{ قُلْ يٰأَهْلَ * أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ * هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا }

{ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ }

وهذا الفعل في لسان العرب يتعدّى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه والذييظهر من تعديته بمن أنّ المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله فينتقم الله منه أي يناله بمكروهويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر واقتدر وعلى هذا يكون قوله

{ إلا أن آمنا }

مفعولاً من أجله واستثناءمفرّغاً أي ما تنال منا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء،قال عطاء: أي ما لنا عندك ذنب تعذّبنا عليه إلا أنّا آمنا، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلامومن جعل لما ظرفاً جعل العامل فيها {مِنَّا إِلاَّ } ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً لدلالة ما قبلهعليه أي لما جاءتنا آمنا وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الرّبوبية وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمانبالله هو أصل المفاخر والمناقب وهذا الاستثناء شبيه بقوله:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم     بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم وابن أبي عبلة {وَمَا تَنقِمُ } بفتح القاف مضارع نقم بكسرهاوهما لغتان والأفصح قراءة الجمهور. {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } لما أوعدهم بالقطع والصلب سألوا الله تعالىأن يرزقهم الصبر على ما يحلّ بهم إن حل وليس في هذا السؤال ما يدل على وقوع هذا الموعد بهمخلافاً لمن قال يدلّ على ذلك ولا في قوله وتوفّنا مسلمين دليل على أنه لم يحلَّ بهم الموعود خلافاً لمنقال يدلّ على ذلك لأنهم سألوا الله أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القطع والقتل وتقدّم الكلام على جملة{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } سألوا الموت على الإسلام وهو الانقياد إلى دين الله وما أمر به.{وَقَالَ ٱلْمَلاَ مِن قَوْمِفِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ }. قال ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألفمن بني إسرائيل، قال مقاتل: ومكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات وتضمن قول {ٱلْمَلاَ} إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم وتعذيبهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون ويعني بقومه مناتبعه من بني إسرائيل فيكون الاستفهام على هذا استفهام إنكار وتعجّب، وقيل: هو استخبار والغرض به أن يعلموا ما فيقلب فرعون من موسى ومن آمن به، قال مقاتل: والإفساد هو خوف أن يقتلوا أبناء القبط ويستحيوا نساءهم على سبيلالمقاصّة منهم كما فعلوا هي ببني إسرائيل، وقيل الإفساد دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته. وقرأ الجمهور {وَيَذَرَكَ} بالياء وفتح الراء عطفاً على {لِيُفْسِدُواْ } أي للإفساد ولتركك وترك آلهتك وكان التّرك هو لذلك وبدؤوا أوّلاً بالعلةالعامة وهي الإفساد ثم اتبعوه بالخاصة ليدلّوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضاً يؤول إلى شيءيختصّ بفرعون قدحوا بذلك زند تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم إذ هم الأشراف وبترك موسى وقومه بمصريذهب ملكهم وشرفهم، ويجوز أن يكون النصب على جواب الاستفهام والمعنى أنى يكون الجمع بين تركك موسى وقومه للإفساد وبينتركهم إياك وعبادة آلهتك أي إنّ هذا مما لا يمكن وقوعه، وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه {وَيَذَرَكَ }بالرفع عطفاً على {أَتَذَرُ } بمعنى أتذره ويذرك أي أتطلق له ذلك أو على الاستئناف أو على الحال على تقديروهو يذرك، وقرأ الأشهب العقيلي والحسن بخلاف عنه {وَيَذَرَكَ } بالجزم عطفاً على التوهّم كأنه توهم النطق يفسدوا جزماً علىجواب الاستفهام كما قال

{ فَأَصَّدَّقَ * وَنَبِيّا مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ }

أو على التخفيف من {وَيَذَرَكَ }، وقرأ أنس بن مالكونذرك بالنون ورفع الراء توعدوه بتركه وترك آلهته أو على معنى الإخبار أي إنّ الأمر يؤول إلى هذا، وقرأ أبيّوعبد الله {فِى ٱلاْرْضِ } وقد تركوك أن يعبدوك {وَءالِهَتَكَ }، وقرأ الأعمش وقد تركك وآلهتك. وقرأ الجمهور {وَءالِهَتَكَ }على الجمع والظاهر أنّ فرعون كان له آلهة يعبدها، وقال سليمان التيمي: بلغني أنه كان يعبد البقر، وقيل: كان يعبدحجراً يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها، وقيل: الإضافة هي على معنى أنه شرع لهم عبادة آلهة من بقر وأصناموغير ذلك وجعل نفسه الإلۤه الأعلى فقوله على هذا

{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ }

إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه منالمعبودات، قيل: كانوا قبطاً يعبدون الكواكب ويزعمون أنها تستجيب دعاء من دعاها وفرعون كان يدعي أن الشمس استجابت له وملَّكتهعليهم، وقرأ ابن مسعود وعليّ وابن عباس وأنس وجماعة غيرهم وإلۤهتك وفسروا ذلك بأمرين أحدهما أنّ المعنى وعبادتك فيكون إذذاك مصدراً، قال ابن عباس: كان فرعون يعبد ولا يعبد، والثاني أن المعنى ومعبودك وهي الشمس التي كان يعبدها والشمستمسى إلهة علماً عليها ممنوعة الصرف. {قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ } وإنما لم يعاجل موسىوقومه بالقتال لأنه كان مليء من موسى رعباً والمعنى أنه قال سعيد عليهم ما كنا فعلنا بهم قبل من قتلأبنائهم ليقل رهطه الذين يقع الإفساد بواسطتهم والفوقية هنا بالمنزلة والتمكّن في الدنيا و {قَـٰهِرُونَ } يقتضي تحقيرهم أي قاهرونلهم قهراً قلّ من أن نهتم به فنحن على ما كنا عليه من الغلبة أو أنّ غلبة موسى لا أثرلها في ملكنا واستيلائنا ولئلا يتوهم العامة أن المولود الذي تحدّث المنجمون عنه والكهنة بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلكعن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه وإنه منتظر بعد وشدّد {سَنُقَتّلُ } ويقتلون الكوفيون والعربيان وخففهما نافع وخفف ابن كثير {سَنُقَتّلُ} وشدد ويقتلون. {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ } لما توعّدهم فرعون جزعوا وتضجّروا فسكنهم موسى عليه السلاموأمرهم بالاستعانة بالله وبالصبر وسلاهم ووعدهم النصر وذكرهم ما وعد الله بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم.{إِنَّ ٱلارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ }. أي أرض مصر وأل فيه للعهد وهي {ٱلاْرْضِ } التي كانوافيها، وقيل: {ٱلاْرْضِ } أرض الدّنيا فهي على العموم، وقيل: المراد أرض الجنة لقوله

{ وَأَوْرَثَنَا ٱلاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء }

وتعدّى {ٱسْتَعِينُواْ } هنا بالباء وفي

{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

بنفسه وجاء اللهم إنا نستعينك. {وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }قيل: النصر والظفر، وقيل: الدار الآخرة، وقي: السعادة والشهادة، وقيل: الجنة، وقال الزمخشري: الخاتمة المحمودة {لّلْمُتَّقِينَ } منهم ومن القبطوإنّ المشيئة متناولة لهم انتهى، وقرأت فرقة {يُورِثُهَا } بفتح الراء، وقرأ الحسن {يُورِثُهَا } بتشديد الراء على المبالغة ورويتعن حفص، وقرأ ابن مسعود وأبيّ {وَٱلْعَـٰقِبَةُ } بالنصب عطفاً على {إِنَّ ٱلارْضَ } وفي وعد موسى تبشير لقومه بالنصروحسن الخاتمة ونتيجة طلب الإعانة توريث الأرض لهم ونتيجة الصبر العاقبة المحمودة والنصر على من عاداهم فلذلك كان الأمر بشيئينينتج عنهما شيئان. قال الزمخشري: فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الذي قبلها؟ قلت: هي جملةمبتدأة مستأنفة وأما {وَقَالَ ٱلْمَلاَ } فمعطوفة على ما سبقها من قوله {قَالَ ٱلْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } انتهى.{قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي بابتلائنا بذبح أبنائنا مخافة ما كان يتوقع فرعونمن هلاك ملكه على يد المولود الذي يولد منا {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا }، قال الزمخشري: من قبل مولد موسىإلى أن استنبأ {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } إعادة ذلك عليهم قاله ابن عباس وزاد الزمخشري: وما كانوا يستعبدون ويمتهنونفيه من أنواع الخدم والمهن ويمسّون به من العذاب انتهى، وقال ابن عطية: والذي من بعد مجيئه يعنون به وعيدفرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم، وقال الحسن: بأخذ الجزية منهم قبل بعث موسى إليهم وبعدبعثه ما زاد على ذلك، وقال الكلبي: كانوا يضربون له اللبن ويعطيهم التّبن فلما جاء موسى غرمهم التبن وكان النساءيغزلن له الكتان وينسجنه، وقال جرير: استسخرهم من قبل إتيان موسى في أوّل النهار إلى نصف النهار فما جاء موسىاستسخرهم النهار كله بلا طعام ولا شراب، وقال علي بن عيسى {مِن قَبْلُ } بالاستعباد وقتل الأولاد {وَمِن بَعْدِ }بالتهديد والإبعاد، وروي مثله عن عكرمة، وقيل من {قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } بعهد الله بالخلاص {وَمِنْ * بَعْدَمَا * جِئْتَنَا} به قالوه في معرض الشكوى من فرعون واستعانة عليه بموسى، وقال ابن عباس والسدّي: قالوا ذلك حين اتبعهم واضطرّهمإلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحراً أمامهم وعدوّاً كثيفاً وراءهم لما أسرى بهم موسى حتى هجموا على البحر التفتوا فإذاهم برهج دواب فرعون فقالوا هذه المقالة وقالوا هذا البحر أمامنا وهذا فرعون وراءنا قد رهقنا بمن معه انتهى. وهذاالقول فيه بعد وسياق الآيات يدلّ على الترتيب وقد جاء بعد هذه {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسّنِينَ }، قال ابنعطية: وهو كلام يجري على المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدّين انتهى، قيلولا يدلّ قولهم ذلك على كراهة مجيء موسى لأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإنما قالوه لأنه كان وعدهم بزوال المضارفظنوا أنها نزول على الفور فقولهم ذلك استعطاف لا نفرة. {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلاْرْضِفَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } هذا رجاء من نبي الله موسى عليه السلام ومثله من الأنبياء يقوي قلوب أتباعهم فيصبرون إلىوقوع متعلق الرّجاء ولا تنافي بين هذا الرجاء وبين قوله {وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } من حيث إن الرجاء غير مقطوع بحصولمتعلّقة والأخبار بأنّ العاقبة للمتقين واقع لا محالة لأن العاقبة إن كانت في الآخرة فظاهر جدّاً عدم التنافي وإن كانتفي الدنيا فليس فيها تصريح بعاقبة هؤلاء القوم المخصوصين فسلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء، وقالالتبريزي يحتمل أن يكون قد أوحى بذلك إلى موسى فعسى للتحقيق أو لم يوح فيكون على الترجي منه، قال الزمخشري:تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر، وقال ابن عطيةواستعطاف موسى لهم بقوله {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدلّ على أنه يستدعي نفوساًنافرة ويقوي هذا الظن في جهة بني إسرائيل وسلوكهم هذا السبيل في غير قصة والأرض هنا أرض مصر قاله ابنعباس وقد حقّق الله هذا الرجاء بوقوع متعلقة فأغرق فرعون وملكهم مصر ومات داود وسليمان، وقيل: أرض الشام فقد فتحوابيت المقدس مع يوشع وملكوا الشام ومات داود وسليمان ومعنى {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي في استخلافكم من الإصلاح والإفسادوهي جملة تجري مجرى البعث والتحريض على طاعة الله تعالى وفي الحديث أن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، وقال الزمخشري: فيرى الكائن منكم من العمل حسنة وقبيحة وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجدمنكم انتهى، وفيه تلويح الاعتزال ودخل عمرو بن عبيد وهو أحد كبار المعتزلة وزهادهم على المنصور ثاني خلفاء بني العباسقبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان وطلب زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية، ثم دخل عليه بعدما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }. {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسّنِينَ وَنَقْصٍ مّنٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } الأخذ التناول باليد ومعناه هنا الابتلاء في المدّة التي كان أقام بينهم موسى يدعوهم إلى اللهومعنى بالسنين بالقحوط والجدوب والسنة تطلق على الحول وتطلق على الجدب ضد الخصب وبهذا المعنى تكون من الأسماء الغالبة كالنجموالدّبران وقد اشتقوا منها بهذا المعنى فقالوا أسنت القوم إذا أجدبوا ومنه قوله:

ورجــال مكــة مسنتـوون عجــاف    

وقال حاتم:

فإنا نهين المال من غير ضنّة     ولا يستكينا في السنين ضريرها

وفي سنين لغتان أشهرهما إعرابها بالواوورفعا والياء جرًّا ونصباً وقد تكلف النحاة علة لكونها جمعت هذا الجمع والأخرى جعل الإعراب في النون والتزام الياء فيالأحوال الثلاثة نقلها أبو زيد والفراء، وقال الفراء: هي في هذه اللغة مصروفة عند بني عامر وغير مصروفة عند غيرهموالكلام على ذلك أمعن في كتب النحو وكان هذا الجدب سبع سنين، قال ابن عباس وقتادة: أما السّنون فكانت لباديتهمومواشيهم وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وهذه سيرة الله في الأمم يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيهمن النعم فإنّ الشدة تجلب الإنابة والخشية ورقة القلب والرجوع إلى طلب لطف الله وإحسانه وكذا فعل بقريش حين دعاعليهم رسول الله اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف وروي أنه يبس لهم كل شيء حتىنيل مصر ونقصوا من الثمرات حتى كانت النخلة تحمل الثمرة الواحدة ومعنى {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } رجاء لتذكرهم وتنبههم على أنذلك الابتلاء إنما هو لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم بآيات الله فيزدجروا. {فَإِذَا جَاءتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْسَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } ابتلوا بالجدب ونقص الثمرات رجاء التذكير فلم يقع المرجو وصاروا إذا أخصبوا وصحّوا قالوا:نحن أحقاء بذلك وإذا أصابهم ما يسوءهم تشاءموا بموسى وزعموا أن ذلك بسببه واللام في {لَنَا } قيل للاستحقاق كماتقول السّرج للفرس وتشاؤمهم بموسى ومن معه معناه أنه لولا كونهم فينا لم يصبنا كما قال الكفار للرسول عليه السلامهذه من عندك في قوله

{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ }

وأتى الشرط بإذا في مجيء الحسنة وهيلما تيقن وجوده لأنّ إحسان الله هو المعهود الواسع العام لخلقه بحيث أنّ إحسانه لخلقه عام حتى في حال الابتلاءوأتى الشرط بأن في إصابة السيئة وهي للممكن إبراز أن إصابة السيئة مما قد يقع وقد لا يقع وجهه رحمةالله أوسع، قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف قيل {فَإِذَا جَاءتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ } بإذا وتعريف الحسنة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } بأنوتنكير السيئة (قلت): لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلايسير منها ومنه قول بعضهم وقد عددت أيام البلاء فهلا عددت أيام الرجاء انتهى، وقرأ عيسى بن عمرو طلحة بنمصرّف تطيروا بالتاء وتخفيف الطاء فعلاً ماضياً وهو جواب {وَإِن تُصِبْهُمْ } وهذا عند سيبويه مخصوص بالشعر أعني أن يكونفعل الشرط مضارعاً وفعل الجزاء ماضي اللفظ نحو قول الشاعر:

من يكدني بسيـىء كنت منه     كالشجى بين حلقه والوريد

وبعض النحويين يجوزه في الكلام وما روي من أن مجاهداً قرأ تشاءموا مكان تطيروا فينبغيأن يحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف. {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَيَعْلَمُونَ } قال ابن عباس {طَائِرُهُمْ } ما يصيبهم أي ما طار لهم في القدر مما هم لا قوة وهومأخوذ من زجر الطير سمى ما عند الله من القدر للإنسان طائراً لما كان يعتقد أن كل ما يصيبه إنماهو بحسب ما يراه في الطائر فهي لفظة مستعارة قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: أي سبب خيرهم وشرّهم عند اللهتعالى وهو حكمه ومشيئته والله تعالى هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة وليس شؤم أحدهم ولا يمنه بسببفيه كقوله تعالى

{ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ }

ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهوعملهم المكتوب عنده يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله تعالى في قوله

{ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا }

الآية ولا طائر أشأم من هذا، وقرأ الحسن ألا إنما طيرهم وحكم بنفي العلم عن أكثرهم لأنّ القليلمنهم علم كمؤمن آل فرعون وآسية امرأة فرعون، وقال ابن عطية: ويحتمل أن كون الضمير في {طَائِرُهُمْ } لضمير العالمويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره ويحتمل أن يريد و {لَكِنِ * أَكْثَرُهُمْ } ليس قريباً أن يعلم لانعمارهم في الجهلوعلى هذا فيهم قليل معدّ لأن يعلم لو وفقه الله انتهى، وهما احتمالان بعيدان وأبعد منه قوله وإمّا أن يرادالجمع وتجوّز في العبارة. {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } الضمير في{وَقَالُواْ } عائد على آل فرعون لم يزدهم الأخذ بالجذوب ونقص الثمرات إلا طغياناً وتشدّداً في كفرهم وتكذيبهم ولم يكتفوابنسبة ما يصيبهم من السيئات إلا أن ذلك بسبب موسى ومن معه حتى واجهوه بهذا القول الدالّ على أنه لوأتى بما أتى من الآيات فإنهم لا يؤمنون بها وأتوا بمهما التي تقتضي العموم ثم فسّروا بآية على سبيل الاستهزاءفي تسميتهم ذلك آية كما قالوا في قوله

{ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ }

وتسميه لها بآيةأي على زعمك ولذلك علّلوا الإتيان بقولهم {لّتَسْحَرَنَا بِهَا } وبالغوا في انتفاء الإيمان بأن صدّروا الجملة بنحن وأدخلوا الباءفي {بِمُؤْمِنِينَ } أي أنّ إيماننا لك لا يكون أبداً {*ومهما} مرتفع بالابتداء أو منتصب بإضمار فعل يفسره فعل الشرطفيكون من باب الاشتغال أي أيّ شيء يحضر تأتنا به والمضير في {تُحَرّكْ بِهِ } عائد على {مَهْمَا } وفي{بِهَا } عائد أيضاً على معنى مهما لأنّ المراد به أية آية كما عاد على ما في قوله

{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا }

، وكما قال زهير:

ومهما تكن عند امرىء من خليقة     وإن خالها تخفى على الناس تُعلم

فأنث على المعنى، قال الزمخشري: وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد لهفي علم العربية فيضعها غير موضعها ويحسب مهما بمعنى متى ما ويقول مهما جئتني أعطيتك وهذا من وضعه وليس منكلام واضع العربية في شيء ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت فيلحد في آيات الله تعالىوهو لا يشعر وهذا وأمثاله مما يجوب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه انتهى، وهذا الذي أنكره الزمخشري منأن مهما لا تأتي ظرف زمان وقد ذهب إليه ابن مالك ذكره في التسهيل وغيره من تصانيفه إلا أنه لميقصر مدلولها على أنها ظرف زمان بل قال وقد ترد ما ومهما ظرفي زمان وقال في أرجوزته الطويلة المسماة بالشافيةالكافية:

وقد أتت مهما وما ظرفين في     شواهد من يعتضد بها كفى

وقال في شرح هذاالبيت جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل من في لزوم التجرّد عن الظرف مع أنّ استعمالها ظرفين ثابت في استعمالالفصحاء من العرب وأنشد أبياتاً عن العرب زعم منها أنّ ما ومهما ظرفا زمان وكفانا الرّد عليه فيها ابنه الشيخبدر الدين محمد وقد تأوّلنا نحن بعضها وذكرنا ذلك في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا وكفاه ردّاً نقله عنجميع النحويين خلاف ما قاله لكن من يعاني علماً يحتاج إلى مثوله بين يدي الشيوخ وأما من فسّر مهما فيالآية بأنها ظرف زمان فهو كما قال الزمخشري ملحد في آيات الله وأما قول الزمخشري وهذا وأمثاله إلى آخر كلامهفهو يدلّ على أنه جثا بين يدي الناظر في كتاب سيبويه وذلك صحيح رحل من خوارزم في شيبته إلى مكةشرفها الله تعالى لقراءة كتاب سيبويه على رجل من أصحابنا من أهل جزيرة الأندلس كان مجاوراً بمكة وهو الشيخ الإمامالعلاّمة المشاور أبو بكر عبد الله بن طلحة بن محمد بن عبد الله الأندلسي من أهل بابرة من بلاد جزيرةالأندلس فقرأ عليه الزمخشري جميع كتاب سيبويه وأخبره به قراءة عن الإمام الحافظ أبي علي الحسين بن محمد بن أحمدالغساني الجياني قال قرأته على أبي مروان عبد الملك بن سراج بن عبد الله بن سراج القرطبي قال قرأته علىأبي القاسم بن الإفليلي عن أبي عبد الله محمد بن عاصم العاصمي عن الرباحي بسنده، وللزمخشري قصيد يمدح به سيبويهوكتابه وهذا يدلّ على أنه ناظر في كتاب سيبويه بخلاف ما كان يعتقد فيه بعض أصحابنا من أنه إنما نظرفي نتف من كلام أبي علي الفارسي وابن جني وقد صنف أبو الحجاج يوسف بن معزوز كتاباً في الردّ علىالزمخشري في كتاب المفصل والتنبيه على أغلاطه التي خالف فيها إمام الصناعة أبا بشر عمرو بن عثمان سيبويه رحم اللهجميعهم. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءايَـٰتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } قال الأخفش الطوفان جمعطوفانة عند البصريين وهو عند الكوفيين مصدر كالرجحان، وحكى أبو زيد في مصدر طاف طوفاً وطوافاً ولم يحك طوفاناً وعلىتقدير كونه مصدراً فلا يراد به هنا المصدر، قال ابن عباس هو الماء المغرق، وقال قتادة والضحاك وابن جبير وأبومالك ومقاتل هو المطر أرسل عليهم دائماً الليل والنهار ثمانية أيام واختاره الفراء وابن قتيبة، وقيل ذلك مع ظلمة شديدةلا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره. وقيل أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبنيإسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرةوفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرّف ودام عليهم سبعة أيام، وقيل طم فيض النيل عليهمحتى ملأ الأرض سهلاً وجبلاً. وقال ابن عطية: هو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له أكثرفي الماء والمطر الشديد. ومنه قول الشاعر:

غير الجدّة من عرفانه     خرق الرّيح وطوفان المطر ومد طوفان مبيد مددا

وقال مجاهد وعطاء ووهب وابن كثير هو هناالموت الجارف وروته عائشة عن الرسول ولو صحّ وجب المصير إليه ونقل عن مجاهد ووهب أنهالطاعون بلغة اليمن، وقال أبو قلابة هو الجدري وهو أول عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض. وقيل هو عذاب نزلمن السماء فطاف بهم، وروي عن ابن عباس أنه معمى عنى به شيء أطافه الله بهم فقالوا لموسى ادع لناربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم في تلك السنة من الكلأ والزرع مالم يعهد مثله فأقاموا شهرباً فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبوابوسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فكشف عنهم سبعة أيام وخرجموسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جئن منها وقالوا ما نحنبتاركي ديننا فأقاموا شهراً وسلّط عليهم القمل، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء: هو الدّبا وهو صغار الجراد قبل أنتنبت له أجنحة ولا يطير، وقال ابن جبير عن ابن عباس: هو السّوس الذي يقع في الحنطة، وقال الحسن وابنجبير: دواب سود صغار، وقال حبيب بن أبي: ثابت هو الجعلان، وقال أبو عبيدة: هو الحمنان وهو ضرب من القردان،وقال عطاء الخراساني وزيد بن أسلم: هو القمل المعروف وهو لغة فيه ويؤيده قراءة الحسن بفتح القاف وسكون الميم، وقيلهو البراغيث حكاه ابن زيد وروي أنّ موسى مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانتشر كله قملاً بمصر فأكل ماأبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين جلد القبطيّ وقميصه ويمتلىء الطعام ليلاً ويطحن أحدهم عشرة أجربة فلا يرد منهاإلا يسيراً وسعى في أبشارهم وشعورهم وأهداب عيونهم ولزمت جلودهم فضجوا وفزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم فقالوا قدتحققنا الآن أنك ساحر وعزّة فرعون لا نصدقك أبداً، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمتبأنفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه، قال ابن جبير: وكان أحدهميجلس في الضفادع إلى ذقنه فقالوا لموسى ارحمنا هذه المرة ونحن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عليهم العهود فكشفعنهم فنقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم، قال الجمهور: صار ماؤهم دماً حتى أنّ الإسرائيلي ليضع الماء في القبطي فيصيرفي فيه دماً وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك فكان يمصّ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيّب ملحاً أجاجاً،وقال سعيد بن المسيب: سال عليهم النيل دماً، وقال زيد بن أسلم: الدّم هو الرعاف سلطه الله عليهم ومعنى تفصيلالآيات تبيينها وإزالة أشكالها والتفصيل في الإجرام هو التفريق وفي المعاني يراد به أنه فرق بينها فاستبانت وامتاز بعضها منبعض فلا يشكل على العاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم،وقال ابن قتيبة سماها مفصلات لأن بين الآية والآية فصلاً من الزمان، قيل كانت الآية تمكث من السبت إلى السبتثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية، وقيل ثمانية أيام ثم تأتي الآية الأخرى، وقال وهب: كان بن كل آيتينأربعون يوماً، وقال نوف البكالي مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد إيمان السحرة عشرين سنة يريهم الآيات وحكمةالتفصيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عاهدوا أم ينكثون فتقوم عليهم الحجة وانتصب {مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ } على الحالوالذي دلّت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئاتفمرجعه إلى النّقل عن الأخبار الإسرائيليات إذ لم ب(ثبت) من ذلك في الحديث النبوي شيء ومع إرسال جنس الآيات استكبرواعن الإيمان وعن قبول أمر الله تعالى، و {كَانُواْ قَوْماً * مُّجْرِمِينَ } إخبار منه تعالى عنهم باجترامهم على اللهوعلى عباده. {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَى * مُوسَىٰ *ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرّجْزَلَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرٰءيلَ } الظاهر أنّ الرجز هنا هو ما كان أرسل عليهم من الطوفان والجراد والقملوالضفادع والدم فإن كان أريد الظاهر كان سؤالهم موسى بعد وقوع جميعها لا بعد وقوع نوع منها ويحتمل أن يكونالمعنى {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ } نوع من {ٱلرّجْزَ } فيكون سؤالهم قد تخلّل بين نوع ونوع ومعنى {وَقَعَ عَلَيْهِمُ }نزل عليهم وثبت وقال قوم: {ٱلرّجْزَ } الطاعون نزل بهم مات منهم في ليلة سبعون ألف قبطي وفي قولهم {ٱدْعُلَنَا رَبَّكَ } وإضافة الرب إلى موسى عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادعُ لنا ربنا ومعنى {بِمَا عَهِدَعِندَكَ } بما اختصك به فنبأك أو بما وصّاك أن تدعو به ليجيبك كما أجابك في الآيات أو بما استودعكمن العلم والظاهر تعلق {بِمَا عَـٰهَدَ } بأدع لنا ربك ومتعلق الدعاء محذوف تقديره {ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} في كشف هذا الرّجز {وَلَئِنِ * كَـٰشِفَـٰتُ } جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا أي قالوا ذلكمقسمين {لَئِن كَشَفْتَ } أو لقسم محذوف معطوف أي وأقسموا لئن كشفت وجوز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن تكون الباءفي {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } باء القسم أي قالوا {ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } في كشف الرجز مقسمين{بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ } أو وأقسموا {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ } والمعنى {لَئِن كَشَفْتَ } بدعائك وفيقولهم لنؤمنن لك دلالة على أنه طلب منهم الإيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدّموا الإيمان لأنه المقصودالأعظم الناشىء منه الطواعية وفي إسناد الكشف إلى موسى حيدة عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم بذلك. {فَلَمَّاكَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَـٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسىفكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى وهو إسنادمجازي ولما كان إخباراً من الله أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي ولما كان الرجز من جملة أخرى غير مقولةلهم حسن إظهاره دون ضميره وكان جائزاً أن يكون التركيب في غير القرآن {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ } ومعنى {إِلَىٰ أَجَلٍهُم بَـٰلِغُوهُ } إلى حد من الزمان هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهالوكشف العذاب إلى حلوله قاله الزمخشري، وقال ابن عطية: يريد به غاية كل واحد منهم بما يخصّه من الهلاك والموتهذا اللازم من اللفظ كما تقول أخرت كذا إلى وقت كذا وأنت لا تريد وقتاً بعينه، وقال يحيـى بن سلام:الأجل هاهنا الغرق قال وإنما قال هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أنّالإشارة هاهنا إنما هي في الغرق وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم ومنهم منأخر وكشف العذاب عنهم إلى أجل بلغه انتهى وفي التحرير إلى أجل إلى انقضاء مدة إمهالهم وهي المدة المضروبة لإيمانهم،وقيل: الغرق، وقيل: الموت وإذا فسر الأجل بالموت أو بالغرق فلا يصحّ كشف العذاب إلى ذلك الوقت أي وقت حصولالموت أو الغرق لأنه قد تخلل بين الكشف والغرق أو الموت زمان وهو زمان النكث فينبغي أن يكون التقدير علىهذا إلى أقرب أجل هم بالغوه أما إذا كان الأجل هو المدة المضروبة لإيمانهم وإرسالهم بني إسرائيل فلا يحتاج إلىحذف مضاف و {إِلَىٰ أَجَلٍ } قالوا متعلق {*بكشفنا} ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لماترتب جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بدّ من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تتحقق الغايةولذلك لا تصحّ الغاية في الفعل عن المتطاول لا تقول لما قتلت زيداً إلى يوم الخميس جرى كذا ولا لماوثبت إلى يوم الجمعة اتفق كذا وجعل بعضهم إلى أجل من تمام الرجز أي الرّجز كائناً إلى أجل والمعنى أنّالعذاب كان مؤجلاً ويقوي هذا التأويل كون جواب لما جاء بإذا الفجائية أي فلما كشفنا عنهم العذاب المقرر عليهم {أَخَّرْتَنِىإِلَىٰ أَجَلٍ } فاجأوا بالنكث وعلى معنى تعيينه الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلى على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا،فتكون المفاجأة بالنكث إذ ذاك ممكنة، وقال الزمخشري: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب لما يغيا فلما كشفا عنهم فاجأوا النكثوبادروه ولم يؤخّروه ولكن لما كشف عنهم نكثوا انتهى، ولا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير وهم بالغوه جملة فيموضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد لو قيل في غير القرآنإلى أجل بالغيه ومجيء إذا الفجائية جواباً للما مما يدل على أن لما حرف وجوب لوجوب كما يقول سيبويه لاظرف كما زعم بعضهم لافتقاره إلى عامل فيه والكلام تام لا يحتمل إضماراً ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيماقبلها، وقرأ أبو هاشم وأبو حيوة {يَنكُثُونَ } بكسر الكاف. {فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ فِي ٱلْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَكَانُواْعَنْهَا غَـٰفِلِينَ } أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك علىرأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في {بِأَنَّهُمْ } سببية والآيات هي المعجزاتالتي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في {عَنْهَا } إلى الآيات أي غفلوا عما تضمنته الآياتمن الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب، وقيل يعود الضمير على النقمة الدالّ عليها {فَٱنتَقَمْنَا }أي كانوا عن النقمة وحلولها بهم غافلين والغفلة في القول الأول عنى به الإعراض عن الشيء لأنّ الغفلة عنه والتكذيبلا يجتمعان من حيث أن الغفلة تستدعي عدم الشعور بالشيء والتكذيب به يستدعي معرفته ولأنه لو أريد صفة الغفلة لكانوامعذورين لأنّ تلك ليست باختيار العبد. {وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلاْرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } لماقال موسى عليه السلام {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ } كان كما ترجى موسى فأغرق أعداءهم فياليم واستخلف بني إسرائيل في الأرض {وَٱلَّذِينَ * كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } هم بنو إسرائيل كان فرعون يستعبدهم ويستخدمهم والاستضعاف طلبالضعيف بالقهر كثر استعماله حتى قيل استضعفه أي وجده ضعيفاً {مَشَـٰرِقَ ٱلاْرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا } قالت فرقة: هي الأرض كلها، قالابن عطية ذلك على سبيل المجاز لأنه تعالى ملكهم بلاداً كثيرة وأما على الحقيقة فإنه ملك ذريّتهم وهو سليمان بنداود، وقال الحسن أيضاً: {مَشَـٰرِقَ ٱلاْرْضِ } الشام {وَمَغَـٰرِبَهَا } ديار مصر ملكهم الله إياها بإهلاك الفراعنة والعمالقة وقاله الزمخشريقال: وتصرفوا فيها كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية، وقال الحسن أيضاً وقتادة وغيرهما: هي أرض الشام، وفي كتابالنقاش عن الحسن: أرض مصر والبركة فيها بالماء والشجر قاله ابن عباس وذيله غيره فقال بالخصب والأنهار وكثرة الأشجار وطيبالثمار، وقيل: البركة بإقدام الأنبياء وكثرة مقامهم بها ودفنهم فيها وهذا يتخرج على من قال أرض الشام، وقيل: {بَارَكْنَا }جعلنا الخير فيها دائماً ثابتاً وهذا يشير إلى أنها مصر. وقال الليث هي مصر بارك الله فيها بما يحدث عننيلها من الخيرات وكثرة الحبوب والثمرات وعن عمر رضي الله عنه أن نيل مصر سيّد الأنهار في حديث طويل ورويأنه كانت الجنات بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في البرين جميعاً ما بين أسوان إلى رشيد وكانت الأشجارمتصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، وقال أبو بصرة الغفاري: مصر خزائن الأرض كلها، ألا ترى إلى قول يوسفعليه السلام

{ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلاْرْضِ }

ويروي أن عيسى عليه السلام أقام بها اثنتي عشرة سنة وذلك أن اللهأوحى إلى مريم أن الحقي بمصر وأرضها وذكر أنها الرّبوة التي قال تعالى:

{ وَءاوَيْنَـٰهُمَا إلى ربوة ذات قرار ومعين }

. وقالابن عمر: البركات عشر ففي مصر تسع وفي الأرض كلها واحدة، وانتصاب مشارق على أنه مفعول ثان لأورثنا و {ٱلَّتِىبَارَكْنَا } نعت لمشارق الأرض ومغاربها وقول الفرّاء إنّ انتصاب {مَشَـٰرِقَ } والمعطوف عليها على الظرفية والعامل فيهما هو {يُسْتَضْعَفُونَ} و {ٱلَّتِى بَارَكْنَا } هو المفعول الثاني أي الأرض التي باركنا فيها تكلف وخروج عن الظاهر بغير دليل ومنأجاز أن تكون {ٱلَّتِى } نعتاً للأرض فقوله ضعيف للفصل بالعطف بين المنعوت ونعته. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰبَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ }. أي مضت واستمرت من قولهم تمّ على الأمر إذا مضى عليه، قال مجاهد: المعنى ماسبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه، وقال المهدوي وتبعه الزمخشري: الكلمة قوله تعالى

