تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الأنعام

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } * { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } * { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } * { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } * { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } * { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } * { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } * { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } * { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } عدل

الطين: معروف، يقال: منه طان الكتان يطينه وطنه يا هذا. القرن الأمةالمقترنة في مدّة من الزمان، ومنه خير القرون قرني وأصله الارتفاع عن الشيء ومنه قرن الجبل، فسموا بذلك لارتفاع السنّ.وقيل: هو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجهاً له، فسموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض. وقيل: سموا بذلكلأنهم جمعهم زمان له مقدار هو أكثر ما يقرن فيه أهل ذلك الزمان، وهو اختيار الزجاج ومدة القرن مائة وعشرونسنة قاله: زرارة بن أوفى وإياس بن معاوية، أو مائة سنة قاله الجمهور، وقد احتجوا لذلك بقول النبي صلى اللهعليه وسلم لعبد الله بن بشر: تعيش قرناً فعاش مائة وقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد قال ابن عمر: يؤيد أنها انحزام ذلك القرن أو ثمانو سنةرواه أبو صالح عن ابن عباس، أو سبعون سنة حكاه الفرّاء أو ستون سنة لقوله عليه السلام: معترك المنايا مابين الستين إلى السبعين أو أربعون قاله ابن سيرين، ورفعه إلى النبي وكذا حكاه الزهراوي عنالنبي أو ثلاثون. روي عن أبي عبيدة أنه قال: يرون أن ما بين القرنين ثلاثون، وحكاهالنقاش أو عشرون حكاه الحسن البصري أو ثمانية عشر عاماً أو المقدار الوسط في أعمار أهل ذلك الزمان وهذا حسن،لأن الأمم السالفة كان فيهم من يعيش أربعمائة عام وثلثمائة وما بقي عام وما فوق ذلك وما دونه، وهكذا الاختلافالإسلامي والله أعلم. كأنه نظر إلى الطرف الأقصى والطرف الأدنى، فمن نظر إلى الغاية قال: من الستين فما فوقها إلىمائة وعشرين ومن نظر إلى الأدنى قال: عشرون وثلاثون وأربعون. وقال ابن عطية: القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادةالأطفال، ويظهر ذلك من قوله: وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين وهذه يشير ابن عطية إلى من حدد بأربعين فما دونهاطبقات وليست بقرون. وقيل: القرن القوم المجتمعون، قلت: السنون أو كثرت لقوله: خير القرون قرني يعني أصحابه وقال قس

: في الذاهبين الأوّلين     من القرن لنا بصائر

وقال آخر

: إذا ذهب القوم الذي كنت فيهم     وخلفت في قوم فأنت غريب

وقيل: القرنالزمان نفسه فيقدر قوله من قرن من أهل قرن. التمكن ضد التعذر والتمكين من الشيء ما يصح به الفعل منالآيات والقوي وهو أتم من الأقدار، لأن الأقدار إعطاء القدرة خاصة والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل لعدم الآلة.وقيل: التمكين من الشيء إزالة الحائل بين المتمكن والممكن منه. وقال الزمخشري: مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوهأرض له، وتمكينه في الأرض إثباته فيها. المدرار المتتابع يقال: مطر مدرار وعطاء مدرار وهو في المطر أكثر، ومدرار مفعالمن الدر للمبالغة كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه. الإنشاء: الخلق والإحداث من غير سبب، وكل من ابتدأ شيئاً فقدأنشأه، والنشأ الاحداث واحدهم ناشىء كقولك: خادم وخدم. القرطاس اسم لما يكتب عليه من رق وورق وغير ذلك، قال الشاعروهو زهير

: لها أخاديد من آثار ساكنها     كما تردد في قرطاسه القلم

ولا يسمى قرطاساً إلا إذا كان مكتوباً وإن لم يكن مكتوباً فهو طرس وكاغد وورق، وكسر القاف أكثر استعمالاًوأشهر من ضمها وهو أعجمي وجمعه قراطيس. حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً أي: أحاط، قاله الضحاك: ولا يستعمل إلا فيالشر. قال الشاعر

: فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم     وحاق بهم من بأس ضبه حائق

وقال الفرّاء: حاق به عاد عليه وبال مكره. وقال النضر: وجب عليه. وقال مقاتل: دار. وقيل:حلّ ونزل ومن جعله مشتقاً من الحوق وهو ما استدار بالشيء فليس قوله بصحيح، لاختلاف المادتين وكذلك من قال: أصلهحق فأبدلت القاف الواحدة ياء كما قالوا: في تظننت: تظنيت لأنها دعوى لا دليل على صحتها. سخر منه: هزأ بهوالسخرية والاستهزاء والتهكم معناها متقارب. عاقبة الشيء: منتهاه وما آل اليه. {ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *وَجَعَلَٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } هذه السورة مكية كلها. وقال الكسائي: إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما

{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ }

وما يرتبط بها. وقال ابن عباس: نزلت ليلاً بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرونبالتسبيح، إلا ست آيات قل: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ } {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ } {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ }. {وَلَوْ تَرَى إِذِٱلظَّـٰلِمُونَ }. {وَٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْلَمُونَ }. {ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ }، انتهى. وعنه أيضاً وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاثآيات منها نزلت بالمدينة {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } إلى قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال قتادة: إلا {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّقَدْرِهِ } {وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَ }، وذكر ابن العربي أن قوله {قُل لا أَجِدُ } نزل بمكة يوم عرفة. ومناسبةافتتاح هذه السورة لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دونالله، وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب ما للصادقين، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وأنه قادر علىكل شيء، ذكر بأن الحمد له المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإلهية فيحمد، ثم نبهعلى العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية، كون ملك السموات والأرض وما فيهنّ له بوصف {خُلِقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } لأنالموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه، ولما تقدّم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب {خُلِقَ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } {يَجْعَلْ * ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُ } فكان ذلك مناسباً للكافر والصادق، وتقدّم تفسير {ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فيأول الفاتحة وتفسير {خُلِقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } في قوله:

{ إِنَّ فِي خَلْقِ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }

في البقرةوجعل هنا. قال ابن عطية: لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض} في البقرة وجعل هنا. قال ابنعطية: لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل. وقال الزمخشري {*} في البقرة وجعلهنا. قال ابن عطية: لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل. وقال الزمخشري {جَعَلَ} يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله: {جَعَلَ * ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُ } وإلى مفعولين إذا كانبمعنى صير كقوله:

{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً }

والفرق بين الخلق والجعل، أن الخلق فيه معنىالتقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك

{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }

{وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } لأن الظلمات من الإجرام المتكافئة والنور من النار {وَجَعَلْنَـٰكُمْ * أَزْوٰجاً} أجعل الآلهة إلهاً واحداً؛ انتهى. وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله: {وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ } لا يصحلأنهم لم يصيروهم إناثاً، وإنما قال بعض النحويين: إنها بمعنى سمى وقول الطبري {جَعَلَ } هنا هي التي تتصرف فيطرف الكلام كما تقول: جعلت أفعل كذا فكأنه قال: وجعل إظلامها وإنارتها تخليط، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل علىالمبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد، فهما متباينان معنى واستعمالاً وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها منجمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفرادالأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا بـ{ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُ } فقال قتادة والسدّي والجمهور: الليل والنهار. وقال ابنعباس: الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين. وقال الحسن: الكفر والإيمان، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذابآية البقرة. وقال قتادة أيضاً: الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة، فيوم القيامةيحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا. وقيل: الأجساد والأرواح. وقيل: شهوات النفوسوأسرار القلوب. وقيل: الجهل والعلم. وقال مجاهد: المراد حقيقة الظلمة والنور، لأن الزنادقة كانت تقول: الله يخلق الضوء وكل شيءحسن، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت رداً عليهم. وقال أبو عبد الله الرازي: فيه قولان أحدهما: أنهما الأمرانالمحسوسان وهذا هو الحقيقة. والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز. وقال الواحدي: يحمل على الحقيقة والمجازمعاً لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصاً. وقال أبو عبد الله الرازي: ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور،والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً والقريبلا يرى البعيد. ويرى ذلك الهواء مظلماً، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين، وحيثلم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك، فنقول: عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمةمتقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالىخلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وروى ابن عمر عن النبي أنهقال: إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقي عليهم النور، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل انتهى. وقال أبو عبد الله بن أبي الفضل: قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عنكيفية وجودية. مضادة للنور، والدليل على ذلك قوله: {وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } والعدم لا يقال فيه جعل {ثُمَّ } كماتقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان. وقال ابن عطية: {ثُمَّ } دالة على قبح فعل {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }لأن المعنى: أن خلقه {ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذاكله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك، ثم تشتمني أي: بعد وضوح هذا كلهولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو، لم يلزم التوبيخ كلزومه بـ{ثُمَّ } انتهى. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فمامعنى ثم (قلت): استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } استبعاد لأن تمتروا فيهبعد ما ثبت أنه محييهم ومميهم وباعثهم؛ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن {ثُمَّ } للتوبيخ، والزمخشريمن أن {ثُمَّ } للاستبعاد ليس بصحيح لأن {ثُمَّ } لم توضع لذلك، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياقالكلام لا من مدلول، ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل {ثُمَّ } هنا للمهلة في الزمان وهيعاطفة جملة اسمية على جملة اسمية، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على لعلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهيخلق السموات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به {يَعْدِلُونَ } فلا يحمدونه. وقال الزمخشري (فإن قلت): علامعطف قوله: {ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }. (قلت): إما على قوله: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ } على معنى أن الله حقيق بالحمدعلى ما خلق، لأنه ما خلقه إلا نعمة {ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } فيكفرون نعمه وإما على قوله {خُلِقَ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } على معنى أنه خلق ما خلق، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون بهما لا يقدر على شيء منه؛ انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً علىالصلة والمعطوف على الصلة صلة، فلو جعلت الجملة من قوله: {ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } صلة لم يصح هذا التركيب لأنهليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنهفيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر، فكأنه قيل: {ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ * بِهِ *يَعْدِلُونَ } وهذا من الندور، بحيث لايقاس عليه ولا يجمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح، {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الظاهر فيه العمومفيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيراً واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله والمجوس عبدوا الناروالمانوية عبدوا النور، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا: الموت من أهرمن والحياةمن الله، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في {بِرَبّهِمْ } يحتمل أنتتعلق بـ{يَعْدِلُونَ } وتكون الباء بمعنى عن أي: يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر، أو يكون المعنىيعدلون به غيره أي: يسوون به غيره في اتخاذه رباً وإلهاً وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به، وفيالآية رد على القدرية في قولهم: الخير من الله والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد. {هُوَٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ } ظاهره أنا مخلوقون من طين، وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة فالنطفة التي يخلقمنها الإنسان أصلها {مِن طِينٍ } ثم يقلبها الله نطفة. قال ابن عطية: وهذا يترتب على قول من يقول: يرجعبعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة وذلك مردود عند الأصوليين؛ انتهى. وقال النحاس: يجوز أن تكون النطفة خلقها الله {مِن طِينٍ} على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها؛ انتهى. وقد روى أبو نعيم الحافظ عن بريد بن مسعود حديثاًفي الخلق آخره: ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته فذلك قوله تعالى:

{ مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }

الآية. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ما من مولود يولد إلا وقد در عليه من تراب حفرته وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: وعندي فيه وجه آخروهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث المتولدين من الأغذية، والأغذية حيوانية والقول في كيفية تولدها، كالقول فيالإنسان أو نباتية فثبت تولد الإنسان من النباتية وهي متولدة {مِنَ ٱلطّينِ } فكل إنسان متولد. {مِنَ ٱلطّينِ } وهذاالوجه أقرب إلى الصواب؛ انتهى. وهذا الذي ذكر أنه عنده وجه آخر وهو أقرب إلى الصواب، هو بسط ما حكاهالمفسرون عن فرقة. وقال فيه ابن عطية: هو مردود عند الأصوليين يعني القول: بالتوالد والاستحالات والذي هو مشهور عند المفسرين،أن المخلوق {مِنَ ٱلطّينِ } هنا هو آدم. قال قتادة ومجاهد والسدي وغيرهم: المعنى خلق آدم {مِن طِينٍ } والبشرمن آدم فلذلك قال: {خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ } وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: الناس ولد آدم وآدم من تراب وقال بعض شعراء الجاهلية

: وإلى عرق الثرى وشجت عروقي     وهذا الموت يسلبني شبابي

وفسره الشراح بأن عرق الثرىهو آدم، فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف إما في {خَلَقَكُمْ } أي خلق أصلكم، وإما في {مِن طِينٍ} أي من عرق طين وفرعه. {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } {قَضَى } إنكانت هنا بمعنى قدر وكتب، كانت {ثُمَّ } هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان لأن ذلك سابق على خلقنا،إذ هي صفة ذات وإن كانت بمعنى أظهر، كانت للترتيب الزماني علي أصل وضعها، لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهيصفة فعل والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة: الأول أجل الدنيا منوقت الخلق إلى الموت، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها، ولا يعلم كيفية الحال في هذاالأجل إلا الله تعالى، وروي عن ابن عباس أن الأول هو وفاته بالنوم والثاني بالموت. وقال أيضاً: الأول أجل الدنياوالثاني الآخرة. وقال مجاهد أيضاً: الأول الآخرة. والثاني الدنيا. وقال ابن زيد: الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بنيآدم حين استخرجهم من ظهر آدم، والمسمى في هذه الحياة الدنيا. وقال أبو مسلم: الأول أجل الماضين، والثاني أجل الباقين،ووصفه بأنه مسمى عنده لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم. وقيل: الأول ما بين أنيخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ. وقيل: الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان،والثاني مقدار ما بقي. وقيل: الأول أجل الأمم السالفة، والثاني أجل هذه الأمة. وقيل: الأول ما علمناه أنه لا نبيبعد محمد ، والثاني من الآخرة، وقيل: الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن، والثانيقيام الساعة. وقيل: الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها، والثاني موت الإنسان. وقال ابن عباس ومجاهد أيضاً {فَقَضَىٰ * أَجَلاً} بانقضاء الدنيا والثاني لابتداء الآخرة. وروي عن ابن عباس أنه قال: لكل أحد أجلان، فإن كان تقياً وصولاً للرحمزيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان بالعكس نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث. وقالأبو عبد الله الرازي: لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي. فالطبيعي: هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصوناً عن العوارض الخارجةلانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية. والاخترامي: هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات، وغيرها من الأمورالمنفصلة، انتهى. وهذا قول المعتزلة وهو نقله عنهم وقال: هذا قول حكماء الإسلام، انتهى ومعنى {مُّسمًّى عِندَهُ } معلوم عندهأو مذكور في اللوح المحفوظ، وعنده مجاز عن علمه ولا يراد به المكان. وقال الزمخشري: (فإن قلت): المبتدأ النكرةإذا كان خبره ظرفاً وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ }. (قلت): لأنه تخصيص بالصفةفقارب المعرفة، كقوله:

{ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ }

انتهى. وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفتلا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ، لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة، أنيكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله

: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له     بشق وشق عندنا لم يحول

وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا فيموضع الصفة، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر. وقال الزمخشري: (فإن قلت): الكلام السائر أن يقال: عندي ثوبجيد ولي عبد كيس وما أشبه ذلك. (قلت): أوجبه أن المعنى وأي {أَجَلٍ مُّسَمًّى * عِندَهُ } تعظيماً لشأنالساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم؛ انتهى. وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي {أَجَلٍ مُّسَمًّى *عِندَهُ } كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي {أَجَلٍ مُّسَمًّى * عِندَهُ } ولا يجوز حذف الصفة إذاكانت أياً ولا حذف موصوفها وإبقاؤها، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز، {*وتمترون} معناه تشكونأو تجادلون جدال الشاكين، والتماري المجادلة على مذهب الشك قاله بعض المفسرين. والكلام في {تَتَّقُونَ ثُمَّ } هنا كالكلام فيهافي قوله {ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } والذي يظهر لي أن قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ } على جهة الخطاب، هوالتفات من الغائب الذي هو قوله {ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصاً بالكفار إذ اشتركفيه المؤمن والكافر، لكنه قصد به الكافر تنبيهاً له على أصل خلقه وقضاء الله تعالى عليه وقدرته، وإنما قلت إنهمن باب الالتفات لأن قوله {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوةوالإيمان. {وَهُوَ ٱللَّهُ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ *وَفِى ٱلاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } لما تقدم ما يدلعلى القدرة التامة والاختيار، ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالىقادراً مختاراً عالماً بالكليات والجزئيات وإبطالاً لشبه منكر المعاد، والظاهر أن {هُوَ } ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائرقبله، {وَهُوَ ٱللَّهُ } وهذا قول الجمهور قاله الكرماني. وقال أبو علي: {هُوَ } ضمير الشأن {وَٱللَّهُ } مبتدأ خبرهما بعده، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما فر إلى هذا لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن، كان عائداً على اللهتعالى فيصير التقدير الله {وَٱللَّهُ } فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظاً ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية، وذلك لايجوز فلذلك والله أعلم تأول. أبو علي الآية على أن الضمير ضمير الأمر {وَٱللَّهُ } خبره يعلم في {ٱلسَّمَـٰوَاتِ *وَفِى ٱلاْرْضِ } متعلق بيعلم والتقدير الله يعلم {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ * وَفِى ٱلاْرْضِ } {سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } ذهب الزجاج إلىأن قوله: {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.قال ابن عطية: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقهوإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه، ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله {وَهُوَ ٱللَّهُ } أي الذي له هذه كلها{فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ * وَفِى ٱلاْرْضِ } كأنه قال: وهو الخالق الرازق والمحيـي المحيط في السموات وفي الأرض كما تقول: زيدالسلطان في الشام والعراق، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالاً وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان الآمر الناهي الناقض المبرمالذي يعزل ويولي في الشام والعراق، فأقمت السلطان مقام هذه كلها كان فصيحاً صحيحاً فكذلك في الآية أقام لفظة {ٱللَّهِ} مقام تلك الصفات المذكورة؛ انتهى. وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى، لكن صناعة النحو لاتساعد عليه لأنهما زعما أن {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } متعلق بلفظ {ٱللَّهِ } لما تضمنه من المعاني ولا تعمل تلك المعانيجميعها في اللفظ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها، وإن كان{فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ }متعلقاً بها جميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يعمل في المحرور ما تضمنه لفظ {ٱللَّهِ } منمعنى الألوهية وإن كان لفظ {ٱللَّهِ } علماً لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى كماقال: أنا أبو المنهال بعض الأحيان. فبعض منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض الأحيان. وقالالزمخشري نحواً من هذا قال: {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } متعلق بمعنى اسم الله، كأنه قيل: وهو المعبود فيهما ومنه قوله

{ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّماء إِلَـٰهٌ وَفِى ٱلاْرْضِ إِلَـٰهٌ }

أي: وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذييقال له: الله فيها لا يشرك في هذا الاسم؛ انتهى، فانظر تقاديره كلها كيف قدر العامل واحداً من المعاني لاجميعها، وقالت فرقة {هُوَ } على تقدير صفة حذفت وهي مرادة في المعنى، كأنه قيل: هو الله المعبود {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ* وَفِى ٱلاْرْضِ } وقدرها بعضهم وهو الله المدبر {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ * وَفِى ٱلاْرْضِ }، وقالت فرقة: {وَهُوَ ٱللَّهُ }تم الكلام هنا. ثم استأنف ما بعده وتعلق المجرور بـ{يَعْلَمْ } وقالت فرقة: {وَهُوَ ٱللَّهُ } تام و{فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ *وَفِى ٱلاْرْضِ } متعلق بمفعول {يَعْلَمْ } وهو {سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، وهذايضعف لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النحاس حيث قال: هذا من أحسن ما قيل فيه، وقالتفرقة: هو ضمير الأمر والله مرفوع على الابتداء وخبره {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } والجملة خبر عن ضمير الأمر وتم الكلام. ثماستأنف فقال: {وَفِى ٱلاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } أي: ويعلم في الأرض. وقال ابن جرير نحواً من هذا إلاأن {هُوَ } عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل وليس ضمير الأمر. وقيل: يتعلق {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } بقوله: {تَكْسِبُونَ} هذا خطأ، لأن {مَا } موصولة بـ{تَكْسِبُونَ } وسواء كانت حرفاً مصدرياً أم اسماً بمعنى الذي، فإنه لا يجوزتقديم معمول الصلة على الموصول. وقيل {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } حال من المصدر الذي هو {سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } تقدم على ذيالحال وعلى العامل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون {ٱللَّهُ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ } خبراً بعد خبر على معنى أنه اللهوأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف، لأنالمجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية، وإنماذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات والخروج عن ظاهر {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ * وَفِى ٱلاْرْضِ } لما قام عليه دليل العقلمن استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ومماسة الإجرام ومحاذاته لها وتحيزه في جهة، قال معناه وبعض لفظه ابن عطيةوفي قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ } إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر. قال أبو عبد الله الرازي: المراد بالسرّ صفاتالقلوب وهو الدواعي والصوارف وبالجهر أعمال الجوارح وقدم السرّ لأن ذكر المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي، فالداعيةالتي هي من باب السرّ هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة العلم بالمعلولوالعلة متقدّمة على المعلول والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ، انتهى. وقال التبريزي: معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكمونياتكم وما تظهرون من أعمالكم وما تكسبون، عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلابنفع أو دفع ضرّ ولهذا لا يوصف به الله تعالى. وقال أبو عبد الله الرازي: وفي أول كلامه شيء منمعنى كلام الزمخشري يجب حمل قوله: {مَا تَكْسِبُونَ } على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب، فهو محمولعلى المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيءعلى نفسه وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة؛ انتهى. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف موقع قوله{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } (قلت): إن أراد المتوحد بالإلهية كان تقريراً له، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية، هوالله وحده وكذلك إذا جعلت {فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } خبراً بعد خبر وإلا فهو كلام مبتدأ أو خبر ثالث، انتهى، وهذاعلى مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخباراً متعددة. {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }{مِنْ } الأولى زائدة لاستغراق الجنس، ومعنى الزيادة فيها أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله {تَأْتِيَهُمُ } فإذاكانت النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام، كانت {مِنْ } لتأكيد الاستغراق نحو ما في الدار منأحد، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت {مِنْ} دالة على الاستغراق نحو ما قام من رجل، و{مِنْ } الثانية للتبعيض. قال الزمخشري: يعني وما يظهر لهم قطدليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه {مُعْرِضِينَ } تاركين للنظر، لا يلتفتون إليه ولايرفعون به رأساً لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب؛ انتهى. واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله: وما يظهر لهم قط دليلليس بجيد، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا إن كان أراد بقوله: وما يظهر وما ظهر ولا حاجة إلى استعمالذلك. وقيل: {ٱلاْيَةَ } هنا العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية. وقيل: الرسالة. وقيل: المعجز الخارق. وقيل: القرآن ومعنى {عَنْهَا} أي: عن قبولها أو سماعها، والإعراض ضد الإقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام، والجملة من قوله: {كَانُواْ }ومتعلقها في موضع الحال فيكون {تَأْتِيَهُمُ } ماضي المعنى لقوله: {كَانُواْ } أو يكون {كَانُواْ } مضارع المعنى لقوله: {تَأْتِيَهُمُ} وذو الحال هو الضمير في {تَأْتِيَهُمُ }، ولا يأتي ماضياً إلا بأحد شرطين أحدهما: أن يسبقه فعل كما فيهذا الآية، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمراً، وهذا التفات وخروج منالخطاب إلى الغيبة والضمير عائد على {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }. وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بأنهم يعرضون عنكل آية ترد عليهم، ولما تقدّم الكلام أولاً في التوحيد وثانياً في المعاد وثالثاً في تقرير هذين المطلوبين، ذكر بعدذلك ما يتعلق بتقرير النبوة وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل، ويدل ذلك على أن التقليد باطل وأن التأملفي الدلائل واجب ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل. {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ } {ٱلْحَقّ } القرآن أو الإسلامأو محمد أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد، أقوال والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهموكأنه قيل: {فَقَدْ كَذَّبُواْ } بالآية التي تأتيهم وهي {ٱلْحَقّ } فأقام الظاهر مقام المضمر، لما في ذلك من وصفهبالحق وحقيقته كونه من آيات الله تعالى، وظاهر قوله {فَقَدْ كَذَّبُواْ } أن الفاء للتعقيب وأن إعراضهم عن الآية أعقبةالتكذيب. وقال الزمخشري: {فَقَدْ كَذَّبُواْ } مردود على كلام محذوف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات. {فَقَدْ كَذَّبُواْ }بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق، لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه؛انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير. {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ} هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء، فيكون في الكلام معطوف محذوف دل عليه آخر الآية وتقديره واستهزؤوا به،{جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ } وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار، الإعراض عن تأمل الدلائل ثم أعقب الإعراض التكذيب، وهوأزيد من الإعراض إذ المعرض قد يكون غافلاً عن الشيء ثم أعقب التكذيب الاستهزاء، وهو أزيد من التكذيب إذ المكذبقد لا يبلغ إلى حدّ الاستهزاء وهذه هي المبالغة في الإنكار، والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه وفي الكلام حذف مضافأي: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ } مضمن {أَنْبَاء } فقال قوم: المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاءوغير ذلك، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر. وقيل: هو عذاب الآخرة، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول: اصنعما تشاء فسيأتيك الخبر، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق. وقالالزمخشري: وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء، وذلك عندإرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته؛ انتهى. وهو على عادته في الإسهابوشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس بـ{سَوْفَ } وفي الشعراء

{ فقد كذبوا فسيأتيهم }

لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراداً حالة على الأولوناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله: {لَّمّاً * كَانُواْ } موصولة اسمية بمعنىالذي والضمير في {بِهِ } عائد عليها. وقال ابن عطية: يصح أن تكون مصدرية التقدير {أَنْبَاء } كونهم مستهزئين فعلىهذا يكون الضمير في {بِهِ }عائد على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن {مَا } المصدرية اسم لاحرف، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية. {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلاْرْضِ مَالَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً } لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم، أتبع ذلك بما يجري مجرىالموعظة والنصيحة، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و{يَرَوْاْ } هنا بمعنى يعلموا، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و{كَمْ }في موضع المفعول بـ{أَهْلَكْنَا } و{يَرَوْاْ } معلقة والجملة في موضع مفعولها، و{مِنْ } الأولى لابتداء الغاية و{مِنْ } الثانيةللتبعيض، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله {مِنْ } الثانية بدلاً من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة،كما أهلك قوم نوح وعاداً وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنوياً بالمسح قردة وخنازير، والضمير في {يَرَوْاْ } عائد علىمن سبق من المكذبين المستهزئين و{لَكُمْ } خطاب لهم فهو التفات، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنياوالسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم، وفي هذا الالتفات تعريضبقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك، فكيف لا يحلبكم على قلتكم وضيق خطتكم؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم. وقال ابن عطية: والمخاطبة في {لَكُمْ } هي للمؤمنينولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة، كأنه قال: {مَا لَمْ نُمَكّن } يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدرمعنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال

{ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا }

الآية. وإذا أخبرت أنكقلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها، فتجيءبلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة، انتهى. فتقول: قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيدما أكرمه، والضمير في {مَّكَّنَّـٰهُمْ } عائد على {كَمْ } مراعاة لمعناها، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم، وأجاز الحوفيوأبو البقاء أن يعود على {قَرْنٍ } وذلك ضعيف لأن {مّن قَرْنٍ } تمييز {لَكُمْ } فكم هي المحدث عنهابالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين، فما بعده إذ {مّن قَرْنٍ } جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه، وأجاز أبوالبقاء أن يكون {كَمْ } هنا ظرفاً وأن يكون مصدراً، أي: كم أزمنة أهلكنا؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا؟ ومفعول {أَهْلَكْنَامِنَ * قَرْنٍ } على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمعبل تدل على المفرد، لو قلت: كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال،لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة{مِنْ } لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يرادبه النفي والظاهر أن قوله {مَّكَّنَّـٰهُمْ } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: {مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلاْرْضِ}. وقال أبو البقاء: {مَّكَّنَّـٰهُمْ } في موضع خبر صفة {قَرْنٍ } وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن،{وَمَا } في قوله: {مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين، الذي{لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه، ويكون الضمير العائد على {مَا } محذوفاً أي ما لم نمكنهلكم وهذا لا يجوز، لأن {مَا } بمعنى الذي لا يكون نعتاً للمعارف وإن كان مدلولها مدلول الذي، بل لفظالذي هو الذي يكون نعتاً للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز، فلوقلت: الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضاً أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكيناً لم نمكنه لكم، وهذاأيضاً لا يجوز لأن {مَا } النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها، لو قلت: قمت ما أو ضربت ما وأنتتريد قمت قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يجز، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون {مَا }مفعولاً به بتمكن على المعنى، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس، وأجاز أيضاًأن تكون {مَا } مصدرية والزمان محذوف أي مد {مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } ويعني مدة انتفاء التمكين لكم، وأجازأيضاً أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئاً لم نمكنه لكم، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذاأقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام

{ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلاْرْضِ }

{ إِنَّمَا * مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلاْرْضِ }

أو لم نمكن لهم. وقال أبو عبيد {مَّكَّنَّـٰهُمْ } ومكنا لهم لغتان فصيحتان،كنصحته ونصحت له والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن، وهو ما ينزل من الضرع متتابعاً و{ٱلسَّمَاء} السماء المظلة قالوا: لأن المطر ينزل منها إلى السحاب، ويكون على حذف مضاف أي مطر {ٱلسَّمَاء } ويكون {مُّدْرَاراً} حالاً من ذلك المضاف المحذوف. وقيل: {ٱلسَّمَاء } المطر وفي الحديث: في أثر سماء كانت من الليل وتقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون المطر وقال الشاعر

: إذا نزل السماء بأرض قوم     رغيناه وإن كانوا غضبانا

{ومدراراً} على هذا حال من نفس {فِىٱلسَّمَاء }. وقيل: {ٱلسَّمَاء } هنا السحاب ويوصف بالمدرار، فمدراراً حال منه {*ومدرارا} يوصف به المذكر والمؤنث وهو للمبالغة فياتصال المطر ودوامة وقت الحاجة، لا إنها ترفع ليلاً ونهاراً فتفسد قاله ابن الأنباري. ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديدالنعم عليهم ومقابلتها بالعصيان، {مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلاْنْهَـٰرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ } تقدّم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائلالبقرة. وقد أعرب من فسر {ٱلانْهَـٰرَ } هنا بالخيل كما قيل في قوله:

{ وَهَـٰذِهِ ٱلاْنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى }

وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو وصف بالبحر وبالنهر، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ووسع عليهم الرزق فذكرسببه وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم وإمساك الأرض ذلك الماء، حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم فكثر الخصب فأذنبوافأهلكوا بذنوبهم، والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتةبل المراد الإهلاك الناشىء عن الذنوب والأخذ به كقوله تعالى:

{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلاْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ }

لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح، وفائدةذكر إنشاء قرن {ءاخَرِينَ } بعدهم، إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك{قَرْناً } ويخرب بلاده وينشىء مكانه آخر يعمر بلاده وفيه تعريض للمخاطبين، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم ووصفقرناً {بِـاخَرِينَ } وهو جمع حملاً على معنى قرن، وكان الحمل على المعنى أفصح لأنها فاصلة رأس آية. {وَلَوْنَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } سبب نزولها اقتراح عبدالله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبيّ : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء، ثمتنزل بكتاب فيه من ربّ العزة إلى عبد الله بن أمية يأمرني بتصديقك. وما أراني مع هذا كنت أصدقك. ثمأسلم بعد ذلك وقتل شهيداً بالطائف ولما ذكر تعالى تكذيبهم الحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهمذكرهم مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاماً مكتوباً {فِى قِرْطَاسٍ } ومع رؤيتهم جسوه بأيديهم، لم تزدهم الرؤية واللمسإلا تكذيباً وادعوا أن ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عناداً وتعنتاً وإن كان من له أدنى مسكةمن عقل لا ينازع فيما أدركه بالبصر عن قريب ولا بما لمسته يده، وذكر اللمس لأنهم لم يقتصروا على الرّؤيةلئلا يقولوا سكرت أبصارنا، ولما كانت المعجزات مرئيات ومسموعات ذكر الملموسات مبالغة في أنهم لا يتوقفون في إنكار هذه الأنواعكلها حتى إن الملموس باليد هو عندهم مثل المرئي بالعين والمسموع بالأذن، وذكر اليد هنا فقيل مبالغة في التأكيد ولأناليد أقوى في اللمس من غيرها من الأعضاء. وقيل: الناس منقسمون إلى بصراء وأضراء، فذكر الطريق الذي يحصل به العلمللفريقين. وقيل: علقه باللمس باليد لأنه أبعد عن السحر. وقيل: اللمس باليد مقدمة الإبصار ولا يقع مع التزوير. وقيل: اللمسيطلق ويراد به الفحص عن الشيء والكشف عنه، كما قال:

{ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَاء }

فذكرت اليد حتى يعلم أنهليس المراد به ذلك اللمس، وجاء {لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مؤمن وكافر،فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر، ووصف السحر بـ{مُّبِينٌ } إما لكونه بيناً في نفسه، وإمالكونه أظهر غيره. {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } قال ابن عباس قال النضر بن الحرث وعبد الله بنأبي أمية ونوفل بن خالد: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة،يشهدون أنه من عند الله وإنك رسوله؛ انتهى. والظاهر أن قوله {وَقَالُواْ } استئناف إخبار من الله، حكى عنهم أنهمقالوا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على جواب لو أي: {لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ولقالوا {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ }فلا يكون إذ ذاك هذان القولان المرتبان على تقدير إنزال الكتاب {فِى قِرْطَاسٍ } واقعين، لأن التنزيل لم يقع وكانيكون القول الثاني غاية في التعنت، وقد أشار إلى هذا الاحتمال أبو عبد الله بن أبي الفضل قال: في الكلامحذف تقديره ولو أجبناهم إلى ما سألوا لم يؤمنوا {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } وظاهر الآية يقتضي أنها فيكفار العرب، وذكر بعض الناس أنها في أهل الكتاب والضمير في {عَلَيْهِ } عائد على محمد ،والمعنى {مُلْكُ } نشاهده ويخبرنا عن الله تعالى بنبوته وبصدقه، و{لَوْلاَ } بمعنى هلا للتحضيض وهذا قول من تعنت وأنكرالنبوات. {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ ٱلاْمْرُ } أي {وَلَوْ أَنزَلْنَا } عليه {مَلَكًا } يشاهدونه لقامت القيامة قاله مجاهد.وقال ابن عباس وقتادة والسدّي: في الكلام حذف تقديره {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } فكذبوه {لَقُضِىَ ٱلاْمْرُ } بعذابهم ولم يؤخرواحسب ما سلف في كل أمة. وقالت فرقة: معنى {لَقُضِىَ ٱلاْمْرُ } لماتوا من هول رؤية الملك في صورته، ويؤيدهذا التأويل ولو جعلناه ملكاً إلى آخره فإن أهل التأويل مجمعون على أنهم لم يكونوا ليطيقوا رؤية الملك في صورته.وقال ابن عطية: فالأولى في {لَقُضِىَ ٱلاْمْرُ } أي لماتوا من هول رؤيته. وقال الزمخشري: لقضي أمر إهلاكهم. {ثُمَّلاَ يُنظَرُونَ } بعد نزوله طرفة عين إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليهوسلم في صورته، وهي أنه لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال ولو إننا نزلنا إليهم الملائكةلم يكن بد من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة، وأما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة،فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون؛ انتهى. والترديد الأول بإما قولابن عباس، والثالث قول تلك الفرقة، وقوله: كما أهلك أصحاب المائدة، لأنهم عنده كفار وقد تقدّم الكلام فيهم في أواخرسورة العقود، وذكر أبو عبد الله الرازي الأوجه الثلاثة التي ذكرها الزمخشري ببسط فيها. وقال التبريزي في معنى {لَقُضِىَ ٱلاْمْرُ} قولان: أحدهما: لقامت القيامة لأن الغيب يصير عندها شهادة عياناً. الثاني: الفزع من إهلاكهم لأن السنة الإلهية جارية فيإنزال الملائكة بأحد أمرين: الوحي أو الإهلاك، وقد امتنع الأول فيتعين الثاني؛ انتهى. فعلى هذا القول يكون معنى قوله {وَقَالُواْلَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } أي بإهلاكنا. قال الزمخشري: ومعنى ثم بعدما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار جعل عدمالإنظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدّة أشد من نفس الشدّة؛ انتهى. {وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً }أي ولجعلنا الرسول ملكاً، كما اقترحوا، لأنهم كانوا يقولون: لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون: ما هذا إلا بشرمثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة، ومعنى {لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً } أي لصيرناه في صورة رجل، كما كان جبريل ينزل علىرسول الله في غالب الأحوال في صورة دحية، وتارة ظهر له وللصحابة في صورة رجل شديدبياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، وفي الحديث: وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً وكما تصوّر جبريل لمريم بشراً سوياً والملائكة أضياف إبراهيم وأضياف لوط ومتسوّر والمحراب، فإنهم ظهروا بصورةالبشر وإنما كان يكون بصورة رجل، لأن الناس لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته قاله ابن عباس ومجاهدوقتادة وابن زيد، ويؤيده هلاك الذي سمع صوت ملك في السحاب يقول: أقدم حيزوم فمات لسماع صوته فكيف لو رآهفي خلقته. قال ابن عطية: ولا يعارض هذا برؤية النبي لجبريل وغيره في صورهم، لأنه عليهالسلام أعطى قوة يعني غير قوى البشر وجاء بلفظ رجل ردًّا على المخاطبين بهذا، إذ كانوا يزعمون أن الملائكة إناث.وقال القرطبي: لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكاً لفروا من مقاربته وما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامهما يلكنهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم لقالوا: لستملكاً وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم؛ انتهى. وهو جمع كلام من قبله من المفسرين، وفيهذه الآية دليل على من أنكر نزول الملائكة إلى الأرض وقالوا: هي أجسام لطيفة ليس فيها ما يقتضي انحطاطها ونزولهاإلى الأرض، ورد ذلك عليهم بأنه تعالى قادر أن يودع أجسامها ثقلاً يكون سبباً لنزولها إلى الأرض ثم يزيل ذلك،فتعود إلى ما كانت عليه من اللطافة والخفة فيكون ذلك سبباً لارتفاعها؛ انتهى. هذا الردّ والذي نقول إن القدرة الإلهيةتنزل الخفيف وتصعد الكثيف من غير أن يجعل في الخفيف ثقلاً وفي الكثيف خفة وليس هذا بالمستحيل، فيتكلف أن يودعفي الخفيف ثقلاً وفي الكثيف خفة، وفي الآية دليل على إمكان تمثيل الملائكة بصورة البشر وهو صحيح واقع بالنقل المتواتر.{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك فيصورة إنسان: هذا إنسان وليس بملك، فإني أستدل بأني جئت بالقرآن المعجز وفيه أني ملك لا بشر كذبوه كما كذبواالرسل فخذلوا كما هم مخذولون، ويجوز أن يكون المعنى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } حينئذ مثل {مَّا يَلْبِسُونَ } على نفسهم الساعةفي كفرهم بآيات الله قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية: ولخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وضعفتهم،أي: لفعلنا لهم في ذلك تلبساً يطرّق لهم إلى أن يلبسوا به وذلك لا يحسن، ويحتمل الكلام مقصداً آخر أي{*للبسنا} نحن {سَوَاء عَلَيْهِمْ } كما يلبسون هم على ضعفتهم، فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله نحن؛ انتهى. وقال قوم: كانيحصل التلبيس لاعتقادهم أن الملائكة إناث فلو رأوه في صورة رجل حصل التلبيس عليهم كما حصل منهم التلبيس على غيرهم.وقال قوم منهم الضحاك: الآية نزلت في اليهود والنصارى في دينهم وكتبهم حرفوها وكذبوا رسلهم، فالمعنى في اللبس زدناهم ضلالاًعلى ضلالهم. وقال ابن عباس: لبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم بتحريف الكلام عن مواضعه، و{مَا } مصدرية وأضافاللبس إليه تعالى على جهة الخلق، وإليهم على جهة الاكتساب. وقرأ ابن محيصن: ولبسنا بلام واحدة والزهري {وَلَلَبَسْنَا } بتشديدالباء. {وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ }. هذه تسلية لرسول الله صلىالله عليه وسلم على ما كان يلقى من قومه وتأسّ بمن سبق من الرسل وهو نظير وإن يكذبوك فقد كذبرسل من قبلك لأن ما كان مشتركاً من ما لا يليق أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد وفي التسليةوالتأسي من التخفيف ما لا يخفى. وقالت الخنساء

: ولولا كثرة الباكين حولي     على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن

وقال بعض المولدين

: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة     يواسيك أو يسليك أو يتوجع

ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب ولا يتسلون بذلك، نفى ذلك تعالى عنهم فقال:

{ وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }

قيل: كان قوم يقولون: يجب أن يكون ملكاً من الملائكة علىسبيل الاستهزاء، فيضيق قلب الرسول عند سماع ذلك فسلاه الله تعالى بإخباره أنه قد سبق للرسل قبلك استهزاء قومهم بهمليكون سبباً للتخفيف عن القلب، وفي قوله تعالى: {فَحَاقَ } إلى آخره، إخبار بما جرى للمستهزئين بالرسل قبلك ووعيد متيقنلمن استهزأ بالرسول عليه السلام وتثبيت للرسول على عدم اكتراثه بهم، لأن مآلهم إلى التلف والعقاب الشديد المرتب على الاستهزاء،وأنه تعالى يكفيه شرهم وإذايتهم كما قال تعالى:

{ إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءينَ }

ومعنى {سَخِرُواْ } استهزؤوا إلا أن استهزأتعدّى بالباء وسخر بمن كما قال:

{ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }

وبالباء تقول: سخرت بهوتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ولم يتكرر في {وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء } فكان يكون التركيب، {فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ } استهزؤوا بهم لثقلاستفعل، والظاهر في {مَا } أن تكون بمعنى الذي وجوّزوا أن تكون {مَا } مصدرية، والظاهر أن الضمير في {مِنْهُمْ} عائد على الرسل، أي {فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ } من الرسل وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائداً على غيرالرسل. قال الحوفي: في أمم الرسل. وقال أبو البقاء: على المستهزئين، ويكون {مِنْهُمْ } حالاً من ضمير الفاعل في {سَخِرُواْ} وما قالاه وجوزاه ليس بجيد، أما قول الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور وهو خلاف الأصل، وأما قولأبي البقاء فهو أبعد لأنه يصير المعنى: {فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ } كائنين من المستهزئين فلا حاجة لهذه الحال لأنها مفهومةمن قوله {سَخِرُواْ } وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال {وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء } على أصل التقاء الساكنين. وقرأ باقيالسبعة بالضم اتباعاً ومراعاة لضم التاء إذ الحاجز بينهما ساكن، وهو حاجز غير حصين. {قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ ثُمَّٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ } لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمّة أمّية، لم تدرسالكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض، والنظر فيما حلبالمكذبين ليعتبروا بذلك وتتظافر مع الإخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون كما قال بعض العصريين

: لطائف معنى في العيان ولم تكن     لتدرك إلا بالتزاور واللقا

والظاهر أن السيرالمأمور به، هو الانتقال من مكان إلى مكان وإن النظر المأمور به، هو نظر العين وإن الأرض هي ما قربمن بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود. وقال قوم: السير والنظر هنا ليسا حسيينبل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها، ولذلك قال الحسن: سيروا في الأرضلقراءة القرآن أي: اقرؤوا القرآن وانظروا ما آل إليه أمر المكذبين، واستعارة السير {فِى ٱلاْرْضِ } لقراءة القرآن فيه بعد،وقال قوم: {ٱلاْرْضِ } هنا عام، لأن في كل قطر منها آثاراً لهالكين وعبراً للناظرين وجاء هنا خاصة {ثُمَّ ٱنْظُرُواْ} بحرف المهلة وفيما سوى ذلك بالفاء التي هي للتعقيب. وقال الزمخشري: في الفرق جعل النظر متسبباً عن السير فكانالسير سبباً للنظر، ثم قال: فكأنه قيل: {سِيرُواْ } لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين، وهنا معناه إباحة السير فيالأرض للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك بـ{ثُمَّ } لتباعد ما بين الواجب والمباح،انتهى. وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر متسبباً عن السير، فكان السير سبباً للنظر ثم قال: فكأنما قيل:{سِيرُواْ } لأجل النظر فجعل السير معلولاً بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا، ودعوى أن الفاء تكون سببية لا دليل عليهاوإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل ضربت زيداً فبكى وزنى ماعز فرجم، فالتسبيب فهم من مضمون الجملة لأن الفاء موضوعةله وإنما يفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط، وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هناسير إباحة وفي غيره سير واجب؟ فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وبين تلك المواضع.

{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } عدل

{قُل لّمَن مَّا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * قُل لِلَّهِ } لما ذكرتعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم، أمر نبيه بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أنذلك لله تعالى فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير ثم أمره تعالى بنسبةذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك. وقيل: في الكلام حذف تقديره فإذا لم يجيبوا {قُل لِلَّهِ} وقال قوم: المعنى أنه أمر بالسؤال فكأنه لما لم يجيبوا سألوا فقيل لهم {قُل لِلَّهِ } ولله خبر مبتدأمحذوف التقدير قل ذلك أو هو لله. {كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } لما ذكر تعالى أنه موجد العالم المتصرف فيهمبما يريد، ودل ذلك على نفاذ قدرته أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق وظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط، وقالبه قوم هنا وأنه أريد حقيقة الكتب والمعنى أمر بالكتب في اللوح المحفوظ. وقيل: {كِتَـٰبَ } هنا بمعنى وعد بهافضلاً وكرماً. وقيل: بمعنى أخبر. وقيل: أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم. وقيل: قضاها وأنفذها. وقال الزمخشري: أي أوجبهاعلى ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيد ما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض، انتهى.و{ٱلرَّحْمَةِ } هنا الظاهر أنها عامّة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا، وهي عبارة عن الاتصال إليهم والإحسان إليهم ولم يذكرمتعلق الرحمة لمن هي فتعم كما ذكرنا. وقيل: الألف واللام للعهد، فيراد بها الرحمة الواحدة التي أنزلها الله تعالى منالمائة {ٱلرَّحْمَةِ } التي خلقها وأخر تسعة وتسعين يرحم بها عباده في الآخرة. وقال الزجاج: {ٱلرَّحْمَةِ } إمهال الكفار وتعميرهمليتوبوا، فلم يعاجلهم على كفرهم. وقيل: {ٱلرَّحْمَةِ } لمن آمن وصدق الرسل. وفي صحيح مسلم لما قضى الله الخلق كتبفي كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ * لّلْعَـٰلَمِينَ *فِيهِ } لما ذكر أنه تعالى رحم عباده ذكر الحشر وأن فيه المجازاة على الخير والشر، وهذه الجملة مقسم عليهاولا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرنا. وحكى المهدويأن جماعة من النحويين قالوا: إنها تفسير للرحمة تقديره: أن يجمعكم، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من {ٱلرَّحْمَةِ} وهو مثل قوله

{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَـٰتِ لَيَسْجُنُنَّهُ }

المعنى أن يسجنوه، وردّ ذلكابن عطية بأن النون الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال: وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص من الواجب فيالقسم، انتهى. وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحداً مما ذكرنحو قوله تعالى:

{ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ }

وكذلك قوله: وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل لهشروط ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم عليه، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى علىخلاف القسم ويبطل ما ذكروه، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من الإعراب، فإذا قلت والله لأضربنّ زيداً،فلأضربنّ لا موضع له من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه، كانت جملة القسم والمقسم عليه في موضع رفع والجمعهنا قيل حقيقة أي {لَيَجْمَعَنَّكُمْ } في القبور إلى يوم القيامة، والظاهر أن {إِلَىٰ } للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين {إِلَىٰيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } وقيل: المعنى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ } في الدنيا يخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة وقد تكون {إِلَىٰ }هنا بمعنى اللام أي ليوم القيامة، كقوله تعالى:

{ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ }

وأبعد من زعمأن {إِلَىٰ } بمعنى في أي {فِى يَوْمٍ * ٱلْقِيَـٰمَةِ } وأبعد منه من ذهب إلى أنها صلة والتقدير {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} يوم القيامة، والظاهر أن الضمير في {فِيهِ } عائد إلى يوم القيامة وفيه ردّ على من ارتاب في الحشرويحتمل أن يعود على الجمع، وهو المصدر المفهوم من قولهم {لَيَجْمَعَنَّكُمْ }. {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }اختلف في إعراب {ٱلَّذِينَ } فقال الأخفش: هو بدل من ضمير الخطاب في {لَيَجْمَعَنَّكُمْ } وردّه المبرد بأن البدل منضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية. فقال: ما في الآية مخالفللمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله:هّ{لَيَجْمَعَنَّكُمْ } يصلحلمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال {ٱلَّذِينَ } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا بدلالبعض من الكل، انتهى. وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد، لأنه إذا جعلنا {لَيَجْمَعَنَّكُمْ } يصلح لمخاطبةالناس كافة كان {ٱلَّذِينَ } بدل بعض من كل، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } منهموقوله فيفيدنا إبدال {ٱلَّذِينَ } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدلكل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاصالخطاب بهم يكون بدل كل من كل، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش، أنه يجوزومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز، وهذا كلهمقرر في علم النحو. وقال الزجاج: {ٱلَّذِينَ } مرفوع على الابتداء والخبر قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ودخلت الفاء لماتضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل: من يخسر نفسه فهو لا يؤمن، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفةجملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون {ٱلَّذِينَ } منصوباً على الذمّ أي: أريد {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم }؛ انتهى وتقديرهبأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم بأذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع {ٱلَّذِينَ } جر نعتاًللمكذبين أو بدلاً منهم. وقال الزمخشري (فإن قلت): كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرهم والأمر بالعكس؟ (قلت): معناه{ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } في علم الله لاختيارهم الكفر {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }؛ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال بقوله: لاختيارهم الكفر.{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } لما ذكر تعالى أنه له ملك ما حوى المكان من السموات والأرض،ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار وإن كان كل واحد من الزمان والمكان يستلزم الآخر، لكن النص عليهما أبلغفي الملكية وقدم المكان لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان وله قال الزمخشري وغيره، هو معطوف على قوله {لِلَّهِ} والظاهر أنه استئناف إخبار وليس مندرجاً تحت قوله: قل، و{سَكَنَ } هنا قال السدّي وغيره: من السكنى أي ماثبت وتقرر، ولم يذكر الزمخشري غيره. قال: وتعديه بـ{فِى } كما في قوله:

{ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ }

وقالت فرقة: هو من السكون المقابل للحركة واختلف هؤلاء. فقيل: ثم معطوف محذوف أي وما تحرّك، وحذف كما حذففي قوله:

{ تقيكم الحر }

والبرد. وقيل: لا محذوف هنا واقتصر على الساكن لأن كل متحرك قد يسكن وليسكل ما يسكن يتحرك. وقيل: لأن السكون أكثر وجوداً من الحركة، وقال في قوله: {وَٱلنَّهَارَ } لأن من المخلوقات مايسكن بالنهار وينتشر بالليل، قاله مقاتل، ورجح ابن عطية القول الأول. قال: والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لايترتب إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت، وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن، ألا ترى أن الفلكوالشمس والقمر والنجوم السابحة والملائكة وأنواع الحيوان متحركة، والليل والنهار حاصران للزمان؛ انتهى. وليس بجيد لأنه قال لا يترتب العمومإلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت، ولا ينحصر فيما ذكر، ألا ترى أنه يترتب العموم على قول من جعلهمن السكون وجعل في الكلام معطوفاً محذوفاً أي وما تحرك، وعلى قول من ادعى أن كل ما يتحرك قد يسكنوليس كل ما يسكن يتحرك، فكل واحد من هذين القولين يترتب معه العموم فلم ينحصر العموم فيما ذكر ابن عطية.{وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } لما تقدم ذكر محاورات الكفار المكذبين وذكر الحشر الذي فيه الجزاء، ناسب ذكر صفة السمعلما وقعت فيه المحاورة وصفة العلم لتضمنها معنى الجزاء، إذ ذلك يدل على الوعيد والتهديد.

{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } * { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } * { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } * { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } * { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } * { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } * { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } * { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } * { ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } * { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { وَقَالُوۤاْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } * { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } * { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } * { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } عدل

فطر خلق وابتدأ من غير مثال، وعن ابن عباس ما كنت أعرف معنىفطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها، وفطر أيضاً شق يقال فطر نابالبعير ومنه هل ترى من فطور؟ وقوله: ينفطرن منه. كشف الضر: أزاله وكشفت عن ساقيها أزالت ما يسترهما. القهر: الغلبةوالحمل على الشيء من غير اختيار. الوقر: الثقل في السمع يقال وقرت أذته بفتح القاف وكسرها، وسمع أذن موقورة فالفعلعلى هذا وقرت والوقر بفتح الواو وكسرها. أساطير: جمع أسطارة وهي الترهات قاله أبو عبيدة. وقيل: أسطورة كأضحوكة. وقيل: واحدأسطور. وقيل: إسطير وإسطيرة. وقيل: جمع لا واحد له مثل عباديد. وقيل: جمع الجمع يقال سطر وسطر، فمن قال: سطرجمعه في القليل على أسطر وفي الكثير على سطور ومن قال: سطر جمعه على أسطار ثم جمع أسطاراً على أساطيرقاله يعقوب. وقيل: هو جمع جمع الجمع، يقال: سطر وأسطر ثم أسطار ثم أساطير ذكر ذلك عن الزجاج، وليس أسطارجمع أسطر بل هما جمعاً قلة لسطر. قال ابن عطية: وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط؛ انتهى. وهذا لا تسميه النحاة اسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعاً وإن لم يلفظ لهبواحد. نأى نأياً بعد وتعديته لمفعول منصوب بالهمزة لا بالتضعيف، وكذا ما كان مثله مما عينه همزة. وقف على كذا:حبس ومصدر المتعدي وقف ومصدر اللازم وقوف فرق بينهما بالمصدر. البغت والبغته: الفجأة يقال بغتة يبغته أي فجأه يفجأه وهيمجيء الشيء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير عامك بوقت مجيئه. فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير. وقالأبو عبيد: فرّط ضبع. وقال ابن بحر: فرّط سبق والفارط السابق، وفرط حلى السبق لغيره. الأوزار: الآثام والخطايا وأصله الثقلمن الحمل، وزرته جملته وأوزار الحرب أثقالها من السلاح، ومنه الوزير لأنه يحمل عن السلطان أثقال ما يسند إليه منتدبير ملكه. اللهو: صرف النفس عن الجد إلى الهزل يقال منه لها يلهو ولهي عن كذا صرف نفسه عنه، والمادةواحدة انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها نحو شقي ورضي. قال المهدوي: الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم لهيانولام الأول واو، انتهى. وهذا ليس بشيء لأن الواو في التثنية انقلبت ياء وليس أصلها الياء، ألا ترى إلى تثنيةشج شجيان وهو من ذوات الواو من الشجو. {قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } لماتقدّم أنه تعالى اخترع السموات والأرض، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك علىسبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ ولياً وناصراً ومعيناً لا الآلهة التي لكم، إذ هي لاتنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور، ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإنكار في اتخاذغير الله ولياً لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيداً وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإكرام أزيداًضربت، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو،

{ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَـٰهِلُونَ }

{ وَٱللَّهُ * أَذِنَ لَكُمْ }

وقال الطبري: وغيره أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم، فتجيء الآية علىهذا جواباً لكلامهم، انتهى. وهذا يحتاج إلى سند في أن سبب نزول هذه الآية هو ما ذكره وانتصاب غير علىأنها مفعول أول لاتخذ. وقرأ الجمهور {فَاطِرَ } فوجهه ابن عطية والزمخشري ونقلها الحوفي على أنه نعت لله، وخرجه أبوالبقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت، إذ البدلعلى المشهور هو على تكرار العامل وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو. قال ابن عطية: أو علىالابتداء؛ انتهى. ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه وقرىء شاذاً بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفةلولي على إرادة التنوين أو بدل منه أو حال، والمعنى على هذا أأجعل {فَاطِرَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } غير الله،انتهى. والأحسن نصبه على المدح. وقرأ الزهري فطر جعله فعلاً ماضياً. {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } أي يرزق ولايرزق كقوله:

{ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ }

والمعنى أن المنافع كلها من عند الله،وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات لمس الحاجة إليه كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الانتفاع بالربا. وقرأ مجاهدوابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وفي رواية عنه {وَلاَ يُطْعَمُ } بفتح الياء والمعنى أنهتعالى منزه عن الأكل ولا يشبه المخلوقين. وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة {وَلاَ يُطْعَمُ } بضم الياء وكسر العينمثل الأول فالضمير في {وَهُوَ يُطْعِمُ } عائد على الله وفي {وَلاَ يُطْعَمُ } عائد على الولي. وروى ابن المأمونعن يعقوب {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير لغير الله، وقرأ الأشهب: {وَهُوَ يُطْعِمُوَلاَ يُطْعَمُ } على بنانهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت. قال الزمخشري:ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك هو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغنيويفقر، وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل وهو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين وسماه أسامة بن منقذفي بديعته تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى. {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } قال الزمخشري:لأن النبيّ سابق أمته في الإسلام كقوله

{ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ }

وكقول موسى

{ سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قال ابن عطية: المعنى أوّل من أسلم من هذه الأمّة وبهذه الشريعة، ولا يتضمن من الكلامإلا ذلك وهذا الذي قاله الزمخشري وابن عطية هو قول الحسن. قال الحسن: معناه أول من أسلم من أمتي. قيل:وفي هذا القول نظر لأن النبي لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه، وإنماهذا على طريق التعريض على الإسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يتبعه بقوله أنا أول من يفعل ذلك ليحملهمعلى فعل ذلك. وقيل: أراد الأوّلية في الرتبة والفضيلة كما جاء نحن الآخرون الأوّلون وفي رواية السابقون. وقيل: {أَسْلَمَ }أخلص ولم يعدل بالله شيئاً. وقيل: استسلم. وقيل: أراد دخوله في دين إبراهيم عليه السلام كقوله:

{ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل }

وقيل: أول من أسلم يوم الميثاق فيكون سابقاً على الخلق كلهم، كما قال:

{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح }

وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } }أي وقيل لي والمعنىأنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار. وقيل لي: لأنه لا ينتظم عطفه علىلفظ {*}أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار. وقيل لي:لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } فيكون مندرجاً تحت لفظ {قُلْ }إذ لو كان كذلك لكان التركيب ولا أكون من المشركين. وقيل: هو معطوف على معمول {قُلْ } حملاً على المعنى،والمعنى {قُلْ إِنّى } قيل لي كن {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } فهما جميعاً محمولان على القوللكن أتى الأول بغير لفظ القول، وفيه معناه فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على {قُلْ } أمر بأنيقول كذا ونهى عن كذا. وقيل: هو نهى عن موالاة المشركين. وقيل: الخطاب له لفظاً والمراد أمته وهذا هو الظاهرلقوله

{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }

والعصمة تنافي إمكان الشرك. {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍعَظِيمٍ } }الظاهر أن الخوف هنا على بابه وهو توقع المكروه. وقال ابن عباس معنى {*}الظاهر أن الخوف هنا علىبابه وهو توقع المكروه. وقال ابن عباس معنى {أَخَافُ } أعلم و{عَصَيْتُ } عامّة في أنواع المعاصي، ولكنها هنا إنماتشير إلى الشرك الذي نهى عنه قاله ابن عطية. والخوف ليس بحاصل لعصمته بل هو معلق بشرط هو ممتنع فيحقه وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي. فقيل: هو شرط معترض لا موضع له من الإعرابكالاعتراض بالقسم. وقيل: هو في موضع نصب على الحال كأنه قيل إني أخاف عاصياً ربي. وقال أبو عبد الله الرازي:مثال الآية إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة متساويتين يعني أنه تعليق على مستحيل واليوم العظيم هو يوم القيامة.{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } قرأ حمزة وأبو بكر والكسائي {مَّن يُصْرَفْ } مبنياً للفاعل فمن مفعول مقدموالضمير في {يُصْرَفْ } عائد على الله ويؤيده قراءة أبي {مَّن يُصْرَفْ } الله وفي {عَنْهُ } عائد على العذابوالضمير المستكن في {رَحِمَهُ } عائد على الرب أي أيّ شخص يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه الرحمة العظمى وهيالنجاة من العذاب، وإذا نجّى من العذاب دخل الجنة ويجوز أن يعرب من مبتدأ والضمير في {عَنْهُ } عائد عليه،ومفعول {*بصرف} محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية قبل التقدير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه، وعلىهذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون {صَـلَحَ مِنْ } منصوباً بإضمار فعل يفسره معنى {يُصْرَفْ } ويجوز علىإعراب {مِنْ } مبتدأ أن يكون المفعول مذكوراً، وهو {يَوْمَئِذٍ } على حذف أي هول يومئذ فينتصب {يَوْمَئِذٍ } انتصابالمفعول به. وقرأ باقي السبعة {مَّن يُصْرَفْ } مبنياً للمفعول ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أوللإيجاز إذ قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في {يُصْرَفْ } عائداً على {مِنْ }وفي {عَنْهُ } عائداً على العذاب أي أيّ شخص يصرف عن العذاب، ويجوز أن يكون الضمير عائداً على {مِنْ }ومفعول {يُصْرَفْ } {يَوْمَئِذٍ } وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في موضع رفع بيصرف والتنوين في {يَوْمَئِذٍ } تنوينعوض من جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم، إذ يكونن الجزاء إذ لم يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوينعوضاً عنها، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينهقراءة {يُصْرَفْ } مبنياً للفاعل لتناسب {فَقَدْ رَحِمَهُ } ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد الله وأبي {مَّن يُصْرَفْ} الله ورجح الطبري قراءة {يُصْرَفْ } مبنياً للمفعول قال: لأنها أقل إضماراً. قال ابن عطية: وأما مكي بن أبيطالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة. قال ابن عطية: وهذا توجيهلفظي يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف، وأما المعنى فالقراءتان واحد؛ انتهى. وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بينالقراءتين المتواترتين. وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا العباس أحمد بن يحيـى ثعلباً كان لا يرى الترجيحبين القراءات السبع. وقال: قال ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة، لم أفضل إعراباً علىإعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا، أحمد بن يحيـى كان عالماً بالنحوواللغة متديناً ثقة. {وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } الإشارة إلى بـ {ذٰلِكَ } المصدر المفهوم {مَّن يُصْرَفْ } أي وذلكالصرف هو الظفر والنجاة من الهلكة و{ٱلْمُبِينُ } البين في نفسه أو المبين غيره. {وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَكَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدُيرٌ } أي إن يصبك وينلك بضرّ وحقيقة المستلاقي جسمين، ويظهر أن الباء في {بِضُرّ } وفي {بِخَيْرٍ } للمتعدية وإن كان الفعل متعدياً كأنه قيل: {وَإِن يَمْسَسْكَٱللَّهُ } لضر فقد مسك، والتعدية بالباء في الفعل المتعدّي قليلة ومنها قوله تعالى:

{ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ }

وقول العرب: صككت أحد الحجرين بالآخر والضر بالصم سوء الحال في الجسم وغيره، وبالفتح ضد النفع وسر السدّيالضر هنا بالسقم والخبر بالعافية. وقيل: الضر الفقر والخير الغنى والأحسن العموم في الضر من المرض والفقر وغير ذلك، وفيالخير من الغنى والصحة وغير ذلك، وفي حديث ابن عباس عن النبي : فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه أخرجه الترمذي. والذي يقابل الخير هو الشر وناب عنه هنا الضر وعدل عن الشر، لأن الشر أعم من الضر فأتيبلفظ الضر الذي هو أخص وبلفظ الخير الذي هو عام مقابل لعام تغليباً لجهة الرحمة. قال ابن عطية: ناب الضرّهنا مناب الشر وإن كان الشر أعم منه، فقابل الخير وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والضعة فإن بابالتكلف في ترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة، فمن ذلك

{ ألا تجوع فيها ولا تعرّى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحّي }

فجاء بالجوع مع الغريّ وبابه أن يكونمع الظمأ ومنه قول امرىء القيس

: كأني لم أركب جواد اللذة     ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبا الزق الروى ولم أقللخيلي كرى كرة بعد إجفال

انتهى. والجامع في الآية بينالجوع والغريّ هو اشتراكهما في الخلو فالجوع خلو الباطن والعريّ خلو الظاهر وبين الظما والضحاء اشتراكهما في الاحتراق، فالظما احتراقالباطن ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي والضحاء احتراق الظاهر والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة وهيالصيد وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر والظفر بمثل هذا الركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركبهو فعل بمعنى مفعول أي مركوب قال الراجز

: إن لها لركباً ارزبا     كأنه جبهة ذرى حبا

وفي البيت الثاني بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل؟فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح وما أحسن بعقل امرىء القيس في بيتيه، حيث انتقلمن الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشقأكثر من تعلقها بالصيد ولأن بذل الروج أعظم من بذل المال، ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ظاهرة لاتصالهبما قبله وهو الترهيب الدال عليه {قُلْ إِنّى أَخَافُ } وما قبله وجاء جواب الأول بالحصر في قوله: {فَلاَ كَـٰشِفَلَهُ إِلاَّ هُوَ } مبالغة في الاستقلال بكشفه وجاء جواب الثاني بقوله: {فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدُيرٌ } دلالة علىقدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخيرأو غيره، ولو قيل: إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجهاً حسناًوتقديره فلا موصل له إليك إلا هو والأحسن تقديره، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله وإن يردك بخيرفلا راد لفضله ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر، وهو قدرته على كل شيء وفي قوله: {فَلاَ كَـٰشِفَلَهُ إِلاَّ هُوَ } حذف تقديره فلا كاشف له عنك إلا هو. {وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ} لما ذكره تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته، وأن العالم مقهورونممنوعون من بلوغ مرادهم بل يفسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى وفوق حقيقة في المكان وأبعد من جعلها هنازائدة، وأن التقدير وهو القاهر لعباده وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا حقيقة في المكان، وأنه تعالىحال في الجهة التي فوق العالم إذ يقتضي التجسيم وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز. فقال بعضهم: هو فوقهمبالإيجاد والإعدام. وقال بعضهم: هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم. وقال الزمخشري: تصوير للقهروالعلو والغلبة والقدرة كقوله:

{ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ }

انتهى. والعرب تستعمل {فَوْقَ } إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيرهمن الرتب ومنه قوله:

{ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }

وقوله:

{ وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ }

وقال النابغةالجعدي

: بلغنا السماء مجداً وجوداً وسؤددا     وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً

يريد علو الرتبة والمنزلة. وقال أبو عبد الله الرازي: صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله: {وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَعِبَادِهِ } إشارة إلى كمال القدرة {وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهراً فلأن ما عداهتعالى ممكن الوجود لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده، فهوفي الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود، ويدخلفيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله:

{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ }

الآية. والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنةآمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم، لأن {ٱلْخَبِيرُ } إشارة إلى العلم فيلزم التكرار؛ انتهى، وفيه بعض اختصاروتلخيص. وقيل: {ٱلْحَكِيمُ } العالم و{ٱلْخَبِيرُ } أيضاً العالم ذكره تأكيداً و{فَوْقَ } منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أيالمستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما: أنه القاهر الثاني أنهفوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته فالفوقية مستعارة للمعنىمن فوقية المكان، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال: وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبوالبقاء، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر. قال ابن عطية: مامعناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم لههذا المعنى مبسوطاً مطولاً ورددنا عليه. {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } قال المفسرون:سألت قريش شاهداً على صحة نبوة محمد فقالوا: أي دليل يشهد بأن الله يشهد لك؟ فال:هذا القرآن تحديتكم به فعجزتم عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه، وقال الكلبي: قال رؤساء مكة: يا محمد ما نرىأحداً يصدقك فيما تقول في أمر الرسالة ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة،فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله هذه الآية. وقيل: سأل المشركون لما نزل {وَإِن يَمْسَسْكَٱللَّهُ بِضُرّ } الآية فقالوا: من يشهد لك على أن هذا القرآن منزل من عند الله عليك وأنه لا ضرولا ينفع إلا الله؟ فقال الله وهذا القرآن المعجز وأي استفهام والكلام على أقسام أي وعلة إعرابها مذكور في علمالنحو وشيء تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة وذكر الخلاف في مدلوله الحقيقي. وقال الزمخشري: الشيء أعم العام لوقوعهعلى كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجوهر والعرض والمحال والمستقيم، ولذلك صح أن يقال فيالله عز وجل شيء لا كالأشياء كأنك قلت معلوم لا كسائر المعلومات ولا يصح جسم لا كالأجسام وأراد {أَىُّ شَىْءأَكْبَرُ شَهَـٰدةً } فوضع شيئاً مكان {شَهِيدٌ } ليبالغ في التعميم؛ انتهى. وقال ابن عطية: وتتضمن هذه الآية أنالله عز وجل يقال عليه شيء كما يقال عليه موجود ولكن ليس كمثله شيء، وقال غيرهما هنا شيء يقع علىالقديم والمحدث والجوهر والعرض والمعدوم والموجود ولما كان هذا مقتضاه، جاز إطلاقه على الله عز وجل واتفق الجمهور على ذلكوخالف الجهم وقال: لا يطلق على الله شيء ويجوز أن يسمى ذاتاً وموجوداً وإنما لم يطلق عليه شيء لقوله

{ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء }

فيلزم من إطلاق شيء عليه أن يكون خالقاً لنفسه وهو محال ولقوله:

{ وَللَّهِ ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ }

والإسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة كمال ونعت جلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون حاصلاًفي أخس الأشياء وأرذلها، فلا يدل على صفة كمال ولا نعت جلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله به لمالم يكن من الأسماء الحسنى، ولتناوله المعدوم لقوله

{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً }

فلا يفيد إطلاقشيء عليه امتياز ذاته على سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة مميزة، ولا يفيد كونه مطلقاً فوجب أن لا يجوزإطلاقه على الله تعالى ولقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء }} وذات كل شيء مثل نفسه نفسه فهذا تصريح بأنه تعالىلا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة لأن جعل كلمة من القرآن عبثاً باطلاً لا يليق ولا يصار إليهإلا عند الضرورة الشديدة. وأجيب بأن لفظ شيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العامّ فمتى صدق كونه ذاتاً حقيقةوجب أن يصدق كونه شيئاً واحتج الجمهور بهذه الآية وتقريره أن المعنى أي الأشياء أكبر شهادة، ثم جاء في الجوابقل الله وهذا يوجب إطلاق شيء عليه واندراجه في لفظ شيء المراد به العموم ولو قلت أي الناس أفضل؟ فقيل:جبريل لم يصح لأنه لم يندرج في لفظ الناس، وبقوله تعالى: {*} وذات كل شيء مثل نفسه نفسه فهذا تصريحبأنه تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة لأن جعل كلمة من القرآن عبثاً باطلاً لا يليق ولايصار إليه إلا عند الضرورة الشديدة. وأجيب بأن لفظ شيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العامّ فمتى صدق كونهذاتاً حقيقة وجب أن يصدق كونه شيئاً واحتج الجمهور بهذه الآية وتقريره أن المعنى أي الأشياء أكبر شهادة، ثم جاءفي الجواب قل الله وهذا يوجب إطلاق شيء عليه واندراجه في لفظ شيء المراد به العموم ولو قلت أي الناسأفضل؟ فقيل: جبريل لم يصح لأنه لم يندرج في لفظ الناس، وبقوله تعالى:

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }

والمراد بوجهه ذاته والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه فدل على أنه يطلق عليه شيء ولجهم أن يقول:هذا استثناء منقطع، والدليل الأول لم يصرح فيه بالجواب المطابق إذ قوله: {قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } مبتدأ وخبرذي جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها من جهة الصناعة الإعرابية بل قوله: {أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً }هو استفهام على جهة التقرير والتوقيف، ثم أخبر بأن خالق الأشياء والشهود هو الشهيد بيني وبينكم وانتظم الكلام من حيثالمعنى فالجملة ليست جواباً صناعياً وإنما يتم ما قالوه لو اقتصر على قل الله، وقد ذهب إلى ذلك بعضهم فأعربهمبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل الله أكبر شهادة ثم أضمر مبتدأ يكون شهيد خبراً له تقديرههو {شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } ولا يتعين حمله على هذا، بل هو مرجوح لكونه أضمر فيه آخراً وأولاً والوجه الذيقبله لا إضمار فيه مع صحة معناه فوجب حمل القرآن على الراجح لا على المرجوح. وقال ابن عباس: قال اللهلنبيه محمد : قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإن أجابوك وإلا فقل لهم: {ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِىوَبَيْنَكُمْ }. وقال مجاهد: المعنى أن الله قال لنبيه: قل لهم: {أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } وقل لهم {ٱللَّهِ شَهِيدٌبِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي في تبليغي وكذبكم وكفركم. وقال ابن عطية: هذه الآية مثل قوله:

{ قُل لّمَن مَّا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * قُل لِلَّهِ }

في أن استفهم على جهة التوقيف والتقريز، ثم بادر إلى الجواب إذ لايتصوّر فيه مدافعة كما تقول لمن تخاصمه وتنظلم منه من أقدر في البلد؟ ثم تبادر وتقول: السلطان فهو يحول بيننا،فتقدير الآية: قل لهم أيّ شيء أكبر شهادة هو شهيد بيني وبينكم، انتهى. وليست هذه الآية نظير قوله: {قُل لّمَنفِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * قُل لِلَّهِ } لأن لله يتعين أن يكون جواباً وهنا لا يتعين إذ ينعقد منقوله: قل الله شهيد بيني وبينكم} مبتدأ وخبر وهو الظاهر، وأيضاً ففي هذه الآية لفظ شيء وقد تتوزع في إطلاقهعلى الله تعالى وفي تلك الآية لفظ من وهو يطلق على الله تعالى. قيل: معنى {*} مبتدأ وخبر وهو الظاهر،وأيضاً ففي هذه الآية لفظ شيء وقد تتوزع في إطلاقه على الله تعالى وفي تلك الآية لفظ من وهو يطلقعلى الله تعالى. قيل: معنى {أَكْبَرَ } أعظم وأصح، لأنه لا يجري فيها الخطأ ولا السهو ولا الكذب. وقيل: معناهاأفضل لأن مراتب الشهادات في التفضيل تتفاوت بمراتب الشاهدين وانتصب شهادة على التمييز. قال ابن عطية: ويصح على المفعول بأنيحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل؛ انتهى. وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعلمن لا يشتبه بالصفة المشبهة باسم الفاعل، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعللأن شرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع، وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه منالنحاة فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولاً وجعل {أَكْبَرَ } مشبهاً بالصفة المشبهة وجعل منصوبه مفعولاً وهذا تخليط فاحشولعله يكون من الناسخ لا من المصنف، ومعنى {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } بيننا ولكنه لما أضيف إلى ياء المتكلم لم يكنبعد من إعادة بين وهو نظير قوله فأيي ما وأيك كان شرًّا. وكلاي وكلاك ذهب أن معناه فأينا وكلانا.{وَأُوحِىَ * قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ } قرأ الجمهور {وَأُوحِىَ } مبنياً للمفعول والقرآن مرفوع به. وقرأعكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري {وَأُوحِىَ } مبنياً للفاعل والقرآن منصوب به، والمعنى لأنذركم ولأبشركم فحذف المعطوف لدلالة المعنىعليه أو اقتصر على الإنذار لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهاً، والظاهر وهو قول الجمهورإن {مِنْ } في موضع نصب عطفاً على مفعول {لاِنذِرَكُمْ } والعائد على {مِنْ } ضمير منصوب محذوف وفاعل {بَلَغَ} ضمير يعود على القرآن } ومن بلغه هو أي {*} ومن بلغه هو أي {ٱلْقُرْءانَ } والخطاب في {لاِنذِرَكُمْبِهِ } لأهل مكة. وقال مقاتل: ومن بلغه من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة،وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ، وفي الحديث: من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره وقالت فرقة: الفاعل بـ{بَلَغَ } عائد على {مِنْ } لا على {ٱلْقُرْءانَ } والمفعول محذوف والتقديرومن بلغ الحلم، ويحتمل أن يكون {مِنْ } في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في {لاِنذِرَكُمْ بِهِ } وجازذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن. {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُشَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ } قرىء {إِنَّكُمْ * لَتَشْهَدُونَ } بصورة الإيجاب فاحتمل أن يكون خبراً محضاً واحتمل الاستفهام على تقديرحذف أداته ويبين ذلك قراءة الاستفهام، فقرىء بهمزتين محققتين وبإدخال ألف بينهما وبتسهيل الثانية وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزةالمسهلة، روى هذه القراءة الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو ونافع، وهذا الاستفهام معناه التقريع لهم والتوبيخ والإنكار عليهم فإن كانالخطاب لأهل مكة فالآلهة الأصنام فإنهم أصحاب أوثان، وإن كان لجميع المشركين فالآلهة كل ما عبد غير الله تعالى منوثن أو كوكب أو نار أو آدمي وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة، كقوله:

{ مَأَرِبُ أُخْرَىٰ * ٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ }

ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً أجريت هذا المجرى. {قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَاهُوَ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } أمره تعالى أن يخبرهم أنه لا يشهد شهادتهم وأمره ثانياً أن يفردالله تعالى بالإلهية، وأن يتبرأ من إشراكهم وما أبدع هذا الترتيب أمر أولاً بأن يخبرهم بأنه لا يوافقهم في الشهادةولا يلزم من ذلك إفراد الله بالألوهية فأمر به ثانياً ليجتمع مع انتفاء موافقتهم إثبات الوحدانية لله تعالى، ثم أخبرثالثاً بالتبرؤ من إشراكهم وهو كالتوكيد لما قبله، ويحتمل أن لا يكون ذلك داخلاً تحت القول ويحتمل وهو الظاهر أنيكون داخلاً تحته فأمر بأن يقول الجملتين، فظاهر الآية يقتضي أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنها نزلت في قوممن اليهود وأسند إلى ابن عباس قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب ومجزىء بن عمرو فقالوا: يا محمدما تعلم مع الله إلهاً غيره فقال: لا إله إلا الله بذلك أمرت فنزلت الآية فيهم. {ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَيَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة وشرح الثانية فيهذه السورة من قريب، وقالوا هنا الضمير في {يَعْرِفُونَهُ } عائد على الرسول قاله قتادة والسدي وابن جريج والجمهور، ومنهمعمر بن الخطاب، أو على التوحيد وذلك لقرب قوله: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } وفيه استشهاد على كفرة قريشوالعرب بأهل الكتاب أو على القرآن قاله فرقة لقوله: {وَأُوحِىَ * قُلْ أَىُّ شَىْء }. وقيل يعود على جميع هذهالأشياء من التوحيد والرسول والقرآن، كأنه ذكر أشياء ثم قال أهل الكتاب {يَعْرِفُونَهُ } أي يعرفون ما قلنا وما قصصنا.وقيل: يعود على كتابهم أي: يعرفون كتابهم وفيه ذكر نبوة محمد . وقيل: يعود على الدين والرسولفالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله وأن محمد رسول الله و{ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } هنا لفظه علم ويراد به الخاص،فإن هذا لا يعرفه ولا يقربه إلا من آمن منهم أو من أنصف و{ٱلْكِتَـٰبِ } التوراة والإنجيل ووحد رداً إلىالجنس. وقيل: {ٱلْكِتَـٰبِ } هنا القرآن والضمير في {يَعْرِفُونَهُ } عائد عليه ذكره الماوردي. وقال أبو عبد الله الرازي ماملخصه: إن كان المكتوب في التوراة والإنجيل خروج نبي في آخر الزمان فقط، فلا يتعين أن يكون هو محمداً صلىالله عليه وسلم أو معيناً زمانه ومكانه ونسبه وحليته وشكله، فيكونون إذ ذاك عالمين به بالضرورة ولا يجوز الكذب علىالجمع العظيم ولأنا نعلم بالضرورة أن كتابهم لم يشتمل على هذه التفاصيل التامة وعلى هذين التقديرين، فكيف يصح أن يقال:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ }، وأجاب بأنهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال وكانوا شاهدوا ظهور المعجزات على يد الرسول فعرفوا بالمعجزاتكونه رسولاً من عند الله، فالمقصود تشبيه معرفته بمعرفة أبنائهم بهذا القدر الذي ذكرناه؛ انتهى. ولا يلزم ذلك التقسيم الذيذكره لأنه لم يقل يعرفونه بالتوراة والإنجيل إنما ذكر {يَعْرِفُونَهُ } فجاز أن تكون هذه المعرفة مسندة إلى التوراة والإنجيلمن أخبار أنبيائهم ونصوصهم، فالتفاصيل عندهم من ذلك لا من التوراة والإنجيل فيكون معرفتهم إياه مفصلة واضحة بالأخبار لا بالنظرفي المعجزات {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } وأيضاً فلا نسلم له حصر التقسيم فيما ذكره لأنه يحتمل قسماً آخر وهو أنيكون التوراة والإنجيل يدلان على خروج نبي في آخر الزمان، وعلى بعض أوصافه لا على جميع الأوصاف التي ذكرت منتعيين زمان ومكان وننسب وحلية وشكل، ويدل على هذا القسم حديث عمر مع عبد الله بن سلام وقوله له: إنالله أنزل على نبيه بمكة إنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: نعم أعرفهبالصفة التي وصفه الله بها في التوراة؟ فلا أشك فيه وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه، ومما يدل أيضاًعلى أن معرفتهم إياه لا يتعين أن يكون مستندها التوراة والإنجيل فقط، أسئلة عبد الله بن سلام حين اجتمع أولاجتماعه برسول الله ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ فحين أخبره بجواب تلك الأسئلة أسلم للوقتوعرف أنه الرسول الذي نبه عليه في التوراة، وحديث زيد بن سعنة حين ذكر أنه عرف جميع أوصافه صلى اللهعليه وسلم غير أنه لم يعرف أن حلمه يسبق غضبه فجرب ذلك منه، فوجد هذه الصفة فأسلم وأعرب {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ} مبتدأ والخبر {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } و{ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ } على هذا أعم من أهل الكتاب الجاحدين ومن المشركين، والخسرانالغبن وروي أن لكل عبد منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلونمنازل أهل الجنة في النار، فالخسارة والربح هنا وجوزوا أن يكون {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ } نعتاً لقوله: {ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ }و{فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة معطوفة على جملة فيكون مساق {ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } مساق الذم لا مقام الاستشهاد بهمعلى كفار قريش وغيرهم من العرب، قالوا: لأنه لا يصح أن يستشهد بهم ويذموا في آية واحدة. وقال ابن عطية:يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه وأن الذم والاستشهاد من جهة واحدة؛ انتهى. ويكون {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ} إذ ذاك ليس عاماً إذ التقدير الذين خسروا أنفسهم منهم أي من أهل الكتاب. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰعَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَـٰتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } تقدم الكلام على {وَمَنْ أَظْلَمُ } والافتراء الاختلاف، والمعنىلا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله. قال الزمخشري: جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على اللهبما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا،وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ونسبوا إليه تحريم السوائب والبحائر وكذبوا القرآن والمعجزاتوسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول؛ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال بقوله: حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا. وقالابن عطية: ممن افترى اختلق والمكذب بالآيات مفتري كذب ولكنهما من الكفر فلذلك نصا مفسرين؛ انتهى. ومعنى {لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة، بل يبقون في الحرمان والخذلان ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم والظالمغير الأظلم وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم؟. {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } قيل: {يَوْمٍ } معمول لا ذكر محذوفة على أنه مفعول به قاله ابن عطية وأبو البقاء.وقيل: المحذوف متأخر تقديره {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف قالهالزمخشري. وقيل: العامل انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم. وقيل: هو مفعول به لمحذوف تقديره وليحذروا يوم نحشرهم. وقيل: هو معطوفعلى ظرف محذوف، والعامل فيه العامل في ذلك الظرف والتقدير أنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم قالهالطبري. وقرأ الجمهور {نَحْشُرُهُمْ } ثم نقول بالنون فيهما. وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء. وقرأ أبو هريرة {نَحْشُرُهُمْ } بكسرالشين، والظاهر أن الضمير في {نَحْشُرُهُمْ } عائد على الذين افتروا على الله الكذب، أو كذبوا بآياته وجاء {ثُمَّ نَقُولُلِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } بمعنى ثم نقول لهم ولكنه نبه على الوصف المترتب عليه توبيخهم ويحتمل أن يعود على الناس كلهموهم مندرجون في هذا العموم ثم تفرد بالتوبيخ المشركون. وقيل: الضمير عائد على المشركين وأصنامهم ألا ترى إلى قولهم

{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوٰجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ }

من دون الله وعطف بـ{*بثم} للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامةفي المواقف، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم، و{أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } سؤالتوبيخ وتقريع وظاهر مدلول {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها. وقال الزمخشري:ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة فكأنهم غيب عنهم وأن يحالبينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فيرو إمكان خزيهم وحسرتهم، انتهى. والمعنى أينآلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء، وإنما أوقع عليهااسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام، ولذلك قالابن عباس: كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب وإنما خص القرآن لأنه ينطلق على مجرد الذكر والقول ومنه قولالشاعر

: تقول هلكنا وإن هلكت وإنما     على الله أرزاق العباد كما زعم

وقال ابن عطية: وعلى هذا الحد يقول سيبوية: بزعم الخليل ولكن ذلك يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته علىقائله؛ انتهى. وحذف مفعولاً {يَزْعُمُونَ } اختصاراً إذ دل ما قبله على حذفهما والتقدير تزعمونهم شركاء، ويحسن أن يكون التقديركما قال بعضهم: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } إنها تشفع لكم عند الله عز وجل. {ثُمَّ لَمْ تَكُنْفِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشيء والإعجاب به كماتقول: فتنت بزيد فعلى هذا يكون المعنى، ثم لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفواعلى عجزها إلا التبرؤ منها والإنكار لها، وفي هذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدّعي مودّة آخر ثم انحرفعنه وعاداه يا فلان لم تكن مودّتك لفلان إلا أن عاديته وباينته والمعنى على {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } بمعنى مودّتهموإعجابهم بالأصنام إلا البراءة منهم باليمين المؤكدة لبراءتهم، وتكون الفتنة واقعة في الدنيا وشرحت أيضاً بالاختبار والمعنى: ثم لم يكناختبارنا إياهم إذ السؤال عن الشركاء وتوقيفهم اختبار لإنكارهم الإشراك وتكون الفتنة هنا واقعة في القيامة، أي: ثم لم يكنجواب اختبار نالهم بالسؤال عن شركائهم إلا إنكار التشريك؛ انتهى، ملخصاً من كلام ابن عطية مع بعض زيادة. وقال الزمخشري:{فِتْنَتُهُمْ } كفرهم والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا: دين آبائنا إلاجحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به، ويجوز أن يراد ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا: فسمىفتنة لأنه كذب؛ انتهى. والشرح الأول من شرح ابن عطية معناه للزجاج والأول من تفسير الزمخشري لفظه للحسن، ومعناه لابنعباس والثاني لمحمد بن كعب وغيره. قال: التقدير ثم لم يكن جوابهم {إِلاَّ أَن قَالُواْ } وسمي هذا القول فتنةلكونه افتراءً وكذباً. وقال الضحاك: الفتنة هنا الإنكار أي ثم لم يكن إنكارهم. وقال قتادة: عذرهم. وقال أبو العالية: قولهم.وقال عطاء وأبو عبيدة: بينهم وزاد أبو عبيدة التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة. وقيل: حجتهم، والظاهر أن الضمير عائد علىالمشركين وأنه عام فيمن أشرك. وقال الحسن: هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، وقيل: هم قوم كانوا مشركينولم يعلموا أنهم مشركون فيحلفون على اعتقادهم في الدنيا. وقرأ الجمهور {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } وحمزة والكسائي بالياء وأبي وابنمسعود والأعمش وما كان فتنتهم، وطلحة وابن مطرف ثم ما كان والابنان وحفص {فِتْنَتُهُمْ } بالرفع وفرقة ثم لم يكنبالياء، و{فِتْنَتُهُمْ } بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على الأشهر قراءة ثم لم يكن {فِتْنَتُهُمْ } بالياء بالنصب،لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا إن الأشهرجعل الأعرف هو الاسم وما دونه هو الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى:

{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ }

{ وَمَا كَانَ * حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ }

ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكرالفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر، والفتنة اسم يكن والخبر {إِلاَّ أَن قَالُواْ }جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث الفتنة والإعراب كإعرابما تقدم قبله، ومن قرأ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } بالتاء {فِتْنَتُهُمْ } بالنصب فالأحسن أن يقدر {إِلاَّ أَن قَالُواْ }مؤنثاً أي {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } إلا مقالتهم. وقيل: ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى. قال أبوعلي: وهذا كقوله تعالى:

{ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }

فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى. وقال الزمخشري: وقرىء {تَكُنْ} بالتاء و{فِتْنَتُهُمْ } بالنصب وإنما أتت {أَن قَالُواْ } لوقوع الخبر مؤنثاً كقوله: من كانت أمك؛ انتهى. وتقدم لناأن الأولى أن يقدر {أَن قَالُواْ } بمؤنث أي إلا مقالتهم. وكذا قدره الزجاج بمؤنث أي مقالتهم، وتخريج الزمخشري ملفقمن كلام أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من، لأن من لها لفظ مفردولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر، ألا ترى أنهيجيء حيث لا خبر نحو

{ ومنهم من يستمعون إليك }

ونكن مثل من يا ذئب يصطحبان. ومن تقنت فيقراءة التاء فليست تأنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أيةامرأة كانت أمك. وقرأ الأخوان {وَٱللَّهِ رَبّنَا } بنصب الباء على النداء أي يا ربنا، وأجاز ابن عطية فيه النصبعلى المدح وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان. وقرأ عكرمةوسلام بن مسكين والله ربنا برفع الاسمين. قال ابن عطية: وهذا على تقديم وتأخير أنهم قالوا: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }{وَٱللَّهِ رَبّنَا } ومعنى {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } جحدوا إشراكهم في الدنيا، روي أنهم إذا رأوا إخراج من في النارمن أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم؟ فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان وهذاالذي روي مخالف لظاهر الآية، وهو {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } ثم نقول فظاهره أنه لا يتراخى القول عن الحشر هذاالتراخي البعيد من دخول العصاة المؤمنين النار وإقامتهم فيها ما شاء الله وإخراجهم منها، ثم بعد ذلك كله يقال لهمأين شركاؤكم؟ وأتى رجل إلى ابن عباس فقال: سمعت الله يقول: {وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وفي أخرى

{ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً }

فقال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا: تعالوا فلنجحد وقالوا:{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً. {ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} الخطاب للرسول عليه السلام والنظر قلبي و{كَيْفَ }منصوب بـ{كَذَّبُواْ } والجملة في موضع نصب بالنظر لأن {أَنظُرْ } معلقةو{كَذَّبُواْ } ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضعالمستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد. قال الزمخشري (فإن قلت): كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور علىأن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته. (قلت): الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً،ألا تراهم يقولون

{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ }

وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا: يامالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم، وأما قول من يقول معنا {وَمَا كُنَّا * مُشْرِكِينَ }عند أنفسنا أو ما علمنا إنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله: {ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } يعني فيالدنيا فتحمل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإفحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجمعنه ولا بمنطبقٍ عليه، وهو ناب عنه أشدّ النبوّ وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله:

{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ }

بعد قوله:

{ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا؛ انتهى. وقول الزمخشري. وأما قول من يقولفهو إشارة إلى أبي عليّ الجبائي والقاضي عبد الجبار ومن وافقهما أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واستدلوابأشياء تؤول إلى مسألة القبح والحسن، وبناء ما قالوه عليها ذكرها أبو عبد الله الرازي في تفسير فتطالع هناك، إذمسألة التقبيح والتحسين خالفوا فيها أهل السنة وجمهور المفسّرين، يقولون: إن الكفار يكذبون في الآخرة وظواهر القرآن دالة على ذلكوقد خالف الزمخشري هنا أصحابه المعتزلة ووافق أهل السنة. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يحتمل أن تكون {مَا} مصدرية وإليه ذهب ابن عطية قال: معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكفرهم بادعائهم لله الشركاء. وقيل: من اليمين الفاجرةفي الدار الآخرة وقيل عزب عنهم افتراؤهم للحيرة التي لحقتهم، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي وإليه ذهب الزمخشري. قال: وغاب{عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ألوهيته وشفاعته وهو معنى قول الحسن وأبي عليّ قالا: لم يغن عنهم شيئاً ما كانوايعبدون من الأصنام في الدنيا. وقيل: هو قولهم ما كنا

{ نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }

فذهب عنهمحيث علموا أن لا تقريب منهم، ويحتمل أن يكون {وَضَلَّ } عطف على كذبوا فيدخل في خبر {أَنظُرْ } ويحتملأن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه. {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْأَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً }. روى أبو صالح عن ابن عباس أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبةوأمية وأبياً استمعوا للرسول فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال: ما يقول إلاأساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان صاحب أشعار جمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديارفكان يحدث قريشاً فيستمعون له فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقاً. فقال أبو جهل: كلا لا تقربشيء من هذا وقال الموت أهون من هذا، فنزلت والضمير في {وَمِنْهُمُ } عائد على الذين أشركوا، ووحد الضمير في{يَسْتَمِعِ } حملاً على لفظ {مِنْ } وجمعه في {عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } حملاً على معناها والجملة من قوله: {وَجَعَلْنَا }معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل: الواو واو الحالأي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنايحتمل أن تكون بمعنى ألقى، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أنتكون بمعنى خلق، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدّمت صارت حالاً والأكنة جمع كنانكعنان وأعنة والكنان الغطاء الجامع. قال الشاعر

: إذا ما انتضوها في الوغى من أكنة     حسبت بروق الغيث هاجت غيومها

و{أَن يَفْقَهُوهُ } في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه. وقيل:المعنى أن {لا * يَفْقَهُوهُ } وتقدّم نظير هذين التقديرين. وقرأ طلحة بن مصرّف وقرأ بكسر الواو كأنه ذهب إلىأن {ءاذَانِهِمْ } وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل، والظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة بل ذلك منباب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله، والثقل في الأذن لتركهمالإصغاء إلى سماعه ألا تراهم قالوا:

{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }

فلما لم يتدبروا ولم يصغوا كانوابمنزلة من على قلبه غطاء وفي أذنه وقر. وقال قوم: ذلك حقيقة وهو لا يشعر به كمداخلة الشيطان باطن الإنسانوهو لا يشعر به، ونحا الجبائي في فهم هذه الأية منحى آخر غير هذا فقال: كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعهاإلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنةوتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله: {أَوْ كَصَيّبٍ * وِقْراً }. وقيل: إن الإنسانالذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها علىأنهم لا يؤمنون، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان. وقيل: لما أصرُّوا على الكفر صار عدولهم عنالإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى. وقيل: لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أنيفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه، فيقول: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰقُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }. وقيل: يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا: قلوبنا في أكنة وهذه الأقوالكلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة، وقدنحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال: الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقادصحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله: {وَجَعَلْنَا } للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهممجبولون عليه، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم

{ وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب }

انتهى. وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألةخلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين. قال ابن عطية: وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوممن الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله. {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن {أَوْ كَصَيّبٍ * وِقْراً } انتقلإلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاقالقمر ونبع الماء من أصابعه، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفاً والماء الملح عذباً وتصيير الطعام القليل كثيراً وما أشبه ذلك.وقال ابن عباس: {كُلُّ ءايَةٍ } كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة؛ انتهى. ومقصودهذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسولحقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه. {حَتَّىٰ إِذَا * جَاءوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْهَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ } {يُجَـٰدِلُونَكَ } أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة، وهذا إشارة إلىالقرآن وجعلهم إياه من {أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ } قدح في أنه كلام الله. قيل: كان النضر يعارض القرآن بإخبار اسفنديار ورستم.وقال ابن عباس: مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قلتم ولا تأكلون ما قتل الله؛ انتهى. وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنهفي المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن، والمعنى أنهم في الاحتجاج؛ انتهى. أمرهم إلى المجادلة والافتراء دوندليل، ومجيء الجملة الشرطية {إِذَا } بعد {حَتَّىٰ } كثير جدًّا في القرآن، وأوّل ما وقعت فيه قوله:

{ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ }

وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة لـ«إذا» ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضعجر وليس من شرط {حَتَّىٰ } التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ، بل تكون تصلح أن يقع بعدهاالمبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيداً ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان مابعدها منصوباً و{حَتَّىٰ } إذا وقعت بعدها {إِذَا } يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أنفيكون التقدير فإذا {لَكَـِّرِهُونَ يُجَـٰدِلُونَكَ } يقول أو يكون التقدير {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً }أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره؟ إلى أن يقولوا: {إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ } في وقت مجيئهم مجادليك لأنالغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن منقوله تعالى {حَتَّىٰ إِذَا } وتركيب {حَتَّىٰ إِذَا } لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية ونحو قوله:فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال: أقتلت، أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام، نحو قوله:

{ زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ * ٱلصَّـٰدِقِينَ *قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً }

التقدير فأتوه بها ووضعها بينالصدقين {حَتَّىٰ إِذَا } ساوى بينهما قال: انفخوا فنفخه {حَتَّىٰ إِذَا } جعله ناراً بأمره وإذنه قال آتوني أفرغ ولهذاقال الفراء {حَتَّىٰ إِذَا } لا بد أن يتقدمها كلام لفظاً أو تقديراً، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام حتىمستوفاة ودخولها على الشرط، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ومذهب غيرهما. وقال الزمخشري: هنا هي {حَتَّىٰ } التي تقع بعدهاالجمل والجملة قوله: {إِذَا } في موضع الحال؛ انتهى. وهذا موافق لما ذكرناه، ثم قال: ويجوز أن تكون الجارة ويكون{إِذَا } في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم و{لَكَـِّرِهُونَ يُجَـٰدِلُونَكَ } حال وقوله: {يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تفسير والمعنىأنه بلغ تكذيبهم الآيات، إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون: {إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ } فيجعلون كلامالله وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب وهي الغاية في التكذيب؛ انتهى. وما جوّزه الزمخشري في {إِذَا } بعد {حَتَّىٰ } منكونها مجرورة أوجبه ابن مالك في التسهيل، فزعم أن {إِذَا } تجز بـ{*بحتى}. قال في التسهيل: وقد تفارقها، يعني {قَبْلِكُمْإِذَا } الظرفية مفعولاً بها ومجرورة بـ{*بحتى} أو مبتدأ وما ذهب إليه الزمخشري في تجويزه أن تكون {قَبْلِكُمْ إِذَا }مجرورة بـ{*بحتى}، وابن مالك في إيجاب ذلك ولم يذكر قولاً غيره خطأ وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرحالتسهيل، وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك فقال هنا أبو البقاء {يُوزَعُونَ حَتَّىٰ إِذَا }في موضع نصب لجوابها وهو {يِقُولُ } وليس لحتى هاهنا عمل وإنما أفادت معنى الغاية، كما لا تعمل في الجملو{يُجَـٰدِلُونَكَ } حال من ضمير الفاعل في {*جاؤوك} وهو العامل في الحال، يقول جواب {قَبْلِكُمْ إِذَا } وهو العامل فيإذا؛ انتهى. {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب، كان ينهيالمشركين أن يؤذوا الرسول وأتباعه وكانوا يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون سوءا برسول الله صلى الله عليهوسلم. فقال أبو طالب

: والله لن يصلوا إليك بجمعهم     حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصح     ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت ديناً لا محالة أنه
من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة     لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

وقال محمد بن الحنفية والسدي والضحاك: نزلت في كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول ويتباعدون بأنفسهمعنه، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي، والظاهر أن الضمير في قوله: {وَهُمْ } يعود على الكفار وهو قولالجمهور، واختاره الطبري وفي قوله: {عَنْهُ } يعود إلى القرآن وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في {يَفْقَهُوهُ } وهوالمشار إليه بقولهم {إِنَّ هَذَا } وهو قول قتادة ومجاهد، والمعنى أنهم {يَنْهَوْنَ } غيرهم عن اتباع القرآن وتدبر و{*ينأون}بأنفسهم عن ذلك. وقيل: الضمير في {سَنُرٰوِدُ عَنْهُ } عائد على الرسول إذ تقدم ذكره في قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُإِلَيْكَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ } فيكون ذلك التفاتاً وهو خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير في {وَهُمْ }عائد على الكفار المتقدم ذكرهم، والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ونهى غيرهم عن اتباعه فضلوا وأضلوا، وتقدمأن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول. وقيل: الضمير في {وَهُمْ } عائد على أبي طالب ومنوافقه على حماية الرسول والضمير في {عَنْهُ } عائد على الرسول، والمعنى {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } من يريد إذايته ويبعدونعنه بترك إيمانهم به واتباعهم له فيفعلون الشيء وخلافه، وهو قول ابن عباس وأيضاً والقاسم بن محمد وحبيب بن أبيثابت وعطاء بن دينار ومقاتل وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول ونسبة هذا إلى أبي طالب وتابعيه بلفظ{وَهُمْ } الظاهر عوده على جماعة الكفار وجماعتهم لم ينهوا عن إذاية الرسول هي نسبة لكل الكفار بما صدر عنبعضهم، فخرجت العبارة عن فريق منهم بما يعم جميعهم لأن التوبيخ على هذه الصورة أشنع وأغلظ حيث ينهون عن إذايتهويتباعدون عن اتباعه وهذا كما تقول في التشنيع على جماعة منهم سراق ومنهم زناة ومنهم شربة خمر، هؤلاء سراق وزناةوشربة خمر وحقيقته أن بعضهم يفعل ذا وبعضهم ذا وكان المعنى ومنهم من يستمع ومنهم من ينهى عن إذايته ويبعدعن هدايته وفي قوله: {يَنْهَوْنَ * وَيَنْأَوْنَ } تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردتبالها {وَيَنْأَوْنَ } انفردت بالهمزة ومنه

{ وهم يحسبون أنهم يحسنون }

ويفرحون ويمرحون والخيل معقود في نواصيها الخير، وفيكتاب التحبير سماه تجنيس التحريف وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين. وأنشد عليه

: إن لم أشن على ابن هند غارة     لنهاب مال أو ذهاب نفوس

وذكر غيره أن تجنيس التحريف، هوأن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين كقول بعض العرب: وقد مات له ولد اللهم أني مسلم ومسلم. وقال بعض العرب:اللهي تفتح اللهى. وقرأ الحسن وينون بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون وهو تسهيل قياسي. {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْوَمَا يَشْعُرُونَ } قبل هذا محذوف تقديره {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } }أي عن الرسول أو القرآن قاصدين تخلّيالناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود في النار {*}أي عن الرسولأو القرآن قاصدين تخلّي الناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود فيالنار {وَأَنْ } نافية بمعنى ما ونفي الشعور عنهم بإهلاكهم أنفسهم مذمة عظيمة لأنه أبلغ في نفي العلم إذ البهائمتشعر وتحس فوبال ما راموا حل بأنفسهم ولم يتعد إلى غيرهم. {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } لماذكر تعالى حديث البعث في قوله {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } واستطرد من ذلك إلى شيء من أوصافهم الذميمة في الدنيا، عادإلى الأول وجواب {لَوْ } محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمراً شنيعاً وهولاً عظيماً وحذف جواب {لَوْ } لدلالةالكلام عليه جائز فصيح ومنه

{ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ }

الآية. وقول الشاعر

: وجدّك لو شيء أتانا رسوله     سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أي لو شيء أتانا رسولهسواك لدفعناه و{نُرِى } مضارع معناه الماضي أي: ولو رأيت فإذ باقية على كونها ظرفاً ماضياً معمولاً لترى وأبرز هذافي صورة المضي وإن كان لم يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي، والظاهر أن الرؤية هنا بصرية وجوزواأن تكون من رؤية القلب والمعنى ولو صرفت فكرك الصحيح إلى تدبر حالهم لازددت يقيناً أنهم يكونون يوم القيامة علىأسوإ حال، فيجتمع للمخاطب في هذه الحالة الخبر الصدق الصريح والنظر الصحيح وهما مدركان من مدارك العلم اليقين والمخاطب بـ{يَرَىٰ} الرسول أو السامع، ومعمول {تَرَى } محذوف تقديره {وَلَوْ تَرَى } حالهم {إِذْ } وقفوا. وقيل: {تَرَى } باقيةعلى الاستقبال و{إِذْ } معناه إذا فهو ظرف مستقبل فتكون {لَوْ } هنا استعملت استعمال أن الشرطية، وألجأ من ذهبإلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد. وقرأ الجمهور وقفوا مبنياً للمفعول ومعناه عند الجمهور حبسوا على النار. وقالابن السائب: معناه أجلسوا عليها و{عَلَىَّ } بمعنى في أو تكون على بابها ومعنى جلوسهم، أن جهنم طبقات فإذا كانوافي طبقة كانت النار تحتهم في الطبقة الأخرى. وقال مقاتل: عرضوا عليها ومن عرض على شيء فقد وقف عليه. وقيل:عاينوها ومن عاين شيئاً وقف عليه. وقيل: عرفوا مقدار عذابها كقولهم: وقفت على ما عند فلان أي فهمته وتبينته واختارهالزجاج. وقيل: جعلوا وقفاً عليها كالوقوف المؤبدة على سبلها ذكره الماوردي. وقيل: وقفوا بقربها وفي الحديث: أن الناس يوقفون على متن جهنم وقال الطبري: أدخلوها ووقف في هذه القراءة متعدية. وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي {وُقِفُواْ }مبنياً للفاعل من وقف اللازمة ومصدر هذه الوقوف ومصدر تلك الوقف، وقد سمع في المتعدية أوقف وهي لغة قليلة ولميحفظها أبو عمرو بن العلاء قال: لم سمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاًواقفاً فقلت له: ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً؛ انتهى. وإنما ذهب أبو عمرو إلى حسن هذا لأنه مقيس فيكل فعل لازم أن يعدى بالهمزة، نحو ضحك زيد وأضحكته. {فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَمِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قرأ ابن عامر وحمزة وحفص {وَلاَ نُكَذّبَ } {وَنَكُونَ } بالنصب فيهما وهذا النصب عند جمهور البصريينهو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر منالجملة السابقة والتقدير {*يا ليتنا} يكون لنا رد وانتفاء تكذيب وكون {رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وكثيراً ما يوجد فيكتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري {وَلاَ نُكَذّبَ * وَنَكُونَ } بالنصببإضمار أن على جواب التمني ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن {مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } انتهى، وليس كما ذكر فإن نصبالفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب، لأن الواو لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها ولا ممابعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصبأحد محاملها الثلاثة وهي المعية، ويميزها من الفاء، تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال: إنها جواب أنهاتنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. وقال سيبويه: والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب منحيث انتصب ما بعد الفاء والواو ومعناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى. لا تنه عن خلق وتأتي مثله. لو أدخلتالفاء هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسدالمعنى انتهى كلام سيبويه ملخصاً. وبلفظه ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدهابما قبلها لما فيه من معنى الشرط، إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم وإذا تقرر هذا فالأفعالالثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينها لا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا ياليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكون من المؤمنين. قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر في رواية هشام بنعمار عن أصحابه عن ابن عامر {وَلاَ نُكَذّبَ } بالرفع {وَنَكُونَ } بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم؛ انتهى. وكانقد قدم أن رفع {وَلاَ نُكَذّبَ * وَنَكُونَ } في قراءة باقي السبعة على وجهين أحدهما: العطف على {نُرَدُّ }فيكونان داخلين في التمني. والثاني الاستئناف والقطع، فهذان الوجهان يسوغان في رفع {وَلاَ نُكَذّبَ } على هذه القراءة وفي مصحفعبد الله فلا نكذب بالفاء وفي قراءة أبي فلا {نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا * أَبَدًا * وَنَكُونَ }. وحكى أبو عمروأن في قراءة أبي ونحن {نَّكُونَ * مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وجوزوا في رفع {وَلاَ نُكَذّبَ * وَنَكُونَ } أن يكونفي موضع نصب على الحال فتلخص في الرّفع ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون معطوفاً على {نُرَدُّ } فيكون انتفاءالتكذيب والكون من المؤمنين داخلينن في التمني أي وليتنا لا نكذب، وليتنا نكون من المؤمنينن، ويكون هذا الرفع مساوياً فيهذا الوجه للنصب لأن في كليهما العطف وإن اختلفت جهتاه، ففي النصب على مصدر من الرد متوهم وفي الرّفع علىنفس الفعل. (فإن قلت): التمني إنشاء والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب فكيف جاء قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } إخباراً من اللهأن سجية هؤلاء الكفار هي الكذب، فيكون ذلك حكاية وإخباراً عن حالهم في الدّنيا لا تعلق به بمتعلق التمني. والوجهالثاني: أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر والعدة فإذا كانت سجية الإنسان شيئاً ثم تمنى ما يخالف السجية وماهو بعيد أن يقع منها، صح أن يكذب على تجوز نحو ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك،فهذا متمن في معنى الواعد والمخبر فإذا رزقه الله مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب وكان تمنيه فيحكم من قال: إن رزقني الله مالاً كافأتك على إحسانك، ونحو قول رجل شرير بعيد من أفعال الطاعات: ليتني أحجوأجاهد وأقوم الليل، فيجوز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لفعل الخير ولا يصلح لك، والثانيمن وجوه الرّفع أن يكون رفع {وَلاَ نُكَذّبَ * وَنَكُونَ } على الاستئناف فأخبروا عن أنفسهم بهذا فيكون مندرجاً تحتالقول أي قالوا: يا ليتنا نرد وقالوا: نحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلكعلى كل حال. فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار ورجح سيبويه هذا الوجه وشبهه بقوله: دعني ولا أعود، بمعنىوأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني. والثالث من وجوه الرّفع: أن يكون {وَلاَ نُكَذّبَ * وَنَكُونَ } في موضعنصب على الحال، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيكون داخلاً قيداً في الرد المتمني وصاحب الحالهو الضمير المستكن في نرد ويجاب عن قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب {وَلاَ نُكَذّبَ * وَنَكُونَ} إذا كانا معطوفين على نرد. وحكي أن بعض القراء قرأ {وَلاَ نُكَذّبَ } بالنصب {وَنَكُونَ } بالرفع فالنصب عطفعلى مصدر متوهم والرفع في {وَنَكُونَ } عطف على {نُرَدُّ } أو على الاستئناف أي ونحن نكون وتضعف فيه الحاللأنه مضارع مثبت فلا يكون حالاً بالواو إلا على تأويل مبتدأ محذوف نحو نجوت، وأرهنهم مالكاً وأنا أرهنهم مالكاً والظاهرأنهم تمنوا الرّد من الآخرة إلى الدنيا. وحكى الطبري تأويلاً في الرّد وهو أنهم تمنوا أن يردوا من عذاب النارإلى الوقوف على النار التي وقفوا عليها فالمعنى: يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين،قال: ويضعف هذا التأويل من غير وجه يبطله، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولا يصح أيضاً التكذيب في هذاالتمني لأنه تمني ما قد مضى، وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات؛ انتهى. وأوردبعضهم هنا سؤالاً فقال: فإن قيل كيف يتمنون الرّد مع علمهم بتعذر حصوله، وأجاب بقوله: قلنا لعلهم لم يعلموا أنالرد لا يحصل، والثاني: أن العلم بعدم الرد لا يمنع من الإرادة كقوله:

{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ }

{ وأن أفيضوا علينا من الماء }

انتهى. ولا يرد هذا السؤال لأن التمني يكون في الممكن والممتنع بخلافالترجّي فإنه لا يكون إلا في الممكن، فورد التمني هنا على الممتنع وهو أحد قسمي ما يكون التمني له فيلسان العرب، والأصح أن {*}. انتهى. ولا يرد هذا السؤال لأن التمني يكون في الممكن والممتنع بخلاف الترجّي فإنه لايكون إلا في الممكن، فورد التمني هنا على الممتنع وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب، والأصحأن {*يا} في قوله {*يا ليت} حرف تنبيه لا حرف نداء والمنادى محذوف لأنّ في هذا حذف جملة النداء وحذفمتعلقة رأساً وذلك إجحاف كثير. {مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } {بَلِ } هناللإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما سبق، وهكذا يجيء في كتاب الله تعالى إذا كان مابعدها من إخبار الله تعالى لا على سبيل الحكاية عن قوم، تكون {بَلِ } فيه للإضراب كقوله

{ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ }

ومعنى {بَدَأَ } ظهر. وقال الزجاج: {بَلِ } هنا استدراك وإيجاب نفي كقولهم: ما قام زيدبل قام عمرو؛ انتهى. ولا أدري ما النفي الذي سبق حتى توجبه {بَلِ }. وقال غيره: {بَلِ } رد لماتمنوه أي ليس الأمر على ما قالوه؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رغبة في الإيمان بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاًفي الرحمة؛ انتهى. ولا أدري ما هذا الكلام، والظاهر أن الضمير في {لَهُمْ } عائد على من عاد عليه فيوقفوا. قال أبو روق: وهم جميع الكافرين يجمعهم الله ويقول {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } الآية فيقولون {وَٱللَّهِ رَبّنَا } الآية، فتنطقجوارحهم وتشهد بأنهم كانوا يشركون في الدنيا وبما كتموا، فذلك قوله {بَلْ بَدَا لَهُمْ } فعلى هذا يكون من قبلراجعاً إلى الآخرة أي من قبل بدوه في الآخرة. وقال قتادة: يظهر {مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } من شركهم. وقال ابنعباس: هم اليهود والنصارى، وذلك أنهم لو سئلوا في الدّنيا هل تعاقبون على ما أنتم عليه؟ قالوا: لا ثم ظهرلهم عقوبة شركهم في الآخرة فذلك قوله {بَلْ بَدَا لَهُمْ }. وقيل: كفار مكة ظهر لهم ما أخفوه من أمرالبعث بقولهم:

{ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ * قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ }

وقيل: المنافقون كانوايخفون الكفر فظهر لهم وباله يوم القيامة. وقيل: الكفار الذين كانوا إذا وعظهم الرسول خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعربهمأتباعهم فيظهر ذلك لهم يوم القيامة. وقيل: اليهود والنصارى وسائر الكفار ويكون الذي يخفونه نبوة محمد وأحواله والمعنى بدا لهم صدقك في النبوّة وتحذيرك من عقاب الله، وهذه الأقوال على أن الضمير في {لَهُمْ } و{يَخَـٰفُونَ} عائد على جنس واحد. وقيل: الضمير مختلف أي بدا للاتباع ما كان الرؤساء يحفونه عنهم من الفساد، وروي عنالحسن نحو هذا. وقيل: بدا لمشركي العرب ما كان أهل الكتاب يخفونه عنهم من البعث، وأمر النار لأنه سبق ذكرأهل الكتاب في قوله

{ ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ }

يعرفونه. وقيل: {بَلْ بَدَا لَهُمْ } أي لبعضهم ما كانيخفيه عنه بعضهم، فأطلق كلاًّ على بعض مجازاً. وقال الزهراوي: ويصح أن يكون مقصود الآية الإخبار عن هول يوم القيامةفعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها، فكيف الظن على هذا بما كانوا يعلنون بهمن كفر ونحوه، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة

{ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَائِرُ }

وقالالزمخشري: {مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } من الناس من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجرإلا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا؛ انتهى. {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } أي {وَلَوْ رُدُّواْ} إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار وتمنيهم الرد، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر. قال الزمخشري: والمعاصي؛ انتهى. فأدرجالفساق الذين لم يتوبوا في الموقوفين على النار المتنين الردّ على مذهبه الاعتزالي وهذه الجملة إخبار عن أمر لا يكونكيف كان يؤخذ وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه، فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه. قال ابنالقشيري: {لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } من الشرك لعلم الله فيهم وأرادته أن لا يؤمنوا في الدنيا، وقد عاين إبليسما عاين من آيات الله ثم عاند. وقال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على المعتزلة على فساد قولهم، وذلكأنه تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ثم بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ثم سألواالرجعة وردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك وذلك للقضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد؛ انتهى. وأورد هناسؤال وأظنه للمعتزلة وهو كيف يمكن أن يقال ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر بالله وإلى معصيته وقد عرفواالله بالضروة وشاهدوا أنواع العقاب؟ وأجاب القاضي: بأن التقدير ولو ردّوا إلى حالة التكليف وإنما يحصل الردّ إلى هذه الحالةلو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ومشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا الشرط يكون مضمراً في الآية لا محالة،وضعف جواب القاضي بأن المقصود من الآية غلوهم في الإصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان، ولو قدرنا عدم معرفةالله في القيامة وعدم مشاهدة الأهوال يوم القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم مزيد تعجب، لأن إصرارهم علىالكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره البتة؛انتهى. وإنما المعنى {وَلَوْ رُدُّواْ } وقد عرفوا الله بالضرورة وعاينوا العذاب وهم مستحضرون، ذلك ذاكرون له لعادوا لما نهواعنه من الكفر. وقرأ ابراهيم ويحيـى بن وثاب والأعمش {وَلَوْ رُدُّواْ } بكسر الراء على نقل حركة الدال من رددإلى الراء. {وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } تقدم الكلام على هذه الجملة وهل التكذيب راجع إلى ما تضمنته جملة التمني منالوعد بالإيمان أو ذلك إخبار من الله تعالى عن عادتهم وديدنهم وما هم عليه من الكذب في مخاطبة رسول الله فيكون ذلك منقطعاً عما قبله من الكلام. {وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } قالالزمخشري: {وَقَالُواْ } }عطف على {*}عطف على {لَعَـٰدُواْ } أي لو ردوا لكفروا ولقالوا {إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا }كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يعطف على قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } على معنى وإنهم لقوم كاذبون فيكل شيء، وهم الذين {قَالُواْ إِنَّ * هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } وكفى به دليلاً على كذبهم؛ انتهى. والقول الأولالذي قدّمه من كونه داخلاً في جواب لو هو قول ابن زيد. وقال ابن عطية: وتوقيف الله لهم في الآيةبعدها على البعث والإشارة إليه في قوله {أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ } رد على هذا التأويل؛ انتهى. ولا يرده ما ذكرهابن عطية لاختلاف الموطنين لأن إقرارهم بحقية البعث هو في الآخرة، وإنكارهم ذلك هو في الدنيا على تقدير عودهم وهوإنكار عناد فإقرارهم به في الآخرة لا ينافي إنكارهم له في الدنيا على تقدير العود، ألا ترى إلى قوله

{ وَجَحَدُواْ بِهَا * عَلَى أَنفُسِهِمْ }

وقول أبي جهل. وقد علم أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليهوسلم حق ما معناه أنه لا يؤمن به أبداً هذا وذلك في موطن واحد وهي الدنيا، والقول الثاني الذي ذكرهالزمخشري هو قول الجمهور وهو أن يكون قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } كلاماً منقطعاً عما قبله، وقالوا: إخبار عن ما صدرمنهم في حالة الدنيا. قال مقاتل: لما أخبر النبي كفار مكة بالبعث قالوا: هذا ومعنى الآيةإنكار الحشر والمعاد وبين في هذه الآية أن الذي كانوا يخفونه هو الحشر، والمعاد على بعض أقوال المفسرين المتقدمة وإنهنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر، أي لا حياة إلا هذهالحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا، هكذا قال بعض أصحابنا إنهيتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل الظاهر خبراً للمبتدأ المضمر وعده مع الضمير المجرور برب نحو ربه رجلاًأكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني وضربت الزيدين،أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت به زيد قال: أو جعل خبره ومثله بقوله: {إِنْ هِىَ إِلاَّحَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } التقديران الحياة إلا حياتنا الدنيا، فإظهار الخبر يدل عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسمأو كان ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد قائم خلافا لابن الطراوة في إنكار هذاالقسم وتوضيح هذه المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله: {حَيَاتُنَا } ولم يؤت بها على أنها صفة تزيلاشتراكاً عارضاً في معرفة لأنهم لا يقرون بأن ثم حياة غير دنيا، بل ذلك وصف على سبيل التوكيد إذ لاحياة عندهم إلا هذه الحياة. {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصرصرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق، وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإنكار وهذايدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث. {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْقَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبّنَا } جواب {لَوْ } محذوف كما حذف في قوله {وَلَوْ تَرَى } أولاًوذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما توقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه وقد تعلق بعض المشبهة بهذه الآية،وقال: ظاهرها يدل على أن الله في حيز ومكان لأن أهل القيامة يقفون عنده وبالقرب منه، وذلك يدل على كونهبحيث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه أخرى. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا خطأ لأن ظاهر الآية يدل علىكونهم واقفين على الله كما يقف أحدنا على الأرض، وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى عن ذلكعلواً كبيراً وأنه باطل بالاتفاق فوجب المصير إلى التأويل، فيكون المراد إذا وقفوا على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرينوثواب المؤمنين وعلى ما أخبر به من أمر الآخرة، أو يكون المراد وقوف المعرفة؛ انتهى. وهذان التأويلان ذكرهما الزمخشري. وقالابن عطية: على حكمه وأمره؛ انتهى. وقيل: على مسألة ربهم إياهم عن أعمالهم. وقيل: المسألة ملائكة ربهم. وقيل: على حسابربهم قال: {أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ } الظاهر أن الفاعل بقال هو الله فيكون السؤال منه تعالى لهم. وقيل: السؤال منالملائكة، فكأنه عائد على من وقفهم على الله من الملائكة أي قال: من وقفهم من الملائكة. وقال الزمخشري قال: مردودعلى من قال قائل قال ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل: {أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ } وهذا تغيير منالله لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء ما هو بحق وما هو إلا باطل؛ انتهى.ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية التقدير {إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ } قائلاً لهم {أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ } والإشارة بهذاإلى البعث ومتعلقاته. وقال أبو الفرج بن الجوزي: أليس هذا العذاب بالحق وكأنه لاحظ قوله قال: {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } قالوا:{بَلَىٰ وَرَبّنَا } تقدم الكلام على {*يلي} وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم {بِٱلْحَقّ وَرَبُّنَا } وهو إقرار بالإيمان حيث لاينفع وناسب التوكيد بقولهم {وَرَبُّنَا } صدر الآية في {وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ } وفي ذكر الرب تذكار لهم في أنهكان يربيهم ويصلح حالهم، إذا كان سيدهم وهم عبيده، لكنهم عصوه وخالفوا أمره. {قَالَ فَذُوقُواْ ٱلعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بكفركم بالعذاب والباء سببية فقيل متعلق الكفر البعث أي بكفركم بالبعث. وقيل: متعلقه العذاب أي بكفركم بالعذاب والذوقفي العذاب استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذاق إذ هي أشد المباشرات. {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء ٱللَّهِ حَتَّىٰإِذَا جَاءتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوالمنكري لبعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيهاً بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ منالكفر سبباً لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سبباً لنجاته، فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله، ومعنى {بِلِقَاء ٱللَّهِ} بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها وحتى غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم، لأن الخسرانلا غاية له والتكذيب مغياباً لحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم {*يا حسرتنا} وقت مجيء الساعة، وتقدم الكلامعلى {فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّىٰ إِذَا } في قوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ } ومعنى {بِلِقَاء ٱللَّهِ } بلقاء جزائه والإضافةتفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير {رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ }، أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالىفي جهة استدل بهذا، وقال: اللقاء حقيقة و{ٱلسَّاعَةَ } يوم القيامة سمّى ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله:

