تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الأعلى

{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } * { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } * { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } * { وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } * { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ } * { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } * { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } * { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ } * { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } * { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } * { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى } * { ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } * { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } * { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } * { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } * { بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } * { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } * { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } * { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } الغثاء، مخفف الثاء ومشدّدها: ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيشوالنبات والقماش، قال الشاعر:

كأن طميا المجيمر غدوة     من السيل والغثاء فلك مغزل

ورواهالفرّاء: والإغثاء على الجمع، وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال. الحوّة: سواد يضرب إلى الخضرة، قال ذو الرّمة:

لمياء في شفتيها حوّة لعس     وفي اللثات وفي أنيابها شنب

وقيل: خضرة عليها سواد،والأحوى: الظبي الذي في ظهره خطان من سواد وبياض، قال الشاعر:

وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن     مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد

وفي الصحاح: الحوة: سمرة، وقال الأعلم: لون يضرب إلى السواد، وقال أيضاً: الشديد الخضرة التيتضرب إلى السواد. {سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلاَعْلَىٰ * ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ * وَٱلَّذِى أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ* فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَىٰ * سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ * وَنُيَسّرُكَلِلْيُسْرَىٰ * فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذّكْرَىٰ * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلاْشْقَى * ٱلَّذِى * يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ *ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ * يُحْىِ * قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبّهِ فَصَلَّىٰ * بَلْ تُؤْثِرُونَٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا * وَٱلاْخِرَةِ * خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلاْولَىٰ * صُحُفِ إِبْرٰهِيمَ وَمُوسَىٰ }. هذهالسورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ مِمَّ خُلِقَ } ، كأن قائلاً قال: من خلقه على هذا المثال؟ فقيل:{سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ }. وأيضاً لما قال: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } ، قيل: هو {سَنُقْرِئُكَ }، أي ذلك القول الفصل.{سَبِّحِ }: نزّه عن النقائص، {ٱسْمَ رَبّكَ }: الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم، أي نزهه عن أن يسمى بهصنم أو وثن فيقال له رب أو إله، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ،وتنزيه الذات أحرى. وقيل: الاسم هنا بمعنى المسمى. وقيل: معناه نزّه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع. وقالابن عباس: المعنى صلّ باسم ربك الأعلى، كما تقول: ابدأ باسم ربك، وحذف حرف الجر. وقيل: لما نزل { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ } ، قال رسول الله : اجعلوها في ركوعكم . فلما نزل: {سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلاَعْلَىٰ }،قال: اجعلوها في سجودكم . وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود: اللهم لك سجدت. قالوا: {ٱلاْعْلَىٰ } يصحأن يكون صفة لربك، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوباً، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب {ٱلَّذِى خَلَقَ } صفةلربك، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره. لو قلت: رأيت غلام هند العاقل الحسنة،لم يجز؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول: رأيت غلام هند الحسنة العاقل. فإنلم يجعل الذي صفة لربك، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح، جاز أن يكون الأعلىصفة لاسم. {ٱلَّذِى خَلَقَ }: أي كل شيء، {فَسَوَّىٰ }: أي لم يأت متفاوتاً بل متناسباً على إحكام وإتقان،دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم. وقرأ الجمهور: {قُدِرَ } بشد الدال، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء، واحتملأن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء. وقال الزمخشري: قدّر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به،انتهى. وقرأ الكسائي: قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة، وهدى عام لجميع الهدايات. وقال الفرّاء: فهدى وأضل،اكتفى بالواحدة عن الأخرى. وقال الكلبي ومقاتل: هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث. وقال مجاهد: هدى الإنسان للخير والشر، والبهائمللمراتع. وقيل: هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص. والظاهر أن أحوىصفة لغثاء. قال ابن عباس: المعنى {فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَىٰ }: أي أسود، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفنفصار أحوى. وقيل: أحوى حال من المرعى، أي أحرى المرعى أحوى، أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريه، وحسنتأخير أحوى لأجل الفواصل، وقال:

وغيث من الوسمي حوتلاعه     تبطنته بشيظم صلتان

{سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ }، قال الحسن وقتادة ومالك: هذا في معنى { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ } . وعده الله أن يقرئه،وأخبره أنه لا ينسى، وهذه آية للرسول في أنه أمّيّ، وحفظ الله عليه الوحي، وأمنه مننسائه. وقيل: هذا وعد بإقراء السور، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم أن النسيان ليس فيقدرته، فهو نهي عن إغفال التعاهد، وأثبتت الألف في {فَلاَ تَنسَىٰ }، وإن كان مجزوماً بلا التي للنهي لتعديل رءوسالآي. {إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ }، الظاهر أنه استثناء مقصود. قال الحسن وقتادة وغيرهما: مما قضى الله نسخه، وأنترتفع تلاوته وحكمه. وقال ابن عباس: إلا ما شاء الله أن ينسيك لتسن به، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام: أني لأنسى وأنسى لأسن . وقيل: إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه، ثم يذكرك به بعد، كما قال عليهالصلاة والسلام، حين سمع قراءة عباد بن بشير: لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا . وقيل: {فَلاَ تَنسَىٰ}: أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه، فهذا في نسخ العمل. وقال الفراءوجماعة: هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه. وأخذ الزمخشريهذا القول فقال: وقال: إلا ما شاء الله، والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملكإلا ما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي، انتهى. وقول الفراء والزمخشري يجعلالاستثناء كلا استثناء، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، بل ولا في كلام فصيح. وكذلك القول بأنلا في {فَلاَ تَنسَىٰ } للنهي، والألف ثابتة لأجل الفاصلة، وهذا قول ضعيف. ومفهوم الآية في غاية الظهور، وقد تعسفوافي فهمها. والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه، وأنه لا ينسى إلا ما شاء الله، فإنه ينساه إما النسخ، وإماأن يسن، وإما على أن يتذكر. وهو معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه، فإن وقع نسيان،فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة. ومناسبة {سَنُقْرِئُكَ } لما قبله: أنه لما أمره تعالى بالتسبيح، وكان التسبيح لايتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى، فأزال عنه ذلك وبشره بأنهتعالى يقرئه وأنه لا ينسى، استثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه. {إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ }: أيجهرك بالقرآن، {وَمَا يَخْفَىٰ }: أي في نفسك من خوف التفلت، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنكلا تنسى إلا ما استثناه، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء. {وَنُيَسّرُكَ } معطوف على {سَنُقْرِئُكَ }، وما بينهما من الجملةالمؤكدة اعتراض، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، يعني في حفظ الوحي. وقيل: للشريعة الحنيفية السهلة. وقيل: يذهب بكإلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة. ولما أخبر أنه يقرئه وييسره، أمرهبالتذكير، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم. والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى، وهذاالشرط إنما جيء به توبيخاً لقريش، أي {إِن نَّفَعَتِ ٱلذّكْرَىٰ } في هؤلاء الطغاة العتاه، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى، فهوكما قال الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيا     ولكن لا حياة لمن تنادي

كماتقول: قل لفلان وأعد له إن سمعك؛ فقوله: إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع. وقال الفراء والنحاسوالزهراوي والجرجاني معناه: وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني. وقيل: إن بمعنى إذ، كقوله: { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } : أي إذ كنتم؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم. {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ }: أيلا يتذكر بذكراك إلا من يخاف، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه، فإذا نظر فأداه النظروالتذكر إلى الحق، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له. {وَيَتَجَنَّبُهَا }: أي الذي، {ٱلاْشْقَى }: أيالمبالغ في الشقاوة، لأن الكافر بالرسول هو أشقى الكفار، كما أن المؤمن به وبما جاء بههو أفضل ممن آمن برسول قبله. ثم وصفه بما يؤول إليه حاله في الآخرة، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى. قالالحسن: النار الكبرى: نار الآخرة، والصغرى: نار الدنيا. وقال الفراء: الكبرى: السفلى من أطباق النار. وقيل: نار الآخرة تتفاضل، ففيهاشيء أكبر من شيء. {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ }: فيستريح، {وَلاَ * يُحْىِ } حياة هنيئة؛ وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذاناًبتفاوت مراتب الشدة، لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلى بالنار. {قَدْ أَفْلَحَ }: أي فاز وظفربالبغية، {مَن تَزَكَّىٰ }: تطهر. قال ابن عباس: من الشرك، وقال: لا إله إلا الله. وقال الحسن: من كان عملهزاكياً. وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة: من رضخ من ماله وزكاه. {وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبّهِ }: أي وحده، لم يقرنه بشيءمن الأنداد، {فَصَلَّىٰ }: أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل، والمعنى: أنه لما تذكر آمن بالله، ثم أخبرعنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة، واحتج بقوله: {وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبّهِ } على وجوب تكبيرة الافتتاح،وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى، وأنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرةالافتتاح، وهو احتجاج ضعيف. وقال ابن عباس: {وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبّهِ }: أي معاده وموقفه بين يدي ربه، {فَصَلَّىٰ * لَهُ}. وقرأ الجمهور: {بَلْ تُؤْثِرُونَ } بتاء الخطاب للكفار. وقيل: خطاب للبر والفاجر؛ يؤثرها البر لاقتناء الثواب، والفاجر لرغبته فيها.وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم: بياء الغيبة.{إِنَّ هَذَا }: أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا، قاله ابن زيد وابن جرير، ويرجح بقرب المشار إليهبهذا. وقال ابن عباس وعكرمة والسدي: إلى معاني السورة. وقال الضحاك: إلى القرآن. وقال قتادة: إلى قوله: {وَٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}. {لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلاْولَىٰ }، لم ينسخ إفلاح من تزكى، والآخرة خير وأبقى في شرح من الشرائع. فهو في الأولىوفي آخر الشرائع. وقرأ الجمهور: الصحف بضم الحاء كالحرف الثاني؛ والأعمش وهرون وعصمة، كلاهما عن أبي عمرو: بسكونها؛ وفي كتاباللوامح العبقلي عن أبي عمرو: الصحف صحف بإسكان الحاء فيهما، لغة تميم. وقرأ الجمهور: إبراهيم بألف وبياء والهاء مكسورة؛ وأبورجاء: بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معاً؛ وأبو موسى الأشعري وابن الزبير: أبراهام بألف في كل القرآن؛ ومالك بن دينار: إبراهيمبألف وفتح الهاء وبغير ياء؛ وعبد الرحمن بن أبي بكرة: إبراهيم بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن. قال ابنخالويه: وقد جاء إبراهيم، يعني بألف وضم الهاء. وتقدم في والنجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.