{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلاْرْضِ }

- إِلَى قَوْلُهُ-

{ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ }

. وقيل:

{ هِىَ قَوْلُهُ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ }

الآية، وقيل: الكلمة النعمة والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة للكلمة وكانت الحسنى لأنها وعد بمحبوب قالهالكرماني والمعنى على من بقي من مؤمني بني إسرائيل {بِمَا صَبَرُواْ } أي بصبرهم، وقرأ الحسن كلمات على الجمع ورويتعن عاصم وأبي عمرو، قال الزمخشري: ونظيره

{ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءايَـٰتِ رَبّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }

انتهى، يعني نظير وصف الجمع بالمفردالمؤنث ولا يتعيّن ما قاله من أن الكبرى نعت لآيات ربه إذ يحتمل أن يكون مفعولاً لقوله رأى أيّ الآيةالكبرى فيكون في الأصل نعتاً لمفرد مؤنث لا يجمع وهو أبلغ في الوصف. {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُوَمَا كَانُواْ } أي خربنا قصورهم وأبنيتهم بالهلاك والتدمير الإهلاك وإخراب الأبنية، وقيل: ما كان يصنع من التدبير في أمرموسى عليه السلام وإخماد كلمته. وقيل: المراد إهلاك أهل القصور والمواضع المنيعة وإذا هلك الساكن هلك المسكون {وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْيَعْرِشُونَ } أي يرفعون من الأبنية المشيدة كصرح هامان وغيره، وقال الحسن: المراد عرش الكروم ومنه

{ وَجَنَّـٰتٍ * مَّعْرُوشَـٰتٍ }

،وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الراء وباقي السبعة والحسن ومجاهد وأبو رجاء بكسر الراء هنا وفي النحل وهي لغةالحجاز، وقال اليزيدي: هي أفصح، وقرأ ابن أبي عبلة يعرشون بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء وانتزع الحسن من هذهالآية أنه ينبغي أنه لا يخرج على ملوك السماء وإنما ينبغي أن نصبر لهم وعليهم فإنّ الله يدمّرهم، وروي عنهوعن غيره إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الفرج، قال الزمخشري: وبلغنيأنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً وهذا آخر ما اقتصّ الله تعالى من نبأفرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعارضته ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون،واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي ليعلمحال الإنسان وأنه كما وصف ظلوم كفار جهول كفور إلاّ من عصمه الله تعالى

{ وقَلِيلٌ مّنْهُمْ * عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ }

وليسلي رسول الله مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْبَحْرَ } لمابين أنواع نعمه تعالى على بني إسرائيل بإهلاك عدوّهم اتبع بالنعمة العظمى من إراءتهم هذه الآية العظيمة وقطعهم البحر معالسلامة والبحر بحر القلزم، وأخطأ من قال إنه نيل مصر ومعنى {*جاوزنا} قطعنا بهم البحر يقال جاوز الوادي إذا قطعهوالباء للتعدية يقال جاوز الوادي إذا قطعه، وجاوز بغيره البحر عبر به فكأنه قال وجزنا ببني إسرائيل أي أجزناهم البحروفاعل بمعنى فعل المجرد يقال جاوز وجاز بمعى واحد، وقرأ الحسن وابراهيم وأبو رجاء ويعقوب وجوزنا وهو مما جاء فيهفعل بمعنى فعل المجرد نحو قدّر وقدر وليس التضعيف للتعدية روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراء بعدماأهلك الله فرعون وقومه فصاموا شكراً لله وأعطى موسى التوراة يوم النحر فبيّن الأمرين أحد عشر شهراً. {ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } قال قتادة وأبو عمرو الجوني: هم من لخم وجذام كانوا يسكنون الرّيف، وقيل: كانوانزولاً بالرقة رقة مصر وهي قرية بريف مصر تعرف بساحل البحر يتوصل منها إلى الفيّوم، وقيل: هم الكنعانيون الذين أمرموسى بقتالهم ومعنى {فَاتُواْ } فمروا يقال أتت عليه سنون، ومعنى {يَعْكُفُونَ } يقيمون ويواظبون على عبادة أصنام، وقرأ الأخوانوأبو عمر وفي رواية عبد الوارث بكسر الكاف وباقي السبعة بضمها وهما فصيحتان والأصنام قيل: بقر حقيقة. وقال ابن جريجكانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل. {قَالُواْ يأَبَانَا * مُوسَىٰ * ٱجْعَلْ لَّنَا إِلَـٰهًاكَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وعناد جروا في ذلك على عادتهم في تعنتهم علىأنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي وقد تقدّم من كلامهم

{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً }

وغير ذلك مماهو كفر، وقال ابن عطية: الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرعموسى وفي جملة ما يتقرّب به إلى الله تعالى وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى {ٱجْعَلْ لَّنَا إِلَـٰهًا } نفرده بالعبادةانتهى وفي الحديث مروا في غزوة حنين على روح سدرة خضراء عظيمة فقيل يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواطوكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسحلتهم ولها يوم يجتمعون إليها فأراد قائل ذلك أن يشرع الرسول ذلكفي الإسلام ورأى الرسول عليه السلام ذلك ذريعة إلى عبادة تلك السرحة فأنكره وقال {ٱللَّهِ أَكْبَرُ * قُلْتُمْ * وَٱللَّهُ* كَمَا قَالَ * بَنِى إِسْرٰءيلَ } {ٱجْعَلْ لَّنَا إِلَـٰهًا } خالقاً مدبراً لأن الذي يجعله موسى لا يمكن أنيجعله خالقاً للعالم ومدبّراً فالأقرب أنهم طلبوا أن يعين لهم تماثيل وصوراً يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى وقد حكى عنعبادة الأوثان قولهم

{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }

وأجمع كلّ الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غيرالله كفر سواء اعتقد كونه إلهاً للعالم أو أن عبادته تقرب إلى الله انتهى، ويظهر أن ذلك لم يصدر منجميعهم فإنه كان فيهم السبعون المختارون ومن لا يصدر منه هذا السؤال الباطل لكنه نسب ذلك إلى بني إسرائيل لماوقع من بعضهم على عادة العرب في ذلك وما في {كَمَا } قال الزمخشري كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدهاوقال غيره موصولة حرفية أي كما ثبت لهم آلهة فتكون قد حذف صلتها على حدّ ما قال ابن مالك فيأنه إذا حذفت صلة ما فلا بد من إبقاء معمولها كقولهم لا أكلمك ما إن في السماء نجماً أي ماثبت أن في السماء نجماً ويكون {ءالِهَةً } فاعلاً يثبت المحذوفة، وقيل: موصولة اسمية ولهم صلتها والضمير عائد عليها مستكنفي المجرور والتقدير كالذي لهم وآلهة بدل من ذلك الضمير المستكنّ. {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تعجب موسى عليه السلاممن قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بأن لانه لا جهل أعظممن هذه المقالة ولا أشنع وأتى بلفظ {تَجْهَلُونَ } ولم يقل جهلتم إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلونعنه في ماض ولا مستقبل. {إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَـٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الإشارة بهؤلاء إلىالعاكفين على عبادة الأصنام ومعنى متبرّ مهلك مدمر مكسر وأصله الكسر، وقال الكلبي: مبطل، وقال أبو اليسع: مضلل، وقال السدّيوابن زيد: مدمر رديء سيـىء العاقبة وما هم فيه يعمّ جميع أحوالهم وبطل عملهم هو اضمحلاله بحيث لا ينتفع بهوإن كان مقصوداً به التقرّب إلى الله تعالى

{ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً }

قال الزمخشري:وفي إيقاع {هَـؤُلاء } إسماً ل(إن) وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعباده بأنهم هم المعرضون للتباروأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم فيما أحبوا انتهى ولا يتعيّن ماقاله من أنه قد جزم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لأنّ لأن الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكونخبر {ءانٍ } {مُتَبَّرٌ } وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسمِّ فاعله وكذلك ما {كَانُواْ } هو فاعلبقوله {وَبَـٰطِلٌ } فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم إنّ بمفرد لا جملة وهو نظير أن زيداً مضروب غلامهفالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعاً على أنه لم يسمّ فاعله ومضروب خبر أن والوجه الآخر وهو أن كونمبتدأ ومضروب خبره جائز مرجوح.

{ قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـٰهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } * { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ }

{قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } ما أحسن ماخاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولاً بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانياً أخبرهم بأن عبّاد الأصنام ليسوا على شيء بل مآلأمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثاً أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلهاًأي {أَغَيْرَ } المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف منالأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهاً غيره ومعنى {عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم، قالابن القشيري: بإهلاك عدوهم وبما خصّهم من الآيات وانتصب {غَيْرِ } مفعولاً بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله، {وإلهاً} تمييزعن {مَّاء غَيْرِ } أو حال أو على الحال {*وإلهاً} المفعول والتقدير أبغي لكم إلهاً غير الله فكان غير صفةفلما تقدم انتصب حالاً، وقال ابن عطية: وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال انتهى،ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله إلهاً فإن تخيّل أنه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذاالظاهر فلا يصحّ لأنّ الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيبأغير الله أبغيكموه لصحّ ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالاً وأن كون مستأنفاً. {ٱلْعَـٰلَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَـٰكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَونَيَسُومُونَكُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } وقرأ الجمهور {أَنْجَيْنَـٰكُمْ } وفرقة نجّيناكممشدداً وابن عامر أنجاكم فعلى أنجاكم يكون جارياً على قوله {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ } خاطب بها موسى قومه وفي قراءة النونخاطبهم الله تعالى بذلك، وقال الطبري: الخطاب لمن كان على عهد الرسول تقريعاً لهم بما فعلأوائلهم وبما جاؤوا به وتقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل البقرة، وقرأ نافع {يَقْتُلُونَ } من قتل والجمهور منقتل مشدداً. {وَوٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَـٰتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } روي أنّ موسى عليه السلاموعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرونفلما هلك فرعون سأل موسى ربه تعالى لكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكرخلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، وقيل أوحى الله إليه أما علمت أنخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك فأمره أن يزيد عليه عشرة أيام من ذي الحجة لذلك، وقيلأمره الله بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة في العشروكلم فيها وأجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا، وقال الكلبي: لما قطع موسى البحر ببني إسرائيل وغرق فرعون قالتبنو إسرائيل لموسى: ائتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر فاختار موسى من قومه سبعينرجلاً لينطلقوا معه فلما تجهّزوا قال الله تعالى لموسى أخبر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين أتمت بعشرفلما خرج موسى بالسبعين أمرهم أن ينتظروه أسفل الجبل وصعد موسى الجبل وكلمه الله أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب لهالألواح ثم إنّ بني إسرائيل عدوا عشرين ليلة وعشرين يوماً وقالوا قد أخلفنا موسى الوعد وجعل لهم السّامري العجل فعبدوه،وقيل زيدت العشر بعد الشهر للمناجاة، وقيل: التفت في طريقه فزيدها، وقيل: زيدت عقوبة لقومه على عبادة العجل، وقيل: أعلمموسى بمغيبه ثلاثين ليلة فلما زاده العشر في مغيبه لم يعلموا بذلك ووجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم فقال السامريهلك موسى وليس براجع وأضلّهم بالعجل فاتبعوه، قاله ابن جريج وفائدة التفصيل قالوا: إنّ الثلاثين للتهيؤ للمناجاة والعشر لإنزال التوراةوتكليمه، وقال أبو مسلم: بادر إلى ميقات ربه قبل قومه لقوله

{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ }

الآيةفجائز أن يكون أتى الطور عند تمام الثلاثية فلما أعلم بخبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام مدةالوعد ثم عاد إلى الميقات في عشر أخر، قيل: لا يمتنع أن يكون وعدان أول حضره موسى وثان حضره المختارونليسمعوا كلام الله فاختلف الوعد لاختلاف الحاضرين والثلاثون هي شهر ذي القعدة والعشر من ذي الحجة قاله ابن عباس ومسروقومجاهد وتقدّم الخلاف في قراءة ووعدنا وقالوا انتصب {ثَلَـٰثِينَ } على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاءإتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين، وقال ابن عطية {*وثلاثين} نصب على تقدير جلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرفوالهاء في {لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا } عائدة على المواعدة المفهومة من {وٰعَدْنَا }، وقال الحوفي الهاء والألف نصب باتممناها وهما راجعتانإلى {ثَلَـٰثِينَ } ولا يظهر لأنّ الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر أي عشر ليال لدلالة ماقبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها مشدّداً والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ ربه ولم يأتِعلى {وٰعَدْنَا } فكان يكون للتركيب قتمّ ميقاتنا لأن لفظ {رَبَّهُ } دالّ على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكهوالمتصرف فيه، قيل: والفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء وانتصب {أَرْبَعِينَ} على الحال قاله الزمخشري، الحال فيه فقال أتى ب(تم) بالغاً هذا العدد فعلى هذا لا يكون الحال {أَرْبَعِينَ }بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله {*وأربعين} ليلة نصب على الحال وقال ابن عطية أيضاً ويصح أن يكون أربعينظرفاً من حيث هي عدد أزمنة، وقيل {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ } مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييزمحول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز والذي يظهرأن هذه الجملة تأكيد وإيضاح، وقيل: فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين، وقيل: إزالةتوهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات. {وَقَالَ مُوسَىٰ لاِخِيهِ هَـٰرُونَ ٱخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْسَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ } وقرء شاذاً {هَـٰرُونَ } بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيهاأن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبعسبيل من أفسد وفي النهي دليل على وجود المفسدين ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالصلاح ونهيه عن اتباعسبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهّم أنه يقع منه خلاف الإصلاح واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوّة منزّهعن ذلك ومعنى {ٱخْلُفْنِى } استبد بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه وليس المعنى أنك تكون خليفتيبعد موتي ألا ترى أن هارون عليه السلام مات قبل موسى عليهما السلام، وليس في قول الرسول صلى الله عليهوسلم لعليّ أنت مني كهارون من موسى دليل على أنه خليفته بعد موته إذ لم يكن هارون خليفة بعد موتموسى وإنما استخلف الرسول عليًّا على أهل بيته إذ سافر الرسول عليه السلام في بعض مغازيه كما استخلف ابن أممكتوم على المدينة فلم يكن في ذلك دليل على أنه يكون خليفة بعد موت الرسول. {وَلَمَّا جَاء مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا *وَكَلِمَةُ * رَبَّهُ } أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول أتيته لعشر خلون من الشهر ومعنىاللام الاختصاص والجمهور على أنه وحده خصّ بالتكليم إذ جاء للميقات، وقال القاضي: سمع هو والسبعون كلام الله، قال ابنعطية: خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديمة الذي هو صفة ذات، وقال ابن عباس وابن جبير: أدنىالله تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وقال الزمخشري: {وَكَلِمَةُ * رَبَّهُ } من غير واسطة كمايكلم الملك وتكليمه أنْ يخلق الكلام منظوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في اللوح وروي أن موسى كانيسمع الكلام في كل جهة، وعن ابن عباس كلمة أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح، وقيل: إنما كلمة فيأول الأربعين انتهى، وقال وهب كلمه في ألف مقام وعلى أثر كل مقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولميقرب النساء مذ كلّمه الله وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام الله وهو مذكور ودلائل المختلفين مذكور في كتبأصول الدين وكلّمه معطوف على جاء، وقيل حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله {وَكَلَّمَهُ } ربه للمعنى الذي عدلإلى قوله {فَتَمَّ مِيقَـٰتُ رَبّهِ } وفلما تجلّى ربه. {قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ }. قال السدّي وأبو بكر الهذلي:لما كلمه وخصّه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوّف إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه. قال الزجاج:شوّقه الكلام فعيل صبره فحمله على سؤال الرؤية، وقال الرّبيع: لم يعهد إليه في الرؤية فظن أن السؤال في هذاالوقت جائز، وقال السدي: غار الشيطان في الأرض فخرج بين يديه فقال إنما يكلمك شيطان فسأل الرؤية ولو لم تجزالرؤية ما سألها؟ قال ابن عطية: ورؤية الله عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً لأنه من حيث هو موجود تصحّرؤيته وقررت الشريعة رؤية الله في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالاًوإنما سأل جائزاً وقوله

{ لَن تَرَانِى وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ }

الآية ليس بجواب من سأل محالاً وقد قال تعالىلنوح عليه السلام:

{ فَلاَ تَسْأَلْن * مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }

فلو سألموسى محالاً لكان في الجواب زجر ما وتيئيس، وقال الكرماني وغيره: في الكلام محذوف تقديره لن تراني في الدنيا، وقيللن تقدر أن تراني، وقيل لن تراني بسؤالك، وقيل لن تراني ولكن ستراني حين أتجلى للجبل، قال الزمخشري: (فإن قلت):كيف طلب موسى عليه السلام ذلك وهو من أعلم الناس بالله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبتعاليهعن الصفة التي هي إدراك ببعض الحواس وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة وما ليس بجسم ولا عرض فمحالأن يكون في جهة ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم وكيف يكون طالبه وقدقال حين أخذتهم الرّجفة الذين قَالُوا

{ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً }

{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاء مِنَّا } إلى قوله

{ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء }

فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً، (قلت): ما كان طلبه الرؤية إلا ليسكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاًوتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجة وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحق فلجّوا وتمادوا فيلجاجهم وقالوا لا بدّ ولن نؤمن لك حتى نراه فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قولهلن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما كان داخلهم من الشبهة فلذلك قال {رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } (فإن قلت): فهلاقال أرهم ينظرون إليك (قلت): لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى وهم يسمعون فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أنيرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى أرني {أَنظُرْإِلَيْكَ } ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه مع نبوته واختصاصه وزلفته عند الله وقيل له لن يكون ذلككان غيره أولى بالإنكار ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو يخاطب راجعاً إليهم وقوله أنظر إليك ومافيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة على مقترحهم وحكاية لقولهم وجلّ صاحب الجملأن يجعل الله منظوراً إليه مقابلاً بحاسة النظر فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله من واصل بن عطاء وعمروبن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المسلمين، وثاني مفعول أرني محذوف أي {أَرِنِى } نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتكبأن تتجلى لي فأنظر إليك انتهى. {قَالَ لَن تَرَانِى }. قال ابن عطية نصّ على منعه الرؤية في الدنيا ولنتنفي المستقبل فلو بقينا على هذا النفي بمجرّده لتضمن أنّ موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة لكن ورد منجهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة فموسى عليه السلام أحرى برؤيته، قال الزمخشري: (فإنقلت): ما معنى {لَنْ }، (قلت): تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غداًفإذا أكدت نفيها قلت لن أفعل غداً والمعنى أن فعله ينافي حال كقوله

{ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ }

وقوله

{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلاْبْصَـٰرُ }

نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان (فإن قلت): كيف قال لن تراني ولميقل لن تنظر إليّ لقوله {أَنظُرْ إِلَيْكَ }، (قلت): لما قال {أَرِنِى } بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هيالإدراك علم أنّ الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ.{وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } قال مجاهد وغيره: ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوىمنك وأشدّ فإن استقرّ وأطاق الصبر لهيبتي فسيمكنك أنت رؤيتي، قال ابن عطية: فعلى هذا إنما جعل الله له الجبلمثالاً، وقالت فرقة: إنما المعنى سأبتدىء لك على الجبل فإن استقرّ لعظمتي فسوف تراني انتهى، وتعليق الرؤية على تقدير الاستقرارمؤذن بعدمها إن لم يستقر ونبّه بذلك على أنّ الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيتهأولى بأن لا يستقرّ وهذا تسكين لقلب موسى وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف اتصلالاستدراك في قوله تعالى {وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } بما قبله، (قلت): تصل به على معنى أنّ النظر إليّ محالفلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلب الرؤية لأجلهم كيف أفعلبه وكيف أجعله دكًّا بسبب طلبك للرؤية لتستعظم ما أقدمت عيه بما أريك من عظيم أثره كأنه عز وعلا حقّقعند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله تعالى

{ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً }

{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهانه {فَسَوْفَ تَرَانِى } تعريض لوجود الرؤية لوجود مالا يكون من استقرار الجبل مكانه حتى يدكّه دكًّا ويسوّيه بالأرض وهذا كلام مدمج بعضه في بعض وأولاد على أسلوبعجيب ونظم بديع ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك ثم كيف ثنّى بالوعيد بالرّجفة الكائنة بسببطلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية أعني قوله {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } انتهى وهو على طريقة المعتزلةفي نفي رؤية الله تعالى، ولهم في ذلك أقاويل أربعة: أحدها: ما رووا عن الحسن وغيره أن موسى ما عرفأن الرؤية غير جائزة وهو عارف بعدله وبربه وبتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السماعورد ذلك وبأنه يلزم أن تكون معرفته بالله أقل درجة من معرفة أرذال المعتزلة وذلك باطل بالإجماع، الثاني: قال الجبائيوابنه أبو هاشم: سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا مكثرين للمسألة عنها لا لنفسه فلما منع ظهر أن لاسبيل إليها وردّ بأنه لو كان كذلك لقال أرهم ينظروا إليك ولقيل لن تروني وأيضاً لو كان محالاً لمنعهم عنهكما منعهم عن جعل الآلهة لهم بقوله

{ إنكم قوم تجهلون }

وقال الكعبي سأله الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوسعن معرفته كما تقول في معرفة أهل الآخرة، وردّ ذلك بأنه يقتضي حذف مضاف وسياق الكلام يأبى ذلك فقد أراهمن الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا وغيرها، وقال الأصمّ المقصود أن يذكر من الدلائل السمعية ما يدل على امتناعالرؤية حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وأل في الجبل للعهد وهو أعظم جبل بمدين يقال له ارريين قال ابنعباس تطاولت الجبال للتجلي وتواضع ارريين فتجلّى له.

{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } * { وَلَمَّا سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ } * { وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }

عدل

التجلي الظهور. الدّك مصدر دككت الشيء فتتة وسحقته مصدر في معنى المفعول والدّكوالدقّ بمعنى واحد وقال يزدكاً مستوياً مع الأرض. الخرور السقوط. أفاق ثاب إليه حسّه وعقله. اللوح معروف وهو يعد للكتابةوغيرها وأصله اللمع تلمع وتلوح فيه الأشياء المكتوبة. الحلى معروف وهو ما يتزين به النساء من فضة وذهب وجوهر وغيرذلك من الحجر النفيس. الخوار صوت البقرة. الأسف الحزن يقال أسف يأسف. الجرّ الجذب. الإشمات السرور بما ينال الشخص منالمكروه. السكوت والسكات الصمت. {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقًا } ترتب على التجلي أمران أحدهماتفتت الجبل وتفرّق أجزائه، والثاني خرور موسى مغشياً عليه. قاله ابن زيد وجماعة المفسرين، وقال السدّي ميتاً ويبعده لفظه أفاقوالتجلّي بمعنى الظّهور الجسماني مستحيل على الله تعالى، قال ابن عباس وقوم لما وقع نوره عليه تدكدك، وقال المبرد: المعنىظهر للجبل من ملكوت الله ما يدكدك به، وقيل ظهر جزء من العرش للجبل فتصرّع من هيبته، وقيل: ظهر أمرهتعالى، وقيل: {تَجَلَّىٰ } لأهل الجبل يريد موسى والسبعين الذين معه، وقال الضحاك: أظهر الله من نور الحجب مثل منخرالثور، وقال عبد الله بن سلام: وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط، وقال الزمخشري:فلما ظهر له اقتداره وتصدّى له أمره وإرادته انتهى، وقال المتأولون المتكلمون كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره: إن اللهخلق للجبل حياة وحسًّا وإدراكاً يرى به ثم تجل له أي ظهر وبدا فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسىما بالجبل صعق وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والظاهر نسبة التجلي إليه تعالى على ما يليق به من غيرانتقال ولا وصف يدلّ على الجسمية، قال ابن عباس صار تراباً. وقال مقاتل قطعاً متفرقة، وقيل صار ستة أجبل ثلاثةبالمدينة أحد وورقان ورضوى، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحرا، رواه أنس عن رسول الله ، وقيل ذهبأعلاه وبقي أسفله، وقيل صار غباراً تذروه الرياح، وقال سفيان: روى أنه انساح في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحتالأرضين، قال ابن الكلبي: فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة، وقال الجمهور {دَكّاً } أي مدكوكاً أو ذا دك وقرأحمزة والكسائي دكاء على وزن حمراء والدكاء الناقة التي لا سنام لها والمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة الدكاء، وقالالربيع بن خيثم: ابسط يدك دكاء أي مدّها مستوية، وقال الزمخشري والدكاء اسم للرابية الناشرة من الأرض كالدكة انتهى، وهذايناسب قول من قال إنه لم يذهب بجملته وإنما ذهب أعلاه وبقي أكثر، وقرأ يحيـى بن وثاب {دَكّاً } أيقطعاً جمع دكاء نحو غز جمع غزاء، وانتصب على أنه مفعول ثان لجعله ويضعف قول الأخفش إن نصبه من بابقعدت جلوساً {*وصعقاً} حال مقارنة، ويقال صعقة فصعق وهو من الأفعال التي تعذّب بالحركة نحو شتر الله عينه فشترت، والظاهرأن موسى والجبل لم يطيقا رؤية الله تعالى حين تجلى فلذلك اندكّ الجبل وصعق موسى عليه السلام، وحكى عياض بنموسى عن القاضي أبي بكر بن الطيّب: أن موسى اليه السلام رأى الله فلذلك خرّ صعقاً وأن الجبل رأى ربهفلذلك صار دكًّا بإدراك كلفة الله له وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال إن الله تعالى قسمكلامه ورؤيته بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين وذكرالمفسرون من رؤيته ملائكة السموات السبع وحملة العرش وهيئاتهم وإعدادهم ما الله أعلم بصحته. {صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـٰنَكَتُبْتُ إِلَيْكَ }. أي من مسألة الرؤية في الدنيا قاله مجاهد أو ومن سؤالها قبل الاستئدان أو عن صغائري حكاهالكرماني، أو قال ذاك على سبيل الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه عند ظهور الآيات على ما جرت به عادةالمؤمن عند رؤية العظائم وليست توبة عن شيء معين أشار إليه ابن عطية، وقال الزمخشري {قَالَ سُبْحَـٰنَكَ } أنزّهك عنما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها {تُبْتُ إِلَيْكَ } من طلب الرؤية، (فإن قلت): فإن كان طلب الرؤية للغرضالذي ذكرته فمم تاب، (قلت): عن إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيهمن الله تعالى فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكًّا وكيفأصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبّح ربه ملتجئاً إليه وتاب من إجراء تلكالكلمة على لسانه وقال {أَنَاْ * أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام بالمتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذواهذه العظيمة مذهباً ولا يغرّنك تستّرهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم:

لجماعة سموا هواهم سنة     وجماعة حمر لعمري مؤكفه قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا

وهو تفسير علىطريقة المعتزلة وسبّ لأهل السنة والجماعة على عادته وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما أنشدنا الأستاذالعلامة أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعاً ونقلته من خطّه، قال أنشدنا القاضيالأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه:

شبهت جهلاً صدر أمة محمد     وذوي البصائر بالحمير المؤكفه وزعمت أن قد شبّهوا معبودهم
وتخوّفوا فتستروا بالبلكفه ورميتهم عن نبعة سويتها     رمْي الوليد غدا يمزق مصحفه وجب الخسار عليك فانظر منصفا
في آية الأعراف فهي المنصفه أترى الكليم أتى بجهل ما أتى     وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه وبآية الأعراف ويك خذلتم
فوقفتم دون المراقي المزلفه لو صحّ في الإسلام عقدك لم تقل     بالمذهب المهجور من نفي الصفه إن الوجوه إليه ناظرة بذا
جاء الكتاب فقلتم هذا السّفه فالنقي مختص بدار بعدها     لك لا أبا لك موعداً لن تخلفه

وأنشدنا قاضي القضاة أبو القاسم عبدالرحمن بن قاضي القضاة أبي محمد بن عبد الوهاب بن خلف العلامي بالقاهرة لنفسه:

قالوا يريد ولا يكون مراده     عدلوا ولكن عن طريق المعرفه

{وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس ومجاهد: من مؤمنيبني إسرائيل، وقيل: من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق، وقال أبو العالية بأنك لا ترى في الدنيا،وقال الزمخشري: بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس، وقال أيضاً بعظمتك وجلالك وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسكانتهى، وتفسيره الأول على طريقة المعتزلة وقد ذكر متكلمو أهل السنة دلائل على رؤية الله تعالى سمعية وعقلية يوقف عليهاوعلى حجج الخصوم في كتب أصول الدين. {قَالَ يَـاءادَمُ * مُوسَىٰ إِنّى * ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي فَخُذْمَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } لما طلب موسى عليه السلام الرؤية ومنعها عدد عليه تعالى وجوه ونعمة العظيمة عليهوأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له والاصطفاء تقدّم شرحه وعلى الناس لفظ عام ومعناه الخصوص أي علىأهل زمانك أو يبقى على عمومه ويعني في مجموع الدّرجتين الرسالة والكلام قاله ابن عطية وينبغي أن يحمل ذلك علىوقوع الكلام في الأرض إذ ثبت أن آدم نبي مكلم وتؤوّل على أن ذلك في الجنة ورسولنا محمد صلى اللهعليه وسلم ويظهر من حديث الإسراء أنه كلمه الله تعالى ويدلّ قوله {وَبِكَلَـٰمِي } على أنه سمع الكلام من اللهلا من غيره لأن الملائكة تنزل على الرسل بكلام الله وقدّم {بِرِسَـٰلَـٰتِي } وعلي {وَبِكَلَـٰمِي } لأن الرسالة أسبق فيالزمان أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف، وقرأ الحرميان برسالتي على الإفراد وهو مراد به المصدر أي بإرسالي أويكون على حذف مضاف أي بتبليغ رسالتي لأن مدلول الرسالة غير مدلول المصدر، وقرأ باقي السبعة بالجمع لأنّ الذي أرسلبه ضروب وأنواع، وقرأ الجمهور {وَبِكَلَـٰمِي } فاحتمل أن يكونن مصدراً أي وبتكليمي أو يكون على حذف مضاف أي وبسماعكلامي، وقرأ أبو رجاء برسالتي وبكلمي جمع كلمة أي وبسماع كلمي، وقرأ الأعمش برسالاتي وتكلمي، وحكى عنه المهدوي وتكليمي علىوزن تفعيلي وأمره تعالى أن يأخذ ما آتاه من النبوّة لأنّ في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال والمعنيخذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجدّ في النفع به {وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } على ما آتيناك وفي ذلك إشارةإلى القنع والرضا بما أعطاه الله والشكر عليه. {وَكَتَبْنَا * فِى ٱلاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء } قيل: إنّ موسى عليهالسلام صعق يوم الجمعة يوم عرفة وأفاق فيه وأعطى التوراة يوم النحر وظاهر قوله {وَكَتَبْنَا } نسبة الكتابة إليه. فقيلكتب بيده وأهل السماء يسمعون صرير القلم في اللوح، وقيل: أظهرها وخلقها في الألواح، وقيل: أمر القلم أن يخطَّ لموسىفي الألواح، وقيل: كتبها جبريل عليه السلام بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النّور ففي هذين القولين أسندذلك إلى نفسه تشريف إذ ذاك صادر عن أمره، وقيل: معنى {كَتَبْنَا } فرضنا كقوله تعالى

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ }

والضمير في {لَهُ } عائد على موسى {*والألواح} جمع قلة وأل فيها لتعريف الماهيّة فإن كان هو الذي قطعها وشققهافتكون أل فيها للعهد، وقال ابن عطية: عوض من الضمير الذي يقدر وصلة بين الألواح وموسى عليه السلام تقديره فيألواحه وهذا كقوله تعالى

{ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ }

أي مأواه انتهى وكون أل عوضاً من الضمير ليس مذهبالبصريين ولا يتعين أن يكون عوضاً من الضمير وليس ذلك كقوله فإن الجنة هي المأوى لأنّ الجملة خبر عن منفاحتاجت الجملة إلى رابط، فقال الكوفيون: أل عوض من الضمير كأنه قيل مأواه، وقال البصريون: الرابط محذوف أي هي المأوىله وظاهر الألواح الجمع، فقيل كانت سبعة وروى ذلك عن ابن عباس، وقيل ثمانية ذكره الكرماني، وقيل: تسعة قاله مقاتل:وقيل: عشرة قاله وهب بن منبه، وقيل اثنان وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الفرّاء، وهذا ضعيف لأنّ الدلالة بالجمععلى اثنين قياساً له شرط مذكور في النحو هو مفقود هنا، وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي وقر سبعينبعيراً يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها سوى أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى، وقد اختلفوا من أي شيءهي فعن ابن عباس وأبي العالية زبرجد، وعن ابن جبير من ياقوت أحمر، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد من زمردأخضر، وعن أبي العالية أيضاً من برد، وعن مقاتل من زمرد وياقوت، وعن الحسن من خشب طولها عشرة أذرع، وعنوهب من صخرة صماء أمر بقطعها ولانت له فقطعها بيده وشققها بأصابعه، وقيل: من نور حكاه الكرماني، والمعنى من كلشيء محتاج إليه في شريعتهم {مَّوْعِظَةٌ } للازدجار والاعتبار {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصصوالعقائد والإخبار والمغيبات، وقال ابن جبير ومجاهد: لكل شيء مما أمروا به ونهوا عنه، وقال السدّي الحلال والحرام، وقال مقاتلكان مكتوباً في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبينفإن من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين والظاهر أن مفعول {كَتَبْنَا } أيكتبنا فيها {مَّوْعِظَةٌ } {مِن كُلّ شَىْء } {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } قاله الحوفي قال نصب {مَّوْعِظَةٌ } بكتبنا {وَتَفْصِيلاً} عطف على {مَّوْعِظَةٌ } {لّكُلّ شَىْء } متعلق بتفصيلاً انتهى، وقال الزمخشري: {مِن كُلّ شَىْء } في محل النصبمفعول {وَكَتَبْنَا } {وَمَوْعِظَةً }، {وَتَفْصِيلاً } بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه فيدينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام انتهى، ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول {كَتَبْنَا } موضع المجرور كما تقولأكلت {مِنْ } الرّغيف، ومن للتبعيض أي كتبنا له أشياء من كل شيء وانتصب {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً } على المفعول منأجله أي كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ والتفصيل لأحكامهم. {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }أي فقلنا خذها عطفاً على {كَتَبْنَا } ويجوز أن يكون {فَخُذْهَا } بدلاً من قوله {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ }، والضميرفي {فَخُذْهَا } عائد على ما على معنى ما لا على لفظها وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائداًعلى {ٱلاْلْوَاحِ } أي الألواح أو على {كُلّ شَىْء } لأنه في معنى الأشياء أو على التوراة أو على الرسالاتوهذه احتمالات مقوّلة أظهرها الأول، ومعنى {بِقُوَّةٍ } قال ابن عباس بجدّ واجتهاد فعل أولي العزم، وقال أبو العالية والربيعبن أنس: بطاعة، وقال جويبر: بشكر، وقال ابن عيسى: بعزيمة وقوة قلب لأنه إذا أخذها بضعف النية أدّاه إلى الفتور،وهذا القول راجع لقول ابن عباس: أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه وقوله {بِأَحْسَنِهَا } ظاهره أنهأفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، وقيل: أحسنها الفرائض والنوافل وحسنها المباح، وقيل: أحسنها الناسخ وحسنها المنسوخولا يتصور أن يكون المنسوخ حسناً إلا باعتبار ما كان عليه قبل النسخ أما بعد النسخ فلا يوصف بأنه حسنلأنه ليس مشروعاً، وقيل الأحسن المأمور به دون المنهي عنه، قال الزمخشري: على قوله الصيف أحرّ من الشتاء انتهى، وذلكعلى تخيّل أن في الشتاء حرّاً ويمكن الاشتراك فيهما في الحسن بالنسبة إلى الملاذ وشهوات النفس فيكون المأمور به أحسنمن حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ويكون المنهي عنه حسناً باعتبار الملاذ والشهوة فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن وإناختلف متعلقه، وقيل أحسنها هو أشبه ما تحتمله الكلمة من المعاني إذا كان لها احتمالات فتحمل على أولاها بالحق وأقربهاإليه، وقيل أحسن هنا ليست أفعل التفضيل بل المعنى بحسنها كما قال:

بيتاً دعائمه أعز وأطول    

أي عزيزة طويلة قالهقطرب وابن الأنباري فعلى هذا أمروا بأن يأخذوا بحسنها وهو ما يترتب عليه الثواب دون المناهي التي يترتب على فعلهاالعقاب، وقيل أحسن هنا صلة والمعنى يأخذوا بها وهذا ضعيف لأنّ الأسماء لا تزاد وانجزم {يَأْخُذُواْ } على جواب الأمروينبغي تأويل {وَأْمُرْ قَوْمَكَ } لأنه لا يلزم من أمر قومه بأخذ أحسنها أن {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } فلا ينتظم منهشرط وجزاء {*وبأحسنها} متعلّق بيأخذوا وذلك على إعمال الثاني لأن {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } مقتضى لقوله {وَأَمَرُّ } ولقوله {يَأْخُذُواْ فَخُذْهَابِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ } مجزوماً على إضمار لام الأمر أي ليأخذوا لأنّ معنى {وَأْمُرْ قَوْمَكَ } قل لقومك وذلكعلى مذهب الكسائي ومفعول {يَأْخُذُواْ } محذوف لفهم المعنى أي {يَأْخُذُواْ } أنفسهم {بِأَحْسَنِهَا } ويحتمل أن تكون الباء زائدةأي يأخذوا أحسنها كقوله لا يقرأن بالسور، والوجه الأوّل أحسن وانظر إلى اختلاف متعلق الأمرين أمر موسى بأخذ جميعها، فقيل:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } وأكّد الأخذ بقوله {بِقُوَّةٍ } وأمروا هم أن {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } ولم يؤكد ليعلم أن رتبة النبوةأشقّ في التكليف من رتبة التابع ولذلك فرض على رسول الله قيام الليل وغير ذلك منالتكاليف المختصة به والإراءة هنا من رؤية العين ولذلك تعدَّت إلى اثنين و {دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } مصر قاله عليّ وقتادةومقاتل وعطية العوفي والفاسقون فرعون وقومه. قال الزمخشري كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثلفسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم انتهى، وقيل المعنى: وقيل المعنى: سأريكم مصارع الكفار وذلك أنه لما أغرق فرعون وقومه أوحىإلى البحر أن اقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم مصارع الفاسقين، وقال الكلبي: ما مرّوا عليهإذا سافروا من مصارع عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا، وقال قتادة أيضاً الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم، وقالمجاهد والحسن: {دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } جهنم والمراد الكفرة بموسى وغيره، وقال ابن زيد: {*سأريكم} من رؤية القلب أي سأعلمكم سيرالأولين وما حلّ بهم من النكال، وقيل {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي ما دار إليه أمرهم وهذا لا يدرك إلابالأخبار التي يحدّث عنها العلم وهذا قريب من قول ابن زيد، وقال ابن عطية: ولو كان من رؤية القلب لتعدّىبالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدّر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قولمن قال إنها جهنم قيل له: لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصاد دونه لأنها داخلة على الابتداء والخبر ولوجوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى انتهى، وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنىعليه جائز فيجوز في جواب هل أعلمت زيداً عمراً منطلقاً أعلمت زيداً عمراً ويحذف منطلقاً لدلالة الكلام السابق عليه وأماتعليله لأنها داخلة على الابتداء والخبر لا يدل على المنع لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصاراً والثاني والثالث في بامأعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصاراً وفي قوله لأنها أي {*سأريكم} داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ويعني أنهاقبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدأ والخبر، وقرأ الحسن: {عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ } بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيهرسم المصحف ووجّهت هذه القراءة بوجهين، أحدهما: ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطّلها فنشأ عنها الواو قال:ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه انتهى، فيكون كقوله أدنو فانظر رأى فانظر،وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر، والثاني: ما ذكره الزمخشري قال وقرأ الحسن {سَأُوْرِيكُمْ } وهي لغة فاشيةبالحجاز يقال: أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند كأن المعنى بينه لي وأثره لأستبينه انتهى، وهي أيضاًفي لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقق هذهاللغة أهي في لغة الحجاز أم لا، وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورثكم، قال الزمخشري وهي قراءة حسنة يصححهاقوله تعالى

{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ }

. {سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـٰتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلارْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } لماذكر {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } ذكر ما يفعل بهم تعالى من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلىوصف ليس لهم ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقّوا به اسم الفسق، قال ابن جبير سأصرفهم عن الاعتبار والاستدلالبالدلائل والآيات على هذه المعجزات وبدائع المخلوقات، وقال قتادة: سأصدّهم عن الإعراض والطّعن والتحريف والتبديل والتغيير فالآيات القرآن فإنه مختصبصونه عن ذلك، وقال سفيان بن عيينة سأمنعهم من تدبرها ونظرها النظر الصحيح المؤدّي إلى الحقّ، وقال الزجاج: أجعل جزاءهمسأصرفهم عن دفع الانتقام أي إذا أصابتهم عقوبة لم يدفعها عنهم فالآيات على هذا ما حلّ بهم من المثلات التيصاروا بها مثلة وعبرة وعلى هذه الأقوال يكون {ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ } عام أي كل من قام به هذا الوصف، وقيل:هذا من تمام خطاب موسى، والآيات هي التسع التي أعطيها والمتكبرون هم فرعون وقومه صرف الله قلوبهم عن الاعتبار بهابما انهمكوا فيه من لذّات الدنيا وأخذ الزمخشري بعض أقوال المفسرين فقال {سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـٰتِي } بالطبع على قلوب المتكبّرينوخذلانهم فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم وفيه إنذار المخاطبين من عاقبة والذينيصرفون عن الآيات لتكبّرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم انتهى، و {ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ } عن الإيمان قالابن عطيّة: هم الكفرة والمعنى في هذه الآية سأجعل الصّرف عن الآيات عقوبة المتكبّرين على تكبّرهم انتهى، وقيل هم الذينيحتقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم، وفي الحديث الصحيح إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ويتعلق بغير الحق بيتكبرونأي بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وقد يكون التكبّر بالحقّ كتكبّر المحقّ على المبطل لقوله تعالى:

{ أعزّة عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }

ويجوز أن يكون في موض الحال فيتعلق بمحذوف أي ملتبسين بغير الحقّ والمعنى غير مستحقّين لأنّ التكبربالحق لله وحده لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد. {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} وصفهم هذا الوصف الذّميم وهو التكبّر عن الإيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بهاوهذا ختم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا. وقرأ مالك بن دينار: وإن {يَرَوْاْ } بضم الياء.{وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً }. أُراهم الله السبيلين فرأوهما فآثرواالغيّ على الرشد كقوله

{ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }

. وقرأ الأخوان {ٱلرُّشْدِ } وباقي السبعة {ٱلرُّشْدِ }، وعن ابن عامرفي رواية اتباع الشين ضمة الراء وأبو عبد الرحمن الرّشاد وهي مصادر كالسقم والسقم والسقام، وقال أبو عمرو بن العلاء:{ٱلرُّشْدِ } الصّلاح في النظر وبفتحهما الدين، وقرأ ابن أبي عبلة لا يتخذوها ويتخذوها على تأنيث السبيل والسبيل تذكر وتؤنث،قال تعالى:

{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِى }

ولما نفى عنهم الإيمان وهو من أفعال القلب استعار للرّشد والغي سبيلين فذكر أنهمتاركو سبيل الرشد سالكو سبيل الغي وناسب تقديم جملة الشرط المتضمنة سبيل الرشد على مقابلتها لأنها قبلها. {وَمِنْهُمْ مَّنيَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } فذكر موجب الإيمان وهو الآيات وترتّب نقيضه عليه وأتبع ذلك بموجب الرشد وترتب نقيضهعليه ثم جاءت الجملة بعدها مصرّحة بسلوكهم سبيل الغي ومؤكدة لمفهوم الجملة الشرطية قبلها لأنه يلزم من ترك سبيل الرّشدسلوك سبيل الغي لأنهما إما هدى أو ضلال فهما نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر. {ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَاوَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ }. أي ذلك الصرف عن الآيات هو سبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتهاوالمعنى أنهم استمرّ كذبهم وصار لهم ذلك ديدناً حتى صارت تلك الآيات لا تخطر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيانلها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئاً منها والظاهر أنّ الصرف سببه التكذيب والغفلة ممن جميعهم ويُحتمل أن الصرف سببهالتكذيب ويكون قوله: {وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ } استئناف إخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الأياتوتدبرها فأورثنهم الغفلة التكذيب بها والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا وجوّزوا أن يكونمنصوباً فقدّره ابن عطية فعلنا ذلك، وقدّره الزمخشري صرفهم الله ذلك الصّرف بعينه وفي قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـٰتِي ٱلَّذِينَيَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلارْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } إشعار بأنّ الصرف سببه هذا التكبّر وفي قوله {ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ } إعلام بأنذلك الصّرف سببه التكذيب والجمع بينهما أن التكبر سبب أول نشأ عنه التكذيب فنسبه الصّرف إلى السبب الأول وإلى ماتسبب عنه. {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَلِقَاء ٱلاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ذكر تعالى مايؤول إليه في الآخرة أمر المكذبين فذكر أنه يحبط أعمالهم أي لا يعبأ بها وأصل الحبْط أن يكون فيما تقدمصلاحه فاستعمل الحبوط هنا إذا كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية على طريق صالح فكان الحبط فيها بحسب معتقداتهم إذ المكذّببالآيات قد يكون له عمل فيه إحسان للناس وصفح وعفو عمن جنى عليه وكلّ ذلك لا يجازى عليه في الآخرةفشمل حبط الأعمال من له عمل برّ ومن عمله من أوّل مرة فاسد ونبّه بلقاء الآخرة على محلّ افتضاحهم وجزائهموتهديداً لهم ووعيداً بها وأنها كائنة لا محالة وإضافة {لِقَاء } إلى {ٱلاْخِرَةَ } إضافة المصدر إلى المفعول أي ولقائهمالآخرة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ومن إضافة المصدرإلى الظرف لأنّ الظرف هو على تقدير في والإضافة عندهم إنما هي على تقدير اللام أو تقدير من على مابين في علم النحو فإنّ اتسع في العامل جاز أن ينصب الظرف نصب المفعول به وجاز إذ ذاك أن يُضافمصدره إلى ذلك الظرف المتسع في عامله وأجاز بعض النحويين أن تكون الإضافة على تقدير في كما يفهمه ظاهر كلامالزمخشري، وهو مذهب مردود في علم النحو. و {هَلْ يُجْزَوْنَ } استفهام بمعنى التقدير أي يستوجبون بسوء فعلهم العقوبة، قالابن عطية: والظاهر أنه استفهام بمعنى النفي ولذلك دخلت {إِلا } والاستفهام الذي هو بمعنى التقرير هو موجب من حيثالمعنى فيبعد دخول إلا ولعله لا يجوز. {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ }.إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلهاً معبوداً فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك

{ قَالَ رَبّ ٱغْفِرْ لِى وَلاخِى }

، وقيل إنما عبده قوم منهم لا جميعهم لقوله:

{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ }

وإنكان بمعنى العمل كقوله

{ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً }

أي عملت وصنعت فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفرمن قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازاً كما قالوا بنو تميم قتلوا فلاناً وإنما قتله واحد منهمولكونهم راضين بذلك ومعنى {مِن بَعْدِهِ } من بعد مضيه للمناجاة ومن حليّهم متعلق باتخذ وبها يتعلق من بعده وإنكانا حر في جرّ بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأنّ من الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض وأجاز أبو البقاءأن يكون {مِنْ حُلِيّهِمْ } في موضع الحال فيتعلق بمحذوف لأنه لو تأخر لكان صفة أي {عِجْلاً } كائناً منحليهم. وقرأ الأخوان من {حُلِيّهِمْ } بكسر الحاء اتباعاً لحركة اللام كما قالوا: عصى، وهي قراءة أصحاب عبد الله ويحيـىبن وثاب وطلحة والأعمش، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء وهو جمع حلى نحو ثدي وثدى ووزنهفعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لتصحّ الياء، وقرأ يعقوب{مِنْ حُلِيّهِمْ } بفتح الحاء وسكون اللام وهو مفرد يراد به الجنس أو اسم جنس مفرده حلية كتمر وتمره، وإضافةالحلى إليهم إما لكونهم ملكوه من ما كان على قوم فرعون حين غرقوا ولفظهم البحرفكان كالغنيمة ولذلك أمر هارون بجمعهحتى ينظر موسى إذا رجع في أمره أو ملكوه إذ كان من أموالهم التي اغتصبها القبط بالجزية التي كانوا وضعوهاعليهم فتحيل بنو إسرائيل عل استرجاعها إليهم بالعارية وإما لكونهم لم يملكوه لكن تصرفت أيديهم فيه بالعارية فصحت الإضافة إليهملأنها تكون بأدنى ملابسة. روى يحيـى بن سلام عن الحسن: أنهم استعاروا الحلى من القبط لعرس، وقيل: اليوم زينة ولماهلك فرعون وقومه بقي الحلى معهم وكان حراماً عليهم وأخذ بنو إسرائيل في بيعه وتمحيقه، فقال السامريّ لهارون: إنه عاريةوليس لنا فأمر هارون منادياً بردّ العارية ليرى فيها موسى رأيه إذا جاء فجمعه وأودعه هارون عند السامري وكان صائغاًفصاغ لهم صورة عجل من الحلى، وقيل: منعهم من ردّ العارية خوفهم أن يطلع القبط على سُراهم إذ كان تعالىأمر موسى أن يسري بهم، والعجل ولد البقرة القريب الولادة ومعنى جسداً جثة جماداً، وقيل: بدناً بلا رأس ذهباً مصمتاً،وقيل: صنعه مجوفاً، قال الزمشخري: جسداً بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد، قال الحسن: إنّ السامريّ قبض قبضة من ترابمن أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فقذفه في في العجل فكان عجلاً له خوار انتهى. وهذا ضعيفأعني كونه لحماً ودماً لأنّ الآثار وردت بأن موسى برده بالمبارد وألقاه في البحر ولا يبرد اللحم بل كان يقتلويقطع، وقال ابن الأنباري: ذكر الجسد دلالة على عدم الروح فيه انتهى، وظاهر قوله له خوار يدلّ على أنه فيهروح لأنه لا يخور إلا ما فيه روح، وقيل: لما صنعه أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب علىشكل مخصوص وجعله في مهبّ الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر صوت يشبه الخوار، وقيل: جعل تحته من ينفخ فيهمن حيث لا يشعر به فيسمع صوت من جوفه كالخوار، وقال الكرماني: جعل في بطن العجل بيتاً يفتح ويغلق فإذاأراد أن يخور أدخله غلاماً يخور بعلامة بينهما إذا أراد، وقيل: يحتمل أن يكونن الله أخاره ليفتن بني إسرائيل وخواره،قيل: مرة واحدة ولم يثنِ رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقيل: مراراً فإذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم،وقاله ابن عباس وأكثر المفسرين، وقرأ علي وأبو السّمأل وفرقة جوار: بالجيم والهمز من جأر إذا صاح بشدّة صوت وانتصب{جَسَداً }، قال الزمخشري على البدل، وقال الحوفي على النعت وأجازهما أبو البقاء وأن يكون عطف بيان وإنما قال: {جَسَداً} لأنه يمكن أن يتخذ مخطوطاً أو مرقوماً في حائط أو حجر أو غير ذلك كالتماثيل المصوّرة بالرقم والخط والدّهانوالنقش فبين تعالى أنه ذو جسد. {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً }، إن كان اتخذ معناهعمل وصنع فلا بدّ من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلهاً لهم وإن كان المحذوف إلهاًأي اتخذوا {عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } إلهاً فلا يحتاج إلى حذف جملة، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جماداً أوحيواناً عاجزاً عليه آثار الصّنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابةاستحال أن يكون إلهاً وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمّى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي والظاهر أن يروا بمعنىيعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأنّ انتفاء القدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمانباقي الأوصاف فلذلك حضّ هذان الوصفان بانتفائهما. {ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ } أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذاالأمر الشنيع وكانوا واضعين الشيء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشيء في غيره موضعه وليسعبادة العجل بأول ما أحدثوه من المناكر، قال ابن عطية ويحتمل أن تكون الواو واو الحال انتهى يعني في {وَكَانُواْ} والوجه الأول أبلغ في الذمّ وهو الإخبار عن وصفهم بالظلم وإنّ شأنهم ذلك فلا يتقيد ظلمهم بهذه الفعلة الفاضحة.{وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ }.ذكر بعض النحويين أن قول العرب سقط في يده فعل لا يتصرف فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولامفعول وكان أصله متصرّفاً تقول سقط الشيء إذا وقع من علو فهو في الأصل متصرّف لازم، وقال الجرجاني: سقط فييده مما دثر استعماله مثل ما دثر استعمال قوله تعالى:

{ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ ءاذَانِهِمْ }

قال ابن عطية: وفي هذا الكلامضعف والسّقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول ابن أبي كاهل:

كيف يرجون سقاطي بعدما     بقع الرأس مشيب وصلع

وحكي عن أبي مروان بن سراج أحد أئمة اللغة بالأندلس أنه كانيقول: قول العرب سقط في يده مما أعياني معناه، وقال أبو عبيدة: يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقطفي يده، وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال حصل في أيديهم مكروه وإنكان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين، وقال ابنعطيّة: العرب تقول لمن كان ساعياً لوجه أو طالباً غاية فعرض له ما صده عن وجهه ووقفه موقف العجز وتيقنأنه عاجز سقط في يد فلان وقد يعرض له الندم وقد لا يعرض، قال: والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظوبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصّرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لايجاوزها ولا يكون له في الخارج أثر، وقال الزمخشري لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأنّ من شأن مناشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمًّا فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى {فَىأَيْدِيهِمْ } وهو من باب الكناية انتهى، والصواب وسقط مسند إلى ما {فَى أَيْدِيهِمْ } وحكى الواحدي عن بعضهم أنهمأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغذوات شبه الثلج يقال: منه سقطت الأرض كما يقال: من الثلج ثلجت الأرضوثلجنا أي أصابنا الثلج ومعنى سقط في يده والسّقيط والسقط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ومن وقع في يده السّقيطلم يحصل منه على شيء فصار مثلاً لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل وكانت الندامةآخر أمره، وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ويصبر على هيئتة لو نزعتيده لسقط على وجهه كان اليد مسقوطاً فيها ومعنى {فِى } على أي سقط على يده ومعنى {فَى أَيْدِيهِمْ }أي على أيديهم كقوله

{ وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ }

انتهى. وكان متعلق سقط قوله في أيديهم لأنّ اليد هي الآلةالتي يؤخذ بها ويضبط {*وسقط} مبني للمفعول والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور كما تقول: جلس في الدار وصحكمن زيد، وقيل: سقط تتضمن مفعولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال: ذهب بزيد انتهى، وصوابه وهو هناضمير المصدر الذي هو السقوط لأنّ سقط ليس مصدره الإسقاط وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسمّ فاعله بلهو ضميره وقرأت فرقة منهم ابن السميقع {وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } مبنياً للفاعل، قال الزمخشري أي وقع الغضّ فيها،وقال الزجاج: سقط الندم في أيديهم، قال ابن عطية: ويحتمل أنّ الخسران والخيبة سقط في أيديهم، وقرأ ابن أبي عبلة:أسقط في أيديهم رباعيًّا مبنياً للمفعول ورأوا أي علموا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ }، قال القاضي: يجب أن يكون المؤخر مقدّماًلأنّ الندم والتحسر إنما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال: ولما رأوا أنهم قد ضلوا وسقط في أيديهم لما نالهممن عظيم الحسرة انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير بل يمكن تقدّم النّدم على تبين الضلال لأنّ الإنسان إذا شكّفي العمل الذي أقدم عليه أهو صواب أو خطأ حصل له الندم ثم بعد يتكامل النظر والفكر فيعلم أن ذلكخطأ، قالوا: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } انقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه وهذا كما قال: آدموحواء

{ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا }

ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلهاً أعظم الذنوب بدأوا بالرحمةالتي وسعت كل شيء ومن نتاجها غفران الذنب وأما في قصة آدم فإنه جرت محاورة بينه تعالى وبينهما وعتاب علىما صدر منهما من أكل ثمر الشجرة بعد نهيه إياهما عن قربانها فضلاً عن أكل ثمرها فبادرا إلى الغفران وأتباهبالرحمة إذ غفران ما وقع العتاب عليه أكد ما يطلب أولاً، وقرأ الأخوان والشعبي وابن وثاب والجحدري وابن مصرف والأعمشوأيوب بالخطاب في ترحّمنا وتغفر ونداء ربنا، وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم: {يَرْحَمْنَارَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } بالياء فيهما ورفع ربنا وفي مصحف أبي قالوا: ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا، بتقديم المنادى وهوربّنا ويحتمل أن يكون القولان صدراً منهم جميعهم على التعاقب أو هذا من طائفة وهذا من طائفة فمن غلب عليهالخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه العظيم ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيـي من الخطاب فأسندالفعل إلى الغائب وفي قولهم: {رَبَّنَا } استعطاف حسن إذ الربّ هو المالك الناظر في أمر عبيده والمصلح منهم مافسد. {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ }، أي رجعمن المناجاة يروي أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال هذه أصوات قوم لاهين فلما تحقق عكوفهمعلى عبادة العجل داخلة الغضب والأسف وألقى الألواح. وقال الطبري أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجعوهو غاضب ويدلّ على هذا القول قوله

{ إِنَّا قَدْ * فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ }

الآية وغضبان منصفات المبالغة والغضب غليان القلب بسبب حصول ما يؤلم وذكروا أنه عليه السلام كان من أسرع الناس غضباً وكان سريعالفيئة، قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول كان إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته وأسفاً منأسف فهو أسف كما تقول فرق فهو فرْق يدلّ على ثبوت الوصف ولو ذهب به مذهب الزمان لكان على فاعلفيقال: آسف والآسف الحزين قاله ابن عباس والحسن والسدي أو الجزع قاله مجاهد أو المتلهف أو الشديد الغضب قاله الزمخشريوابن عطية قال: وأكثر ما يكون بمعنى الحزين أو المغضب قاله ابن قتيبة أو النادم قاله القتبي أيضاً، أو متقاربانقاله الواحدي قال: فإذا أتاك ما تكره ممن دونك غضبت أو ممن فوقك حزنت فأغضبه عبادتهم العجل وأحزنه فتنة اللهإياهم وكان قد أخبره بذلك بقوله إنا قد فتنا قومك من بعدك وتقدّم الكلام على بئسما في أوائل البقرة والخطابإما للسامري وعباد العجل أي بئسما قمتم مقامي حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى وأما لوجوه بني إسرائيل هارونوالمؤمنين حيث لم يكفوا من عبد غير الله وخلفتموني يدلّ على البعدية في الزمان والمعنى هنا من بعد ما رأيتممني توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعدما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهمعن ما طمحت إليه أبصارهم من عبادة البقر ومن حق الخلف أن يسير سيرة المستخلف ولا يخالفه ويقال خلفه بخيرأو شرّ إذا فعله عن ترك من بعده. أعجلتم استفهام إنكار قال الزمخشري يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غيرتام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته، فيقال: عجلت الأمر والمعنى أعجلتم عن أمر ربكموهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره، ولم أرجع إليكم فحدّثتمأنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم، وروي أن السامري قال لهم أحين أخرج إليهم العجل هذا إلهكم وإلهموسى أن موسى لن يرجع وأنه قد مات انتهى. وقال ابن عطية: معناه أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني من قبلالوقت الذي قدّرته انتهى، وقال يعقوب: يقال عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته أي حملته على العجلة انتهى، وقيل: معناهأعجلتم ميعاد ربكم أربعين ليلة، وقيل: أعجلتم سخط ربكم، وقيل: أعجلتم بعبادة العجل، وقيل: العجلة التقدّم بالشيء في غير وقته،قيل: وهي مذمومة ويضعفه قوله وعجلت إليك ربّ لترضى والسرعة المبادرة بالشيء في غير وقته وهي محمودة. {وَأَلْقَى ٱلالْوَاحَوَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } أي الألواح التوراة وكان حاملاً لها فوضعها بالأرض غضباً على ما فعله قومه منعبادة العجل وحمية لدين الله وكان كما تقدم شديد الغضب وقالوا كان هارون ألين منه خلقاً ولذلك كان أحب إلىبني إسرائيل منه. وقيل: ألقاها دهشاً لما دهمه من أمرهم، وعن ابن عباس: أن موسى عليه السلام لما ألقاها تكسرتفرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة وهو الذي أخذ بعد ذلك، وروى أنهرفع ستة أسباعها وبقي سبع قاله جماعة من المفسرين، وقال أبو الفرج بن الجوزيّ لا يصحّ أنه رماها رمي كاسرانتهى، والظاهر أنه ألقاها من يديه لأنهما كانتا مشغولتين بها وأراد إمساك أخيه وجرّه ولا يتأتى ذلك إلا بفراغ يديهلجرّه وفي قوله ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح دليل على أنها لم تتكسر ودليل على أنه لم يرفعمنها شيء والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جاره إليه، وقيل: بشعر رأسه، وقيل: بذوائبه ولحيته، وقيل: بلحيته، وقيل:بأذنه، وقيل: لم يأخذ حقيقة وإنما كان ذلك إشارة فخشي هارون أن يتوّهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغبإليه والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإصلاح وأنلا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يزجرهم ويكفهم عن ذلك ويدلّ على هذا الظاهر قوله: {ولما سكت عن موسىالغضب} وقوله:

{ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي }

، قال الزمخشري:أي بشعر رأسه يجره إليه بذوائبه وذلك لشدة ما ورده عليه من الأمر الذي استفزّه وذهب بفطنته وظنًّا بأخيه أنفرط في الكفّ، وقيل: ذلك الأخذ والجر كان ليسر إليه أنه نزل عليه الألواح في مناجاته وأراد أن يخفيها عنبني إسرائيل فنهاه هارون لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله وقيل: ضمه ليعلم ما لديه فكره ذلك هارون لئلايظنوا أهانته وبيّن له أخوه أنهم استضعفوه، وقيل: كان ذلك على سبيل الإكرام لا على سبيل الإهانة كما تفعل العربمن قبض الرجل على لحية أخيه. {قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ ٱلاعْدَاء وَلاَتَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ كما قال:

يا ابن أمي ويا شقيق نفسي    

وقال آخر:

    يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي

وأيضاً فكانت أمهمامؤمنة قالوا: وكان أبوه مقطوعاً عن القرابة بالكفر كما قال تعالى لنوح عليه السلام:

{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ }

وأيضاًلما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها، وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص: {ٱبْنَ أُمَّ} بفتح الميم، فقال الكوفيون: أصله يا ابن أماه فحذفت الألف تخفيفاً كما حذفت في يا غلام وأصله يا غلاماًوسقطت هاء السكت لأنه درج فعلى هذا الاسم معرب إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه ابن، وقالسيبويه: هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوه فعلى قوله ليس مضافاً إليه ابن والحركة حركة بناء،وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فقياس قول الكوفييّن أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزىء بالكسرة عنها كما اجتزؤوا بالفتحة عنالألف المنقلبة عن ياء المتكلم، وقال سيبويه هو مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلم كما قالوا يا أحد عشر أقبلوا وحذفتالياء واجتزؤوا بالكسرة عنها كما اجتزؤوا في

{ يا قَوْمٌ }

ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء لأنّالاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى فلا يجوز حذف الياء منه، وقرىء بإثبات ياء الإضافة وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرةعن ياء الإضافة ثم قلب الياء ألفاً والكسرة قبلها فتحة ثم حذف التاء وفتح الميم ثم إثبات التاء مفتوحة أوساكنة وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي، وقرىء يا ابن أمي بإثبات الياء وابن إمّبكسر الهمزة والميم ومعمول القول المنادى والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لميقصّر في كفهّم من الوعظ والإنذار وما بلغته طاقته ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه بل قاربوا أن يقتلوه ودلّهذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى همّوا بقتله ومعنى {ٱسْتَضْعَفُونِى } وجدوني فهي بمعنى إلفاء الشيء بمعنى ماصيغ منه أي اعتقدوني ضعيفاً، وتقدّم ذلك في قوله

{ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ }

ولما أبدى له ما كان منهم من الاستضعافله ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله فقال {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ ٱلاعْدَاء } أي لا تسرّهم بما تفعلبي فأكون ملوماً منهم ومنك، وقال الشاعر:

    والموت دون شماتة الأعداء

وقرأ ابن محيصن {تُشْمِتْ } بفتحالتاء وكسر الميم ونصب {ٱلاعْدَاء } ومجاهد كذلك إلا أنه فتح الميم وشمت متعدّية كأشمت وخرّج أبو الفتح قراءة مجاهدعلى أن تكون لازمة والمعنى فلا تشمت أنت يا ربّ وجاز هذا، كما قال الله يستهزىء بهم ونحو ذلك ثمعاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كقراءة الجماعة انتهى، وهذا خروج عن الظاهر وتكلّف في الإعراب وقد رويتعدّى شمت لغة فلا يتكلّف أنها لازمة مع نصب الأعداء وأيضاً قوله:

{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ }

إنما ذلك على سبيلالمقابلة لقولهم

{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ }

فقال: {ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } وكقوله

{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ }

ولا يجوز ذلك ابتداءًمن غير مقابلة وعن مجاهد {فَلاَ تُشْمِتْ } بفتح التاء والميم ورفع {ٱلاعْدَاء }، وعن حميد بن قيس كذلك إلاأنه كسر الميم جعلاه فعلاً لازماً فارتفع به الأعداء فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به وهو من باب لاأرينك هنا والمراد نهيه أخاه أي لا تحلّ بي مكروهاً فيشمتوا بي وبدأ أوّلاً بسؤال أخيه أن لا يشمت بهالأعداء لأنّ ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ولايعتقده واحداً من الظالمين إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي وليس ظاهراً لبني إسرائيل أو يكون المعنى{وَلاَ تَجْعَلْنِى } في موجدتك عليّ قريناً لهم مصاحباً لهم.. {قَالَ رَبّ ٱغْفِرْ لِى وَلاخِى وَأَدْخِلْنَا فِيرَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ }. لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله قالوا واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلتهفي إلقاء الألواح واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل قالوا: ويمكن أن يكون الاستغفار مما لا يعلمه واللهأعلم، وقال الزمخشري لما اعتذر إليه أخوه وذكر شماته الأعداء، {قَالَ رَبّ ٱغْفِرْ لِى وَلاخِى } ليرضي أخاه ويظهر لأهلالشماتة رضاه عنه فلا يتمّ لهم شماتتهم واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرّط في حينالخلافة وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ولا تزال متضمنة لهما في الدنيا والآخرة انتهى، وقوله ولأخيه أن عسى فرطإن كانت أن بفتح الهمزة فتكون المخففة من الثقيلة ويقرب معناه، وإن كانت بكسر الهمزة فتكون للشرط ولا يصح إذذاك دخولها على عسى لأنّ أدوات الشرط لا تدخل على الفعل الجامد. {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّنرَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى ٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذٰلِكَ * تَجْزِى *ٱلْمُفْتَرِينَ }. الظاهر أنه من كلام الله تعالى إخباراً عما ينال عبادالعجل ومخاطبةً لموسى بما ينالهم. وقيل: هو من بقية كلام موسى إلى قوله {وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ } وأصدقه الله تعالىبقوله: {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ } والأول الظاهر لقوله {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ } في نسق واحد مع الكلام قبله والمعنى اتخذوهإلۤهاً لقوله {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَا إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ }، قيل: والغضب في الأخرة والذلّة فيالدنيا وهم فرقة من اليهود أُشربوا حبّ العجل فلم يتوبوا، وقيل: هم من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات،وقال أبو العالية وتبعه الزمخشري: هو ما أمروا به من قتل أنفسهم، وقال الزمخشري والذلّة خروجهم من ديارهم لأن ذلّالغربة مثلٌ مضروب انتهى، وينبغي أن يقول استمرار انقطاعهم عن ديارهم لأنّ خروجهم كان سبق على عبادة العجل، وقال عطيةالعوفيّ: هو في قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير لأنهم تولوا متخذي العجل، وقيل: ما نال أولادهم على عهد رسولالله من السبي والجلاء والجزية وغيرها، وجمع هذين القولين الزمخشري فقال: هو ما نال أبناءهم وهمبنو قريضة والنضير من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء ومن الذلة بضرب الجزية انتهى، والغضب إن أخذ بمعنى الإرادة فهوصفة ذات أو بمعنى العقوبة فهو صفة فعل والظاهر أن قوله {وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ } متعلق بقوله {سَيَنَالُهُمْ }، وكذلكأي مثل ذلك النيل من الغضب والذلّة نجزي من افترى الكذب على الله وأي افتراء أعظم من قولهم {هَـٰذَاإِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ } و {ٱلْمُفْتَرِينَ } عامّ في كل مفتر، وقال أبو قلابة ومالك وسفيان بن عيينة: كل صاحببدعة أو فرية ذليل واستدلّوا على ذلك بالآية. {وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِنبَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } {ٱلسَّيّئَاتِ } هي الكفر والمعاصي غيره {ثُمَّ تَابُواْ } أي رجعوا إلى الله {مِن بَعْدِهَا }أي من بعد عمل السيئات {وَءامَنُواْ } داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه أو تكون الواو حالية أي وقد آمنوا أنّربك من بعدها أي من بعد عمل السيئات هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير في {مِن بَعْدِهَا } عائداًعلى التوبة أي {إِنَّ رَبَّكَ } من بعد توبتهم فيعود على المصدر المفهوم من قوله {ثُمَّ تَابُواْ } وهذا عنديأولى لأنك إذا جعلت الضمير عائداً على {ٱلسَّيّئَاتِ }، احتجت إلى حذف مضاف وحذف معطوف إذ يصير التقدير من بعدعمل السيئات والتوبة منها وخبر {ٱلَّذِينَ } قوله {إِنَّ رَبَّكَ } وما بعده والرابط محذوف أي {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهم.قال الزمخشري: {لَغَفُورٌ } لستور عليهم محاء لما كان منهم {رَّحِيمٌ } منعم عليهم بالجنة وهذا حكم عام يدخل تحتهمتخذو العجل ومن عداهم عظم جنايتهم أوّلاً ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أنّ الذنوب وإن جلت وإن عظمت فإن عفوهتعالى وكرمه أعظم وأجلّ ولكن لا بد من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة والإنابة وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردةلا يلتفت إليها حازم انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلاْلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًىوَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ }. سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بنيإسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته.قال يونس بن حبيب: تقول العرب سال الوادي ثم سكت، وقال الزجاج: مصدر {سَكَتَ } الغضب سكت ومصدر سكت الرجلسكوت وهذا يقتضي أنه فعل على حدّه وليس من سكوت الناس، وقيل هو من باب القلب أي ولمّا سكت موسىعن الغضب نحو أدخلت في فيّ الحجر، وأدخلت القلنسوة في رأسي انتهى، ولا ينبغي هذا لأنه من القلب وهو لميقع إلاّ في قليل من الكلام والصحيح أنه لا ينقاس، وقال الزمخشري وهذا مثل كأنّ الغضب كان يغريه على مافعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وترك الإغراء ولم يستحسن هذهالكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاويةبن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة وطرفاً من تلك الروعة، وقرىءأسكت رباعيّاً مبنيّاً للمفعول، وكذا هو في مصحف حفصة والمنوي عند الله أو أخوه باعتذاره إليه أو تنصله أي أسكتالله أو هارون، وفي مصحف عبد الله ولما صبر، وفي مصحف أبي ولما انشق والمعنى ولما طفى غضبه أخذ ألواحالتوراة التي كان ألقاها من يده، روي عن ابن عباس أنه ألقاها فتكسرت فصام أربعين يوماً فردّت إليه في لوحينولم يفقد منها شيئاً وفي نسختها أي فيما نسخ من الألواح المكسرة أو فيما نسخ فيها أو فيما بقي منهابعد المرفوع وهو سبعها والأظهر أنّ المعنى وفيما نقل وحوّل منها واللام في {لِرَبّهِمُ } تقوية لوصول الفعل إلى مفعولهالمتقدم، وقال الكوفيّون: هي زائدة، وقال الأخفش: هي لام المفعول له أي لأجل ربهم {يَرْهَبُونَ } لا رياء ولا سمعة،وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر المعنى الذين هم رهبتهم لربهم وهذا على طريقة البصريين لا يتمشّى لأنّ فيه حذف المصدروإبقاء معموله وهو لا يجوز عندهم إلا في الشعر وأيضاً فهذا التقدير يخرج الكلام عن الفصاحة.