{ أَسْرَعُ ٱلْحَـٰسِبِينَ }

قال ابن عطية: وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرك لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها، وأيضاًفقد تضمنها قوله {بِلِقَاء ٱللَّهِ } انتهى. ثم غلب استعمال {ٱلسَّاعَةَ } على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها للغلبةكهي في البيت للكعبة والنجم للثريا. وقال الزمخشري (فإن قلت): إنما يتحسرون عند موتهم (قلت): لما كان الموت وقوعاًفي أحوال الآخرة ومقدماتها، جعل من جنس الساعة وسمّي باسمها ولذلك قال رسول الله : من مات فقد قامت قيامته وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فتره؛ انتهى. وإطلاق {ٱلسَّاعَةَ } علىوقت الموت مجاز، ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرونيوم القيامة، بل الظاهر ذلك لقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } إذ هذا حال من قولهم: {قَالُواْ يأَبَانَا *يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } وهي حال مقارنة، وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالاً مقدرة ومجيء القدرةبالنسبة إلى المقارنة قليل، فيكون التكذيب متصلاً بهم مغياً بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهمطريقة يوم واحد، كما قال تعالى:

{ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً }

فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهمبه الرسل عياناً فقالوا {*يا حسرتنا} وجوزوا في انتصاب {عَذَابُ ٱللَّهِ بَغْتَةً } أن يكون مصدراً في موضع الحال من{ٱلسَّاعَةَ } أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدراً لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذابغتتهم الساعة بغتة، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم. قالسيبويه: وكان الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلكتعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه كان، ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً في نداءالجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم: يا جمل، و{فَرَّطْنَا } فصرنا والتفريط التقصير معالقدرة على تركه، والضمير في {فِيهَا } عائد على {ٱلسَّاعَةَ } أي في التقدمة لها قاله الحسن، أو الصفقة التيتضمنها ذكر الخسارة قاله الطبري. وقال الزمخشري: الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أوالساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول: فرطت في فلان ومنه

{ فرطت في جنب الله }

انتهى. وكونه عائداً على الدنيا وهو قول ابن عباس، ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسنعوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عطية هذا القول احتمالاً فقال: يحتمل أن يعود الضمير على الدنيا، إذ المعنى يقتضيهاوتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار؛ انتهى، وعوده على {ٱلسَّاعَةَ } قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها.وقيل: يعود الضمير على {مَا } وهي موصول وعاد على لمعنى أي {*يا حسرتنا} على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها،وما في الأوجه التي سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذيتقدم، والظاهر وعوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لوكانوا آمنوا. {فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } الأوزار الخطايا والآثام قاله ابن عباس، والظاهر أن هذاالحمل حقيقة وهو قول عمير بن هانىء وعمرو بن قيس الملاتي والسدي واختاره الطبري، وما ذكره محصوله أن عمله يمثلفي صورة رجل قبيح الوجه والصورة خبيث الريح فيسأله فيقول: أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فيركبهويتخطى به رقاب الناس ويسوقه حتى يدخله النار، ورواه أبو هريرة عن النبي بهذا المعنى واللفظمختلف. وقيل: هو مجاز عبر بحل الوزر عن ما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهممقاساة تثقيل عليهم وهذا القول بدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره قال كقوله:

{ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }

لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي والواو في {وَهُمْ } واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضميرلأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكوراً مرتين من حيث المعنى وخص الظهر لأنه غالباً موضع اعتياد الحملولأنه يشعر بالمبالغة في ثقل المحمول إذ يطيق من الحمل الثقيل ما لا تطيقه الرأس ولا الكاهل، كما قال

{ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ }

لأن اللمس أغلب ما يكون باليد ولأنها أقوى في الإدراك. {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } {سَاء} هنا تحتمل وجوهاً ثلاثة. أحدها: أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون، وتحتمل{مَا } على هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي، فتكون فاعلة ويحتمل أن تكون {مَا } مصدرية فينسبك منهاما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا ساءهم وزرهم. والوجه الثاني: أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجبوالمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما. والثالث: أنها أيضاً حوّلت إلى فعلبضم العين، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية لبئس في المعنى والأحكام، ويكون إطلاق الذي سبق في {مَا }في قوله:

{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ }

جارياً فيها هنا، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذيقبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدإ وخبر، إنما هومنعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر، وإن الكلام فيهخبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب بئس فقط فقال: ساء ما يزرون بئس شيئاً يزرون وزرهم كقوله:

{ سَاء مَثَلاً ٱلْقَوْمُ }

وذكر ابن عطية هذا الوجه احتمالاً أخيراً وبدأ بأن {سَاء } متعدية و{مَا } فاعلكما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد. قال كقول الشاعر

: رضيت خطة خسف غير طائلة     فساء هذا رضا يا قيس عيلانا

ولا يتعين ما قال في البيت منأن الكلام فيه خبر مجرد؛ بل يحتمل قوله: فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة وافتتحت هذه الجملة بـ{إِلا } تنبيهاً وإشارةلسوء مرتكبهم فألا تدل على الإشارة بما يأتي بعدها كقوله: ألا فليبلغ الشاهد الغائب

{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ }

ألا لا يجهلن أحد علينا. {وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَتَعْقِلُونَ } لما ذكر قولهم وقالوا: {إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } ذكر مصيرها وإن منتهى أمرها أنها فانية منقضيةعن قريب، فصارت شبيهة باللهو واللعب إذ هما لا يدومان ولا طائل لهما كما أنها لا طائل لها، فاللهو واللعباشتغال بما لا غنى به ولا منفعة كذلك هي الدنيا بخلاف الاشتغال بأعمال الآخرة فإنها التي تعقب المنافع والخيرات. وقالالحسن: في الكلام حذف التقدير وما أهل الحياة إلا أهل لعب ولهو. وقيل: التقدير وما أعمال الحياة. وقال ابن عباس:هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتطوى على أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً وفيالحديث: ما أنا من الدد ولا الدد مني والدد اللعب واللعب واللهو قيل: هما بمعنى واحد وكرر تأكيداًلذم الدنيا. وقال الرماني: اللعب عمل يشغل عما ينتفع به إلى ما لا ينتفع به، واللهو صرف النفس عن الجدّإلى الهزل يقال: لهيت عنه أي صرفت نفسي عنه ورد عليه المهدوي، فقال هذا: فيه ضعف وبعد لأن الذي معناهالصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان ولام الأول واو؛ انتهى. وهذا التضعيف ليس بشيء لأن فعل من ذوات الواو تنقلبفيه الواو ياء كما تقول: شقي فلان وهو من الشقوة فكذلك لهي، أصله لهو من ذوات الواو فانقلبت الواو ياءلكسرة ما قبلها فقالوا: لهي كما قالوا: خلى بعيني وهو من الحلو وأما استدلاله بقولهم في التثنية لهيان ففاسد لأنالتثنية هي كالفعل تنقلب فيه الواو ياء لأن مبناها على المفرد وهي تنقلب في المفرد في قولهم: له اسم فاعلمن لهي كما قالوا: شج وهو من الشجو، وقالوا في تثنيته: شجيان بالياء وقد تقدم ذكر شيء من هذا فيالمفردات. وقرأ ابن عامر وحده ولدار الآخرة على الإضافة، وقالوا: هو كقولهم: مسجد الجامع فقيل هو من إضافة الموصوف إلىصفته. وقال الفراء: هي إضافة الشيء إلى نفسه كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين؛انتهى. وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي ولدار الحياة الآخرة، ويدل عليه وما الحياة الدنيا وهذا قول البصريين،وحسن ذلك أن هذه الصفة قد استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل كقوله

{ وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَٱلاْولَىٰ }

وقوله

{ وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلاْولَىٰ }

وقرأ باقي السبعة {وَلَلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ } بتعريف الدار بأل ورفع {ٱلاْخِرَةَ } نعتاً لهاو{خَيْرٌ } هنا أفعل التفضيل وحسن حذف المفضل عليه لوقوعه خبراً والتقدير من الحياة الدنيا، وقيل: {خَيْرٌ } هنا ليستللتفضيل وإنما هي كقوله:

{ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً }

إذ لا اشتراك بين المؤمن والكافر في أصل الخير،فيزيد المؤمن عليه بل هذا مختص بالمؤمن. والدار الآخرة قال ابن عباس: هي الجنة. وقيل ذلك مجاز عبر به عنالإقامة في النعيم كما قال الشاعر

: لله أيام نجد والنعيم بها     قد كان داراً لنا أكرم به دارا

ومعنى {ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ } يتقون الشرك لأن المؤمن الفاسق ولو قدرنا دخوله النار فإنهبعد يدخل الجنة فتصير الدار الآخرة خيراً له من دار الدنيا، وذكر عن ابن عباس خير لمن اتقى الكفر والمعاصيوقال في المنتخب نحوه قال: بين الله تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين المعاصي والكبائر، فأماالكافرون والفاسقون فلا لأن الدنيا بالنسبة إليهم خير من الآخرة؛ انتهى، وهو أشبه بكلام المعتزلة. وقال الزمخشري: وقوله: {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لهو ولعب، انتهى. وقد أبدى الفخر الرازي الخيرية هنا فقال: خيرات الدنياخسيسة وخيرات الآخرة شريفة، وبيانه أن خيرات لدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة، بدليل مشاركة الحيوانات الخسيسةفي ذلك وزيادة بعضها على الإنسان في ذلك كالجمل في كثرة الأكل والديك في كثرة الوقاع والذئب في القوة علىالفساد، والتمزيق والعقرب في قوّة الإيلام وبدليل أن الإكثار من ذلك لا يوجب شرفاً بل المكثر من ذلك ممقوت مستقذرمستحقر يوصف بأنه بهيمة، وبدليل عدم الافتخار بهذه الأحوال بل العقلاء يخفونها ويختفون عند فعالها ويكنون عنها ولا يصرّحون بهاإلا عند الشتم بها، وبأن حقيقة اللذات دفع الالآم وبسرعة انقضائها فثبت بهذه الوجوه خساسة هذه اللذات، وأما السعادات الروحانيةفسعادات عالية شريفة باقية مقدسة وذلك أن جميع الخلق إذا تخيلوا في إنسان كثرة العلم وشدّة الانقباض عن اللذات الجسمانية،فإنهم بالطبع يعظمونه ويخذمونه ويعدّون أنفسهم عبيداً له وأشقياء بالنسبة إليه، ولو فرضنا تشارك خيرات الدنيا وخيرات الآخرة في التفضيللكانت خبرات الآخرة أفضل، لأنن الوصول إليها معلوم قطعاً وخيرات الدنيا ليست معلومة بل ولا مظنونة، فكم من سلطان قاهربكرة يوم أمسى تحت التراب آخره؛ وكم مصبح أميراً عظيماً أمسى أسيراً حقيراً؟ ولو فرضنا أنه وجد بعد سرور يوميوماً آخر، فإنه لا يدري هل ينتفع في ذلك اليوم بما جمع من الأموال والطيبات واللذات؟ بخلاف موجب السعادات الأخرويةفإنه يقطع أنه ينتفع بها في الآخرة وهب أنه انتفع بها، فليس ذلك الانتفاع خالياً من شوائب المكروهات والمحزنات وهبأنه انتفع في الغد فإنها تنقضي ويحزم عند انقضائها، كما قال الشاعر

: أشدّ الغم عندي في سرور     تيقن عنه صاحبه انتقالا

فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب،وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظوهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية، وأيضاً ففيكلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكونتلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }بالتاء خطاب مواجهة لمن كان بحضرة الرسول من منكري البعث. وقرأ الباقون بالياء عوداً على ما قبل لأنها أسماء غائبةوالمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدنيا. وقيل: أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا.

{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } * { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } عدل

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِيَجْحَدُونَ } وقال النقاش: نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف فإنه كان يكذب في العلانية ويصدقفي السرّ ويقول: نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس، وقال غيره: روي أن الأخنس بن شريف قال لأبي جهل.يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له: والله أن محمداًلصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت. قد حرفتوقع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من المتكلم كقولك: قد ينزل المطر في شهر كذا وإذا كان ماضياًأو فعل حال بمعنى المضي فالتوقع كان عند السامع، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به وعبر هنا بالمضارع إذالمراد الاتصاف بالعلم واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان؛ كقولهم: هو يعطي ويمنع. وقال الزمخشري والتبريزي: قد نعلم بمعنى ربما الذيتجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله: ولكنه قد يهلك المال نائله؛ انتهى. وما ذكره من أن قد تأتي للتكثير فيالفعل والزيادة قول غير مشهور للنحاة وإن كان قد قال بعضهم مستدلاً بقول الشاعر

: قد أترك القرن مصفرًّا أنامله     كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفرصاد

وبقوله:

أخي ثقةٍ لا يتلف الخمر ماله     ولكنه قد يهلك المال نائله

والذي نقوله: إن التكثيرلم يفهم من {قَدْ } وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ولا بالكرممرّة واحدة، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك، فيقوله: {قَدْ نَعْلَمُ } لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير، وقوله: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته،والمشهور أن ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عنمدلولها، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا لعل عن الترجّي.قال بعض أصحابنا: فذكر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال: هذا ظاهر قولسيبويه، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالباً من الصرف إلى معنى المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله {قَدْنَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } وقوله

{ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ }

وقول الشاعر

: وقد تدرك الإنسان رحمة ربِّه     ولو كان تحت الأرض سبعين واديا

وقد تخلو من التقليلوهي صارفة لمعنى المضي نحو قوله:

{ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ }

انتهى. وقال مكي: {قَدْ } هنا وشبهه تأتيلتأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه ونعلم بمعنى علمنا. وقال ابن أبي الفضل في ري الظمآن: كلمة {قَدْ } تأتي للتوقعوتأتي للتقريب من الحال وتأتي للتقليل؛ انتهى، نحو قولهم: إن الكذوب قد يصدق وإن الجبان قد يشجع والضمير في {أَنَّهُ} ضمير الشأن، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبران ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعدهعلى الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفرداً وذلك لا يجوز عند البصريين، وتقدم الكلام علىقراءة من قرأ يحزنك رباعياً وثلاثياً في آخر سورة آل عمران وتوجيه ذلك فاغني عن إعادته هنا والذي يقولون معناهمما ينافي ما أنت عليه. قال الحسن: كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون. وقيل: كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنونبه ولا يقبلون دينه. وقيل: كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال. وقيل: كان بعض كفار قريش يقول له: رئي من الجنيخبره بما يخبر به. وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف {يُكَذّبُونَكَ }. وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد. فقيل: هما بمعنىواحد نحو كثر وأكثر. وقيل: بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول: كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب وأكذبته إذانسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه وتقول العرب أيضاً: أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول:أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذباً أو لا ينسبون الكذب إليك، وعلىمعنى التشديد يكون إما خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز والمرادبه بعضهم لأنه معلوم قطعاً أن بعضهم كان يكذبه، ويكذب ما جاء به وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء مايترتب عليه من المضار فكأنه قيل {لاَ يُكَذّبُونَكَ } تكذيباً يضرك لأنك لست بكاذب فتكذيبهم كلا تكذيب. وقال في المنتخب:لا يراد بقوله: {لاَ يُكَذّبُونَكَ } خصوصية تكذيبه هو، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً فالمعنى {لاَيُكَذّبُونَكَ } على التعيين بل يكذبون جميع الأننبياء والرسل. وقال قتادة والسدي: {لاَ يُكَذّبُونَكَ } بحجة وإنما هو تكذيب عنادوبهت. وقال ناجية بن كعب: لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به. وقال ابن السائب ومقاتل:{لاَ يُكَذّبُونَكَ } في السر، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة. وقال: لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت بهمما في كتبهم كذبت ذكره الزجاج ورجح قراءة على بالتخفيف بعضهم، ولا ترجيح بين المتواترين. قال الزمخشري: والمعنى أن تكذيبكأمر راجع إلى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته فانتهعن حزنك لنفسك وإنهم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابهونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني وفي هذه الطريقة قوله تعالى:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }

وعن ابن عباس كان رسول الله يسمى الأمين فعرفوا أنهلا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون، فكان أبو جهل يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنابه؛ انتهى. وفي الكلام حذف تقديره: فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على أنّ علة الجحودهي الظلم وهي مجاوزة الحدّ في الاعتداء، أي ولكنهم بآيات الله يجحدون. وآياته قال السدّي: محمد صلى الله عليهوسلم. وقال ابن السائب: محمد والقرآن. وقال مقاتل: القرآن. وقال ابن عطية: آيات الله علاماته وشواهد نبيه صلى الله عليهوسلم والجحود إنكار الشيء بعد معرفته وهو ضد الإقرار، فإن كانت نزلت في الكافرين مطلقاً فيكون في الجحود تجوز إذكلهم ليس كفره بعد معرفة ولكنهم لما أنكروا نبوّته وراموا تكذيبه بالدعوى الباطلة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهوالجحد تغليظاً عليهم وتقبيحاً لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يقربها ويعلمها وإن كانت نزلت في المعاندينترتب الجحود حقيقة وكفر العناد يدل عليه ظواهر القرآن وهو واقع أيضاً كقصة أبي جهل مع الأخنس بن شريق وقصةأمية بن أبي الصلت، وقوله: ما كنت لأومن بنبي لم يكن من ثقيف، ومنع بعض المتكلمين جواز كفر العناد، لأنالمعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر، فامتنع اجتماعهما، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا: في قوله:

{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ }

أنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم ونحوها. قال ابن عطية: وكفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد؛ انتهى.والتأويلات في نفي التكذيب إنما هو عن اعتقاداتهم إما بالنسبة إلى أقوالهم فأقوالهم مكذبة إما له وإما لما جاء به.{وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا } قال الضحاك وابن جريج: عزىالله تعالى نبيه بهذه الآية فعلى قولهما يكون هو قد كذب وهو مناف لقوله: فإنهم لايكذبونك وزوال المنافاة بما تقدم من التأويلات كقول الزمخشري وغيره أن قوله: {لاَ يُكَذّبُونَكَ } ليس هو من نفي تكذيبهحقيقة. قال: وإنما هو من باب قولك لغلامك: ما أهانوك ولكن أهانوني وجاء قوله:

{ ولقد كذبت رسل من قبلك }

تسلية له ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله تعالى سلاه ثانياً بأن عادةأتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم، وأن الرسل صبروا فتأسَّ بهم في الصبر، وما في قوله: {مَا كُذّبُواْ } مصدرية أيفصبروا على تكذيبهم والمعنى فتأسّ بهم في الصبر على التكذيب والأذى حتى يأتيك النصر والظفر كما أتاهم. قال ابن عباس:{فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ } رجاء ثوابي وأوذوا حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار، حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من يكذبهم؛ انتهى.ويحتمل {وَأُوذُواْ } أن يكون معطوفاً على قوله: {كَذَّبَتْ } ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله {فَصَبَرُواْ } ويبعد أنيكون معطوفاً على {كَذَّبُواْ } ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم، وروي عن ابن عامر أنه قرأوا أذوا بعير واوبعد الهمزة جعله ثلاثياً لا رباعياً من أذيت فلاناً لا من آذيت، وفي قوله: {نَصْرُنَا } التفات إذ قبله بآياتالله وبلاغة هذا الالتفات أنه أضاف النصر إلى الضمير المشعر بالعظمة المتنزل فيه الواحد منزلة الجمع والنصر مصدر أضيف إلىالفاعل والمفعول محذوف أي نصرنا إياهم على مكذبيهم ومؤذيهم، والظاهر أن الغاية هنا الصبر والإيذاء لظاهر عطف {وَأُوذُواْ } على{فَصَبَرُواْ } وإن كان معطوفاً على {كَذَّبُواْ } فتكون الغاية للصبر أو معطوفاً على {كَذَّبَتْ } فغاية له وللتكذيب أوللإيذاء فقط. {وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ } قال ابن عباس: أي لمواعيد الله ولم يذكر الزمخشري غيره قال: لمواعيدهمن قوله

{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ }

وقال الزجاج لما أخبر به وما أمربه والإخبار والأوامر من كلمات الله، واقتصر ابن عطية على بعض ما قال الزجاج فقال: ولا راد لأوماره. وقيل: المعنىلحكوماته وأقضيته، كقوله

{ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }

أي وجب ما قضاه عليهم. وقيل: المعنى لا يقدرأحد على تبديل كلمات الله وإن زخرف واجتهد، لأنه تعالى صانه برصين اللفظ وقويم المعنى أن يخلط بكلام أهل الزيغ.وقيل: اللفظ خبر والمعنى على النهي أي لا يبدل أحد كلمات الله، فهو كقوله

{ لاَ رَيْبَ فِيهِ }

أيلا يرتابون فيه على أحد الأقوال. {وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ } }هذا فيه تأكيد تثبيت لما تقدم الإخباربه من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم عليهم والفاعل بجا. قال الفارسي: هو مننبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب. وقيل: معرفة وهذا لا يجوز إلاعلى مذهب الأخفش، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبئهم لا أنبائهم، لقوله {*}هذا فيه تأكيد تثبيتلما تقدم الإخبار به من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم عليهم والفاعل بجا. قالالفارسي: هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب. وقيل: معرفة وهذالا يجوز إلا على مذهب الأخفش، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبئهم لا أنبائهم، لقوله

{ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }

وقال الرماني: فاعل جاءك مضمر تقديره: ولقد جاءك نبأ. وقالابن عطية: الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان، وتمام هذا القول والذي قبله أن التقدير: ولقد جاء هو مننبإ المرسلين أي نبأ أو بيان، فيكون الفاعل مضمراً يفسر بنبإ أو بيان لا محذوفاً لأن الفاعل لا يحذف والذييظهر لي أن الفاعل مضمرتقديره هو، ويدلّ على ما دلّ عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبرمن تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نصروا، وأن هذا الإخبار هو بعض نبإ المرسلين الذين يتأسى بهمو{مِن نَّبَإِ } في موضع الحال، وذوا لحال ذلك المضمر والعامل فيها وفيه {جَاءكَ } فلا يكون المعنى على هذاولقد جاءك نبأ أو بيان إلا أن يراد بالنبإ والبيان هذا النبأ السابق أو البيان السابق، وأما الزمخشري فلم يتعرضلفاعل جاء بل قال: {لَقَدْ جَاءكَ * مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ } بعض أنبائهم وقصصهم، وهو تفسير معنى لا تفسير إعرابلأن من لا تكون فاعله. {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى ٱلاْرْضِ أَوْ سُلَّماًفِى ٱلسَّمَاء فَتَأْتِيَهُمْ بِـئَايَةٍ } {كَبُرَ } أي عظم وشق إعراضهم عن الإيمان والتصديق بما جئت به، وهو صلى اللهعليه وسلم قد كبر عليه إعراضهم لكن جاء الشرط معتبراً فيه التبيين والظهور، وهو مستقبل، وعطف عليه الشرط الذي لميقع، وهو قوله: {فَإِن ٱسْتَطَعْتَ } وليس مقصوداً وحده بالجواب فمجموع الشرطين بتأويل الأول لم يقع بل المجموع مستقبل، وإنكان ظاهر أحدهما بانفراده واقع ونظيره

{ إن كان قميصه قد من قبل }

{ وإن كان قميصه قد من دبر }

ومعلوم أنه قد وقع أحدهما، لكن المعنى أن يتبين ويظهر كونه قدّ من كذا وكذا يتأول ما يجيءمن دخول أن الشرطية على صيغة كان على مذهب جمهور النحاة خلافاً لأبي العباس المبرد فإنه زعم إن أن إذادخلت على كان بقيت على مضيها بلا تأويل والنفق السرب في داخل الأر الذي يتوارى فيه. وقرأ نبيج الغنوي أنتبتغي نافقاً في الأرض والنافقاء ممدود وهو أحد مخارج جحر اليربوع وذلك أن اليربوع يخرج من باطن الأرض إلى وجههاويرق ما واجه الأرض ويجعل للحجر بابين أحدهما النافقاء والآخر القاصعاء، فإذا رابه أمر من أحدهما دفع ذلك الوجه الذيأرقه من أحدهما وخرج منه. وقيل: لجحره ثلاثة أبواب، قال السدي: السلم المصعد. وقال قتادة: الدرج. وقال أبو عبيدة: السببوالمرقاة، تقول العرب: اتخذني سلماً لحاجتك أي سبباً. ومنه قول كعب بن زهير

: ولا لكما منجى من الأرض فابغيا     به نفقاً أو في السموات سلّما

وقال الزجاج: السلم من السلامة وهو الشيء الذييسلمك إلى مصعدك، والسلم الذي يصعد عليه ويرتقى وهو مذكر. وحكى الفراء فيه التأنيث، قال بعضهم: تأنيثه على معنى المرقاةلا بالوضع كما أنث، الصوت بمعنى الصيحة والاستغاثة في قوله: سائل بني أسد ما هذه الصوت. ومعنى الآية قال الزمخشرييعني أنك لا تستطيع ذلك، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية منتحت الأرض أو من فوق السماء لأتي بها رجاء إيمانهم. وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يود أن يجابوا إليها لتماديحرصه على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت كذا فافعل دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعلهحتى يأتيهم بما اقترحوا لعلهم يؤمنون؛ انتهى. والظاهر من قوله {وَإِن كَانَ } أن الآية هي غير ابتغاء النفق فيالأرض أو السلم في السماء، وأن المعنى: أن تبتغي نفقاً في الأرض فتدخل فيه أو سلّماً في السماء فتصعد عليهإليها {وَإِن كَانَ } غير الدخول في السرب والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها أو مما اقترحوه رجاء إيمانهم،وتلك الآية من إحدى الجهتين. وقال ابن عطية: وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } إلزام الحجة للنبيّ صلىالله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليهم حتى يتبين أن لا وجه إلا الصبر والمضيّ لأمر الله تعالى، والمعنى إن كنتتعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاءسلم في السماء، فدونك وشأنك به أي إنك لا تقدر على شيء من هذا، ولا بد من التزام الصبر واحتمالالمشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله للناظرين المتأملين إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى،وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم بحق ملكه {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } أي فيأن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه؛ انتهى. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون الآية التييأتي بها هي نفس الفعل. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيانبالآية كأنه قيل: لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الترقي في السماء لعلّ ذلك يكون آية لك يؤمنونبها. وقال ابن عطية: {وَإِن كَانَ } بعلامة ويريد: إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرضوارتقائك في السماء وإما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين؛ انتهى. وما جوزوا من ذلك لا يظهر من دلالةاللفظ إذ لو كان ذلك كما جوزاه لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية وأيضاً فأي آية في دخول سرب في الأرض،وأما الرقي في السماء فيكون آية. وقيل قوله {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى ٱلاْرْضِ } إشارة إلى قولهم

{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلاْرْضِ يَنْبُوعًا }

وقوله: {أَوْ سُلَّماً فِى ٱلسَّمَاء } إشارة إلى قولهم:

{ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ }

وكان فيها ضمير الشأن، والجملة المصدرة بكبر عليك إعراضهم في موضع خبر كانوفي ذلك دليل على أن خبر كان وأخواتها يكون ماضياً ولا يحتاج فيه إلى تقدير قد، لكثرة ما ورد منذلك في القرآن وكلام العرب خلافاً لمن زعم أنه لا بدّ فيه من قد ظاهرة أو مقدرة وخلافاً لمن حصرذلك بكان دون أخواتها، وجوزوا أن يكون اسمها إعراضهم فلا يكون مرفوعاً بكبر كما في القول الأول وكبر فيه ضميريعود على الإعراض وهو في موضع الخبر وهي مسألة خلاف، وجواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره فافعل كما تقول:إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره، أي فافعل ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي أو المضارع المنفيّ بلم لأنهماض، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر. {وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي إما يخلق ذلكفي قلوبهم أولاً فلا يضل أحد وإما يخلقه فيهم بعد ضلالهم، ودلّ هذا التعليق على أنه تعالى ما شاء منهمجميعهم الهدى، بل أراد إبقاء الكافر على كفره. قال أبو عبد الله الرازي: ويقرر هذا الظاهر أن قدرة الكافرعلى الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان، فالقدرة على الكفر مستلزمة له غير صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون قدأراد الكفر لا محالة، وإن كانت صالحة له كما صلحت للكفر استوت نسبة القدرة إليهما فامتنع الترجيح إلا الداعية مرجحة،وليست من العبد وإلا وقع التسلسل، فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله وثبت أن مجموع الداعية الصالحة توجب الفعلوثبت أن خالق مجموع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر غير مريد لذلك الإيمان، فهذا البرهان اليقيني قويظاهر هذه الآية، ولا بيان أقوى من تطابق البرهان مع ظاهر القرآن. وقال ابن عطية: وهذه الآية تردّ علىالقدرية المفوّضة الذين يقولون: إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وأن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلقفيه تعالى الله عن قولهم. وقال الزمخشري: {وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } بآية ملجئة، ولكنه لا يفعللخروجه عن الحكمة؛ اتهى، وهذا قول المعتزلة. وقال القاضي: والإلجاء أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه،وحينئذ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان، وهو تعالى إنما ترك فعل هذا الإلجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم، فيكون ماوقع منهم كأن لم يقع، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة به إلىالثواب، وذلك لا يكون إلا اختياراً، وأجاب أبو عبد الله الرازي بأنه تعالى أراد منهم الإقدام على الإيمان حال كونالداعي إلى الإيمان وإلى الكفر بالسوية، أو حال حصول هذا الرجحان، والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحانحال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال، وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع، والطرف المرجوح يكونممتنع الوقوع، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيارات، فسقط قولهم بالكلية. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }تقدم قول ابن عطية في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله تعالى، وأمضاه، وعلم المصلحة فيه.وقال أيضاً: و{مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ} يحتمل في أن لا تعلم أن الله {لَوْ شَاء * لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } ويحتمل في أن تهتم بوجودكفرهم الذي قدره الله وأراده، وتذهب بك نفسك إلى ما لم يقدر الله، انتهى. وضعف الاحتمال الأول بأنّه صلى اللهعليه وسلم مع كمال ذاته وتوفر معلوماته وعظيم اطّلاعه على ما يليق بقدرة الحقّ جلّ جلاله، واستيلائه على جميع مقدوراته،لا ينبغي أن يوصف بأنه جاهل بأنه تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى، لأن هذا من قبيل الدين والعقائد، فلايجوز أن يكون جاهلاً بها، وكأن الزمخشري قد فسر قوله: {وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } بأن تأتيهم آيةملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فقال في قوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } من الذين يجهلون ذلك ويرومونما هو خلافه. وأشار بذلك إلى الإتيان بالآية الملجئة إلى الإيمان وتقدم الكلام في الإلجاء. وقيل: لا تجهل أنهيؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم، وضعف بأن هذا ليس مما يجهله . وقيل لا تكوننّ ممنلا صبر له لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين، وضعف بأنه تعالى قد أمره بالصبر في آيات كثيرة ومع أمرالله له بالصبر وبيان أنه خير يبعد أن يوصف بعد صبره بقلة الصبر. وقيل: لا يشتد حزنك لأجل كفرهمفتقارب حال الجاهل بأحكام الله وقدره، وقد صرح بهذا في قوله:

{ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ }

وقال قوم:جاز هذا الخطاب لأنه لقربه من الله ومكانته عنده كان ذلك حملاً عليه كما يحمل العاقل على قريبه فوق مايحمله على الأجانب، خشية عليه من تخصيص الإذلال. وقال مكي والمهدوي: الخطاب له والمراد به أمته، وتمم هذا القولبأنه كان يحزنه إصرار بعضهم على الكفر وحرمانهم ثمرات الإيمان. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ؛ انتهى.وقيل: الرسول معصوم من الجهل والشك بلا خلاف، ولكن العصمة لا تمنع الامتحان بالأمر والنهي، أو لأن ضيق صدرهوكثرة حزنه من الجبلات البشرية، وهي لا ترفعها العصمة بدليل: اللهم إني بشر وإني أغضب كما يغضب البشر الحديث. وقوله: إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني انتهى. والذي أختاره أن هذا الخطاب ليس للرسول، وذلكأنه تعالى قال: {وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } فهذا إخبار وعقد كلّي أنه لا يقع في الوجوه إلاما شاء وقوعه، ولا يختص هذا الإخبار بهذا الخطاب بالرسول بل الرسول عالم بمضمون هذا الإخبار، فإنما ذلك للسامع فالخطابوالنهي في {فَلاَ تَكُونَنَّ } للسامع دون الرسول فكأنه قيل: ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ماوقع في الوجود يمشيئة الله جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، فلا تكونن أيها السامع من الجاهلين بأن ما شاء اللهإيقاعه وقع، وأن الكائنات معذوقة بإرادته.

{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } * { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } * { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } * { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } * { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } * { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } * { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } * { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } * { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } عدل

التضرّع: تَفَعُّل من الضراعة وهي الذلة، يقال: ضرع يضرع ضراعة، قال الشاعر

: ليبك يزيدَ ضارع لخصومة     ومختبطٌ مما تطيح الطوائح

أيذليل ضعيف. صدف عن الشيء أعرض عنه صدفاً وصدوفاً، وصادفته لقيته عن إعراض عن جهته قال ابن الرقاع

: إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنه     وهنَّ عن كل سوء يتقى صدف

صدف جمعصدوف، كصبور وصبر. وقيل: صدف مال مأخوذ من الصدف في البعير، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل منالجانب الوحشيّ، والصدفة واحدة الصدف وهي المحارة التي يكون فيها الدر. قال الشاعر

: وزادها عجباً أن رحت في سمك     وما درت دورانَ الدرِّ في الصَّدف

الخزانة ما يحفظ فيه الشيء مخافة أن ينال،ومنه فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته وهي بفتح الخاء. وقال الشاعر

: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه     فليس على شيء سواه بخزّان

الطرد الإبعادبإهانة والطريد المطرود، وبنو مطرود وبنو طراد فخذان من إياد. {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } إنما يستجيب للإيمان الذينيسمعون سماع قبول وإصغاء كما قال:

{ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }

ويستجيب بمعنى يجيب. وفرّق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي إليه. قال:

{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ }

{ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْغَمّ }

وليس كذلك أجاب لأنه قد يجيب بالمخالفة. قال الزمخشري يعنيأن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع كقوله

{ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ }

وقال ابن عطية هذا من النمط المتقدم في التسلية، أي لا تحفل بمن أعرضفإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول فعبر عن ذلك كله بيسمعون. إذ هو طريق العلم بالنبوةوالآيات المعجزة. وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا استمع {وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } الظاهرأن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار من الله تعالى أن الموتىعلى العموم من مستجيب وغير مستجيب، يبعثهم الله فيجازيهم على أعمالهم وجاء لفظ الموتى عاماً لإشعار ما قبله بالعموم فيقوله {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } إذ الحصر يشعر بالقسم الآخر وهو أن من لا يسمع سماع قبول، لا يستجيبللإيمان وهم الكفار. وصار في الإخبار عن الجميع بالبعث والرجوع إلى جزاء الله تعالى، تهديد ووعيد شديد لمن لم يستحبوتظافرت أقوال المفسرين أن قوله والموتى يراد به الكفار. سموا بالموتى كما سموا بالصمِّ والبكم والعمي وتشبيه الكافر بالميت منحيث إنّ الميت جسده خالٍ عن الروح، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات. وأصلح أحواله دفنه تحت التراب. والكافرروحه خالية عن العقل فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفاته لأمره وعدم قبوله لمعجزات الرسل، وإذا كانت روحه خالية منالعقل كان مجنوناً فأحسن أحواله أن يقيَّد ويحبس. فالعقل بالنسبة إلى الرّوح كالروح بالنسبة إلى الجسد. وإذا كان المراد بالموتىهنا الكفار فقيل البعث يراد به حقيقته من الحشر يوم القيامة والرجوع هو رجوعهم إلى سطوته وعقابه، قاله مجاهد وقتادة.وعلى هذا تكون هذه الجملة متضمنة الوعيد للكفار. وقيل الموت والبعث حقيقة والجملة مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابةبأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } للجزاء، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفرأن يحييهم بالإيمان وأنت لا تقدر على ذلك قاله الزمخشري. وقيل الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والبعث للإيمان.فقيل الجملة من قوله والموتى يبعثهم الله مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإيمان. وقيل ليس جملة بلالموتى معطوف على الذين يسمعون، ويبعثهم الله جملة حالية. والمعنى إنما يستجيب الذين يسمعون سماع قبول، فيؤمنون بأول وهلة والكفارحتى يرشدهم الله تعالى ويوفقهم للإيمان، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر. وقرىء ثم إليه يرجعون بفتحالياء من رجع اللازم. {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } قال ابن عباس نزلت في رؤساء قريشسألوا الرسول آية تعنتاً منهم، وإلا فقد جاءهم بآيات كثيرة فيها مقنع انتهى. والضمير في وقالوا عائد على الكفار،ولولا تحضيض بمعنى هلا. {قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزّلٍ ءايَةً } أي مهما سألتموه من إنزال آيةالله قادر على ذلك. كما أنزل الآيات السابقة فلا فرق في تعلق القدرة بالآيات المقترحة على سبيل التعنت والآيات التيلم تقترح وقد اقترحتم آيات كانشقاق القمر فلم تجد عليكم ولا أثرت فيكم، وقلتم هذا سحر مستمر ولم تعتدوا بماأنزل مع كثرته حتى كأنه لم ينزل شيء من الآيات، لأن دأبكم العناد في آيات الله. وقال الزمخشري علىأن ينزل آية يضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل على بني إسرائيل أو آية أن يجحدوها جاءهم العذاب. {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْلاَ يَعْلَمُونَ } أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية وإن صارفاً من الحكمة صرفه عن إنزالها. وقالابن عطية لا يعلمون أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل لا يعلمون أن الله تعالى إنما جعل المصلحةفي آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون انتهى. والذي يظهر لا يعلمون نفى عنهم العلم حيث فرقوا بينتعلق القدرة بالآيات التي نزلت وبين تعلقها بالآيات المقترحة وتعلق القدرة بهما سواء لاجتماع المقترح وغير المقترح في الإمكان، فمنفرق بين المتماثلات ولم يقنع بما ورد منها فهو لا شك جاهل. {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍيَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } قال ابن الأنباري وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله ركب في المشركين عقولاًوجعل لهم أفهاماً ألزمهم بها أن يتدبروا أمر الرسول ، كما جعل للدّواب والطير أفهاماً يعرف بهابعضها إشارة بعض، وهدى الذَّكر منها لإتيان الأنثى، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها. وقال ابنعطية: المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته. وقال الزمخشري: فإن قلت: فما الغرضفي ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهولما لها وما عليها مهيمنٌ على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهممن سائر الحيوان انتهى. والذي يظهر أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء قولهم {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} ولم يعتبروا ما نزل من الآيات وأجيبوا بأن القدرة صالحة لإنزال آية وهي التي اقترحتموها ونبهوا على جهلهم حيثفرقوا بين آية وآية أخبروا أنهم أنفسهم وجميع الحيوان غيرهم متماثلون في تعلق القدرة الإلهية بالجميع، فلا فرق بين خلقمن كُلِّف وما لم يكلَّف في تعلق القدرة بهما وإبرازهما من صرف العدم إلى صرف الوجود، فكأنه قيل القدرة تعلقتبالآيات كلها مقترحها وغير مقترحها كما تعلقت بخلقكم وخلق سائر الحيوان، فالإمكان هو الجامع بين كل ذلك؛ ولذلك قال تعالى:{إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } يعني في تعلق القدرة بإيجادها كتعلقها بإيجادكم. وكذلك الآيات. وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات الواردةعلى أيدي الأنبياء عليهم السلام قد تكون باختراع أعيان، كالماء الذي نبع من بين الأصابع والطعام الذي تكثر من قليل،كما أن المخلوقات هي أعيان مخترعة لله تعالى، وكأن النسبة بمماثلة الحيوان للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمهامن حيث قوة المماثلة في الشعور بالأشياء والاهتداء إلى كثير من المصالح بخلاف الجماد، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقاتودابة تقدّم شرحها، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس، فهي عامّة تشمل كل ما يدبّفيندرج فيها الطائر، فذِكْرُ الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكْرُ بعضٍ من كلَ وصار من باب التجريد كقوله:

{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ }

بعد ذكر الملائكة. وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ فيالقدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها، والهواءجسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية، ولذلك قال تعالى:

{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرٰتٍ في جو السماء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ }

وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لماكان لفظ من دابة وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاماً وهو الأرض، ويشمل الأرض البر والبحر، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله{وَلاَ طَائِرٍ } لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله {وَلاَ طَائِرٍ } لو اقتصرعليه، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله:

{ وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ }

وقولهم: «طار لفلانكذا في القسمة» أي سهمه، و«طائر السعد والنحس» وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعلالغريب. وجاء الوصف بلفظ «يطير» لأنه مشعر بالديمومة والغلبة، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير، وقلَّ ما يسكن، حتى إنالمحبوس منها يكثر وُلُوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره. وقرأ ابن أبي عبلة «ولا طائر»بالرفع، عطفاً على موضع «دابة. وجوزوا أن يكون «في الأرض» في موضع رفع صفة على موضع دابة، وكذلك يقتضي أنيكون «يطير» ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة، والباء في «بجناحيه» للاستعانة كقوله: «كتبت بالقلم» و«إلا أمم» هو خبرالمبتدأ الذي هو من دابة ولا طائر وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفرداً حملاً على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراقوالمثلية هنا. قال الزمخشري أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم انتهى. وقال ابن عطيةمماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر. وقال الطبري وغيره وهو مرويٌّ عن أبي هريرة واختيار الزجاج المماثلةفي أنها تجازي بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض، على ما روي في الأحاديث. وقال مكيّ في أنها تعرفالله تعالى وتعبده. وهذا قول أبي عبيدة، قال معناه إلا أجناس يعرفون الله ويعبدونه. ونقله الواحدي عن ابن عباس أنالمماثلة حصلت من حيث إنهم يعرفون الله ويوحدونه ويحمدونه ويسبحونه. وإليه ذهبت طائفة من المفسرين محتجين بقوله:

{ وَإِن مّن شَىْء * لا * يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ }

وبقوله في صفة الحيوان

{ كل قد علم صلاته وتسبيحه }

وبما بهخاطب النمل وخاطب الهدهد. قال ابن عطية في قول مكي وهذا قول خلف انتهى. وقال ابن عطية ويحتملأن تكون المماثلة في كونها أمماً لا غير. كما تريد بقولك: مررت برجل مثلك أي بي إنه رجل. ويصح فيغير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه أن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً. وقال مجاهدإلا أصناف مصنفة. وقال أبو صالح عن ابن عباس: المماثلة وقعت بينها وبين بني آدم من قبل أن بعضهميفقه عن بعض. وقال ابن عيسى أمثالكم في الحاجة إلى مدبر يدبرهم فيما يحتاجون إليه من قوت يقوتهم وإلىلباس يسترهم، وإلى سكنَ يواريهم. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: أبهمت عقول البهم عن كل شيء إلا عن أربعةأشياء: الإله سبحانه وتعالى وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه. وقيل المماثلة في كونها جماعاتمخلوقة يشبه بعضها بعضاً، ويأنس بعضها ببعض وتتوالد كالإنس. وروي أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه قرأهذه الآية وقال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم منيعدو عَدْوَ الذئب، ومنهم من ينبج نباج الكلاب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشره شره الخنزير. وفيرواية منهم من يشبه الخنزير إذا ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل من رجيعه ولغ فيه. وكذلك تجدمن الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ منها واحدة. فإن أخطأت واحدة حفظها ولم يجلس مجلساً رواهاعنك {مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء } أي ما تركنا وما أغفلنا والكتاب اللوح المحفوظ. والمعنى وما أغفلنا فيهمن شيء لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت، قاله الزمخشري ولم يذكر غيره، أو القرآن وهو الذي يقتضيهسياق الآية والمعنى. وبدأ به عن ابن عطية وذكر اللوح المحفوظ، فعلي هذا يكون قوله: من شيء على عمومه، وعلىالقول الأول يكون من العام الذي يراد به الخاص فالمعنى من شيء يدعو إلى معرفة الله وتكاليفه، وكثيراً ما يستدلبعض الظاهرية بقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء } يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها، والتفريط التقصيرفحقه أن يتعدى بفي كقوله

{ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ }

وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ماأغفلنا وما تركنا ويكون {مِن شَىْء } في موضع المفعول به و{مِنْ } زائدة، والمعنى: ما تركنا وما أغفلنا فيالكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الإلهية والتكاليف، ويبعد جعل من هنا تبعيضية وأن يكون التقدير ما فرطنا في الكتاببعض شيء يحتاج إليه المكلف، وإن قاله بعضهم. وجعل أبو البقاء هنا من شيء واقعاً موقع المصدر، أي تفريطاً. قال:وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أنّ الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء تصريحاً ونظير ذلكلا يضركم كيدهم شيئاً أي ضرراً انتهى. وما ذكره من أنه لا يبقى على هذا التأويل حجة لمن ذكر ليسكما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر منفياً على جهة العموم، ويلزم من نفي هذا العموم نفي أنواع المصدرونوع مشخصاته، ونظير ذلك لا قيام فهذا نفي عام فينتفي منه جميع أنواع القيام ومشخاصته كقيام زيد وقيام عمرو وماأشبه ذلك فإذا نفى التفريط على طريقة العموم كان ذلك نفياً لجميع أنواع التفريط ومشخصاته ومتعلقاته، فيلزم من ذلك أنالكتاب يحتوي على ذكر كل شيء. وقرأ الأعرج وعلقمة {مَّا فَرَّطْنَا } بتحفيف الراء والمعنى واحد. وقال النقاش: معنى {فَرَّطْنَا} مخففة، أخرنا كما قالوا: فرط الله عنك المرض أي أزاله. {ثُمَّ إِلَىٰ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } الظاهر في الضميرأنه عائد على ما تقدم وهو الأمم كلها من الطير والدواب. وقال قوم: هو عائد على الكفار لا على أمموما تخلل بينهما كلام معترض وإقامة وحجج ويرجح هذا القول كونه جاء بهم وبالواو التي هي للعقلاء، ولو كان عائداًعلى أمم الطير والدواب لكان التركيب ثم إلى ربها تحشر ويجاب عن هذا بأنها لما كانت ممتثلة ما أراد اللهمنها، أجريت مجرى العقلاء وأصل الحشر الجمع ومنه فحشر فنادى والظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور،فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حدّيث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: يحشر الله الخلق كلهم يومالقيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول:كوني تراباً فذلك قوله تعالى:

{ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرٰباً }

وقال ابن عباس والحسن في آخرين: حشرالدواب موتها لأن الدواب لا تكليف عليها ولا ترجو ثواباً ولا تخاف عقاباً ولا تفهم خطاباً؛ انتهى. ومن ذهب هذاالمذهب تأول حديث أبي هريرة على معنى التمثيل في الحساب والقصاص حتى يفهم كل مكلف أنه لا بد له منهولا محيص وأنه العدل المحض. قال ابن عطية: والقول في الأحاديث المتضمنة أن الله يقتص للجماء من القرناء، أنها كنايةعن العدل وليست بحقيقة قول مرذول ينحو إلى القول بالرموز ونحوها؛ انتهى. وقال ابن فورك: القول بحشرها مع بنيآدم أظهر؛ انتهى. وعلى القول بحشر البهائم مع الناس اختلفوا في المعنى الذي تحشر لأجله، فذهب أهل السنة أنها لإظهارالقدرة على الإعادة وفي ذلك تخجيل لمن أنكر ذلك فقال:

{ من يحيـي العظام وهي رميم }

وقالت المعتزلة: يحشرالله البهائم والطير لإيصال الإعواض إليها وكذلك قال الزمخشري، فيعوضهما وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء منالقرناء؛ انتهى. وطول المعتزلة في إيصال التعويض عن آلام البهائم وضررها وأن ذلك واجب على الله تعالى. وفرعوا فروعاً واختلفوافي العوض أهو منقطع أم دائم؟ فذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه منقطع فبعد توفية العوض يجعلها تراباً، وقالأبو القاسم البلخي: يجب كون العوض دائماً. وقيل: تدخل البهائم الجنة وتعوض عن ما نالها من الآلام وكل ما قالتهالمعتزلة مبناه على أن الله تعالى يجب عليه إيصال الإعواض إلى البهائم عن الآلام التي حصلت لها في الدّنيا، ومذهبأهل السنة أن الإيجاب على الله تعالى محال. {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـايَـٰتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } قال النقاش: نزلتفي بني عبد الدار ثم انسحبت على سواهم؛ انتهى. ومناسبة هذه لما قبلها أنه لما تقدم قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَيَسْمَعُونَ } أخبر أن المكذبين بالآيات صم لا يسمعون من ينبههم، فلا يستجيب أحد منهم ولما كان قوله: {وَمَا مِندَابَّةٍ } الآية منبهاً على عظيم قدرة الله تعالى ولطيف صنعه وبديع خلقه، ذكر أن المكذب بآياته هو أصم عنسماع الحق أبكم عن النطق به، والآيات هنا القرآن أو ما ظهر على يدي الرسول من المعجزات أو الدلائل والحججثلاثة أقوال والإخبار عنهم بقوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس لاأنهم {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } حقيقة وجاء قوله: {فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } كناية عن عمي البصيرة، فهو ينظر كقوله:

{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ }

لكن قوله: {فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } أبلغ من قوله: {عَمِىَ } إذ جعلت ظرفاً لهم وجمعت لاختلافجهات الكفر، كما قيل في قوله:

{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ }

على أحد الأقوال وفي قوله:

{ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ }

وقال الجبائي: الإخبار عنهم بأنهم {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } حقيقة وذلك يوم القيامة يجعلهم صماً وبكماًفي الظلمات يضلهم بذلك عن الجنة ويصيرهم إلى النار، ويعضد هذا التأويل قوله تعالى:

{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }

الآية. وقال الكعبيّ: {صُمٌّ وَبُكْمٌ } محمول على الشتم والإهانة على أنهم كانوا كذلكفي الحقيقة؛ انتهى. والظلمات ظلمات الكفر أو حجب تضرب على القلب فيظلم وتحول بينه وبين نور الإيمان، أو ظلمات يومالقيامة ومنه قيل: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً أو الشدائد لأن العرب كانت تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون يوم مظلمة إذالقوا فيه شدة ومنه قوله

: بني أسد هل تغلمون بلاءنا     إذا كان يوم ذو كواكب مظلم

أربعة أقوال: رابعها قاله الليث. {مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }مفعول {يَشَإِ } محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله {يُضْلِلْهُ } ومن يشأ هدايته {يَجْعَلُهُ } ولا يجوز في منفيهما أن يكون مفعولاً بيشأ للتعاند الحاصل بين المشيئتين، (فإن قلت): يكون مفعولاً بيشأ على حذف مضاف تقديره إضلال منيشاء الله وهداية من يشاء الله، فحذف وأقيم من مقامه ودل فعل الجواب على هذا المفعول. فالجواب: أن ذلك لايجوز لأن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب أن اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أنيكون في الجواب ضمير يعود على اسم الشرط أو المضاف إليه، والضمير في {يُضْلِلْهُ } إما أن يكون عائداً علىإضلال المحذوف أو على من لا جائز أن يعود على إضلال فيكون كقوله

{ يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ }

إذالهاء تعود على ذي المحذوفة من قوله: أو كظلمات إذ التقدير أو كذي ظلمات لأنه يصير التقدير إضلال {مَن يَشَإِٱللَّهُ يُضْلِلْهُ } أي يضلل الإضلال وهذا لا يصحّ ولا جائز أن يعود على من الشرطية لأنه إذ ذاك تخلواالجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اشم الشرط وذلك لا يجوز. (فإن قلت): يكون التقدير من يشأالله بالإضلال فيكون على هذا مفعولاً مقدماً لأن شاء بمعنى أراد ويقال أراده الله بكذا. قال الشاعر

: أرادت عرار بالهوان ومن يرد     عرار العمرى بالهوان فقد ظلم

فالجواب: أنهلا يحفظ من كلام العرب تعدية شاء بالباء لا يحفظ شاء الله بكذا ولا يلزم من كون الشيء في معنىالشيء أن يعدى تعديته، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد باختلاف متعلقه ألا ترى أنك تقول: دخلت الدار ودخلت فيغمار الناس، ولا يجوز دخلت غمار الناس فإذا كان هذا وارداً في الفعل الواحد فلأن يكون في الفعلين أحرى، وإذاتقرّر هذا فإعراب من يحتمل وجهين أحدهما وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره والثاني أن يكون مفعولاً بفعلمحذوف متأخر عنه يفسره فعل الشرط من حيث المعنى، وتكون المسألة من باب الاشتغال التقدير من يشق الله يشأ إضلالهومن يسعد يشأ هدايته {يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالىهو الهاديّ وهو المضل، وأن ذلك معذوق بمشيئته لا يسأل عما يفعل وقد تأولت المعتزلة هذه الآية كما تأولوا غيرهافقالوا: معنى {يُضْلِلْهُ } يخذله ويخبله وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف، ومعنى {يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يلطف به لأن اللطف يجري عليه وهذا على قول الزمخشري. وقال غيره: يضلله عن طريق الجنة و{يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرٰطٍمُّسْتَقِيمٍ } هو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة، قالوا: وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الضلال إلالمن يستحق العقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَٱللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } هذا ابتداء احتجاج على الكفار الذين يجعلون لله شركاء. قال الكرماني: {أَرَأَيْتُكُم } كلمةاستفهام ويعجب وليس لها نظير. وقال ابن عطية: والمعنى: أرأيتكم إن خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكاً أو خفتم الساعةأتدعون أصنامكم وتلجأون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم إنها آلهة بل تدعون الله الخالق الرازق فيكشفما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم؟ فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال، فكيفيجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد؟ و{أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض التييخاف منها الهلاك كالقولنج ويدعو إلى هذا التأويل إنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك:فيكشف ما تدعون لأن ما قد صح حلوله ومضى لا يصح كشفه، ويحتمل أن يريد بالساعة في هذه الآية ساعةموت الإنسان؛ انتهى. ولا يضطر إلى هذا التأويل الذي ذكره بل إذا حل بالإنسان العذاب واستمر عليه لا يدعو إلاالله وقوله: لأن ما صح حلوله ومضى لا يصح كشفه ليس كما ذكر، لأن العذاب الذي يحل بالإنسان هو جنسمنه ما مرّ وانقضى فذلك لا يصح كشفه ومنه ما هو ملتبس بالإنسان في الحال فيصح كشفه وإزالته بقطع اللهذلك عن الإنسان، وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى:

{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا }

لجنبه أو قاعداً أوقائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه فما انقضى من الضر الذي مسه لا يصحكشفه، وما هو ملتبس به كشفه الله تعالى فالضر جنس كما أن العذاب هنا جنس. وقال مقاتل: عذاب الله هوالعذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية. وقال ابن عباس: هو الموت ويعني والله أعلم مقدّماته من الشدائد والجمهور على أن{ٱلسَّاعَةَ } هي القيامة وأرأيت الهمزة فيها للاستفهام فإن كانت البصرية أو التي لإصابة الرئة أو العلمية الباقية على بابهالم يجز فيها إلا تحقيق الهمزة أو تسهيلها بين بين ولا يجوز حذفها، وتختلف التاء باختلاف المخاطب ولا يجوز إلحاقالكاف بها وإن كانت العلمية التي هي بمعنى أخبرني جاز أن تحقق الهمزة، وبه قرأ الجمهور في {أَرَأَيْتُكُم } وأرأيتموأرأيت وجاز أن تسهل بين بين وبه قرأ نافع وروي عنه إبدالها ألفاً محضة ويطول مدّها لسكونها وسكون ما بعدها،وهذا البدل ضعيف عند النحويين إلا أنه قد سمع من كلام العرب حكاه قطرب وغيره وجاز حذفها وبه قرأ الكسائيوقد جاء ذلك في كلام العرب. قال الراجز

:أريت إن جــاءت بــه أملــودا    

بل قدزعم الفراء أنها لغة أكثر العرب، قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن تسأل الرجل أرأيت زيداً أيبعينك فهذه مهموزة، وثانيهما أن تقول: أرأيت وأنت تقول أخبرني فيها هنا تترك الهمزة إن شئت وهو أكثر كلام العربتومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛ انتهى. وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب وجاز أنتتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب، وتبقى التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقهاحرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب اللاحقةفي موضع المفعول الأول، ومذهب الفراء أن التاء هي كهي في أنت وإن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل،استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبدالاً وتصحيحاً مذكور في علم النحو، وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نصعليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم. وذلك تفسير معنى لا تفسير إعراب قالوا: فتقول العرب أرأيت زيداً ماصنع فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت وهو جائز في علمت ورأيت الباقيةعلى معنى علمت المجردة من معنى أخبرني لأن أخبرني لا تعلق، فكذلك ما كان بمعناها والجملة الاستفهامية في موضع المفعولالثاني. قال سيبويه: وتقول أرأيتك زيداً أبو من هو وأرأيتك عمراً أعندك هو أم عند فلان لا يحسن فيه إلاالنصب في زيد ألا ترى أنك لو قلت أرأيت أبو من أنت وأرأيت أزيد ثم أم فلان، لم يحسن لأنفيه معنى أخبرني عن زيد. ثم قال سيبويه: وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني وقد اعترض كثير من النحاة علىسيبويه وخالفوه، وقالوا: كثيراً ما تعلق أرأيت وفي القرآن من ذلك كثير منه {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوْأَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ }

{ أَرَأَيْتَ ٱلَّذِى يَنْهَىٰ * عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ }

{ أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم }

وقال الشاعر

: أرأيت إن جاءت به أملودا     مرجّلاً ويلبس البرودا أقــائــلــن أحــضــروا الـشــهــودا

وذهب ابن كيسان إلى أن الجملة الاستفهامية في أرأيت زيداً ما صنع بدل من أرأيت،وزعم أبو الحسن إن أرأيتك إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدهالاستفهام، لأن أخبرني موافق لمعنى الاستفهام وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها بالكلية وتضمن معنى أما أو تنبه وجعل منذلك قوله تعالى: قال

{ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ ٱلْحُوتَ }

وقد أمعنا الكلام على أرأيت ومسائلهافي كتابنا المسمى بالتذييل في شرح التسهيل وجمعنا فيه ما لا يوجد مجموعاً في كتاب فيوقف عليه فيه، ونحن نتكلمعلى كل مكان تقع فيه أرأيت في القرآن بخصوصيته. فنقول الذي نختاره إنها باقية على حكمها من التعدّي إلى اثنينفالأول منصوب والذي لم نجده بالاستقراء إلا جملة استفهامية أو قسمية، فإذا تقرر هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآيةمحذوف والمسألة من باب التنازع تنازع {أَرَأَيْتُكُم } والشرط على عذاب الله فأعمل الثاني وهو {ءاتَـٰكُمُ } فارتفع عذاب به،ولو أعمل الأول لكان التركيب عذاب بالنصب ونظيره اضرب إن جاءك زيد على أعمال جاءك، ولو نصب لجاز وكان منأعمال الأول وأما المفعول الثاني فهي الجملة الاستفهامية من {أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ } والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف تقديره{أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ } لكشفه والمعنى: قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله تدعون لكشفهأو كشف نوار لها، وزعم أبو الحسن أن {أَرَأَيْتُكُم } في هذه الآية بمعنى أما. قال وتكون أبداً بعدالشرط وظروف الزمان والتقدير أما إن أتاكم عذابه والاستفهام جواب أرأيت لا جواب الشرط وهذا إخراج لأرأيت عن مدلولها بالكلية،وقد ذكرنا تخريجها على ما استقر فيها فلا نحتاج إلى هذا التأويل البعيد، وعلى ما زعم أبو الحسن لا يكونلأرأيت مفعولان ولا مفعول واحد، وذهب بعضهم إلى أن مفعول {أَرَأَيْتُكُم } محذوف دل عليه الكلام تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنامهل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله: {أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ }. وقال آخرون لا تحتاج هنا إلى جواب مفعوللأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وهذان القولان ضعيفان، وأما جواب الشرط فذهب الحوفي إلى أن جوابه {أَرَأَيْتُكُم }قدّم لدخول ألف الاستفهام عليه وهذا لا يجوز عندنا، وإنما يجوز تقديم جواب الشرط عليه في مذهب الكوفيين وأبي زيدوالمبرد وذهب غيره إلى أنه محذوف فقدره الزمخشري فقال: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون؟ وإصلاحه بدخولالفاء أي فمن تدعون؟ لأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جواباً للشرط فلا بد فيها من الفاء؟ وقدره غيره إن أتاكمعذاب الله أو أتتكم الساعة دعوتم الله ودل عليه الاستفهام في قوله: {أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ }. وقال الزمخشري: ويجوزأن يتعلق الشرط بقوله: {أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ } كأنه قيل أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله؛ انتهى. فلا يجوزأن يتعلق الشرط بقوله: {أَغَيْرَ ٱللَّهِ } لأنه لو تعلق به لكان جواباً للشرط، فلا يجوز أن يكون جواباً للشرطلأن جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يكون إلا بهل مقدماً عليها الفاء نحو أن قام زيد فهل تكرمه؟ولا يجوز ذلك في الهمزة لا تتقدم الفاء على الهمزة ولا تتأخر عنها، فلا يجوز إن قام زيد فأتكرمه ولاأفتكرمه ولا أتكرمنه، بل إذا جاء الاستفهام جواباً للشرط لم يكن إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا قبلها هكذانقله الأخفش عن العرب، ولا يجوز أيضاً من وجه آخر لأنا قد قرّرنا إن أرأيتك متعد إلى اثنين أحدهما فيهذه الآية محذوف وأنه من باب التنازع والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعة فلو جعلتها جواباً للشرط لبقيت {أَرَأَيْتُكُم } متعدّيةإلى واحد، وذلك لا يجوز وأيضاً التزام العرب في الشرط الجائي بعد أرأيت مضى الفعل دليل على أن جواب الشرطمحذوف، لأنه لا يحذف جواب الشرط إلا عند مضيّ فعله قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } {قُلْأَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـٰرَكُمْ }

{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا }

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ }

{ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ }

{ أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * أَلَمْ يَعْلَم }

إلى غير ذلكمن الآيات، وقال الشاعر

:أرأيت إن جــاءت بــه أمــلــودا    

وأيضاً فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهامدليل على أنها ليست جواب الشرط، إذ لا يصح وقوعها جواباً للشرط. وقال الزمخشري: (فإن قلت): إن علقت الشرطيةيعني بقوله: {غَيْرُ ٱللَّهِ } فما تصنع بقوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } مع قوله: {أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ } وقوارعالساعة لا تكشف عن المشركين. (قلت): قد اشترط في الكشف المشيئة وهو قوله: إن شاء إيذاناً بأنه إن فعل كانله وجه من الحكمة إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه؛ انتهى. وهذا مبني على أنه يجوزأن يتعلق الشرط بقوله {أَغَيْرَ ٱللَّهِ } وقد استدل للفاعل أن ذلك لا يجوز وتلخص في جواب الشرط أقوال:.أحدها: أنه مذكور وهو {أَرَأَيْتُكُم } المتقدّم والآخر أنه مذكور وهو {أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ }. والثالث: أنه محذوف تقديرهمن تدعون. والرابع: أنه محذوف تقديره دعوتم الله، هذا ما وجدنا منقولاً والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال وهوأن يكون محذوفاً لدلالة {أَرَأَيْتُكُم } عليه وتقديره {إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشفه، كماتقول: أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به؟ التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه، ونظير ذلكأنت ظالم إن فعلت التقدير فأنت ظالم فحذف فأنت ظالم وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه، وهذا التقدير الذيقدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية و{غَيْرُ ٱللَّهِ } عنى به الأصنام التي كانوا يعبدونها، وتقديم المفعول هنا بعد الهمزةيدل على الإنكار عليهم دعاء الأصنام إذ لا ينكر الدعاء إنما ينكرأن الأصنام تدعي كما تقول: أزيداً تضرب لا تنكرالضرب ولكن تنكر أن يكون محله زيداً. قال الزمخشري: بكتهم بقوله: {أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ } بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيماهو عادتكم إذا أصابكم ضرّ أم تدعون الله دونها؟ انتهى. وقدره بمعنى أتخصون لأن عنده تقديم المفعول مؤذن بالتخصيص والحصر،وقد تكلمنا فيما سبق في ذلك وأنه لا يدل على الحصر والتخصيص، وهذه الآية عند علماء البيان من باب استدراجالمخاطب وهو أن يلين الخطاب ويمزجه بنوع من التلطف والتعطف حتى يوقع المخاطب في أمر يعترف به فتقوم الحجة عليه،والله تعالى خاطب هؤلاء الكفار بلين من القول وذكر لهم أمراً لا ينازعون فيه وهو أنهم كانوا إذا مسهم الضردعوا الله لا غيره وجواب {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } محذوف تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم إن غير الله إلهفهل تدعونه لكشف ما يحل بكم من العذاب؟. {بَلْ إِيَّـٰهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَاتُشْرِكُونَ } {إِيَّـٰهُ } ضمير نصب منفصل وتقدم الكلام عليه في قوله:

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }

مستوفى. وقال ابن عطية:هنا {إِيَّـٰهُ } اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبداً؛ انتهى، وهذا مخالف لمذهب سيبويه، لأن مذهب سيبويهإن ما اتصل ب«ابا» من دليل تكلم أو خطاب أو غيبة وهو حرف لا اسم أضيف إليه أياً لأن المضمرعنده لا يضاف لأنه أعرف المعارف، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ويصير إذ ذاك معرفة بالإضافة لايكون مضمراً وهذا فاسد، ومجيئه هنا مقدماً على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول وعند الزمخشري إن تقديمه دليل علىالحصر والاختصاص، ولذلك قال: بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة، والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق الكلام لا من تقديم المفعولعلى العامل و{بَلِ } هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما تضمنه الكلام السابق من معنىالنفي لأن معنى الجملة السابقة النفي وتقديرها ما تدّعون أصنامكم لكشف العذاب وهذا كلام حق لا يمكن فيه الإضراب يعنيالإبطال، و{مَا } من قوله {مَا تَدَّعُونَ } الأظهر أنها موصولة أي فيكشف الذي تدعون. قال ابن عطية: ويصح أنتكون ظرفية؛ انتهى. ويكون مفعول يكشف محذوفاً أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعيه وهذا فيه حذف المفعولوخروج عن الظاهر لغير حاجة، ويضعفه وصل {مَا } الظرفية بالمضارع وهو قليل جدًّا إنما بابها إن توصل بالماضي تقولألا أكلمك ما طلعت الشمس ولذلك علة، أما ذكرت في علم النحو، قال ابن عطية: ويصح أن تكون مصدرية علىحذف في الكلام. وقال الزجاج: وهو مثل

{ واسأل القرية }

انتهى. ويكون تقدير المحذوف فيكشف موجب دعائكم وهو العذاب،وهذه دعوى محذوف غير متعين وهو خلاف الظاهر والضمير في {إِلَيْهِ } عائد على {مَا } الموصولة أي إلى كشفهودعا بالنسبة إلى متعلق الدعاء يتعدى بإلى قال الله تعالى:

{ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ }

الآية. وقال الشاعر

: وإن دعوت إلى جلي ومكرمة     يوماً سراة كرام الناس فادعينا

وتتعدى باللامأيضاً قال الشاعر

:وإن أدع للجلي أكـن مـن حمـاتهـا    

وقال آخر

:دعــوت لمــا نــابنــي مســـوراً    

وقال ابن عطية: والضمير في {إِلَيْهِ } يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيهإلى الله؛ انتهى. وهذا ليس بجيد لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء إنما يتعدّى لمفعول به دون حرف جر قالتعالى:

{ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ }

{ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }

ومن كلام العرب دعوت الله بمعنىدعوت الله إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ضمن يدعون معنى يلجأون، كأنه قيل فيكشف ما يلجأون فيهبالدّعاء إلى الله لكن التضمين ليس بقياس ولا يضار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعلق تعالىالكشف بمشيئته فإن شاء أن يتفضل بالكشف فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا يجب عليه شيء. قال الزمخشري: إنشاء إن أراد أن يتفضل عليكم ولم تكن مفسدة؛ انتهى. وفي قوله: ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال، وظاهر قوله: وتنسونما تشركون النسيان حقيقة والذهول والغفلة عن الأصنام لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه تجرد خاطره منكل شيء إلا من الله الكاشف لذاك الداهم، فيكاد يصير الملجأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه فلا يذكرغير الله القادر على كشف مادهم. وقال الزمخشري: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وتكرهون آلهتكم وهذا فيه بعد. وقال ابن عطية:تتركونهم وتقدم قوله هذا وسبقه إليه الزجاج فقال: تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون. وقال النحاس: هومثل قوله

{ لَقَدِ * عَهِدْنَا إِلَىٰ * مِن رَّبِّهِ * قَبْلُ فَنَسِىَ }

وقيل: يعرضون إعراض الناسي لليأس منالنجاة من قبله، و{مَا } موصولة أي وتنسون الذي تشركون. وقيل: {مَا } مصدرية أي وتنسون إشراككم ومعنى هذه الجملبل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى وأصنامكم مطرحة منسية قاله ابن عطية. {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَفَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } هذا تسلية للرسول وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغةفي قسوة القلوب حتى هم إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله ولا يسألونه كشفها، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالىإليهم الرسل أبلغ انحرافاً وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله إذ خاطبهم تعالىبقوله {قُلْ أَرَأَيْتُكُم } الآية. وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون لكشفها إلا الله تعالى، وفي الكلام حذف التقدير {وَلَقَدْأَرْسَلنَا * ٱلرُّسُلَ *إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } فكذبوا فأخذناهم وتقدم تفسير البأساء والضراء والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أيلو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه، والأخذ الإمساك بقوة وبطش وقهر وهو هنامجاز عن متابعة العقوبة والملازمة والمعنى لعاقبناهم في الدنيا. {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } {لَوْلاَ } هنا حرفتحضيض يليها الفعل ظاهراً أو مضمر أو يفصل بينهما بمعمول الفعل من مفعول به وظرف كهذه الآية، فصل بين {لَوْلاَ} و{تَضَرَّعُواْ } بإذ وهي معمولة لتضرعوا، والتخضيض يدل على أنه لم يقع تضرعهم حين جاء البأس فمعناه إظهار معاتبةمذنب غائب وإظهار سوء فعله ليتحسر عليه المخاطب وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم والمراد أوائل البأس وعلاماته.{وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله من كفرهم، ووقوع {لَكِنِ } هناحسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت {لَكِنِ } بين ضدين وهمااللين والقسوة، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإيمان فعبر بالسبب عنالمسبب كانت أيضاً واقعة بين ضدين تقول: قسا قلبه فكفر وآمن فتضرع. {وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك ويحتمل أن تكون استئناف إخبار، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوةقلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سبباً في تحسينها لهم. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّشَىْء } أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله:{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات. {حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً} معنى هذه الجمل معنى قوله

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }

وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي قال: إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم ثم تلا {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ}الآية، والأبواب استعارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإبهام في هذا العموم لتهويل ما فتحعليهم وتعظيمه وغياً الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الإهلاك إذ لميتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه، ابتلاهم أولاً بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم منإسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا قصدوا الشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرحبما أسبغ عليهم. قال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } أي باهتونبائسون لا يخبرون جواباً. وقرأ ابن عامر فتحنا بتشديد التاء والتشديد لتكثير الفعل وإذا هي الفجائية وهي حرف على مذهبالكوفيين وظرف مكان، ونسب إلى سيبويه وظرف زمان وهو مذهب الرياشي والعامل فيها إذا قلنا بظرفيتها هو خبر المبتدإ أي،ففي ذلك المكان {هُمْ مُّبْلِسُونَ } أي مكان إقامتهم وذلك الزمان {هُمْ مُّبْلِسُونَ } وأصل الإبلاس الإطراق لحلول نقمة أوزوال نعمة. قال الحسن: مكتئبون. وقال السدي: هالكون. وقال ابن كيسان: وقطرب: خاشعون. وقال ابن عباس: متحيرون. وقال الزجاج: متحسرون.وقال ابن جرير: الساكت عند انقطاع الحجة. {فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } عبارة عن استئصالهم بالهلاك والمعنى: فقطعدابرهم ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم، وهو هنا الكفر والدابر التابع للشيء من خلفه يقال: دبرالوالد الولد يدبره، وفلان دبر القوم دبوراً ودبراً إذا كان آخرهم. وقال أمية بن أبي الصلت

: فاستؤصلوا بعذاب خص دابرهم     فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا

قال أبو عبيدة: {دَابِرُ ٱلْقَوْمِ } آخرهم الذييدبرهم. وقال الأصمعي: الدابر الأصل يقال: قطع الله دابره أي أذهب أصله، وقرأ عكرمة {فَقُطِعَ دَابِرُ } بفتح القاف والطاءوالراء أي فقطع الله وهو التفات إذ فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب. {وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} قال الزمخشري: إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم؛ انتهى. والذي يظهر أنهتعالى لما أرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تارة بالبلاء، وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا فأهلكهم واستراح الرسل منشرهم وتكذيبهم وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك المكذبين فناسب هذا الفعل كلهالختم بالحمد له. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} لما ذكر أولاً تهديدهم بإتيان العذاب أو الساعة كان ذلك أعظم من هذا التهديد، فأكد خطاب الضمير بحرف الخطابفقيل أرأيتكم ولما كان هذا التهديد أخف من ذلك لم يؤكد به، بل اكتفى بخطاب الضمير فقيل {أَرَءيْتُمْ } وفيتلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى وأنه المتصرف في العالم الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب، وأن آلهتهملا تغني عنهم شيئاً والظاهر من قوله {أَخَذَ * سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـٰرَكُمْ } أنه ذهاب الحاسة السمعية والبصرية فيكون أخذاً حقيقياً.وقيل: هو أخذ معنوي والمراد إذهاب نور البصر بحيث يحصل العمى، وإذهاب سمع الأذن بحيث يحصل الصمم، وتقدم الكلام علىإفراد السمع وجمع الأبصار وعلى الختم على القلوب في أول البقرة فأغنى عن إعادته. ومفعول {أَرَءيْتُمْ } الأول محذوف والتقديرقل أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول: أرأيتك زيداً ما يصنع وقد قررناأن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه، والضمير في {بِهِ} أفرده إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل تأتيكم بذلك أو يكون التقدير بما أخذ وختم عليه. وقيل: يعودعلى السمع بالتصريح وتدخل فيه القلوب والأبصار. وقيل: هو عائد على الهدى الذي يدل عليه المعنى لأن أخذ السمع والبصروالختم على القلوب سبب الضلال وسد لطرق الهداية، و{مِنْ إِلَـهٍ } استفهام معناه توقيفهم على أنه ليس ثم سواه فالتعلقبغيره لا ينفع. قال الحوفي: وحرف الشرط وما اتصل به في موضع نصب على الحال والعامل في الحال {أَرَءيْتُمْ }كقوله: اضربه إن خرج أي خارجاً، وجواب الشرط ما تقدم مما دخلت عليه همزة الاستفهام؛ انتهى، وهذا الإعراب تخليط.{ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ٱلاْيَـٰتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } روى أبو قرة المسيـي عن نافع به {أَنظُرْ } بضم الهاء وهيقراءة الأعرج، وانظر خطاب للسامع وتصريف الآيات قال مقاتل: نخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب وبما صنع بالأمم السالفة. وقال ابنفورك: تصريفها مرة تأتي بالنقمة ومرة تأتي بالنعمة ومرة بالترغيب ومرة بالترهيب. وقيل: تتابع لهم الحجج وتضرب لهم الأمثال. وقيل:نوجهها إلى الإنشاء والإفناء والإهلاك. وقيل: الآيات على صحة توحيده وصدق نبيه والصدف والصدوف الإعراض والنفور. قال ابن عباس والحسنوقتادة ومجاهد والسدي: {يَصْدِفُونَ } يعرضون ولا يعتبرون. وقرأ بعض القراء كيف نصرف من صرف ثلاثياً. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْأَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } هذا تهديد ثالث فالأول بأحد أمرين: العذاب والساعة،والثاني: بالأخذ والختم، والثالث: بالعذاب فقط. قيل: {بَغْتَةً } فجأة لا يتقدم لكم به علم وجهرة تبدو لكم مخايلة ثمينزل. وقال الحسن: {بَغْتَةً } ليلاً وجهرة نهاراً. وقال مجاهد: {بَغْتَةً } فجأة آمنين وجهرة وهم ينظرون، ولما كانت البغتةتضمنت معنى الخفية صح مقابلتها للجهرة وبدىء بها لأنها أردع من الجهرة، والجملة من قوله {هَلْ يُهْلَكُ } معناها النفيأي ما يهلك {إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } ولذلك دخلت إلا وهي في موضع المفعول الثاني لا رأيتكم والرابط محذوف أيهل يهلك به؟ والأول من مفعولي {أَرَأَيْتُكُم } محذوف من باب الإعمال لما قررناه، ولما كان التهديد شديداً جمع فيهبين أداتي الخطاب والخطاب لكفار قريش والعرب وفي ذكر الظلم تنبيه على علة الإهلاك والمعنى هل يهلك إلا أنتم لظلمكم؟وقرأ ابن محيصن: {هَلْ يُهْلَكُ } مبنياً للفاعل. {وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي {مُبَشّرِينَ } بالثواب{وَمُنذِرِينَ } بالعقاب وانتصب {مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } على الحال وفيهما معنى العلية، أي أرسلناهم للتبشير والإنذار لا لأن تقترح عليهمالآيات بعد وضوح ما جاؤوا به وتبيين صحته. {فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ } أي من صدق بقلبه وأصلح في عمله.{فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } جعل {ٱلْعَذَابَ }ماساً كأنه ذو حياة يفعل بهم ما شاء من الآلام. وقرأ علقمة: نمسهم العذاب بالنون من أمس وأدغم الأعمش العذاببما كأبي عمرو. وقرأ يحيـى بن وثاب والأعمش {يَفْسُقُونَ } بكسر السين. {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ ٱللَّهِوَلا أَعْلَمُ * بِٱلْغَيْبِ *وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ } قال الزمخشري: أي لاأدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وهي قسمة بين الخلق وأرزاقه وعلم الغيب، وإنيمن الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلة منه، أي لم أدع الألوهية ولا الملكية لأنه ليسبعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة حتى تستبعدون دعواي وتستنكرونها، وإنما ادّعيّ ما كان مثله لكثير من البشر وهوالنبوة، انتهى. وما قاله: من أن المعنى إني أقول لكم إني لست بإله فأنصف بصفاته من كينونة خزائنه عندي وعلمالغيب، وهو قول الطبري، والأظهر أنه يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلمشيئاً مما غاب عنه قاله ابن عطية. وأما قول الزمخشري في الملائكة هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلةفهو جار على مذهب المعتزلة من أن الملك أفضل خلق الله، وقد استدل الجبائي بهذه الآية على أن الملائكة أفضلمن الأنبياء قال: لأن معنى الآية لا أدّعيّ منزله فوق منزلتي فلولا أن الملك أفضل لم يصح ذلك. قال القاضي:إن كان الغرض مما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل على أن الملك أفضل وإن كان نفى قدرته عن أفعاللا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل؛ انتهى. وقد تكلمنا على ذلك عند قوله:

{ وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ }

وقال ابن عطية: وتعطى قوة اللفظ في هذه الآية أن الملك فضل من البشر وليس ذلك بلازممن هذا الموضع، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعاً في أنفسهم وأقرب إلى الله والتفضيل يعطيه المعنى عطاءًخفياً وهو ظاهر من آيات أخر وهي مسألة خلاف، و{مَا يُوحَىٰ } يريد به القرآن وسائر ما يأتي به الملكأي في ذلك عبر وآيات لمن تأمل ونظر؛ انتهى. وقال الكلبي: {خَزَائِنُ ٱللَّهِ } مقدوراته من إغناء الفقير وإفقار الغني.وقال مقاتل: الرحمة والعذاب. وقيل: آياته. وقيل: مجموع هذا لقوله

{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ }

قيل: وهذهالثلاث جواب لما سأله المشركون، فالأول جواب لقولهم: إن كنت رسولاً فاسأل الله حتى يوسع علينا خزائن الدنيا، والثاني: جوابلقولهم إن كنت رسولاً فأخبرنا بما يقع في المستقبل من المصالح والمضار فنستعد لتحصيل تلك ودفع هذه، والثالث: جواب قولهم:مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ انتهى. وقال الزمخشري (فإن قلت): أعلم الغيب ما محله من الإعراب؟قلت: النصب عطفاً على محل قوله: {خَزَائِنُ ٱللَّهِ } لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القولولا هذا القول؛ انتهى. ولا يتعين ما قاله، بل الظاهر أنه معطوف على لا أقول لا معمول له فهو أمرأن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو قل وغاير في متعلق النفي فنفى قوله: {عِندِىخَزَائِنُ ٱللَّهِ } وقوله: {إِنّى مَلَكٌ } ونفى علم الغيب ولم يأت التركيب. ولا أقول: إني أعلم الغيب لأن كونهليس عنده {خَزَائِنُ ٱللَّهِ } من أرزاق العباد وقسمهم معلوم ذلك للناس كلهم فنفى ادعاءه ذلك وكونه بصورة البشر معلومأيضاً لمعرفتهم بولادته ونشأته بين أظهرهم، فنفى أيضاً ادعاءه ذلك ولم ينفهما من أصلهما لأن انتفاء ذلك من أصله معلومعندهم، فنفى أن يكابرهم في ادعاء شيء يعلمون خلافه قطعاً. ولما كان علم الغيب أمراً يمكن أن يظهر على لسانالبشر بل قد يدعيه كثير من الناس كالكهان وضراب الرمل والمنجمين، وكان قد أخبر بأشياء منالمغيبات وطابقت ما أخبر به نفي علم الغيب من أصله فقال: ولا أعلم الغيب تنصيصاً على محض العبودية والافتقار وإن ما صدر عنه من إخبار بغيب إنما هو من الوحي الوارد عليه لا من ذات نفسه، فقال: {إِنْأَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ } كما قال فيما حكى الله عنه

{ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء }

وكما أثر عنه عليه السلام لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمني ربي وجاء هذا النفي على سبيل الترقي فنفى أولاً ما يتعلق به رغبات الناس أجمعين من الأرزاق التي هي قوامالحياة الجسمانية، ثم نفى ثانياً ما يتعلق به وتتشوف إليه النفوس الفاضلة من معرفة ما يجهلون وتعرّف ما يقع منالكوائن ثم نفى ثالثاً ما هو مختص بذاته من صفة الملائكة التي هي مباينة لصفة البشرية فترقى في النفي منعام إلى خاص إلى أخص، ثم حصر ما هو عليه في أحواله كلها بقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ} أي أنا متبع ما أوحى الله غير شارع شيئاً من جهتي، وظاهره حجة لنفاة القياس. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِىٱلاْعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } أي لا يستوي الناظر المفكر في الآيات والمعرض الكافر الذي يهمل النظر. قال ابن عباس: الكافر والمؤمن.وقال ابن جبير: الضال والمهتدي. وقيل: الجاهل والعالم. وقال الزمخشري: مثل للضلاّل والمهتدين ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع مايوحى إليه ومن لم يتبع أو لمن ادعى المستقيم، وهو النبوة والمحال وهو الألوهية والملكية. {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } هذاعرض وتحضيض معناه الأمر أي ففكروا ولا تكونوا ضالين أشباه العميّ أو فكروا فتعلمون، أي لا أتبع إلا ما يوحىإليّ أو فتعلمون إني لا أدّعي ما لا يليق بالبشر. {وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبّهِمْ }لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره الله تعالى أن ينذر به فقال: {وَأَنذِرْ بِهِ } أيبما أوحي إليك. وقيل: يعود على الله أي بعذاب الله. وقيل: يعود على الحشر وهو مأمور بإنذار الخلائق كلهم وإنماخص بالإنذار هنا من خاف الحشر لأنه مظنة الإيمان، وكأنه قيل: الكفرة المعرضون دعهم ورأيهم وأنذر بالقرآن من يرجى إيمانه.وروى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الموالي منهم بلال وصهيب وخباب وعمار ومهجع وسلمان وعامربن بهيرة وسالم مولى أبي حذيفة، وظاهر قوله: {ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبّهِمْ } عموم من خاف الحشر وآمنبالبعث من مسلم ويهودي ونصراني فلا يتخصص بالمسلمين المقرين بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهميتقون، أي يدخلون في زمرة أهل التقوى ولا بأهل الكتاب ولا بناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذاسمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمردين منهم و{يَخَافُونَ } باقعلى حقيقته أي يخافون ما يترتب على الحشر من مؤاخذتهم بذنوبهم، وأما الحشر فمتحقق. وقال الطبري: {يَخَافُونَ } هنا يعلمونومعنى {إِلَىٰ رَبّهِمُ } أي إلى جزاء ربهم أي موعوده وقد تعلق بهذه الآية المجسمة بأن الله في حيز ومكانمختص وجهة معينة لأن كلمة إلى الانتهاء الغاية. {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ }، قال الزمخشري: فيموضع الحال من {يُحْشَرُواْ } بمعنى {يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ } غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ولا بد من هذه الحال،لأن كلاًّ محشور فالخوف إنما هو الحشر على هذه الحال. وقال ابن عطية: إن جعلناه داخلاً في الخوف كان فيموضع الحال أي {يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ } في حال من لا ولي له ولا شفيع فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين لأناليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل وإن جعلناه إخباراً من الله عن صفةالحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ترجئة لحصول تقواهم إذا حصل الإنذار. {وَلاَ تَطْرُدِٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } قال سعد بن أبي وقاص: نزلت فينا ستة فيّ وفي ابن مسعودوصهيب وعمار والمقداد وبلال قالت قريش: إنا لا نرضى أن نكون لهؤلاء تبعاً فاطردهم عنك فنزلت. وقال خباب بن الأرت:فينا نزلت كنا ضعفاء عند النبي يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا، فقال الأقرع بن حابس وعيينةبن حصين: إنا من أشراف قومنا وإنا نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك فنزلت، فأتيناه وهو يقول: سلام عليكمكتب ربكم على نفسه الرحمة فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته وهذا فيه بعد، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشرافلم ينذروا إلا بالمدينة. وفي رواية عن خباب فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى

{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ }

الآية. فكان يقعد معنا فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتىيقوم. وروى العوفي عن ابن عباس إن ناساً من الأشراف قالوا: نؤمن بك وإذا صلينا خلفك فأخر هؤلاء الذين معكفيصلوا خلفنا فيكون الطرد تأخرهم من الصف لا طردهم من المجلس. ورويت هذه الأسباب بزيادة ونقص ومضمونها أن ناساً منأشراف العرب سألوا من الرسول طرد فقراء المؤمنين عنه فنزلت، ولما أمر تعالى بإنذار غير المتقين{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم،والظاهر من قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة {بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ } كناية عن الزمان الدائمولا يراد بهما خصوص زمانهما كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلاً تريد في كل حال فكنى بالغداة عن النهار وبالعشيعن الليل، أو خصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر اللهودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه. وقيل: المراد بالدعاء الصلاة المكتوبة. فقال الحسن ومقاتل: هي الصلاة بمكة التي كانتمرتين في اليوم بكرة وعشياً. وقال قتادة ومجاهد: في رواية عنه هي صلاة الصبح والعصر. وقال ابن عمر وابن عباسومجاهد في رواية وابراهيم: هي الصلوات الخمس. وقال بعض القصاص: إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشياً فأنكر ذلك ابن المسيب وعبدالرحمن بن أبي عمرة وغيرهما، وقالوا: إلا الآية في الصلوات في الجماعة. وقال أبو جعفر: هي قراءة القرآن وتعلمه. وقالالضحاك: العبادة. وقال ابراهيم في رواية: ذكر الله. وقال الزجاج: دعاء الله تعالى بالتوحيد والإخلاص وعبادته. وقرأ الجمهور {بِٱلْغَدَاةِ }.وقرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وأبو رجاء العطاردي بالغدو. وروي عن أبيعبد الرحمن أيضاً بالغدوّ بغيرها. وقرأ ابن أبي عبلة: بالغدوات والعشيات بالألف فيهما على الجمع، والمشهور في غدوة أنها معرفةبالعلمية ممنوعة الصرف. قال الفرّاء: سمعت أبا الجرّاح يقول: ما رأيت كغدوة قط يريد غداة يومه، قال: ألا ترى أنالعرب لا تضيفها فكذا لا تدخلها لألف واللام إنما يقولون: جئتك غداة الخميس؛ انتهى. وحكى سيبويه والخليل أن بعضهم ينكرهافيقول: رأيته غدوة بالتنوين وعلى هذه اللغة قرأ ابن عامر ومن ذكر معه وتكون إذ ذاك كفينة. حكى أبو زيد:لقيته فينة غير مصروف ولقيته الفينة بعد الفينة أي الحين بعد الحين ولما خفيت هذه اللغة على أبي عبيد أساءالظن بمن قرأ هذه القراءة فقال: إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة اتباعاً للخط وليس في إثبات الواوفي الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظهما على تركها وكذلك الغداة على هذا وجدنا العرب؛انتهى. وهذا من أبي عبيد جهل بهذه اللغة التي حكاها سيبويه والخليل وقرأ بها هؤلاء الجماعة وكيف يظن بهؤلاء الجماعةالقرّاء أنهم إنما قرؤا بها لأنها مكتوبة في المصحف بالواو والقراءة، إنما هي سنة متبعة وأيضاً فابن عامر عربي صريحكان موجوداً قبل أن يوجد اللحن لأنه قرأ القرآن على عثمان بن عفان ونصر بن عاصم أحد العرب الأئمة فيالنحو، وهو ممن أخذ علم النحو عن أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو والحسن البصري من الفصاحة بحيث يستشهد بكلامهفكيف يظن بهؤلاء إنهم لحنوا؟ انتهى. واغتروا بخط المصحف ولكن أبو عبيدة جهل هذه اللغة وجهل نقل هذه القراءة فتجاسرعلى ردها عفا الله عنه، والظاهر أن العشي مرادف للعشية ألا ترى قوله:

{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِىّ ٱلصَّـٰفِنَـٰتُ ٱلْجِيَادُ }

وقيل: هو جمع عشية ومعنى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } يخلصون نياتهم له في عبادتهم ويعبر عن ذات الشيء وحقيقته بالوجه.وقال ابن عباس: يطلبون ثواب الله والجملة في موضع الحال وقد استدل بقوله: {وَجْهَهُ } من أثبت الأعضاء لله تعالىالله عن ذلك علوًّا كبيراً. {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء } قالالحسن والجمهور: الحساب هنا حساب الأعمال. وقيل: حساب الأرزاق أي لا ترزقهم ولا يرزقونك حكاه الطبري. وقال الزمخشري: كقوله:

{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّى }

وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء }بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله تعالى في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله، فما يلزمك إلااعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك، كما إنحسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله

{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }

انتهى. ولا يمكن ما ذكره من الترديدفي قوله: وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر بأنهم {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وإخبارالله تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطنغير مرضي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم له تعالى. قال الزمخشري: (فإنقلت): ما كفى قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } حتى ضم إليه {مَّا مِن * حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّنشَىْء } (قلت): قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدّي واحد وهو المعنى في قوله {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَأُخْرَىٰ } ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه؛ انتهى. وقوله:كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه تركيب غير عربي، لا يجوز عود الضمير هنا غائباً ولا مخاطباًلأنه إن أعيد غائباً فلم يتقدّم له اسم مفرد غائب يعود عليه، إنما يتقدّم قوله: ولا هم ولا يمكن العودإليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطباً فلم يتقدّم له مخاطب يعودعليه إنما تقدم قوله: لا تؤاخذ أنت، ولا يمكن العود إليه لأنه مخاطب فلا يعود عليه غائباً ولو أبرزته مخاطباًلم يصح التركيب أيضاً وإصلاح هذا التركيب أن يقال: لا يؤاخذ كل واحد منكم ولا منهم بحساب صاحبه أو لاتؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنتوزيد تضربان، والظاهر أن الضمائر كلها عائدة على {ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ }. وقيل: الضمير في {مِنْ حِسَابِهِم } وفي {عَلَيْهِمْ }عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه، قال الزمخشري: والمعنى لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمكإيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الضمير في {حِسَابَهُمْ } و{عَلَيْهِمْ }للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطر هؤلاء رعياً بذلك، والضمير في تطردهم عائدعلى الضعفة من المؤمنين ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبداً سبب ما قبلها وذلك لا يبين إذا كانتالضمائر كلها للمؤمنين. وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا أي لا ترزقهم ولا يرزقونك، قال: فعلىهذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين؛ انتهى. ومن في {مِنْ حِسَابِهِم } وفي {مِنْ حِسَابِكَ } مبعضة في موضع نصب علىالحال في {مِنْ حِسَابِهِم } وذو الحال هو من شيء لأنه لو تأخر من حسابهم لكان في موضع النعت لشيءفلما تقدّم انتصب على الحال و{عَلَيْكَ } في موضع الخبر لما إن كانت حجازية، وأجزنا توسط خبرها إذا كانت ظرفاًأو مجروراً وفي موضع خبر المبتدإ إن لم نجز ذلك أو اعتقدنا أن ما تميمية وأما في {مِنْ حِسَابِكَ }فقيل: هو في موضع نصب على الحال ويضعف ذلك بأن الحال إذا كان العامل فيها معنى الفعل لم يجز تقديمهاعليه خصوصاً إذا تقدمت على العامل وعلى ذي الحال. وقيل: يجوز أن يكون الخبر {مِنْ حِسَابِكَ } و{عَلَيْهِمْ * وَلاَشَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَامِنْ حِسَابِكَ } على هذا تبيينااً لا حالاً ولا خبراً وانظر إلى حسن اعتنائه بنبيه وتشريفه بخطابه حيث بدأ بهفي الجملتين معاً فقال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } ثم قال: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء }فقدم خطابه في الجملتين وكان مقتضى التركيب الأول لو لوحظ أن يكون التركيب الثاني {وَمَا * عَلَيْهِمْ مّنْ * حِسَابِكَ* مِن شَىْء } لكنه قدم خطاب الرسول وأمره تشريفاً له عليهم واعتناء بمخاطبته وفي هاتين الجملتين رد العجز علىالصدر، ومنه قول الشاعر

: وليس الذي حللته بمحلل     وليس الذي حرمته بمحرّم

{فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } الظاهر أن قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ } جواب لقوله {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِممّن شَىْء } يكون النصب هنا على أحد معنيي النصب في قولك: ما تأتينا فتحدّثنا لأن أحد معنيي هذا ماتأتينا محدثاً إنما تأتي ولا تحدث، وهذا المعنى لا يصح في الآية والمعنى الثاني ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي لايقع هذا فكيف يقع هذا وهذا المعنى هو الذي يصح في الآية أن لا يكون حسابهم عليك فيكون وقع الطرد،وأطلقوا جواب أن يكون {فَتَطْرُدَهُمْ } جواباً للنفي ولم يبينوا كيفية وقوعه جواباً والظاهر في قوله: {فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }أن يكون معطوفاً على {فَتَطْرُدَهُمْ } والمعنى الإخبار بانتفاء حسابهم وانتفاء الطرد والظلم المتسبب عن الطرد، وجوّزوا أن يكون {فَتَكُونُ} جواباً للنهي في قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ } كقوله:

{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ }

وتكون الجملتانوجواب الأولى اعتراضاً بين النهي وجوابه، ومعنى {مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ } من الذين يضعون الشيء في غير مواضعه.

{ وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّاكِرِينَ } * { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } * { قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَاصِلِينَ } * { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ ٱلأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّالِمِينَ } عدل

{وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا } الكافللتشبيه في موضع نصب والإشارة بذلك إلى فتون سابق وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين، وتقسيم أممهم إلىمؤمن ومكذب فدل ذلك على أن اتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة؛ كما وقع في هذه الأمة فشبهتعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة أي حال هذه الأمّة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض والفتونبالغني والفقر أو بالشرف والوضاعة والقوّة والضعف. قال الزمخشري: ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض أي ابتليناهم بهوذلك إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين {أَهَـؤُلاء مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا } أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولمايسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بيننابالخير نحواً

{ أألقي الذكر عليه من بيننا }

{ لو كان خيراً ما سبقونا إليه }

ومعنى فتناهم ليقولواذلك خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقوّل؛ انتهى. وآخركلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها تعالى إليه بالخذلان لأن جرياً على عادته. قال ابن عطية: ابتلاءالمؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لاشرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدراً ومنزلة، والإشارة بذلك إلى من ذكر من ظلمهم أنتطرد الضعفة؛ انتهى. ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير ومثل ذلك أي طلب الطرد {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } والذييتبادر إليه الذهن إنك إذا قلت: ضربت مثل ذلك إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا أنه تقع المماثلة فيغيره واللام في {لّيَقُولواْ } الظاهر أنها لام كي أي هذا الابتلاء لكي يقولوا: هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهموالمناجاة لها، ويصير المعنى ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبباً للنظر لمن هدى ومنأثبت أن اللام تكون للصيرورة، جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق {وَهَـؤُلاء } إشارة إلى المؤمنين{وَمِنْ * ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ } أي بزعمهم إن دينهم منه تعالى. {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } هذا استفهام معناهالتقرير والردّ على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه، وجاء لفظالشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم: {أَهَـؤُلاء مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } أي أنعم عليهم فناسب ذكرالأنعام لفظ الشكر؟ والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهمفليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم. وقيل: بالشاكرين من منّ عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر. وقيل: من يشكرعلى الإسلام إذا هديته. وقيل: بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه. وقال الزمشخري: أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمانوالشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق؛ انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. {وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَبِـئَايَـٰتِنَا فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ } الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدأهم بالسلام وقيل: الذين صوّبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة.وقال الفضيل بن عياض: قال قوم: قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت. وقيل: نزلت في عمر حين أشاربإجابة الكفرة ولم يعلم أنها مفسدة، وعلى هذه الأسباب يكون تفسير {ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } فإن كان عنى بهم الستة الذيننهى عن طردهم فيكون من باب العام أريد به الخاص ويكون قوله {سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } أمراً بإكرامهم وتنبيهاً على خصوصيةتشريفهم بهذا النوع من الإكرام وإن كان عنى عمر حين اعتذر واستغفر وقال: ما أردت بذلك إلا الخير كان منإطلاق الجمع على الواحد المعظم، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص لا بالستة ولا بغيرهم وإنها استئناف إخبارمن الله تعالى بعد تقصي خبر أولئك الذين نهى عن طردهم ولو كانوا إياهم لكان التركيب الأحسن، وإذا جاؤك والآياتهنا آيات القرآن وعلامات النبوة. وقال أبو عبد الله الرازي: آيات الله آيات وجوده وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ووحدانيتهوما سوى الله لا نهاية له، ولا سبيل للعقول إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أنيطلع على بعض الآيات ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح فيتلك القفار، ولما كان لا نهاية لها فكذلك، لا نهاية في ترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جمليلا نهاية لتفاصيله، ثم إن العبد إذا كان موصوفاً بهذه الصفات فعندها أمر الله نبيه محمداً بأن يقول لهم بسلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة والنجاة من بحر عالم الظلمات ومركزالجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغييرات والتبديلات، وأما الكرامة بالوصول إلى الباقيات الصالحات المجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنواروالترقي إلى معارج سرادقات الجلال؛ انتهى كلامه وهو تكثير لا طائل تحته طافح بإشارات أهل الفلسفة بعيد من مناهج المتشرّعينوعن مناحي كلام العرب ومن غلب عليه شيء حتى في غير مظانه ولله در القائل يغري منصور الموحدين بأهل الفلسفةمن قصيدة

: وحرق كتبهم شرقاً وغربا     ففيها كامن شرّ العلوم يدب إلى العقائد من أذاها

وقال المبرد: السلام في اللغة اسم من أسماءالله تعالى وجمعه سلامة ومصدر واسم شجر. وقال الزجاج: مصدر لسلم تسليماً وسلاماً كالسراح من سرّح والأداء من أدى. وقالعكرمة والحسن: أمر بابتداء السلام عليهم تشريفاً لهم. وقال ابن زيد: أمر بإبلاغ السلام عليهم من الله، وقيل: معنى السلامهنا الدعاء من الآفات. وقال أبو الهيثم: السلام والتحية بمعنى واحد ومعنى السلام عليكم حياكم الله. وقال الزمخشري: إما أنيكون أمر بتبليغ سلام الله إليهم وإما أن يكون أمر بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم؛ انتهى. وترديده إماوأما الأول قول ابن زيد، والثاني قول عكرمة. وقال ابن عطية: لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء وهذا منالمواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت؛ انتهى. والتخصيص الذي يعينه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هوأن يتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض النحويين أن يجعلجواز الابتداء بالنكرة راجعاً إلى التخصيص والتعميم والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أياستعملت، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } أي أوجبها والبارىء تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه حتمبشيء فذلك الشيء واجب. وقيل: {كِتَـٰبَ } وعد والكتب هنا في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتاب غيره، وفي صحيح البخاري: إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي وهذه الجملة مأمور بقولها تبشيراًلهم بسعة رحمة الله وتفريحاً لقلوبهم. {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ } السوء: قيل: الشرك. وقيل المعاصي، وتقدمتفسير عمل السوء بجهالة في قوله:

{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة }

فأغنى عن إعادته.{ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي من بعد عمل السوء {وَأَصْلَحَ } شرط استدامة الإصلاح فيالشيء الذي تاب منه. قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديرهفأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له، ووهم النحاس فزعم أن قوله {فَإِنَّهُ } عطف على أنه وتكرير لهالطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم، لأن {مِنْ } مبتدأ سواء كان موصولاً أو شرطاً فإن كان موصولاً بقي بلاخبر وإن كان شرطاً بقي بلا جواب. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل. وقيل: فإنه بدلمن أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو {مِنْ } من خبر أو جواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والإخوانبكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب. وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهينالسابقين وكسر الثانية على وجهها أيضاً، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاها الزهراوي عن الأعرج. وحكى سيبويه عنه مثلقراءة نافع. وقال الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع و{بِجَهَالَةٍ } في موضع نصب على الحال أي وهو جاهل وماأحسن مساق هذا المقول أمره أولاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم فبدأ أولاً بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانياًبوجوب الرحمة وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر لكم في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة،ثم أبدل منها شيئاً خاصاً وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجلهوإن أنه في موضع نصب لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول {كِتَـٰبَ } واستدلالمعتزلة بقوله:

{ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ }

أنه لا يخلق الكفر في الكافر لأن الرحمة تنافي ذلك وتنافي تعذيبهأبد الآباد. {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ٱلاْيَـٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } الكاف للتشبيه وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورةأي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجىإسلامه ومن ترى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإسلام إلا أنه لايحفظ حدوده. وقيل: المعنى كما فصلنا في هذه السورة دليل على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نفصل لك دليلنا وحججنافي تقرير كل حق ينكره أهل الباطل. وقيل: إشارة إلى التفصيل للأمم السابقة ومثل ذلك التفصيل لمن كان قبلكم نفصللكم. وقال التبريزي: معناه كما بينا للشاكرين والكافرين. وقال ابن قتيبة: تفصيلها إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء. وقال تاج الفراء:الفصل بون ما بين الشيئين والتفصيل التبيين بين المعاني الملتبسة. وقال ابن عطية: والإشارة بقوله: {وَكَذٰلِكَ } إلى ما تقدممن النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها؛ انتهى. واستبان يكون لازماً ومتعدّياًوتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها. وقرأ العربيان وابن كثير وحفص {وَلِتَسْتَبِينَ } بالتاء سبيل بالرفع. وقرأ الأخوانوأبو بكر وليستبين بالياء سبيل بالرفع فاستبان هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المحرمين. وقرأ نافع {وَلِتَسْتَبِينَ } بتاء الخطاب سبيلبالنصب فاستبان هنا متعدية. فقيل: هو خطاب للرسول . وقيل له ظاهراً والمراد أمته لأنه صلى اللهعليه وسلم كان استبانها وخص {سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوفلدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين. وقيل: خص {سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } لأنهم الذين أثار وأما تقدم من الأقوال وهمأهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وظاهر المجرمين العموم وتأوله ابن زيد على أنه عنى بالمجرمين الآمرون بطردالضعفة واللام في {*لتستبين} متعلقة بفعل متأخر أي {ٱلاْيَـٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } فصلناها لكم أو قبلها علة محذوفة وهوقول الكوفيين التقدير لنبين لكم ولتستبين. وقال الزمخشري: لنستوضح سبيلهم فتعامل كلاًّ منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلكالتفصيل. {قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبري من عبادتهمغير الله، ولما ذكر تعالى تفصيل الآيات لتستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم ومعنى نهيت زجرت. قالالزمخشري: بما ركب في من أدله العقل وبما أوتيت من أدلة السمع والذين يدعون الأصنام، عبر عنها بالذين على زعمالكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل وتدعون. قال ابن عباس: معناه تعبدون. وقيل: تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيداً سميته.وقيل: يدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله: {تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه علىغير بصيرة، ولفظة {نُهِيتُ } أبلغ من النفي بلا {أَعْبُدُ } إذ فيه ورود تكليف. {قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أي ما تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصهفلذلك جمع، وأهواءكم عام وغالب ما يستعمل في غير الخير ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاءوغير ذلك مما ليس بحق وهي أعم من الجملة السابقة وأنص على مخالفتهم، وفي قوله {أَهْوَاءكُمْ } تنبيه على السببالذي حصل منه الضلال وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل كما قال ابن دريد

: وآفة العقل الهوى فمن علا     على هواه عقله فقد نجا

{قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَاأَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } المعنى إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت والجملة من قوله: {وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } مؤكدةلقوله {قَدْ ضَلَلْتُ } وجاءت تلك فعلية لتدل على التجدد وهذه اسمية لتدل على الثبوت فحصل نفي تجدد الضلال وثبوتهوجاءت رأس آية. وقرأ السلمي وابن وثاب وطلحة {ضَلَلْتُ } بكسر فتحة اللام وهي لغة، وفي التحرير قرأ يحيـى وابنأبي ليلى هنا في السجدة في أئذا ضللنا بالصاد غير معجمة ويقال صل اللحم أنتن ويروى ضللنا أي دفنا فيالضلة وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب الشواذله. {قُلْ إِنّى عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} أي على شريعة واضحة وملة صحيحة. وقيل: البينة هي المعجزة التي تبين صدقي وهي القرآن، قالوا: ويجوز أن تكونالتاء في {بَيّنَةً } للمبالغة والمعنى على أمر بين لما نفي أن يكون متبعاً للهوى نبه على ما يجب اتباعهوهو الأمر الواضح من الله تعالى. {وَكَذَّبْتُم بِهِ } إخبار منه عنهم أنهم كذبوا به والظاهر عود الضمير علىالله أي وكذبتم بالله. وقيل: عائد على {بَيّنَةً } لأن معناه على أمر بين. وقيل: على البيان الدال عليه بينة.وقيل: على القرآن. {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } الذي استعجلوا به قيل الآيات المقترحة قاله الزجاج. وقيل: العذابورجح بأن الاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب لأنهم لم يستعجلوا بالآيات المقترحة وبأن لفظ {وَكَذَّبْتُم بِهِ } يتضمنأنكم واقعتم ما أنتم تستحقون به العذاب إلا أن ذلك ليس لي. قال الزمخشري: يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم:

{ فأمطر علينا حجارة من السماء }

{ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أي الحكم لله على الإطلاق وهوالفصل بين الخصمين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب. وقيل: القضاء بإنزال العذاب وفيه التفويض العام لله تعالى. يقضي الحق هي قراءةالعربيين والأخوين أي يقضي القضاء الحق في كل ما يقضى فيه من تأخير أو تعجيل، وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذفعداه إلى مفعول به. وقيل: يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي

: وعليهما مسدودتان قضاهما     داود أو صنع السوابغ تبع

أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق،ويؤيده قراءة عبد الله وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظاً لالتقاءالساكنين. وقرأ مجاهد وابن جبير يقضي بالحق. {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ } وفي مصحف عبد الله وهو أسرع الفاصلين. وقرأابن عباس والحرميان وعاصم {يَقُصُّ ٱلْحَقَّ } من قص الحديث كقوله

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ }

أو منقص الأثر أي اتبعه. وحكى أن أبا عمرو بن العلاء سئل أهو يقص الحق أو يقضي الحق؟ فقال: لو كانيقص لقال وهو خير القاصين أقرأ حد بهذا وحيث قال {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ } فإنما يكون الفصل في القضاء؛ انتهى.ولم يبلغ أبا عمرو أنه قرىء بها ويدل على ذلك قوله: أقرأ بها أحد ولا يلزم ما قال، فقد جاءالفصل في القول قال تعالى:

{ إنه لقول فصل }

وقال:

{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ }

وقال:

{ نُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ }

فلا يلزم من ذكر الفاصلين أن يكون معيناً ليقضي و{خَيْرٌ } هنا أفعل التفضيل على بابها. وقيل: ليستعلى بابها لأن قضاءه تعالى لا يشبه قضاء ولا يفصل كفصله أحد وهذا الاستدلال يدل على أنها بابها. {قُللَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ ٱلاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلونبه من اقتراح الآيات أو من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال بيني وبينكم. وروي عن عكرمة في {لَقُضِىَ ٱلاْمْرُبَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي لقامت القيامة وما روي عن ابن جريج من أن المعنى لذبح الموت لا يصح ولا لههنا معنى. وقال الزمخشري و{مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب لأهلكنكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به ولتخلصت منكمسريعاً؛ انتهى. وهو قول ابن عباس لم أمهلكم ساعة ولأهلكنكم. {وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّـٰلِمِينَ } الظاهر أن المعنى والله أعلم بكمفوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر ومعنى {أَعْلَمُ } بهم أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد. وقيل: بتوقيت عقابهم وقيل:بما آل أمرهم من هداية بعض واستمرار بعض. وقيل: بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن يمهل. وقيل: بما تقتضيه الحكمة منعذابهم.

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } * { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } * { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } * { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } * { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } * { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } * { وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } * { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاةَ وَٱتَّقُوهُ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّوَرِ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } عدل

السقوط: الوقوع من علو. الورقة: واحدة الورق من النبات والكاغد وهي معروفة. الرطبواليابس معروفان يقال رطب فهو رطب ورطيب ويبس وييبس، وشذ فيه يبس بحذف الياء وكسر الباء. الكرب الغم يأخذ بالنفسكربت الرجل فهو مكروب. قال الشاعر

: ومكروب كشفت الكرب عنه     بطعنة فيصل لما دعاني

الشيعة: الفرقة تتبع الأخرى ويجمع على أشياع، وشيعت فلاناً اتبعته وتقول: العرب شاعكم السلام أي اتبعكم وأشاعكمالله السلم أي اتبعكم. الإبسال: تسليم المرء نفسه للهلاك ويقال أبسلت ولدي أرهنته، قال الشاعر

: وابسالي بني بغير جرم     بعوناه ولا بدم مراق

بعوناه جنيناه والبعوا الجناية. الحميم: الماء الحار.الحيرة: التردد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج منه ومنه تحير الماء في الغيم يقال حار يحار حيرة وحيراً وحيراناًوحيرورة. الصور: جمع صورة والصور القرن بلغة أهل اليمن. قال

: نحن نطحناهم غداة الجمعين     بالشامخات في غبار النقعين نطحـاً شـديـداً لا كنطـح الصوريـن

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} لما قال تعالى: إن الحكم إلا لله وقال هو أعلم بالظالمين بعد قوله {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } انتقل منخاص إلى عام وهو علم الله بجميع الأمور الغيبية، واستعارة للقدرة عليها المفاتح لما كانت سبباً للوصول إلى الشيء فاندرجفي هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره. والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهي الآية التي يفتح بها ما أغلق. قالالزهراوي: ومفتح أفصح من مفتاح ويحتمل أن يكون جمع مفتاح لأنه يجوز في مثل هذا أن لا يؤتى فيه بالياءقالوا: مصابح ومحارب وقراقر في جميع مصباح وقرقور. وقرأ ابن السميقع: مفاتيح بالياء وروي عن بعضهم مفتاح الغيب على التوحيد.وقيل: جمع مفتح بفتح الميم ويكون للمكان أي أماكن الغيب ومواضعها يفتح عن المغيبات ويؤيده ما روي عن ابن عباسإنها خزائن المطر والنبات ونزول العذاب. وقال السدي: وغيره خزائن الغيب. وروي عن ابن عمر عنه عليه السلام أنه قال: مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله

{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }

إلى آخر السورة. وقيل:{مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } الأمور التي يستدلّ بها على الغائب فتعلم حقيقته من قولك: فتحت على الإمام إذا عرّفته ما نسي.وقال أبو مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتح الغيب. وروي عن ابن عباس أنها خزائن غيب السموات والأرض منالأقدار والأرزاق. وقال عطاء: ما غاب من الثواب والعقاب وما تصير إليه الأمور. وقال الزجاج: الوصلة إلى علم الغيب إذااستعلم. وقيل: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال. وقيل: ما لم يكن هل يكون أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون ومالا يكون إن كان كيف يكون؟ و{لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليهاغيره تعالى، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات والاطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهممعهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس المنابر ولا ينكر ذلك أحد هذا مع خلوهم عنالعلوم يوهمون أنهم يعلمون الغيب. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ومن زعم أن محمداً يخبر بما يكونفي غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول:

{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }

وقد كثرت هذه الدّعاوي والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ عجزوا عنمدارك العقل والنقل وأعياهم طلاب العلوم

: فارتموا يدعون أمراً عظيما     لم يكن للخليل لا والكليم بينما المرء منهم في انسفال
أبصر اللوح ما به من رقوم فجنى العلم منه غضاً طريا     ودرى ما يكون قبل الهجوم إن عقلي لفي عقال إذا ما

{وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } لما كان ذكرهتعالى {مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } أمراً معقولاً أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العمومثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص، فتحصل إخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه ومانعلمه نحن وقدم البر لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن أو على سبيلالترقي إلى ما هو أعجب في الجملة، لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم والبر مقابل البحر.وقيل: {ٱلْبَرّ } القفار {وَٱلْبَحْرِ } المعروف فالمعنى ويعلم ما في البر من نبات ودواب وأحجار وأمدار وغير ذلك، ومافي البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك. وقال مجاهد: {ٱلْبَرّ } الأرض القفار التي لا يكون فيها الماء {وَٱلْبَحْرِ }كلقرية وموضع فيه الماء. وقيل: لم يرد ظاهر البرّ والبحر وإنما أراد أن علمه تعالى محيط بنا وبما أعد لمصالحنامن منافعهما وخصا بالذكر لأنهما أعظم مخلوق يجاوزنا. {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } {مِنْ } زائدة لاستغراقجنس الورقة و{يَعْلَمُهَا } مطلقاً قبل السقوط ومعه وبعده. قال الزجاج: {يَعْلَمُهَا } ساقطة وثابتة كما تقول: ما يجيئك أحدإلا وأنا أعرفه ليس تأويله في حال مجيئه فقط. وقيل: يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء. وقيل:يعلمها كيف انقلبت ظهراً لبطن إلى أن وقعت على الأرض، {يَعْلَمُهَا } في موضع الحال من {وَرَقَةٍ } وهي حالمن النكرة. كما تقول: ما جاء أحد إلا راكباً. {وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلاْرْضِ } قيل: تحت الأرض السابعة.وقيل: تحت التراب. وقيل: الحب الذي يزرع يخفيها الزرّاع تحت الأرض. وقيل: تحت الصخرة في أسفل الأرضين. وقيل: ولا حبةإلا يعلم متى تنبت؟ ومن يأكلها؟، وانظر إلى حسن ترتيب هذه المعلومات بدأ أولاً بأمر معقول لا ندركه نحن بالحسوهو قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } ثم ثانياً بأمر ندرك كثيراً منه بالحس وهو {يَعْلَمُ مَا فِى * ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ} وفيه عموم ثم ثالثاً بجزءين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط ورقة من علوّ إلى أسفل، والثاني سفلي وهو اختفاءحبة في بطن الأرض. ودلت هذه الجمل على أنه تعالى عالم بالكليات والجزئيات وفيها ردّ على الفلاسفة في زعمهم أنالله لا يعلم الجزئيات ومنهم من يزعم أنه تعالى لا يعلم الكليات ولا الجزئيات حتى هو لا يعلم ذاته تعالىالله عن ذلك. {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } الرطب واليابس وصفان معروفان والمراد العموم فيالمتصف بهما، وقد مثل المفسرون ذلك بمثل. فقيل: ما ينبت وما لا ينبت. وقيل: لسان المؤمن ولسان الكافر. وقيل: العينلباكية من خشية الله والعين الجامدة للقسوة، وأما ما حكاخ النقاش عن جعفر الصادق أن الورقة هي السقط من أولادبني آدم والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرّطب المراد به الحيّ واليابس يراد به الميت فلا يصح عن جعفروهو من تفسير الباطنية لعنهم الله. وقال مقاتل في كتاب مبين: هو اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: كناية عن علم اللهالمتيقن وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله: ولا حبة {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } معطوف على قوله {مِن وَرَقَةٍ} والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة، فالمعنى إلا أكرمتها ولكنه لماطال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميقع {وَلاَرَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } بالرفع فيهما والأولى أن يكونا معطوفين على موضع {مِن وَرَقَةٍ } ويحتمل الرفع على الابتداء وخبره{إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ }. {وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ * لّيَقْضِيَ *أَجَلٌ مّسَمًّىثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استثاره بالعلمالتام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامّة تنبيهاً على ما تختص به الإلهية وذكر شيئاً محسوساً قاهراً للأنام وهو التوفيبالليل والبعث بالنهار وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة، بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان والتوفي عبارة في العرف عنالموت وهنا المعنى به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره. ولما كانالتوفي المراد به النوم سبباً للراحة أسنده تعالى إليه وما كان بمعنى الموت مؤلماً قال:

{ قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ }

{جَاءتْ رُسُلُنَا }

{ نُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ }

والظاهر أن الخطاب عام لكل سامع. وقال الزمخشري: الخطاب للكفرة وخص الليلبالنوم والبعث بالنهار وإن كان قد ينام بالنهار ويبعث بالليل حملاً على الغالب، ومعنى {جَرَحْتُم } كسبتم ومنه جوارح الطيرأي كواسبها واجترحوا السيئات اكتسبوها والمراد منها أعمال الجوارح ومنه قيل للأعضاء جوارح. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون منالجرح كأن الذنب جرح في الدين والعرب تقول: وجرح اللسان كجرح اليد. وقال مكي: أصل الاجتراح عمل الرجل بجارحة منجوارحه يده أو رجله ثم كثر حتى قيل لكل مكتسب مجترح وجارح، وظاهر قوله: {مَا جَرَحْتُم } العموم في المكتسبخيراً كان أو شراً. وقال الزمخشري: ما كسبتم من الآثام؛ انتهى، وهو قول ابن عباس. وقال قتادة: ما عملتم.وقال مجاهد: ما كسبتم والبعث هنا هو التنبه من النوم والضمير في {فِيهِ } عائد على {ٱلنَّهَارَ } قاله مجاهدوقتادة والسدي، عاد عليه لفظاً والمعنى في يوم آخر كما تقول: عندي درهم ونصفه وقال عبد الله بن كثير يعودعلى التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه. وقيل: يعود على الليل. وقال الزمخشري: ثم يبعثكم من القبورفي شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار، ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني فتقول: فيأمر كذا؛ انتهى. وحمله على البعث من القبور ينبو عنه قوله: {لّيَقْضِيَ * أَجَلٍ مُّسَمًّى } لأن المعنى والله أعلمأنه تعالى يحييهم في هاتين الحالتين من النوم واليقظة ليستوفوا ما قدر لهم من الآجال والأعمال المكتوبة، وقضاء الأجل فصلمدّة العمر من غيرها ومسمى في علم الله أو في اللوح المحفوظ أو عند تكامل الخلق ونفخ الروح، ففي الصحيحأن الملك يقول عند كمال ذلك. فما الرزق فما الأجل. وقال الزمخشري: هو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهمعلى أعمالهم {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } هو المرجع إلى موقف الحساب {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في ليلكم ونهاركم؛انتهى. وقال غيره: كابن جبير: مرجعكم بالموت الحقيقي. ولما ذكر تعالى النوم واليقظة كان ذلك تنبيهاً على الموت والبعث وإنحكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد فكما أنام وأيقظ يميت ويحيـي. وقرأ طلحة وأبو رجاء ليقضي أجلاً مسمى بني الفعل للفاعلونصب أجلاً أي ليتم الله آجالهم كقوله:

{ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلاْجَلَ }

وفي قراءة الجمهور، ويحتمل أن يكون الفاعلالمحذوف ضميره أو ضميرهم. {وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } تقدم الكلام في تفسير وهو القاهر فوقعباده. قال هنا ابن عطية: {ٱلْقَاهِرُ } إن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب، فيصح أن تجعلدفوق} ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها للعباد من فوقهم وإن أخذ {*} ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنماتعاهدها للعباد من فوقهم وإن أخذ {ٱلْقَاهِرُ } صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ففوق لا يجوز أن يكون للجهة وإنماهو لعلو القدر والشأن، كما تقول: الياقوت فوق الحديد؛ انتهى. وظاهر {وَيُرْسِلُ } أن يكون معطوفاً على {وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ }عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار القهر. وجوز أبو البقاء أن تكون معطوفة على قوله: {يَتَوَفَّـٰكُم }وما بعده من الأفعال وأن يكون معطوفاً على {ٱلْقَاهِرُ } التقدير وهو الذي يقهر ويرسل، وأن يكون حالاً على إضمارمبتدإ أي وهو يرسل وذو الحال إما الضمير في {ٱلْقَاهِرُ } وإما الضمير في الظرف وهذا أضعف هذه الأعاريب، {وَعَلَيْكُمْ} ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله:

{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ }

ولفظة على مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كانذلك علينا ويحتمل أن يكون متعلقاً بحفظة أي ويرسل حفظة عليكم أي يحفظون عليكم أعمالكم، كما قال:

{ وإن عليكم لحافظين }

كما تقول: حفظت عليك ما تعمل. وجوّزوا أن يكون حالاً لأنه لو يتأخر لكان صفة أي حفظه كائنةعليكم أي مستولين عليكم و{حَفَظَةً } جمع حافظ وهو جمع منقاس لفاعل وصفاً مذكراً صحيح اللام عاقلاً وقل فيما لايعقل. قال الزمخشري: أي ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون؛ انتهى. وقال ابن عطية: المراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال؛انتهى. وما قالاه هو قول ابن عباس وظاهر الجمع أنه مقابل الجمع ولم تتعرض الآية لعدد ما على كل واحدولا لما يحفظون عليه. وعن ابن عباس: ملكان مع كل إنسان أحدهما عن يمينه للحسنات، والآخر عن شماله للسيئات وإذاعمل سيئة قال: من على اليمين انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتبت عليه. وقيل: ملكان بالليل وملكان بالنهارأحدهما يكتب الخير والآخر يكتب الشر، فإذا مشى كان أحدهما بين يديه والآخر وراءه وإذا جلس فأحدهما عن يمينه والآخرعن شماله. وقيل: خمسة من الملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار، وواحد لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً والمكتوب الحسنة والسيئة. وقيل:الطاعات والمعاصي والمباحات. وقيل: لا يطلعون إلا على القول والفعل لقوله:

{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

ولقوله:

{ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }

وأما أعمال القلوب فعلمه لله تعالى. وقيل: يطلعون عليها على الإجمال لا علىالتفصيل فإذا عقد سيئة خرجت من فيه ريح خبيثة أو حسنة خرجت ريح طيبة. وقال الزمخشري (فإن قلت): اللهغني بعلمه عن كتب الكتبة فما فائدتها؟ (قلت): فيها لطف للعباد لأنهم إذا علموا إن الله رقيب عليهم، والملائكة الذينهم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلكأزجر لهم عن القبيح وأبعد من السوء؛ انتهى. وقوله: {وَٱلْمَلَـئِكَةُ * ٱلَّذِينَ هُمْ * تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَحَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمبِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِوَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } إن ذلك الحفظ بالكتابة كما فسروا بل قد قيل: هم الملائكة الذي قال فيهم النبي صلىالله عليه وسلم: تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار قاله قتادة والسدّي. وقيل: يحفظون الإنسان من كل شيءحتى يأتي أجله. {حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي أسباب الموت {تَوَفَّتْهُ } قبضت روحه {رُسُلُنَا} جاء جمعاً. فقيل: عنى به ملك الموت عليه السلام وأطلق عليه الجمع تعظيماً. وقيل: ملك الموت وأعوانه والأكثرون علىأن رسلنا عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم ولا تعارض بين قوله:

{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلاْنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا }

وبين قوله:

{ قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ }

وبين قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } لأن نسبة ذلكإلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة، ولملك الموت لأنه هو الآمر لأعوانه وله ولهم بكونهم هم المتولون قبض الأرواح. وعنمجاهد جعلت الأرض له كالطست يتناول منه من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين.وقرأ حمزة: توفاه بألف ممالة وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع، ومن قرأ توفته أنثعلى معنى الجماعة ويحتمل أن يكون مضارعاً وأصله تتوفاه فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة. وقرأ الأعمش يتوفاهبزيادة ياء المضارعة على التذكير. {وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ } جملة حالية والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهملا يفرطون في شيء مما أمروا به من الحفظ والتوفي ومعناه: لا يقصرون. وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد {لاَ يُفَرّطُونَ} بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به. قال الزمخشري: فالتفريط التولي والتأخر عن الحد والإفراط مجاوزة الحد أيلا ينقصون مما أمروا به ولا يزيدون فيه؛ انتهى، وهو معنى كلام ابن جني. وقال ابن بحر: {يُفَرّطُونَ } لايدعون أحداً يفرط عنهم أي يسبقهم ويفوتهم. وقيل: يجوز أن تكون قراءة التخفيف معناها لا يتقدّمون على أمر الله وهذالا يصح إلا إذا نقل إن أفرط بمعنى فرط أي تقدم. وقال الحسن: إذا احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضونروحه فيعرجون بها. {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقّ } الظاهر عود الضمير على العباد، وجاء عليكم على سبيلالالتفات لما في الخطاب من تقريب الموعظة من السامعين، ويحتمل أن يعود الضمير في {رُدُّواْ } على أحدكم على المعنىلأنه لا يريد بـ{أَحَدَكُمُ } ظاهره من الإفراد إنما معناه الجمع وكأنه قيل: حتى إذا جاءكم الموت، وقرىء {رُدُّواْ }بكسر الراء نقل حركة الدال التي أدغمت إلى الراء والراد المحذر من الله أو بالبعث في الآخرة أو الملائكة ردّتهمبالموت إلى الله. وقيل: الضمير يعود على {رُسُلُنَا } أي الملائكة يموتون كما يموت بنو آدم ويردّون إلى الله تعالىوعوده على العباد أظهر و {مَوْلَـٰهُمُ } لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الملك والنصرةوالرزق والمحاسبة وغير ذلك، وفي الإضافة إشعار برحمته لهم وظاهر الإخبار بالرد إلى الله أنه يراد به البعث والرجوع إلىحكم الله وجزائه يوم القيامة ويدل عليه آخر الآية. وقال أبو عبد الله الرازي: صريح الآية يدل على حصول الموتللعبد ورده إلى الله والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله بل المردود هو النفس والروح وهناموت وحياة، فالموت نصيب البدن والحياة نصيب النفس والروح فثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح وليس عبارة عن مجردهذه البنية وفي قوله: {رُدُّواْ إِلَىٰ ٱللَّهِ } إشعار بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلىحضرة الجلال إنما يكون إذا كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره

{ ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ }

{ إلى الله مرجعكم جميعاً }

وجاء في الحديث: خلقت الأرواح قبل الأجساد بألفي عام وحجة الفلاسفة على كون النفوسغير موجودة قبل وجود البدن ضعيفة وبينا ضعفها في الكتب العقلية؛ انتهى. كلامه وفيه بعض تلخيص. وقال أيضاً: {إِلَى ٱللَّهِ} يشعر بالجهة وهو باطل فوجب حمله على أنهم ردّوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه؛ انتهى. والظاهر أنهذا الرد هو بالبعث يوم القيامة إلا ما أراده الرازي ووصفه تعالى بالحق معناه العدل الذي ليس بباطل ولا مجاز.وقال أبو عبد الله الرازي: كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال تعالى:

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }

فلما مات تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى كلامه.وتفسيره خارج عن مناحي كلام العرب ومقاصدها وهو في أكثره شيبة بكلام الذين يسمون أنفسهم حكماء. وقرأ الحسن والأعمش {لَحَقُّ} بالنصب والظاهر أنه صفة قطعت فانتصبت على المدح وجوز نصبه على المصدر تقديره الرد الحق. {أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ} تنبيه منه تعالى عباده بأن جميع أنواع التصرفات له. وقال الزمخشري: {أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ } يومئذ لا حكم فيهلغيره. {وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَـٰسِبِينَ } تقدم الكلام في سرعة حسابه تعالى في قوله:

{ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

{قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } لما تقدم ذكره دلائل على ألوهيته تعالى من العلم التام والقدرة الكاملةذكر نوعاً من أثرهما وهو الإنجاء من الشدائد وهو استفهام يراد به التقرير والإنكار والتوبيخ والتوقيف على سوء معتقدهم عندعبادة الأصنام وترك الذي ينجي من الشدائد ويلجأ إليه في كشفها. قيل: وأريد حقيقة الظلمة وجمعت باعتبار موادها ففي البروالبحر ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الصواعق، وفي البر أيضاً ظلمة الغبار وظلمة الغيم وظلمة الريح، وفي البحر أيضاً ظلمةالأمواج ويكون ذلك على حذف مضاف التقدير مهالك ظلمة البر والبحر ومخاوفها وأكثر المفسرين على أن الظلمات مجاز عن شدائدالبر والبحر ومخاوفهما وأهوالهما، والعرب تقول: يوم سود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب كأنه لإظلامه وغيبوبة شمسه بدت فيه الكواكبويعنون به أن ذلك اليوم شديد عليهم. قال قتادة والزجاج: من كرب البر والبحر. وحكى الطبري: ضلال الطريق في الظلمات.وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم فإذا دعوا وتضرعوا كشفالله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها؛ انتهى. {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها والتضرعوصف باد على الإنسان والخفية الإخفاء. وقال الحسن: تضرعاً وعلانية خفية أي نية وانتصبا على المصدر، و{تَدْعُونَهُ } حال ويقال:خفية بضم الخاء وهي قراءة الجمهور وبكسرها وهي قراءة أبي بكر. وقرأ الأعمش {وَخُفْيَةً } من الخوف. وقرأ الكوفيون {مَنيُنَجّيكُمْ * قُلِ ٱللَّهُ يُنَجّيكُمْ } بالتشديد فيهما، وحميد بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو بالتخفيف فيهماوالحرميان والعربيان بالتشديد في {مَن يُنَجّيكُمْ } والتخفيف في {قُلِ ٱللَّهُ يُنَجّيكُمْ } جمعوا بين التعدية بالهمزة والتضعيف، كقوله:

{ فمهل الكافرين أمهلهم }

{لَّئِنْ أَنجَـٰنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } هذه إشارة إلى الظلمات والمعنى قائلين لئنأنجينا لما دعوه، أقسموا أنهم يشكرونه على كشف هذه الشدائد ودل ذلك على أنهم لم يكونوا قبل الوقوع في هذهالشدائد شاكرين لأنعمه. وقرأ الكوفيون {لَّئِنْ أَنجَـٰنَا } على الغائب وأماله الاخوان. وقرأ باقي السبعة على الخطاب. {قُلِ ٱللَّهُيُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } الضمير في {مِنْهَا } عائد على ما أشير إليه بقوله {مِنْهَـٰذِهِ } ومن كل معطوف على الضمير المجرور أعيد معه الخافض وأمره تعالى بالمسابقة إلى الجواب ليكون هو صلى اللهعليه وسلم أسبق إلى الخير وإلى الاعتراف بالحق ثم ذكر أنه تعالى ينجي من هذه الشدائد التي حضرتهم ومن كلكرب فعم بعد التخصيص ثم ذكر قبيح ما يأتون بعد ذلك وبعد إقرارهم بالدعاء والتضرع ووعدهم إياه بالشكر من إشراكهممعه في العبادة. قال ابن عطية: وعطف بـ{ثُمَّ } للمهلة التي تبين قبح فعلهم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كلهوتحققه أنتم تشركون؛ انتهى. وقيل: معنى {يُشْرِكُونَ } تعودون إلى ما كنتم عليه من الإشراك وعبادة الأصنام ولا يخفى مافي هذه الجملة الإسمية من التقبيح عليهم إذ ووجهوا بقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ } كقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ } هؤلاء بعد قوله

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ }

وإذا كان الخبر {تُشْرِكُونَ } بصيغة المضارع المشعر بالاستمرار والتجدد في المستقبلكما كانوا عليه فيما مضى. {قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} هذا إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات أنه خطاب للكفار وهو مذهب الطبري. وقال أبي وأبو العالية وجماعة:هي خطاب للمؤمنين. قال أبي: هنّ أربع: عذاب قبل يوم القيامة مضت اثنتان قبل وفاة الرسول بخمس وعشرين سنة لبسواشيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض، وثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم. وقال الحسن: بعضها للكفار بعث العذاب من فوق ومنتحت وسائرها للمؤمنين، انتهى. وحين نزلت استعاذ الرسول وقال في الثالثة: هذه أهون أو هذه أيسر واحتج بهذا من قال هي للمؤمنين. وقال الطبري: لا يمتنع أن يكون عليه لسلام تعوذ لأمته مما وعدبه الكفار وهون الثالثة لأنها في المعنى هي التي دعا فيها فمنع كما في حديث الموطأ وغيره. والظاهر {مّن فَوْقِكُمْأَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } الحقيقة كالصواعق وكما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة وأرسل على قوم نوح الطوفان،كقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } وكالزلازل ونبع الماء المهلك وكما خسف بقارون. وقال السدي عن أبي مالك وابنجبير: الرجم والخسف. وقال ابن عباس: {مّن فَوْقِكُمْ } ولاة الجور و{مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } سفلة السوء وخدمته. وقيل: حبسالمطر والنبات. وقيل: {مّن فَوْقِكُمْ } خذلان السمع والبصر والآذان واللسان و{مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } خذلان الفرح والرجل إلى المعاصي؛انتهى، وهذا والذي قبله مجاز بعيد. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى كلّ فرقةمنكم مشايعة لإمام ومعنى خلطهم انشاب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال كقول الشاعر

: وكتيبة لبستها بكتيبة     حتى إذا التبست نفضت لها يدي فتركتهم تقص الرماح ظهورهمما بين منعفر وآخر مسند

قال ابن عباس ومجاهد: تثبت فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً. وقيل: المعنى يقوي عدوكم حتى يخالطوكم. وقرأ أبو عبدالله المدني {يَلْبِسَكُمْ } بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس فعلى فتح الياء يكون شيعاً حالاً. وقيل: مصدر والعاملفيه {يَلْبِسَكُمْ } من غير لفظه؛ انتهى. ويحتاج في كونه مصدراً إلى نقل من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أنيكون التقدير أو يلبسكم الفتنة شيعاً ويكون شيعاً حالاً، وحذف المفعول الثاني ويحتمل أن يكون المفعول الثاني شيعاً كان الناسيلبس بعضهم بعضاً كما قال الشاعر

: لبست أناساً فأفنيتهم     وغادرت بعد أناس أناسا

وهي عبارة عن الخلطة والمعايشة. {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } البأس الشدة من قتل وغيرهوالإذاقة والإنالة والإصابة هي من أقوى حواس الاختبار وكثر استعمالها في كلام العرب وفي القرآن قال تعالى:

{ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ }

وقال الشاعر

: أذقناهم كؤوس الموت صرفا     وذاقوا من أسنتنا كؤوسا

وقرأ الأعمش: ونذيق بالنون وهي نون عظمة الواحد وهي التفات فأئدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرةالقاهرة. {ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ٱلاْيَـٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } هذا استرجاع لهم ولفظة تعجب للنبي والمعنيإنا نسألك في مجيء الآيات أنواعاً رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله تعالى، لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهمإن غربت آية لم تعزب أخرى. {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ } قال السديّ: {بِهِ } عائد على القرآنالذي فيه جاء تصريف الآيات. وقال الزمخشري: {بِهِ } راجع إلى العذاب وهو الحق أي لا بد أن ينزل بهم.وقال ابن عطية: ويحتمل أن يعود على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري. وقيل: يعود على النبي صلى اللهعليه وسلم وهذا لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف؛ انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة: وكذبت به قومك بالتاء، كما قال:

{ كذبت قوم نوح }

والظاهر أن قوله: {وَهُوَ ٱلْحَقُّ } جملة استئناف لا حال. {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }أي لست بقائم عليكم لإكراهكم على التوحيد. وقيل: {بِوَكِيلٍ } بمسلط وقيل: لا أقدر على منعكم من التكذيب إجباراً إنماأنا منذر. قال ابن عطية: وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ. وقيل: لا نسخ في هذا إذهو خبر والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن وليس فيه أنه لا يكون في المستقبل. {لّكُلّنَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } أي لكل أجل شيء ينبأ به يعني من أنبائه بأنهم يعذبون وإبعادهم به وقت استقرار وحصول لابد منه. وقيل: لكل عمل جزاء وليس هذا بالظاهر. وقال السدي: استقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يومبدر. وقال مقاتل: منه في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة جهنم. {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } مبالغة في التهديد والوعيد فيجوز أنيكون تهديد بعذاب الآخرة، ويجوز أن يكون تهديداً بالحرب وأخذهم بالإيمان على سبيل القهر والاستيلاء. {وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَفِى ءايَـٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } هذا خطاب للرسول ويدخل فيه المؤمنونلأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم. وقيل: هو خاص بتوحيده لأن قيامه عنهم كان يشقعليهم وفراقه على مغاضبه والمؤمنون عندهم ليسوا كهو. وقيل: خطاب للسامع والذين يخوضون المشركون أو اليهود أو أصحاب الأهواء ثلاثةأقوال، ورأيت هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي {وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءايَـٰتِنَا } وهم خائضون فيها أي وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة. وقيل: {رَأَيْتُ } علمية لأن الخوض في الآيات ليسمما يدرك بحاسة البصر وهذا فيه بعد لأنه يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير {وَإِذَارَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـٰتِنَا } خائضين فيها وحذفه اقتصاراً لا يجوز وحذفه اختصاراً عزيز جداً حتى أن بعض النحويينمنعه والخوض في الآيات كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها. وكانت قريش في أنديتها تفعل ذلك {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أيلا تجالسهم وقم عنهم وليس إعراضاً بالقلب وحده بينه

{ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم }

وقد تقدم من قولالمفسرين في هذه الآية أن قوله: وقد نزل عليكم في الكتاب: أن الذي نزل في الكتاب هو قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ } الآية و{حَتَّىٰ يَخُوضُواْ } غاية الإعراض عنهم أي فلا بأس أن تجالسهم والضمير في {غَيْرُهُ } قالالحوفي عائد إلى الخوض كما قال الشاعر

: إذ نهى السفيه جرى إليه     وخالف والسفيه إلى خلاف

أي جرى إلى السفه. وقال أبو البقاء: إنما ذكر الهاء لأنه أعادها على معنى الآياتولأنها حديث وقول: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي إن شغلك بوسوسته حتىتنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد الذكرى أي ذكرك النهي. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد وإن كان الشيطانينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد إن ذكرناك قبحها ونبهناكعليه معهم؛ انتهى. وهو خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهي عن القعود معهم قبل ثم عطف على الشرط السابق هذاالشرط فكله مستقبل وما أحسن مجيء الشرط الأول بإذا التي هي للمحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق ومجيء الشرطالثاني ب«أن» لأن إن لغير المحقق وجاء {مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } تنبيهاً على علة الخوض في الآيات والطعن فيها وأنسبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد ووضع الأشياء غير مواضعها. قال ابن عطية: وأما شرط ويلزمها النون الثقيلة في الأغلبوقد لا تلزم كما قال الشاعر

:أمــا يصبــك عــدو فــي منــاوأة    

إلى غير ذلك منالأمثلة؛ انتهى. وهذه المسألة فيها خلاف، ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد إن ما لزمت نون التوكيد ولايجوز حذفها إلا ضرورة وذهب بعضهم إلى أنها لا تلزم وإنه يجوز في الكلام وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل الصوابالنون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وكأنه نظر إلى مواردها في القرآن وكونها لم تجيء فيها بعد أما إلاالثقيلة. وقرأ ابن عامر {يُنسِيَنَّكَ } مشدّداً عداه بالتضعيف وعداه الجمهور بالهمزة. وقال ابن عطية: وقد ذكر القراءتين إلا أنالتشديد أكثر مبالغة؛ انتهى. وليس كما ذكر لا فرق بين تضعيف التعدية والهمزة ومفعول {يُنسِيَنَّكَ } الثاني محذوف تقديره {وَإِمَّايُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَـٰنُ } نهينا إياك عن القعود معهم والذكرى مصدر ذكر جاء على فعلى وألفه للتأنيث ولم يجيء مصدر علىفعلى غيره. {وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } {ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ } هم المؤمنون والضمير في {حِسَابَهُمْ} عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات. وروي أن المؤمنين قالوا: لما نزلت

{ فلا تقعدوا معهم }

لا يمكنناطواف ولا عبادة في الحرم فنزلت {وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } فأبيح لهم قدر ما يحتاجإليه من التصرف بينهم في العبادة ونحوها، والظاهر أن حكم الرسول موافق لحكم غيره لاندراجه في قوله: {وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَيَتَّقُونَ } أمر هو بالإعراض عنهم حتى إن عرض نسيان وذكر فلا تقعد معهم. وقيل: للمتقينوهو رأسهم أي ما عليكم من حسابهم من شيء. {وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ } أي ولكن عليكم أن تذكروهم ذكرى إذاسمعتموهم يخوضون بأن تقوموا عنهم وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي لعلهم يجتنبون الخوض في الآيات حياءمنكم ورغبة في مجالستكم قاله مقاتل، أو {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الوعيد بتذكيركم إياهم. وقيل: المعنى لا تقعدوا معهم ولا تقربوهمحتى لا تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئاً من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم لعلكم تتقونأي تثبتون على تقواكم وتزدادونها، فالضمير في {لَعَلَّهُمْ } عائد على {ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ومن قال الخطاب في وإذا رأيتخاص بالرسول قال {ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ } للمؤمنين دونه ومعناها الإباحة لهم دونه كأنه قال: يا محمد لا تقعد معهم وأماالمؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الله في ترك ما هم عليه. وقال هذاالقائل: هذه الإباحة التي اقتضتها هذه الآية نسختها آية النساء وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن تذكرونهم،ومن قال الإباحة كانت بسبب العبادات قال نسخ ذلك آية النساء أو ذكروهم وفي موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرىوقدّره بعضهم ولكن هو ذكرى أي الواجب ذكرى. وقيل: هذا ذكرى أي النهي ذكرى. قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكونعطفاً على محل من شيء كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله: {مِنْ حِسَابِهِم } يأبى ذلك؛انتهى. كأنه تخيل إن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في شيء فلايجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على {مِن شَىْء } على الموضع لأنه يصير التقدير عنده و{لَكِنِ *ذِكْرِى } من حسابهم وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشيء لا يلزم في العطف «ولكن» ما ذكرتقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام منرجل عالم ولكن رجل جاهل فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم، ويجوز أنيكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو ودخلت {لَكِنِ } للاستدراك. قال ابن عطية: وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكمهذه الآية الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه. وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذينيخوضون في آيات الله تعالى. {وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } هذا أمر بتركهم وكان ذلك لقلة أتباعالإسلام حينئذ. قال قتادة: ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال. وقال مجاهد: إنما هو أمر تهديد ووعيد كقوله تعالى:

{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }

ولا نسخ فيها لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد ودينهم ما كانوا عليه من البحائروالسوائب والجوامي والوصائل وعبادة الأصنام والطواف حول البيت عراة يصفرون ويصفقون أو الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام {لَعِباًوَلَهْواً } حيث سخروا به واستهزؤوا، أو عبادتهم لأنهم كانوا مستغرقين في اللهو واللعب وشرب الخمر والعزف والرقص لم تكنلهم عبادة إلا ذلك أقوال ثلاثة وانتصب {لَعِباً وَلَهْواً } على المفعول الثاني لاتخذوا. وقال أبو عبد الله الرازي: الأقربإن المحقق في {ٱلدّينِ } هو الذي ينصر الدّين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب، وأما الذينينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرئاسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدّين للدنيا وقد حكم الله على الدّنيافي سائر الآيات بأنها لعب ولهو، فالآية إشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وأكثر الخلق موصوفون بهذه الصفة؛ انتهى،وفيه بعض تلخيص وظاهر تفسيره يقتضي أن {ٱتَّخَذُواْ } هنا متعدّية إلى واحد وإن انتصاب {لَعِباً وَلَهْواً } على المفعولمن أجله فيصير المعنى اكتسبوا دينهم وعملوه وأظهروا اللعب واللهو أي للدّنيا واكتسابها ويظهر من بعض كلام الزمخشري وابن عطيةأن {لَعِباً وَلَهْواً } هو المفعول الأول لاتخذوا و{دِينَهُمُ }هو المفعول الثاني. قال الزمخشري: أي دينهم الذي كان يجب أنيأخذوا به {لَعِباً وَلَهْواً } وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من باب اللعبواتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجدّ واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناًلهم واتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه هو دين الإسلام {لَعِباً وَلَهْواً } حيث سخروا به واستهزؤوا؛ انتهى. فظاهر تقديرهالثاني هو ما ذكرناه عنه. وقال ابن عطية: وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللهو واللعب ديناً ويحتمل أنيكون المعنى {ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ } الذي كان ينبغي لهم {لَعِباً وَلَهْواً }؛ انتهى. فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه. قالالزمخشري: وقيل: جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين، وأهل الكتاب اتخذواعيدهم {لَعِباً وَلَهْواً } غير المسلمين فإنهم اتخذوا دينهم عيدهم كما شرعه الله ومعنى ذرهم أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهمواستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم؛ انتهى. {وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة وأن يكون استئنافإخبار أي خدعتهم الغرور وهي الأطماع فيما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله إياهم. وقيل: غرّتهم بتكذيبهم بالبعث. وقالأبو عبد الله الرازي: لأجل استيلاء حب الدنيا أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوصلوا بها إلى حطامالدنيا؛ انتهى. وقيل: {*غرتهم} من الغرّ بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم. ومنه قول الشاعر

: ولما التقينا بالحليبة غرّني     بمعروفه حتى خرجت أفوق

ومنه غر الطائر فرخه. {ٱلدُّنْيَا وَذَكّرْ بِهِأَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } الضمير في {بِهِ } عائد على القرآن أو على {ٱلدّينِ } أو على {حِسَابَهُمْ} ثلاثة أقوال: أولاها الأوّل كقوله:

{ فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }

وتبسل، قال ابن عباس: تفضح. وقال الحسنوعكرمة: تسلم. وقال قتادة: تحبس وترتهن. وقال الكلبي وابن زيد والأخفش: تجزي. وقال الضحاك: تحرق. وقال ابن زيد أيضاً: يؤخذ.وقال مؤرخ: تعذب. وقيل يحرم عليها النجاة ودخول الجنة. وقال أبو بكر: استحسن بعض شيوخنا قول من قال: تسلم بعملهالا تقدر على التخلص لأنه يقال: استبسل للموت أي رأى ما لا يقدر على دفعه واتفقوا على أن {تُبْسَلَ }في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة {أَن تُبْسَلَ } ومخافة {أَن تُبْسَلَ } ولئلا {تُبْسَلَ } ويجوز عندي أنيكون في موضع جر على البدل من الضمير، والضمير مفسر بالبدل وأضمر الإبسال لما في الإضمار من التفخيم كما أضمرالأمر والشأن وفسر بالبدل وهو الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا: اللهم صل عليه الرؤوف الرحيموقد أجاز ذلك سيبويه قال: فإن قلت ضربت وضربوني قومك نصبت إلا في قول من قال: أكلوني البراغيث أو يحملهعلى البدل من المضمر وقال أيضاً: فإن قلت ضربني وضربتهم قومك رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدلكما جعلته في الرفع؛ وقد روي قوله

:تنخـل فـاستـاكـت بـه عـود أسحـل    

بجر عود على أنهبدل من الضمير والمعنى {أَن تُبْسَلَ } نفس تاركة للإيمان بما كسبت من الكفر أو بكسبها السوء. {لَيْسَ لَهَا مِندُونِ ٱللَّهِ } أي من دون عذاب الله. {وَلِيُّ } فينصرها. {وَلاَ شَفِيعٍ } فيدفع عنها بمسألته وهذهالجملة صفة أو حال أو مستأنفة إخبار وهو الأظهر و{مِنْ } لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون زائدة؛انتهى، وهو ضعيف. {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنالفادي يعدل الفاء بمثله، ونقل عن أبي عبيدة أن المعنى بالعدل هنا ضدّ الجور وهو القسط أي وإن تقسط كلقسط بالتوحيد والانقياد بعد العناد وضعف هذا القول الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة، ولا يلزم هذا لأنه إخبارعن حالة يوم القيامة وهي حال معاينة وإلجاء لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، قالوا: وانتصب {كُلَّعَدْلٍ } على المصدر ويؤخذ الضمير فيه عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ولا يعود على المصدر لأنهلا يسند إليه الأخذ وأما في {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } عدل فمعنى المفدى به فيصح إسناده إليه ويجوز أن ينتصبكل عدل على المفعول به أي {وَإِن تَعْدِلْ } بذاتها {كُلٌّ } أي كل ما تفدى به {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} ويكون الضمير على هذا عائداً على {كُلَّ عَدْلٍ } وهذه الجملة الشرطية على سبيل الفرض والتقدير لا على سبيلإمكان وقوعها. {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ } الظاهر أنه يعود على {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } وقاله الحوفي وتبعه الزمخشري.وقال ابن عطية: {أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله: {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ }. {لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍوَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } الأظهر أنها جملة استئناف إخبار ويحتمل أن تكون حالاً وشراب فعال بمعنى مفعول كطعامبمعنى مطعوم ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول، لا يقال: ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ولا مقتول. {قُلْ أَنَدْعُواْ مِندُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ } أي من دون الله النافعالضار المبدع للأشياء القادر ما لا يقدر على أن ينفع ولا يضر إذ هي أصنام خشب وحجارة وغير ذلك {وَنُرَدُّ} إلى الشرك {عَلَىٰ أَعْقَـٰبِنَا } أي رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية بعد هداية الله إيانا إلى طريقالحق وإلى المشية السجح الرفيعة {وَنُرَدُّ } معطوف على {أَنَدْعُواْ } أي أيكون هذا وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي لايقع شيء من هذا وجوز أبو البقاء أن تكون الواو فيه للحال أي ونحن نرد أي أيكون هذا الأمر فيهذه الحال وهذا فيه ضعف لإضمار المبتدأ ولأنها تكون حالاً مؤكدة، واستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر.قال الطبري وغيره: الردّ على العقب يستعمل فيمن أمّل أمراً فخاب. {كَٱلَّذِى ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَـٰطِينُ فِى ٱلاْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَـٰبٌيَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا } قال الزمخشري: {كَٱلَّذِى } ذهب به مردة الجن والغيلان في الأرض في المهمة حيران تائهاًضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع له أي لهذا المستهوى أصحاب رفقة يدعونه إلى الهدى أي إلى أن يهدوهالطريق المستوي، أو سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له: ائتنا وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم وهذامبني على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجنّ تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه كقوله:

{ كَٱلَّذِى * يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ }

فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم؛ انتهى. وأصل كلامه مأخوذمن قول ابن عباس ولكنه طوله وجوده. قال ابن عباس: مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقدألقته في مهمة ومهلكة فهو حائر في تلك المهامة وحمل الزمخشري {ٱسْتَهْوَتْهُ } على أنه من الهوى الذي هو المودةوالميل كأنه قيل كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمة القفر وحمله غيره كأبي علي على أنه من الهويأي ألقته في هوة، ويكون استفعل بمعنى افعل نحو استزل وأزل تقول العرب: هوى الرجل وأهواه غيره واستهواه طلب منهأن يهوي هوى ويهوي شيئاً والهوي السقوط من علو إلى سفل. قال الشاعر: هوى ابني من ذرى شرف

    فزلت رجله ويده

ويستعمل الهوي أيضاً في ركوب الرأس في النزوعإلى الشيء ومنه

{ واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم }

. وقال

: تهوي إلى مكة تبغي الهدى     ما مؤمنوا الجن ككفارها

وقال أبو عبد الله الرازي: هذا المثلفي غاية الحسن وذلك أن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه، لأنالحجر كان حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والتحير، فعند نزوله من الأعلىإلى الأسفل لا يعرف أنه يسقط على وضع يزداد بلاؤه وبسبب سقوطه عليه أو يقل، ولا تجد للحائر الخائف أكملولا أحسن من هذا المثل؛ انتهى. وهو كلام تكثير لا طائل تحته وجعل الزمخشري قوله: {لَهُ أَصْحَـٰبٌ } أي لهرفقة وجعل مقابلهم في صورة التشبيه المسلمين يدعونه إلى الهدى فلا يلتفت إليهم وهو تأويل ابن عباس ومجاهد، وجعلهم غيره{لَهُ أَصْحَـٰبٌ } من الشياطين الدعاة أو لا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وبما يوهمونه فشبه بالأصحاب هنا الكفرة الذين يثبتونمن ارتد عن الإسلام على الارتداد. وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً وحكى مكي وغيره أن المراد بالذي استهوتهالشياطين هو عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبالأصحاب أبوه وأمه، وذكر أهل السير أنه فيه نزلت هذه الآية دعاأياه أبا بكر إلى عبادة الأوثان وكان أكبر ولد أبي بكر وشقيق عائشة أمهما أم رومان بنت الحارث بن غنمالكنانية وشهد بدراً وأحداً مع قومه كافراً ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه أبو بكر رضي الله عنه ليبارزه فذكرأن الرسول قال: متعني بنفسك ثم أسلم وحسن إسلامه وصحب الرسول عليه السلام فيهدنة الحديبية وكان اسمه عبد الكعبة فسماه الرسول عبد الرحمن، وفي الصحيح أن عائشة سمعت قولمن قال: إن قوله:

{ وَٱلَّذِى قَالَ لِوٰلِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا }

أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت:كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي. قال الزمخشري (فإن قلت): إذا كان هذا وارداً فيشأن أبي بكر فكيف قيل للرسول: {قُلْ أَنَدْعُواْ }. قلت: للاتحاد الذي كان بين رسول الله والمؤمنين وخصوصاً بينه وبن الصديق رضي الله عنه؛ انتهى. وهذا السؤال إنما يرد إذا صح أنها نزلت في أبي بكروابنه عبد الرحمن ولن يصح، وموضع {كَٱلَّذِى } نصب قيل: على أنه نعت لمصدر محذوف أي رداً مثل رد الذيوالأحسن أن يكون حالاً أي كائنين كالذي والذي ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذيوقرأ حمزة استهواه بألف ممالة. وقرأ السلمي والأعمش وطلحة: {ٱسْتَهْوَتْهُ } الشيطان بالتاء وأفراد الشيطان. وقال الكسائي: أنها كذلك فيمصحف ابن مسعود؛ انتهى. والذي نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه الشياطين جمعاً. وقرأ الحسن: الشياطون وتقدم نظيرهوقد لحن في ذلك. وقد قيل: هو شاذ قبيح وظاهر قوله {فِى ٱلاْرْضِ } أن يكون متعلقاً باستهوته. وقيل: حالمن مفعول {ٱسْتَهْوَتْهُ } أي كائناً في الأرض. وقيل: من {حَيْرَانَ }. وقيل: من ضمير {حَيْرَانَ } و{حَيْرَانَ } لاينصرف ومؤنثه حيرى و{حَيْرَانَ } حال من مفعول {ٱسْتَهْوَتْهُ }. وقيل: حال من الذي والعامل فيه الرد المقدر والجملة منقوله {لَهُ أَصْحَـٰبٌ } حالية أو صفة لحيران أو مستأنفة و{إِلَىٰ * ٱلْهَدْىِ } متعلق بيدعونه وأتنا من الإتيان. وفيمصحف عبد الله أتينا فعلاً ماضياً لا أمراً فإلى الهدى متعلق به. {قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ }من قال: {إِنَّ لَهُ * أَصْحَـٰبُ } يعني به الشياطين وإن قوله {إِلَى ٱلْهُدَى } بزعمهم كانت هذه الجملة رداًعليهم أي ليس ما زعمتم هدى بل هو كفر وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ومن قال: إن قوله {أَصْحَـٰبُ} مثل للمؤمنين الداعين إلى الهدى الذي هو الإيمان، كانت إخباراً بأن الهدى هدى الله من شاء لا إنه يلزممن دعائهم إلى الهدى وقوع الهداية بل ذلك بيد الله من هداه اهتدى. {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الظاهرأن اللام لام كي ومفعول {أَمْرُنَا } الثاني محذوف وقدروه {وَأُمِرْنَا } بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم {لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } والجملةداخلة في المقول معطوفة على {إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ * ٱلْهَدْىِ }. وقال الزمخشري: هو تعليل للأمر فمعنى {أَمْرُنَا }قيل لنا: اسلموا لأجل أن نسلم. وقال ابن عطية: ومذهب سيبويه أن {لِنُسْلِمَ } في موضع المفعول وإن قولك: أمرتلأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر

: أريد لأنسى ذكرها فكأنما     تمثل لي ليلى بكل سبيل

إلى غير ذلك من الأمثلة؛ انتهى. فعلى ظاهر كلامه تكون اللام زائدة ويكونأن نسلم هو متعلق {أَمْرُنَا } على جهة أنه مفعول ثان بعد إسقاط حرف الجر. وقيل: اللام بمعنى الباء كأنهقيل {وَأُمِرْنَا } بأن نسلم ومجيء اللام بمعنى الباء قول غريب، وما ذكره ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكربل ذلك مذهب الكسائي والفراء زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت، قال تعالى:

{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ }

{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ }

أي أن يطفئوا

{ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ }

أريدلأنسى ذكرها ورد ذلك عليهما أبو إسحاق، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا تتعلق بمحذوف وأن الفعل قبلها يرادبه المصدر والمعنى الإرادة للبيان والأمر للإسلام فهما مبتدأ وخبر فتحصل في هذه اللام أقوال: أحدها إنها زائدة، والثاني أنهابمعنى كي للتعليل إما لنفس الفعل وإما لنفس المصدر المسبوك من الفعل، والثالث أنها لام كي أجريت مجرى أن، والرابعأنها بمعنى الباء وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب التكميل وجاء لرب العالمين تنبيهاً على أنه مالك العالم كلهمعبودهم من الأصنام وغيرها. {وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ وَٱتَّقُوهُ } أن هنا مصدرية واختلف في ما عطف عليه، قال الزجاجهو معطوف على قوله: لنسلم تقديره لأن نسلم و{أَنْ أَقِيمُواْ }. قال ابن عطية: واللفظ يمانعه لأنّ {*نسلم} معرب و{أَنْأَقِيمُواْ } مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل انتهى، وما ذكره من أنهلا يعطف المبني على المعرب وأنّ ذلك لا يجوز ليس كما ذكر، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا، وقالتعالى:

{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ }

غاية ما في هذا أن العامل إذا وجد المعرب أثر فيهوإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ويجوز إن قام زيد ويقصدني أحسن إليه، بجزم يقصدني فإنْ لم تؤثر في قاملأنه مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب، ثم قال ابن عطية: اللهم إلا أن يجعل العطف في إن وحدها وذلكقلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله: {أَنْ أَقِيمُواْ } بمعنى وليقم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك منجزالة اللفظ فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعوّل على المعنى، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عنالعرب: أدخلوا الأول فالأول وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب انتهى، وهذا الذي استدركه ابن عطية بقوله اللهمإلا أن إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه وهو أنّ {أَنْ أَقِيمُواْ } معطوف على أن نسلم وأنّ كليهماعلة للمأمور به المحذوف وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء أن أقيموا على معناها من موضوع الأمر وليسكذلك لأن أن إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زالمنها معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي وبالأمر، قال سيبويه: وتقول: كتبتإليه بأن قم، أي بالقيام فإذا كان الحكم كذا كان قوله: لنسلم وأن أقيموا في تقدير للإسلام، ولإقامة الصلاة وأماتشبيه ابن عطية بقوله: ادخلوا الأول فالأول بالرفع فليس يشبهه لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلطعلى ما بعده، بخلاف أن فإنها توصل بالأمر فإذاً لا شبه بينهما. وقال الزمخشري (فإن قلت): كلام عطف قوله: {وَأَنْأَقِيمُواْ } (قلت): على موضع {لِنُسْلِمَ } كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا انتهى وظاهر هذا التقدير أنّ {ءانٍ} في موضع المفعول الثاني لقوله: وأمرنا وعطف عليه وأن أقيموا فتكون اللام على هذا زائدة، وكان قد قدّم قبلهذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله{ءانٍ } أنه في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك، ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أيللإسلام ولإقامة الصلاة انتهى، وهذا قول الزجاج فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول: لاتحد قولاه وذلك خلف، وقالالزجاج: ويحتمل أن يكون {ٱلْعَـٰلَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ } معطوفاً على {أَتَـٰنَا }. وقيل: معطوف على قوله: {إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَٱلْهُدَىٰ } والتقدير قل أن أقيموا وهذان القولان ضعيفان جدًّا، ولا يقتضيهما نظم الكلام، قال ابن عطية: يتجه أن يكونبتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدّر في أمرنا؛ انتهى. وكان قد قدّر: وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان لأن نسلم وهذاقول لا بأس به وهو أقرب من القولين قبلة إذ لا بد من تقدير المفعول الثاني لأمرنا ويجوز حذف المعطوفعليه لفهم المعنى تقول: أضربت زيداً فتجيب نعم وعمراً التقدير ضربته وعمراً وقد أجاز الفراء جاءني الذي وزيد قائمان التقديرجاءني الذي هو وزيد قائمان فحذف هو لدلالة المعنى عليه والضمير المنصوب في {وَٱتَّقَوْاْ } عائد على رب العالمين.{وَهُوَ ٱلَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } جملة خبرية تتضمن التنبيه والتخويف لمن ترك امتثال ما أمر به من الإسلام والصلاة واتقاءالله، وإنما تظهر ثمرات فعل هذه الأعمال وحسرات تركها يوم الحشر والقيامة. {وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ بِٱلْحَقّ} لما ذكر تعالى أنه إلى جزائه يحشر العالم وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعهله بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً بل صدراًعن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع إذ هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها منمحدث واحد عالم قادر مريد سبحانه وعلا. وقيل: معنى بالحق بكلامه في قوله للمخلوقات {كُنَّ } وفي قوله:

{ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً }

والمراد في هذا ونحوه إنما هو إظهار انفعال ما يريد تعالى أن يفعله وإبرازه للوجودبسرعة وتنزيله منزلة ما يؤمر فيمتثل. {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } جوزوا في {يَوْمٍ } أن يكونمعمولاً لمفعول فعل محذوف وقد روه واذكر الإعادة يوم يقول: كن أي يوم يقول للأجساد كن معادة ويتم الكلام عندقوله: كن، ثم أخبر بأنه يكون قوله: الحق الذي كان في الدنيا إخباراً بالإعادة فيكون قوله فاعلاً بفيكون أو يتمالكلام عند قوله: كن فيكون ويكون {قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } مبتدأ وخبراً. وقال الزجاج {يَوْمَ يَقُولُ } معطوف على الضمير منقوله {وَٱتَّقُوهُ } أي واتقوا عقابه والشدائد ويوم فيكون انتصابه على أنه مفعول به لا ظرف. وقيل: {وَيَوْمَ }معطوف على{ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } والعامل فيه خلق، وقيل: العامل اذكر أو معطوفاً على قوله بالحق إذ هو في موضع نصب ويكون{يِقُولُ } بمعنى الماضي كأنه قال وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها كن ويتم الكلام عند قولهفيكون، ويكون {قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } مبتدأً وخبراً أو يتم عند {كُنَّ } ويبتدىء {فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } أي يظهر مايظهر وفاعل يكون {قَوْلُهُ } و{ٱلْحَقّ } صفة و{يَكُونَ } تامة وهذه الأعاريب كلها بعيدة ينبو عنها التركيب وأقرب ماقيل ما قاله الزمخشري وهو أن قوله الحق مبتدأ والحق صفة له و{يَوْمَ يَقُولُ } خبر المبتدأ فيتعلق بمسْتقر كماتقول يوم الجمعة القتال واليوم بمعنى الحين والمعنى أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة وحين يقول للشيء من الأشياءكن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة أي لا يكون شيء من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب،وجوز الزمخشري وجهاً آخر وهو أن يكون قوله الحق فاعلاً بقوله فيكون فانتصاب يوم بمحذوف دل عليه قوله بالحق كأنهقيل: كن يوم بالحق وهذا إعراب متكلف. {وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّوَرِ } قيل {يَوْمٍ } بدل منقوله {وَيَوْمَ يَقُولُ }، وقيل: منصوب بالملك وتخصيصه بذلك اليوم كتخصيصه بقوله:

{ لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ }

وبقوله:

{ وَٱلاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }

وفائدته الإخبار بانفراده بالملك حين لا يمكن أن يدعي فيه ملك، وقيل هو في موضع نصب علىالحال وذو الحال الملك والعامل له، وقيل هو في موضع الخبر لقوله: {قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } أي يوم ينفخ في الصور،وقيل ظرف لقوله {تُحْشَرُونَ } أو {*ليقول} أو {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }. وقرأ الحسن في الصور وحكاها عمرو بن عبيدعن عياض ويؤيد تأويل من تأوله أن الصور جمع صورة كثومة وثوم والظاهر أن ثم نفخاً حقيقة، وقيل: هو عبارةعن قيام الساعة ونفاد الدنيا واستعارة. وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو ننفخ بنون العظمة. {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ} أي هو عالم أو مبتدأ على تقدير من النافخ أو فاعل بيقول أو بينفخ محذوفة يدل عليه ينفخ نحورجال بعد قوله: {يُسَبّحُ } بفتح الباء وشركاؤهم بعد {زُيّنَ } مبنياً للمفعول ورفع قتل ونحو ضارع لخصومة بعد ليبكيزيد التقدير يسبح له رجال وزينه شركاؤهم ويبكيه ضارع أو نعت للذي أقوال أجودها الأول والغيب والشهادة يعمان جميع الموجودات،وقرأ الأعمش عالم بالخفض ووجه على أنه بدل من الضمير في له أو من رب العالمين أو نعت للضمير فيله، والأجود الأول لبعد المبدل منه في الثاني وكون الضمير الغائب يوصف وليس مذهب الجمهور إنما أجازه الكسائي وحده.{وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصفبالحكيم ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكهمن الأشياء.

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } * { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } * { فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } * { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } * { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } * { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } * { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } * { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ } * { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } * { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } * { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } عدل

آزر اسم أعجمي علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية. الصنم الوثن يقال إنهمعرب شمر والصنم: خبث الرائحة والصنم: العبد القوي وصنم صور وصوّر بنو فلان نوقهم اعزروها. جن عليه الليل وأجن أظلمهذا تفسير المعنى وهو بمعنى ستر متعدياً، قال الشاعر

: وماء وردت قبيل الكرى     وقد جنه السدف الأدهم

والاختيار جن الليل وأجنه ومصدر جن جنون وجنان وجن الكوكب والكوكبة النجموهو مشترك بين معان كثيرة ويقال كوكب توقد، وقال الصاغاني: حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب و ك بعند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ب ولعله تبع فيهالليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية انتهى. وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهممن حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول كلمة، فأما قولهم هندي وهند كي في معنى واحد وهو المنسوب إلىالهند قال الشاعر

: ومقرونة دهم وكمت كأنها     طماطم يوفون الوفاز هنادك

فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هومن باب سبط وسبطر، والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به فإنما سرى إليهمن لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخرما تنسب إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي قندكي وإلى شواء: شوكي وإلى الفرس: الفرسكيوربما أبدلت تاء مكسورة قالوا في النسب إلى جبري: جبرتي، وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عنهذه اللغة المسمى بجلاء الغبش عن لسان الحبش، وكثيراً ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة الحبش في ألفاظ وفي قواعدمن التراكيب نحوية كحروف المضارعة وتاء التأنيث وهمزة التعدية. أفل يأفل أفولاً غاب. وقيل: ذهب وهذا اختلاف في عبارة. وقالذو الرمة

: مصابيح ليست باللواتي يقودها     نجوم ولا بالآفلات الدوالك

القمرمعروف يسمى بذلك لبياضه والأقمر الأبيض وليلة قمراء مضيئة قاله ابن قتيبة. البزوغ أول الطلوع بزغ يبزغ. اقتدى بهاتبعه وجعله قدوة له أي متبعاً. الغمرة الشدة المذهلة وأصلها في غمرة الماء وهي ما يغطي الشيء. قال الشاعر

: ولا ينجي من الغمرات إلا     براكاء القتال أو الفرار

ويجمععلى فعل كنوبة ونوب قال الشاعر

:وحــان لتــالـك الغمــر انحســار    

فرادى: الألف فيه للتأنيث ومعناها فرداًفرداً، ويقال فيه فراد منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم وفراد غير مصروف كآحاد وثلاث وحكاه أبو معاذ، قالأبو البقاء: من صرفه جعل جمعاً مثل تؤام ورخال وهو جمع قليل، قيل: وفرادى جمع فرد بفتح الراء. وقيل: بسكونها،قال الشاعر

: يرى النعرات الزرق تحت لبانه     فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقيل: جمع فريد كرديف وردا في ويقال رجل أفردوا امرأة فردى إذا لم يكن لها أخ وفرد الرجل يفردفروداً إذا انفرد فهو فارد. خوله: أعطاه وملكه وأصله تمليك الخول كما تقول مولته ملكته المال. البين: الفراق. قيل: وينطلقعلى الوصل فيكون مشتركاً. قال الشاعر

: فوالله لولا البين لم يكن الهوى     ولولا الهوى ما حن للبين آلفه

{وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَةً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـٰلٍمُّبِينٍ }. لما ذكر قوله تعالى:

{ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا }

ناسبذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدّهمالأعلى فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدّكم ابراهيم علىأبيه وقومه عبادتها وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف معظمون لإبراهيم عليهالسلام، والظاهر أن آزر اسم أبيه قاله ابن عباس والحسن والسدّي وابن إسحاق وغيرهم، وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانيةتارخ والأقرب أن وزنه فاعل مثل تارخ وعابر ولازب وشالح وفالغ وعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل وهو عطفبيان أو بدل، وقال مجاهد: هو اسم صنم فيكون أطلق على أبي إبراهيم لملازمته عبادته كما أطلق على عبيد اللهبن قيس الرقيات لحبه نساء اسم كل واحدة منهنّ رقية. فقيل ابن قيس الرقيات، وكما قال بعض المحدّثين

: أدعى بأسماء تترى في قبائلها     كأن أسماء أضحت بعض أسمائي

ويكون إذذاك عطف بيان أو يكون على حذف مضاف أي عابد آزر حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو يكون منصوباًبفعل مضمر أي تتخذ آزر، وقيل: إن آزر عم ابراهيم وليس اسم أبيه وهو قول الشيعة يزعمون أن آباء الأنبياءلا يكونون كفاراً وظواهر القرآن ترد عليهم ولا سيما محاورة ابراهيم مع أبيه في غير ما آية، وقال مقاتل: هولقب لأبي ابراهيم وليس اسماً له وامتنع آزر من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل هو صفة، قال الفراء بمعنى المعوجّ. وقالالزجاج: بمعنى المخطىء، وقال الضحاك: الشيخ الهمّ بالفارسية، وإذا كان صفة أشكل منع صرفه ووصف المعرفة به وهو نكرة ووجههالزجاج بأن تزاد فيه أل وينصب على الذمّ كأنه قيل: أذمّ المخطىء، وقيل: انتصب على الحال وهو في حال عوجأو خطأ، وقرأ الجمهور آزر بفتح الراء وأبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء وكونه علماً ولايصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذاً، وفي مصحف أبيّ يا آزر بحرفالنداء اتخذت أصناماً بالفعل الماضي فيحتمل العلمية والصفة، وقرآ ابن عباس أيضاً أزراً تتخذ بهمزة استفهام وفتح الهمزة بعدها وسكونالزاي ونصب الراء منوّنة وحذف همزة الاستفهام من أتتخذ، قال ابن عطية: المعنى أعضدا وقوّة ومظاهرة على الله تتخذ وهوقوله:

{ ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِى }

وقال الزمخشري: هو اسم صنم ومعناه أتعبد أزراً على الإنكار ثم قال: أتتخذأصناماً آلهة تبييناً لذلك وتقريراً وهو داخل في حكم الإنكار لأنه كالبيان له، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو اسماعيل الشاميأإزراً بكسر الهمزة بعد همزة الاستفهام تتخذ، قال ابن عطية: ومعناها إنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة كأنه قال: أوزراًأو مأثماً تتخذ أصناماً ونصبه على هذا بفعل مضمر، وقال الزمخشري: هو اسم صنم ووجهه على ما وجه عليه أأزراًبفتح الهمزة، وقرأ الأعمش إزراً تتخذ بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وبغير همزة استفهام في تتخذ والهمزة فيأتتخذ للإنكار وفيه دليل على الإنكار على من أمر الإنسان بإكرامه إذا لم يكن على طريقة مستقيمة وعلى البداءة بمنيقرب من الإنسان كما قال:

{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاْقْرَبِينَ }

وفي ذكره أصناماً آلهة الجمع تقبيح عظيم لفعلهم واتخاذهم جمعاًآلهة وذكروا أن ابراهيم كان نجاراً منجماً مهندساً وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظى عنده بذلك وكان من قرية تسمىكوثا من سواد الكوفة، قاله مجاهد قيل وبها ولد ابراهيم، وقيل: كان آزر من أهل حرّان وهو تارخ بن ناجوربن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وأراك يحتمل أن تكونبصرية وأن تكون علمية، والظاهر أن تتخذ يتعدّى إلى مفعولين وجوزوا أن يكون بمعنى أتعمل وتصنع لأنه كان ينحتها ويعملهاولما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كأن الضلال صار ظرفاًلهم ومبين واضح ظاهر من أبان اللازمة، قال ابن عطية: ليس بالفعل المتعدّي المنقول من بان يبين انتهى، ولا يمتنعذلك يوضح كفركم بموجدكم من حيث اتخذتم دونه آلهة وهذا الإنكار من ابراهيم على أبيه والإخبار أنه وقومه في ضلالمبين أدل دليل على هداية ابراهيم وعصمته من سبق ما يوهم ظاهر قوله: هذا ربي من نسبة ذلك إليه علىأنه أخبر عن نفسه وإنما ذلك على سبيل التنزل مع الخصم وتقرير ما يبنى عليه من استحالة أن يكون متصفاًبصفات الحدوث من الجسمانية وقبوله التغيرات من البزوع والأفول ونحوها. {وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } هذهجملة اعتراض بين قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } منكراً على أبيه عبادة الأصنام وبين جملة الاستدلال عليهم بإفراد المعبود، وكونهلا يشبه المخلوقين وهي قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } {وَنُرِىَ } بمعنى أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلىاثنين، فالظاهر أنها بصرية. قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى، ويحتاج كون رأي بمعنى عرف ثمتعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى مفعولواحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى مفعولين، وعلى كونها بصرية فقال سلمان الفارسي وابن جبير ومجاهد: فرجتله السموات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل ورأى مقامه في الجنة، قال ابن عطية: فإن صح هذا النقلففيه تخصيص لابراهيم بما لم يدركه غيره قبله ولا بعده؛ انتهى. وروي عن علي عن النبي قال: كشف الله له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين وإذا كانت أبصاراً فليس المعنى مجرد الإبصار ولكن وقعله معها من الاعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره. وفيذلك تخصيص له على جهة التقييد بأهل زمانه وكونها من رؤية القلب، وجوز ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره، قالابن عطية: رأى بها ملكوت السموات والأرض بفكرته ونظره وذلك لا بد متركب على ما تقدّم من رؤيته ببصره وإدراكهفي الجملة بحواسه، وقال الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرّف ابراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض يعني الربوبية والإلهية ونوقفه لمعرفتهماونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره لطريق الاستدلال ونرى حكاية حال ماضية انتهى، والإشارة بذلك إلى الهداية أو ومثل هدايتهإلى توحيد الله تعالى ودعاء أبيه وقومه إلى عبادة الله تعالى ورفض الأصنام أشهدناه ملكوت السموات والأرض، وحكى المهدوي أنالمعنى وكما هديناك يا محمد أرينا ابراهيم وهذا بعيد من دلالة اللفظ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي وكذلك الإنكاروالدعاء إلى الله زمان ادعاء غير الله الربوبية أشهدناه ملكوت السموات والأرض فصار له بذلك اختصاص، قال ابن عباس: جلائلالأمور سرها وعلانيتها، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما رأى ذلك جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله: إنكلا تستطيع هذا فرده لا يرى أعمالهم انتهى، قال الزجاج وغيره: الملكوت الملك كالرغبوت والرهبوت والجبروت وهو بناء مبالغة ومنكلامهم: له ملكوت اليمن والعراق، قال مجاهد: ويعني به آيات السموات والأرض، وقال قتادة: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم وملكوتالأرض: الجبال والشجر والبحار، وقيل: عبادة الملائكة وعصيان بني آدم، وقرأ أبو السمال: ملكوت بسكون اللام وهي لغة بمعنى الملك،وقرأ عكرمة ملكوت بالثاء المثلثة وقال: ملكوثاً باليونانية أو القبطية، وقال النخعي: هي ملكوثاً بالعبرانية وقرىء وكذلك ترى، بالتاء منفوق، {إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ }، برفع التاء، أي تبصره دلائل الربوبية. {وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } أي أريناه الملكوت، وقيل: ثمعلة محذوفة عطفت هذه عليها وقدرت ليقيم الحجة على قومه، وقال قوم: ليستدل بها على الصانع، وقيل: الواو زائدة ومتعلقالموقنين قيل: بوحدانية الله وقدرته، وقيل: بنبوته وبرسالته. وقيل: عياناً كما أيقن بياناً انتقل من علم اليقين إلى عين اليقينكما سأل في قوله:

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ }

والإتقان تقدم تفسيره أول البقرة، وقال أبو عبد الله الرازي:اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا لا يوصف علم الله بكونه يقيناً لأن علمه غيرمسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل، وإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين إذ يحصل بكل واحدمنها نوع تأثير وقوة فتتزايد حتى يجزم. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبّى }. هذهالجملة معطوفة على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } على قول من جعل {وَكَذَلِكَ نُرِى } اعتراضاً وهو قول الزمخشري. قالابن عطية: الفاء في قوله {فَلَمَّا } رابطة جملة ما بعدها بما قبلهاوهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيلالذي في هذه الآية، وقال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ فيدينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكونإلهاً لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها والكواكبالزهرة، قاله ابن عباس وقتادة، أو المشتري، قاله مجاهد والسدي وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء فوزنه فعفلنحو قوقل وهو تركيب قليل، والظاهر أن جواب {لَّمّاً * رَأَى كَوْكَباً } وعلى هذا جوزوا في {قَالَ هَـٰذَا رَبّى} أن يكون نعتاً للكوكب وهو مشكل أو مستأنفاً وهو الظاهر ويجوز أن يكون الجواب {قَالَ هَـٰذَا رَبّى } و{رَأَىكَوْكَباً } حال أي جن عليه الليل رائياً كوكباً وهذا ربي الظاهر أنها جملة خبرية، وقيل هي استفهامية على جهةالإنكار حذف منها الهمزة كقوله

:بســبــع رميــن الجمــر أم بثمــان    

قال ابن الأنباري: وهذا شاذلأنه لا يجوز أن يحذف الحرف إلا إذا كان ثم فارق بين الأخبار والاستخبار وإذا كانت خبرية فيستحيل عليه أنيكون هذا الإخبار على سبيل الاعتقاد والتصميم لعصمة الأنبياء من المعاصي، فضلاً عن الشرك بالله، وما روي عن ابن عباسأن ذلك وقع له في حال صباه وقبل بلوغه وأنه عبده حتى غاب وعبد القمر حتى غاب وعبد الشمس حتىغابت فلعله لا يصح، وما حكي عن قوم أن ذلك بعد البلوغ والتكليف ليس بشيء وما حكوا من أن أمهأخفته في غار وقت ولادته خوفاً من نمروذ أنه أخبره المنجمون أنه يولد ولد في سنة كذا يخرب ملكه علىيديه، وأنه تقدّم إلى أنه من ولد من أنثى تركت ومن ذكر ذبحه إلى أن صار ابن عشرة أعوام، وقيل:خمسة عشر وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب فحكاية يدفعها مساق الآية، وقوله: {إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} وقوله: {تِلْكَ * حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } وتأول بعضهم ذلك على إضمار القول وكثيراً ما يضمر تقديرهقال: يقولون هذا ربي على حكاية قولهم وتوضيح فساده مما يظهر عليه من سمات الحدوث ولا يحتاج هذا إلى الإضماربل يصح أن يكون هذا كقوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِىَ } أي على زعمكم، وقال الزمخشري: {هَـٰذَا رَبّى } قول منينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى منالشغب ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة انتهى، فيكون هذا القول منه استدراجاً لإظهار الحجة وتوسلاً إليها كما توسلإلى كسر الأصنام بقوله:

{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ }

فوافقهم ظاهراً على النظر في النجوموأوهمهم أن قوله إني سقيم ناشىء عن نظره فيها. {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ ٱلاْفِلِينَ } أي لا أحبعبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان المحتجبين بستر فإن ذلك من صفات الأجرام وإنمااحتج بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب، وجاءبلفظ الآفلين ليدل على أن ثم آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول فلا مزية له عليهم في أن يعبدللاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث. {فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبّى } لم يأت في الكواكب رأىكوكباً بازغاً لأنه أولاً ما ارتقب حتى بزغ الكوكب لأنه بإظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإنهلما أوضح لهم أن هذا النير وهو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منهوأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب، والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة فرآه أول طلوعه وهو البزوغ، ثم عمل كذلك فيالشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرماً وأهم نفعاً ومنها يستمد القمر على ما قيل فقال ذلكعلى سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكواكب في صفة الحدوث. {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّمِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالّينَ } القوم الضالون هنا عبدة المخلوقات كالأصنام وغيرها واستدل بهذا من زعم أن قوله: {هَـٰذَا رَبّى }على ظاهره وأن النازلة كانت في حال الصغر، وقال الزمخشري {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } تنبيه لقومه على أن مناتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه. {فَلَماَّ رَأَىٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى هَـٰذَا أَكْبَرُ } المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث فأنثت أولاً على المشهوروذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث وأما منلم ير فيها إلا التأنيث. فقال ابن عطية: ذكر أي هذا المرئي أو النير وقدره الأخفش ، هذا الطالع، وقيل:الشمس بمعنى الضياء قال تعالى:

{ جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء }

فأشار إلى الضياء والضياء مذكر، وقال الزمخشري: جعل المبتدأ مثلالخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك وما كانت أمك، ولم تكن فتنتعم إلا أن قالوا وكاناختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله: علام ولم يقولوا علامة، وإنكان علامة أبلغ احترازاً من علامة التأنيث انتهى، ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارةبين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حينحكى كلام ابراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنّث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه فيكلامهم وحين أخبر تعالى عنها بقوله {بَازِغَةً } و{أَفَلَتْ } أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. {فَلَمَّاأَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ * قَوْمٌ *إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها، ولما أفلت الشمسلم يبق لهم شيء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من إشراكهم، وقال الماتريدي: الاختيار أنيقال: استدل على عدم صلاحيتها للإلهية لغلبة نور القمر نور الزهرة ونور الشمس لنوره وقهرتيك بذاك وهذا بتلك، والرب لايقهر والظلام غلب نور الشمس وقهره انتهى ملخصاً. قال ابن أبي الفضل: ما جاء الظلام إلا بعد ذهاب الشمس فلميجتمع معها حتى يقال قهرها وقهر نورها انتهى، وقال غيره من المفسرين: إنه استدل بما ظهر عليها من شأن الحدوثوالانتقال من حال إلى حال وذلك من صفات الأجسام فكأنه يقول: إذا بان في هذه النيرات الرفيعة أنها لا تصلحللربوبية فأصنامكم التي من خشب وحجارة أحرى أن يتبين ذلك فيها ومثل لهم بهذه النيرات لأنهم كانوا أصحاب نظر فيالأفلاك وتعلق بالنجوم وأجمع المفسرون على أن رؤية هذه النيرات كانت في ليلة واحدة، رأى الكوكب الزهرة أو المشتري علىالخلاف السابق جانحاً للغروب فلما أفل بزغ القمر فهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمرقبلها لانتشار الصباح وخفى نوره ودنا أيضاً من مغربه، فسمي ذلك أفولاً لقربه من الأفول التام على تجوز في التسميةثم بزغت الشمس على ذلك، قال ابن عطية: وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين،وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي وبذلك التجوز في أفول القمر؛ انتهى، والظاهروالذي عليه المفسرون أن المراد من الكوكب والقمر والشمس هو ما وضعته له العرب من إطلاقها على هذه النيرات، وحكيعن بعض العرب ولعله لا يصح عنه أن الرؤية رؤية قلب، وعبر بالكوكب عن النفس الحيوانية التي لكل كوكب وبالقمرعن النفس الناطقة التي لكل فلك، وبالشمس عن العقل المجرد الذي لكل فلك وكان ابن سينا يفسر الأفول بالإمكان فزعمالغزالي أن المراد بأفولها إمكانها لذاتها، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجبالوجود، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركةالثلاثة قاصرة متناهية القوة، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها؛ انتهى، وهذان التفسيران شبيهان بتفسير الباطنية لعنهم الله إذ همالغز ورمز ينزه كتاب الله عنهما ولولا أن أبا عبد الله الرازي وغيره قد نقلهما في التفسير، لأضربت عن نقلهماصفحاً إذ هما مما نجزم ببطلانه ومن تفسير الباطنية الإمامية ونسبوه إلى عليّ أن الكوكب هو المأذون، وهو الداعي والقمراللاحق وهو فوق المأذون بمنزلة الوزير من الإمام والشمس الإمام وابراهيم في درجة المستجيب، فقال للمأذون: هذا ربي عنى ربالتربية للعلم فإنه يربي المستجيب بالعلم ويدعوه إليه، فلما أفل فنى ما عند المأذون من العلم رغب عنه ولزم اللاحقفلما فنى ما عنده رغب عنه وتوجه إلى التالي وهو الصامت الذي يقبل العلم من الرسول الذي يسمى الناطق لأنهينطق بجميع ما ينطق به الرسول فلما فنى ما عنده ارتقى إلى الناطق وهو الرسول وهو المصور للشرائع عندهم؛ انتهىهذا التخليط، واللغز الذي لا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالات والتفسير أن قبل هذا شبيهان بهذا التفسير المستحيلوللمنسوبين إلى الصوف في تفسير كتاب الله تعالى أنواع من هذه التفاسير. قال القشيري: لما جنّ عليه الليل أحاط بهسجوف الطلب ولم يتجل له بعد صباح الوجود فطلع له نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان فقال: هذا ربيثم زيد في ضيائه فطلع قمر العلم وطالعه بسر البيان، فقال: {هَـٰذَا رَبّى } ثم أسفر الصبح ومتع النهار وطلعتشمس العرفان من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان ولا للتجويز حكم ولا للتهمة قرار، فقال: {إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} إذ ليس بعد البعث ريب ولا بعد الظهور ستر انتهى، والعجب كل العجب من قوم يزعمون أن هؤلاء المنسوبينإلى الصوف هم خواص الله تعالى وكلامهم في كتاب الله تعالى هذا الكلام. {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ *ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * حَنِيفاً } أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه بوجهي للذيابتدع العالم محل هذه النيرات المحدثات وغيرها، واكتفى بالظرف عن المظروف لعمومه إذ هذه النيرات مظروف السموات ولما كانت الأصنامالتي يعبدها قومه النيرات ومن خشب وحجارة وذكر ظرف النيرات عطف عليه الأرض التي هي ظرف الخشب والحجارة، و{حَنِيفاً }مائلاً عن كل دين إلى دين الحق وهو عبادة الله تعالى مسلماً أي منقاداً إليه مستسلماً له. {وَمَا أَنَاْمِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } ولما أنكر على أبيه عبادة الأصنام وضلله وقومه، ثم استدل على ضلالهم بقضايا العقول إذ لا يذعنونللدليل السمعي لتوقفه في الثبوت على مقدمات كثيرة وأبدى تلك القضايا منوطة بالحس الصادق تبرأ من عبادتهم وأكد ذلك بأنثم أخبر أنه وجه عبادته لمبدع العالم التي هذه النيرات المستدل بها، بعضه ثم نفى عن نفسه أن يكون منالمشركين مبالغة في التبريء منهم. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى } المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفينفي حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله ونفى الشركاء عنه منكرين لذلكومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليداً وبالتخويف من ما يعبدونه من الأصنام كقول: قوم هود

{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء }

فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه وأنهلا يخاف من آلهتهم، وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام {أَتُحَاجُّونّى } بتخفيف النون وأصله بنونين الأولى علامة الرفعوالثانية نون الوقاية والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ فيذلك، وقال مكي: الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذلا ضرورة تدعو إليه وقول مكي ليس بالمرتضى، وقيل: التخفيف لغة لغطفان، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون أصله أتحاجونني فأدغمهروباً من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ولم يقرأ هناك بالفك وإن كان هو الأصل ويجوز في الكلام، و{فِى ٱللَّهِ} متعلق بأتحاجوني لا بقوله وحاجة قومه والمسألة من باب الإعمال إعمال الثاني فلو كان متعلقاً بالأول لأضمر في الثانيونظير

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ }

والجملة من قوله {وَقَدْ هَدَانَا } حالية أنكر عليهم أن تقعمنهم محاجة له وقد حصلت من الله له الهداية لتوحيده فمحاجتهم لا تجدي لأنها داحضة. {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَبِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً } حكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام: أما خفت أن تصيبك آلهتنا ببرصأو داء لإذايتك لها وتنقيصك فقال لهم: لست أخاف الذي تشركون به لأنه لا قدرة له ولا غنى عنده و{مَا} بمعنى الذي والضمير في «به» عائد عليه رأي الذي تشركون به الله تعالى ويجوز ىن يعود على الله أي: الذي تشركونه بالله في الربوبية {وَإِلاَّ * أَن يَشَاء رَبّى } قال ابن عطية استثناء ليس من الأول ولماكانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريد بضر انتهى، فيكون استنثاءً منقطعاً وبهقال الحوفي فيصير المعنى لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف وقال الزمخشري إلا أن يشاء ربي إلا وقت مشيئة ربيشيئاً يخاف فحذف الوقت يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر ولا على مضرة إلا أن يشاءربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً أستوجب به إنزال المكروه مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة منالشمس والقمر، أو يجعلها قادرة على مضرتي انتهى، فيكون استثناءً متصلاً من عموم الأزمان الذي تضمنه النفي وجوز أبو البقاءأن يكون متصلاً ومنقطعاً إلا أنه جعله متصلاً مستثنى من الأحوال وقدره إلا في حال مشيئة ربي أي لا أخافهافي كل حال إلا في هذه الحال، وانتصب شيئاً على المصدر أي مشيئة أو على المفعول به. {وَسِعَ رَبّىكُلَّ شَىْء عِلْماً } ذكر عقيب الاستثناء سعة علم الله في تعلقه بجميع الكوائن فقد لا يستبعد أن يتعلق علمهبإنزال المخوف بي إما من جهتها إن كان استثناءً متصلاً أو مطلقاً إن كان منقطعاً وانتصب علماً على التمييز المحولمن الفاعل، أصله وسع علم ربي كل شيء. {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لايضر ولا ينفع، وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصنام للربوبية.وقال الزمخشري: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز، وقيل: أفلا تتعظون بما أقول لكم، وقال عبد اللهالرازي: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب. {وَكَيْفَ أَخَافُمَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـٰناً } استفهام معناه التعجب والإنكار كأنه تعجبمن فساد عقولهم حيث خوفوه خشباً وحجارة لا تضر ولا تنفع، وهم لا يخافون عقبي شركهم بالله وهو الذي بيدهالنفع والضر والأمر كله {وَلاَ تَخَافُونَ } معطوف على {أَخَافُ } فهو داخل في التعجب والإنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبةإلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله تعالى تركاً للمقابلة، ولئلا يكون الله عديل أصنامهم لو كانالتركيب ولا تخافون الله تعالى وأتى بلفظ {مَا } الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي حجارةوخشب وكواكب، والسلطان الحجة والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه لما أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم،نفى أيضاً أن يكون على ذلك دليل سمعي فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلاً وسمعاً فوجب اطراحه، وقرىء سلطاناً بضم اللاموالخلاف هل ذلك لغة فيثبت به بناء فعلان بضم الفاء والعين أو هو اتباع فلا يثبت به. {فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِأَحَقُّ بِٱلاْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف أبرز الاستفهام في صورةالاحتمال وإن كان قد علم قطعاً أنه هو الآمن لاهم كما قال الشاعر

: فلئن لقيتك خاليين لتعلمن     أني وايك فارس الأحزاب

أي أينا ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطبوأضاف أيا إلى الفريقين، ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تجريدنفسه فيكون ذلك تزكية لها، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحقبالأمن. {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } الظاهر أنه من كلام إبراهيم لمااستفهمهم استفهام عالم بمن هو الآمن وأبرزه في صورة السائل الذي لا يعلم استأنف الجواب عن السؤال، وصرح بذلك المحتملفقال: الفريق الذي هو أحق بالأمن هم الذين آمنوا، وقيل: هو من كلام قوم إبراهيم أجابوا بما هو حجة عليهم،وقيل: هو من كلام الله أمر إبراهيم أن يقوله لقومه أو قاله على جهة فصل القضاء بين خلقه وبين منحاجه قومه، واللبس الخلط والذين آمنوا: ابراهيم وأصحابه وليست في هذه الأمة قاله علي وعنه ابراهيم خاصة أو من هاجرإلى المدينة، قاله عكرمة أو عامة قاله بعضهم وهو الظاهر، والظلم هنا الشرك قاله ابن مسعود وأبيّ، وعن جماعة منالصحابة أنه لما نزلت أشفق الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله : إنما ذلك كما قال لقمان: {إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ولما قرأها عمر عظمت عليه فسأل أبياً فقال: إنه الشركيا أمير المؤمنين فسرى عنه وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبيّ، وقرأ مجاهد: {وَلَمْيَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ } بشرك ولعل ذلك تفسير معنى إذ هي قراءة تخالف السواد، وقال الزمخشري: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصيةتفسقهم وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس انتهى، وهذه دفينة اعتزال أي إن الفاسق، ليس له الأمن إذا مات مصراًعلى الكبيرة، وقوله: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس هذا رد على من فسر الظلم بالكفر، والشرك وهم الجمهور وقدفسره الرسول بالشرك فوجب قبوله ولعل الزمخشري لم يصح له ذلك عن الرسول، وإنما جعله يأباهلفظ اللبس لأن اللبس هو الخلط فيمكن أن يكون الشخص في وقت واحد مؤمناً عاصياً معصية تفسقه، ولا يمكن أنيكون مؤمناً مشركاً في وقت واحد {وَلَمْ يَلْبِسُواْ } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل أن يكون حالاً دخلتواو الحال على الجملة المنفية بلم كقوله تعالى:

{ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ }

وما ذهب إليهابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضميريعود على ذي الحال خطأ بل ذلك قليل وبغير الواو كثير على ذلك لسان العرب، وكلام الله، وقرأ عكرمة: {وَلَمْيَلْبِسُواْ } بضم الياء ويجوز في {ٱلَّذِينَ } أن يكون خبر مبتدأ محذوف وأن يكون خبره المبتدأ والخبر الذي هو{أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ } وأبعد من جعل لهم الأمن خبر الذين وجعل أولئك فاصلة وهو النحاس والحوفي. {وَتِلْكَ حُجَّتُنَاءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } الإشارة بتلك إلى ما وقع به الاحتجاج من قوله {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } إلىقوله {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } وهذا الظاهر، وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم و{ءاتَيْنَـٰهَا} أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية، أو {ءاتَيْنَـٰهَا } بوحي منا ولقناه إياها وإنأعربت وتلك مبتدأ وحجتنا بدلاً {*وآتيناها}خيرا لـ(تلك) لم يخبر أن يتعلق (على قومه) بـ(حجتنا) كذا ابدأ(وتلك حجتنا) مبتدأ وخبر{*وآتيناها} حالالعامل فيها اسم الإشارة لأن الحجة ليست مصدراً وإنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء ولو جعلناه مصدراً مجازاً لميجز ذلك أيضاً لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه، وأجاز الحوفي أن يكون{حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا }في موضع النعت لحجتنا والنية فيها الانفصال والتقدير: وتلك حجة لنا آتيناها انتهى، وهذا بعيد جداً. وقال الحوفي: وهاء مفعولأول وإبراهيم مفعول ثان وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي، وأما مذهب الجمهور فالهاء مفعول ثان وابراهيم مفعول أول، وقالالحوفي وابن عطية {عَلَىٰ قَوْمِهِ } متعلق {*بآتيناها}. قال ابن عطية أظهرناها لإبراهيم على قومه، وقال أبو البقاء: بمحذوف تقديرهحجة على قومه ودليلاً، وقال الزمخشري: {ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ } أرشدناه إليها ووفقناه لها وهذا تفسير معنى، ويجوز أن يكونفي موضع الحال وحذف مضاف أي {إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ } مستعلية على حجج قومه قاهرة لها. {نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء} أي مراتب ومنزلة من نشاء وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالمعرفة أو بالرسالة أو بحسن الخلق أو بخلوص العملفي الآخرة أو بالنبوة والحكمة في الدنيا أو بالثواب والجنة في الآخرة، أو بالحجة والبيان، أقوال أقر بها الأخير لسياقالآية ونوّن درجات الكوفيون وأضافها الباقون ونصبوا المنون على الظرف أو على أنه مفعول ثان، ويحتاج هذا القول إلى تضميننرفع معنى ما يعدّي إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي {حَكِيمٌ }في تدبير عباده {عَلِيمٌ } بأفعالهم أو حكيم في تقسيم عباده إلى عابد صنم وعابد الله {عَلِيمٌ } بما يصدربينهم من الاحتجاج، ويحتمل أن يكون الخطاب في {إِنَّ رَبَّكَ } للرسول ويحتمل أن يكون المراد به إبراهيم فيكون منباب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } {إِسْحَـٰقَ} ابنه لصلبه من سارة و{يَعْقُوبَ } ابن إسحاق كما قال تعالى:

{ فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ }

وعدد تعالى نعمه على إبراهيم فذكر إيتاءه الحجة على قومه، وأشار إلى رفع درجاته وذكر ما منّ به عليه منهبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسلولم يذكر إسماعيل مع إسحاق. قيل: لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ولم يخرجمن صلب إسماعيل نبي إلا محمد ولم يذكره في هذا المقام لأنه أمره عليه السلام أنيحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن جدّهم إبراهيم لما كان موحداً لله متبرئاً من الشرك رزقه الله أولاًملوكاً وأنبياء، والجملة من قوله: {وَوَهَبْنَا } معطوفة على قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا } عطف فعلية على اسمية، وقال ابن عطية:{وَوَهَبْنَا } عطف على {ءاتَيْنَـٰهَا } انتهى. ولا يصح هذا لأن {ءاتَيْنَـٰهُمُ } لها موضع من الإعراب إما خبر. وإماحال ولا يصح في {وَوَهَبْنَا } شيء منهما. {كُلاًّ هَدَيْنَا } أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا.{وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } لما ذكر شرف أبناء إبراهيم ذكر شرف آبائه فذكر نوحاً الذي هو آدم الثاني وقال:{مِن قَبْلُ } تشبيهاً على قدمه وفي ذكره لطيفة وهي أن نوحاً عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه، وقومه أولقوم عبدوا الأصنام ووحد هو الله تعالى ودعا إلى عبادته ورفض تلك الأصنام وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومهحيث قالوا:

{ لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً }

وكان إبراهيم عبدت الأصنامفي زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كما هدى إبراهيم. {*}وكان إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كماهدى إبراهيم. {وَمِن ذُرّيَّتِهِ * دَاوُودُ * وَسُلَيْمَـٰنَ } قيل: ومن ذرية نوح عاد الضمير عليه لأنه أقرب مذكورولأن في جملتهم لوطاً وهو ابن أخي ابراهيم فهو من ذرية نوح لا من ذرية ابراهيم، وقيل: ومن ذرية ابراهيمعاد الضمير عليه لأنه المقصود بالذكر، قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية ابراهيم وإن كان فيهم منلا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب، لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العمّ أباً، وقال أبو سليمانالدمشقي: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة انتهى. قالوا: والمعنى وهدينا أو ووهبنا {مِنْ * ذُرّيَّتَهُ * دَاوُودُ * وَسُلَيْمَـٰنَ} وقرنهما لأنهما أب وابن ولأنهما ملكان نبيان وقدم داود لتقدمه في الزمان ولكونه صاحب كتاب ولكونه أصلاً لسليمان وهوفرعه. {وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ } قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له ويوسف بالبلاء بالسجن ولغربتهعن أهله، وفي مآلهما بالسلامة والعافية، وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان. {وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ } قرنهما لاشتراكهما في الأخوةوقدّم موسى لأنه كليم الله. {وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيريننجزي من كان محسناً في عبادتنا مراقباً في أعماله لنا. {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ } قرن بينهم لاشتراكهم فيالزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وبدأ بزكريا ويحيـى لسبقهما عيسى في الزمان وقدّم زكريا لأنه والد يحيـى فهو أصل، ويحيـىفرع وقرن عيسى وإلياس لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد وقدّم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة، وتقدّم ذكر أنسابهؤلاء الأنبياء إلا إلياس وهو إلياس بن بشير بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران، وروي عن ابن مسعودأن ادريس هو الياس ورد ذلك بأن إدريس هو جد نوح عليهما السلام تظافرت بذلك الروايات، وقيل: الياس هو الخضروتقدّم خلاف القرّاء في زكريا مداً وقصراً، وقرأ ابن عباس باختلاف عنه والحسن وقتادة بتسهيل همزة إلياس وفي ذكر عيسىهنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية، وسواء كانالضمير في {وَمِن ذُرّيَّتِهِ } عائداً على نوح أو على إبراهيم فنقول: الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم همامن ذرية رسول الله وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيـى بن يعمر على ذلك، وكانالحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه.{كُلٌّ مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } لا يختص كل بهؤلاء الأربعة، بل يعم جميع من سبق ذكره من الأربعة عشر نبياً.{وَإِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً } المشهور أن إسماعيل هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده، وقيل: هو نبي منبني إسرائيل كان زمان طالوت وهو المعنى بقوله

{ إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله }

واليسع قال زيد بن أسلم: هو يوشع بن نون، وقال غيره: هو اليسع بن أخطوب بن العجوز، وقرأ الجمهورواليسع كأن أل أدخلت على مضارع وسع، وقرأ الأخوان والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم واختلف فيه أهو عربي أمعجمي، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال: إنه عربي فقال: هو مضارع سمي به ولا ضمير فيه فأعرب ثمنكر وعرف بأل، وقيل سمي بالفعل كيزيد ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذاً كاليزيد في قوله

:رأيـت الوليــد بــن اليزيــد مباركــاً    

ولزمت كما لزمت في الآن، ومن قال: إنه أعجمي فقال: زيدت فيه أل ولزمتشذوذاً، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو عليّ الفارسي وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أن ألفهي كهي في الحارث والعباس، لأنهما من أبنية الصفات لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما عليه الأسماء الأعجمية إذلم يجيء فيها شيء على هذا الوزن كما لم يجيء فيها شيء فيه أل للتعريف، وقال أبو عبد الله بنمالك الجياني، ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسموأل، فإن الأغلب ثبوت أل فيه وقديجوز أن يحذف فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة واتضح من قوله: إن اليسع ليس منقولاً من فعل كماقال بعضهم، وتقدّم أنه قال: يونس بضم النون وفتحها وكسرها وكذلك يوسف وبفتح النون وسين يوسف قرأ الحسن وطلحة ويحيـىوالأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن وإنما جمع هؤلاء الأربعة لأنهم لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياعفهذه مراتب ست: مرتبة الملك والقدرة ذكر فيها داود وسليمان، ومرتبة البلاء الشديد، ذكر فيها أيوب، ومرتبة الجمع بين البلاءوالوصول إلى الملك ذكر فيها يوسف، ومرتبة قوة البراهين والمعجزات والقتال والصولة ذكر فيها موسى وهارون، ومرتبة الزهد الشديد والانقطاععن الناس للعبادة ذكر فيها زكريا ويحيـى وعيسى وإلياس، ومرتبة عدم الاتباع ذكر فيها إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً، وهذه الأسماءأعجمية لا تجر بالكسرة ولا تنون إلا اليسع فإنه يجر بها ولا ينون وإلا لوطاً فإنه مصروف لخفة بنائه بسكونوسطه، وكونه مذكراً وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية وقد تحاشى المسلمون هذاالاسم الشريف، فقلّ من تسمى به منهم كأبي مخنف لوط بن يحيـى، ولوط النبي هو لوط بن هارون بن آزروهو نارخ وتقدّم رفع نسبه. {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء خلافاًلبعض من ينتمي إلى الصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفتوح المكيةوعنقاء مغرب وغيرهما من كتب الضلال، وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى اللهتعالى فيندرج في العموم الملائكة. قال ابن عطية: معناه عالمي زمانهم. {وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ } المجرور في موضعنصب. فقال الزمخشري: عطفاً على {كَلاَّ } بمعنى وفضلنا بعض آبائهم، وقال ابن عطية: وهدينا {مِنْ ءابَائِهِمْ * وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ} جماعات فمن للتبعيض والمراد من آمن نبياً كان أو غير نبي ويدخل عيسى في ضمير قوله: {وَمِنْ ءابَائِهِمْ }ولهذا قال محمد بن كعب: الخال والخالة انتهى، {وَمِنْ ءابَائِهِمْ } كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح {وَذُرّيَّـٰتِهِمْ } كذرية نوحعليه السلام المؤمنين {وَإِخْوٰنِهِمْ } كإخوة يوسف ذكر الأصول والفروع والحواشي. {وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ وَهَدَيْنَـٰهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الظاهر عطف{وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ } على {فَضَّلْنَا } أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح للهداية السابقة، وأنها هداية إلى طريق الحق المستقيمالقويم الذي لا عوج فيه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك. {ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءمِنْ عِبَادِهِ } أي ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هو هدى الله، وقال ابن عطية: ذلك إشارة إلى النعمة فيقوله {وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ } انتهى، وفي الآية دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى. {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْيَعْمَلُونَ } أي {وَلَوْ أَشْرَكُواْ } مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم كماقال تعالى:

{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }

وفي قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ } دلالة على أن الهدى السابق هو التوحيدونفي الشرك. {أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } لما ذكر أنه تعالى فضلهم واجتباهم وهداهم ذكر ما فضلوابه، والكتاب: جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، والحكم: الحكمة أو الحكم بين الخصوم أو ما شرعوه أوفهم الكتاب أو الفقه في دين الله أقوال، وقال أبو عبد الله الرازي: {ٱلْكِتَـٰبَ مِن } هي رتبة العلم يحكمونبها على بواطن الناس وأرواحهم و{لِحُكْمِ } مرتبة نفوذ الحكم بحسب الظاهر و{ٱلنُّبُوَّةَ } المرتبة الثالثة وهي التي يتفرع علىحصولها حصول المرتبتين فالحكام على الخلق ثلاث طوائف. انتهى ملخصاً. {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْبِهَا بِكَـٰفِرِينَ } الظاهر أن الضمير في {بِهَا } عائد إلى النبوة لأنها أقرب مذكور، وقال الزمخشري: {بِهَا } بالكتابوالحكم والنبوة فجعل الضمير عائداً على الثلاثة وهو أيضاً له ظهور، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلكالعصر، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي وغيرهم، وقال الزمخشري: {هَـؤُلاء } يعني أهل مكة انتهى وقال السدّي، وقال الحسن: أمّةالرسول ومعنى {وَكَّلْنَا } أرصدنا للإيمان بها والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقومبه ويتعهده ويحافظ عله، والقوم الموكلون بها هنا هم الملائكة قاله أبو رجاء، أو مؤمنوا أهل المدينة قاله ابن عباسوقتادة والضحاك والسدي، وقال الزمخشري: {قَوْماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } انتهى.وهو قول الحسن وقتادة أيضاً قالا: المراد بالقوم من تقدّم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقيل: الأنبياء الثمانية عشر المتقدم ذكرهمواختاره الزجاج وابن جرير لقوله بعد {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ }. وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: كل من آمن بالرسول، وقالمجاهدهم الفرس والآية وإن كان قد فسر بها مخصوصون فمعناها عام في الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة. {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَهَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } الإشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتدىبهداهم، والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك، فالمعنى فبطريقتهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دونالشرائع، فإنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ فإذا نسخت لم تبق هدى بخلافأصول الدين فإنها كلها هدى أبداً. وقال تعالى:

{ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً }

وقال ابن عطية: ويحتمل أنتكون الإشارة بأولئك إلى {*وقوما} وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم على بعضها انتهى، ويعني أنه إذا فسرالقوم بالأنبياء المذكورين أو بالملائكة فيمكن أن تكون الإشارة إلى قوم وإن فسروا بغير ذلك فلا يصح، وقيل: الاقتداء فيالصبر كما صبر من قبله، وقيل: يحمل على كل هداهم إلا ما خصه الدليل، وقيل: في الأخلاق الحميدة من الصبرعلى الأذى والعفو، وقال: في ريّ الظمآن أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر بتوبة آدم وشكرنوح ووفاء إبراهيم وصدق وعد إسماعيل وحلم إسحاق وحسن ظنّ يعقوب؟ واحتمال يوسف وصبر أيوب وإثابة داود وتواضع سليمان وإخلاصموسى وعبادة زكريا وعصمة يحيـى وزهد عيسى، وهذه المكارم التي في جميع الأنبياء اجتمعت في الرسول وعليهم أجمعين ولذلك وصفه تعالى بقوله:

{ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }

وقال الزمخشري: {فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } فاختص هداهمبالاقتداء ولا يقتدى إلا بهم، وهذا بمعنى تقديم المفعول وهذا على طريقته في أن تقديم المفعول يوجب الاختصاص وقد رددناعليه ذلك في الكلام على

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }

وقرأ الحرميان وأهل حرميهما وأبو عمرو اقتده بالهاء ساكنة وصلاً ووقفاًوهي هاء السكت أجر وهاء وصلاً مجراها وقفاً، وقرأ الأخوان بحذفها وصلاً وإثباتها وقفاً وهذا هو القياس، وقرأ هشام اقتدهباختلاس الكسرة في الهاء وصلاً وسكونها وقفاً، وقرأ ابن ذكوان بكسرها ووصلها بياء وصلاً وسكونها وقفاً ويؤول على أنها ضميرالمصدر لا هاء السكت، وتغليظ ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه وتأويلها على أنهاها، السكت ضعيف. {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْعَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَـٰلَمِينَ } أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم. {أَجْراً } أيأجرة أتكثر بها وأخص بها إن القرآن إلا ذكرى موعظة لجميع العالمين. {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء } نزلت في اليهود قاله ابن عباس ومحمد بن كعب، أو في مالكبن الصيف اليهودي إذ قال له الرسول: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال: نعم. قال: فأنت الحبر السمين فغضب ثم قال: ما أنزل الله على بشر منشيء قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة، أو في فنحاص بن عازورا منهم قاله السدي، أو في اليهود والنصارى قالهقتادة، أو في مشركي العرب قاله مجاهد، وغيره، وبعضهم خصة عنه بمشركي قريش وهي رواية ابن أبي نجيح عنه، وفيرواية ابن كثير عن مجاهد أن من أولها إلى {مِن شَىْء } في مشركي قريش وقوله: {أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } فياليهود ولما ذكر تعالى عن إبراهيم دليل التوحيد وتسفيه، رأى أهل الشرك وذكر تعالى ما منّ به على إبراهيم منجعل النبوة في بنيه وأن نوحاً عليه السلام جدّه الأعلى كأن الله تعالى قد هداه وكان مرسلاً إلى قومه وأمرتعالى الرسول بالاقتداء بهدى الأنبياء أخذ في تقرير النبوّة والردّ على منكريّ الوحي فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وأصل القدر معرفة الكمية يقال: قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقدار يقدره بالضم قدراً وقدراً ومنهفإن غم عليكم فاقدروا له أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم توسع فيه حتى قيل: لكل من عرف شيئاً هو يقدرقدره ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته، قال ابن عباس والحسن واختاره الفراء وثعلب والزُّجاج معناه ما عظموا اللهحق تعظيمه، وقال أبو عبيدة والأخفش: ما عرفوه حق معرفته، قال الماتريدي: ومن الذي يعظم الله حق عظمته أو يعرفهحق معرفته؟ قالت الملائكة: ما عبدناك حق عبادتك والرسول يقول: لا أحصي ثناءً عليك وينفصل عن هذا أن يكون المعنى: ما عظموه العظمة التي في وسعهم وفي مقدورهم وما عرفوه كذلك، وقال أبو العالية:واختاره الخليل بن أحمد معناه: ما وصفوه حق صفته فيما وجب له واستحال عليه وجاز، وقال ابن عباس أيضاً: ماآمنوا بالله حق إيمانه وعلموا أن الله على كل شيء قدير، وقال أبو عبيدة أيضاً: ما عبدوه حق عبادته، وقيل:ما أجلُّوه حق إجلاله حكاه ابن أبي الفضل في ريّ الظمآن وهو بمعنى التعظيم، وقال ابن عطية: من توفية القدرفهي عامّة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك غير أن تعليله بقولهم: {أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ }يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل، وقال الزمخشري: ما عرفوا الله حق معرفتهفي الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجل نعمته

{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ }

أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم ولم يخافوه حينجسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة، والقائلون هم اليهود بدليل قراءة من قرأ {تَجْعَلُونَهُ } بالتاء وكذلك {تُبْدُونَهَا} و{تَخَـٰفُونَ } وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله فألزموا مالا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى. انتهى، والضمير في {وَمَا قَدَرُواْ } عائد على منأنزلت الآية بسببه على الخلاف السابق ويلزم من قال: إنها في بني إسرائيل أن تكون مدنية ولذا حكى النقاش أنهامدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي {مَا قَدَرُواْ } بالتشديد {حَقَّ قَدْرِهِ } بفتح الدال وانتصب {حَقَّ قَدْرِهِ } على المصدروهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر، والعامل في إذ قدروا وفيكلام ابن عطية ما يشعر أن إذ تعليلاً. {قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِى جَاء بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ} إن كان المنكرون بني إسرائيل فالاحتجاج عليهم واضح لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى وإن كانوا العرب فوجه الاحتجاجعليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول، نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم وكانوا يقولون: لو أناأنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، وقال أبو حامد الغزالي: هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلكلأن حاصله يرجع إلى أن موسى عليه السلام أنزل عليه شيء واحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتجمن الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر، وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسبصحة المقدمة، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة وهي قولهم: {مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء} فوجب القول بكونها كاذبة فتمت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني منالأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف، انتهى كلامه. وفي الآية دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلكأنه نقض قولهم: {أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ } بقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } فلو لم يكن النقض دليلاً على فسادالكلام لما كانت حجة مفيدة لهذا المطلوب، والكتاب هنا التوراة وانتصب نوراً وهدى على الحال والعامل أنزل أو جاء.{تَجْعَلُونَهُ قَرٰطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } التاء قراءة الجمهور في الثلاثة، وظاهره أنه لبني إسرائيل والمعنى: {تَجْعَلُونَهُ } ذا {قَرٰطِيسَ}، أي أوراقاً وبطائق، {وَتُخْفُونَ كَثِيراً } كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها، وأدرجتعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض، فقيل: جاء به موسى وهونور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء، وتتناسق قراءة التاء مع قوله: {عَلِمْتُمُ }ومن قال: إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال:خلال السؤال والجواب: تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكاً لنظم الآية وتركيبها، حيثجعل الكلام أولاً خطاباً مع الكفار وآخراً خطاباً مع اليهود وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول،جاء بعض الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة.{وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم، بأنعلموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به لأن آباءهم كانوا علموا أيضاً وعلم بعضهم وليس كذلك آباءالعرب، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم، وقيل: الخطاب للعرب، قاله مجاهد ذكر الله منته عليهمأي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين {وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } وقيل: الخطابلمن آمن من اليهود، وقيل: لمن آمن من قريش وتفسير {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ } يتخرج على حسب المخاطبين التوراة أودين الإسلام وشرائعه أو هما أو القرآن، قال الزمخشري: الخطاب لليهود أي علمتم على لسان محمد مما أوحي إليه {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ } وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أنهذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش

{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ }

انتهى. {قُلِ ٱللَّهُ } أمره بالمبادرة إلى الجواب أي قل الله أنزله فإنهم لا يقدرونأن يناكروك، لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أنيعترف بأن منزله هو الله سواء أقرّ الخصم بها أم لم يقر، ونظيره:

{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ }

قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله انتهى،ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه. {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ } حال من مفعول ذرهم أيمن ضمير {لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرٰطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِىخَوْضِهِمْ } و{فِى خَوْضِهِمْ } متعلق بـ{ذَرْهُمْ } أو بـ{يَلْعَبُونَ } أو حال من {يَلْعَبُونَ } وظاهر الأمر أنه موادعةفيكون منسوخاً بآيات القتال وإن جعل تهديداً أو وعيداً خالياً من موادعة فلا نسخ. {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ }أي وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً وحاجهم بما لايقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة، ولما كان الإنكار إنما وقععلى الإنزال فقالوا: {أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ }، وقيل: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } كان تقديم وصفه بالإنزال أكد من وصفهبكونه مباركاً ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعاً فصارت الصفة بكونه مباركاً، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ماقبلها، فأما قوله:

{ وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـٰهُ }

فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئاً بل جاءعقب قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَاء * وَذِكْرَىٰ * لّلْمُتَّقِينَ }

ذكر أن الذي آتاه الرسولهو ذكر مبارك ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل، ولما كان وصفه بالبركة وصفاً لا يفارق عبربالاسم الدال على الثبوت. {مُّصَدّقُ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من كتب الله المنزلة، وقيل التوراة، وقيل البعث، قالابن عطية: وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة. {وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } أم القرىمكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ودحو الأرض منها ولأنها وسط الأرض ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضعللناس، والمعنى: {وَلِتُنذِرَ } أهل {أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس، وقيل: العرب وقداستدل بقوله: {أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } طائفة من اليهود زعموا أنه رسول إلى العرب فقط، قالوا: {وَمَنْ حَوْلَهَا }هي القرى المحيطة بها وهي جزيرة العرب، وأجيب بأن {وَمَنْ حَوْلَهَا } عام في جميع الأرض ولو فرضنا الخصوص لميكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم وهو ضعيف، وحذف أهل الدلالة المعنىعليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله:

{ وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ }

لأن القرية لا نسأل ولم تحذف من فيعطف {حَوْلَهَا }على {أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أمالقرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عنالظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها، وقرأ أبوبكر لينذر أي القرآن بمواعظه وأوامره، وقرأ الجمهور {وَلِتُنذِرَ } خطاباً للرسول والمعنى {وَلِتُنذِرَ } به أنزلناه فاللام تتعلق بمتأخرمحذوف دل عليه ما قبله، وقال الزمخشري: {وَلِتُنذِرَ } معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلنا للبركاتوتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. {وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الظاهر أن الضمير في {بِهِ } عائدعلى الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشراً ونشراً وجزافء تؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيدوالتبشير والتهديد، إذ ليس فيه كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا مافي هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث، والمعنى: يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعثولا يؤمنون بالقرآن واكتفى بذكر الإيمان بالبعث وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخروالقدر لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث، أن من آمن بالبعث آمنبهذا الكتاب وأصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن، وقيل: يعود الضمير على رسول الله. {وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } خص الصلاة لأنها عماد الدين ومن حافظ عليها كان محافظاًعلى أخواتها ومعنى المحافظة المواظبة على أدائها في أوقاتها على أحسن ما توقع عليه والصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان باللهولذلك لم يوقع اسم الإيمان على شيء من العبادات إلا عليها قال تعالى:

{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ }

أي صلاتكم ولم يقع الكفر على شيء من المعاصي إلا على تركها. روي: من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر وقرأ الجمهور {عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ } التوحيد والمراد به الجنس وروى خلف عن يحيـى عن أبي بكر صلواتهم بالجمع ذكرذلك أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي في كتاب الروضة من تأليفه وقال تفرد بذلك عن جميع الناس.{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ} ذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث قيل: وفي المستهزئين معه لأنه عارض القرآن بقوله: والزارعاتزرعاً والخابزات خبزاً والطابخات طبخاً والطاحنات طحناً واللاقمات لقماً إلى غير ذلك من السخافات، وقال قتادة وغيره: المراد بها مسيلمةالحنفي والأسود العنسي وذكروا رؤية الرسول للسوارين، وقال الزمخشري: وهو مسيلمة الحنفي أو كذاب صنعاء الأسودالعنسي. وقال السدي: المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أخو عثمان من الرضاعة كتب آية {قَدْأَفْلَحَ } بين يدي الرسول فلما أمل عليه {ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } عجب من تفصيلخلق الإنسان فقال:

{ فتبارك الله أحسن الخالقين }

فقال الرسول: اكتبها فهكذا أنزلت فتوهم عبد الله ولحقبمكة مرتداً وقال: أنا أنزل مثل ما أنزل الله، وقال عكرمة: أولها في مسيلمة وآخرها في ابن أبي سرح ورويعنه أنه كان إذا أملي عليه

{ سَمِيعاً عَلِيماً }

كتب هو عليماً حكيماً وإذا قال: عليماً حكيماً كتب هوغفوراً رحيماً، وقال شرحبيل بن سعد: نزلت في ابن أبي سرح ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله ارتد ودخلالرسول مكة عام الفتح فغيبه عثمان وكان أخاه من الرضاعة حتى اطمأن أهل مكة ثم أتىبه الرسول فاستأمن له الرسول فمنه. انتهى، وقد ولاه عثمان بن عفان في أيامه وفتحت على يديه الأمصار ففتح أفريقيةسنة إحدى وثلاثين وغزا الأساود من أرض النوبة وهو الذي هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم وغزا الصواري من أرض الروموكان قد حسن إسلامه ولم يظهر عليه شيء ينكر عليه وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش وفارس بني عامربن لؤي وأقام بعسقلان، قيل: أو الرملة فاراً من الفتنة حين قتل عثمان ومات بها سنة ست، قيل: أو سبعوثلاثين ودعا ربه فقال: اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فقبض آخر الصبح وقد سلم عن يمينه وذهب يسلم عنيساره وذلك قبل أن يجتمع الناس على معاوية. ولما ذكر القرآن وأنه كتاب منزل من عنده مبارك أعقبه بوعيدمن ادعى النبوة والرسالة على سبيل الافتراء، وتقدم الكلام على {وَمَنْ أَظْلَمُ } وفسروه بأنه استفهام معناه النفي أي لاأحد أظلم وبدأ أولاً بالعام وهو افتراء الكذب على الله وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أوغيره ثم ثانياً بالخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء } جملة حالية أوغير موحى إليه لأن من قال أوحي إليّ وهو موحى إليه هو صادق ثم ثانياً بأخص مما قبله، لأن الوحيقد يكون بإنزال قرآن وبغيره وقصة ابن أبي سرح هي دعواه أنه سينزل قرآناً مثل ما أنزل الله وقوله: {مِثْلَمَا أَنَزلَ ٱللَّهُ } لبس معتقده أن الله أنزل شيئاً وإنما المعنى {مِثْلَ مَا أَنَزلَ ٱللَّهُ } على زعمكم وإعادةمن تدل على تغاير مدلوله لمدلول من المتقدمة فالذي قال {سَأُنزِلُ } غير من افترى أو قال: أوحى وإن كانينطلق عليه ما قبله انظلاق العام على الخاص وقوله: {سَأُنزِلُ } وعد كاذب وتسميته إنزالاً مجاز وإنما المعنى سأنظم كلاماًيماثل ما ادعيتم إن الله أنزله، وقرأ أبو حيوة ما نزل بالتشديد وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصينفهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح وغيرهم، وقد ادعى النبوة عالمكثيرون كان ممن عاصرناه ابراهيم الغازازي الفقير ادعى ذلك بمدينة مالقة وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بننصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة وصلبة، وبارقطاش بن قسيم النيلي الشاعر تنبأ بمدينة النيل من أرض العراق وله قرآن صنعهولم يقتل، لأنه كان يضحك منه ويضعف في عقله. {وَلَوْ تَرَى إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } الظالمون عاماندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم. وقيل: أل للعهد أي من اليهود ومن تنبأ وهم الذين تقدم ذكرهم. {وَٱلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْأَيْدِيهِمْ } قال ابن عباس: بالضرب أي ملائكة قبض الروح يضربون وجوههم وأدبارهم عند قبضه وقاله الفراء وليس المراد مجردبسط اليد لاشتراك المؤمنين والكافرين في ذلك وهذا أوائل العذاب وأمارته، وقال ابن عباس أيضاً يوم القيامة، وقال الحسن والضحاك:بالعذاب، وقال الحسن أيضاً: هذا يكون في النار. {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } قال الزمخشري: يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكمأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح الشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلونبهم فعل الغريم المسلط ببسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إليّما لي عليك الساعة وإلا أديم مكاني حتى أنزعه من أصدقائك ومن قال: إن بسط الأيدي هو في النار فالمعنىأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقاً في الدنيا وفي ذلك توقيف وتوبيخ على سالففعلهم القبيح، وقيل هو أمر على سبيل الإهانة والإرعاب وإنهم يمنزلة من تولي إزهاق نفسه. {ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ} أي الهوان، وقرأ عبد الله وعكرمة {عَذَابِ } بالألف وفتح الهاء واليوم من قال: إن هذا في الدنيا كانعبارة عن وقت الإماتة والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع أو الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب فيالبرزخ، ومن قال:إن هذا في القيامة كان عبارة عن يوم القيامة أو عن وقت خطابهم في النار، وأضاف العذاب إلىالهون لتمكنه فيه لأن التنكيل قد يكون على سبيل الزجر والتأديب، ولا هوان فيه وقد يكون على سبيل الهوان.{ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقّ } القول على الله غير الحق يشمل كل نوع من الكفر ويدخلفيه دخولاً أولوياً من تقدم ذكره من المفترين على الله الكذب. {وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } أي عن الأيمانبآياته وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً ولرأيت عجباً وحذفه أبلغ من ذكره وترى بمعنى رأيت لعمله في الظرفالماضي وهو {إِذْ * وَٱلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْ } جملة حالية و{أَخْرِجُواْ } معمول لحال محذوفة أي قائلين أخرجوا وما في بمامصدرية. {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قال عكرمة قال: النضر بن الحارث سوف تشفع في اللاتوالعزى فنزلت: ولما قال {ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } وقفهم على أنهم يقدمون يوم القيامة منفردين لا ناظر لهم محتاجينإليه بعد أن كانوا ذوي خول وشفعاء في الدنيا ويظهر أن هذا الكلام هو من خطاب الملائكة الموكلين بعقابهم، وقيل:هو كلام الله لهم وهذا مبني على أن الله تعالى يكلم الكفار، وهو ظاهر من قوله:

{ فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ }

ومن قوله:

{ فَوَرَبّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ }

و{جِئْتُمُونَا } من الماضي الذي أريد به المستقبل، وقيل: هو ماض علىحقيقته محكي فيقال لهم: حالة الوقوف بين يدي الله للجزاء والحساب، قال ابن عباس: {فُرَادَىٰ } من الأهل والمال والولد،وقال الحسن: كل واحد على حدته بلا أعوان ولا شفعاء، وقال مقاتل: ليس معكم شيء من الدنيا تفتخرون به، وقالالزجاج: كل واحد مفرد عن شريكه وشفيعه، وقال ابن كيسان: {فُرَادَىٰ } من المعبود، وقيل: أعدناكم بلا معين ولا ناصروهذه الأقوال متقاربة لما كانوا في الدنيا جهدوا في تحصيل الجاه والمال والشفعاء جاؤوا في الآخرة منفردين عن كل ماحصلوه في الدنيا، وقرىء فراد غير مصروف، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة فراداً بالتنوين وأبو عمرو ونافع في حكايةخارجة عنهما فردى مثل سكارى كقوله:

{ وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ }

وأنث على معنى الجماعة والكاف في كما في موضعنصب، قيل: بدل من فرادى، وقيل: نعت لمصدر محذوف أي مجيئا {كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ } يريد كمجيئكم يوم خلقناكم وهو شبيهبالانفراد الأول وقت الخلقة فهو تقييد لحالة الانفراد تشبيه بحالة الخلق لأن الإنسان يحلق أقشر لا مال له ولا ولدولا حشم، وقيل: عراة غرلاً ومن قال: على الهيئة التي ولدت عليها في الانفراد يشمل هذين القولين وانتصب أول مرةعلى الظرف أي أول زمان ولا يتقدر أول خلق الله لأن أول خلق يستدي خلقاً ثانياً ولا يخلق ثانياً إنماذلك إعادة لا خلق. {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } أي ما تفضلنا به عليكم في الدنيا لم ينفعكمولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدمتموه لأنفسكم وأشار بقوله: {وَرَاء ظُهُورِكُمْ } إلى الدنيا لأنهم يتركون ما خولوه موجوداً.{وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء } وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وقال مقاتل: كانوايعتقدون شفاعة الملائكة ويقولون:

{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }

و {فيكُمْ } متعلق بشركاء والمعنى فياستعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم، وقيل: جعلوهم شركاء لله باعتبار أنهم يشفعونفيهم عنده فهم شركاء بهذا الاعتبار ويمكن أن يكون المعنى شركاء لله في تخليصكم من العذاب أن عبادتهم تنفعكم كماتنفعكم عبادته، وقيل: فيكم بمعنى عندكم، وقال ابن قتيبة إنهم لي في خلقكم شركاء، وقيل: متحملون عنكم نصيباً من العذاب.{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } قرأ جمهور السبعة {بَيْنِكُمْ } بالرفع على أنه اتسع فيالظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما استعملوه اسماً في قوله:

{ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }

وكما حكى سيبويههو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراويوالمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآيةأو على أنه أريد بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلكبالبين، وقرأ نافع والكسائي وحفص {بَيْنِكُمْ } بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني على الفتح حملاً علىأكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله:

{ يَفْعَلْ ذٰلِكَ }

وخرجه غيره على أن منصوب علىالظرف وفاعل تقطع التقطع، قال الزمخشري: وقع التقطع بينكم كما تقول: جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسنادالفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى. وظاهره ليس بجيد وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إنأسنده إلى صريح المصدر، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقودفيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام، وقيل: الفاعلمضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله: {شُرَكَاء } ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية قال: ويكونالفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره: لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناسمجاهد والسدّي وغيرهما انتهى، وقوله إلى شيء محذوف ليس بصحيح لأن الفاعل لا يحذف، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكمصفة لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر ليأن المسألة من باب الإعمال تسلط على {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في تقطعضمير ما هم الأصنام فالمعنى {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } وضلوا عنكم كما قال تعالى:

{ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلاْسْبَابُ }

أي لم يبق اتصال بينكم وبين {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب سهل لم يتنبهله أحد، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش {مَا * بَيْنِكُمْ } والمعنى تلف وذهب ما {بَيْنِكُمْ } وبين {مَّا كُنتُمْتَزْعُمُونَ } ومفعولاً {تَزْعُمُونَ } محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما كما قال الشاعر

:تـرى حبهــم عــاراً علـيّ وتحسـب    

أي وتحسبه عاراً، ولأبي عبد الله الرازي في هذه الآية كلام يشبه آراء الفلاسفة قال فيآخره وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد انقطعت ولا سبيلإلى تحصيلها مرة أخرى انتهى. وليس هذا مفهوماً من الآية.

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } * { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } * { فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } * { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } * { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } * { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } * { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } * { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ } * { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } * { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } * { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } عدل

آزر اسم أعجمي علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية. الصنم الوثن يقال إنهمعرب شمر والصنم: خبث الرائحة والصنم: العبد القوي وصنم صور وصوّر بنو فلان نوقهم اعزروها. جن عليه الليل وأجن أظلمهذا تفسير المعنى وهو بمعنى ستر متعدياً، قال الشاعر

: وماء وردت قبيل الكرى     وقد جنه السدف الأدهم

والاختيار جن الليل وأجنه ومصدر جن جنون وجنان وجن الكوكب والكوكبة النجموهو مشترك بين معان كثيرة ويقال كوكب توقد، وقال الصاغاني: حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب و ك بعند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ب ولعله تبع فيهالليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية انتهى. وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهممن حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول كلمة، فأما قولهم هندي وهند كي في معنى واحد وهو المنسوب إلىالهند قال الشاعر

: ومقرونة دهم وكمت كأنها     طماطم يوفون الوفاز هنادك

فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هومن باب سبط وسبطر، والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به فإنما سرى إليهمن لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخرما تنسب إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي قندكي وإلى شواء: شوكي وإلى الفرس: الفرسكيوربما أبدلت تاء مكسورة قالوا في النسب إلى جبري: جبرتي، وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عنهذه اللغة المسمى بجلاء الغبش عن لسان الحبش، وكثيراً ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة الحبش في ألفاظ وفي قواعدمن التراكيب نحوية كحروف المضارعة وتاء التأنيث وهمزة التعدية. أفل يأفل أفولاً غاب. وقيل: ذهب وهذا اختلاف في عبارة. وقالذو الرمة

: مصابيح ليست باللواتي يقودها     نجوم ولا بالآفلات الدوالك

القمرمعروف يسمى بذلك لبياضه والأقمر الأبيض وليلة قمراء مضيئة قاله ابن قتيبة. البزوغ أول الطلوع بزغ يبزغ. اقتدى بهاتبعه وجعله قدوة له أي متبعاً. الغمرة الشدة المذهلة وأصلها في غمرة الماء وهي ما يغطي الشيء. قال الشاعر

: ولا ينجي من الغمرات إلا     براكاء القتال أو الفرار

ويجمععلى فعل كنوبة ونوب قال الشاعر

:وحــان لتــالـك الغمــر انحســار    

فرادى: الألف فيه للتأنيث ومعناها فرداًفرداً، ويقال فيه فراد منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم وفراد غير مصروف كآحاد وثلاث وحكاه أبو معاذ، قالأبو البقاء: من صرفه جعل جمعاً مثل تؤام ورخال وهو جمع قليل، قيل: وفرادى جمع فرد بفتح الراء. وقيل: بسكونها،قال الشاعر

: يرى النعرات الزرق تحت لبانه     فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقيل: جمع فريد كرديف وردا في ويقال رجل أفردوا امرأة فردى إذا لم يكن لها أخ وفرد الرجل يفردفروداً إذا انفرد فهو فارد. خوله: أعطاه وملكه وأصله تمليك الخول كما تقول مولته ملكته المال. البين: الفراق. قيل: وينطلقعلى الوصل فيكون مشتركاً. قال الشاعر

: فوالله لولا البين لم يكن الهوى     ولولا الهوى ما حن للبين آلفه

{وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَةً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـٰلٍمُّبِينٍ }. لما ذكر قوله تعالى:

{ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا }

ناسبذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدّهمالأعلى فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدّكم ابراهيم علىأبيه وقومه عبادتها وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف معظمون لإبراهيم عليهالسلام، والظاهر أن آزر اسم أبيه قاله ابن عباس والحسن والسدّي وابن إسحاق وغيرهم، وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانيةتارخ والأقرب أن وزنه فاعل مثل تارخ وعابر ولازب وشالح وفالغ وعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل وهو عطفبيان أو بدل، وقال مجاهد: هو اسم صنم فيكون أطلق على أبي إبراهيم لملازمته عبادته كما أطلق على عبيد اللهبن قيس الرقيات لحبه نساء اسم كل واحدة منهنّ رقية. فقيل ابن قيس الرقيات، وكما قال بعض المحدّثين

: أدعى بأسماء تترى في قبائلها     كأن أسماء أضحت بعض أسمائي

ويكون إذذاك عطف بيان أو يكون على حذف مضاف أي عابد آزر حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو يكون منصوباًبفعل مضمر أي تتخذ آزر، وقيل: إن آزر عم ابراهيم وليس اسم أبيه وهو قول الشيعة يزعمون أن آباء الأنبياءلا يكونون كفاراً وظواهر القرآن ترد عليهم ولا سيما محاورة ابراهيم مع أبيه في غير ما آية، وقال مقاتل: هولقب لأبي ابراهيم وليس اسماً له وامتنع آزر من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل هو صفة، قال الفراء بمعنى المعوجّ. وقالالزجاج: بمعنى المخطىء، وقال الضحاك: الشيخ الهمّ بالفارسية، وإذا كان صفة أشكل منع صرفه ووصف المعرفة به وهو نكرة ووجههالزجاج بأن تزاد فيه أل وينصب على الذمّ كأنه قيل: أذمّ المخطىء، وقيل: انتصب على الحال وهو في حال عوجأو خطأ، وقرأ الجمهور آزر بفتح الراء وأبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء وكونه علماً ولايصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذاً، وفي مصحف أبيّ يا آزر بحرفالنداء اتخذت أصناماً بالفعل الماضي فيحتمل العلمية والصفة، وقرآ ابن عباس أيضاً أزراً تتخذ بهمزة استفهام وفتح الهمزة بعدها وسكونالزاي ونصب الراء منوّنة وحذف همزة الاستفهام من أتتخذ، قال ابن عطية: المعنى أعضدا وقوّة ومظاهرة على الله تتخذ وهوقوله:

{ ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِى }

وقال الزمخشري: هو اسم صنم ومعناه أتعبد أزراً على الإنكار ثم قال: أتتخذأصناماً آلهة تبييناً لذلك وتقريراً وهو داخل في حكم الإنكار لأنه كالبيان له، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو اسماعيل الشاميأإزراً بكسر الهمزة بعد همزة الاستفهام تتخذ، قال ابن عطية: ومعناها إنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة كأنه قال: أوزراًأو مأثماً تتخذ أصناماً ونصبه على هذا بفعل مضمر، وقال الزمخشري: هو اسم صنم ووجهه على ما وجه عليه أأزراًبفتح الهمزة، وقرأ الأعمش إزراً تتخذ بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وبغير همزة استفهام في تتخذ والهمزة فيأتتخذ للإنكار وفيه دليل على الإنكار على من أمر الإنسان بإكرامه إذا لم يكن على طريقة مستقيمة وعلى البداءة بمنيقرب من الإنسان كما قال:

{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاْقْرَبِينَ }

وفي ذكره أصناماً آلهة الجمع تقبيح عظيم لفعلهم واتخاذهم جمعاًآلهة وذكروا أن ابراهيم كان نجاراً منجماً مهندساً وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظى عنده بذلك وكان من قرية تسمىكوثا من سواد الكوفة، قاله مجاهد قيل وبها ولد ابراهيم، وقيل: كان آزر من أهل حرّان وهو تارخ بن ناجوربن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وأراك يحتمل أن تكونبصرية وأن تكون علمية، والظاهر أن تتخذ يتعدّى إلى مفعولين وجوزوا أن يكون بمعنى أتعمل وتصنع لأنه كان ينحتها ويعملهاولما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كأن الضلال صار ظرفاًلهم ومبين واضح ظاهر من أبان اللازمة، قال ابن عطية: ليس بالفعل المتعدّي المنقول من بان يبين انتهى، ولا يمتنعذلك يوضح كفركم بموجدكم من حيث اتخذتم دونه آلهة وهذا الإنكار من ابراهيم على أبيه والإخبار أنه وقومه في ضلالمبين أدل دليل على هداية ابراهيم وعصمته من سبق ما يوهم ظاهر قوله: هذا ربي من نسبة ذلك إليه علىأنه أخبر عن نفسه وإنما ذلك على سبيل التنزل مع الخصم وتقرير ما يبنى عليه من استحالة أن يكون متصفاًبصفات الحدوث من الجسمانية وقبوله التغيرات من البزوع والأفول ونحوها. {وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } هذهجملة اعتراض بين قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } منكراً على أبيه عبادة الأصنام وبين جملة الاستدلال عليهم بإفراد المعبود، وكونهلا يشبه المخلوقين وهي قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } {وَنُرِىَ } بمعنى أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلىاثنين، فالظاهر أنها بصرية. قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى، ويحتاج كون رأي بمعنى عرف ثمتعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى مفعولواحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى مفعولين، وعلى كونها بصرية فقال سلمان الفارسي وابن جبير ومجاهد: فرجتله السموات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل ورأى مقامه في الجنة، قال ابن عطية: فإن صح هذا النقلففيه تخصيص لابراهيم بما لم يدركه غيره قبله ولا بعده؛ انتهى. وروي عن علي عن النبي قال: كشف الله له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين وإذا كانت أبصاراً فليس المعنى مجرد الإبصار ولكن وقعله معها من الاعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره. وفيذلك تخصيص له على جهة التقييد بأهل زمانه وكونها من رؤية القلب، وجوز ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره، قالابن عطية: رأى بها ملكوت السموات والأرض بفكرته ونظره وذلك لا بد متركب على ما تقدّم من رؤيته ببصره وإدراكهفي الجملة بحواسه، وقال الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرّف ابراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض يعني الربوبية والإلهية ونوقفه لمعرفتهماونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره لطريق الاستدلال ونرى حكاية حال ماضية انتهى، والإشارة بذلك إلى الهداية أو ومثل هدايتهإلى توحيد الله تعالى ودعاء أبيه وقومه إلى عبادة الله تعالى ورفض الأصنام أشهدناه ملكوت السموات والأرض، وحكى المهدوي أنالمعنى وكما هديناك يا محمد أرينا ابراهيم وهذا بعيد من دلالة اللفظ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي وكذلك الإنكاروالدعاء إلى الله زمان ادعاء غير الله الربوبية أشهدناه ملكوت السموات والأرض فصار له بذلك اختصاص، قال ابن عباس: جلائلالأمور سرها وعلانيتها، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما رأى ذلك جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله: إنكلا تستطيع هذا فرده لا يرى أعمالهم انتهى، قال الزجاج وغيره: الملكوت الملك كالرغبوت والرهبوت والجبروت وهو بناء مبالغة ومنكلامهم: له ملكوت اليمن والعراق، قال مجاهد: ويعني به آيات السموات والأرض، وقال قتادة: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم وملكوتالأرض: الجبال والشجر والبحار، وقيل: عبادة الملائكة وعصيان بني آدم، وقرأ أبو السمال: ملكوت بسكون اللام وهي لغة بمعنى الملك،وقرأ عكرمة ملكوت بالثاء المثلثة وقال: ملكوثاً باليونانية أو القبطية، وقال النخعي: هي ملكوثاً بالعبرانية وقرىء وكذلك ترى، بالتاء منفوق، {إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ }، برفع التاء، أي تبصره دلائل الربوبية. {وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } أي أريناه الملكوت، وقيل: ثمعلة محذوفة عطفت هذه عليها وقدرت ليقيم الحجة على قومه، وقال قوم: ليستدل بها على الصانع، وقيل: الواو زائدة ومتعلقالموقنين قيل: بوحدانية الله وقدرته، وقيل: بنبوته وبرسالته. وقيل: عياناً كما أيقن بياناً انتقل من علم اليقين إلى عين اليقينكما سأل في قوله:

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ }

والإتقان تقدم تفسيره أول البقرة، وقال أبو عبد الله الرازي:اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا لا يوصف علم الله بكونه يقيناً لأن علمه غيرمسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل، وإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين إذ يحصل بكل واحدمنها نوع تأثير وقوة فتتزايد حتى يجزم. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبّى }. هذهالجملة معطوفة على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } على قول من جعل {وَكَذَلِكَ نُرِى } اعتراضاً وهو قول الزمخشري. قالابن عطية: الفاء في قوله {فَلَمَّا } رابطة جملة ما بعدها بما قبلهاوهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيلالذي في هذه الآية، وقال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ فيدينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكونإلهاً لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها والكواكبالزهرة، قاله ابن عباس وقتادة، أو المشتري، قاله مجاهد والسدي وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء فوزنه فعفلنحو قوقل وهو تركيب قليل، والظاهر أن جواب {لَّمّاً * رَأَى كَوْكَباً } وعلى هذا جوزوا في {قَالَ هَـٰذَا رَبّى} أن يكون نعتاً للكوكب وهو مشكل أو مستأنفاً وهو الظاهر ويجوز أن يكون الجواب {قَالَ هَـٰذَا رَبّى } و{رَأَىكَوْكَباً } حال أي جن عليه الليل رائياً كوكباً وهذا ربي الظاهر أنها جملة خبرية، وقيل هي استفهامية على جهةالإنكار حذف منها الهمزة كقوله

:بســبــع رميــن الجمــر أم بثمــان    

قال ابن الأنباري: وهذا شاذلأنه لا يجوز أن يحذف الحرف إلا إذا كان ثم فارق بين الأخبار والاستخبار وإذا كانت خبرية فيستحيل عليه أنيكون هذا الإخبار على سبيل الاعتقاد والتصميم لعصمة الأنبياء من المعاصي، فضلاً عن الشرك بالله، وما روي عن ابن عباسأن ذلك وقع له في حال صباه وقبل بلوغه وأنه عبده حتى غاب وعبد القمر حتى غاب وعبد الشمس حتىغابت فلعله لا يصح، وما حكي عن قوم أن ذلك بعد البلوغ والتكليف ليس بشيء وما حكوا من أن أمهأخفته في غار وقت ولادته خوفاً من نمروذ أنه أخبره المنجمون أنه يولد ولد في سنة كذا يخرب ملكه علىيديه، وأنه تقدّم إلى أنه من ولد من أنثى تركت ومن ذكر ذبحه إلى أن صار ابن عشرة أعوام، وقيل:خمسة عشر وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب فحكاية يدفعها مساق الآية، وقوله: {إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} وقوله: {تِلْكَ * حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } وتأول بعضهم ذلك على إضمار القول وكثيراً ما يضمر تقديرهقال: يقولون هذا ربي على حكاية قولهم وتوضيح فساده مما يظهر عليه من سمات الحدوث ولا يحتاج هذا إلى الإضماربل يصح أن يكون هذا كقوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِىَ } أي على زعمكم، وقال الزمخشري: {هَـٰذَا رَبّى } قول منينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى منالشغب ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة انتهى، فيكون هذا القول منه استدراجاً لإظهار الحجة وتوسلاً إليها كما توسلإلى كسر الأصنام بقوله:

{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ }

فوافقهم ظاهراً على النظر في النجوموأوهمهم أن قوله إني سقيم ناشىء عن نظره فيها. {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ ٱلاْفِلِينَ } أي لا أحبعبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان المحتجبين بستر فإن ذلك من صفات الأجرام وإنمااحتج بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب، وجاءبلفظ الآفلين ليدل على أن ثم آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول فلا مزية له عليهم في أن يعبدللاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث. {فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبّى } لم يأت في الكواكب رأىكوكباً بازغاً لأنه أولاً ما ارتقب حتى بزغ الكوكب لأنه بإظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإنهلما أوضح لهم أن هذا النير وهو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منهوأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب، والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة فرآه أول طلوعه وهو البزوغ، ثم عمل كذلك فيالشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرماً وأهم نفعاً ومنها يستمد القمر على ما قيل فقال ذلكعلى سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكواكب في صفة الحدوث. {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّمِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالّينَ } القوم الضالون هنا عبدة المخلوقات كالأصنام وغيرها واستدل بهذا من زعم أن قوله: {هَـٰذَا رَبّى }على ظاهره وأن النازلة كانت في حال الصغر، وقال الزمخشري {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } تنبيه لقومه على أن مناتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه. {فَلَماَّ رَأَىٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى هَـٰذَا أَكْبَرُ } المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث فأنثت أولاً على المشهوروذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث وأما منلم ير فيها إلا التأنيث. فقال ابن عطية: ذكر أي هذا المرئي أو النير وقدره الأخفش ، هذا الطالع، وقيل:الشمس بمعنى الضياء قال تعالى:

{ جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء }

فأشار إلى الضياء والضياء مذكر، وقال الزمخشري: جعل المبتدأ مثلالخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك وما كانت أمك، ولم تكن فتنتعم إلا أن قالوا وكاناختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله: علام ولم يقولوا علامة، وإنكان علامة أبلغ احترازاً من علامة التأنيث انتهى، ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارةبين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حينحكى كلام ابراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنّث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه فيكلامهم وحين أخبر تعالى عنها بقوله {بَازِغَةً } و{أَفَلَتْ } أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. {فَلَمَّاأَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ * قَوْمٌ *إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها، ولما أفلت الشمسلم يبق لهم شيء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من إشراكهم، وقال الماتريدي: الاختيار أنيقال: استدل على عدم صلاحيتها للإلهية لغلبة نور القمر نور الزهرة ونور الشمس لنوره وقهرتيك بذاك وهذا بتلك، والرب لايقهر والظلام غلب نور الشمس وقهره انتهى ملخصاً. قال ابن أبي الفضل: ما جاء الظلام إلا بعد ذهاب الشمس فلميجتمع معها حتى يقال قهرها وقهر نورها انتهى، وقال غيره من المفسرين: إنه استدل بما ظهر عليها من شأن الحدوثوالانتقال من حال إلى حال وذلك من صفات الأجسام فكأنه يقول: إذا بان في هذه النيرات الرفيعة أنها لا تصلحللربوبية فأصنامكم التي من خشب وحجارة أحرى أن يتبين ذلك فيها ومثل لهم بهذه النيرات لأنهم كانوا أصحاب نظر فيالأفلاك وتعلق بالنجوم وأجمع المفسرون على أن رؤية هذه النيرات كانت في ليلة واحدة، رأى الكوكب الزهرة أو المشتري علىالخلاف السابق جانحاً للغروب فلما أفل بزغ القمر فهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمرقبلها لانتشار الصباح وخفى نوره ودنا أيضاً من مغربه، فسمي ذلك أفولاً لقربه من الأفول التام على تجوز في التسميةثم بزغت الشمس على ذلك، قال ابن عطية: وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين،وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي وبذلك التجوز في أفول القمر؛ انتهى، والظاهروالذي عليه المفسرون أن المراد من الكوكب والقمر والشمس هو ما وضعته له العرب من إطلاقها على هذه النيرات، وحكيعن بعض العرب ولعله لا يصح عنه أن الرؤية رؤية قلب، وعبر بالكوكب عن النفس الحيوانية التي لكل كوكب وبالقمرعن النفس الناطقة التي لكل فلك، وبالشمس عن العقل المجرد الذي لكل فلك وكان ابن سينا يفسر الأفول بالإمكان فزعمالغزالي أن المراد بأفولها إمكانها لذاتها، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجبالوجود، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركةالثلاثة قاصرة متناهية القوة، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها؛ انتهى، وهذان التفسيران شبيهان بتفسير الباطنية لعنهم الله إذ همالغز ورمز ينزه كتاب الله عنهما ولولا أن أبا عبد الله الرازي وغيره قد نقلهما في التفسير، لأضربت عن نقلهماصفحاً إذ هما مما نجزم ببطلانه ومن تفسير الباطنية الإمامية ونسبوه إلى عليّ أن الكوكب هو المأذون، وهو الداعي والقمراللاحق وهو فوق المأذون بمنزلة الوزير من الإمام والشمس الإمام وابراهيم في درجة المستجيب، فقال للمأذون: هذا ربي عنى ربالتربية للعلم فإنه يربي المستجيب بالعلم ويدعوه إليه، فلما أفل فنى ما عند المأذون من العلم رغب عنه ولزم اللاحقفلما فنى ما عنده رغب عنه وتوجه إلى التالي وهو الصامت الذي يقبل العلم من الرسول الذي يسمى الناطق لأنهينطق بجميع ما ينطق به الرسول فلما فنى ما عنده ارتقى إلى الناطق وهو الرسول وهو المصور للشرائع عندهم؛ انتهىهذا التخليط، واللغز الذي لا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالات والتفسير أن قبل هذا شبيهان بهذا التفسير المستحيلوللمنسوبين إلى الصوف في تفسير كتاب الله تعالى أنواع من هذه التفاسير. قال القشيري: لما جنّ عليه الليل أحاط بهسجوف الطلب ولم يتجل له بعد صباح الوجود فطلع له نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان فقال: هذا ربيثم زيد في ضيائه فطلع قمر العلم وطالعه بسر البيان، فقال: {هَـٰذَا رَبّى } ثم أسفر الصبح ومتع النهار وطلعتشمس العرفان من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان ولا للتجويز حكم ولا للتهمة قرار، فقال: {إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} إذ ليس بعد البعث ريب ولا بعد الظهور ستر انتهى، والعجب كل العجب من قوم يزعمون أن هؤلاء المنسوبينإلى الصوف هم خواص الله تعالى وكلامهم في كتاب الله تعالى هذا الكلام. {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ *ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * حَنِيفاً } أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه بوجهي للذيابتدع العالم محل هذه النيرات المحدثات وغيرها، واكتفى بالظرف عن المظروف لعمومه إذ هذه النيرات مظروف السموات ولما كانت الأصنامالتي يعبدها قومه النيرات ومن خشب وحجارة وذكر ظرف النيرات عطف عليه الأرض التي هي ظرف الخشب والحجارة، و{حَنِيفاً }مائلاً عن كل دين إلى دين الحق وهو عبادة الله تعالى مسلماً أي منقاداً إليه مستسلماً له. {وَمَا أَنَاْمِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } ولما أنكر على أبيه عبادة الأصنام وضلله وقومه، ثم استدل على ضلالهم بقضايا العقول إذ لا يذعنونللدليل السمعي لتوقفه في الثبوت على مقدمات كثيرة وأبدى تلك القضايا منوطة بالحس الصادق تبرأ من عبادتهم وأكد ذلك بأنثم أخبر أنه وجه عبادته لمبدع العالم التي هذه النيرات المستدل بها، بعضه ثم نفى عن نفسه أن يكون منالمشركين مبالغة في التبريء منهم. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى } المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفينفي حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله ونفى الشركاء عنه منكرين لذلكومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليداً وبالتخويف من ما يعبدونه من الأصنام كقول: قوم هود

{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء }

فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه وأنهلا يخاف من آلهتهم، وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام {أَتُحَاجُّونّى } بتخفيف النون وأصله بنونين الأولى علامة الرفعوالثانية نون الوقاية والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ فيذلك، وقال مكي: الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذلا ضرورة تدعو إليه وقول مكي ليس بالمرتضى، وقيل: التخفيف لغة لغطفان، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون أصله أتحاجونني فأدغمهروباً من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ولم يقرأ هناك بالفك وإن كان هو الأصل ويجوز في الكلام، و{فِى ٱللَّهِ} متعلق بأتحاجوني لا بقوله وحاجة قومه والمسألة من باب الإعمال إعمال الثاني فلو كان متعلقاً بالأول لأضمر في الثانيونظير

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ }

والجملة من قوله {وَقَدْ هَدَانَا } حالية أنكر عليهم أن تقعمنهم محاجة له وقد حصلت من الله له الهداية لتوحيده فمحاجتهم لا تجدي لأنها داحضة. {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَبِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً } حكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام: أما خفت أن تصيبك آلهتنا ببرصأو داء لإذايتك لها وتنقيصك فقال لهم: لست أخاف الذي تشركون به لأنه لا قدرة له ولا غنى عنده و{مَا} بمعنى الذي والضمير في «به» عائد عليه رأي الذي تشركون به الله تعالى ويجوز ىن يعود على الله أي: الذي تشركونه بالله في الربوبية {وَإِلاَّ * أَن يَشَاء رَبّى } قال ابن عطية استثناء ليس من الأول ولماكانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريد بضر انتهى، فيكون استنثاءً منقطعاً وبهقال الحوفي فيصير المعنى لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف وقال الزمخشري إلا أن يشاء ربي إلا وقت مشيئة ربيشيئاً يخاف فحذف الوقت يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر ولا على مضرة إلا أن يشاءربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً أستوجب به إنزال المكروه مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة منالشمس والقمر، أو يجعلها قادرة على مضرتي انتهى، فيكون استثناءً متصلاً من عموم الأزمان الذي تضمنه النفي وجوز أبو البقاءأن يكون متصلاً ومنقطعاً إلا أنه جعله متصلاً مستثنى من الأحوال وقدره إلا في حال مشيئة ربي أي لا أخافهافي كل حال إلا في هذه الحال، وانتصب شيئاً على المصدر أي مشيئة أو على المفعول به. {وَسِعَ رَبّىكُلَّ شَىْء عِلْماً } ذكر عقيب الاستثناء سعة علم الله في تعلقه بجميع الكوائن فقد لا يستبعد أن يتعلق علمهبإنزال المخوف بي إما من جهتها إن كان استثناءً متصلاً أو مطلقاً إن كان منقطعاً وانتصب علماً على التمييز المحولمن الفاعل، أصله وسع علم ربي كل شيء. {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لايضر ولا ينفع، وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصنام للربوبية.وقال الزمخشري: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز، وقيل: أفلا تتعظون بما أقول لكم، وقال عبد اللهالرازي: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب. {وَكَيْفَ أَخَافُمَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـٰناً } استفهام معناه التعجب والإنكار كأنه تعجبمن فساد عقولهم حيث خوفوه خشباً وحجارة لا تضر ولا تنفع، وهم لا يخافون عقبي شركهم بالله وهو الذي بيدهالنفع والضر والأمر كله {وَلاَ تَخَافُونَ } معطوف على {أَخَافُ } فهو داخل في التعجب والإنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبةإلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله تعالى تركاً للمقابلة، ولئلا يكون الله عديل أصنامهم لو كانالتركيب ولا تخافون الله تعالى وأتى بلفظ {مَا } الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي حجارةوخشب وكواكب، والسلطان الحجة والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه لما أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم،نفى أيضاً أن يكون على ذلك دليل سمعي فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلاً وسمعاً فوجب اطراحه، وقرىء سلطاناً بضم اللاموالخلاف هل ذلك لغة فيثبت به بناء فعلان بضم الفاء والعين أو هو اتباع فلا يثبت به. {فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِأَحَقُّ بِٱلاْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف أبرز الاستفهام في صورةالاحتمال وإن كان قد علم قطعاً أنه هو الآمن لاهم كما قال الشاعر

: فلئن لقيتك خاليين لتعلمن     أني وايك فارس الأحزاب

أي أينا ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطبوأضاف أيا إلى الفريقين، ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تجريدنفسه فيكون ذلك تزكية لها، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحقبالأمن. {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } الظاهر أنه من كلام إبراهيم لمااستفهمهم استفهام عالم بمن هو الآمن وأبرزه في صورة السائل الذي لا يعلم استأنف الجواب عن السؤال، وصرح بذلك المحتملفقال: الفريق الذي هو أحق بالأمن هم الذين آمنوا، وقيل: هو من كلام قوم إبراهيم أجابوا بما هو حجة عليهم،وقيل: هو من كلام الله أمر إبراهيم أن يقوله لقومه أو قاله على جهة فصل القضاء بين خلقه وبين منحاجه قومه، واللبس الخلط والذين آمنوا: ابراهيم وأصحابه وليست في هذه الأمة قاله علي وعنه ابراهيم خاصة أو من هاجرإلى المدينة، قاله عكرمة أو عامة قاله بعضهم وهو الظاهر، والظلم هنا الشرك قاله ابن مسعود وأبيّ، وعن جماعة منالصحابة أنه لما نزلت أشفق الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله : إنما ذلك كما قال لقمان: {إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ولما قرأها عمر عظمت عليه فسأل أبياً فقال: إنه الشركيا أمير المؤمنين فسرى عنه وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبيّ، وقرأ مجاهد: {وَلَمْيَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ } بشرك ولعل ذلك تفسير معنى إذ هي قراءة تخالف السواد، وقال الزمخشري: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصيةتفسقهم وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس انتهى، وهذه دفينة اعتزال أي إن الفاسق، ليس له الأمن إذا مات مصراًعلى الكبيرة، وقوله: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس هذا رد على من فسر الظلم بالكفر، والشرك وهم الجمهور وقدفسره الرسول بالشرك فوجب قبوله ولعل الزمخشري لم يصح له ذلك عن الرسول، وإنما جعله يأباهلفظ اللبس لأن اللبس هو الخلط فيمكن أن يكون الشخص في وقت واحد مؤمناً عاصياً معصية تفسقه، ولا يمكن أنيكون مؤمناً مشركاً في وقت واحد {وَلَمْ يَلْبِسُواْ } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل أن يكون حالاً دخلتواو الحال على الجملة المنفية بلم كقوله تعالى:

{ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ }

وما ذهب إليهابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضميريعود على ذي الحال خطأ بل ذلك قليل وبغير الواو كثير على ذلك لسان العرب، وكلام الله، وقرأ عكرمة: {وَلَمْيَلْبِسُواْ } بضم الياء ويجوز في {ٱلَّذِينَ } أن يكون خبر مبتدأ محذوف وأن يكون خبره المبتدأ والخبر الذي هو{أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ } وأبعد من جعل لهم الأمن خبر الذين وجعل أولئك فاصلة وهو النحاس والحوفي. {وَتِلْكَ حُجَّتُنَاءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } الإشارة بتلك إلى ما وقع به الاحتجاج من قوله {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } إلىقوله {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } وهذا الظاهر، وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم و{ءاتَيْنَـٰهَا} أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية، أو {ءاتَيْنَـٰهَا } بوحي منا ولقناه إياها وإنأعربت وتلك مبتدأ وحجتنا بدلاً {*وآتيناها}خيرا لـ(تلك) لم يخبر أن يتعلق (على قومه) بـ(حجتنا) كذا ابدأ(وتلك حجتنا) مبتدأ وخبر{*وآتيناها} حالالعامل فيها اسم الإشارة لأن الحجة ليست مصدراً وإنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء ولو جعلناه مصدراً مجازاً لميجز ذلك أيضاً لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه، وأجاز الحوفي أن يكون{حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا }في موضع النعت لحجتنا والنية فيها الانفصال والتقدير: وتلك حجة لنا آتيناها انتهى، وهذا بعيد جداً. وقال الحوفي: وهاء مفعولأول وإبراهيم مفعول ثان وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي، وأما مذهب الجمهور فالهاء مفعول ثان وابراهيم مفعول أول، وقالالحوفي وابن عطية {عَلَىٰ قَوْمِهِ } متعلق {*بآتيناها}. قال ابن عطية أظهرناها لإبراهيم على قومه، وقال أبو البقاء: بمحذوف تقديرهحجة على قومه ودليلاً، وقال الزمخشري: {ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ } أرشدناه إليها ووفقناه لها وهذا تفسير معنى، ويجوز أن يكونفي موضع الحال وحذف مضاف أي {إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ } مستعلية على حجج قومه قاهرة لها. {نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء} أي مراتب ومنزلة من نشاء وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالمعرفة أو بالرسالة أو بحسن الخلق أو بخلوص العملفي الآخرة أو بالنبوة والحكمة في الدنيا أو بالثواب والجنة في الآخرة، أو بالحجة والبيان، أقوال أقر بها الأخير لسياقالآية ونوّن درجات الكوفيون وأضافها الباقون ونصبوا المنون على الظرف أو على أنه مفعول ثان، ويحتاج هذا القول إلى تضميننرفع معنى ما يعدّي إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي {حَكِيمٌ }في تدبير عباده {عَلِيمٌ } بأفعالهم أو حكيم في تقسيم عباده إلى عابد صنم وعابد الله {عَلِيمٌ } بما يصدربينهم من الاحتجاج، ويحتمل أن يكون الخطاب في {إِنَّ رَبَّكَ } للرسول ويحتمل أن يكون المراد به إبراهيم فيكون منباب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } {إِسْحَـٰقَ} ابنه لصلبه من سارة و{يَعْقُوبَ } ابن إسحاق كما قال تعالى:

{ فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ }

وعدد تعالى نعمه على إبراهيم فذكر إيتاءه الحجة على قومه، وأشار إلى رفع درجاته وذكر ما منّ به عليه منهبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسلولم يذكر إسماعيل مع إسحاق. قيل: لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ولم يخرجمن صلب إسماعيل نبي إلا محمد ولم يذكره في هذا المقام لأنه أمره عليه السلام أنيحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن جدّهم إبراهيم لما كان موحداً لله متبرئاً من الشرك رزقه الله أولاًملوكاً وأنبياء، والجملة من قوله: {وَوَهَبْنَا } معطوفة على قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا } عطف فعلية على اسمية، وقال ابن عطية:{وَوَهَبْنَا } عطف على {ءاتَيْنَـٰهَا } انتهى. ولا يصح هذا لأن {ءاتَيْنَـٰهُمُ } لها موضع من الإعراب إما خبر. وإماحال ولا يصح في {وَوَهَبْنَا } شيء منهما. {كُلاًّ هَدَيْنَا } أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا.{وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } لما ذكر شرف أبناء إبراهيم ذكر شرف آبائه فذكر نوحاً الذي هو آدم الثاني وقال:{مِن قَبْلُ } تشبيهاً على قدمه وفي ذكره لطيفة وهي أن نوحاً عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه، وقومه أولقوم عبدوا الأصنام ووحد هو الله تعالى ودعا إلى عبادته ورفض تلك الأصنام وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومهحيث قالوا:

{ لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً }

وكان إبراهيم عبدت الأصنامفي زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كما هدى إبراهيم. {*}وكان إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كماهدى إبراهيم. {وَمِن ذُرّيَّتِهِ * دَاوُودُ * وَسُلَيْمَـٰنَ } قيل: ومن ذرية نوح عاد الضمير عليه لأنه أقرب مذكورولأن في جملتهم لوطاً وهو ابن أخي ابراهيم فهو من ذرية نوح لا من ذرية ابراهيم، وقيل: ومن ذرية ابراهيمعاد الضمير عليه لأنه المقصود بالذكر، قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية ابراهيم وإن كان فيهم منلا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب، لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العمّ أباً، وقال أبو سليمانالدمشقي: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة انتهى. قالوا: والمعنى وهدينا أو ووهبنا {مِنْ * ذُرّيَّتَهُ * دَاوُودُ * وَسُلَيْمَـٰنَ} وقرنهما لأنهما أب وابن ولأنهما ملكان نبيان وقدم داود لتقدمه في الزمان ولكونه صاحب كتاب ولكونه أصلاً لسليمان وهوفرعه. {وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ } قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له ويوسف بالبلاء بالسجن ولغربتهعن أهله، وفي مآلهما بالسلامة والعافية، وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان. {وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ } قرنهما لاشتراكهما في الأخوةوقدّم موسى لأنه كليم الله. {وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيريننجزي من كان محسناً في عبادتنا مراقباً في أعماله لنا. {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ } قرن بينهم لاشتراكهم فيالزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وبدأ بزكريا ويحيـى لسبقهما عيسى في الزمان وقدّم زكريا لأنه والد يحيـى فهو أصل، ويحيـىفرع وقرن عيسى وإلياس لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد وقدّم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة، وتقدّم ذكر أنسابهؤلاء الأنبياء إلا إلياس وهو إلياس بن بشير بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران، وروي عن ابن مسعودأن ادريس هو الياس ورد ذلك بأن إدريس هو جد نوح عليهما السلام تظافرت بذلك الروايات، وقيل: الياس هو الخضروتقدّم خلاف القرّاء في زكريا مداً وقصراً، وقرأ ابن عباس باختلاف عنه والحسن وقتادة بتسهيل همزة إلياس وفي ذكر عيسىهنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية، وسواء كانالضمير في {وَمِن ذُرّيَّتِهِ } عائداً على نوح أو على إبراهيم فنقول: الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم همامن ذرية رسول الله وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيـى بن يعمر على ذلك، وكانالحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه.{كُلٌّ مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } لا يختص كل بهؤلاء الأربعة، بل يعم جميع من سبق ذكره من الأربعة عشر نبياً.{وَإِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً } المشهور أن إسماعيل هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده، وقيل: هو نبي منبني إسرائيل كان زمان طالوت وهو المعنى بقوله

{ إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله }

واليسع قال زيد بن أسلم: هو يوشع بن نون، وقال غيره: هو اليسع بن أخطوب بن العجوز، وقرأ الجمهورواليسع كأن أل أدخلت على مضارع وسع، وقرأ الأخوان والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم واختلف فيه أهو عربي أمعجمي، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال: إنه عربي فقال: هو مضارع سمي به ولا ضمير فيه فأعرب ثمنكر وعرف بأل، وقيل سمي بالفعل كيزيد ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذاً كاليزيد في قوله

:رأيـت الوليــد بــن اليزيــد مباركــاً    

ولزمت كما لزمت في الآن، ومن قال: إنه أعجمي فقال: زيدت فيه أل ولزمتشذوذاً، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو عليّ الفارسي وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أن ألفهي كهي في الحارث والعباس، لأنهما من أبنية الصفات لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما عليه الأسماء الأعجمية إذلم يجيء فيها شيء على هذا الوزن كما لم يجيء فيها شيء فيه أل للتعريف، وقال أبو عبد الله بنمالك الجياني، ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسموأل، فإن الأغلب ثبوت أل فيه وقديجوز أن يحذف فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة واتضح من قوله: إن اليسع ليس منقولاً من فعل كماقال بعضهم، وتقدّم أنه قال: يونس بضم النون وفتحها وكسرها وكذلك يوسف وبفتح النون وسين يوسف قرأ الحسن وطلحة ويحيـىوالأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن وإنما جمع هؤلاء الأربعة لأنهم لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياعفهذه مراتب ست: مرتبة الملك والقدرة ذكر فيها داود وسليمان، ومرتبة البلاء الشديد، ذكر فيها أيوب، ومرتبة الجمع بين البلاءوالوصول إلى الملك ذكر فيها يوسف، ومرتبة قوة البراهين والمعجزات والقتال والصولة ذكر فيها موسى وهارون، ومرتبة الزهد الشديد والانقطاععن الناس للعبادة ذكر فيها زكريا ويحيـى وعيسى وإلياس، ومرتبة عدم الاتباع ذكر فيها إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً، وهذه الأسماءأعجمية لا تجر بالكسرة ولا تنون إلا اليسع فإنه يجر بها ولا ينون وإلا لوطاً فإنه مصروف لخفة بنائه بسكونوسطه، وكونه مذكراً وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية وقد تحاشى المسلمون هذاالاسم الشريف، فقلّ من تسمى به منهم كأبي مخنف لوط بن يحيـى، ولوط النبي هو لوط بن هارون بن آزروهو نارخ وتقدّم رفع نسبه. {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء خلافاًلبعض من ينتمي إلى الصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفتوح المكيةوعنقاء مغرب وغيرهما من كتب الضلال، وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى اللهتعالى فيندرج في العموم الملائكة. قال ابن عطية: معناه عالمي زمانهم. {وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ } المجرور في موضعنصب. فقال الزمخشري: عطفاً على {كَلاَّ } بمعنى وفضلنا بعض آبائهم، وقال ابن عطية: وهدينا {مِنْ ءابَائِهِمْ * وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ} جماعات فمن للتبعيض والمراد من آمن نبياً كان أو غير نبي ويدخل عيسى في ضمير قوله: {وَمِنْ ءابَائِهِمْ }ولهذا قال محمد بن كعب: الخال والخالة انتهى، {وَمِنْ ءابَائِهِمْ } كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح {وَذُرّيَّـٰتِهِمْ } كذرية نوحعليه السلام المؤمنين {وَإِخْوٰنِهِمْ } كإخوة يوسف ذكر الأصول والفروع والحواشي. {وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ وَهَدَيْنَـٰهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الظاهر عطف{وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ } على {فَضَّلْنَا } أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح للهداية السابقة، وأنها هداية إلى طريق الحق المستقيمالقويم الذي لا عوج فيه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك. {ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءمِنْ عِبَادِهِ } أي ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هو هدى الله، وقال ابن عطية: ذلك إشارة إلى النعمة فيقوله {وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ } انتهى، وفي الآية دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى. {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْيَعْمَلُونَ } أي {وَلَوْ أَشْرَكُواْ } مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم كماقال تعالى:

{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }

وفي قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ } دلالة على أن الهدى السابق هو التوحيدونفي الشرك. {أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } لما ذكر أنه تعالى فضلهم واجتباهم وهداهم ذكر ما فضلوابه، والكتاب: جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، والحكم: الحكمة أو الحكم بين الخصوم أو ما شرعوه أوفهم الكتاب أو الفقه في دين الله أقوال، وقال أبو عبد الله الرازي: {ٱلْكِتَـٰبَ مِن } هي رتبة العلم يحكمونبها على بواطن الناس وأرواحهم و{لِحُكْمِ } مرتبة نفوذ الحكم بحسب الظاهر و{ٱلنُّبُوَّةَ } المرتبة الثالثة وهي التي يتفرع علىحصولها حصول المرتبتين فالحكام على الخلق ثلاث طوائف. انتهى ملخصاً. {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْبِهَا بِكَـٰفِرِينَ } الظاهر أن الضمير في {بِهَا } عائد إلى النبوة لأنها أقرب مذكور، وقال الزمخشري: {بِهَا } بالكتابوالحكم والنبوة فجعل الضمير عائداً على الثلاثة وهو أيضاً له ظهور، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلكالعصر، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي وغيرهم، وقال الزمخشري: {هَـؤُلاء } يعني أهل مكة انتهى وقال السدّي، وقال الحسن: أمّةالرسول ومعنى {وَكَّلْنَا } أرصدنا للإيمان بها والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقومبه ويتعهده ويحافظ عله، والقوم الموكلون بها هنا هم الملائكة قاله أبو رجاء، أو مؤمنوا أهل المدينة قاله ابن عباسوقتادة والضحاك والسدي، وقال الزمخشري: {قَوْماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } انتهى.وهو قول الحسن وقتادة أيضاً قالا: المراد بالقوم من تقدّم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقيل: الأنبياء الثمانية عشر المتقدم ذكرهمواختاره الزجاج وابن جرير لقوله بعد {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ }. وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: كل من آمن بالرسول، وقالمجاهدهم الفرس والآية وإن كان قد فسر بها مخصوصون فمعناها عام في الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة. {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَهَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } الإشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتدىبهداهم، والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك، فالمعنى فبطريقتهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دونالشرائع، فإنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ فإذا نسخت لم تبق هدى بخلافأصول الدين فإنها كلها هدى أبداً. وقال تعالى:

{ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً }

وقال ابن عطية: ويحتمل أنتكون الإشارة بأولئك إلى {*وقوما} وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم على بعضها انتهى، ويعني أنه إذا فسرالقوم بالأنبياء المذكورين أو بالملائكة فيمكن أن تكون الإشارة إلى قوم وإن فسروا بغير ذلك فلا يصح، وقيل: الاقتداء فيالصبر كما صبر من قبله، وقيل: يحمل على كل هداهم إلا ما خصه الدليل، وقيل: في الأخلاق الحميدة من الصبرعلى الأذى والعفو، وقال: في ريّ الظمآن أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر بتوبة آدم وشكرنوح ووفاء إبراهيم وصدق وعد إسماعيل وحلم إسحاق وحسن ظنّ يعقوب؟ واحتمال يوسف وصبر أيوب وإثابة داود وتواضع سليمان وإخلاصموسى وعبادة زكريا وعصمة يحيـى وزهد عيسى، وهذه المكارم التي في جميع الأنبياء اجتمعت في الرسول وعليهم أجمعين ولذلك وصفه تعالى بقوله:

{ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }

وقال الزمخشري: {فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } فاختص هداهمبالاقتداء ولا يقتدى إلا بهم، وهذا بمعنى تقديم المفعول وهذا على طريقته في أن تقديم المفعول يوجب الاختصاص وقد رددناعليه ذلك في الكلام على

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }

وقرأ الحرميان وأهل حرميهما وأبو عمرو اقتده بالهاء ساكنة وصلاً ووقفاًوهي هاء السكت أجر وهاء وصلاً مجراها وقفاً، وقرأ الأخوان بحذفها وصلاً وإثباتها وقفاً وهذا هو القياس، وقرأ هشام اقتدهباختلاس الكسرة في الهاء وصلاً وسكونها وقفاً، وقرأ ابن ذكوان بكسرها ووصلها بياء وصلاً وسكونها وقفاً ويؤول على أنها ضميرالمصدر لا هاء السكت، وتغليظ ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه وتأويلها على أنهاها، السكت ضعيف. {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْعَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَـٰلَمِينَ } أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم. {أَجْراً } أيأجرة أتكثر بها وأخص بها إن القرآن إلا ذكرى موعظة لجميع العالمين. {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء } نزلت في اليهود قاله ابن عباس ومحمد بن كعب، أو في مالكبن الصيف اليهودي إذ قال له الرسول: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال: نعم. قال: فأنت الحبر السمين فغضب ثم قال: ما أنزل الله على بشر منشيء قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة، أو في فنحاص بن عازورا منهم قاله السدي، أو في اليهود والنصارى قالهقتادة، أو في مشركي العرب قاله مجاهد، وغيره، وبعضهم خصة عنه بمشركي قريش وهي رواية ابن أبي نجيح عنه، وفيرواية ابن كثير عن مجاهد أن من أولها إلى {مِن شَىْء } في مشركي قريش وقوله: {أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } فياليهود ولما ذكر تعالى عن إبراهيم دليل التوحيد وتسفيه، رأى أهل الشرك وذكر تعالى ما منّ به على إبراهيم منجعل النبوة في بنيه وأن نوحاً عليه السلام جدّه الأعلى كأن الله تعالى قد هداه وكان مرسلاً إلى قومه وأمرتعالى الرسول بالاقتداء بهدى الأنبياء أخذ في تقرير النبوّة والردّ على منكريّ الوحي فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وأصل القدر معرفة الكمية يقال: قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقدار يقدره بالضم قدراً وقدراً ومنهفإن غم عليكم فاقدروا له أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم توسع فيه حتى قيل: لكل من عرف شيئاً هو يقدرقدره ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته، قال ابن عباس والحسن واختاره الفراء وثعلب والزُّجاج معناه ما عظموا اللهحق تعظيمه، وقال أبو عبيدة والأخفش: ما عرفوه حق معرفته، قال الماتريدي: ومن الذي يعظم الله حق عظمته أو يعرفهحق معرفته؟ قالت الملائكة: ما عبدناك حق عبادتك والرسول يقول: لا أحصي ثناءً عليك وينفصل عن هذا أن يكون المعنى: ما عظموه العظمة التي في وسعهم وفي مقدورهم وما عرفوه كذلك، وقال أبو العالية:واختاره الخليل بن أحمد معناه: ما وصفوه حق صفته فيما وجب له واستحال عليه وجاز، وقال ابن عباس أيضاً: ماآمنوا بالله حق إيمانه وعلموا أن الله على كل شيء قدير، وقال أبو عبيدة أيضاً: ما عبدوه حق عبادته، وقيل:ما أجلُّوه حق إجلاله حكاه ابن أبي الفضل في ريّ الظمآن وهو بمعنى التعظيم، وقال ابن عطية: من توفية القدرفهي عامّة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك غير أن تعليله بقولهم: {أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ }يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل، وقال الزمخشري: ما عرفوا الله حق معرفتهفي الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجل نعمته

{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ }

أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم ولم يخافوه حينجسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة، والقائلون هم اليهود بدليل قراءة من قرأ {تَجْعَلُونَهُ } بالتاء وكذلك {تُبْدُونَهَا} و{تَخَـٰفُونَ } وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله فألزموا مالا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى. انتهى، والضمير في {وَمَا قَدَرُواْ } عائد على منأنزلت الآية بسببه على الخلاف السابق ويلزم من قال: إنها في بني إسرائيل أن تكون مدنية ولذا حكى النقاش أنهامدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي {مَا قَدَرُواْ } بالتشديد {حَقَّ قَدْرِهِ } بفتح الدال وانتصب {حَقَّ قَدْرِهِ } على المصدروهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر، والعامل في إذ قدروا وفيكلام ابن عطية ما يشعر أن إذ تعليلاً. {قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِى جَاء بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ} إن كان المنكرون بني إسرائيل فالاحتجاج عليهم واضح لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى وإن كانوا العرب فوجه الاحتجاجعليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول، نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم وكانوا يقولون: لو أناأنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، وقال أبو حامد الغزالي: هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلكلأن حاصله يرجع إلى أن موسى عليه السلام أنزل عليه شيء واحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتجمن الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر، وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسبصحة المقدمة، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة وهي قولهم: {مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء} فوجب القول بكونها كاذبة فتمت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني منالأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف، انتهى كلامه. وفي الآية دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلكأنه نقض قولهم: {أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ } بقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } فلو لم يكن النقض دليلاً على فسادالكلام لما كانت حجة مفيدة لهذا المطلوب، والكتاب هنا التوراة وانتصب نوراً وهدى على الحال والعامل أنزل أو جاء.{تَجْعَلُونَهُ قَرٰطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } التاء قراءة الجمهور في الثلاثة، وظاهره أنه لبني إسرائيل والمعنى: {تَجْعَلُونَهُ } ذا {قَرٰطِيسَ}، أي أوراقاً وبطائق، {وَتُخْفُونَ كَثِيراً } كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها، وأدرجتعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض، فقيل: جاء به موسى وهونور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء، وتتناسق قراءة التاء مع قوله: {عَلِمْتُمُ }ومن قال: إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال:خلال السؤال والجواب: تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكاً لنظم الآية وتركيبها، حيثجعل الكلام أولاً خطاباً مع الكفار وآخراً خطاباً مع اليهود وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول،جاء بعض الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة.{وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم، بأنعلموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به لأن آباءهم كانوا علموا أيضاً وعلم بعضهم وليس كذلك آباءالعرب، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم، وقيل: الخطاب للعرب، قاله مجاهد ذكر الله منته عليهمأي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين {وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } وقيل: الخطابلمن آمن من اليهود، وقيل: لمن آمن من قريش وتفسير {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ } يتخرج على حسب المخاطبين التوراة أودين الإسلام وشرائعه أو هما أو القرآن، قال الزمخشري: الخطاب لليهود أي علمتم على لسان محمد مما أوحي إليه {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ } وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أنهذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش

{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ }

انتهى. {قُلِ ٱللَّهُ } أمره بالمبادرة إلى الجواب أي قل الله أنزله فإنهم لا يقدرونأن يناكروك، لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أنيعترف بأن منزله هو الله سواء أقرّ الخصم بها أم لم يقر، ونظيره:

{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ }

قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله انتهى،ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه. {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ } حال من مفعول ذرهم أيمن ضمير {لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرٰطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِىخَوْضِهِمْ } و{فِى خَوْضِهِمْ } متعلق بـ{ذَرْهُمْ } أو بـ{يَلْعَبُونَ } أو حال من {يَلْعَبُونَ } وظاهر الأمر أنه موادعةفيكون منسوخاً بآيات القتال وإن جعل تهديداً أو وعيداً خالياً من موادعة فلا نسخ. {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ }أي وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً وحاجهم بما لايقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة، ولما كان الإنكار إنما وقععلى الإنزال فقالوا: {أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ }، وقيل: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } كان تقديم وصفه بالإنزال أكد من وصفهبكونه مباركاً ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعاً فصارت الصفة بكونه مباركاً، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ماقبلها، فأما قوله:

{ وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـٰهُ }

فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئاً بل جاءعقب قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَاء * وَذِكْرَىٰ * لّلْمُتَّقِينَ }

ذكر أن الذي آتاه الرسولهو ذكر مبارك ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل، ولما كان وصفه بالبركة وصفاً لا يفارق عبربالاسم الدال على الثبوت. {مُّصَدّقُ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من كتب الله المنزلة، وقيل التوراة، وقيل البعث، قالابن عطية: وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة. {وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } أم القرىمكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ودحو الأرض منها ولأنها وسط الأرض ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضعللناس، والمعنى: {وَلِتُنذِرَ } أهل {أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس، وقيل: العرب وقداستدل بقوله: {أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } طائفة من اليهود زعموا أنه رسول إلى العرب فقط، قالوا: {وَمَنْ حَوْلَهَا }هي القرى المحيطة بها وهي جزيرة العرب، وأجيب بأن {وَمَنْ حَوْلَهَا } عام في جميع الأرض ولو فرضنا الخصوص لميكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم وهو ضعيف، وحذف أهل الدلالة المعنىعليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله:

{ وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ }

لأن القرية لا نسأل ولم تحذف من فيعطف {حَوْلَهَا }على {أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أمالقرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عنالظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها، وقرأ أبوبكر لينذر أي القرآن بمواعظه وأوامره، وقرأ الجمهور {وَلِتُنذِرَ } خطاباً للرسول والمعنى {وَلِتُنذِرَ } به أنزلناه فاللام تتعلق بمتأخرمحذوف دل عليه ما قبله، وقال الزمخشري: {وَلِتُنذِرَ } معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلنا للبركاتوتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. {وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الظاهر أن الضمير في {بِهِ } عائدعلى الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشراً ونشراً وجزافء تؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيدوالتبشير والتهديد، إذ ليس فيه كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا مافي هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث، والمعنى: يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعثولا يؤمنون بالقرآن واكتفى بذكر الإيمان بالبعث وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخروالقدر لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث، أن من آمن بالبعث آمنبهذا الكتاب وأصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن، وقيل: يعود الضمير على رسول الله. {وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } خص الصلاة لأنها عماد الدين ومن حافظ عليها كان محافظاًعلى أخواتها ومعنى المحافظة المواظبة على أدائها في أوقاتها على أحسن ما توقع عليه والصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان باللهولذلك لم يوقع اسم الإيمان على شيء من العبادات إلا عليها قال تعالى:

{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ }

أي صلاتكم ولم يقع الكفر على شيء من المعاصي إلا على تركها. روي: من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر وقرأ الجمهور {عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ } التوحيد والمراد به الجنس وروى خلف عن يحيـى عن أبي بكر صلواتهم بالجمع ذكرذلك أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي في كتاب الروضة من تأليفه وقال تفرد بذلك عن جميع الناس.{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ} ذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث قيل: وفي المستهزئين معه لأنه عارض القرآن بقوله: والزارعاتزرعاً والخابزات خبزاً والطابخات طبخاً والطاحنات طحناً واللاقمات لقماً إلى غير ذلك من السخافات، وقال قتادة وغيره: المراد بها مسيلمةالحنفي والأسود العنسي وذكروا رؤية الرسول للسوارين، وقال الزمخشري: وهو مسيلمة الحنفي أو كذاب صنعاء الأسودالعنسي. وقال السدي: المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أخو عثمان من الرضاعة كتب آية {قَدْأَفْلَحَ } بين يدي الرسول فلما أمل عليه {ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } عجب من تفصيلخلق الإنسان فقال:

{ فتبارك الله أحسن الخالقين }

فقال الرسول: اكتبها فهكذا أنزلت فتوهم عبد الله ولحقبمكة مرتداً وقال: أنا أنزل مثل ما أنزل الله، وقال عكرمة: أولها في مسيلمة وآخرها في ابن أبي سرح ورويعنه أنه كان إذا أملي عليه

{ سَمِيعاً عَلِيماً }

كتب هو عليماً حكيماً وإذا قال: عليماً حكيماً كتب هوغفوراً رحيماً، وقال شرحبيل بن سعد: نزلت في ابن أبي سرح ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله ارتد ودخلالرسول مكة عام الفتح فغيبه عثمان وكان أخاه من الرضاعة حتى اطمأن أهل مكة ثم أتىبه الرسول فاستأمن له الرسول فمنه. انتهى، وقد ولاه عثمان بن عفان في أيامه وفتحت على يديه الأمصار ففتح أفريقيةسنة إحدى وثلاثين وغزا الأساود من أرض النوبة وهو الذي هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم وغزا الصواري من أرض الروموكان قد حسن إسلامه ولم يظهر عليه شيء ينكر عليه وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش وفارس بني عامربن لؤي وأقام بعسقلان، قيل: أو الرملة فاراً من الفتنة حين قتل عثمان ومات بها سنة ست، قيل: أو سبعوثلاثين ودعا ربه فقال: اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فقبض آخر الصبح وقد سلم عن يمينه وذهب يسلم عنيساره وذلك قبل أن يجتمع الناس على معاوية. ولما ذكر القرآن وأنه كتاب منزل من عنده مبارك أعقبه بوعيدمن ادعى النبوة والرسالة على سبيل الافتراء، وتقدم الكلام على {وَمَنْ أَظْلَمُ } وفسروه بأنه استفهام معناه النفي أي لاأحد أظلم وبدأ أولاً بالعام وهو افتراء الكذب على الله وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أوغيره ثم ثانياً بالخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء } جملة حالية أوغير موحى إليه لأن من قال أوحي إليّ وهو موحى إليه هو صادق ثم ثانياً بأخص مما قبله، لأن الوحيقد يكون بإنزال قرآن وبغيره وقصة ابن أبي سرح هي دعواه أنه سينزل قرآناً مثل ما أنزل الله وقوله: {مِثْلَمَا أَنَزلَ ٱللَّهُ } لبس معتقده أن الله أنزل شيئاً وإنما المعنى {مِثْلَ مَا أَنَزلَ ٱللَّهُ } على زعمكم وإعادةمن تدل على تغاير مدلوله لمدلول من المتقدمة فالذي قال {سَأُنزِلُ } غير من افترى أو قال: أوحى وإن كانينطلق عليه ما قبله انظلاق العام على الخاص وقوله: {سَأُنزِلُ } وعد كاذب وتسميته إنزالاً مجاز وإنما المعنى سأنظم كلاماًيماثل ما ادعيتم إن الله أنزله، وقرأ أبو حيوة ما نزل بالتشديد وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصينفهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح وغيرهم، وقد ادعى النبوة عالمكثيرون كان ممن عاصرناه ابراهيم الغازازي الفقير ادعى ذلك بمدينة مالقة وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بننصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة وصلبة، وبارقطاش بن قسيم النيلي الشاعر تنبأ بمدينة النيل من أرض العراق وله قرآن صنعهولم يقتل، لأنه كان يضحك منه ويضعف في عقله. {وَلَوْ تَرَى إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } الظالمون عاماندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم. وقيل: أل للعهد أي من اليهود ومن تنبأ وهم الذين تقدم ذكرهم. {وَٱلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْأَيْدِيهِمْ } قال ابن عباس: بالضرب أي ملائكة قبض الروح يضربون وجوههم وأدبارهم عند قبضه وقاله الفراء وليس المراد مجردبسط اليد لاشتراك المؤمنين والكافرين في ذلك وهذا أوائل العذاب وأمارته، وقال ابن عباس أيضاً يوم القيامة، وقال الحسن والضحاك:بالعذاب، وقال الحسن أيضاً: هذا يكون في النار. {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } قال الزمخشري: يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكمأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح الشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلونبهم فعل الغريم المسلط ببسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إليّما لي عليك الساعة وإلا أديم مكاني حتى أنزعه من أصدقائك ومن قال: إن بسط الأيدي هو في النار فالمعنىأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقاً في الدنيا وفي ذلك توقيف وتوبيخ على سالففعلهم القبيح، وقيل هو أمر على سبيل الإهانة والإرعاب وإنهم يمنزلة من تولي إزهاق نفسه. {ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ} أي الهوان، وقرأ عبد الله وعكرمة {عَذَابِ } بالألف وفتح الهاء واليوم من قال: إن هذا في الدنيا كانعبارة عن وقت الإماتة والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع أو الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب فيالبرزخ، ومن قال:إن هذا في القيامة كان عبارة عن يوم القيامة أو عن وقت خطابهم في النار، وأضاف العذاب إلىالهون لتمكنه فيه لأن التنكيل قد يكون على سبيل الزجر والتأديب، ولا هوان فيه وقد يكون على سبيل الهوان.{ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقّ } القول على الله غير الحق يشمل كل نوع من الكفر ويدخلفيه دخولاً أولوياً من تقدم ذكره من المفترين على الله الكذب. {وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } أي عن الأيمانبآياته وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً ولرأيت عجباً وحذفه أبلغ من ذكره وترى بمعنى رأيت لعمله في الظرفالماضي وهو {إِذْ * وَٱلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْ } جملة حالية و{أَخْرِجُواْ } معمول لحال محذوفة أي قائلين أخرجوا وما في بمامصدرية. {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قال عكرمة قال: النضر بن الحارث سوف تشفع في اللاتوالعزى فنزلت: ولما قال {ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } وقفهم على أنهم يقدمون يوم القيامة منفردين لا ناظر لهم محتاجينإليه بعد أن كانوا ذوي خول وشفعاء في الدنيا ويظهر أن هذا الكلام هو من خطاب الملائكة الموكلين بعقابهم، وقيل:هو كلام الله لهم وهذا مبني على أن الله تعالى يكلم الكفار، وهو ظاهر من قوله:

{ فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ }

ومن قوله:

{ فَوَرَبّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ }

و{جِئْتُمُونَا } من الماضي الذي أريد به المستقبل، وقيل: هو ماض علىحقيقته محكي فيقال لهم: حالة الوقوف بين يدي الله للجزاء والحساب، قال ابن عباس: {فُرَادَىٰ } من الأهل والمال والولد،وقال الحسن: كل واحد على حدته بلا أعوان ولا شفعاء، وقال مقاتل: ليس معكم شيء من الدنيا تفتخرون به، وقالالزجاج: كل واحد مفرد عن شريكه وشفيعه، وقال ابن كيسان: {فُرَادَىٰ } من المعبود، وقيل: أعدناكم بلا معين ولا ناصروهذه الأقوال متقاربة لما كانوا في الدنيا جهدوا في تحصيل الجاه والمال والشفعاء جاؤوا في الآخرة منفردين عن كل ماحصلوه في الدنيا، وقرىء فراد غير مصروف، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة فراداً بالتنوين وأبو عمرو ونافع في حكايةخارجة عنهما فردى مثل سكارى كقوله:

{ وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ }

وأنث على معنى الجماعة والكاف في كما في موضعنصب، قيل: بدل من فرادى، وقيل: نعت لمصدر محذوف أي مجيئا {كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ } يريد كمجيئكم يوم خلقناكم وهو شبيهبالانفراد الأول وقت الخلقة فهو تقييد لحالة الانفراد تشبيه بحالة الخلق لأن الإنسان يحلق أقشر لا مال له ولا ولدولا حشم، وقيل: عراة غرلاً ومن قال: على الهيئة التي ولدت عليها في الانفراد يشمل هذين القولين وانتصب أول مرةعلى الظرف أي أول زمان ولا يتقدر أول خلق الله لأن أول خلق يستدي خلقاً ثانياً ولا يخلق ثانياً إنماذلك إعادة لا خلق. {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } أي ما تفضلنا به عليكم في الدنيا لم ينفعكمولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدمتموه لأنفسكم وأشار بقوله: {وَرَاء ظُهُورِكُمْ } إلى الدنيا لأنهم يتركون ما خولوه موجوداً.{وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء } وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وقال مقاتل: كانوايعتقدون شفاعة الملائكة ويقولون:

{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }

و {فيكُمْ } متعلق بشركاء والمعنى فياستعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم، وقيل: جعلوهم شركاء لله باعتبار أنهم يشفعونفيهم عنده فهم شركاء بهذا الاعتبار ويمكن أن يكون المعنى شركاء لله في تخليصكم من العذاب أن عبادتهم تنفعكم كماتنفعكم عبادته، وقيل: فيكم بمعنى عندكم، وقال ابن قتيبة إنهم لي في خلقكم شركاء، وقيل: متحملون عنكم نصيباً من العذاب.{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } قرأ جمهور السبعة {بَيْنِكُمْ } بالرفع على أنه اتسع فيالظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما استعملوه اسماً في قوله:

{ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }

وكما حكى سيبويههو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراويوالمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآيةأو على أنه أريد بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلكبالبين، وقرأ نافع والكسائي وحفص {بَيْنِكُمْ } بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني على الفتح حملاً علىأكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله:

{ يَفْعَلْ ذٰلِكَ }

وخرجه غيره على أن منصوب علىالظرف وفاعل تقطع التقطع، قال الزمخشري: وقع التقطع بينكم كما تقول: جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسنادالفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى. وظاهره ليس بجيد وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إنأسنده إلى صريح المصدر، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقودفيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام، وقيل: الفاعلمضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله: {شُرَكَاء } ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية قال: ويكونالفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره: لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناسمجاهد والسدّي وغيرهما انتهى، وقوله إلى شيء محذوف ليس بصحيح لأن الفاعل لا يحذف، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكمصفة لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر ليأن المسألة من باب الإعمال تسلط على {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في تقطعضمير ما هم الأصنام فالمعنى {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } وضلوا عنكم كما قال تعالى:

{ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلاْسْبَابُ }

أي لم يبق اتصال بينكم وبين {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب سهل لم يتنبهله أحد، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش {مَا * بَيْنِكُمْ } والمعنى تلف وذهب ما {بَيْنِكُمْ } وبين {مَّا كُنتُمْتَزْعُمُونَ } ومفعولاً {تَزْعُمُونَ } محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما كما قال الشاعر

:تـرى حبهــم عــاراً علـيّ وتحسـب    

أي وتحسبه عاراً، ولأبي عبد الله الرازي في هذه الآية كلام يشبه آراء الفلاسفة قال فيآخره وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد انقطعت ولا سبيلإلى تحصيلها مرة أخرى انتهى. وليس هذا مفهوماً من الآية.

{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } * { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } * { وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } * { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } * { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } * { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } * { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } * { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَذَرُواْ ظَاهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } * { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } * { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } * { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } * { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } عدل

قبل: جمع قبيل كرغيف ورغف، ومعناه جماعة أو كقبل أو مفرد بمعنى قبل،أي مواجهة ومقابلة ويكون قبل ظرف أيضاً. الزخرف الزينة، قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة: كل ما حسنته وزينتهوهو باطل فهو زخرف انتهى. والزخرف الذهب. صغوت وصغيت وصغيت بكسر الغين فمصدر الأول صغوا والثاني صغاً، والثالث صغاً، ومضارعهايصغي بفتح الغين، وهي لازمة، وأصغى مثلها لازم ويأتي متعدّياً بكون الهمزة فيه للنقل، قال الشاعر في اللازم

: ترى السفيه به عن كل محكمة     زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء

وقال فيالمتعدّي

: أصاخ من نبأة أصغى لها أذنا     صماخها بدسيس الذوق مستور

وأصلهالميل يقال: صغت النجوم: مالت للغروب. وفي الحديث: فأصغى لها الإناء قال أبو زيد: ويقال: صغوه معكوصغوه وصغاه. ويقال: أكرموا فلاناً في صاغيته أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده. اقترف اكتسب وأكثرما يكون في الشر والذنوب. ويقال: خرج يقترف لأهله: أي يكتسب لهم، وقارف فلان الأمر: أي واقعه وقرفه بكذا رماهبريبة، واقترف كذباً وأصله اقتطاع قطعة من الشيء. خرص حزر وقال بغير تيقن ولا علم ومنه خرص بمعنى كذبوافتى خرصاً وخروصاً. وقال الأزهري: وأصله التظني فيما لا يستيقن. الشرح البسط والتوسعة. قال الليث يقال: شرحالله صدره فانشرح. وقال ابن الأعرابي: الشرح الفتح. وقال ابن قتيبة: ومنه شرحت لك الأمر وشرحت اللحم فتحته.الضيق فيعل من ضاق الشيء انضمت أجزاؤه إذا كان مجوفاً. الحرج: اسم فاعل من حرج إذا اشتد ضيقه،وبالفتح المصدر، قاله الزجاج وأبو علي. وقال الفراء: هما بمنزلة الواحد والوحد والفرد، والفرد والدنف والدنف يعني أنهما وصفانانتهى. وأصله من الحرجة وهي شجرة تحف بها الأشجار حتى تمنع الداعي أن يصل إليها. وقال أبو الهيثم: الحراجغياض من شجر السلم ملتفة واحدها حرجة لا يقدر أحد أن يدخل فيها أو ينفذ. {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُٱلْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } أي لو أتيناهم بالآياتالتي اقترحوها من إنزال الملائكة في قولهم

{ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ }

وتكليم الموتى إياه في قولهم

{ فَأْتُواْ بِـئَابَائِنَا }

وفي قولهم أخي قصي بن كلاب وجدعان بن عمرو، وهما أمينا العرب، والوسطان فيهم. وحشر كل شيء عليهممن السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول. وقال الزمخشري: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء } قالوا:

{ أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَـئِكَةِ قَبِيلاً }

وقرأ نافع وابن عامر قبلاً بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه مقابلة أي عياناً ومشاهدة. قالهابن عباس وقتادة وابن زيد، ونصبه على الحال. وقال المبرد: معناه ناحية كما تقول: زيد قبلك، ولي قبل فلاندين، فانتصابه على الظرف وفيه بعد. وقرأ باقي السبعة قبلاً بضم القاف والباء. فقال مجاهد وابن زيد وعبد اللهبن يزيد: جمع قبيل وهو النوع، أي نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً. وقال الفراء والزجاج: جمع قبيل بمعنى كفيل أي:كفلاً بصدق محمد. يقال قبلت الرجل أقبله قبالة، أي كفلت به والقبيل والكفيل والزعيم والأدين والحميل والضمين بمعنى واحد. وقيلقبلاً بمعنى قبلاً أي مقابلة ومواجهة. ومنه أتيتك قبلاً لا دبراً. أي من قبل وجهك. وقال تعالى:

{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ * مِن قَبْلُ }

وقرىء لقبل عدتهن: أي لاستقبالها ومواجهتها. وهذا القول عندي أحسن لاتفاق القراءتين. وقرأ الحسنوأبو رجاء وأبو حيوة، قبلاً بضم القاف وسكون الباء على جهة التخفيف من الضم. وقرأ أبيّ والأعمش قبيلاً بفتحالقاف وكسر الباء وياء بعدها، وانتصابه في هذه القراءة على الحال. وقرأ ابن مصرّف بفتح القاف وسكون الباء وجواب{لَوْ } {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } وقدره الحوفي لما كانوا قال: وحذفت اللام وهي مراده، ولبس قوله بجيد لأن المنفيبما إذا وقع جواباً للوفا لأكثر في لسان العرب، أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما، فلاتقول إن اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيهاً للمنفى بما بالموجب، ألا ترى أنه إذا كان النفيبلم لم تدخل اللام على لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام و{مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ }أبلغ في النفي من لم يؤمنوا لأن فيه نفي التأهل والصلاحية للإيمان، ولذلك جاءت لام الجحود في الخبر وإلا أنيشاء الله استثناء متصل من محذوف هو علة. وسبب التقدير {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله.وقدره بعضهم في كل حال إلا في حال مشيئة الله ومن ذهب إلى أنه استثناء منقطع كالكرماني وأبي البقاء والحوفي.فقوله فيه بعد إذ هو ظاهر الاتصال أو علق إيمانهم بمشيئة الله دليل على ما يذهب إليه أهل السنة منأن إيمان العبد واقع بمشيئة الله، وحمل ذلك المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقهر. ولذلك قال الزمخشري: مشيئة إكراه واضطرار، والظاهرأن الضمير في {أَكْثَرُهُمْ } عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل من الكفار أي يجهلون الحق، أو يجهلون أنهلا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة، أو يجهلون أن كلاًّ من الإيمان والكفر هو بمشيئة الله وقدره.وقال الزمخشري يجهلون فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات. قال أولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة. وقالغيره من المعتزلة يجهلون أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآيات التي اقترحوها. وقال الجبائي {إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ }يدل على حدوث مشيئة الله إذ لو كانت قديمة لم يجز أن يعلق عليها الحادث لأنها شرط ويلزم من حصولالمشروط حصول الشرط والحسن دل على حدوث الإيمان فوجب كون الشرط حادثاً وهو المشيئة. وأجاب أبو عبد الله الرازيبأن المشيئة وإن كانت قديمة تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحالة إضافة حادثة انتهى. وهذه الآية مؤيسة من إيمان هؤلاءالذين اقترحوا الآيات إلا من شاء الله منهم. ولذلك جاء قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } وهم من ختم لهبالسعادة فآمن منهم. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً }المعنى مثل ما جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك جعلنا لم قبلك من الأنبياء أعداء شياطين الإنس والجنأي متمردي الصنفين {يُوحَى } يلقى في خفية بعضهم إلى بعض، أي بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الإنسي، أويوحى شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول، أي محسنه ومزينه، وثمرة هذا الجعل الامتحان فيظهر الصبر على ما منوابه ممن يعاديهم فيعظم الثواب والأجر وفي هذا تسلية لرسول الله ، وتأس بمن تقدمه من الأنبياءوأنك لست منفرداً بعداوة من عاصرك، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء. وعدو كما قلنا قبل في معنى أعداء.وقال تعالى:

{ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلاً }

وقال الشاعر

: إذ أنا لم أنفع صديقي بودّه     فإن عدوّي لن يضرهم بغضي

وأعرب الجوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء هنا كإعرابهم{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء ٱلْجِنَّ } وجوّزوا في شياطين البدلية من عدواً، كما جوّزوا هناك بدلية الجن من شركاء وقد رددناهعليهم. والظاهر أن قوله شياطين الإنس والجن هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الإنس والجن الشياطين فيلزم أن يكونمن الإنس شياطين ومن الجن شياطين، والشيطان هو المتمرّد من الصنفين كما شرحناه. وهذا قول قتادة ومجاهد والحسن، وكذا فهمأبو ذر من قول الرسول له: هل تعوّذت من شياطين الجن والإنس قلت: يا رسول الله وهل للإنسمن شياطين؟ قال: نعم وهم شر من شياطين الجن وقال مالك بن دينار شيطان الإنس عليّ أشدمن شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس بجيئني ويجرني إلى المعاصي عياناً. وقالعطاء: أما أعداء النبي من شياطين الإنس: فالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل بنهشام والعاصي بن عمرو، وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد الأسد وعتبة وشيبة ابن ربيعة وعتبة بنأبي معيط والوليد بن عتبة وأبيّ وأمية ابنا خلف، ونبيه ومنبه ابن الحجاج، وعتبة بن عبد العزى، ومعتب بن عبدالعزى. وفي الحديث: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن الله عافاني وأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وقيل: الإضافة ليستمن باب إضافة الصفة للموصوف بل هي من باب غلام زيد أي شياطين الإنس والجن، أي متمردين مغوين لهم. وعلىهذا فسره عكرمة والضحاك والسدّي والكلبي قالوا: ليس من الإنس شياطين والمعنى شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التيمع الجن، قسم إبليس جنده فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجنّ، يتلاقون فيأمر بعض بعضاً أن يضل صاحبه بما أضلهو به صاحبه، ورجحت هذه الإضافة الإضافة المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، ورجحت الإضافة السابقة بأن المقصود التسلّي والائتسا بمنسبق من الأنبياء، إذ كان في أممهم من يعاديهم كما في أمّة محمد من كان يعاديه، وهم شياطين الإنس والظاهرفي جعلنا أنه تعالى هو مصيرهم أعداء للأنبياء والعداوة للأنبياء معصية وكفر، فاقتضى أنه خالق ذلك وتأول المعتزلة هذا الظاهر.فقال الزمخشري وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم يمنعهم من العداوة انتهى.وهذا قول الكعبي قال: خلي بينه وبينه. وقال الجبائي: الجعل هنا الحكم والبيان يقال كفره حكم بكفره وعدلهأخبر عن عدالته. ولما بين للرسول كونهم أعداء لهم قال جعلهم أعداء لهم. وقال أبو بكر الأصم لما أرسلهالله إلى العالمين وخصه بالمعجزات حسدوه وصار الجسد مبيناً للعداوة القوية، فلهذا التأويل قال جعلهم له أعداء كما قال الشاعر

:فــأنت صيــرتهــم لــي حـــســـداً    

وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء، وانتصب غروراً على أنه مفعول له وجوّزواأن يكون مصدراً ليوحي لأنه بمعنى يغرّ بعضهم بعضاً أو مصدراً في موضع الحال أي غارّين. {وَلَوْ شَاء رَبُّكَمَا فَعَلُوهُ } أي ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف، أو القول أو الغرور أوجه ذكروها. {فَذَرْهُمْ وَمَايَفْتَرُونَ } أي اتركهم وما يفترون من تكذيبك ويتضمن الوعيد والتهديد. قال ابن عباس يريد ما زين لهم إبليسوما غرّهم به انتهى. وظاهر الأمر الموادعة وهي منسوخة بآيات القتال. وقال قتادة كل ذر في كتاب الله فهومنسوخ بالقتال وما بمعنى الذي أو موصوفة أو مصدرية. {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَاهُم مُّقْتَرِفُونَ } أي ولتميل إليه الضمير يعود على ما عاد عليه في فعلوه، وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون منالآثام. واللام لام كي وهي معطوفة على قوله غروراً لما كان معناه للغرور، فهي متعلقة بيوحي ونصب غرور الاجتماع شروطالنصب فيه، وعدى يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم وفاعل تصغىهو أفئدة، وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل فكأن كلواحد مسبب عما قبله. وقال الزمخشري: {*ولتصغي} جوابه محذوف تقديره، وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً على أن اللاملام الصيرورة، والضمير في {ءاوَىٰ إِلَيْهِ } راجع إلى ما يرجع إليه الضمير في فعلوه أي ولتميل إلى ما ذكرمن عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار انتهى. وتسمية ما تتعلق به اللام جواباً اصطلاح غريب، وما قاله هو قولالزجاج، قال: تقديره {ءاوَىٰ إِلَيْهِ } فعلوا ذلك فهي لام صيرورة. وذهب الأخفش إلى أن لام {*ولتصغي} هي لام كيوهي جواب لقسم محذوف تقديره. والله {يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى } موضع ولتصغين فصار جواب القسم من قبيل المفرد فتقول والله ليقومزيد التقدير أقسم بالله لقيام زيد واستدل على ذلك بقول الشاعر