{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } * { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }

عدل

{وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَـٰتِنَا }. {*اختار} افتعل من الخير وهوالتخير والانتقاء {يَرْهَبُونَ وَٱخْتَارَ } من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر وهي مقصورة علىالسماع وهي اختار واستغفر وأمر وكنّى ودعا وزوج وصدق، ثم يحذف حرف الجر ويتعدّى إليه الفعل فيقول اخترت زيداً منالرجال واخترت زيداً الرجال. قال الشاعر:

اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم     واعتل من كل يرجى عنده السّول

أياخترتك من الناس و {سَبْعِينَ } هو المفعول الأوّل، و {قَوْمِهِ } هو المفعول الثاني وتقديره {مِن قَوْمِهِ } ومنأعرب {قَوْمِهِ } مفعولاً أوّل و {سَبْعِينَ } بدلاً منه بدل بعض من كلّ وحذف الضمير أي {سَبْعِينَ رَجُلاً }منهم احتاج إلى تقدير مفعول ثان وهو المختار منه فإعرابه فيه بعد وتكلف حذف في رابط البدل وفي المختار منهواختلفوا في هذا الميقات أهو ميقات المناجاة ونزول التوراة أو غيره، فقال نوف البكالي ورواه أبو صالح عن ابن عباس:وهو الأوّل بيّن فيه بعض ما جرى من أحواله وأنه اختار من كل سبط ستة رجال فكانوا اثنين وسبعين، فقالليتخلف اثنان فإنما أمرت بسبعين فتشاحوا، فقال: من قعد فله أجر من حضر فقعد كالب بن يوقنا ويوشع بن نونواستصحب السبعين بعد أن أمرهم أن يصوموا ويتطهّروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه وكان أمرهربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبلكله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجّداً فسمعوه وهو يكلم موسىيأمره وينهاه افعل ولا تفعل، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم فقالوا:

{ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً }

. قال الزمخشري: فقال

{ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ }

يريد أن يسمعوا الردّوالإنكار من جهته، فأجيب: بلن تراني ورجف الجبل بهم وصعقوا انتهى، وقيل: هو ميقات آخر غير ميقات المناجاة ونزول التوراة،فقال وهب بن منبه: قال بنو إسرائيل لموسى إن طائفةً تزعم أنّ الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معكليسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من قومه سبعين من خيارهم ثم ارتقِ بهم الجبل أنت وهارونواستخلف يوشع، ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة، وقال السدّي: هو ميقات وقته اللهتعالى لموسى يلقاه في ناس من بني إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة العجل، وقال ابن عباس فيما روى عنه عليّبن طلحة هو ميقات وقته الله لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ليدعوا ربهم فدعوا فقالوا يا اللهأعطنا ما لم تعطِ أحداً قبلنا ولا أحداً بعدنا فكره الله ذلك فأخذتهم الرّجفة، وعن علي رضي الله عنه فيماروى ابن أبي شيبة أن موسى وهارون وابناه شبّر وشبير انطلقوا حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فقام عليه هارونفقبض روحه فرجع موسى إلى قومه فقالوا: أنت قتلته وحسدتنا على خلقه ولينه، فقال: كيف أقتله ومعي ابناه، قال: فاختاروامن شئتم فاختير سبعون فانتهوا إليه فقالوا من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكنّ الله توفاني، قالوا: ياموسى ما نعصي بعد فأخذتهم الرّجفة فجعلوا يتردّون يميناً وشمالاً انتهى، ولفظ {لّمِيقَـٰتِنَا } في هذا القول الذي روي عنعليّ لأنه يقتضي أنه كان عن توقيت من الله تعالى، وقال ابن السائب: كان موسى لا يأتي ربه إلا بإذنمنه والذي يظهر أن هذا الميقات غير ميقات موسى الذي قيل طفيه: {وَلَمَّا جَاء مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } لظاهرتغاير القصتين وما جرى فيهما إذ في تلك أن موسى كلمه الله وسأله الرؤية وأحاله في الرؤية على تجليه للجبلوثبوته فلم يثبت وصار دكّاً وصعق موسى وفي هذه اختير السبعون لميقات الله وأخذتهم الرّجفة ولم تأخذ موسى، وللفصل الكثيرالذي بين أجزاء الكلام لو كانت قصة واحدة. {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّـٰىَ}. سبب الرجفة مختلف فيه وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرّجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل أوعقوبة على سؤالهم الرؤية أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت أقوال. وقال السدّي:عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين باختيارهم العجل وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله وأخذ الرّجفة يحتملأن نشأ عنه الموت ويحتمل أن نشأ عنه الغشي وهما قولان، وقال السدّي قال موسى: كيف أرجع إلى بني إسرائيلوقد أهلكت خيارهم فماذا أقول وكيف يأمنونني على أحد فأحياهم الله، وقيل أخذتهم الرّعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهموخاف موسى الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم، قال الزمخشري: وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأىمن تبعة طلب الرؤية كما يقال النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبّة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا انتهى.فمعنى قوله {مِن قَبْلُ } سؤال الرّؤية وهذا بناء من الزمخشري على أنّ هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤيةوقد ذكرنا أنّ الأظهر خلافه، وقال ابن عطية لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعّبإن لم يأتِ بالقوم فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخفّ عليّوهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة عليّ مؤذٍ لي انتهى، ومفعول {شِئْتَ } محذوف تقديره لو شئت إهلاكنا وجواب {لَوْ *أَهْلَكْتَهُم } وأتى دون لام وهو فصيح لكنه باللام أكثر كما قال

{ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ }

{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ }

، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن ألا هذا وقوله

{ أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـٰهُمْ }

و

{ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجاً }

والمحذوف في {مِن قَبْلُ } أي من قبل الختيار وأخذ الرّجفة وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل أو عبادتهمهم أياه وقوله{وَإِيَّـٰىَ } أي وقت قتلي القبطي فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبنيإسرائيل قال أكثره ابن عطية وعطف وإياي على الضمير المنصوب في أهلكتهم وعطف الضمير مما يوجب فصله وبدأ بضميرهم لأنّهمالذين أخذتهم الرجفة فماتوا أو أغمي عليهم ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتفِ بقوله أهلكتهم من قبل حتىأشرك نفسه فيهم وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليماً منه لمشيئة الله تعالى وقدرته وأنه لو شاء إهلاكالعاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع. {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاء مِنَّا } قيل: هذا استفهام على سبيل الإدلاءبالحجة في صيغة استعطاف وتذلّل والضمير المنصوب في أتهلكنا له وللسبعين وبما فعل السفهاء فيه الخلاف مرتّباً على سبب أخذالرّجفة من طلب الرؤية أو عبادة العجل أو قولهم قتلت هارون أو تشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل، وقيل:الضمير في أتهلكنا له ولبني إسرائيل وبما فعل السفهاء أي بالتفرّق والكفر والعصيان يكون هلاكهم، وقال الزمخشري يعني نفسه وإياهملأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء وهم طلبوها سفهاً وجهلاً والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام اتبع إهلاك المختارين وهمخير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً }

وقوله عليه السلام، وقد قيل له: أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا كثر الخبث .وكما ورد أن قوماً يخسف بهم قيل: وفيهم الصالحون فقيل: يبعثون على نيّاتهم أو كلاماً هذا معناه وروي عن عليّأنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم. {إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء } أي إنفتنتهم إلا فتنتك والضمير في هي يفسره سياق الكلام أي أنت هو الذي فتنتهم قالت فرقة لما أعلمه الله أنّالسبعين عبدوا العجل تعجب وقال إن هي إلا فتنتك، وقيل لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال: ياربّ ومن أخاره قال: أنا قال:لّموسى فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك، قال ابن عطية: ويحتمل أن يشير به إلىقولهم أرنا الله جهرة إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرّجفة وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة، وقال الزمخشري أيمحنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً حتى افتتنوا وضلوا تضلّ بها الجاهلين غير الثابتينفي معرفتك وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت، وجعل ذلك إضلالاً من الله تعالى وهدى منه لأنّ محنته إنما كانت سبباًلأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلّهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عنالله تعالى. {أَنتَ وَلِيُّنَا } القائم بأمرنا {فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَـٰفِرِينَ }. سأل الغفران له ولهم والرحمةلما كان قد اندرج قومه في قوله أنت وليّنا وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم وكان قومه أصحاب ذنوب أكداستعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله وأنت خير الغافرين ولما كان هو وأخوه هارون عليهالسلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال: وأنت أرحم الراحمينفنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين، ألا ترى إلى قوله: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } وكان تعالى خير الغافرين لأنّغيره يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد والباري سبحانه وتعالىمنزّه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك. {وَٱكْتُبْ لَنَا فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلاْخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ}. أي وأثبت لنا عاقبةً وحياة طيبة أو عملاً صالحاً يستعقب ثناء حسناً في الدنيا وفي الآخرة الجنة والرؤية والثوابعلى حسنة الدنيا والأجود حمل الحسنة على ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونهاوإنا هدنا تعليل لطلب الغفران والحسنة وكتب الحسنة أي تبنا إليك قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبو العالية وقتادةوالضحاك والسدّي: من هاد يهود، وقال ابن بحر: تقرّ بالتوبة، وقيل: ملنا. ومنه قول الشاعر:

قد علمت سلمى وجاراتها     أني من الله لها هائد

أي مائل، وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة هدنا بكسرالهاء من هاد يهيد إذا حرك أي حرّكنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك فيكون الضمير فاعلاً ويحتمل أن يكون مفعولاً لم يسمَّفاعله أي حركنا إليك وأملنا والضم في هدنا يحتملهما وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم وأنهم تائبون عبيدله خاضعون فناسب عزّ الرّبوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرّحمة والكتب. {قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْأَشَاء وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء }. الظاهر أنه استئناف إخبار عن عذابه ورحمته ويندرج في قوله: أصيب به من أشاءأصحاب الرّجفة، وقيل العذاب هنا هو الرّجفة ومن أشاء أصحابها والمعنى أنه لا اعتراض عليه أي من أشاء عذابه، وقيل:من أشاء أن لا أعفو عنه، وقيل: من أشاء من خلقي كما أصبت به قومك، وقيل: من أشاء من الكفار،وقيل المشيئة راجعة إلى التعجيل والإمهال لا إلى الترك والإهمال، وقال الزمخشري: ممن أشاء من وجب عليّ في الحكمة تعذيبهولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة انتهى، وهو على طريقة المعتزلة، وقال ابن عباس أصيب من أشاء علىالذنب اليسير، وقال أيضاً وسعت كل شيء من ذنوب المؤمنين، وقال أبو روق هي التعاطف بين الخلائق، وقال ابن زيد:هي التوبة على العموم، وقال الحسن: هي في الدنيا بالرزق عامة وفي الآخرة بالمؤمنين خاصة، وقال الزمخشري: وأما رحمتي فمنحالها وصفتها أنها واسعة كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتيانتهى، وهو بسط قول الحسن: هي في الدنيا بالرزق عامة، وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد منأساء من الإساءة، وقال أبو عمرو والدّاني: لا تصحّ هذه القراءة عن الحسن وطاووس وعمرو بن فائد رجل سوء، وقرأبها سفيان بن عيينة مرّة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقري وصاح به وأسمعه فقال سفيان: لم أدرِ ولم أفطنلما يقول أهل البدع وللمعتزلة تعلّق بهذه القراءة من جهة إنفاذ الوعيد ومن جهة خلق المرء أفعاله وإن أساء لافعل فيه الله تعالى والانفصال عن هذا كالانفصال عن سائر الظواهر. {وَٱكْتُبْ لَنَا فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا }. أي أقضيهاوأقدّرها والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور ويحتمل عندي أن يعود على حسنة في قوله واكتب لنا في هذهالدنيا حسنة وفي الآخرة أي فسأكتب الحسنة وقاله ابن عباس ونوف البكالي وقتادة وابن جريج والمعنى متقارب لما سمع إبليسورحمتي وسعت كل شيء تطاول لها إبليس فلما سمع فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة يئس، وبقيت اليهود والنصارى فلما تمادتالصفة تبين أنّ المراد أمة محمد ويئس النصارى واليهود من الآية، وقال أهل التفسير: عرض اللههذه الخِلال على قوم موسى فلم يتحملوها ولما انطلق وفد بني إسرائيل إلى الميقات قيل: لهم خطت لكم الأرض مسجداًوطهوراً إلا عند مرحاض أو قبر أو حمام وجعلت السّكينة في قلوبهم فقالوا: لا نستطيع فاجعل السكينة في التابوت والصلاةفي الكنيسة ولا نقرأ التوراة إلا عن نظر ولا نصلي إلا في الكنيسة فقال الله تعالى: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتونالزكاة من أمة محمد ، وقال نوف البكالي: إن موسى عليه السلام قال: يا رب جعلت وفادتيلأمة محمد، قال نوف فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ومعنى يتّقون قال ابن عباس: وفرقة الشّرك، وقالتفرقة المعاصي فمن قال الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ويردّ عليه من الآية شرط الإعمال بقوله ويؤتون الزكاة،ومن قال: المعاصي ولا بدّ خرج إلى قول المعتزلة، قال ابن عطية: والصواب أن تكون اللفظة عامة ولكن لا نقوللا بدّ من اتقاء المعاصي بل نقول مواقع المعاصي في المشيئة ومعنى يتّقون يجعلون بينهم وبين المتقي حجاباً ووقاية، فذكرتعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها انتهى، ويؤتون الزكاة الظاهر أنها زكاة المال وبه قال ابن عباس وروي عنه: ويؤتونالأعمال التي يزكون بها أنفسهم، وقال الحسن: تزكية الأعمال بالإخلاص انتهى، ولما كانت التكاليف ترجع إلى قسمين تروك وأفعال والأفعالقسمان راجعة إلى المال وراجعة إلى نفس الإنسان وهذان قسمان علم وعمل فالعلم المعرفة والعمل إقرار باللسان، وعمل بالأركان فأشاربالاتقاء إلى التروك وبالفعل الراجح إلى المال بالزكاة وأشار إلى ما بقي بقوله: {وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِنَا يُؤْمِنُونَ } وهذه شبيهةبقوله

{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ * ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }

الآية وفهم المفسرون من قوله الذين يتقون إلى آخر الأوصاف إنّ المتصفينبذلك هم أمة محمد ، ويحتمل أن يكون من باب التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قولهللذين يتّقون ويؤتون الزكاة لمن فعل ذلك قبل الرسول ويكون قوله والذين هم بآياتنا يؤمنون من فعل ذلك بعد البعثةوفسّر الآيات هنا بأنها القرآن وهو الكتاب المعجز.

{ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } * { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيۤئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } * { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

عدل

التعزير قال يونس بن حبيب التعزير هو الثناء والمدح. الانبجاس العرق. قال أبوعمرو بن العلاء: انبجست عرقت وانفجرت سالت، وقال الواحدي الانبجاس الانفجار يقال: نجس وانبجس، الحوت معروف يجمع في القلة علىأخوات وفي الكثرة على حيتان وهو قياس مطّرد في فعل واوي العين نحو عود وأعواد وعيدان. {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَٱلنَّبِىَّ ٱلامّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ }. هذا من بقية خطابه تعالىلموسى عليه السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد وذكر لصفاته وإعلام له أيضاً أنه ينزل كتاباًيسمى الإنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقاداً وقولاً وفعلاً وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بنيآدم أعظم شرفاً من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبُدىء به والأميّ الذي هو على صفة أمةالعرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ قاله الزجاج، وكونه أمّياً من جملةالمعجز، وقيل: نسبة إلى أم القرى وهي مكة، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ الأميّ بفتح الهمزة وخرج على أنهمن تغيير النسب والأصل الضّم كما قيل في النسب إلى أميّة أموي بالفتح أو على أنه نسب إلى المصدر منأم ومعناه المقصود أي لأنّ هذا النبي مقصد للناس وموضع أم، وقال أبو الفضل الرازي: وذلك مكة فهو منسوب إليهلكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ومعنى يجدونه أي يجدون وصفه ونعته، قال التبريزي: في التوراة أي سأقيم له نبيًّامن إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ويقول لهم كلما أوصيته وفيها وأما النبي فقد باركت عليه جدًّا جدًّا وسأدخرهلأمة عظيمة وفي الإنجيل يعطيكم الفارقليط آخر يعطيكم معلم الدهر كله، وقال المسيح: أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذيلا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ويحتمل أن يكون بأمرهم بالمعروف إلى آخره متعلقاً بيجدونه فيكون في موضعالحال على سبيل التجوّز فيكون حالاً مقدرة ويحتمل أن يكون من وصف النبي كأنه قيل: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكروكذا وكذا، وقال أبو عليّ يأمرهم: تفسير لما كتب من ذكره كقوله:

{ خلقه من تراب }

ولا يجوز أن يكون حالاًمن الضمير في يجدونه لأن الضمير للذكر والاسم والاسم والذكر لا يأمران، قال ابن عباس وعطاء: يأمرهم بالمعروف أي بخلعالأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، وقال مقاتل: الإيمان، وقيل: الحق، وقال الزجاج: كل ما عرف بالشّرع والمنكر، قال ابن عباس:عبادة الأوثان وقطع الأرحام، وقال مقاتل: الشّرك، وقيل: الباطل، وقيل: الفساد ومبادىء الأخلاق، وقيل: القول في صفات الله بغير علموالكفر بما أنزل وقطع الرحم والعقوق. {وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ } تقدّم ذكر الخلاف في {الطيّبات} في قوله

{ كلوا من طيبات }

أهي الحلال أو المستلذّ وكلاهما قيل هنا، وقال الزمخشريّ: ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها أو ماطاب في الشريعة واللحم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت انتهى، وقيل: ما كانتالعرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام واستبعد أبو عبد الله الرازي قول من قال: إنها المحلّلات لتقديره ويحلّ لهمالمحللات قال وهذا محض التكذيب، ولخروج الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحلّ لنا وكم هو قال: بل الواجبأن يراد المستطابة بحسب الطبع لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحلّ فدلت الآية على أن كل ما تستطيبهالنفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل. {وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـئِثَ } قيل: المحرمات، وقيل: ما تستخبثه العربكالعقرب والحية والحشرات، وقيل: الدم والميتة والحم الخنزير، وعن ابن عباس ما في سورة المائدة إلى قوله

{ ذلكم فسق }

.{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلاْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ }. قرأ طلحة ويذهب عنهم إصرهم وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة،وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل، وقرأ ابن عامر: آصارهم جمع إصر، وقرىء أصرهم بفتح الهمزةوبضمها فمن جمع فباعتبار متعلّقات الإصر إذ هي كثيرة ومن وحد فلأنه اسم جنس، والأغلال مثل لما كلفوا من الأمورالصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتماً من القاتل عمداً كان أو خطأ وترك الاشتغال يومالسبت وتحريم العروق في اللحم وعن عطاء: أنّ بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلىأعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة، وروي أن موسى عليهالسلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه وهذا المثل كما قالوا جعلت هذا طوقاً في عنقك وقالوا طوقهاطوق الحمامة، وقال الهذلي:

وليس كهذا الدار يا أمّ مالك     ولكن أحاطب بالرّقاب السلاسل فصار الفتى كالكهل ليس بقابل

وليس ثمّ سلاسل وإنما أراد أنّ الإسلام ألزمه أموراً لميكن ملتزماً لها قبل ذلك كما قال الإيمان قيد الفتك، وقال ابن زيداً الأغلال يريد في قوله

{ غلت أيديهم }

فمنآمن زالت عنه الدعوة وتغليلها. {فَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }.وعزّروه أثنوا عليه ومدحوه. قال الزمخشري: منعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ، وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف، وقرأجعفر بن محمد وعزّزوه بزايين والنور القرآن قاله قتادة، وقال ابن عطية: هو كناية عن جملة الشريعة. وقيل مع بمعنىعليه أي الذي أنزل عليه. وقيل هو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاًبه وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف أنزل ويجوز عندي أن كون معه ظرفاً في موضع الحال فالعامل فيهمحذوف تقديره أنزل كائناً معه وهي حال مقدّرة كقوله مررت برجل معه صقر صائداً به غدا فحالة الإنزال لم يكنمعه لكنه صار معه بعد كما إنّ الصيد لم يكن وقت المرور، وقال الزمخشر: ويجوز أن يعلّق باتبعوا أي واتبعواالقرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به أي واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبينله في اتباعه وفي قوله فالذين آمنوا به إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول كعبدالله بن سلام وغيره من أهل الكتابين. {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ * إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ }. لما ذكر تعالى لموسى عليه السلام صفة محمد صلىالله عليه وسلم وأخبر أن من أدركه وآمن به أفلح أمر تعالى نبيه بإشهار دعوته ورسالته إلى الناس كافة والدعاءإلى الإيمان بالله ورسوله وكلماته واتباعه ودعوة رسول الله عامّة للإنس والجنّ قاله الحسن، وتقتضيه الأحاديثوالذي في موضع نصب على المدح أو رفع وأجاز الزمخشري أن يكون مجروراً صفة لله قال وإنْ حيل بين الصفةوالموصوف بقوله إليكم، وقال أبو البقاء: ويبعد أن يكون صفةً لله أو بدلاً منه لما فيه من الفصل بينهما بإليكموبالحال وإليكم متعلّق برسول وجميعاً حال من ضمير إليكم وهذا الوصف يقتضي الإذعان والانقياد لمن أرسله إذ له الملك فهوالمتصرف بما يريد وفي حصر الإلهية له نفي الشركة لأن من كان له ملك هذا العالم لا يمكن أن يشركهأحد فهو المختص بالإلهية وذكر الإحياء والإماتة إذ هما وصفان لا يقدر عليهما إلا الله وهما إشارة إلى الإيجاد لكلّشيء يريده الإعدام والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى.وقال الزمخشري: لا إله إلا هو بدل من الصلة التي هي له ملك السموات والأرض وكذلك يحيـي ويميت وفي لاإله إلا هو بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة وفي يحيـي ويميت بيان لاختصاصهبالإلهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره انتهى، وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه، وقالالحوفي: يحيـي ويميت في موضع الخبر لأن لا إله في موضع رفع بالابتداء وإلا هو بدل على الموضع قال: والجملةأيضاً في موضع الحال من اسم الله تعالى انتهى، يعني من ضمير اسم الله وهذا إعراب متكلف. {قُلْ يٰأَيُّهَاٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ }. لما ذكر أنه رسول الله أمرهم بالإيمان بالله وبهعدل عن ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو الالتفات لما في ذلك من البلاغة بأنه هو النبي السابق ذكره في قولهالذين يتبعون الرسول النبي الأميّ وأنه هو المأمور باتباعه الموجود بالأوصاف السابقة والظاهر أن كلماته هي الكتب الإلهية التي أنزلتعلى من تقدمه وعليه ولما كان الإيمان بالله هو الأصل يتفرع عنه الإيمان بالرسول والنبي بدأ به ثم أتبعه بالإيمانبالرسول ثم أتبع ذلك بالإشارة إلى المعجز الدّال على نبوّته وهو كونه أمّيّاً وظهر عنه من المعجزات في ذاته ماظهر من القرآن الجامع لعلوم الأوّلين والآخرين مع نشأته في بلد عار من أهل العلم لم يقرأ كتاباً ولم يخطّولم يصحب عالماً ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلماً. وقيل: وكلماته المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاقالقمر ونبع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله لما كانت أموراً خارقة غريبة كما سمّي عيسى عليه السلاملما كان حدوثه أمراً غريباً خارقاً كلمة، وقرأ مجاهد وعيسى: وكلمة وحد وأراد به الجمع نحو أصدق كلمة قالتها العربقول لبيد وقد يقولون للقصيدة كلمة وكلمة فلان، وقال مجاهد والسدّي: المراد بكلماته وكلمته أي بعيسى لقوله:

{ وكلمته ألقاها إلى مريم }

، وقيل: كلمة كن التي تكون بها عيسى وسائر الموجودات، وقرأ الأعمش: الذي يؤمن بالله وآياته بدل كلماته ولما أمروابالإيمان بالله ورسوله وذلك هو الاعتقاد أمروا بالاتباع له فيما جاء به وهو لفظ يدخل تحته جميع التزامات الشريعة وعلقرجاء الهداية باتباعه. {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } لما أمر بالإيمان بالله ورسوله وأمر باتباعهذكر أنّ من قوم موسى من وفق للهداية وعدل ولم يجر ولم تكن له هداية إلا باتباع شريعة موسى قبلمبعث رسول الله وباتباع شريعة رسول الله بعد مبعثه فهذا إخبار عن من كان من قومموسى بهذه الأوصاف فكان المعنى أنهم كلهم لم يكونوا ضلالاً بل كان منهم مهتدون، قال السائب: هو قوم من أهلالكتاب آمنوا بنبينا كعبد الله بن سلام وأصحابه وقال قوم: هم أمة من بني إسرائيل تمسكوابشرع موسى قبل نسخه ولم يبدّلوا ولم يقتلوا الأنبياء، وقال الزمخشري هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل لما ذكر الذيننزلوا منهم ذكر أمة مؤمنين تائبين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ولايجورون أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي وآمن به من أعقابهم انتهى، وقال ابن عطية:يحتمل أن يريد به الجماعة التي آمنت بمحمد على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم ويحتمل أن يريدبه وصف المؤمنين التائبين من بني إسرائيل ومن اهتدى واتقى وعدل انتهى، وما روي عن ابن عباس والسدي وابن جريجأنهم قوم اغتربوا من بني إسرائيل ودخلوا سرباً مشوا فيه سنة ونصفاً تحت الأرض حتى خرجوا وراء الصين فهم هناكيقيمون الشرع في حكايات طويلة ذكرها الزمخشري وصاحب التحرير والتحبير يوقف عليها هناك لعله لا يصح وفي قوله: ومن قومموسى إشارة إلى التقليل وأنّ معظمعم لا يهدي بالحق ولا يعدل به وهم إلى الآن، كذلك دخل في الإسلام منالنصارى عالم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وأما اليهود فقليل من آمن منهم. {وَقَطَّعْنَـٰهُمُ ٱثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} أي وقطعنا قوم موسى ومعناه فرّقناهم وميّزناهم وفي ذلك رجوع أمر كل سبط إلى رئيسة ليخفّ أمرهم على موسىولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء ولهذا جعل لكلّ سبط نقيباًليرجع بأمرهم إليه وتقدّم تفسير الأسباط، وقرأ إبان بن تغلب عن عاصم بتخفيف الطاء وابن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمانعشرة بكسر الشين، وعنهم الفتح أيضاً وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالكسر وهي لغة تميم والجمهور بالإسكان وهي لغة الحجازواثنتي عشرة حال وأجاز أبو البقاء أن يكون قطعنا بمعنى صيرنا وأن ينتصب اثنتي عشرة على أنه مفعول ثان لقطعناهمولم يعد النحويون قطعنا في باب ظننت وجزم به الحوفي فقال اثنتي عشرة مفعول لقطعناهم أي جعلنا اثنتي عشرة وتمييزاثنتي عشرة محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة وأسباطاً بدل من اثنتي عشرة وأمماً. قال أبو البقاء نعت لأسباطاًأو بدل بعد بدل ولا يجوز أن يكون أسباطاً تمييزاً لأنه جمع وتمييز هذا النوع لا يكون إلا مفرداً وذهبالزمخشري إلى أن أسباطاً تمييز قال: (فإن قلت): مميز ما بعد العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعاً وهلا قيل: اثنتيعشر سبطاً، (قلت): لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكلّ قبيلة أسباط لا سبطفوضع أسباطاً موضع قبيلة ونظيره، بين رماحي مالك ونهشل، وأمماً بدل من اثنتي عشرة بمعنى وقطعناهم أمماً لأنّ كل أسباطكانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى لا تكاد تأتلف انتهى، وما ذهب إليهمن أن كل قبيلة أسباط خلاف ما ذكر الناس ذكروا أنّ الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وقالوا: الأسباطجمع سبط وهم الفرق والأسباط من ولد إسحاق بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ويكون على زعمه قوله تعالى:

{ وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلاسْبَاطِ }

معناه القبيلة وقوله ونظيره:

بين رماحي مالك ونهشل    

ليس نظيره لأنّ هذامن تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في الضرورة وكأنه يشير إلى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريدبه نوع من الرماح لم يصحّ تثنيته كذلك هنا لحظ هنا الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فميز به كمايميز بالمفرد، وقال الحوفي: يجوز أن يكون على الحذف والتقدير اثنتي عشرة فرقة ويكون أسباطاً نعتاً لفرقة ثم حذف الموصوفوأقيمت الصفة مقامه وأمماً نعت لأسباط وأنث العدد وهو واقع على الأسباط وهو مذكر لأنه بمعنى الفرقة أو الأمة كماقال: ثلاثة أنفس يعني رجالاً وعشر أبطن بالنظر إلى القبيلة انتهى ونظير وصف التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى. قول الشاعر:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة     سوداً كحافته الغراب الأسحم

ولم يقل سوداء. وقيل: جعل كلواحدة من اثنتي عشرة أسباطاً كما تقول لزيد دراهم ولفلان دراهم ولعمر دراهم فهذه عشرون دراهم، وقيل: التقدير وقطعناهم فرقاًاثنتي عشرة فلا يحتاج إلى تمييز، وقال البغوي: في الكلام تأخير وتقديم تقديره وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة وهذه كلهاتقادير متكلّفة والأجرى على قواعد العرب القول الذي بدأنا به. {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى إِذِ ٱسْتَسْقَـٰهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَىْ عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَـٰمَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِنطَيّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا }. تقدم تفسير نظير هذه الجمل في البقرة وانبجست: إن كان معناه ما قال أبو عمروبن العلاء فقيل: كان يظهر على كلّ موضع من الحجر فضربه موسى مثل ثدي المرأة فيعرق أولاً ثم يسيل وإنكان مرادفاً لانفجرت فلا فرق، وقال الزمخشري: هنا الأناس اسم جمع غير تكسير نحو رخاء وثناء وثؤام وأخوات لها ويجوزأن يقال: إنّ الأصل الكسر والتكسير والضمة بدل من الكسر كما أبدلت في نحو سكارى وغيارى من لفتحة انتهى ولايجوز ما قال لوجهين، أحدهما: أنه لم ينطلق بإناس بكسر الهمزة فيكون جمع تكسير حتى تكون الضمة بدلاً من الكسرةبخلاف سكارى وغيار فإنّ القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة وهو مسموع فيهما، (والثاني): أنّ سكارى وغيارى وعجالى وما وردمن نحوها ليست الضمة فيه بدلاً من الفتحة بل نصّ سيبويه في كتابه على أنه جمع تكسير أصل كما أنفعالى جمع تكسير أصل وإن كان لا ينقاس الضمّ كما ينقاس الفتح، قال سيبويه في حدّ تكسير الصفات: وقد يكسرونبعض هذا على فعالى، وذلك قول بعضهم سكارى وعجالى، وقال سيبويه في الأبنية أيضاً: ويكون فعالى في الاسم نحو حبارىوسماني ولبادي ولا يكون وصفاً إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وكسالى وسمانى فهذان نصّان من سيبويه علىأنه جمع تكسير وإذا كان جمع تكسير أصلاً لم يسغ أن يدّعي أن أصله فعالى وأنه أُبدلت الحركة فيه وذهبالمُبرّد إلى أنه اسم جامع أعني فعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير فالزمخشري لم يذهب إلى ما ذهب إليه سيبويهولا إلى ما ذهب إليه المبرد لأنه عند المبرّد اسم جمع فالضمة في فائه أصل ليست بدلاً من الفتحة بلأحدث قولاً ثالثاً. وقرأ عيسى الهمداني من طيبات ما رزقتكم موحّداً للضمير. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ * ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَوَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَـٰتِكُمْ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاًغَيْرَ ٱلَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ ٱلسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } تقدّمت هذه القصة وتفسيرها في البقرة وكأنهذه مختصرة من تلك إلا أنّ هناك وإذ قلنا ادخلوا وإذ قيل لهم اسكنوا وهناك رغداً وسقط هنا وهناك وسنزيدوهنا سنزيد وهناك فأنزلنا على الذين ظلموا وهنا فأرسلنا عليهم وبينهما تغاير في بعض الألفاظ لا تناقض فيه فقوله: وإذقيل لهم وهناك وإذ قلنا فهنا حذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، وهناك ادخلوا وهنا اسكنوا السّكنى ضرورة تتعقبالدخول فأمروا هناك بمبدأ الشيء وهنا بما تسبّب عن الدخول وهناك

{ فكلوا }

بالفاء وهنا بالواو فجاءت الواو على أحد محتملاتهامن كون ما بعدها وقع بعدما قبلها، وقيل الدخول حالة مقتضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده والسكنى حالة مستمرة فحسنالأمر بالأكل معه لا عقيبة فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها ويزعم بعض النحويين أنه أولىبحاملها وأكثر. وقيل ثبت رغداً بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنىفإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذّ ولا هم أحوج. وأما التقديم والتأخير في وقولوا وادخلوا، فقال الزمخشريّ: سواءقدّموا الحطة على دخول الباب وأخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما انتهى، وقوله سواء قدّموا وأخّروها تركيب غير عربي وإصلاحهسواء أقدموا أم أخروها كما قال تعالى:

{ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا }

ويمكن أن يقال: ناسب تقديم الأمر بدخولالباب سجّداً مع تركيب ادخلوا هذه القرية لأنه فعل دالّ على الخضوع والذلة وحطة قول والفعل أقوى في إظهار الخضوعمن القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشيء وهو الدخول ولأنّ قبله ادخلوا فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابهاعلى هيئة الخضوع ولأنّ دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معهالعامل بخلاف الأمر بالسّكنى وأما سنزيد هنا فقال الزمخشري موعد بشيئين بالغفران والزيادة وطرح الواو لا يخلّ بذلك لأنه استئنافمرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له: سنزيد المحسنين وزيادة منهم بيان وأرسلنا وأنزلنا ويظلمون ويفسقون منواد واحد، وقرأ الحسن: حطة بالنصب على المصدر أي حطّة ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب بقولوا: على حذف التقدير وقولواقولاً حطّة أي ذا حطة فحذف ذا وصار حطّة وصفاً للمصدر المحذوف كما تقول: قلت حسناً وقلت حقّاً أي قولاًحسنا وقولاً حقًّا، وقرأ الكوفيون وابن كثير والحسن والأعمش نغفر بالنون لكم خطيئاتكم جمع سلامة إلا أن الحسن خفّف الهمزةوأدغم الياء فيها، وقرأ أبو عمرو نغفر بالنون لكم خطاياكم على وزن قضاياكم، وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو تغفربالتاء مبنيًّا للمفعول لكم خطيئاتكم جمع سلامة، وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة مبنيًّا للمفعول لكم خطيئتكم على التوحيد مهموزاً.وقرأ ابن هرمز تغفر بتاء مفتوحة على معنى أنّ الحطّة تغفر إذ هي سبب الغفران، قال ابن عطية: وبدل غيراللفظ دون أن يذهب بجميعه وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر انتهى، وهذه التفرقة ليست بشيء وقد جاء فيالقراءات بدل وأبدل بمعنى واحد قرىء:

{ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَـوٰةً }

و

{ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوٰجاً }

{ عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا }

بالتخفيف والتشديد والمعنى واحد وهو إذهاب الشيء والإتيان بغيره بدلاً منهثم التشديد قد جاء حيث يذهب الشيء كله قال تعالى:

{ فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ }

و

{ بَدَّلْنَـٰهُمْ * بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ }

ثم

{ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ }

وعلى هذا كلام العرب نثرها ونظمها. {وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ }. الضمير في واسألهم عائد علىمن يحضره الرسول من اليهود وذكر أن بعض اليهود المعارضين للرسول قالواله لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبّخة لهم ومقررة كذبهم ومعلمةما جرى على أسلافهم من الإهلاك والمسخ وكانت اليهود تكتم هذه القصة فهي مما لا يعلم إلا بكتاب أو وحيفإذا أعلمهم بها من لم يقرأ كتابهم علم أنه من جهة الوحي، وقوله عن القرية فيه حذف أي عن أهللقرية والقرية إيلة قاله ابن مسعود وأبو صالح عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة والسدّي وعكرمة وعبد الله بنكثير والثوري، أو مدين ورواه عكرمة عن ابن عباس أو ساحل مدين، وروي عن قتادة وقال هي مقّنى بالقاف ساكنة،وقال ابن زيد: هي مقناة ساحل مدين، ويقال: لها معنى بالعين مفتوحة ونون مشدّدة أو طبرية قاله الزهري أو أريحاأو بيت المقدس وهو بعيد لقوله {حاضرة البحر} أو قرية بالشام لم تسمَّ بعينها وروي عن الحسن: ومعنى انتهى حاضرةالبحر بقرب البحر مبنية بشاطئه ويحتمل أن يريد معنى الحاضرة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحرفالتقدير {حاضرة} قرى {البحر} أي يحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم {إذ يعدون في السبت} أي يجاوزون أمرالله في العمل يوم السبت وقد تقدم منه تعالى النهي عن العمل فيه والاشتغال بصيد أو غيره إلا أنه فيهذه النازلة كان عصيانهم، وقرىء {يعدّون} من الإعداد وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيهبغير العبادة وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك {يعَدّون} بفتح العين وتشديد الدال وأصله يعتدون فأدغمت التاء في الدال كقراءةمن قرأ

{ لا تعدوا في السبت }

{إذ} ظرف والعالم فيه. قال الحوفي: إذ متعلقة بسلهم انتهى، ولا يتصور لأن إذظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يصحّ المعنى لأن العادين وهم أهل القرية مفقودون فلا يمكنسؤالهم والمسؤول عن أهل القرية العادين، وقال الزمخشري: إذ يعدون بدل من القرية والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل وسلهم عنأهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال انتهى، وهذا لا يجوز لأن إذ من الظروف التي لاتتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلاً يجوز دخول عن عليها لأن البدل هو على نيّة تكرار العامل ولوأدخلت عن عليها لم يجز وإنما تصرف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية نحو يوم إذ كان كذا وأماقول من ذهب إلى أنها يتصرّف فيها بأن تكون مفعولة باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغيلها من إبقائها ظرفاً، وقال أبو البقاء عن القرية: أي عن خبر القرية وهذا المحذوف هو الناصب للظرف الذي هوإذ يعدون، وقيل هو ظرف للحاضرة وجوّز ذلك أنها كانت موجودة في ذلك الوقت ثم خربت انتهى، والظاهر أن قولهفي السبت ويوم سبتهم المراد به اليوم ومعنى اعتدوا فيه أي بعصيانهم وخلافهم كما قدمنا، وقال الزمخشري: السبت مصدر سبتتاليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله تعالى يوم سبتهم يومتعظيمهم ويدل عليه قوله {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ * وَإِذْ * تَأْتِيَهُمُ } العامل في إذ يعدون أي إذ عدوا فيالسبت إذ أتتهم لأنّ إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل انتهى،يعني بدلاً من القرية بعد بدل إذ يعدون وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز وأضاف السبت إليهم لأنهم مخصوصون بأحكامفيه، وقرأ عمر بن عبد العزيز: حيتانهم يوم أسباتهم، قال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح وقد ذكر هذه القراءةعن عمر بن عبد العزيز: وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلافلا يسبتون بضمّ كسرة الباء في قراءة الجمهور، وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف يسبتون بضم ياء المضارعة من أسبت دخلفي السبت، قال الزمخشري: وعن الحسن لا يسبتون بضم الياء على البناء للمفعول أي لا يدار عليهم السبت ولا يؤمرونبأن يسبتوا والعامل في يوم قوله لا تأتيهم وفيه دليل على أنّ ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيهثلاثة مذاهب الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والتفصيل بين أن يكون لا جواب قسم فيمتنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيحكذلك أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت نبلوهم أي بلوناهم وامتحناهم، وقيل كذلك متعلق بما قبله أي ويوم لا يسبتونلا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم إتياناً مثل ذلك الإتيان وهو أن تأتي شرّعاً ظاهرة كثيرة بل يأتي ما أتىمنها وهو قليل فعلى القول الأول في كذلك ينتفي إتيان الحوت مطلقاً، كما روي في القصص أنه كان يغيب بجملتهوعلى القول الثاني كان يغيب أكثره ولا يبقى منه إلاّ القليل الذي يتعب بصيده قاله قتادة: وهذا الإتيان من الحوتقد يكون بإرسال من الله كإرسال السُّحاب أو بوحي إلهام كما أوحى إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم علىنحو ما يشعرالله الدّواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما جاء وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلعالشمس فرقاً من الساعة ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة ومعنى شرّعاً مقبلة إليهم مصطفّة، كما تقول أشرعتالرّمح نحوه أي أقبلت به إليه، وقال الزمخشري: شرّعاً ظاهرة على وجه الماء، وعن الحسن: تشرّع على أبوابهم كأنها الكباشالسّمن يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منه وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا، وقال رواةالقصص: يقرب حتى يمكن أخذه باليد فساءهم ذلك وتطرّقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدودفإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوهفكان هذا أول التطريق، وقال ابن رومان: كانوا يأخذ الرجل منهم خيطاً ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت وفيالطرف الآخر من الخيط وتدٌ مضروب وتركه كذلك إلى أن يأخذه في الأحد ثم تطرق الناس حين رأوا من يصنعهذا لا يبتلي حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الأسواق وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت. عمروزيد بن علي، وقرأ جرية بن عائد ونصر بن عاصم في رواية بأس على وزن ضرب فعلاً ماضياً وعن الأعمشومالك بن دينار بأس أصله بأس فسكن الهمزة جعله فعلاً لا يتصرف، وقرأت فرقة بيس بفتح الباء والياء والسّين وحكىالزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة بئس بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً ولم يبيّن هل الهمزة مكسورة أو ساكنة، وقرأتفرقة باس بفتح الباء وسكون الألف. وقرأ خارجة عن نافع وطلحة بيس على وزن كيل لفظاً وكان أصله فيعل مهموزاًإلا أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياء وادغم ثم حذف كميت، وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه بأس علىوزن جبل وأبو عبد الرحمن بن مصرف بئس على وزن كبد وحذر، وقال أبو عبد الله بن قيس الرقيات:

ليتني ألقى رقية في     خلوة من غير ما بئس

وقرأ ابن عباس وأبو بكر عن عاصم والأعمش بيأس علىوزن ضيغم وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي:

كلاهما كان رئيساً بيأسا     يضرب في يوم الهياج القونسا

وقرأعيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه بيئس على وزن صيقل اسم امرأة بكسر الهمزة وبكسر القاف وهما شاذّان لأنه بناءمختصّ بالمعتل كسيد وميت، وقرأ نصر بن عاصم في رواية بيس على وزن ميت وخرج على أنه من البؤس ولاأصل له في الهمز وخرج أيضاً على أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياءً ثم أدغمت وعنه أيضاً بئس بقلب الياء همزةوإدغامها في الهمزة ورويت هذه عن الأعمش، وقرأت فرقة بأس بفتح الثلاثة والهمزة مشدّدة، وقرأ باقي السبعة ونافع وفي روايةأبي قرة وعاصم في رواية حفص وأبو عبد الرحمن ومجاهد والأعرج والأعمش في رواية وأهل الحجاز {بَئِيسٍ } على وزنرئيس وخرج على أنه وصف على وزن فعيل للمبالغة من بائس على وزن فاعل وهي قراءة أبي رجاء عن عليأو على أنه مصدر وصف به كالنكير والقدير، وقال أبو الإصبع العدواني:

حنقا عليّ ولا أرى     لي منهما شراً بئيسا

وقرأ أهل مكّة كذلك إلا أنهم كسروا الباء وهي لغة تميم في فعيل حلقي العين يكسرون أوله وسواءكان اسماً أم صفة، وقرأ الحسن والأعمش فيما زعم عصمة بئيس على وزن طريم وحزيم فهذه اثنتان وعشرون قراءة وضبطهابالتلخيص أنها قرئت ثلاثية اللفظ ورباعيته فالثلاثي اسما بئس وبيس وبيس وبأس وبأس وبيس وفعلا بيس وبئس وبئس وبأس وبأسوبئس والرباعية اسما بيأس وبيئس وبيئس وبيس وبييس وبييس وبئيس وبائس وفعلا باءس. {فَلَمَّا عَتَوْاْ * عَمَّا *نُهُواْ عَنْهُقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ }. أي استعصوا والعتوّ الاستعصاء والتأبيّ في الشيء وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة، والظاهرأن العذاب والمسخ والهلاك إنما وقع بالمعتدين في السبت والأمة القائلة {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا } هم من فريق النّاهين الناجينوإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئاً البتة أذ الله مهلكهم أو معذّبهم فيصير الوعظ إذذاك كالبعث كوعظ المساكين فإنهم يسخرون بمن يعظهم وكثيرما يؤدي إلى تنكيل الواعظ وعلى قول من زعم أن الأمة القائلة{لِمَ تَعِظُونَ } هم العصاة قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء أي تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم تكون هذه الأمةمن الهالكين الممسوخين والظاهر من قوله {فَلَمَّا عَتَوْاْ } أنهم أولاً أخذوا بالعذاب حين نسوا ما ذكروا به ثم لماعتوا مسخوا، وقيل: {فَلَمَّا عَتَوْاْ } تكرير لقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ } والعذاب البئيس هو المسخ. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّعَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ }. لما ذكر تعالى قبح فعالهم واستعصاءهم أخبر تعالى أنه حكم عليهمبالذّل والصغار إلى يوم القيامة {تَأَذَّنَ } أعلم من الأذان وهو الإعلام قاله الحسن وابن قتيبة واختاره الزجاج وأبو علي،وقال عطاء: {تَأَذَّنَ } حتم، وقال قطرب: وعد، وقال أبو عبيدة: أخبر وهو راجع لمعنى أعلم، وقال مجاهد: أمر وعنهقال: وقيل أقسم وروي عن الزجاج، قال الزمخشري {تَأَذَّنَ } عزم {رَبَّكَ } وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام لأنالعازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاببه القسم وهو قوله {لَيَبْعَثَنَّ } والمعنى وإذا حتم ربك وكتب على نفسه، وقال ابن عطية: بنية {تَأَذَّنَ } هيالتي تقتضي التكسّب من أذن أي علم ومكن فإذا كان مسنداً إلى غير الله لحقّه معنى التكسب الذي يلحق المحدثينوإلى الله كان بمعنى علم صفة لا مكتسبة بل قائمة بالذات فالمعنى وإذا علم الله {لَيَبْعَثَنَّ } ويقتضي قوة الكلامأن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم على الله لأبعثن كذانحا إليه أبو علي الفارسي، وقال الطبري وغيره تأذّن معناه أعلم وهو قلق من جهة التصريف إذ نسبه {تَأَذَّنَ }إلى الفاعل غير نسبة أعلم وبين ذلك فرق من التعدي وغيره انتهى وفيه بعض اختصار.

{ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } * { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } * { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } * { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ ٱلْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }

عدل

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًاقَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }. أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين جرّبوا الوعظ فيهم فلم يروهيجدي والظاهر أن القائل غير المقول لهم لم تعظون قوماً فيكون ثلاث فرق اعتدوا وفرقة وعظت ونهت وفرقة اعتزلت ولمتنه ولم تعتد وهذه الطائفة غير القائلة للواعظة لم تعظون، وروي أنهم كانوا فرقتين فرقة عصت وفرقة نهت ووعظت وأنجماعة من العاصية قالت للواعظة على سبيل الاستهزاء لم تعظون قوماً قد علمتم أنتم أنّ الله مهلكهم أو معذبهم. قالابن عطية: والقول الأوّل أصوب ويؤيده الضمائر في قوله معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فهذه المخاطبة تقتضي مخاطباً انتهى ويعنيأنه لو كانت العاصية هي القائلة لقالت الواعظة معذرة إلى ربهم ولعلهم أو بالخطاب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون ومعنىمهلكهم مخترمهم ومطهّر الأرض منهم أو معذبهم عذاباً شديداً لتماديهم في العصيان ويحتمل أن يكون العذاب في الدنيا ويحتمل أنيكون في الآخرة وإن كانوا ثلاث فرق فالقائلة: إنما قالت ذلك حيث علموا أن الوعظ لا ينفع فيهم لكثرة تكررهعليهم وعدم قبولهم له ويحتمل أن يكونا فرقتين عاصية وطائعة وإنّ الطائعة قال بعضهم لبعض لما رأوا أنّ العاصية لايجدي فيها الوعظ ولا يؤثر شيئاً: لم تعظون؟ وقرأ الجمهور معذرة بالرفع أي موعظتنا إقامة عذر إلى الله ولئلا ننسبفي النهي عن المنكر إلى بعض التفريط ولطمعنا في أن يتقوا المعاصي، وقرأ زيد بن علي وعاصم في بعض ماروى عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف معذرة بالنصب أي وعظناهم معذرة، قال سيبويه: لو قال رجل لرجل معذرةإلى الله وإليك من كذا لنصب انتهى، ويختار هنا سيبويه الرفع قال لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهمقيل: لهم لم تعظون؟ قالوا: موعظتنا معذرة، وقال أبو البقاء: من نصب فعلى المفعول له أي وعظنا للمعذرة، وقيل: هومصدر أي نعتذر معذرة وقالهما الزمخشري. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْبِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } الضمير في نسوا للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسياناً مبالغةإذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد به الذكر نفسهويحتمل أن يراد به ما كان في الذكر انتهى، ولا يظهر لي هذان الاحتمالان والسوء عام في المعاصي وبحسب القصصيختص هنا بصيد الحوت والذين ظلموا هم العاصون نبّه على العلة في أخذهم وهي الظلم. قال مجاهد: بئيس شديد موجع،وقال الأخفش: مهلك، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهما بيس على وزن جيد، وابن عامر كذلك إلا أنههمز كبئر ووجهتا على أنه فعل سمّي به كما جاء أنهاكم عن قيل وقال ويحتمل أن يكون وضع وصفاً علىوزن فعل كحلف فلا يكون أصله فعلاً، وخرّجه الكسائي على وجه آخر وهو أنّ الأصل بيئس فخفف الهمزة فالتفت ياءآنفحذفت إحداهما وكسر أوله كما يقال رغيف وشهيد، وخرّجه غيره على أن يكون على وزن فعل فكسر أوله اتباعاً ثمحذفت الكسرة كما قالوا فخذ ثم خففوا الهمزة وقرأ الحسن بئيس بهمز وبغير همز عن نافع وأبي بكر مثله إلاأنه بغير همز عن نافع كما تقول بيس الرجل، وضعفها أبو حاتم وقال: لا وجه لها قال لأنه لا يقالمررت برجل بيس حتى يقال بيس الرجل أو بيس رجلاً، قال النحاس: هذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويونإن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة والتقدير بيس العذاب، وقرىء بئس على وزن شهد حكاها يعقوب القارىءوعزاها أبو الفضل الرازي إلى عيسى. وقال أبو سليمان الدمشقي أعلم أنبياء بني إسرائيل {لَيَبْعَثَنَّ } ليرسلن وليسلطن لقوله

{ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا }

والضمير في {عَلَيْهِمْ } عائد على اليهود قاله الجمهور أو {عَلَيْهِمْ } وعلى النصارى قالهمجاهد، وقيل: نسل الممسوخين والذين بقوا منهم وقيل: يهود خيبر وقريظة والنضير وعلى هذا ترتب الخلاف في من {يَسُومُهُمْ }،فقيل: بختصر ومن أذلهم بعده إلى يوم القيامة، وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية إليهم إلى أن بعث الله محمداً فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر، وقيل: العرب كانوا يجبون الخراج من اليهودقاله ابن جبير، وقال السّدّي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم، وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد صلىالله عليه وسلم وأمته ولم يجب الخراج بني قط إلا موسى جباه ثلاث سنة ثم أمسك للنبي صلى الله عليهوسلم، و {سُوء ٱلْعَذَابِ } الجزية أو الجزية والمسكنة وكلاهما عن ابن عباس أو القتال حتى يسلموا أو يؤدوا الجزيةعن يد وهم صاغرون، وقيل: الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال إن الضمير في {عَلَيْهِمْ } عائدعلى أهل خيبر وقريظة والنضير وهذه الآية تدلّ على أن لا دولة لليهود ولا عزّ وأن الذلّ والصغار فيهم لايفارقهم ولما كان خبراً في زمان الرسول عليه السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبراً عن مغيب صدقاً فكان معجزاً وأماما جاء في أتباع الدّجال أنهم هم اليهود فتسمية بما كانوا عليه ذ هم في ذلك الوقت دانوا بإلهية الدجالفلا تعارض بين هذا الخبر إن صح والآية، وفي كتاب ابن عطية: ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت فيصقعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ }. إخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم. {وَإِنَّهُلَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }. ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح {وَقَطَّعْنَـٰهُمْ فِي ٱلاْرْضِ أُمَمًا مّنْهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنْهُمْدُونَ ذٰلِكَ }. أي فرقاً متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة وهذا حالهم في كلمكان تحت الصغار والذلّة سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفاراً وأمماً حال، وقال الحوفي مفعول ثان وتقدم قولههذا في قطعناهم اثنتي عشرة والصالحون من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة ومنهم منحطون عنالصالحين وهم الكفرة وذلك إشارة إلى الصلاح أي ومنهم دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقديرمن حذف مضاف أو يكون ذلك المعنى به أولئك فكأنه قال ومنهم قوم دون أولئك، وقد ذكر النحويون أنّ اسمالإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون ذلك بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم والصالحون ودون ذلك ألفاظ محتملةفإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يُراد به الكفار وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان دون ذلك فيمؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك، والظاهر الاحتمال الأول لقوله لعلهم يرجعون إذ ظاهر قوله وبلوناهم إنهم القوم الذينهم دون أولئك وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ودون ذلك ظرف أصله للمكان ثم يستعمل للانحطاط فيالمرتبة، وقال ابن عطية: فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد به الكفرة انتهى، فإن أراد أنّ دونترادف غيراً فهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيراً فصحيح ودون ظرف فيموضع رفع نعت لمنعوت محذوف ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامة نحو هذا ومنه قولهم منا ظعنومنا أقام. {وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ }. أي بالصحة والرخاء والسعة والسيئات مقابلاتها. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى الطاعة ويتوبون عنالمعصية {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلاْدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }. أي حدث من بعد المذكورينخلف، قال الزجاج: يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف، وقال الفراء: الخلف القرن والخلف من استخلفه، وقال ثعلب: الناسكلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح. ومنه قول الشاعر:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم     وبقيت في خلف كجلد الأجرب

والمثل: سكت ألفاً ونطق خلفاً أي سكت طويلاً ثم تكلّم بكلام فاسد، وعنالفرّاء: الخلف يذهب به إلى الذمّ والخلف خلف صالح. وقال الشاعر:

خلفت خلفاً ولم تدع خلفا     كنت بهم كان لا بك التلفا

وقد يكون في الرّدى خلف وعليه قوله:

ألا ذلــك الخلــف الأعــور    

وفيالصالح خلف وعلى هذا بيت حسان:

لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا     لأوّلنا في طاعة الله تابع

{وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب والذي عليه هوى المجبر هو مذهباليهود بعينه كما ترى. وقال مالك بن دينار رحمه الله: يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا بهقالوا: سيغفر لنا لن نشرك بالله شيئاً كل أمرهم على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه ا لأمة أشباهالذين ذكرهم الله تعالى وتلا الآية انتهى، وهو على طريقة المعتزلة وقوله: {إِلاَّ ٱلْحَقَّ } دليل على أنهم كانوا يقولونالباطل على تناولهم عرض الدنيا {وَدَرَسُواْ } معطوف على قوله {أَلَمْ يُؤْخَذْ } وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهمكرّروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله وهذا العطفعلى التقرير لأنّ معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه كقوله

{ أَلَمْ نُرَبّكَ بِكَ فِينَا وَلِيداً }

وليثبتمعناه قد ربّيناك ولبثت، وقال الطبري وغيره: هو معطوف على قوله {وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } وفيه بعد، وقيل هو على إضمارقد أي قد {ٱلاْيَـٰتِ مَا فِيهِ } وكونه معطوفاً على التقرير هو الظاهر لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم فيأخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرّروه وما نسوه وفهموا معناه وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل، وقرأ الجحدري{أَن لا * تَقُولُواْ } بتاء الخطاب،وقرأ علي والسلمي: وادّارسوا وأصله وتدارسوا كقوله

{ فَٱدرَأْتُمْ }

أي تدارأتم وقد مر تقريرهفي العربية، وهذه القراءة توضح أن معنى {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأنّ تأويل من تأوّل{وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } أن معناه ومحوه بترك العمل والفهم له من قولهم درست بالريح الآثار إذا محتها فيه بعدولو كان كما قيل لقيل ربع مدروس وخط مدروس، وإنما قالوا: ربع دارس وخط دارس بمعنى داثر. {وَٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُخَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ * يَعْقِلُونَ }. أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنياوالآخرة ومعنى {يَتَّقُونَ } محارم الله تعالى وقرأ أبو عمرو وأهل مكة {يَعْقِلُونَ } بالياء جرياً على الغيبة في الضمائرالسابقة، وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } حالهؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارتهم على ذلك. {وَٱلَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لاَنُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }. الظاهر أنّ الكتاب هو السابق ذكره في {وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } فيجيء الخلاف فيه كالخلاف في ذلكوهو مبني على المراد في قوله {خَلْفٌ وَرِثُواْ }، وقيل: الكتاب هنا للجنس أي الكتب الإلۤهية والتمسّك بالكتاب يستلزم إقامةالصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيماً لشأنها لأنها عماد الدين بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة، وقرأ عمر وأبو العالية وأبوبكر عن عاصم {يُمَسّكُونَ } من أمسك والجمهور {يُمَسّكُونَ } مشدّداً من مسك وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهيرفقال:

فما تمسّك بالعهد الذي زعمت     إلا كما يمسك الماء الغرابيل

وأمسك متعدّ قال: { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى ٱلاْرْضِ } فالمفعول هنا محذوف أي يمسكون أعمالهم أي يضبطونها والباء على هذا تحتمل الحالية والآلة ومسك مشدد بمعنىتمسّك والباء معها للآلة وفعل تأتّي بمعنى تفعل نصّ عليه التصريفيون، وقرأ عبد الله والأعمش: استمسكوا وفي حرف أبي تمسكوابالكتاب والظاهر أن قوله {وَٱلَّذِينَ } استئناف إخبار لما ذكر حال من لم يتمسك بالكتاب ذكر حال من استمسك بهفيكون والذين على هذا مرفوعاً بالابتداء وخبره الجملة بعده كقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } إذا جعلنا الرابط هو في من أحسن عملاً وهو العموم كذلك هذا يكون الرابط هو العموم في{ٱلْمُصْلِحِينَ }، وقال الحوفي وأبو البقاء: الرابط محذوف تقديره أجر المصلحين اعتراض والتقدير مأجورون أو نأجرهم انتهى، ولا ضرورة إلىادعاء الحذف وأجاز أبو البقاء أن يكون الرّابط هو {ٱلْمُصْلِحِينَ } وضعه موضع المضمر أي لا نضيع أجرهم انتهى، وهذاعلى مذهب الأخفش حيث أجاز الرابط بالظاهر إذا كان هو المبتدأ فأجاز زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو وكنية زيد كأنه قال: زيد أي هو وأجاز الزمخشري أن يكون {وَٱلَّذِينَ } في موضع جرّ عطفاً على {ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ولم يذكر ابن عطية غيره والاستئناف هو الظاهر كما قلنا.

{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } * { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } * { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } * { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } * { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } * { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } * { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } * { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

عدل

النّتق الجذب بشدة وفسّره بعضهم بغايته وهو القلع وتقول العرب نتقت الزبدةمن فم القربة والناتق الرّحم التي تقلع الولد من الرجل. وقال النابغة:

لم يحرموا حسن الفداء وأمّهم     طفحت عليك بناتق مذكار

وفي الحديث عليكم بزواج الأبكار فإنهن انتق أرحاماً وأطيب أفواهاً وأرضى باليسير . الانسلاخ: التعري من الشيء حتىلا يعلق به منه شيء ومنه شيء ومنه انسلخت الحية من جلدها. الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلبوفي الكثرة على كلام وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات، وتقدّمت هذه المادة في

{ مُكَلّبِينَ }

وكرّرناهالزيادة فائدة، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضياً ومضارعاً والمصدر لهثاً ولهثاً بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعبوالراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعطش، لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحدهو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت، وقال غيره: العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر فيالاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر:

ليس الأمير بالشحيح الملحد    

ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم مافعل الواحد قالوا: لحده اللاحد، وقيل ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي، متن متانة اشتدّ وقوي،أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف وأكثر استعماله في الاستفهام ويليه الاسم مرفوعاً بالابتداء والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متىفإنهما يليانه قال تعالى:

{ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }

و

{ أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا }

قال الشاعر:

أيان تقضي حاجتي أيانا     أما ترى لفعلها إبانا

وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين وذلك قيل فيها ولم يحفظ سيبويه لكن حفظه غيره وأنشدوا قولهالشاعر:

إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة     فأيّان ما تعدل بها الريح تنزل

وقال غيره:

أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا     لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا

وقال ابن السّكيت: يقال هذا خلف صدق وهذاخلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحدة وجمعه سواء، وقال الشاعر:

إنا وحدنا خلفاً بئس الخلف     عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف

وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت، وقال النضربن شميل: التحريك والإسكان معاً في القرآن الردى وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفرّاءوأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّي ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثنىوجمع وأنّث ما قبله وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسمالجمع لا يجري على المفرد، قال ابن عباس وابن زيد: هنا هم اليهود، قال الزمخشري: وهم الذين كانوا في زمانرسول الله : ورثوا الكتاب التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها منالأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها، وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصار وعنه أنهم هؤلاء الأمة،وقرأ الحسن: ورثوا بضم الواو وتشديد الراء وعلى الأقوال يتخرّج الكتاب أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن وعرض هذا الأدنى هوما يأخذونه من الرِّشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ولا يثبت وفي قوله: عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقيرله وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدّمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قالتعالى:

{ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً }

والأدنى من الدنو وهو القرب لأن ذلك قريبمنقضٍ زائل، قال الزمخشري: وإما من دنو الحال وسقوطها وقلّتها، ويقولون سيغفر لنا قطع على الله بغفران معاصيهم أي لايؤاخدنا الله بذلك والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرةوهم مصرون على ارتكابها، ولنا في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله، وقيل ضمير مصدر يأخذون أي سيغفر هو أيالأخذ لنا. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ }. الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بأنهماكهم في المعاصي وإن أمكنهمالرّشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية، ودائماً فهم مصرُّون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء والفاجر منأتبع نفسه هواها وتمنى على الله والعرض بفتح الراء متاع الدنيا قاله أبو عبيدة، يقال: إن الدنيا عرض حاضر يأخذمنها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رؤوس الأموال وقيم المتلفات، قال السدّي: كانوا يعيرون القاضي فإذاولّى المعير ارتشى، وقيل كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشكوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى. وقالالشاعر:

إذا ما صبّ في القنديل زيت     تحوّلت القضية للمقندل

وقال آخر:

لم يفتح الناس أبواباً ولا عرفوا     أجدى وأنجح في الحاجات من طبق إذا تعمم بالمنديل في طبق

ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر. قال رسول الله : لتسلكنّ سنن من قبلكم ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق، وقال الزمخشري: الواو للحال يعني فيوإن يأتهم أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفران الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصرّلا غفران له انتهى، وجمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأنجملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز. {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ ٱلْكِتَـٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }. هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق لا يكذبون على الله. قال ابنزيد: كان يأتيهم المحقّ برشوة فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهمالذي كتبوه بأيديهم وحكموا له وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه {أن لا يقولوا على الله إلا الحقّ}، وقالبعضهم: هو قولهم {سيغفر لنا} ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيرهوأن لا يقولوا في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب، وقال الزمخشري: هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاقالمذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليسبحق عليه وإن فسّر {ميثاق الكتاب} بما تقدم ذكره كان أن لا يقولوا مفعولاً له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أنتكون مفسّرة ولا يقولوا نهياً، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق، وقال أيضاً: قبل ذلك{ميثاق الكتاب} يعني قوله في التوراة من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وكسر فتحةهمزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصلكان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفتإحداها فصارت على ما رأيت انتهى، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعلمن أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالاً وفعالاً من أين لأن أيّان ظرفزمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أياً كذلكوالأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا، رسا يرسو ثبت. الحفي المستقصي للشيء المحتفل بهالمعتني، وفلان حفي بي بارّ معتن. وقال الشاعر:

فلما التقينا بين السيف بيننا     لسائلة عنا حفيّ سؤالها

وقال آخر:

سؤال حفي عن أخيه كأنه     بذكرته وسنان أو متواسن

والإحفاء الاستقصاء ومنه احفاء الشارب والحافي أي حفيت قدميه للاستقصاء في السّير والحفاوة البر واللطف. {وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْكَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي جذبنا الجبل بشدة وفوقهم حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائناً فوقهمإذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم، وقال الحوفي وأبو البقاء: فوقهم ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلكإلا أن ضمن {نتقنا} معنى فعل يمكن أن يعمل في {فوقهم} أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله

{ ورفعنا فوقهم الطور }

والجملة من قوله {كأنه ظلة} في موضع الحال والمعنى كأنه عليهم ظلّة والظلّة ما أظلّ من سقيفة أو سحابوينبغي أن يحمل التشبيه على أنه بظلة مخصوصة لأنه إذا كان كلّ ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلةوإذا صار ظلّة فكيف يشبه بظلة فالمعنى والله أعلم كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام وهي الظلة التي ليستتحتها عمد بل إمساكها بالقدرة الإلهية وإن كانت أجراماً بخلاف الظلّة الأرضية فإنها لا تكون إلا على عمد فلما دانتهذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد، وقيل: اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللاًإذ كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعاً على غير عمد قيل: كأنه ظله أي كأنه على عمد وقرىء طلةبالطاء من أطل عليه إذ أشرف وظنوا هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين، وقال المفسّرون: معناه أيقنوا، وقالالزمخشري: علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة،فإنه يكون بمعنى الإتقان، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله

{ ورفعنا فوقكم الطور }

في البقرة فأغنى عنإعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري: هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليهالسلام الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبقَ شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديًّا يقرأالتوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه انتهى، وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم فيالمكتب إذا قرأوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّبالمكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة. {خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.قرأ الأعمش واذكروا بالتشديد من الإذكار، وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرىء وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل فيالبقرة. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } رويفي الحديث من طرق أخذ من ظهر آدم ذرّيته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلكوالتزموه واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه وظاهر هذه الآيةينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلففي التأويل وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري قال من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلكأنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وواحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدىفكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك وبابالتمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله ، وفي كلام العرب ونظيره قول الله عز وجل

{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

{ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }

. وقول الشاعر:

إذا قالت الانساع للبطن الحقي     تقول له ريح الصّبا قرقار

ومعلومأنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدةعلى صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة وتقديره إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه أو كراهة أنتقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأنّ نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليهقائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلةالتوحيد منصوبة لهم، (فإن قلت): بنو آدم وذرياتهم من هم، قلت: عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالىحيث قالوا:

{ عزير ابن الله }

وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهموالدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } والدليل على أنها فياليهود الآيات التي عطفت عليها هي والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله

{ واسألهم عن القرية }

وإذقالت أمة منهم وإذ تأذن ربّك وإذ نتقنا الجبل فوقهم واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا انتهى كلام الزمخشري وهوبسط كلام من تقدمه، قال ابن عطية: قال قوم الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا وأخذ بمعنى أوجدوأن الاشهادين عند بلوغ المكلّف وهو قد أعطى الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ونحالها الزجاج وهو معنى تحتملهالألفاظ انتهى، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ومفعول أخذ ذرياتهم قاله الحوفي ويحتمل في قراءة الجميعأن يكون مفعول أخذ محذوفاً لفهم المعنى وذرّياتهم بدل من ضمير ظهورهم كما أنّ من ظهورهم بدل من قوله بنيآدم والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال:

{ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَـٰقاً غَلِيظاً }

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }

وتقدير الكلام: وإذ أخذ ربك من ظهور ذرّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة واستعار أن يكونأخذ الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر وهذا من تمثيل المعنىبالجزم وأشهدهم على أنفسهم بما نصب لهم من الأدلة قائلاً ألست بربكم قالوا بلى، وقرأ العربيان ونافع: ذرياتهم بالجمع وتقدّمإعرابه، وقرأ باقي السبعة ذرّيتهم مفرداً بفتح التاء ويتعيّن أن يكون مفعولاً بأخذ وهو على حذف مضاف أي ميثاق ذرياتهموإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم لأنّ بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك وإنما حدث الإشراك فيذريتهم. {شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا * غَـٰفِلِينَ }. أي قال الله شهدنا عليكم أوقال الله والملائكة قاله السدّي، أو قالت الملائكة أو شهد بعضهم على بعض أقوال ومعنى عن هذا عن هذا الميثاقوالإقرار بالربوبيّة. {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ }. المعنى أن الكفرة لو لميؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان إحداهما: كنا غافلينوالأخرى: كنا أتباعاً لأسلافنا فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلّنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج، وقرأ أبوعمرو إن يقولوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بالتاء على الخطاب. {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ }. هذا من تمامالقول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاجبتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم فقطع بذلك أعذارهم. {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ٱلاْيَـٰتِ } أي مثل هذا التفصيل الذي فصّلنافيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلّة التوحيد وبراهينه. {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عنشركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح وقرأت فرقة يفصل بالياء أي يفصل هو أي الله تعالى.{وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِى ءاتَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } أي واتلُ على من كانحاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلكوإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله لما أطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به فذكرواأن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فقال عكرمة:هو كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء، وقال عبادة بن الصامت: هم قريش أتتهمأوامر الله ونواهيه والمعجزات فانسلخوا من الآيات ولم يقبلوها فعلى هذين القولين يكون الذي مفرداً أريد به الجمع، وقال الجمهور:هو شخص معين، فقيل: هو بلعم، وقيل: هو بلعام وهو رجل من الكنعانيين أوتي بعض كتب الله، وقيل: كان يعلماسم الله الأعظم واختلف في اسم أبيه. وقال ابن مسعود: هو أبره. وقال ابن عباس باعوراء، وقال مجاهد والسدّي: باعرويهروى أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة فألحواعليه حتى فعل وقد طول المفسرون في قصته وذكروا ما الله أعلم به، وقيل هو رجل من علماء بني إسرائيل،وقال ابن مسعود: بعثه موسى عليه السلام نحو مدين داعياً إلى الله وإلى شريعته وعلم من آيات الله ما يدعونهفكان مجاب الدعوة فلما فارق دين موسى سلخ الله منه الآيات، وقيل: اسمه ناعم كان في زمن موسى وكان بحبتاسم بلد كان إذا نظر رأى العرش وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين يكتبون عنه وهو أوّل منصنف كتاباً إنه ليس للعالم صانع، وقيل هو رجل من بني إسرائيل أعطى ثلاث دعوات مستجابة يدعو بها في مصالحالعباد فجعلها كلها لامرأته وكانت قبيحة فسألته فدعا الله فجعلها جميلة فمالت إلى غيره فدعا الله عليها فصارت كلبة نباحةوكان لها منها بنون فتضرّعوا إليه فدعا الله فصارت إلى حالتها الأولى، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وابنالمسيّب وزيد بن أسلم وأبو روق: وهو أميّة بن أبي الصلت الثقفي قرأ الكتب وعلم أنه سيبعث نبي من العربورجا أن يكون إياه وكان ينظم الشعر في الحكم والأمثال فلما بعث محمد حسده ووفد علىبعض الملوك وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء فقيل:محمد فقال: لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء فارتد ورجع وقال: الآن حلت لي الخمر وكان قد حرم الخمرعلى نفسه فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات وقدّمت أخته فارعة على رسول الله واستنشدها من شعره فأنشدته عدّة قصائد فقال : آمن شعره وكفر قلبه وهو الذي قال فيه تعالى {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} ، وقال سعيد بن المسيب أيضاً: هو أبو عامر بن النعمان بن صيفيالراهب سماه رسول الله : الفاسق وكان ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح وهو الذي بني له المنافقونمسجد الضرار جرت بينه وبين النبي محاورة فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداًوأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بالقوة والسلاح ثم أتى قيصر واستجاشه ليخرج محمداً وأصحابه من المدينةفمات بالشام طريداً شريداً وحيداً، وقيل: غير هذا والأولى في مثل هذا إذا ورد عن المفسرين أن تحمل أقاويلهم علىالتمثيل لا على الحصر في معين فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض والخلاف في {آتيناه آياتنا} مترتب على من عنى الذيآتيناه أذلك اسم الله الأعظم أو الآيات من كتب الله أو حجج التوحيد أو من آيات موسى أو العلم بمجيءالرسول والانسلاخ من الآيات مبالغة في التبري منها والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا جعلكأنه كان ملتبساً بها كالثوب فانسلخ منها وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم وقول من قال: إنه من المقلوب أيإلا انسلخت الآيات عنه لا ضرورة تدعو إليه، وقال سفيان: إن الرجل ليذنب ذنباً فينسى باباً من العلم، وقرأ الجمهور:{فأتبعه الشيطان} من أتبع رباعياً أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعهوكذلك

{ فأتبعه شهاب ثاقب }

أي عدا وراءه، قال القتبي تبعه من خلفه واتبعه أدركه ولحقه كقوله:

{ فاتبعوهم مشرقين }

أي أدركوهمفعلى هذا يكون متعدياً إلى واحد وقد يكون اتبع متعدّياً إلى اثنين كما قال تعالى: وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان فيقدر هذافأتبعه الشيطان خطواته أي جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان، وقرأ طلحةبخلاف والحسن فيما روى عنه هارون فاتبعه مشدّداً بمعنى تبعه، قال صاحب كتاب اللوامح: بينهما فرق وهو أن تبعه إذامشى في أثره واتبعه إذا واراه مشياً فأما فأتبعه بقطع الهمزة فمما يتعدّى إلى مفعولين لأنه منقول من تبعه وقدحذف في العامة أحد المفعولين، وقيل فأتبعه بمعنى استتبعه أي جعله له تابعاً فصار له مطيعاً سامعاً، وقيل معناه: تبعهشياطين الإنس أهل الكفر والضلال، فكان من الغاوين يحتمل أن تكون كان باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعاً في الزمانالماضي ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار أي صار من الضالين الكافرين، قال مقاتل: من الضالين، وقال الزجاج: من الهالكينالفاسدين. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلاْرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ }. أي ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدرهبما آتيناه من الآيات لفعلنا ولكنه أخلد إلى الأرض أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشىءعن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيهاً على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدىفآثره وأتبعه وأخلد معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي إلى ما فيها من الملاذ والشهوات قال معناه ابن عباس ومجاهدوالسدّي، ويحتمل أن يريد بقوله أخلد إلى الأرض أي مال إلى السفاهة والرذالة كما يقال: فلان في الحضيض عبارة عنانحطاط قدره بانسلاخه من الآيات قال معناه الكرماني. قال أبو روق: غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته، وقالقوم: معناه لرفعناه بها لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك والضمير في بها عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدىءوصف حاله بقوله ولكنه أخلد، وقال ابن أبي نجيح لرفعناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها والضمير للآياتثم ابتدىء وصف حاله والتفسير الأول أظهر وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة ولم يذكر الزمخشري غيره وهو الذي يقتضيهالاستدراك لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصحّ معنى الاستدراك والضمير في لرفعناه في هذهالأقوال عائد على الذي أوتي الآيات وإن اختلفوا في الضمير في بها على ما يعود وقال قوم الضمير في لرفعناهعلى الكفر المفهوم مما سبق وفي بها عائد على الآيات أي ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات وهذا المعنى روي عنمجاهد وفيه بعد وتكلّف، قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق بهالرفع، (قلت): المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومهالآيات فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قولهولكنه أخلد إلى الأرض فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعلهولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } أي فصفته {إن تحمل عليه} الحكمة لم يحملها وإنتركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطروداً لهث وإن كان رابضاً لهث قاله ابن عباس، وقيل: شبه المتهالك علىالدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه وهيكونه لا يزال لا هنا وهي أخس أحواله وأرذلها كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعباً قلقاً في تحصيلهاقال الحسن هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع أعطي أو لم يعط كالكلب يلهث طرداًوتركاً انتهى، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخسّأحواله ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به، قال ابن عطية: وقالالجمهور إنما شبه في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها أيضاً ضالاً لم تنفعه فهو كالكلب فيأنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه أو تركه دون حمل عليه، وقال السدّي وغيره هذا الرجل خرجلسانه على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب، وقال الزمخشري: وكان حق الكلام أن يقال {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنهأخلد إلى الأرض} فحططناه ووضعنا منزلته فوقع قوله: {فمثله كمثل الكلب} موقع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخسّأحواله وأرذلها في معنى ذلك انتهى وفي قوله وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى وأماقوله فوقع قوله {فمثله} إلى آخره فليس واقعاً موقع ما ذكر لكن قوله {ولكنه أخلد إلى الأرض} وقع موقع فحططناهإلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال {آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها} ولما ذكرما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال {فانسلخ منها} وقال: {ولكنه أخلد إلى الأرض} والله تعالى في الحقيقةهو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله

{ فأردت أن أعيبها }

وقوله:

{ فأراد ربك أن يبلغا }

في نسبة ما كان حسناً إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أيلاهثاً في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء، وقال بعض شراح كتاب المصباح: وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحالفلا يقال جاءني زيد إن يسأل يعظ على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبراً عن ضمير ماأريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية، نعمقد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخلُ منأن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمرّ فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتنيإذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنىالتسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله

{ أأنذرتهم أم لم تنذرهم }

وأما الثاني فلا بدّ من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتنيولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل الأول لأنالحمل عليه والترك نقيضان. {ذٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـثَايَـٰتِنَا } أي ذلك الوصف وصف الذين كذبوا بآياتنا صفتهكصفة الكلب لاهثاً في الحالتين فكما شبّه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخسّ حالاته كذلك شبّه به المكذبونبالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها واحتمل ذلك أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأنيكون إشارة لوصف الكلب واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أنتكون محذوفة من مثل القوم أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل الذين كذبوا بآياتنا ويكون أبلغ فيذمّ المكذبين حيث جعلوا أصلاً وشبه بهم، قال ابن عطية: أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانواضالّين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك فمثلهم كمثل الكلب، وقال الزمخشري:كذبوا بآياتنا من اليهود بعدما قرأوا بعثة رسول الله في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيهوبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا بستفتحون به، وقال ابن عباس: يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهمإلى طاعة الله ثم جاءهم من لايشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحملعليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كلالأحوال مثل الكلب الذي يلهث على كل حال انتهى، وتلخص أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عامّ أم خاص باليهود أم بكفارمكة أقوال ثلاثة والأظهر العموم. {فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }. أي فاسرد أخبار القرون الماضية كخبر بلعام أو منفسّر به المنسلخ إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب إذ هو من خفي أخبارهم ففيإخبارك بذلك أعظم معجز لعلهم يتفكرون فيما جرى على المكذبين فيكون ذلك عبرة لهم ورادعاً عن التكذيب وأن يكونوا أخباراًشنيعة تقصّ كما قصّ خبر ذلك المنسلخ. {سَاء مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } ساء بمعنى بئس وتقدم لناأن أصلها التعدّي تقول: ساءني الشيء يسوءني ثم لما استعملت استعمال بئس بنيت على فعل وجرت عليها أحكام بئس ومثلاًتمييز للضمير المستكنّ في ساء فاعلاً وهو مفسر بهذا التمييز وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ولا يثنّي ولايجمع على مذهب البصريين وعن الكوفيين خلاف مذكور في النحو ولا بد أن يكون المخصوص بالذمّ من جنس التمييز فاحتيجإلى تقدير حذف أما في التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم وأما في المخصوص أي ساء مثلاً مثل القوم وهذهالجملة تأكيد للجملة السابقة، وقال أبو عبد الله الرازي ظاهره يقتضي أن يكون ذلك المثل موصوفاً بالسوء وذلك غير جائزلأن هذا المثل ذكره الله تعالى فكيف يكون موصوفاً بالسوء فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهمبآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في التمثيل لذلك بمنزلة الكلب اللاهث انتهى وليس كما ذكر ليس هنا ضرب مثلوالمثل لفظ مشترك بين الوصف وبين ما يضرب مثلاً والمراد هنا الوصف فمعنى {مثله كمثل الكلب} أي وصفه وصف الكلبوليس هذا من ضرب المثل بل كما قال

{ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً }

أي صفتهم كصفة الذي استوقد وكقوله

{ مثل الجنة التي وعد المتقون }

أي صفتها وإذا تقرر هذا فقوله ساء مثلاً معناه بئس وصفاً فليس من ضرب المثل فيشيء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش: ساء مثل بالرفع{ٱلْقَوْمَ } بالخفض واختلف على الجحدري فقيل: كقراءة الأعمش، وقيل: بكسرالميم وسكون الثاء وضم اللام مضافاً إلى {ٱلْقَوْمَ } والأحسن في قراءة المثل بالرفع أن يكتفى به ويجعل من بابالتعجب نحو لقضو الرجل أي ما أسوأ مثل القوم ويجوز أن يكون كبئس على حذف التمييز على مذهب من يجيزهالتقدير ساء مثل القوم أو على أن يكون المخصوص {ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ } على حذف مضاف أي بئس مثل القوم مثل{ٱلَّذِينَ } كذبوا لتكون الذين مرفوعاً إذ قام مقام مثل المحذوف لا مجروراً صفة للقوم على تقدير حذف التمييز.{وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل ن يكون استئناف إخبار عنهم بأنهم كانوا يظلمون أنفسهموالزمخشري على طريقته في أنّ تقديم المفعول يدلّ على الحصر فقدره وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، قال: وتقديم المفعول بهلاختصاص كأنه قيل وخصُّوا أنفسهم بالظلم ولم يتعدّ إلى غيرها. {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُٱلْخَـٰسِرُونَ } لما تقدم ذكر المهتدين والضالين حبر تعالى: أنه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال وتقرّر منمذهب أهل السنة أنه تعالى هو خالق الهداية والضلال في العبد وللمعتزلة في هذا ونظائره تأويلات، قال الجبائي: وهو اختيارالقاضي {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ } إلى الجنة والثواب في الآخرة {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } في الدنيا السالك طريق الرشد فيما كلففبين أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ومن يضلله عن طريق الجنة {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ}، وقال بعضهم: في الكلام حذف أي {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ } فيقبل ويهتدي بهداه {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ } بأنلم يقبل فهو الخاسر، وقال بعضهم: المراد من وصفه الله بأنه مهتدٍ {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } لأنّ ذلك مدح ومدح اللهلا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك {وَمَن يُضْلِلِ } أي ومن يصفه بكونه ضالاًّ فهو الخاسر، وقالبعضهم: من آتيناه الألطاف وزيادة الهدى {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } {وَمَن يُضْلِلِ } عن ذلك لما تقدم منه بسوء اختياره فأخرجلهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر وهذه التأويلات كلها متكلفة بعيدة وظاهر الآية يرد على القدريةوالمعتزلة و {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } حمل على لفظ من و {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } حمل على معنى من وحسنه كونهفاصلة رأس آية. {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ }. هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيراًمن الصنفين، ومناسبة هذا لما قبله أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضلّ أعقبه بذكر من خلق للخسران والناروذكر أوصافهم فيما ذكر وفي ضمنه وعيد الكفار والمعنى لعذاب جهنم واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنىأو لما كان مآلهم إليها جعل ذلك سبباً على جهة المجاز فقد رد ابن عطية قول من زعم أنها للصيرورة،فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه، وأماهنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم لجهنم انتهى، وإنما ذهب إلى أنها لام العاقبة والصيرورة لأنهتعالى قال

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }

فإثبات كونها للعلة ينافي قوله {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } وأنشدوا دليلاً علىإثبات معنى الصيرورة للام قول الشاعر:

ألا كل مولود فللموت يولد     ولست أرى حيّاً لحي يخلد

وقول الآخر:

فللموت تغدو الوالدات سخالها     كما لخراب الدّر تبنى المساكن

ودعوى القلب فيه وإنّ تقديره ولقد ذرأنا جهنم لكثيرغير سديد لأنّ القلب لا يكون إلا في الشعر على الصحيح ولفظة كثير لا تشعر بالأكثر ولكن ثبت في الحديثأن بعث النار أكثر لقول الله لآدم أخرج بعث النار من ذريتك فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة وهؤلاءالمخلوقون لجهنم هم الذين طبع الله على قلوبهم فلا يتأتى منهم إيمان البتة وتفسير ابن جبير: انهم أولاد الزنا ليسبجيد. {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا }. لما كانوالا يتدبرون شيئاً من الآيات ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا يسمعونها سماع تفكر جعلوا كأنهم فقدوا الفقه بالقلوب والإبصاربالعيون والسماع بالآذان وليس المراد نفي هذه الإدراكات عن هذه الحواس وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم منالإيمان. وقال مسكين الدرامي:

أعمى إذا ما جارتي خرجت     حتى يواري جارتي الستر وأصمّ عن ما كان بينهما

وفسّر مجاهد هذا فقال: {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } شيئاً من أمور الآخرة {وَلاَ *يُبْصِرُونَ بِهَا } الهدى {وَلاَ * يَسْمَعُونَ بِهَا } الحق انتهى، وفي قوله {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } دليلعلى أن القلب آلة للفقه والعلم كما أن العين آلة للإبصار والأذن آلة للسماع، وقال الزمخشري: وجعلهم لإغراقهم في الكفروشدة شكائمهم فيه وإنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغّلهم في الموجبات وتمكنهم فيمايؤهلهم لدخول النار، ومنه كتاب عمر إلى خالد بن الوليد: بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكاً عجن بخمر وإنيلأظنكم يا آل المغيرة ذرء النار. ويقال لمن كان غريقاً في بعض الأمور ما خلق فلان إلا للنار والمراد وصفأحوالهم في عظم ما أقدموا عليه في تكذيب رسول الله مع علمهم أنه النبي الموعود وأنهممن جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم كأنهم خلقوا للنار انتهى، وهو تكثير في الشرح. {أُوْلَـئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ} أي في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ولا يهتمون بغير الأكل والشرب. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} قال الزمخشري: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } سبيلاً من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبّر، وقيل الأنعام تبصر منافعها من مضارهافتلزم بعض ما تبصره وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار، وقال ابن عطية: حكم عليهم بأنهم أضل لأنالأنعام ركب في بنيتها وخلقتها أن لا تفكر في شيء وهؤلاء هم معدُّون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطواطرفاً من النظر فهم يغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضلّ على هذا انتهى، وقيل {هُمْ أَضَلُّ } لأنهم يعصونوالأنعام لا تعصي، وقيل الأنعام تعرف ربها وتسبح له والكفار لا يعرفونه ولا يدعونه وروي: كل شيء أطوع لله منابن آدم، وقال أبو عبد الله الرازي: الإنسان وسائر الحيوان يشاركه في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة وفي منافع الحواسالخمس الظاهرة والباطنة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما يحصل الامتياز بين الإنسان وغيره بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلىمعرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار من أغراض أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانواكالأنعام، ثم قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل الفضائل والإنسان أعطي القدرة على تحصيلهاومن أعرض عن اكتساب الفضئل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أحسن حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز فلهذا قال:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ } انتهى. وقيل: الأنعام تفرّ إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه الذي أنعمهعليه لا تحصي، وقيل: الأنعام تضل إذا لم يكن معها مرشد وقلما تضلّ إذا كان معها وهؤلاء قد جاءتهم الرسلوأنزلت عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال انتهى، وأقول هذا الإضراب ليس على جهة الإبطال للخبر السابق من تشبيههم بالأنعامولا يجوز أن تكون جهة المبالغة في الضلال هي جهة التشبيه لأنه يؤدي إلى كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل فيحق الله تعالى وكلام من تقدم من المفسرين يدل على أنه تعالى شبّههم بالأنعام فيما ذكر وأنهم أضل من الأنعامفيما وقع التشبيه فيه وهو لا يجوز لما ذكرناه فالمعوّل عليه أن جهة التشبيه مخالفة لجهة المبالغة في الضلال وأنهذا الإضراب ليس على سبيل الإبطال بمدلول الجملة السابقة {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } إضراب دال على الانتقال من إخبار إلىإخبار فالجملة الأولى شبههم بالأنعام في انتفاء منافع الإدراكات المؤدية إلى امتثال ما جاءت به الرسل والجملة الثانية أثبتت لهمالمبالغة في ضلال طريقهم التي يسلكونها فالموصوف بالمبالغة في الضلال طريقهم وحذف التمييز وتقديره: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } طريقاً منهمويبين هذا قوله تعالى:

{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلاْنْعَـٰمِ }

أي في انتفاء السمعللتدبر والعقل {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } أي بل سبيلهم أضلّ فالمحكوم عليه أوّلاً غير المحكوم عليه آجراً والمحكوم بهأيضاً مختلف. {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ } هذه الجملة بيّن تعالى بها سبب كونهم أضلّ من الأنعام وهو الغفلة. وقالعطاء: عن ما أعدّ الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. {وَللَّهِ ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَفِى أَسْمَـئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال مقاتل: دعا رجل الله تعالى في صلاته ومرة دعا الرحمن، فقال أبوجهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربّاً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فنزلت، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالىلما ذكر أنه ذرأ كثيراً من الجنّ والإنس للنار ذكر نوعاً منهم وهم {ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـئِهِ } وهم أشدّالكفار عتباً أبو جهل وأضرابه وأيضاً لما نبه على أن دخولهم جهنم هو للغفلة عن ذكر الله والمخلص من العذابهو ذكر الله أمر بذكر الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا والقلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتهاوقع في الحرص، وانتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة، وقد وجدنا ذلك بالذوقحتى إن أحدهم ليصلي الصلوات كلها قضاء في وقت واحد فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله تعالى تخلص منآفات الغفلة وامتثل ما آمره الله به واجتنب ما نهى عنه. قال الزمخشري: التي هي أحسن الأسماء لأنها لاتدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك انتهى، فالحسنى هي تأنيث الأحسن ووصف الجمع الذي لا يعقل بمايوصف به الواحدة كقوله

{ وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَىٰ }

وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن علىوزن الأخر كقوله

{ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }

لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كانالمفرد مذكّراً، وقيل: {ٱلْحُسْنَىٰ } مصدر وصف به، قال ابن عطية: و {ٱلاْسْمَاء } هاهنا: بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولينلا يمكن غيره انتهى. ولا تحرير فيما قال لأنّ التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على الله تعالى وهيالأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم وكون الاسم الذي أمر تعالىأن يدعى به حسناً هو ما قرره الشرع ونص عليه في إطلاقه على الله ومعنى {فَٱدْعُوهُ بِهَا } أي نادوهبها كقولك: يا الله يا رحمن يا مالك وما أشبه ذلك، وقال الزمخشري: فسمّوه بتلك الأسماء جعله من باب دعوتابني عبد الله أي سميته بهذا الاسم واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراكإلا أنه لم يرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله تعالى به فنصّ القاضي أبو بكر الباقلاني على الجواز ونصّ أبوالحسن والأشعري على المنع، وبه قال الفقهاء والجمهور وهو الصواب واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن كقوله تعالى:

{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ }

و

{ يَمْكُرُونَ * وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ }

هل يطلق عيه منه تعالى اسم فاعل مقيد بمتعلقه فيقال اللهمستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون فجوّز ذلك فرقة ومنعت منه فرقة وهو الصواب وأما إطلاق اسم الفاعل بغير قيده فالإجماععلى منعه، وروى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة النص على تسعة وتسعين اسماً مسرودة اسماً اسماً، قال ابنعطية: وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإن كان قد قال فيه أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفهإلا من طريق حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليهوسلم: إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة . ومعنى أحصاها عدّها وحفظها وتضمّن ذلك الإيمانبها والتعظيم لها والعبرة في معانيها وهذا حديث البخاري انتهى، وتسمية هذا الحديث متواتراً ليس على اصطلاح المحدثين في المتواتروإنما هو خبر آحاد. وفي بعض دعاء رسول الله «يا حنان يا منان» ولم يردافي جامع الترمذي وقد صنّف العلماء في شرح أسماء الله الحسنى كأبي حامد الغزالي وابن الحكم بن برجان وأبي عبدالله الرازي وأبي بكر بن العربي وغيرهم، قال الزمخشري: ويجوز أن يراد ولله الأوصاف الحسنى وهي الوصف بالعدل والخير والإحسانوانتفاء شبه الخلق وصفوه بها {وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ } في صفاته فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل فيالتشبيه كالرؤية ونحوها، وقيل: معنى قوله {وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـئِهِ } اتركوهم ولا تحاجّوهم ولا تعرضوا لهم قاله ابنزيد فتكون الآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل: معناه الوعيد كقوله

{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }

وقوله

{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ }

وقال الزمخشري واتركوا تسمية الذيني يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى وذلك أن يسموه بما لايجوز عليه كما سمعنا البدو بجهلهم يقولون: يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخيّ، أو أن يأبوا تسميته ببعضأسمائه الحسنى نحو أن يقولوا: يا الله ولا يقولوا: يا رحمن، وقيل: معنى الإلحاد في أسمائه تسميتهم أوثانهم اللات نظراًإلى اسم الله تعالى والعزى نظراً إلى العزيز قاله مجاهد، ويسمون الله أبا وأوثانهم أرباباً ونحو هذا، وقال ابن عباس:معنى {يُلْحِدُونَ } يكذّبون، وقال قتادة: يشركون، وقال الخطابي: الغلط في أسمائه والزّيغ عنها إلحاد، وقرأ حمزة: {يُلْحِدُونَ } بفتحالياء والحاء وكذا في النحل والسجدة وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى، وقرأ باقي السبعة بضم اياء وكسر الحاءفيهنّ و {سَيُجْزَوْنَ } وعيد شديد واندرج تحت قوله {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الإلحاد في أسمائه وسائر أفعالهم القبيحة.{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } لما ذكر من ذرأ للنار ذكر مقابلهم وفي لفظة {وَمِمَّن } دلالةعلى التبعيض وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ولا عادلين به، قيل: هم العلماء والدعاء إلى الدين، وقيل:هم مؤمنو أهل الكتاب قاله ابن الكلبي وروي عن قتادة وابن جريج، وقيل: هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقالابن عباس: هم أمة محمد وعليه أكثر المفسرين وروي في ذلك أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم كان إذا قرأها قال: هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها {وَمِن قَوْمِ مُوسَى } الآية وعنه: إن من أمتي قوماً على الحقّ حتى ينزل عيسى ابن مريم والظاهر أن هذه الجملة أخبرفيها أن ممن خلق أمة موصوفون بكذا فلا يدل على تعيين لا في أشخاص ولا في أزمان وصلحت لكل هادبالحقّ من هذه الأمة وغيرهم وفي زمان الرسول وغيره، كما أنّ مقابلها في قوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } لا يدلّعلى تعيين أشخاص ولا زمان وإنما هذا تقسيم للمخلوق للنار والمخلوق للجنة ولذلك قيل: إنّ في الكلام محذوفاً تقديره {وَمِمَّنْخَلَقْنَا } يدلّ عليه إثبات مقابله في قوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ }. وقال الجبائي: هذه الآية تدل على أنلا يخلو زمان البتة ممن يقوم بالحق ويعمل به ويهذي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطلانتهى، والآية لا تدل على ما زعم الجبائي وما قاله مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا علىشرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ولا تقوم الساعة حتى يسري على كتاب اللهفلا يبقي منه حرف أو كما قال: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }. قال الخليل بن أحمد:سنطوي أعمارهم في اغترار منهم، وقال أبو عبيدة: الاستدراج أن تدرج إلى الشيء في خفية قليلاً قليلاً ولا تهجم عليهوأصله من الدرجة وذلك أنّ الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ومنه درج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القومماتوا بعضهم في أثر بعض،وقال ابن قتيبة: هو أن يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً من حيث لا يعلمون ولا يتابعهمبه ولا يجاهرهم، وقال الأزهري سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله تعالى يفتح باباً من النعةيغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرّتهم أغفل ما يكون انتهى ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه والمعنىسنسترقهم شيئاً بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغترّوا ويظنّوا أنهم لا ينالهم عقاب، وقال الجبائيسنستدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلمون استدراجاً لهم إلى ذلك فيجوز أن يكون هذا العذاب فيالدنيا كالقتل ويجوز أن يكون عذاب الآخرة، وقال الزمخشري: ومعنى {سَنَسْتَدْرِجُهُم } سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهممن حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك أن يواتر الله نعمة عليهم مع انهماكهم في الغيّ فكلما جدّد عليهمنعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصيةً فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقريب، وإنماهي خذلان منه وتبعيد فهذا استدراج الله نعوذ بالله تعالى منه، من حيث لا يعلمون قيل: بالاستدراج، وقيل: بالهلاك، وقرأالنخعي وابن وثاب: سيستدرجهم بالياء فاحتمل أن يكون من باب الالتفات واحتمل أن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من كذّبواأي سيستدرجهم هو أي التكذيب قال الأعشى: في الاستدراج:

فلو كنت في جبّ ثمانين قامة     ورقيت أسباب السماء بسلم ليستدرجنك القول حتى تهزه

{وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } معطوفعلى سنستدرجهم فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخرهم ملاوةمن الدهر أي مدة فيها طول والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ومنه { واهجرني مليًّا } أي طويلاً وسمى فعله ذلك بهمكيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان، قال ابن عباس: يريد أنّ مكري شديد،وقيل: إن عذابي وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون والمتين من كل شيء القوي يقال: متن متانه وهذاإخبار عن المكذبين عموماً، وقيل: نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة، وقرأعبد الحميد عن ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل أنّ كيدي، وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف.{أَوَ لَمْ * يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } قال الحسن وقتادة: سبب نزولها أنرسول الله صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش يا بني فلان يا بني يحذرهمويدعوهم إلى الله تعالى، فقال بعض الكفار حين أصبحوا: هذا مجنون بات يصوّت حتى الصباح، وكانوا يقولون: شاعر مجنون فنفىالله عز وجل عنه ما قالوه، ثم أخبر أنه محذر من عذاب الله والآية باعثة لهم على التفكر في أمرالرسول وانتفاء الجنة عنه وهذا الاستفهام قيل: معناه التوبيخ، وقيل: التحريض على التأمل والجنة كما قالتعالى { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } والمعنى من مس جنة أو تخبيط جنة، وقيل: هي هيئة كالجلسة والركبة أريد بها المصدرأي ما بصاحبهم من جنون والظاهر أن يتفكروا معلّق عن الجملة المنفيّة وهي في موضع نصب بيتفكروا بعد إسقاط حرف الجر لأن التفكر من أعمال القلوب فيجوز تعليقه والمعنى أو لم يتأملوا ويتدبروا في انتفاء هذا الوصف عن الرسول فإنهمنتف لا محالة ولا يمكن لمن أنعم الفكر في نسبة ذلك إليه، وقيل ثم مضمر محذوف أي فيعلموا ما بصاحبهممن جنة قالوا الحوفي، وزعم أن تفكّروا لا تعلّق لأنه لا يدخل على الجمل قال: ودلّ التفكر على العلم، وقالأصحابنا: إذا كان فعل القلب يتعدى بحرف جر قدرت الجملة في موضع جر بعد إسقاط حرف الجر ومنهم من زعمأنه يضمن الفعل الذي تعدى بنفسه إلى واحد أو بحرف جر إلى واحد معنى ما يتعدى إلى اثنين فتكون الجملة في موضع المفعولين فعلى هذين الوجهين لا حاجة إلى هذا المضمر الذي قدّره الحوفي، وقيل تمّ الكلام على قوله يتفكرواثم استأنف إخباراً بانتفاء الجنة وإثبات النذارة، وقال أبو البقاء: في ما وجهان أحدهما: أنها باقية وفي الكلام حذف تقديرهأو لم يتفكروا في قولهم به جنة، والثاني أنها استفهام أي أو لم يتفكروا أي شيء بصاحبهم من الجنون معانتظام أقواله وأفعاله، وقيل هي بمعنى الذي تقديره أو لم يتفكروا في ما بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج علىزعمهم انتهى وهي تخريجات ضعيفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها وتفكر مما ثبت في اللسان تعليقه فلا ينبغي أن يعدلعنه. {أَوَ لَمْ * يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء } لما حضّهمعلى التفكر في حال الرسول وكان مفرعاً على تقرير دليل التوحيد أعقب بما يدل على التوحيد ووجود الصانع الحكيم والملكوتالملك العظيم وتقدّم شرح ذلك في قوله { وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }

ولم يتقصر على ذكر النظرفي الملكوت بل نبه على أنّ كل فرد فرد من الموجودات محل للنظر والاعتبار والاستدلال على الصانع الحكيم ووحدانيته كماقال الشاعر:

وفي كل شيء له آية     تدلّ على أنه الواحد

{وَأَنْعَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } وأن معطوف على ما في قوله وما خلق وبخوا على انتفاء نظرهم فيملكوت السموات والأرض وهي أعظم المصنوعات وأدلتها على عظمة الصانع ثم عطف عليه شيئاً عاماً وهو قوله وما خلق اللهمن شيء فاندرج السموات والأرض في ما خلق ثم عطف عليه شيئاً يخصّ أنفسهم وهو انتفاء نظرهم وتفكرهم في أنّأجلهم قد اقترب فيبادرهم الموت على حالة الغفلة عن النظر في ما ذكر فيؤول أمرهم إلى الخسار وعذاب النار نبههمعلى الفكر في اقتراب الأجل لعلهم يبادرون إليه وإلى طلب الحق وما يخلّصهم من عذاب الله قبل مقانصة الأجل وأجلهموقت موتهم، وقال الزمخشري: يجوز أن يراد باقتراب الأجل اقتراب الساعة وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأنوخبرها عسى وما تعلقت به وقد وقع خبر الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل

{ وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا }

فغضب الله عليها جملة دعاء وهي غير خبرية فلو كانت أن مشددة لم تقع عسى ولا جملةالدعاء لها لا يجوز علمت أن زيداً عسى أن يخرج ولا علمت أن زيداً لعنه الله وأنت تريد الدعاء وأجازأبو البقاء أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبةللفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرّف مطلقاً يعنون ماضياً ومضارعاً وأمراً فشرطوا فيه التصرّف، وعسىفعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن وعسى هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك عسى أن تقومواسم يكون. قال الحوفي: أجلهم وقد اقترب الخبر، وقال الزمخشري وغيره: اسم يكون ضمير الشأن فيكون قد اقترب أجلهم فيموضع نصب في موضع خبر يكون وأجلهم فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف فإذا قلت كان يقوم زيد فمنالنحويين من زعم أنّ زيداً هو الاسم ويقوم في موضع نصب على الخبر ومنهم من منع ذلك ويجعل في ذلكضمير الشأن والجواز اختيار ابن مالك والمنع اختيار ابن عصفور وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة التقسيم والدلائل في شرحنا لكتابالتسهيل. {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } معنى هذه الجملة وما قبلها توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظرولا تدبّر في شيء من ملكوت السموات والأرض ولا في مخلوقات الله تعالى ولا في اقتراب آجالهم ثم قال فبأيّحديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ونحوه قول الشاعر:

فعـن أي نفـس بعـد نفسـي أقـاتـل    

والمعنى إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها ولذلك إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذيهو الصدق المحض وفيه نجاتهم وخلاصهم فكيف يصدقون بحديث غيره والمعنى أنه ليس من طباعهم التصديق بما فيه خلاصهم والضميرفي بعده للقرآن أو الرسول وقصته وأمره أو الأجل إذ لا عمل بعد الموت أقوال ثلاثة. قال الزمخشري: (فإن قلت):بم يتعلق قوله فبأي حديث بعده يؤمنون، (قلت): بقوله: عسى أن يكون قد اقترب أجلهم كأنه قيل: لعل أجلهم قداقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ما ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحقّ منه يريدونأن يؤمنوا. {مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ }. نفى نفياً عامًّا أن يكون هاد لمن أضله الله فتضمن اليأسمن إيمانهم والمقت بهم. {وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ }. قرأ الحسن وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحرميانوابن عامر ونذرهم بالنون ورفع الراء وأبو عمرو وعاصم بالياء ورفع الراء وهو استئناف إخبار قطع الفعل أو أضمر قبلهونحن فيكون جملة اسمية، وقرأ ابن مصرّف والأعمش والأخوان وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم وروى خارجة عننافع بالنون والجزم وخرج سكون الراء على وجهين أحدهما أنه سكن لتوالي الحركات كقراءة

{ وما يشعركم }

وينصركم فهو مرفوع والآخرأنه مجزوم عطفاً على محل فلا هادي له فإنه في موضع جزم فصار مثل قوله

{ فهو خير لكم }

ونكفر فيقراءة من قرأ بالجزم في راء ونكفر. ومثل قول الشاعر:

أنّى سلكت فإنني لك كاشح     وعلى انتقاصك في الحياة وازدد

{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا } الضمير في يسألونك لقريش قالوا يا محمد إناقرابتك فأخبرنا بوقت الساعة، وقال ابن عباس: الضمير لليهود، قال حسل بن أبي بشير وشمويل بن زيدان ان كنت نبيًّافأخبرنا بوقت الساعة فإنا نعرفها فإن صدقت آمنا بك فنزلت، ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر التوحيد والنبوة والقضاء والقدرأتبع ذلك بذكر المعاد وأيضاً فلما تقدّم قوله وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم وكان ذلك باعثاً على المبادرةإلى التوبة أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أنّ وقتها مكتوم عن الخلق فيكون ذلك سبباً للمسارعة إلى التوبة والساعة القيامةموت من كان حينئذ حيًّا وبعث الجميع فيقع عليه اسم الساعة واسم القيامة والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وقرأالجمهور أيّان بفتح الهمزة والسلمي بكسرها حيث وقعت وتقدم أنها لغة قومه سليم ومرساها مصدر أي متى إرساؤها وإثباتها إقرارهاوالرّسو ثبات الشيء الثقيل ومنه رسا الجبل وأرسيت السفينة والمرسا المكان الذي ترسو فيه، وقال الزمخشري: مرساها إرساؤها أو وقتإرسائها أي إثباتها وإقرارها انتهى، وتقديره أو وقت إرسائها ليس بجيد لأنّ أيان اسم استفهام عن الوقت فلا يصحّ أنيكون خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير في أي وقت وقت إرسائها وأيان مرساها مبتدأ وحكى ابن عطيةعن المبرّد أن مرساها مرتفع بإضمار فعل ولا حاجة إلى هذا الإضمار وأيان مرساها جملة استفهامية في موضع البدل منالساعة والبدل على نية تكرار العامل وذلك العامل معلق عن العمل لأنّ الجملة فيها استفهام ولما علق الفعل وهو يتعدىبعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر فهو بدل في الجملة على موضع عن الساعة لأنّ موضعالمجرور نصب ونظيره في البدل قولهم عرفت زيداً أبو من هو على أحسن المذاهب في تخريج هذه المسألة أعني فيكون الجملة الاستفهامية تكون في موضع البدل. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ }. أيالله استأثر بعلمها ولما كان السؤال عن الساعة عموماً ثم خصص بالسؤال عن وقتها جاء الجواب عموماً عنها بقوله قلإنما علمها عند ربي ثم خصصت من حيث الوقت فقيل لا يجليها لوقتها إلا هو وعلم الساعة من الخمس التينصّ عليها من الغيب أنه تعالى لا يعلمها إلا الله والمعنى لا يظهرها ويكشفها لوقتها الذي قدّر أن تكون فيهإلا هو قالوا: وحكمة إخفائها أنهم يكونون دائماً على حذر فإخفاؤها أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجلالخاص وهو وقت الموت لذلك، وقال الزمخشري: لا يجليها لوقتها إلا هو أي لا تزال خفية ولا يظهر أمرها ولايكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة لا يجليها بالخبر عنها، قل: مجيئها أحد منخلقه لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها انتهى، وهو كلام فيه تكثير وعجمة. {ثَقُلَتْ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِوَٱلاْرْضَ } قال ابن جريج معناه ثقلت على السموات والأرض أنفسها لتفطر السموات وتبدّل الأرض ونسف الجبال، وقال الحسن ثقلتلهيبتها والفزع منها على أهل السموات والأرض، وقال السدي: معنى ثقلت خفيت في السموات والأرض فلم يعلم أحد من الملائكةالمقرّبين والأنبياء المرسلين متى تكون وما خفي أمره ثقل على النفوس انتهى، ويعبّر بالثقل عن الشدة والصعوبة كما قال: و

{ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً }

أي شديداً صعباً وأصله أن يتعدى بعلى تقول ثقل عليّ هذا الأمر، وقال الشاعر:

ثقيـــل علـــى الأعــــداء    

فإما أن يدّعي أنّ في بمعنى على كما قال بعضهم في قوله { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي ويضمن ثقلتمعنى يتعدى بفي، وقال الزمخشري: أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة وودّ أن يتجلى له علمهاوشقّ عليه خفاؤها وثقل عليه أو ثقلت فيهما لأن أهلهما يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها ولأنّ كل شيء لا يطيقها ولايقوم لها فهي ثقيلة فيهما. {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي فجأة على غفلة منكم وعدم شعور بمجيئها وهذا خطابعام لكل الناس وفي الحديث أن الساعة لتهجم والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يسوم سائمته والرجل يخفض ميزانه ويرفعه . {يسألونك كأنك حفي عنها } قال ابن عباس والسدي ومجاهد: كأنك حفي بسؤالهم أي محبّ له وعن ابن عباسأيضاً: كأنك يعجبك سؤالهم عنها وعنه أيضاً كأنك مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما تسأل عنه، وقال ابنقتيبة: كأنك طالب علمها، وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن زيد: معناه كأنك حفي بالسؤال عنها والاشتغال بها حتى حصلت عليهاأي تحبه وتؤثرة أو بمعنى أنك تكره السؤال لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً. وقالابن عطية: أي محتف ومحتفل، وقال الزمخشري: كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها لأنّ من بالغ فيالسؤال عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه وهذا التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب واحتفاء النعل استئصاله وأحفى فيالمسألة ألحف وحفي بفلان وتحفى به بالغ في البرّ به انتهى، وعنها إما أن يتعلق بيسألونك أي يسألونك عنها وتكونصلة حفي محذوفة والتقدير كأنك حفي بها أي معتن بشأنها حتى علمت حقيقتها ووقت مجيئها أو كأنك حفيّ بهم أومعتن بأمرهم فتجيبهم عنها لزعمهم أن علمها عندك وحفي لا يتعدى بعن قال تعالى:

{ إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } فعداهبالباء وإما أن يتعلق بحفي على جهة التضمين لأنّ من كان حفياً بشيء أدركه وكشف عنه فالتقدير كأنك كاشف بحفاوتكعنها وإما أن تكون عن بمعنى الباء كما تكون الباء بمعنى عن في قوله، فإن تسألوني بالنساء فإنني، أي عنالنساء، وقرأ عبد الله كأنك حفيّ بها بالباء مكان عن أي عالم بها بليغ في العلم بها. {قُلْ إِنَّمَاعِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ } أي علم مجيئها في علم الله وظرفية عند مجازية كما تقول النحو عند سيبويه أي فيعلمه وتكرير السؤال والجواب على سبيل التوكيد ولما جاء به من زيادة قوله كأنك حفي عنها. {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ } قال الطبري: لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله بل يظنّ أكثرهم أنه مما يعلمه البشر،وقيل: لا يعلمون أن القيامة حق لأنّ أكثر الخلق ينكرون المعاد ويقولون { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } الآية. وقيل:لا يعلمون أي أخبرتك أن وقتها لا يعلمه إلا الله. وقيل لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها والأظهرقول الطبري.

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

عدل

{قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ }. قالابن عباس: قال أهل مكة ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري وتربح وبالأرض التي تجدب فترحل عنهاإلى ما أخصب فنزلت، وقيل لما رجع من غزوة المصطلق جاءت ريح في الطريق فأخبرت بموت رفاعة وكان فيه غيظالمنافقين، ثم قال انظروا أين ناقتي، فقال عبد الله بن أبيّ: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجلبالمدينة ولا يعرف أين ناقته، فقال عليه السلام إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في الشعب وقد تعلقزمامها بشجرة فردوها على فنزلت، ووجه مناسبتها لما قبلها ظاهر جداً وهذا منه عليه السلام إظهار للعبودية وانتفاء عن مايختص بالربوبية من القدرة وعلم الغيب ومبالغة في الاستسلام فلا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر فكيف أملك علمالغيب كما قال في سورة يونس

{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ }

وقدم هنا النفع على الضرّ لأنه تقدم من يهد الله فهوالمهتدي ومن يضلل فقدّم الهداية على الضلال وبعده لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء فناسب تقديم النفع وقدم الضرّ فييونس على الأصل لأن العبادة لله تكون خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ولذلك قال

{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً }

فإذا تقدم النفع فلسابقة لفظ تضمنه وأيضاً ففي يونس موافقة ما قبلها ففيها

{ ما لا يضرّهم ولا ينفعهم }

{ ما لا ينفعنا ولا يضرّنا }

لأنه موصول بقوله

{ ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع }

وإن تعدل كل عدللا يؤخذ منهاوفي يونس

{ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ }

وتقدمه

{ ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِـى ٱلْمُؤْمِنِينَ }

وفي الأنبياء قال

{ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ }

وتقدمه قول الكفار لإبراهيم في المحاجّة

{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـؤُلاء يَنطِقُونَ }

وفي الفرقان

{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ }

وتقدمه

{ ألم تَرَى * إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ * وَنِعْمَ * كَثِيرَةٍ }

وهذا النوع من لطائف القرآن العظيم وساطع براهينه والاستثناء متصل أي إلا ما شاء الله من تمكيني منه فإنيأملكه وذلك بمشيئة الله، وقال ابن عطية: وهذا الاستثناء منقطع انتهى، ولا حاجة لدعوى الانقطاع مع إمكان الاتصال. {وَلَوْكُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء } أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثارالخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضارّ حتى لا يمسّني شيء منها وظاهر قوله ولو كنت أعلم الغيب انتفاء العلم عنالغيب على جهة عموم الغيب كما روي عنه لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي بخلاف مايذهب إليه هؤلاء الذين يدعون الكشف وأنهم بتصفية نفوسهم يحصل لها اطلاع على المغيبات وإخبار بالكوائن التي تحدث، وما أكثرادعاء الناس لهذا الأمر وخصوصاً في ديار مصر حتى أنهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمّخ بالنجاسة يظلّ دهره لا يصليولا يستنجي من نجاسته ويكشف عورته للناس حين يبول وهو عار من العلم والعمل الصالح وقد خصص قوم هذا العمومفحكى مكي عن ابن عباس: لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة، وقال قوم: أوقات النصر لتوخيتها، وقالمجاهد وابن جريج: لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح، وقيل: ولو كنت أعلم وقت الساعة لأخبرتكم حتى توقنوا،وقيل: ولو كنت أعلم الكتب المنزلة لاستكثرت من الوحي، وقيل: ولو كنت أعلم ما يريده الله مني قبل أن يعرفنيهلفعلته، وينبغي أن تجعل هذه الأقوال وما أشبهها مثلاً لا تخصيصات لعموم الغيب والظاهر أن قوله وما مسني السوء معطوفعلى قوله لاستكثرت من الخير فهو من جواب لو ويوضح ذلك أنه تقدم قوله قل لا أملك لنفسي نفعاً ولاضراً فقابل النفع بقوله لاستكثرت من الخير وقابل الضرّ بقوله وما مسني السوء ولأنّ المترتب على تقدير علم الغيب كلاهماوهما اجتلاب النفع واجتناب الضرّ ولم نصحب ما النافية جواب لو لأن الفصيح أن لا يصحبهما كما في قوله تعالى

{ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ }

والظاهر عموم الخبر وعدم تعيين السوء، وقيل: السوء تكذيبهم له مع أنه كان يدعيالأمين، وقيل: الجدب، وقيل: الموت، وقيل: الغلبة عند اللقاء، وقيل: الخسارة في التجارة، وقال ابن عباس: الفقر وينبغي أن تجعلهذه الأقوال خرجت على سبيل التمثيل لا الحصر فإن الظاهر في الغيب الخير والسوء عدم التعيين، وقيل: ثم الكلام عندقوله لاستكثرت من الخير ثم أخبر أنه ما مسّه السّوء وهو الجنون الذي رموه به، وقال مؤرّج السدوسي: السوء الجنونبلغة هذيل وهذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لولا استكثرت من الخير فقط وتقدير حصولعلم الغيب يترتب عليه الأمران لا أحدهما فيكون إذ ذاك جواباً قاصراً. {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لما نفى عن نفسه علم الغيب أخبر بما بعث به من النذارة ومتعلقها المخوفات والبشارة ومتعلقها بالمحبوبات والظاهرة تعلقهمابالمؤمنين لأن منفعتهما معاً وجدوا هما لا يحصل إلا لهم وقال تعالى:

{ وَمَا تُغْنِى ٱلآيَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }

. وقيل معنى لقوم يؤمنون يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه وهؤلاء الناس أجمع، وقيل: أخبر أنه نذير وتمّ الكلام ومعناهأنه نذير للعالم كلهم ثم أخبر أنه بشير للمؤمنين به فهو وعد لمن حصل له الإيمان، وقيل حذف متعلق النذارةودلّ على حذفه إثبات مقابله والتقدير نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون كما حذف المعطوف في قوله

{ سرابيل تقيكم الحرّ }

أيوالبرد وبدأ بالنذارة لأن السائلين عن الساعة كانوا كفاراً أما مشركو قريش وأما اليهود فكان الاهتمام بذكر الوصف من قوله {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } آكد وأولى بالتقديم والله تعالى أعلم.

{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } * { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } * { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } * { إِنَّ وَلِيِّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ } * { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاۤ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } * { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } * { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } * { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } * { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } * { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ ٱجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } * { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }

عدل

صمت يصمت بضم الميم صمتاً وصماتاً سكت وإصمت فلاة معروفة وهي مسماة بفعلالأمر قطعت همزته إذ ذاك قاعدة في تسمية بفعل فيه همزة وصل وكسرت الميم لأن التغيير يأنس بالتغيير ولئلا يدخلفي وزن ليس في الأسماء. البطش الأخذ بقوة بطش يبطش بضم الطاء وكسرها، النزع أدنى حركة ومن الشيطان أدنى وسوسةقاله الزجاج، وقال ابن عطية: حركة فيها فساد وقلما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة، وقيل هولغة الإصابة تعرض عند الغضب، وقال الفرّاء: الإغراء والإغضاب الإنصات، قال الفراء: هو السكوت للاستماع يقال: نصت وأنصت وانتصت بمعنىواحد وقد ورد الإنصات متعدياً في شعر الكميت قال:

أبوك الذي أجدى علي بنصره     فأنصت عني بعده كل قائل

قال: يريد فأسكت عني. الآصال جمع أصل وهو العشي كعنق وأعناق أو جمع أصيل كيمينوأيمان ولا حاجة لدعوى أنه جمع جمع كما ذهب إليه بعضهم إذ ثبت أن أصلاً مفرد وأن كان يجوز جمعأصيل على أصل فيكون جمعاً ككثيب وكثب، ومن ذهب إلى أن آصالاً جمع أصل ومفرد أصل أصيل الفرّاء ويقال: جئناهمموصلين أي عند الأصيل. {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا }. مناسبة هذه الآيةلما قبلها أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث ذكر ابتداء خلق الإنسانوإنشائه تنبيهاً على أن الإعادة ممكنة، كما أن الإنشاء كان ممكناً وإذا كان إبرازه من العدم الصرف إلى الوجود واقعاًبالفعل وإعادته أحرى أن تكون واقعة بالفعل، وقيل: وجه المناسبة أنه لما بين الذين يلحدون في أسمائه ويشتقون منها أسماءلآلهتهم وأصنامهم وأمر بالنظر والاستدلال المؤدي إلى تفرده بالإلهية والربوبية بين هنا أن أصل الشرك من إبليس لآدم وزوجته حينتمنيا الولد الصالح وأجاب الله دعاءهما فأدخل إبليس عليهما الشرك بقوله سمياه عبد الحرث فإنه لا يموت ففعلا ذلك، وقالأبو عبد الله الرازي ما ملخصه لما أمر بالنظر في الملكوت الدال على الوحدانية وقسم خلقه إلى مؤمن وكافر ونفىقدرة أحد من خلقه على نفع نفسه أو ضرّها رجع إلى تقرير التوحيد انتهى، والجمهور على أن المراد بقوله مننفس واحدة آدم عليه السلام فالخطاب بخلقكم عام والمعنى أنكم تفرعتم من آدم عليه السلام وأن معنى وجعل منها زوجهاهي حواء ومنها إما من جسم آدم من ضلع من أضلاعه وإما أن يكون من جنسها كما قال تعالى

{ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا }

وقد مرّ هذان القولان في أول النساء مشروحين بأكثر من هذا ويكون الإخبار بعد هذهالجملة عن آدم وحواء ويأتي تفسيره إن شاء الله تعالى، وعلى هذا القول فسّر الزمخشري الآية وقد رد هذا القولأبو عبد الله الرازي وأفسده من وجوه. الأول فتعالى الله عما يشركون فدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة.الثاني أنه قال بعده أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا ردّ على من جعل الأصنام شركاء ولم يجرلإبليس في هذه الآية ذكر، الثالث لو كان المراد إبليس لقال أيشركون من لا يخلق ثم ذكر الرازي ثلاثة وجوهأخر من جهة النظر يوقف عليها من كتابه، وقال الحسن وجماعة الخطاب لجميع الخلق والمعنى في هو الذي خلقكم مننفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد وجعل منها زوجها أي من جنسها ثم ذكر حال الذكر والأنثى من الخلقومعنى جعلا له شركاء أي حرفاه عن الفطرة إلى الشرك كما جاء: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواههما اللذان يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه». وقال القفال نحو هذا القول قال هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدةوجعل من جنسها زوجها وذكر حال الزوج والزوجة وجعلا أي الزوج والزوجة، لله تعالى شركاء فيما آتاهما لأنهما تارة ينسبونذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين وتارة إلى الأصنام والأوثان كماهو قول عبدة الأصنام انتهى، وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية، وقيل الخطاب بخلقكم خاص وهو لمشركيالعرب كما يقرّبون المولود للات والعزى والأصنام تبركاً بهم في الابتداء وينقطعون بأملهم إلى الله تعالى في ابتداء خلق الولدإلى انفصاله ثم يشركون فحصل التعجب منهم، وقيل: الخطاب خاص أيضاً وهو لقريش المعاصرين للرسول ونفسواحدة هو قضى منها أي من جنسها زوجة عربية قرشية ليسكن إليها والصالح الولد السوي جعلا له شركاء حيث سمياأولادهما الأربعة عبد مناف وعبد العزّى وعبد قصي وعبد الدار والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشركانتهى. {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ليطمئن ويميل ولا ينفر لأنّ الجنس إلى الجنس أمْيَل وبه آنس وإذا كان منها على حقيقتهفالسكون والمحبة أبلغ كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه أو أكثر لكونه بعضاً منه وأنث في قوله منهاذهاباً إلى لفظ النفس ثم ذكر في قوله ليسكن حملاً على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذكر آدم أوغيره على اختلاف التأويلات وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَاحَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ } إن كان الخبر عن آدم فخلق حواء كان في الجنة وأما التغشّي والحمل فكانافي الأرض والتغشي والغشيان والإتيان كناية عن الجماع ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالىويحتمل أن يكون حملاً مصدراً وأن يكون ما في البطن والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأسالشجرة وبالكسر ما كان على ظهر أو على رأس غير شجرة، وحكى يعقوب في حمل النخل، وحكى أبو سعيد فيحمل المرأة حمل وحمل، وقال ابن عطية: الحمل الخفيف هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها، وقرأ حماد بن سلمةعن ابن كثير حملاً بكسر الحاء، وقرأ الجمهور فمرت به، قال الحسن: أي استمرت به، وقيل: هذا على القلب أيفمر بها أي استمر بها، وقال الزمخشري: فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق، وقيل: حملت حملاًخفيفاً يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت فاستمرت به انتهى، وقرأ ابن عباس فيما ذكر النقاش وأبو العالية ويحيـىبن يعمر وأيوب فمرت به خفيفة الراء من المرية أي فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض، وقيل معناه استمرتبه لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه نحو وقرن فيمن فتح من القرار، وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي والجحدري: فمارتبه بألف وتخفيف الراء أي جاءت وذهبت وتصرفت به كما تقول مارت الريح موراً ووزنه فعل، وقال الزمخشري: من المريةكقوله تعالى

{ أَفَتُمَـٰرُونَهُ }

ومعناه ومعنى المخففة فمرت وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت به ووزنه فاعل، وقرأ عبد اللهفاستمرت بحملها، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك فاستمرت به، وقرأ أبي بن كعب والجرمي فاستمارت بهوالظاهر رجوعه إلى المرية بني منها استفعل كما بنى منها فاعل في قولك ماريت. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًافَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ }. أي دخلت في الثقل كما تقول أصبح وأمسى أو صارت ذات ثقل كماتقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن، وقال الزمخشري: أي حان وقت ثقلها كقوله أقربت، وقرىء أثقلت علىالبناء للمفعول ربهما أي مالك أمرهما الذي هو الحقيق أن يدعى ومتعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم أيدعوا الله ورغبا إليه في أن يؤتيَهما صالحاً ثم أقسما على أنهما يكونان من الشاكرين إن آتاهما صالحاً لأن إيتاءالصالح نعمة من الله على والديه كما جاء في الحديث: إن عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث فذكر الولدالصالح يدعو لوالده فينبغي الشكر عليها إذ هي من أجل النعم ومعنى صالحاً مطيعاً لله تعالى أي ولداً طائعاً أوولداً ذكراً لأنّ الذكورة من الصلاح والجودة، قال الحسن: سمياه غلاماً، وقال ابن عباس: بشراً سوياً سليماً، ولنكونن جواب قسممحذوف تقديره وأقسما لئن آتيتنا أو مقسمين لئن آتيتنا وانتصاب صالحاً على أنه مفعول ثان لآتيتنا وفي المشكل لمكي أنهنعت لمصدر أي ابناً صالحاً. { فَلَمَّا ءاتَـٰهُمَا صَـٰلِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا } من جعل الآية في آدموحواء جعل الضمائر والإخبار لهما وذكروا في ذلك محاورات جرت بين إبليس وآدم وحواء لم تثبت في قرآن ولا حديثصحيح فأطرحت ذكرها، وقال الزمخشري: والضمير في آتيتنا ولنكونن لهما ولكلّ من تناسل من ذريتهما فلما آتاهما ما طلبا منالولد الصالح السويّ جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك فيماآتاهما أي آتى أولادهما وقد دلّ على ذلك بقوله تعالى فتعالى الله عما يشركون حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئانمن الشرك ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله بتسمية أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف وعبد شمس وما أشبه ذلك مكان عبدالله وعبد الرحمن وعبد الرحيم انتهى، وفي كلامه تفكيك للكلام عن سياقه وغيره ممن جعل الكلام لآدم وحواء جعل الشركتسميتهما الولد الثالث عبد الحرث إذ كان قد مات لهما ولدان قبله كانا سمّيا كل واحد منهما عبد الله فأشارعليهما إبليس في أن يسميا هذا الثالث عبد الحرث فسمّياه به حرصاً على حياته فالشرك الذي جعلا الله هو فيالتسمية فقط ويكون الضمير في يشركون عائداً على آدم وحواء وإبليس لأنه مدبّر معهما تسمية الولد عبد الحرث، وقيل جعلاأي جعل أحدهما يعني حواء وأما من جعل الخطاب للناس وليس المراد في الآية بالنفس وزوجها آدم وحواء أو جعلالخطاب لمشركي العرب أو لقريش على ما تقدم ذكره فيتّسق الكلام اتساقاً حسناً من غير تكلف تأويل ولا تفكيك، وقالالسدّي والطبري: ثم أخبر آدم وحواء في قوله فيما آتاهما وقوله {فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } كلام منفصل يراد بهمشركو العرب، قال ابن عطية: وهذا تحكّم لا يساعده اللفظ انتهى، والضمير في له عائد على الله ومن زعم أنهعائد على إبليس فقوله بعيد لأنه لم يجر له ذكر وكذا يبعد قول من جعله عائداً على الولد الصالح وفسّرالشرك بالنصيب من الرزق في الدنيا وكانا قبله يأكلان ويشربان وحدهما ثم استأنف فقال: {فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ * عَن مَّا *يُشْرِكُونَ } يعني الكفار، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وإبان بن ثعلب ونافع وأبو بكر عن عاصمشركاً على المصدر وهو على حذف مضاف أي ذا شرك ويمكن أن يكون أطلق الشرك على الشريك كقوله: زيد عدل،قال الزمخشري: أو أحدثا لله إشراكاً في الولد انتهى، وقرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمر وشركاء على الجمع ويبعد نوجيهالآية أنها في آدم وحواء على هذه القراءة وتظهر باقي الأقوال عليها، وفي مصحف أبيّ فلما آتاهما صالحاً أشركا فيه،وقرأ السلمي عما تشركون بالتاء التفاتاً من الغيبة للخطاب وكان الضمير بالواو وانتقالاً من لتثنية للجمع وتقدم توجيه ضمير الجمععلى من يعود. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }. أي أتشركون الأصنام وهي لا تقدر على خلقشيء كما يخلق الله وهم يُخلقون أي يخلقهم الله تعالى ويوجدهم كما يوجدكم أو يكون معناه وهم ينحتون ويصنعون فعبدتهميخلقونهم وهم لا يقدرون على خلق شيء فهم أعجز من عبدتهم وهم عائد على معنى ما وقد عاد الضمير علىلفظ ما في يخلق وعبّر عن الأصنام بقوله وهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائهم. وقيل أتى بضميرمن يعقل لأنّ جملة من عبد الشياطين والملائكة وبعض بني آدم فغلب من يعقل كل مخلوق لله تعالى ويحتمل أنيكون وهم عائداً على ما عاد عليه ضمير الفاعل في أيشركون أي وهؤلاء المشركون يخلقون أي كان يجب أن يعتبروابأنهم مخلوقون فيجعلوا إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً. وقرأ السلمي أتشركون بالتاء من فوق فيظهر أن يكون وهمعائداً على ما على معناها ومن جعل ذلك في آدم وحواء قال: إنّ إبليس جاء إلى آدم وقد مات لهولد اسمه عبد الله فقال إن شئت أن يعيش لك الولد فسمّه عبد شمس فسماه كذلك فإياه عنى بقوله أتشركونما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون عائد على آدم وحوّاء والابن المسمى عبد شمس. {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْيَنصُرُونَ } أي ولا تقدر الأصنام أن يعبدهم على نصر ولا لأنفسهم إن حدث بهم حادث بل عبدتهم الذين يدفعونعنها ويحمونها ومن لا يقدر على نصر نفسه كيف يقدر على نصر غيره. {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءعَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـٰمِتُونَ } الظاهر أن الخطاب للكفار انتقل من الغيبة إلى الخطاب على سبيل الالتفات والتوبيخ علىعبادة غير الله ويدلّ على أنّ الخطاب للكفار قوله بعد إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم وضمير المفعولعائد على ما عادت عليه هذه الضمائر قبل وهو الأصنام والمعنى وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشادأو إلى أن يهدوكم كما تطلبون من الله الهدي والخير لا يتبعوكم على مرادكم ولا يجيبوكم أي ليست فيهم هذهالقابلية لأنها جماد لا تعقل ثم أكد ذلك بقوله سواء عليكم أي دعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سيّان فكيف يعبد منهذه حاله؟ وقيل: الخطاب للرسول والمؤمنين وضمير النصب للكفار أي وإن تدعوا الكفار إلى الهدى لا يقبلوا منكم فدعاؤكم وصمتكمسيّان أي ليست فيهم قابلية قبول ولا هدى، وقرأ الجمهور لا يتبعوكم مشدداً هنا وفي

{ الشعراء يتبعهم الغاوون }

من اتبعومعناها لا يقتدوا بكم، وقرأ نافع فيهما لا يتّبعوكم مخففاً من تبع ومعناه لا يتبعوا آثاركم وعطفت الجملة الإسمية علىالفعلية لأنها في معنى الفعلية والتقدير أم صمتم، وقال ابن عطية: وفي قوله أدعوتموهم أم أنتم عطف الاسم على الفعلإذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر:

سواء عليك النفر أم بت ليلة     بأهل القباب من نمير بن عامر

انتهى. وليس من عطف الاسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإسمية علىالجملة الفعلية وأما البيت فليس من عطف الاسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الاسم المقدّر بالجملة الفعليةإذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت وكانت الجملة الثانية إسمية لمراعاة رؤوس الآيولأنّ الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم وإذا لم يحدثبقوا ساكتين فقيل لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليهمن عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة. {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِنكُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شيء من نفعأو ضرّ أي الذين تدعونهم وتسمونهم آلهة من دون الله الذي أوجدها وأوجدكم هم عباد وسمّى الأصنام عباداً وإن كانتجمادات لأنهم كانوا يعتقدون فيها أنها تضرّ وتنفع فاقتضى ذلك أن تكون عاقلة و{أمثالكم}. قال الحسن في كونها مملوكة لله،وقال التبريزي في كونها مخلوقة، وقال مقاتل: المراد طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم تعالى أنهم عبادأمثالهم لا آلهة انتهى، فعلى هذا جاء الإخبار إخباراً عن العقلاء، وقال الزمخشري: {عباد أمثالكم} استهزاء بهم أي قصارى أمرهمأن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فمنهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال:ألهم {أرجل يمشون بها} انتهى؟ وليس كما زعم لأنه تعالى حكم على هؤلاء المدعوّين من دون الله أنهم عباد أمثالالداعين فلا يقال في الخبر من الله فإن ثبت ذلك لأنه ثابت ولا يصحّ أن يقال ثم أبطل أن يكونواعباداً أمثالكم فقال {ألهم أرجل} لأن قوله {ألهم أرجل} ليس إبطالاً لقوله {عباد أمثالكم} لأن المثلية ثابتة أما في أنهممخلوقون أو في أنهم مملوكون مقهورون وإنما ذلك تحقير لشأن الأصنام وأنهم دونكم في انتفاء الآلات التي أعدت للانتفاع بهامع ثبوت كونهم أمثالكم فيما ذكر ولا يدلّ إنكار هذه الآلات على انتفاء المثلية فيما ذكر وأيضاً فالأبطال لا يتصوربالنسبة إليه تعالى لأنه يدلّ على كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى، وقد بيّنا ذلك في قوله

{ أولئك كالأنعام بل هم أضلّ }

وقرأ ابن جبير إن خفيفة وعباداً أمثالكم بنصب الدال واللام واتفق المفسرون على تخريج هذهالقراءة على أنّ إن هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الاسم ونصبت الخبر فعباداً أمثالكم خبر منصوب قالوا: والمعنىبهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل وإعمالإن إعمال ما الحجازية فيه خلاف أجاز ذلك الكسائي وأكثر الكوفيين ومن البصريين ابن السّراج والفارسي وابن جني ومنع منإعماله الفرّاء وأكثر البصريين واختلف النقل عن سيبويه والمبرّد والصحيح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم وقد ذكرناذلك مشبعاً في شرح التسهيل وقال النحاس: هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها بثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسوادوالثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر أن إذا كانت بمعنى ما فيقول: إن زيد منطلق لأن عمل ما ضعيفوإن بمعناها فهي أضعف منها والثالثة أن الكسائي رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكونبعدها إيجاب انتهى وكلام النحاس هذا هو الذي لا ينبغي لأنها قراءة مروية عن تابعيّ جليل ولها وجه في العربيةوأما الثلاث جهات التي ذكرها فلا يقدح شيء منها في هذه القراءة أما كونها مخالفة للسواد فهو خلاف يسير جدًّالا يضرّ ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالفة للسوادوأما ما حكي عن سيبويه فقد اختلف الفهم في كلام سيبويه في أنّ وأما ما حكاه عن الكسائي فالنقل عنالكسائي أنه حكى إعمالها وليس بعدها إيجاب والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أن إن للنفي ليسبصحيح لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عباداً أمثال عابديها وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلىعدم مطابقة أحد الخبرين الآخر وهو لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى، وقد خرجت هذه القراءة في شرح التسهيل علىوجه غير ما ذكروه وهو أن إن هي المخففة من الثقيلة وأعملها عمل المشددة وقد ثبت أن إن المخففة يجوزإعمالها عمل المشدّدة في غير المضمر بالقراءة المتواترة وإن كلا لما وبنقل سيبويه عن العرب لكنه نصب في هذه القراءةخبرها نصب عمر بن أبي ربيعة المخزومي في قوله:

إذا اسود جنح الليل فلتأتِ ولتكن     خطاك خفافاً إن حرّاسنا أسدا

وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار إنّ وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة علىصحة مذهبهم وتأولها المخالفون، فهذه القراءة الشاذة تتخرّج على هذه اللغة أو تتأوّل على تأويل المخالفين لأهل هذا المذهب وهوأنهم تأولوا المنصوب على إضمار فعل كما قالوا في قوله:

يــا ليـت أيـام الصّبــا رواجعــا    

إن تقديره أقبلت رواجعا فكذلكتؤول هذه القراءة على إضمار فعل تقديره أن الذين تدعون من دون الله تدعون عباداً أمثالكم، وتكون القراءتان قد توافقتاعلى معنى واحد وهو الإخبار أنهم عباد، ولا يكون تفاوت بينهما وتخالف لا يجوز في حقّ الله تعالى وقرىء أيضاًإن مخففة ونصب عباداً على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين وأمثالكم بالرفع على الخبر أيأن الذين تدعونهم من دون الله في حال كونهم عباداً أمثالكم في الخلق أو في الملك فلا يمكن أن يكونواآلهة فادعوهم أي فاختبروهم بدعائكم هل يقع منهم إجابة أو لا يقع والأمر بالاستجابة هو على سبيل التعجيز أي لايمكن أن يجيبوا كما قال:

{ ولو سمعوا ما استجابوا لكم }

ومعنى {إن كنتم صادقين} في دعوى إلهيتهم واستحقاق عبادتهم كقولإبراهيم عليه السلام لأبيه

{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً }

. {لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَبِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ }. هذا استفهام إنكاروتعجيب وتبيين أنهم جماد لا حراك لهم وأنهم فاقدون لهذه الأعضاء ومنافعها التي خلقت لأجلها فأنتم أفضل من هذه الأصنامأذلكم هذا التصرف وهذا الاستفهام الذي معناه الإنكار قد يتوجه الإنكار فيه إلى انتفاء هذه الأعضاء وانتفاء منافعها فيتسلط النفيعلى المجموع كما فسرناه لأنّ تصويرهم هذه الأعضاء للأصنام ليست أعضاء حقيقة وقد يتوجه النفي إلى الوصف أي وإن كانتلهم هذه الأعضاء مصوّرة فقد انتفت هذه المنافع التي للأعضاء والمعنى أنكم أفضل من الأصنام بهذه الأعضاء النافعة وأم هنامنقطعة فتقدر ببل والهمزة وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الأبطال وإنما هو تقدير على نفي كلّ واحدةمن هذه الجمل وكان ترتيب هذه الجمل هكذا لأنه بدىء بالأهم ثم اتبع بما هو دونه إلى آخرها، وقرأ الحسنوالأعرج ونافع بكسر الطاء، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بضمها وقال أبو عبد الله الرازي: تعلق بعض الأغمار بهذه الآيةفي إثبات هذه الأعضاء لله تعالى فقالوا: جعل عدمها للأصنام دليلاً على عدم إلهيتها فلو لم تكن موجودة له تعالىلكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية وذلك باطل فوجب القول بإثباتها له تعالى والجواب من وجهين، أحدهما: أن المقصود منالآية أن الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصم لأنه له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم وإنصُوِّرت له هذه الأعضاء بخلاف الإنسان فالإنسان أكمل وأفضل فلا يشتغل بعبادة الأخس الأدون والثاني أن المقصود تقرير الحجة التيذكرها قبل وهي لا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون يعني كيف يحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرّثم قرر أنّ هذه الأصنام انتفت عنها هذه الأعضاء ومنافعها فليست قادرة على نفع ولا ضر فامتنع كونها آلهة أماالله تعالى فهو وإن كان متعالياً عن هذه الأعضاء فهو موصوف بكمال القدرة على النفع والضرّ وبكمال السمع والبصر انتهى،وفيه بعض تلخيص. {قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام وحقّر شأنهاوأظهر كونها جماداً عارية عن شيء من القدرة أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك أي لا مبالاة بكم ولابشركائكم فاصنعوا ما تشاؤون وهو أمر تعجيز أي لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم ولا كيد لي وكانوا قدخوّفوه آلهتهم، ومعنى ادعوا شركاءكم استعينوا بهم على إيصال الضرّ إلى ثم كيدون أي امكروا بي ولا تؤخرون عما تريدونبي من الضرّ وهذا كما قال قوم هود:

{ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون }

وسمي الأصنام شركاءهم من حيث أن لهم نسبة إليهمبتسميتهم إياهم آلهة وشركاء الله تعالى، وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه كيدوني بإثبات الياء وصلاً ووقفاً وقرأ باقي السبعةبحذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها.وتقدّم قوله {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } قال الواحدي: أعيد هذا المعنى لأنّالأوّل مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنهقيل الإلۤه المعبود يجب أن يكون يتولّى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكون صالحة للإلۤهية انتهى، ومعنى قوله علىجهة التقريع أن قوله: و {لاَ يَسْتَطِيعُونَ } معطوف على قوله {مَا لاَ يَخْلُقُ } وهو في حيّز الإنكار والتقريعوالتوبيخ على إشراكهم من لا يمكن أن يوجد شيئاً ولا ينشئه ولا ينصر نفسه فضلاً عن غيره وهذه الآية كماذكر جاءت على جهة الفرق ومندرجة تحت الأمر بقوله: {قُلِ ٱدْعُواْ } فهذه الجمل مأمور بقولها وخطاب المشركين بها إذكانوا يخوفون الرسول عليه السلام بآلهتهم فأمر أن يخاطبهم بهذه الجمل تحقيراً لهم ولأصنامهم وإخباراً لهم بأنّ وليه هو اللهفلا مبالاة بهم ولا بأصنامهم. {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }. تناسقالضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في {وَإِن تَدْعُوهُمْ } هو للأصنام ونفي عنهم السماع لأنها جماد لا تحسّ وأثبت لهمالنظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوّروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر ومن قلب حدقته للنظر ثم نفى عنهمالإبصار كقوله

{ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً }

ومعنى إليك أيها الداعيوأفرد لأنه اقتطع قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } منم جملة الشرط واستأنف الإخبار عنهم بحالهم السيىء في انتفاء الإبصار كانتفاءالسماع، وقيل المعنى في قوله {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } أي يحاذونك من قولهم المنازل تتناظر إذا كانت متحاذية يقابل بعضها بعضاًوذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه ولا حجة لهم في الآيةلأنّ النظر في الأصنام مجاز محض وجعل الضمير للأصنام اختاره الطبري قال: ومعنى الآية تتبيين جمودها وصغر شأنها، قال: وإنماتكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأنّ أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكناً من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستولياًعلى عقولها لطفاً من الله تعالى بهم، وقال مجاهد والحسن والسدّي: الضمير المنصوب {فِى * تَدْعُوهُمْ } يعود على الكفارووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصّل لهم عن الاستماع والنظر فائدة ولا حصلوا منه بطائل وهذا تأويلحسن ويكون إثبات النظر حقيقة لا مجازاً، ويحسّن هذا التأويل الآية بعد هذه إذ في آخرها {وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ }أي الذين من شأنهم أن تدعوهم لا يسمعوا وينظرون إليك وهم لا يبصرون فتكون مرتّبة على العلة الموجبة لذلك وهيالجهل. {خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ }. هذا خطاب لرسول الله ويعمّ جميعأمته وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق، وقال عبد الله بن الزبير ومجاهد وعروة والجمهور: أي اقبل من الناس في أخلاقهموأموالهم ومعاشرتهم بما أتى عفواً دون تكلّف ولا تخرّج والعفو ضد الجهد أي لا تطلب منهم ما يشق عليهم حتىلا ينفروا وقد أمر بذلك رسول الله بقوله: يسروا ولا تعسروا . وقال حاتم:

خذي العفو مني تستديمي مودّتي     ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وقال الآخر:

إذا ما بلغة جاءتك عفوا     فخذها فالغنى مرعى وشرب إذا اتفق القليل وفيه سلم

وقال الشعبي: سأل الرسول صلى اللهعليه وسلم جبريل عليه السلام عن قوله تعالى: {خُذِ ٱلْعَفْوَ }، فأخبره عن الله تعالى أنه يأمرك أن تعفو عمنظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك، وقال ابن عباس والضحاك والسدّي: هي في الأموال قبل فرض الزكاة أمر أنيأخذ ما سهل من أموال الناس أي ما فضل وزاد ثم فرضت الزكاة فنسخت هذه، وتؤخذ طوعاً وكرهاً، وقال مكيعن مجاغهد إن العفو هو الزكاة المفروضة، وقال ابن زيد: الآية جميعها في مداراة الكفار وعدم مؤاخذتهم ثم نسخ ذلكبالقتال انتهى، والذي يظهر القول الأوّل من أنه أمر بمكارم الأخلاق وأن ذلك حكم مستمر في الناس ليس بمنسوخ ويدلّعليه حديث الحر بن قيس حين أدخل عيينة بن حصن على عمر فكلم عمر كلاماً فيه غلظة فأراد عمر أنيهمّ به فتلا الحر هذه الآية على عمر فقرّرها ووقف عندها. والعرف المعروف والجميل من الأفعال والأقوال، وقرأ عيسىبن عمر {بِٱلْعُرْفِ } بضم الراء والأمر بالإعراض عن الجاهلين حضّ على التخلق بالحلم والتنزه عن منازعة السفهاء وعلى الإغضاءعما يسوء كقول من قال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، وقول الآخران كان ابن عمتك وكالذي جذبرداءه حتى جزّ في عنقه وقال: أعطني من مال الله، وخرج البزار في مسنده من حديث جابر بن سليم ماوصاه به الرسول اتقِ الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء {إِنَّ وَلِيّىَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْكِتَـٰبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّـٰلِحِينَ } لما أحالهم على الاستنجادبآلهتهم في ضره وأراهم أنّ الله هو القادر على كل شيء عقب ذلك بالاستناد إلى الله تعالى والتوكل عليه والإعلامأنه تعالى هو ناصره عليهم وبين جهة نصره عليهم بأن أوحى إليه كتابه وأعزّه برسالته ثم أنه تعالى يتولى الصالحينمن عباده وينصرهم على أعدائه ولا يخذلهم، وقرأ الجمهور إن وليـي الله بياء مشدّدة وهي ياء فعيل أدغمت في لامالكلمة وبياء المتكلم بعدها مفتوحة، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بياء واحدة مشددة مفتوحة ورفع الجلالة، قال أبو عليلا يخلو من أن يدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة وهولا يجوز لأنه ينفك الإدغام الأول أوتدغم ياء فعيل في ياء الإضافة، ويحذف لام الفعل فليس إلا هذا انتهى ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخروهو أن لا يكون ولي مضافاً إلى ياء متكلم بل هو اسم نكرة اسم إنّ والخبر الله وحذف من وليّالتنوين لالتقاء الساكنين كما حذف من قوله

{ قل هو الله أحد }

وقوله ولا ذاكر الله إلا قليلاً والتقدير أنّ وليًّاحقّ وليّ الله الذي نزل الكتاب وجعل اسم إنّ نكرة والخبر معرفة في فصيح الكلام. قال الشاعر:

وإن حراماً أن أسب مجاشعا     بآبائي الشمّ الكرام الخضارم

وهذا توجيه لهذه القراءة سهل واختلف النقل عنالجحدري فنقل عنه صاحب كتاب اللوامح في شواذ القراءات إن وليّ بياء مكسورة مشدّدة وحذفت ياء المتكلم لما سكنت التقىساكنان فحذفت، كما تقول: إن صاحبي الرجل الذي تعلم، ونقل عنه أبو عمرو الداني أنّ ولي الله بياء واحدة منصوبةمضافة إلى الله وذكرها الأخفش وأبو حاتم غير منصوبة وضعفها أبو حاتم وخرّج الأخفش وغيره هذه القراءة على أن يكونالمراد جبريل، قال الأخفش: فيصير {الذي نزل الكتاب} من صفة جبريل بدلالة

{ قل نزله روح القدس }

وفي قراءة العامة منصفة الله تعالى انتهى، يعني أن يكون خبر إن هو قوله الذي نزل الكتاب، قال الأخفش: فأما وهو يتولى الصالحينفلا يكون إلا من الإخبار عن الله تعالى وتفسير هذه القراءة بأن المراد بها جبريل وإن احتملها لفظ الآية لايناسب ما قبل هذه الآية ولا ما بعدها ويحتمل وجهين من الإعراب ولا يكون المعنى جبريل أحدهما أن يكون وليّالله اسم إنّ والذي نزل الكتاب هو الخبر على تقدير حذف الضمير العائد على الموصول، والموصول هو النبي صلى اللهعليه وسلم، والتقدير أنّ ولي الله الشخص الذي نزل الكتاب عليه فحذف عليه وإن لم يكن فيه شرط جواز الحذفالمقيس لكنه قد جاء نظيره في كلام العرب. قال الشاعر:

وإن لساني شهدة يشتفى بها     وهو على من صبه الله علقم

التقدير وهو على من صبه الله عليه علقم. وقال الآخر:

فأصبح من أسماء قيس كقابض     على الماء لا يدري بما هو قابض

التقدير بما هو قابض عليه، وقال الآخر:

لعلّ الذي أصعدتني أن يردني     إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره

يريد أصعدتنيبه. وقال الآخر:

فأبلغن خالد بن نضله     والمرء معنى بلوم من يثق

يريد يثقبه. وقال الآخر:

ومن حسد يجور عليّ قومي     وأي الدّهر ذر لم يحسدوني

يريدلم يحسدوني فيه. وقال الآخر:

فقلت لها لا والذي حج حاتم     أخونك عهداً إنني غير خوّان

قالوا يريد حج حاتم إليه فهذه نظائر من كلام العرب يمكن حمل هذه القراءة الشاذة عليها، والوجه الثانيأن يكون خبر إن محذوفاً لدلالة ما بعده عليه التقدير إن وليّ الله الذي نزل الكتاب من هو صالح أوالصالح، وحذف لدلالة وهو يتولى الصالحين عليه وحذف خبر إن وأخواتها لفهم المعنى جائز ومنه قوله تعالى:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَـٰبٌ عَزِيزٌ }

الآية وقوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }

الآيةوسيأتي تقدير حذف الخبر فيهما إن شاء الله. {وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ }أي من دون الله ويتعيّن عود الضمير في من دونه على الله وبذلك يضعف من فسر {ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْكِتَـٰبَ }بجبريل، وهذه الآية بيان لحال الأصنام وعجزها عن نصرة أنفسها فضلاً عن نصرة غيرها المستسقى وإن امرؤ سبّك بما لايعلم منك فلا تسبَّه بما تعلم فيه فإنّ الله جاعل لك أجراً وعليه وزراً ولا تسبن شيئاً مما خولك الله».وقال جعفر الصادق: أمر الله تعالى نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها. {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَمِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق فاطلب العياذةبالله منه وهي اللواذ والاستجارة، قيل: لما نزلت خذ العفو الآية قال رسول الله : كيف والغضبفنزلت ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وفاعل ينزغنك هو نزغ على حدّ قولهم جدجده أو على إطلاق المصدر، والمراد به نازغوختم بهاتين الصفتين لأنّ الاستعاذة تكون بالنسيان ولاتجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر، قال ابنعطية: الآية وصية من الله تعالى لنبيه تعم أمته رجلاً رجلاً ونزغ الشيطان عام في الغضبوتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك وفي مصنف أبي عيسى الترمذي عن النبي أنه قال: إنّ للملك لمة وإن للشيطان لمة وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله: إنّ الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع العليممن الشيطان الرجيم انتهى. واستنباط ذلك من الآية ضعيف لأن قوله: إنه سميع عليم جرى مجرى التعليل لطلب الاستجارة باللهأي لا تستعذ بغيره فإنه هو السميع لما تقول أو السميع لما تقوله الكفار فيك حين يرومون إغضابك العليم بقصدكفي الاستعاذة أو العليم بما انطوت عليه ضمائرهم من الكيد لك فهو ينصرك عليهم ويجيرك منهم. {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْإِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } النزغ من الشيطان أحفّ من مس الطائف من الشيطان لأنالنزغ أدنى حركة والمس الإصابة والطائف ما يطوف به ويدور عليه فهو أبلغ لا محالة فحال المتقين تزيد في ذلكعلى حال الرسول، وانظر لحسن هذا البيان حيث جاء الكلام للرسول كان الشرط بلفظ إن المحتملة للوقوع ولعدمه، وحيث كانالكلام للمتقين كان المجيء بإذا الموضوعة للتحقيق أو للترجيح، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمسّواقع لا محالة أو يرجح وقوعه وهو إلصاق البشرة وهو هنا استعارة وفي تلك الجملة أمر هو صلى الله عليهوسلم بالاستعاذة، وهنا جاءت الجملة خبريّة في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا فدكل على تمكن مسّ الطائف حتى حصل نسيانفتذكروا ما نسوه والمعنى تذكروا ما أمر به تعالى وما نهى عنه، وبنفس التذكر حصل إبصارهم فاجأهم إبصار الحقّ والسدادفاتبعوه وطروا عنهم مسّ الشيطان الطائف، واتقوا قيل: عامّة في كل ما يتقى، وقيل: الشرك والمعاصي، وقيل: عقاب الله، وقرأالنحويان وابن كثير: طيف فاحتمل أن يكون مصدراً من طاف يطيف طيفاً أنشد أبو عبيدة:

أني ألمّ بك الخيال يطيف     ومطافه لك ذكره وشغوف

واحتمل أن يكون مخفّفاً من طيف كميت وميت أو كلينمن لين لأنّ طاف المشددة يحتمل أن يكون من طاف يطيف ويحتمل أن يكون من طاف يطوف، وقرأ باقي السبعةطائف اسم فاعل من طاف، وقرأ ابن جبير طيف بالتشديد وهو فيعل وإلى أن الطيف مصدر مال الفارسي جعل الطيفكالخطرة والطائف كالخاطر، وقال الكسائي: الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان. قال ابن عطية: وكيف هذا؟ وقد قال الأعشى:

وتصبح عن غب السّرى وكأنها     ألمّ بها من طائف الجن أولق

انتهى. ولا يتعجبمن تفسير الكسائي الطائف بأنه ما طاف حول الإنسان بهذا البيت لأنه يصح فيه معنى ما قاله الكسائي لأنه إنكان تعجبه وإنكاره من حيث خصّص الإنسان والذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال كأنها وإن كان تعجّبه من حيث فسّربأنه ما طاف حول الإنسان، فطائف الجن يصك أن يقال طاف حول الإنسان وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعهاالفيافي عجلة بحالتها إذا ألمّ بها أولق من طائف الجنّ، وقال أبو زيد: طاف أقبل وأدبر يطوف طوفاً وطوافاً وأطافاستدار القوم وأتاهم من نواحيهم، وطاف الخيال ألمّ يطيف طيفاً وزعم السهيلي أنه لم يقل اسم فاعل من طاف الخيالقال: لأنه تخيل لا حقيقة وأما فطاف عليها طائف من ربك فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة انتهى،وقال حسّان:

جنّيّة أرّقني طيفها     تذهب صبحاً وتُرى في المنام

وقال ابن عباس: همابمعنى النزع، وقال السدّي: الطيف الجنون، والطائف الغضب، وقال أبو عمرو: هما بمعنى الوسوسة، وقيل: هما بمعنى اللمم والخيال، وقيل:الطيف النخيل، والطائف الشيطان، وقال مجاهد: الطيف الغضب ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمّة من الشيطان، وقال عبد اللهبن الزبير والسدّي: إذا زلوا تابوا، وقال مجاهد: إذا همّوا بذنب ذكروا الله فتركوه، وقال ابن جبير: إذا غضب كظمغيظه، وقال مقاتل: إذا أصابه نزغ تذكر وعرف أنها معصية نزع عنها مخافة الله تعالى، وقال أبو روق: ابتهلوا، وقالابن بحر: عاذوا بذكر الله، وقيل: تفكّروا فأبصروا وهذه كلها أقوال متقاربة وسب عصام بن المصطلق الشامي الحسين بن عليرضي الله عنه سبًّا مبالغاً وأباه إذ كان مبغضاً لأبيه فقال الحسين بن علي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسمالله الرحمن الرحيم خذ العفو وأمر بالعرف إلى قوله فإذا هم مبصرون، ثم قال: خفض عليك أستغفر الله لي ولكودعا له في حكاية فيها طول ظهر فيها من مكارم أخلاقه وسعة صدره وحوالة الأشياء على القدر ما صيّر عصاماأشد الناس حبا له ولأبيه وذلك باستعماله هذه الآية الكريمة وأخذ بها، ومبصرون هنا من البصيرة لا من البصر، وقرأابن الزبير من الشيطان تأملوا وفي مصحف أبي إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا فإذا هم مبصرون وينبغي أن يحملهذا، وقراءة ابن الزبير على أن ذلك من باب التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد ما أجمع المسلمون عليهمن ألفاظ القرآن. {وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }. الضمير في {وإخوانهم} عائد على الجاهلين أو علىما دل عليه قوله {إن الذين اتقوا} وهم غير المتقين لأن الشيء قد يدل على مقابله فيضمر ذلك المقابل لدلالةمقابله عليه وعنى بالإخوان على هذا التقدير الشياطين كأنه قيل: والشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدّون الجاهلينأو غير المتقين في الغيّ فالواو وفي {يمدّونهم} ضمير الإخوان فيكون الخبر جارياً على من هو له والضمير المجرور والمنصوبللكفار وهذا قول قتادة، وقال ابن عطية: ويحتمل أن يعودا جميعاً على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغيّ بخلافالأخوة في الله يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق {في الغيّ} بالإمدادلأنّ الإنس لا يعودون الشياطين انتهى، ويمكن أن يتعلق {في الغيّ} على هذا التأويل بقوله {يمدّونهم} على أن تكون {في}للسببية أي {يمدّونهم} بسبب غوايتهم نحو [دخلت امرأة النار في هرة] أي بسبب هرة، ويحتمل أن يكون {في الغيّ} حالاًفيتعلق بمحذوف أي كائنين ومستقرين في الغيّ فيبقى في الغيّ في موضعه لا يكون منعلقاً بقوله {وإخوانهم} وقد جوز ذلكابن عطية وعندي في ذلك نظر فلو قلت: مطعمك زيد لحماً تريد مطعمك لحماً زيد فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبرلكان في جواز نظر لأنك فصلت بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما الذي هو المبتدأويحتمل أن يختلف الضمير فيكون في {وإخوانهم} عائد على الشياطين الدالّ عليهم الشيطان أو على الشيطان نفسه باعتبار أنه يرادبه الجنس نحو قوله:

{ أولياؤهم الطاغوت }

المعنى الطواغيت ويكون في {يمدّونهم} عائد على الكفار والواو في {يمدّونهم} عائدة على الشياطينوإخوان الشياطين {يمدّونهم} الشياطين ويكون الخبر جرى على غير من هو له، لأن الإمداد مسند إلى الشياطين لا لإخوانهم وهذانظير قوله:

قـوم إذا الخيـل جـالوا في كواثيهـا    

وهذا الاحتمال هو قول الجمهور وعليه فسّر الطبري، وقال الزمخشري: هو أوجهلأن {إخوانهم} في مقابلة {الذين اتقوا}، وقرأ نافع {يمدونهم} مضارع أمدّ، وباقي السبعة يمدونهم من مدّ وتقدم الكلام على ذلكفي قوله ويمدّهم في طغيانهم يعمهون، وقرأ الجحدري يمادّونهم من مادّ على وزن فاعل، وقرأ الجمهور: لا يقصرون من أقصرأي كفّ. قال الشاعر:

لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر     ولا مقصر يوماً فيأتيني بقر

أيولا هو نازع عما هو فيه، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر ثم لا يقصّرون من قصر أي ثملا ينقصون من إمدادهم وغوايتهم وقد أبعد الزجاج في دعواه أن قوله وإخوانهم الآية متصل بقوله {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًاوَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } ولا حاجة إلى تكلف ذلك بل هو كلام متناسق أخذ بعضه بعنق بعض لما بين حالالمتّقين مع الشياطين بين حال غير المتقين معهم وأن أولئك ينفس ما يمسهم من الشيطان ماس أقلعوا على الفور وهؤلاءفي إمداد من الغيّ وعدم نزوع عنه. {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِـئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ ٱجْتَبَيْتَهَا }. روى أنّ الوحي كانيتأخر عن النبي أحياناً فكان الكفار يقولون: هلا اجتبيتها ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها،وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم: المراد هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك والمعنى أنّ كلامككله كذلك على ما كانت قريش تدعيه كما قالوا

{ هذا إلا إفك مفترى }

قال الفرّاء تقول العرب اجتبيت الكلامواختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك، وقال الزمخشري: اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقوله اجتمع أو جبىإليه فاجتباه أي أخذه كقولك: جليت العروس إليه فاجتلاها والمعنى هلا اجتمعتها افتعالاً من قبل نفسك، وقال ابن عباس أيضاًوالضحاك: هلا تلقيتها، وقال الزمخشري هلاّ أخذتها منزلة عليك مقترحة انتهى، وهذا القول منهم من نتائج الإمداد في الغيّ كانوايطلبون آيات معينة على سبيل التعنّت كقلب الصفا ذهباً وإحياء الموتى وتفجير الأنهار وكم جاءتهم من آية فكذبوا بها واقترحواغيرها. {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى } بيّن أنه ليس مجيء الآيات إليه إنما هو متبعما أوحاه الله تعالى إليه ولست بمفتعلها ولا مقترحها. {هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } أي هذا الموحى إليّ الذي أناأتبعه لا أبتدعه وهو القرآن بصائر أي حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيّات وهي جمع بصيرة كقوله

{ على بصيرة أنا ومن اتبعني }

أي على أمر جليّ منكشف وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات، وقيل: هو على حذفمضاف أي ذو بصائر. {وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي دلالة إلى الرّشد ورحمة في الدارين وفي الدين والدنيا وخصّالمؤمنين لأنهم الذين يستبصرون وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ويؤمنون بماتضمنه، وقال أبو عبد الله الرازي: أصل البصيرة الإبصار لما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلالة التوحيد والنبوة والمعادأطلق عليه اسم البصيرة تسميةً للسبب باسم المسبّب والناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام، أحدها: الذين بالغوا فيهذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين فالقرآن في حقهم بصائر، والثاني: الذين وصلوا إلى درجاتالمستدلين وهم أصحاب علم اليقين فهو في حقهم هدى، والثالث: من اعتقد ذلك الاعتقاد الجزم وإنْ لم يبلغ مرتبة المستدلّينوهم عامة المؤمنين فهو في حقهم رحمة، ولما كانت هذه الفرق الثلاث من المؤمنين قال لقوم يؤمنون انتهى، وفيه تكميلوبعض تلخيص. {وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمرباستماعه إذا شرع في قراءته وبالإنصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه لأنّ ما اشتمل على هذه الأوصاف من البصائر والهدىوالرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحصل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلالويرحم بها والظاهر استدعاء الاستماع والإنصاب إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرىء، وقال ابن مسعود وأبو هريرة وجابر وعطاءوابن المسيب والزهري وعبيد الله بن عمر: إنها في المشركين كانوا إذا صلى الرسول يقولون: لاتسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه فنزلت جواباً لهم، وقال عطاء أيضاً وابن جبير ومجاهد وعمرو بن دينار وزيد بن أسلموالقاسم بن عمخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبد الله بن المبارك: هي في الخطبة يوم الجمعة وضعف هذاالقول بأنّ ما يقرأ في الخطبة من القرآن قليل وبأنّ الآية مكية والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة من مكة،وقال ابن جبير إنها في الأنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر فيه الإمام من الصلاة، وقال ابنمسعود أيضاً: كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ويكلمه في حاجته فأمرنا بالسكوت في الصلاة بهذه الآية، وقال ابنعباس: قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ الصحابة رافعي أصواتهم فخلطوا عليه فالآية فيهم، وقيل: هو أمر بالاستماع والإنصات إذ أدّىالوحي، وقال جماعة منهم الزجاج: ليس المراد الصلاة ولا غيرها وإنما المراد بقوله فاستمعوا له وأنصتوا اعملوا بما فيه ولاتجاوزوه، كقولك: سمع الله دعاءك أي أجابك، وقال الحسن: هي على عمومها ففي أي موضع قرىء القرآن وجب على كلحاضر استماعه والسكوت والخطاب في قوله فاستمعوا إن كان للكفار فترجى لهم الرحمة باستماعه والإصغاء إليه بأن كان سبباً لإيمانهموإن كان للمؤمنين فرحمتهم هو ثوابهم على الاستماع والإنصات والعمل بمقتضاه، وإن كان للجميع فرحمة كلّ منهم على ما يناسبهولعلّ باقية على بابها من توقع الترجي، وقيل: هي للتعليل. {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ }. لما أمرهم تعالى بالاستماع والإنصات إذا شرع في قراءة القرآن ارتقى منأمرهم إلى أمر الرسول أن يذكر ربه في نفسه أي بحيث يراقبه ويذكره في الحالة التيلا يشعر بها أحد وهي الحالة الشريفة العليا، ثم أمره أن يذكره دون الجهر من القول أي يذكره بالقول الخفيالذي لا يشعر بالتذلّل والخشوع من غير صياح ولا تصويت شديد كما تناجى الملوك وتستجلب منهم الرغائب، وكما قال للصحابةوقد جهروا بالدعاء إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً اربؤوا على أنفسكم وكان كلام الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلىالله عليه وسلم سراراً وكما قال تعالى:

{ إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

وقال تعالى:

{ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ }

لأنّ في الجهر عدم مبالاة بالمخاطب وظهور استعلاء وعدم تذلّلوالذكر شامل لكلّ من التهليل والتسبيح وغير ذلك وانتصب تضرّعاً وخيفة على أنهما مفعولان من أجلهما لأنهما يتسبب عنهما الذكروهو التضرّع في اتصال الثواب والخوف من العقاب ويحتمل أن ينتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال أي متضرعاً وخائفاًأو ذا تضرُّع وخيفة، وقرىء وخفية والظاهر أن قوله واذكر خطاب للرسول ، وقيل: خطاب لكلّ ذاكر،وقال ابن عطية: خطاب له ويعمّ جميع أمته، والظاهر تعلّق الذكر بالرب تعالى لأنّ استحضار الذات المقدسة استحضار لجميع أوصافها،وقيل: هو على حذف مضاف أي واذكر نعم ربك في نفسك باستدامة الفكر حتى لا تنسى نعمه الموجبة لدوام الشكر،وفي لفظة ربك من التشريف بالخطاب والإشعار بالإحسان الصادر من المالك للملوك ما لا خفاء فيه ولم يأت التركيب واذكرالله ولا غيره من الأسماء وناسب أيضاً لفظ الرب قوله تضرعاً وخيفة لأنّ فيه التصريح بمقام العبودية والظاهر أن قولهودون الجهر من القول حالة مغايرة لقوله في نفسك لعطفها عليها والعطف يقتضي التغاير، وقال ابن عطية: والجمهور على أنالذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان قال: ويدل عليه من هذه الآية قوله تعالى ودون الجهرمن القول فهذه مرتبة السرّ والمخافتة باللفظ انتهى، ولا دلالة في ذلك لما زعم بل الظاهر المغايرة بين الحالتين وأنهماذكران نفساني ولساني، ولذلك قال الزمخشري ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى جنس التفكر انتهى،ولما ذكر حالتي الذكر وسببهما وهما التضرُّع والخفية ذكر أوقات الذكر فقيل: أراد خصوصية الوقتين لأنهم كانوا يصلون في وقتينقبل فرض الخمس، وقال قتادة: الغدوّ صلاة الصبح والآصال: صلاة العصر، وقيل: خصهما بالذكر لفضلهما، وقيل: المعنى جميع الأوقات وعبربالطرفين المشعرين بالليل والنهار والغدوّ، قيل: جمع غدوة فعلى هذا تظهر المقابلة لاسم جنس بجمع ويكون المراد بالغدوات والعشايا وإنكان مصدر الغداء فالمراد بأوقات الغدوّ حتى يقابل زمان مجموع بزمان مجموع. وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصريوالإيصال جعله مصدراً لقولهم آصلت أي دخلت في وقت الأصيل فيكون قد قابل مصدراً بمصدر ويكون كأعصر أي دخل فيالعصر وهو العشي وأعتم أي دخل في العتمة، ولما أمره بالذكر أكد ذلك بالنهي عن أن يكون من الغافلين أي استلزم الذكر ولا تغفل طرفة عين ومعلوم أنه عليه السلام تستحيل عليه الغفلة لعصمته فهو نهي له صلى الله عليهوسلم والمراد أمته. {إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العنديّة الزّلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفّرهم على طاعته وابتغاء مرضاته ولما أمر تعالى بالذكر ورغبفي المواعيظ عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم بأخبار ثلاثة، الأول نفي: الاستكبار عن عبادته وذلك هو إظهار العبوديّةونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأنّ المستكبر يرى لنفسه شفوفاً ومزية فيمنعه ذلك منالطاعة، الثاني: إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدّسة، والثالث: السجود لهقيل: وتقديم المجرور يؤذن بالاختصاص أي لا يسجدون إلا له والذي يظهر أنه إنما قدم المجرور ليقع الفعل فاصلة فاخرهلذلك ليناسب ما قبله من رؤوس الآي ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما، فالقلبية تنزيه الله تعالى عن كل سوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى وفي الحديث أطّت السماء وحقّ لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد {وله يسجدون} هو مكان سجدة وقيل: سجود التلاوة أربع سجدات

{ الم * تَنزِيلَ }

{ وحـم تَنزِيلَ }

والنجم والعلق وذكر عن ابن عباس أنها عشر أسقط آخر الحج وص وثلاثاً في المفصل وروي عن مالك إحدى عشرة أسقط آخرةالحج وثلاث المفصل، وعن ابن وهب أربع عشرة أسقط ثانية الحجّ وهو قول أبي حنيفة والشافعي لكن أبو حنيفة أسقطثانية الحج وأثبت ص وعكس الشافعي وعن ابن وهب أيضاً وابن حبيب خمس عشرة آخرها خاتمة العلق وعن بعض العلماءست عشرة وزاد سجدة الحجر والجمهور على أنه ليس بواجب وقال أبو حنيفة هو واجب ولا خلاف في أن شرطهشرط الصلاة من طهارة خبث وحدث ونيّة واستقبال ووقت إلا ما روى البخاري عن ابن عمرو وابن المنكدر عن الشعبي أنه يسجد على غير طهارة وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع اليدين وقال مالك يكبر لها في الخفض، والرفع في الصلاة وأما في غير الصلاة فاختلف عنه ويسلّم عند الجمهور، وقال جماعة من السلف وإسحاق: لا يسلم ووقتها سائر الأوقات مطلقاً لأنها صلاة بسبب وهو قول الشافعي وجماعة، وقيل: ما لم يسفر ولم تصفرّ الشمس، وقيل: لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر وقيل بعد الصبح لا بعد العصر، وثلاثة الأقوال هذه في مذهب مالك، وفي سنن ابنماجه عن ابن عباس أنه عليه السلام: كان يقول في سجود التلاوة اللهم احطط عني بها وزراً واكتب لي بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً ، ومشهور مذهب مالك أنه لا يسجد في الفريضة سرًّا كانت أو جهراً ومذهب أبي حنيفة أنه واجب على السامع قصد الاستماع أوّلاً. والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.