: إذا قلت قدني قال الله حلفة     لتغني عني ذا أنائك أجمعا

وبقوله: {وَلِتَصْغَى } والرد عليه مذكور في كتب النحو. وقرأالنخعي والجراح بن عبد الله {*ولنصغى} من أصغى رباعياً. وقرأ الحسن بسكون اللام في الثلاثة. وقيل عنه فيليرضوه وليقترفوا بالكسر في {يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى }. وقال أبو عمرو الداني قراءة الحسن، إنما هي {وَلِتَصْغَى } بكسر الغينانتهى، وخمرج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي وهي لام كي في الثلاثة. وهي معطوفة علىغرور أو سكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس قاله أبو الفتح. وقال غيره:هي لام الأمر في الثلاثة ويبعد ذلك في {*ولتصغي} بإثبات الياء وإن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام.قرأ قنبل أنه من يتقي ويصبر على أنه يحتمل التأويل. وقيل هي في {يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى } لام كيسكنت شذوذاً، وفي {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ } لام الأمر مضمناً التهديد والوعيد، كقوله:

{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }

وفي قوله:{مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } أنها تفيد التعظيم والتشبيع لما يعملون، كقوله تعالى:

{ فَغَشِيَهُمْ مّنَ ٱلْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ }

{أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً } قال مشركو قريش للرسول: اجعل بيننا وبينك حكماً منأحبار اليهود، وإن شئت من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت. ووجه نظمها بما قبلها أنهلما حكى حلف الكفار وأجاب بأنه لا فائدة في إظهار الآيات المقترحة لهم أنهم لا يبقون مصرين على الكفر بينالدليل على نبوته بإنزال القرآن عليه، وقد عجز الخلق عن معارضته وحكم فيه بنبوته، وباشتمال التوراة والإنجيل على أنه رسولحق، وأن القرآن كتاب من عند الله حق. ووجه آخر وهو أنه لما ذكر العداوة وتهددهم قالوا ما ذكرناه فيسبب النزول. وكان من عادتهم إذا التبس عليهم أمر واختلفوا فيه جعلوا بينهم كاهناً حكماً فأمره الله أن يقول: {أَفَغَيْرَٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً } وهذا استفهام معناه النفي أي لا أبتغي حكماً غير الله. قال الكرماني: والحكم أبلغ من الحاكملأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى، والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة. وقال إسماعيل: الضرير الفرق بينهماأن الحكم لا يحكم إلا بالحق والحاكم يحكم بالحق وبغير الحق. وقال ابن عطية نحوه. قال الحكم: أبلغ من الحاكمإذ هي صيغة للعدل من الحكام، والحاكم جار على الفعل وقد يقال للجائر؛ انتهى. وكأنه إشارة إلى حكم الله عليهمبأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات، أو حكمه بأن جعل للأنبياء أعداء وحكماً أي فاصلاً بين الحق والباطل،وجوزوا في إعراب غير أن يكون مفعولاً بأبتغي وحكماً حال وعكسه وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عنغيرهم كقولهم: إن لنا غيرها إبلاً وهو متجه. وحكاه أبو البقاء فالكتاب القرآن ومفصلاً موضحاً مزال الإشكال أو مفضلاً بالوعدوالوعيد أو مفصلاً مفرقاً على حسب المصالح أي لم ينزله مجموعاً أو مفصلاً فيه الأحكام من النهي والأمر والحلال والحراموالواجب والمندوب والضلال والهدى، أو مفصلاً مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء أقوال خمسة وبهذهالآية خاصمت الخوارج علياً في تكفيره بالتحكيم وهذه الجملة حالية. {وَٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ} أي والذين أعطيناهم علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف، والمراد علماء أهل الكتاب فهو عام بمعنى الخصوص وهذه الجملة تكوناستئنافاً وتتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم، والعضد في الدلالة بأن القرآن حق يعلم أهل الكتاب أنهحق لتصديقه كتبهم وموافقته لها. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ }. قيل: الخطاب للرسول خطاب لأمته. وقيل: لكل سامع أيإذا ظهرت الدلالة فلا ينبغي أن يمتري فيه. وقيل: هو من باب التهييج والإلهاب كقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ }.وقيل: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ولا يريبك جحوداً أكثرهموكفرهم. وقرأ ابن عباس وحفص {مُنَزَّلٌ } بالتشديد والباقون بالتخفيف. {وَتَمَّتْ * كَلِمَـٰتُ * رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } لماتقدّم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك وكان من هنا إلى آخر السورةأحكام وقصص، ناسب ذكر هذه الآيات هنا أي تمت أقضيته وأقداره قاله ابن عباس. وقال قتادة: كلماته هو القرآن، وقالالزمخشري: كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد. وقال الحسن: صدقاً في الوعد وعدلاً في الوعيد. وقيل: في ماتضمن من خبر وحكم أو فيما كان وما يكون، أو فيما أمر وما نهى أو في الترغيب والترهيب أو فيماقال: هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار أو في الثواب والعقاب أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه، أو في نصرةالرسول ببدر وإهلاك أعدائه أو في الإرشاد والإضلال أو في الغفران والتعذيب، أو في الفضل والمنع أو في توسيع الرزقوتقتيره أو في إعطائه وبلائه وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل، وأعرب الحوفي والزمخشري وابنعطية وأبو البقاء {صِدْقاً وَعَدْلاً } مصدرين في موضع الحال والطبري تمييزاً وجوزه أبو البقاء. وقال ابن عطية: هو غيرصواب وزاد أبو البقاء مفعولاً من أجله وليس المعنى في {تَمُتْ } أنها كان بها نقص فكملت وإنما المعنى استمرتوصحت كما جاء في الحديث: وتم حمزة على إسلامه وكقوله تعالى:

{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ }

أي استمرت وهي عبارة عن نفوذ أقضيته. وقرأ الكوفيون هنا كلمة بالإفراد ونافع جميع ذلك {كَلِمَـٰتُ } بالجمع تابعه أبوعمرو وابن كثير هنا. {لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِهِ } أي لا مغير لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن فلا يلحقها تغيير،لا في المعنى ولا في اللفظ وفي حرف أبي لا مبدل لكلمات الله. {وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي السميعلأقوالكم العليم بالضمائر. {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي وإن توافق فيما همعليه من عبادة غير الله وشرع ما شرعوه بغير إذن الله أكثر لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفاراً، والأرض هناالدنيا قاله ابن عباس. وقيل: أكثر من في الأرض رؤساء مكة والأرض خاص بأرض مكة وكثيراً ما ذم الأكثر فيكتابه والغالب أنه لا يقال الأكثر إلا للذين يتبعون أهواءهم. {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } أي ليسوا راجعين فيعقائدهم إلى علم ولا فيما شرعوه إلى حكم الله. {وَإِنْ هُمْ * لا } أي يقدرون ويحزرون وهذا تأكيدلما قبله. ومن المفسرين من خص هذه الطاعة واتباعهم الظن وتخرصهم بأمر الذبائح، وحكي أن سبب النزول مجادلة المشركين الرسولفي أمر الذبائح وقولهم: نأكل ما تقتل ولا نأكل ما قتل الله فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم. {يَخْرُصُونَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } لما ذكر تعالى يضلوك عن سبيل الله أخبرأنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي، والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي و{مِنْ } قيل في موضع جرعلى إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضربالسيف أي بالسيف. وقال أبو الفتح: في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد، لأن أفعل التفضيللا يعمل النصب في المفعول به، وقال أبو علي: في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل علىحذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد

.وأضــرب مـنــا بــالسيــوف القــوانســا    

أي تضرب القوانس وهي إذذاك موصولة وصلتها {يُضِلَّ } وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل. وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفعوهي استفهامية مبتدأ والخبر {يُضِلَّ } والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله

{ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ }

وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه،والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو. وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح {يُضِلَّ} بضم الياء وفاعل {يُضِلَّ } ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجدهضالاً أو يخلق فيه الضلال، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما.{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَـٰتِهِ مُؤْمِنِينَ }ذكر أن السبب في نزولها أنهم قالوا للرسول: من قتلالشاة التي ماتت؟ قال الله: قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال وما قتله اللهحرام. وقال عكرمة: لما أنزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي قريش فكانوا أولياءهم في الجاهلية وبينهم مكاتبة أنمحمداً وأصحابه يزعمون أنهم يبتعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام فوقعفي أنفس ناس من المسلمين، فأنزل الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا } ولما تضمنت الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلينالذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال وكانوا يسمون في كثير مما يذكرونه اسم آلهتهم أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاتهاسم الله لا غيره من آلهتهم أمر إباحة وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لإمامات حتف أنفه. وقال الزمخشري:{فَكُلُواْ } متسبب عن إنكار اتباع المضلين وعلق أكل ما سمي الله على ذكاته بالإيمان كما تقول: أطعني إن كنتابني أي أنتم مؤمنون فلا تخالفوا أمر الله وهو حث على أكل ما أحل وترك ما حرم. {وَمَا لَكُمْ* أَن لا *تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }أي وأي غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه؟ وهو استفهام يتضمن الأنكار على من امتنعمن ذلك أي لا شيء يمنع من ذلك {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } في هذه السورة لأنها على ما نقل مكية،ونزلت في مرة واحدة فلا يناسب أن تكون {وَقَدْ فَصَّلَ } راجعاً إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخيرهما في النزول عنهذه السورة. وقال الزمخشري: {قَدْ فَصَّلْنَا * لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } مما لم يحرم عليكم وهو قوله:

{ حَرَّمَت عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ }

انتهى. وذكرنا أن تفصيل التحريم بما في البقرة والمائدة لا يناسب ودعوى زيادة لا هنا لا حاجةإليها والمعنى على كونها نافية صحيح واضح، و{أَن لا * تَأْكُلُواْ } أصله في أن لا تأكلوا فحذف في المتعلقةبما تعلق به لكم الواقع خبراً لما الاستفهامية ونفى {أَن لا * تَأْكُلُواْ } على الخلاف أهو منصوب أو مجرورومن ذهب إلى {أَن لا * تَأْكُلُواْ } في موضع الحال أي تاركين الأكل فقوله: ضعيف لأن أن ومعمولها لايقع حالاً وهذا منصوص عليه من سيبويه، ولا نعلم مخالفاً له ممن يعتبر وله علة مذكورة في النحو والجملة منقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ } في موضع الحال. وقرأ العربيان وابن كثير {فَصْلٌ } و{حَرَّمَ } مبنياً للمفعول ونافع وحفص {فَصْلٌ} و{حَرَّمَ } على بنائهما للفاعل والأخزان وأبو بكر {فَصْلٌ } مبنياً للفاعل و{حَرَّمَ } مبنياً للمفعول وعطية كذلك إلاأنه خفف الصاد ومعنى {إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } من {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } في حالة الاختيار فإنه حلال لكمفي حالة الاضطرار. قال ابن عطية: وما يريد بها جميع ما حرم كالميتة وغيرها قال هو والحوفي، وهي في موضعنصب بالاستثناء أو الاستثناء منقطع. وقال أبو البقاء: {مَا } في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنىكأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقاً. {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ }أي وإن كثيراً من الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليضلون بالتحريم والتحليل وبأهوائهم وشهواتهم بغير علم، أي بغير شرع منالله بل بمجرد أهوائهم كعمرو بن لحي ومن دونه من المشركين كأبي الأحوص بن مالك الجشمي وبديل بن ورقاء الخزاعيوحليس بن يزيد القرشي الذين اتخذوا البحائر والسوائب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {لَّيُضِلُّونَ } بفتح الياء هنا وفي يونس

{ رَبَّنَا ليضلوا }

وفي إبراهيم

{ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ }

وفي الحج

{ ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ }

وفي لقمان

{ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }

وفي لقمان

{ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }

وفي الزمر

{ أَندَاداً ليضل }

وضمها الكوفيون في الستة وافقهم الصاحبان إلا في يونس وهنا ففتح. {عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُعْتَدِينَ } أيبالمجاوزين الحد في الاعتداء فيحللون ويحرمون من غير إذن الله وهذا إخبار يتضمن الوعيد الشديد لمن اعتدى أي فيجازيهم علىاعتدائهم. {وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } {ٱلإِثْمِ } عام في جميع المعاصي لما عتب عليهم في ترك أكل ماسمي الله عليه أمروا بترك {ٱلإِثْمِ } ما فعل ظاهراً وما فعل في خفية فكأنه قال: اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنهاقاله أبو العالية ومجاهد وقتادة وعطاء وابن الأنباري والزجاج. وقال ابن عباس: ظاهره الزنا. وقال السدي: الزنا الشهير الذي كانتالعرب تفعله وباطنه اتخاذ الأخدان. وقال ابن جبير: ظاهره ما نص الله على تحريمه بقوله:

{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ }

الآية

{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء }

الآية، والباطن الزنا. وقال ابن زيد: ظاهره نزع أثوابهم إذ كانوايطوفون بالبيت عراة وباطنه الزنا. وقيل: ظاهره عمل الجوارح وباطنه عمل القلب من الكبر والحسد والعجب وسوء الاعتقاد وغير ذلكمن معاصي القلب. وقيل: ظاهره الخمر وباطنه النبيذ، وقال مجاهد أيضاً: ظاهره الزنا وباطنه ما نواه. وقال الماتريدي: الأليق أنيحمل ظاهر {ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } على أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه، وقال مقاتل: {ٱلإِثْمِ } هنا الشركوقال غيره جميع الذنوب سوى الشرك، وكل هذه الأقوال تخصصات لا دليل عليها والظاهر العموم في المعاصي كلها من الشركوغيره، ظاهرها وخفيها ويدخل في هذا العموم كل ما ذكروه. {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }أي يكسبون الإثم في الدنيا سيجزون في الآخرة وهذا وعيد وتهديد للعصاة. {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِعَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } قال السخاوي قال مكحول: وروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت مثل ذلك وأجاز ذبائح أهلالكتاب وإن لم يذكر اسم الله عليها، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة ولا يجوز لنا أن نأكل من ذبائحهمإلا ما ذكر عليه اسم الله، وروي ذلك عن علي وعائشة وابن عمر؛ انتهى. ولا يسمى هذا نسخاً بل هوتخصيص ولما أمر بأكل ما سمى الله عليه وكان مفهومه أنه لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه أكدهذا المفهوم بالنص عليه، والظاهر تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمداً كان ترك التسمية أو نسياناً وبهقال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن يزيد الخطيمي وابن سيرين والشعبيونافع وأبو ثور وداود في رواية. وقال أبو هريرة وابن عباس أيضاً في رواية وأبو عياض وأبو رافع وعطاء وابنالمسيب والحسن وجابر وعكرمة وطاووس والنخعي وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وربيعة ومالك في رواية، والشافعي والأصم:يحل أكل متروك التسمية عمداً كان الترك أو نسياناً. وقال مجاهد وطاووس أيضاً وابن شهاب وابن جبير وعطاء في روايةوأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حيـي والحسن بن صالح وإسحاق ومالك في رواية، وأحمد في رواية وابن أبي القاسموعيسى وأصبغ: يؤكل إن كان الترك ناسياً وإن كان عمداً لم يؤكل واختاره النحاس وقال: لا يسمى فاسقاً إذا كانناسياً وروي عن علي وابن عباس جواز أكل ذبيحة الناسي للتسمية، وقال ابن عطية: وهذا قول الجمهور، وقال أشهب والطبري:تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمداً إلا أن يكون مستخفاً. وقال أبو بكر الآيذي: يكره أكل ذبيحة تارك التسمية عمداً وتحتاجهذه التخصيصات إلى دلائل. والظاهر أن المراد بقوله: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } ظاهره لعموم الآية وهو متروكالتسمية. وقال ابن عباس في رواية: إنه الميتة وعنه أنه الميتة والمنخنقة إلى وما ذبح على النصب، وقال عطاء: ذبائحللأوثان كانت العرب تفعل ذلك، وقال ابن بحر: صيد المشركين لأنهم لا يسمون عند إرسال السهم ولا هم من أهلالتسمية. قال الحسن: لفسق لكفر، قال الكرماني: يريد مع الاستحلال وقال غيره لفسق المعصية والضمير في {وَأَنَّهُ } عائد إلىالمصدر الدال عليه تأكلوا أي وإن الأكل قاله الزمخشري، واقتصر عليه وجوز معه الحوفي في أن يعود على ما منقوله: {مّمَّا * لَهُ * يُذْكَرِ } وجوز معه ابن عطية أن يعود على الذكر الذي تضمنه قوله {لَمْ يُذْكَرِ}، انتهى. ومعنى إنه عائد على المصدر المنفي كأنه قيل: وإن ترك الذكر لفسق وهذه الجملة لا موضع لها منالإعراب وتضمنت معنى التعليل فكأنه قيل لفسقه. {وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ } أي وإن شياطين الجن قالهابن عباس وعبد الله بن كثير. وقال عكرمة: مردة الإنس من مجوس فارس وتقدم ذكر كتابتهم إلى قريش أي ليوسوسونإلى كفار قريش بإلهامهم تلك الحجة في أمر الذبائح التي تقدّم ذكرها، أو على ألسنة الكهان في زمانهم ليجادلوكم. قالالزمخشري بقولهم: ولا تأكلون ما قتله الله، وبهذا ترجح تأويل من تأول بالميتة؛ انتهى. والأحسن حمل الآية على عدم التخصيصبما ذكروه بل هذا إخبار أن ما صدر من جدال الكفار للمؤمنين ومنازعتهم فإنما هو من الشياطين يوسوسون لهم بذلكولذلك ختم بقوله: {وَأَنْ * أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي وإن أطعتم أولياء الشياطين إنكم لمشركون لأن طاعتهم طاعةللشياطين وذلك إشراك ولا يكون مشركاً حقيقة حتى يطيعه في الاعتقاد، وأما إذا أطاعه في الفعل وهو سليم الاعتقاد فهوفاسق وهذه الجملة إخبار يتضمن الوعيد وأصعب ما على المؤمن أن يشبه المشرك فضلاً أن يحكم عليه بالشرك. وحكي عنابن عباس أن الذين جادلوا بتلك الحجة قوم من اليهود وضعف بأن اليهود لا تأكل الميتة اللهم إلا أن قالواذلك على سبيل المغالطة وإجابتهم عن العرب فيمكن وجواب الشرط. زعم الحوفي أنه {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } على حذف الفاء أيفإنكم وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن وإنما الجواب محذوف و{إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } جواب قسم محذوف التقدير والله{ءانٍ * أَطَعْتُمُوهُمْ } لقوله:

{ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن }

وقوله:

{ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ }

وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقدير اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على إن الشرطية، كقوله:

{ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ }

وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه. {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِيبِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } قال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل رميالرسول بفرث فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس، وكان لم يسلم فغضب فعلاً بها أبا جهل وهويتضرع إليه ويقول: سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله وأسلم.وعن ابن عباس أيضاً أنها نزلت في عمار وأبي جهل. وقال زيد بن أسلم: في عمر وأبي جهل لما تقدمذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى بأن شبه المؤمن بعد أن كان كافراً بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك،والكافر بالمختلط في الظلمات المستقر فيها دائماً ليظهر الفرق بين الفريقين والموت والحياة والنور والظلمة مجاز فالظلمة مجاز عن الكفروالنور مجاز عن الإيمان والموت مجاز عن الكفر. وقال الماتريدي: الموت مجاز عن كونه في ظلمة البطن لا يبصر ولايعقل شيئاً ثم أخرج فأبصر وعقل، نقول: لا يستوي من أخرج من الظلمات ومن ترك فيها فكذلك لا يستوي المؤمنالذي يبصر الحق ويعمل به، والكافر الذي لا يبصر ونحو منه قول ابن بحر قال: أو من كان نطفة أوعلقة أو مضغة فصورناه ونفخنا فيه الروح، انتهى؛ وأما النور فهو نور الحكمة أو نور الدين أو القرآن أقوال. وقالأبو عبد الله الرازي: الحياة الاستعداد لقبول المعارف فتحصل له علوم كلية أولية وهي المسماة بالعقل والنور ما توصل إليهتركيب تلك البديهيات من المجهولات النظرية ومشيه في الناس كونه صار محضراً للمعارف القدسية والجلايا الروحانية ناظراً إليها، ويمكن أنيقال: الحياة الاستعداد القائم بجوهر الروح والنور اتصال نور الوحي والتنزيل به فالبصيرة لا بد فيها من أمرين: سلامة حاسةالعقل، وطلوع نور الوحي كما أن البصر لا بد فيه من أمرين: سلامة الحاسة وطلوع الشمس؛ انتهى، ملخصاً. وهو بعيدمن مناحي كلام العرب ومفهوماتها ولما ذكر صفة الإحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال: {فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه بل قال: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ } ولما كانت أنواع الكفر متعددةقال {فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } ولما ذكر جعل النور للميت قال: يمشي به في الناس أي يصحبه كيف تقلب، وقال: فيالناس إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه وقابل تصرفهبالنور وملازمة النور له باستقرار الكافر {فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } وكونه لا يفارقها، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس ويبعدقول من قال: إن النور والظلمة هما يوم القيامة إشارة إلى قوله:

{ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم }

وإلى ظلمة جهنم وتقدم الكلام على مثل في قوله {*} وإلى ظلمة جهنم وتقدم الكلام على مثل في قوله

{ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً }

وقرأ طلحة أفمن الفاء بدل الواو. {كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الإشارةبذلك إلى إحياء المؤمن أو إلى كون الكافر في الظلمات أي كما أحيينا المؤمن زين للكافر أو ككينونة الكافر فيالظلمات، زين للكافرين والفاعل محذوف. قال الحسن: هو الشيطان، وقال غيره: الله تعالى وجوز الوجهين الزمخشري، وتقدم الكلام في التزيينوقيل: المزين الأكابر الأصاغر. {وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } أي كما جعلنا في مكةصناديدها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية، وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين للرسول إذ حالهم حال من تقدمهم مننظرائهم الكفار. وقال عكرمة: نزلت في المستهزئين يعني أن التمثيل لهم وقيل: هو معطوف على {كَذَلِكَ زُيّنَ } فتكون الإشارةفيه إلى ما أشير إليه بقوله: {كَذَلِكَ زُيّنَ } و{جَعَلْنَا } بمعنى صيرنا ومفعولها الأول {أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا } وفي كلقرية المفعول الثاني و{أَكَـٰبِرَ } على هذا مضاف إلى {مُجْرِمِيهَا }، وأجاز أبو البقاء أن يكون {مُجْرِمِيهَا } بدلاً من{أَكَـٰبِرَ } وأجاز ابن عطية أن يكون {مُجْرِمِيهَا } المفعول الأول و{أَكَـٰبِرَ } المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر، وما أجازاهخطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدرة أو مضافة إلى نكرةكان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أو مؤنث، مفرد أو مثنى أو مجموع، فإذا أنث أو ثنى أو جمعطابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين: إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة، وإذا تقرر هذا فالقولبأن {مُجْرِمِيهَا } بدل من {أَكَـٰبِرَ } أو أن {مُجْرِمِيهَا } مفعول أول خطأ لالتزامه أن يبقى {أَكَـٰبِرَ } مجموعاًوليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة وذلك لا يجوز، وقد تنبه الكرماني لهذه القاعدة فقال: أضاف الأكابرإلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو مع الإضافة؛ انتهى. وكان ينبغي أن يقيد فيقول: أومع الإضافة إلى معرفة وقدر بعضهم المفعول الثاني محذوفاً أي فساقاً {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } وهو ضعيف جداً لا يجوز أنيحمل القرآن عليه، وقال ابن عطية: ويقال أكابرة كما قالوا أحمر وأحامرة ومنه قول الشاعر

: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت     مالي وكنت بهنّ قدماً مولعا

انتهى، ولا أعلم أحداً أجاز فيالأفاضل أن يقال الأفاضلة بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل، وخص الأكابر لأنهمأقدر على الفساد والتحيل والمكر لرئاستهم وسعة أرزاقهم واستتباعهم الضعفاء والمحاويج. قال البغوي: سنة الله أنه جعل أتباع الرسل الضعفاءكما قال:

{ وَٱتَّبَعَكَ ٱلاْرْذَلُونَ }

وجعل فساقهم أكابرهم، وكان قد جلس على طريق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الإيمانبالرسول يقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فإنه ساحر كاهن كذاب وهذه الآية تسلية للرسول إذ حاله في أنكان رؤساء قومه يعادونه كما كان في قرية قرية من يعاند الأنبياء، وقرأ ابن مسلم أكبر مجرميها وأفعل التفضيل إذاأضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد كقوله:

{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍ }

وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو، ولام {لِيَمْكُرُواْ } لام كي. وقيل: لام العاقبة والصيرورة.{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي وباله يحيق بهم كما قال ولا يحيق المكر السيـىء إلا بأهله{وَمَا يَشْعُرُونَ } يحيق ذلك بهم ولا يعني شعورهم على الإطلاق وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفى عنهم الشعورالذي يكون للبهائم. {وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ } قال مقاتل:روي أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منكمالاً. روي أن أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبييوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ونحوه،

{ بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة }

والآية العلامة على صدق الرسول والضمير في {جَاءتْهُمْ } عائد على الأكابرقاله الزجاج. وقال غيره: يعود على المجادلين في أكل الميتة وتغيية إيمانهم بقوله: {حَتَّىٰ } دليل على تمحلهم في دعواهمواستبعاد منهم أن الإيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم، وقولهم: {أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ } ليس فيه إقراربالرسل من الله وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله والمثلية كونهميجري على أيديهم المعجزات فتحيـى لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك، كما جرت على أيدي الرسل أو النبوّة أوجبريل والملائكة أو انشقاق القمر أو الدخان أو آية من القرآن تأمرهم بالإيمان أقوال آخرها للحسن وابن عباس، وفيه تأمرهمباتباع الرسول وأولاها النبوّة والرسالة لقوله: {ٱللَّهُ أَعْلَمُ } حيث يجعل رسالاته فظاهره يدل على أنه المثلية هي في الرسالة.وقال الماتريدي: أخبر عن غاية سفههم وأنهم ينكرون رسالته عن علم بها ولولا ذلك ما تمنوا أن يؤتوا مثل ماأوتي انتهى؛ ولم يتمنوا ذلك إنما أخبروا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا مثل ما أوتي الرسل فعلقوا ذلك على ممتنعوقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون البتة. {ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ } هذا استئناف إنكارعليهم وأنه تعالى لا يصطفي للرسالةإلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو رسول اللهمحمد دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما. وقيل: الأبلغ في تصديق الرسل أنلا يكونوا قبل البعث مطاعين في قومهم لأنهم إن كانوا مطاعين قبل اتبعوا لأجل الطاعة السابقة وقالوا: حيث لا يمكنإقرارها على الظرفية هنا. قال الحوفي: لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان فإذا لم تكن ظرفاًكانت مفعولاً على السعة والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم لأنه لا يعمل في المفعولات فيكون العامل فيه فعلدل عليه أعلم. وقال أبو البقاء: والتقدير يعلم موضع رسالاته وليس ظرفاً لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذاوليس المعنى عليه، وكذا قدره ابن عطية. وقال التبريزي: {ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُ } هنا اسم لا ظرف انتصب انتصاب المفعول كمافي قول الشماخ

: وحلأها عن ذي الأراكة عامر     أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحر

فجعل مفعولاً به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكوى النواحر، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع؛ انتهى.وما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأن النحاة نصواعلى أن {حَيْثُ } من الظروف التي لا تتصرف وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالياء ونصوا على أن الظرف الذييتوسع فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب {حَيْثُ } على المفعول به لا على السعةولا على غيرها، والذي يظهر لي يجعل رسالته إقرار {حَيْثُ } على الظرفية المجازية على أن تضمن {أَعْلَمُ } معنىما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً {حَيْثُ يَجْعَلُ } أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعلفيه رسالته، والظرفية هنا مجاز كما قلنا وروى {ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُ } بالفتح. فقيل: حركة بناء. وقيل: حركة إعراب ويكون ذلكعلى لغة بني فقعس فإنهم يعربون {حَيْثُ } حكاها الكسائي. وقرأ ابن كثير وحفص رسالته بالتوحيد وباقي السبعة على الجمع.{سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } هذا وعيد شديد وعلق الإصابة بمن أجرمليعم الأكابر وغيرهم، والصغار الذل والهوان يقال: منه صغر يصغر وصغر يصغر صغراً وصغاراً واسم الفاعل صاغر وصغير وأرض مصغرلم يطل نبتها، عن ابن السكيت وقابل الأكبرية بالصغار والعذاب الشديد من الأسر والقتل في الدنيا والنار في الآخرة وإصابةذلك لهم بسبب مكرهم في قوله: {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } وقوله: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } وقدّم الصغار على العذاب لأنهمتمرّدوا عن اتباع الرسول وتكبروا طلباً للعز والكرامة فقوبلوا أوّلاً بالهوان والذل، ولما كانت الطاعة ينشأ عنها التعظيم ثم الثوابعليها نشأ عن المعصية الإهانة ثم العقاب عليها ومعنى {عَندَ ٱللَّهِ } قال الزجاج: في عرصة قضاء الآخرة. وقال الفراء:في حكم الله كما يقول عند الشافعي أي في حكمه. وقيل: في سابق علمه. وقيل: إن الجزية توضع عليهم لامحالة وأن حكم الله بذلك مثبت عنده بأنه سيكون ذلك فيهم. وقال إسماعيل الضرير: في الكلام تقديم وتأخير أي صغار{وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } عند الله في الآخرة، وانتصب عند {سَيُصِيبُ } أو بلفظ {صَغَارٌ } لأنه مصدر فيعمل أو علىأنه صفة لصغار فيتعلق بمحذوف، وقدّره الزجاج ثابت عند الله و{مَا } الظاهر أنها مصدرية أي بكونهم {يَمْكُرُونَ }. وقيل:موصولة بمعنى الذي. {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاًكَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى } قال مقاتل: نزلت في الرسول وفي أبي جهل، والهداية هنا مقابلة الضلالةوالشرح كناية عن جعله قابلاً للإسلام متوسعاً لقبول تكاليفه، ونسبة ذلك إلى صدره مجاز عن ذات الشخص ولذلك قالوا: فلانواسع الصدر إذا كان الشخص محتملاً ما يرد عليه من المشاق والتكاليف، ونسبة إرادة الهدى والضلال إلى الله إسناد حقيقيلأنه تعالى هو الخالق ذلك والموجد له والمريد له وشرح الصدر تسهيل قبول الإيمان عليه وتحسينه وإعداده لقبوله: وضمير فاعلالهدى عائد على الله أي يشرح الله صدره. وقيل: يعود على الهدى المنسبك من {أَن يَهْدِيَهُ } أي يشرح الهدىصدره. قال ابن عطية: ويتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأعمال؛ انتهى. وفي الحديث السؤال عن كيفية هذا الشرح وأنهإذا وقع النور في القلب انشرح الصدر وأمارته الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوتوالضيق والحرج كناية عن ضد الشرح واستعارة لعدم قبول الإيمان والحرج الشديد الضيق، والضمير في {يَجْعَلْ } عائد على {ٱللَّهِ} ومعنى يجعل يصير لأن الإنسان يخلق أوّلاً على الفطرة وهي كونه مهيأ لما يلقى إليه ولما يجعل فيه فإذاأراد الله إضلاله أضله وجعله لا يقبل الإيمان ويحتمل أن يكون {يَجْعَلْ } بمعنى يخلق وينتصب {ضَيّقاً حَرَجاً } علىالحال أي يخلقه على هذه الهيئة فلا يسمع الإيمان ولا يقبله ولاعتزال أبي عليّ الفارسي ذهب إلى أن يجعل هنابمعنى يسمى قال كقوله:

{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً }

قال: أي سموهم أو بمعنى يحكم لهبالضيق كما تقول: هذا يجعل البصرة مصراً أي يحكم لها بحكمها فراراً من نسبة خلق ذلك إلى الله تعالى، أوتصييره وجوباً على مذهبه الاعتزالي ونحو منه في خروج اللفظ عن ظاهره. قول الزمخشري {أَن يَهْدِيَهُ } أن يلطف بهولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف بشرح صدره للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسهويحب الدخول فيه، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } أن يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاًحَرَجاً } يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان؛ انتهى. وهذا كله إخراج اللفظعن ظاهره وتأويل على مذهب المعتزلة والجملة التشبيهية معناها أنه كما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيمايبعد ويمتنع من الاستطاعة ويضيق عليه عند المقدرة قاله الزمخشري. وهو قريب من تأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي قالوا:أي كان هذا الضيق الصدر الحرج يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبةالصعود في السماء؛ انتهى. ولامتناع ذلك عندهم حكى الله عنهم أنهم اقترحوا قولهم أو ترقى في السماء. وقال ابن جبير:المعنى لا تجد مسلكاً إلا صعداً من شدة التضايق، يريد ضاقت عليه الأرض فظل مصعداً إلى السماء. وقيل: المعنى أنهعازب الرأي طائر القلب في الهواء كما يطير الشيء الخفيف عند عصف الرّياح. وقرأ ابن كثير: {ضَيّقاً } هنا وفيالفرقان فاحتمل أن يكون مخففاً من ضيق كما قالوا لين. وقال الكسائي: الضيق بالتشديد في الإجرام وبالتخفيف في المعاني، واحتملأن يكون مصدراً قالوا في مصدر ضاق ضيق بفتح الضاد وكسرها بمعنى واحد فإما ينسب إلى الصدر على المبالغة أوعلى معنى الإضافة، أي ذا ضيق أو على جعله مجازاً عن اسم الفاعل وهذا على الأوجه الثلاثة المقولة في نعتالإجرام بالمصادر. وقرأ نافع وأبو بكر {حَرَجاً } بفتح الراء وهو مصدر أي ذاحرج جأو جعل نفس الحرج، أو بمعنىحرج بكسر الراء ورويت عن عمر وقرأها له ثمة بعض الصحابة بالكسر. فقال: ابغوني رجلاً من كنانة راعياً ولكن منبني مدلج فلما جاءه قال: يا فتى ما الحرجة عندكم؟ قال: الشجرة تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية ولاوحشية، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير؛ انتهى. وهذا تنبيه والله أعلم على جهة اشتقاقالفعل من نفس العين كقولهم: استحجر واستنوق. وقرأ ابن كثير {يَصْعَدُ } مضارع صعد. وقرأ أبو بكر يصاعد أصله يتصاعدفأدغم. وقرأ باقي السبعة {يَصْعَدُ } بتشديد الصاد والعين وأصله يتصعد، وبها قرأ عبد الله وابن مصرف والأعمش. وقال أبوعلي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ } من سفل إلى علو ولم يرد السماء المظلة بعينها كما قال سيبويه والقيدود الطويل في غيرسماء أي في غير ارتفاع. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها فيالهواء، ويصعد معناه يعلو ويصعد معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه ومنه قول عمر بن الخطاب: ما تصعدني شيءكما تصعدني خطبة النكاح وروي ما تصعدني خطبة. {كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي مثلذلك الجعل جعله الصدر {ضَيّقاً حَرَجاً } ويبعد ما قاله الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك {يَجْعَلْ } ومعنى يجعلالله الرجس يلقى الله أو يصير الله العذاب والرجس بمعنى العذاب قاله أهل اللغة. وتعدية {يَجْعَلْ } بعلى يحتمل أنيكون معناه نلقي كما تقول: جعلت متاعك بعضه على بعض وأن تكون بمعنى يصير وعلى في موضع المفعول الثاني. وقالالزمخشري: {يَجْعَلْ } الله يعني الخذلان ومنع التوفيق وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب أو أراد الفعل المؤدّيإلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب؛ انتهى. وهو على طريقة الاعتزالي ونقيض الطيب النتن الرائحة الكريهة، والرجس والنجسبمعنى واحد قاله بعض أهل الكوفة. وقال مجاهد: الرجس كل ما لا خير فيه. وقال عطاء وابن زيد وأبو عبيدة:الرجس العذاب في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، وقيل: الرجس السخط. وقال إسماعيل الضرير: الرجسالتعذيب وأصله النتن النجس وهو رجاسة الكفر. {وَهَـٰذَا صِرٰطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً } الإشارة بقوله: {وَهَـٰذَا } إلى القرآن والشرعالذي جاء به الرسول قاله ابن عباس، أو القرآن قاله ابن مسعود، أو التوحيد قاله بعضهم، أو ما قرره فيالآيات المتقدّمة في هذه الآية وفي غيرها من سبل الهدى وسبل الضلالة. وقال الزمخشري: {وَهَـٰذَا صِرٰطُ رَبّكَ } طريقه الذياقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان ونحو منه قول إسماعيل الضرير يعني هذا صنع ربك وهذا إشارة إلى الهدى والضلال،وأضيف الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره {مُّسْتَقِيماً } لا عوج فيه وانتصب {مُّسْتَقِيماً } على أنهحال مؤكدة. {قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَـٰتِ } أي بيناها ولم نترك فيها إجمالاً ولا التباساً. {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتدبرونبعقولهم وكأن الآيات كانت شيئاً غائباً عنهم لم يذكروها فلما فصلت تذكروها.

{ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } * { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } * { ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } * { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } * { وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } * { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } * { قُلْ يَاقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } * { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } * { وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } * { وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ } * { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } عدل

{لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لهمالجنة و{ٱلسَّلَـٰمُ } اسم من أسماء الله تعالى كما قيل في الكعبة بيت الله قاله ابن عباس وقتادة وأضيفت إليهتشريفاً أو دار السلامة من كل آفة والسلام والسلامة بمعنى كاللذاد واللذاذة والضلال والضلالة قاله الزجاج، أو {دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ }بمعنى التحية لأن تحية أهلها فيها سلام قاله أبو سليمان الدمشقي، ومعنى {عِندَ رَبّهِمْ } في نزله وضيافته كما تقول:نحن اليوم عند فلان أي في كرامته وضيافته قاله قوم، أو في الآخرة بعد الحشر قاله ابن عطية، أو فيضمانه كما تقول فلان: عليّ حق لا ينسى أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها لقوله:

{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ }

قاله قوم منهم الزمخشري أو على حذف مضاف، أو عند لقاء ربهم قاله قومأوفي جواره كما جاء في جوار الرحمن في جنة عدن على الظرفية المجازية الدالة على شرف الرتبة والمنزلة، كما قالهفي صفة الملائكة

{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ }

وكما قال

{ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }

وكما قال ابن

{ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ٱلْجَنَّةِ }

وهو وليهم أي مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهمأو متوليهم بالجزاء على أعمالهم. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } جميعاً {جَمِيعًا يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنْسِ } الظاهر العمومفي الثقلين لتقدم ذكر الشياطين وهم الجنّ والكفرة أولياؤهم والمؤمنون الذين {لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ } قال معناه الزمخشري وابن عطية،قال ابن عطية: ويدل عليه التأكيد العام بقوله: {جَمِيعاً }. وقال التبريزي: وهذا النداء يدل على أن الضمير في يحشرهمدخل فيه الجنّ حين حشرهم ثم ناداهم، أما الثقلان فحسب أو هما وغيرهما من الخلائق؛ انتهى. ومن جعل ويوم معطوفاًعلى {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ويوم نحشرهم فالعامل في الظرف وليهم وكان الضمير خاصاً بالمؤمنين وهو بعيد، والأولى أن يكونالظرف معمولاً لفعل القول المحكى به النداء أي {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ * نَّقُولُ * كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } وهو أولى مماأجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولاً به بخروجه عن الظرفية ومما أجاز الزمخشري من نصبه بفعل مضمر غير فعل القولواذكر تقديره عنده {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } وقلنا {كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } كان ما لا يوصف لفظاعته لاستلزامه حذف جملتين منالكلام جملة وقلنا وجملة العامل، وقدر الزجاج فعل القول المحذوف مبنياً للمفعول التقدير فيقال لهم لأنه يبعد أن يكلمهم اللهشفاها بدليل قوله

{ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ }

ونداؤهم نداء شهرة وتوبيخ على رؤوس الأشهاد والمعشر الجماعة ويجمع على المعاشركما جاء نحن معاشر الأنبياء لا نورث. وقال الأفوه

: فينا معاشر لن يبنوا لقومهم     وإن بنى قومهم ما أفسدوا وعادوا

ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيراً وجعلهم أتباعهم كما تقول: استكثر فلانمن الجنود واستكثر فلان من الأشياع. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم. وقرأ حفص يحشرهم بالياء وباقيالسبعة بالنون. {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ٱلَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } وقال: أولياء الجنأي الكفار من الإنس {رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ } انتفع {بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلاتإليها، وانتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم روي هذا المعنى عن ابن عباس وبه قال محمدبن كعب والزجاج. وقال ابن عباس أيضاً ومقاتل: استمتاع الإنس بالجن قول بعضهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهلهإذا بات بالوادي في سفره، واستمتاع الجن بالإنس افتخارهم على قومهم وقولهم: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا. قالالكرماني: كانوا يعتقدون أن الأرض مملوءة جناً وأن من لم يدخله جني في جواره خبله الآخرون، وكذلك كانوا إذا قتلواصيد استعاذوا بهم لأنهم يعتقدون أن هذه البهائم للجن منها مراكبهم. وقيل: في كون عظامهم طعاماً للجن وأرواث دوايهم علفاًواستمتاع الإنس بالجن استعانتهم بهم على مقاصدهم حين يستخدمونهم بالعزائم، أو يلقون إليهم بالمودة؛ انتهى. ووجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذهالأقوال كلها تحتها فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال إنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها، وظاهر قوله:{ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي بعض الإنس بالجن وبعض الجن بالإنس. وقيل: المعنى استمتع بعض الإنس ببعضه وبعض الجن ببعضه،جعل الاستمتاع لبعض الصنف لبعض والقول السابق بعض الصنفين ببعض الصنفين والأجل الذي بلغوه الموت قاله الجمهور وابن عباس والسديوغيرهما. وقيل: البعث والحشر ولم يذكر الزمخشري غيره. وقيل: هو الغاية التي انتهى إليها جميعهم من الاستمتاع وهذا القول منهماعتذار عن الجن في كونهم استكثروا منهم وإشارة إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل واعتراف بما كانمنهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام وتحسر على حالهم. وقرىء آجالنا على الجمع الذي على التذكير والإفراد.قال أبو علي: هو جنس أوقع الذي موقع التي؛ انتهى. وإعرابه عندي بدل كأنه قيل: الوقت الذي وحينئذ يكون جنساًولا يكون إعرابه نعتاً لعدم المطابقة وفي قوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ٱلَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } دليل على المعتزلة في قولهم: بالأجلينلأنهم أقروا بذلك وفيهم المعقول وغيره. {قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَـٰلِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } أي مكان نوائكمأي إقامتكم قال الزجاج وقال أبو علي: هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالدين والموضعليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم؛ انتهى. ويصح قول الزجاج على إضمار يدل عليه {مَثْوَاكُمْ }أي يثوون {خَـٰلِدِينَ فِيهَا } والظاهر أن هذا الاستثناء من الجملة التي يليها الاستثناء. وقال أبو مسلم: هو من قوله:{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ٱلَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } أي إلا من أهلكته واخترمته. قيل: الأجل الذي سميته لكفره وضلاله وهذا ليس بجيد،لأنه لو كان على ما زعم لكان التركيب إلا ما شئت، ولأن القول بالأجلين أجل الاخترام والأجل الذي سماه اللهباطل والفصل بين المستثنى منه والمستثنى بقوله: {قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَـٰلِدِينَ فِيهَا } وفي ذلك تنافر التركيب، والظاهر أن هذاالاستثناء مراد حقيقة وليس بمجاز. وقال الزمخشري: أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يخرق عليه أنيابهوقد طلب إليه أن ينفس عنه خناقه أهلكني الله إن نفّست عنك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاءإلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكمبالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع؛ انتهى، وإذا كان استثناء حقيقةفاختلفوا في الذي استثنى ما هو؟ فقال قوم:هو استثناء أشخاص من المخاطبين وهم من آمن في الدنيا بعذاب كان من هؤلاء الكفرة، ولما كان هؤلاء صنفاً ساغفي العبارة عنهم ما فصار كقوله:

{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء }

حيث وقعت ما على نوع منيعقل وهذا القول بعد لأن هذا خطاب للكفار يوم القيامة فكيف يصح الاستثناء فيمن آمن منهم في الدنيا وشرط منأخرج بالاستثناء اتحاد زمانه وزمان المخرج منه. فإذا قلت: قام القوم إلا زيداً فمعناه إلا زيداً فإنه ما قام، ولايصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإنه ما يقوم في المستقبل وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً معناه إلا زيداً فإنيلا أضربه في المستقبل، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإني ضربته أمس إلا إن كان الاستثناء منقطعاً فإنهيسوغ، كقوله تعالى:

{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلاْولَىٰ }

أي لكن الموتة الأولى في الدنيا فإنهم ذاقوها.وقال قوم: المستثنى هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد أي إلا النوع الذي دخلها من العصاة فإنهم لايخلدون في النار. وقال قوم: الاستثناء من الأزمان أي {خَـٰلِدِينَ فِيهَا } أبداً إلا الزمان الذي شاء الله أن لايخلدون فيه، واختلف هؤلاء في تعيين الزمان. فقال الطبري: هي المدّة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وساغ هذا منحيث العبارة بقوله: {ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ } لا يخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره. وقال الزمخشري: إلا ما شاء الله أييخلدون في عذاب الأبد كله إلا ما شاء الله أي الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير،فقد روي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. وقال الحسن:إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وهذا راجع إلى الزمان أي إلا الزمان الذي كانوا فيهفي الدنيا بغير عذاب، ويرد على هذا القول ما يرد على من جعله استثناء من الأشخاص الذين آمنوا في الدنيا.وقال الفراء: إلا بمعنى سواء والمعنى سواء ما يشاء من زيادة في العذاب ويجيء إلى هذا الزجاج. وقال غيره: إلاما شاء الله من النكال والزيادة على العذاب وهذا راجع إلى الاستثناء من المصدر يدل عليه معنى الكلام، إذ المعنىتعذبون بالنار {خَـٰلِدِينَ فِيهَا } إلا ما شاء من العذاب الزائد على النار فإنه يعذبكم به ويكون إذ ذاك استثناءمنقطعاً إذ العذاب الزائد على عذاب النار لم يندرج تحت عذاب النار، والظاهر أن هذا الاستثناء هو من تمام كلامالله للمخاطبين وعليه جاءت تفاسير الاستثناء. وقال ابن عطية: ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى اللهعليه وسلم وأمته، وليس مما يقال يوم القيامة والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنهلما أخبرهم أنه يقال للكفار {مَثْوَاكُمْ } استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافراً ويقع ما علىصفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي من يمكن أن يؤمن منهم؛ انتهى،وهو تأويل حسن. وروي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار. قيل: ومعنى ذلك أنهاتوجب الوقف فيمن لم يمت إذ قد يسلم وروي عنه أيضاً أنه قال: جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدّته إلىمشيئته حتى لا يحكم الله في خلقه، وعنه أيضاً أنه قال في هذه الآية: أنه لا ينبغي لأحد أن يحكمعلى الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا ناراً. قال ابن عطية: الإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصحهذا عن ابن عباس؛ انتهى. وقد تعلق قوم بظاهر هذا الاستثناء فزعموا أن الله يخرج من النار كل بر وفاجرومسلم وكافر وأن النار تخلو وتخرب، وقد ذكر هذا عن بعض الصحابة ولا يصح ولا يعتبر خلاف هؤلاء ولا يلتفتإليه. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } قال الزمخشري: لا يفعل شيئاً إلا بموجب الحكمة عليهم بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد؛انتهى. وهذا على مذهبه الاعتزالي. وقال ابن عطية: صفتان مناسبتان بهذه الآية لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار صادر عنحكمة، وقال التبريزي: {حَكِيمٌ } في تدبير المبدإ والمعاد {عَلِيمٌ } بما يؤول إليه أمر العبادة. وقال إسماعيل الضرير: {حَكِيمٌ} حكم عليهم الخلود {عَلِيمٌ } بهم وبعقوبتهم. وقال البغوي: {عَلِيمٌ } بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى.وقال القرطبي: {حَكِيمٌ } في عقوبتهم عليم} بمقدار مجازاتهم. {*} بمقدار مجازاتهم. {وَكَذٰلِكَ نُوَلّى بَعْضَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَاكَانُواْ يَكْسِبُونَ } لما ذكر تعالى أنه ولى المؤمنين بمعنى أنه يحفظهم وينصرهم على أن الكافرين بعضهم أولياء بعض فيالظلم والخزي. قال قتادة: يجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، يريد ما تقدّم من ذكر الجنّ والإنس واستمتاع بعضهمببعض. وقال قتادة أيضاً: يتبع بعضهم بعضاً في دخول النار أي يجعل بعضهم يلي بعضاً في الدخول. وقال ابن زيد:معناه نسلط {بَعْضَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم، وهذا تأويل بعيد وحين قتل عبد الملك بن مروانعمرو بن سعيد الأشدق قال عبد الله بن الزبير: وصعد المنبران فم الذئاب قتل لطيم الشيطان وتلا {وَكَذٰلِكَ نُوَلّى بَعْضَٱلظَّـٰلِمِينَ } الآية. وقال ابن عباس: تفسيرها أن الله إذا أراد بقوم شراً ولى عليهم شرارهم أو خيراً ولى عليهمخيارهم، وفي بعض الكتب المنزلة أفنى أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي. وقال إسماعيل الضرير: نترك المشركين إلى بعضهم في النصرةوالمعونة والحاجة. وقال الزمخشري: نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يومالقيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الكفر والمعاصي؛ انتهى. وقوله: نخليهم هو على طريقة الاعتزالي.{يَكْسِبُونَ يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ وَٱلإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَـٰتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } هذا النداء أيضاًيوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع، حيث أعذر الله إليهم بإرسال الرسل فلم يقبلوا منهم، والظاهر أن من الجنّ رسلاً إليهمكما أن من الإنس رسلاً لهم. فقيل: بعث الله رسولاً واحداً من الجنّ إليهم اسمه يوسف. وقيل: رسل الجنّ همرسل الإنس فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، ويؤيده قوله:

{ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ }

قاله ابنعباس والضحاك. وروي أن قوماً من الجنّ استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم فأخبروهم كما جرى لهم مع الرسول،فيقال لهم رسل الله وإن لم يكونوا رسله حقيقة وعلى هذين التولين يكون الضمير عائداً على {ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ } وقدتعلق قوم بهذا الظاهر فزعموا أن الله تعالى بعث إلى الجنّ رسلاً منهم ولم يفرقوا بين مكلفين ومكلفين أن يبعثإليهم رسول من جنسهم لأنهم به آنس وآلف. وقال مجاهد والضحاك وابن جريج والجمهور: والرسل من الإنس دون الجن ولكنلما كان النداء لهما والتوبيخ معاً جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوز المعهود في كلام العرب تغليباً للإنس لشرفهم، وتأوّلهالفراء على حذف مضاف أي من أحدكم كقوله:

{ نُخْرِجُ * مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }

أي من أحدهما وهو الملحوكقوله:

{ وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً }

أي في إحداهن وهي سماء الدنيا

{ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ }

أراد بالذكر التكبير وبالأيام المعلومات العشر أي في أحد أيام وهو يوم النحر. وقال الكلبي: كان الرسل يبعثون إلىالإنس وبعث محمد إلى الجن والإنس. وروي هذا أيضاً عن ابن عباس ومعنى قصص الآيات الإخباربما أوحى إليهم من التنبيه على مواضع الحج والتعريف بأدلة التوحيد والامتثال لأوامره والاجتناب بمناهيه، والإنذار الإعلام بالمخوف و{لِقَاء يَوْمِكُمْهَـٰذَا } أي يوم القيامة والإنذار بما يكون فيه من الأهوال والمخاوف وصيرورة الكفار المكذبين إلى العذاب الأبدي. وقرأ الأعرجألم تأتكم على تأنيث لفظ الرسل بالتاء. {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } الظاهر أن هذه حكاية لتصديقهم وإلجائهم قوله:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ } لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار فكان تقريراً لهم والمعنى قالوا: شهدنا على أنفسنا بإتيانالرسل إلينا وإنذارهم إيانا هذا اليوم، وهذه الجملة نابت مناب بلى هنا وقد صرح بها في قوله: {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُواْإِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا وَقَالَ } قالوا: بلى أقروا بأن حجة الله لازمة لهم وأنهم محجوجونبها. وقال ابن عطية: وقوله: {شَهِدْنَا } إقرار منهم بالكفر واعتراف أي {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } بالتقصير؛ انتهى. والظاهر في{شَهِدْنَا } شهادة كل واحد على نفسه. وقيل: شهد بعضنا على بعض بإنذار الرسل. {وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } هذاإخبار عنهم من الله تعالى وتنبيه على السبب الموجب لكفرهم وإفصاح لهم بأذم الوجود الذي هو الخداع. وقيل: يحتمل أنيكون من غر الطائر فرخه أي أطعمهم وأشبعهم والتوسيع في الرزق والبسط سبب للبغي ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوافي الأرض. {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰفِرِينَ } ظاهره شهادة كل واحد على نفسه بالكفر. وقيل: شهد بعضهمعلى بعض. وقيل: شهدت جوارحهم عليهم بعد إنكارهم والختم على أفواههم وهو بعيد من سياق الآية، وتنافى بين قوله: {شَهِدُواْ* عَلَى أَنفُسِهِمْ } وبين الآيات التي تدل على الإنكار لاحتمال أن يكون ذلك من طوائف طائفة تشهد وطائفة تنكر،أو من طائفة واحدة لاختلاف الأحوال ومواطن القيامة في ذلك المتطاول فيقرون في بعض ويجحدون في بعض. وقال التبريزي: {وَشَهِدُواْ} أقروا على أنفسهم اضطراراً لا اختياراً ولو أرادوا أن يقولوا غيره ما طاوعتهم أنفسهم. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لمكرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ (قلت): الأولى حكاية لقولهم: كيف يقولون ويعترفون، والثانية ذمّ لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهملأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهمواستنجاز عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين مثل حالهم؛ انتهى. ونقول لم تتكرر الشهادة لاختلاف المخبر ومتعلقها فالأولى إخبارهم عنأنفسهم والثانية: إخباره تعالى عنهم أنهم شهدوا على أنفسهم بالكفر فهذه الشهادة غير الأولى. {ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَمُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَـٰفِلُونَ } الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور دل عليه الكلام وهو إتيان الرسل قاصين الآيات ومنذرينبالحشر والحساب والجزاء بسبب انتفاء إهلاك القرى بظلم وأهلها لم ينتهوا ببعثة الرسل إليهم والإعذار إليهم والتقدم بالأخبار بما يحلبهم، إذا لم يتبعوا الرسل وفي الحديث: ليس أحد أحب إليه العذر من الله فمن أجل ذلك أنزلالكتاب وأرسل الرسل. وقال الزجاج قريباً من هذا أي ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذبلأنه لم يكن كذا أي لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولاً. وقيل: الإشارة بذلك إلى السؤال وهو {أَلَمْ يَأْتِكُمْ }أنلم يكن أي لبيان أن لم يكن حكاه التبريزي. وقال الماتريدي: الإشارة إلى ما وجد منهم من التكذيب والمعاصي ويحتملأن يشار به إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية؛ انتهى. ولا يستقيم هذان القولان مع قوله {أَن لَّمْ يَكُنْ }لأن المعاصي أو الإهلاك ليس معللاً بأن لم يكون وجوّزوا في ذلك الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ذلكالأمر، وخبر محذوف المبتدإ أي الأمر ذلك والنصب على فعلنا ذلك وإن لم يكن تعليل ويحتمل أن تكون أن الناصبةللمضارع والمخففة من الثقيلة أي لأن الشأن لم يكن ربك وأجاز الزمخشري أن لا يكون {أَن لَّمْ يَكُنْ } تعليلاًفأجاز فيه أن يكون بدلاً من ذلك كقوله:

{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـؤُلآْء مَقْطُوعٌ }

فإذا كانتعليلاً فهو على إسقاط حرف العلة على الخلاف أموضعه نصب أو جر وإن كان بدلاً فهو في موضع رفع، لأنالزمخشري لم يذكر في ذلك إلا أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وبظلم يحتمل أن يكونمضافاً إلى الله أي ظالماً لهم كقوله:

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }

ومعنى {وَأَهْلُهَا غَـٰفِلُونَ} أي دون أن يتقدم إليهم بالنذارة

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }

ويحتمل أن يكون مضافاً إلى القرى أيظالمة دون أن ينذرهم وهذا معنى قول القشيري أي لا يهلكهم بذنوبهم ما لم يبعث إليهم الرسل وهذا الوجه أليقلأن الأول يوهم أنه تعالى لو آخذهم قبل بعثة الرسل كان ظالماً وليس الأمر كذلك عندنا لأنه تعالى يحكم مايشاء ويفعل ما يريد، وعند المعتزلة لو أهلكهم وهم غافلون لم ينتهوا بكتاب ولا رسول لكان ظالماً وهو متعال عنالظلم وعن كل قبيح. وقيل: {بِظُلْمٍ } بشرك من أشرك منهم فهو مثل

{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }

وقال الماتريدي: أي لم يكن يهلكهم بظلم أنفسهم إهلاك استئصال وتعذيب لا بعد تقدم وعيد أو سؤالهم العذاب، ولا يهلكهممع الغفلة عن الظلم والعصيان لأنه يجوز له ذلك بل سنته هكذا لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا وكل ذلك فضلمنه ورحمة. وقال مجاهد: لا يهلكهم بظلم بعضهم بعضاً وقيل: بظلم واحد منهم. وقيل: بتجينس الظلم حتى يرتكبوا مع الظلمغيره مما لا يرضاه الله من سائر القبائح ذكره التبريري. ومعنى {وَأَهْلُهَا غَـٰفِلُونَ } أي لا يبين لهم كيفية الحالولا يزيل عددهم وليس المعنى أنهم غافلون عما يوعظون به. {وَلِكُلّ دَرَجَـٰتٌ مّمَّا عَمِلُواْ } أي ولكل من المكلفينمؤمنهم وكافرهم درجات متفاوتة من جزاء أعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض أو بنسبة عمل كل عامل فيكون هو فيدرجة فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل، والظاهر اندراج الجن في العموم في الجزاء كما اندرجوا في التكليف وفيإرسال الرسل إليهم. قال الضحاك: مؤمنو الجن في الجنة كمؤمني الإنس. وقيل: لا يدخلون الجنة ولا النار يقال لهم كونواتراباً فيصيرون تراباً كالبهائم. وقال ابن عباس: جزاء مؤمني الجن إجارتهم من النار. وقال أبو حنيفة: ليس للجن ثواب لأنالثواب فضل من الله فلا يقال: به لهم إلا ببيان من الله ولم يذكر الله في حقهم إلا عقوبة عاصيهملا ثواب طائعهم وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: لهم ثواب على الطاعات وعقاب على المعاصي ودليلهما عموم الكتاب والسنة.وقيل: ولكل من المؤمنين خاصة. وقال الماتريدي: ولكل من الكفار خاصة درجات دركات ومراتب من العقاب مما عملوا من الكفروالمعاصي، لأنه جاء عقيب خطاب الكفار فيكون راجعاً عليهم. {وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } أي ليس بساه بخفيّعليه مقادير الأعمال وما يترتب عليها من الأجور وفي ذلك تهديد ووعيد. وقرأ ابن عامر: تعملون بالتاء على الخطاب.{وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ } لما ذكر تعالى من أطاع ومن عصى والثواب والعقاب ذكر أنه هو الغني من جميعالجهات لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ومع كونه غنياً هو ذو الرحمة أي التفضل التام. قال ابن عباس: {ذُوٱلرَّحْمَةِ } بأوليائه وأهل طاعته. وقيل: بكل خلقه ومن رحمته تأخير الانتقام من العصاة. وقيل: {ذُو ٱلرَّحْمَةِ } جاعل نفعالخلائق بعضهم ببعض. وقال الزمخشري: {ذُو ٱلرَّحْمَةِ } يترحم عليهم بالتكليف ليعرضهم للمنافع الدائمة. {وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِنيَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ } هذا فيه إظهار القدرة التامة والغنى المطلق والخطاب عام للخلقكلهم، كما قال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أيها الناس ويأت بآخرين فالمعنى إن يشأ إفناء هذا العالم واستخلاف ما يشاءمن الخلق غيرهم فعل، والإذهاب هنا الإهلاك إهلاك الاستئصال لا الإماتة ناساً بعد ناس لأن ذلك واقع فلا يعلق الواقععلى أن يشأ. وقيل: الخطاب لأهل مكة. وقال عطاء: يعني الأنصار والتابعين. وقيل: {يُذْهِبْكُمْ } أيها العصاة {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُممَّا يَشَاء } من النوع الطائع و{كَمَا أَنشَأَكُمْ } في موضع مصدر على غير الصدر لقوله: {وَيَسْتَخْلِفُ } لأن معناهوينشىء والمعنى إن يشأ الإذهاب والاستخلاف يذهبكم ويستخلف فكل من الإذهاب والاستخلاف معذوق بمشيئته و{مِنْ } لابتداء الغاية. وقال ابنعطية: للتبعيض. وقال الطبري: وتبعه مكي هي بمعنى أخذت من ثوبي ديناراً بمعنى عنه وعوضه؛ انتهى، يعني إنها بدلية والمعنىمن أولاد قوم متقدّمين أصلهم آدم عليه السلام. وقال الزمخشري: من أولاد {قَوْمٍ ءاخَرِينَ } لم يكونوا على مثل صفتكموهم أهل سفينة نوح؛ انتهى. ويعني أنكم {مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ } صالحين فلو شاء أذهبكم أيها العصاة ويستخلف بعدكم طائعين،كما أنكم عصاة أنشأكم من قوم طائعين وما في قوله: {مَا يَشَاء } قيل بمعنى من والأولى إن كان المقداراستخلافه من غير العاقل فهي واقعة موقعها وإن كان عاقلاً فيكون قد أريد بها النوع. وقرأ زيد بن ثابت {ذُرّيَّةِ} بفتح الذال وكذا في آل عمران وأبان بن عثمان {ذُرّيَّةِ } بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة وعند {ذُرّيَّةِ }على وزن ضربة وتضمنت هذه الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بذلك. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ } ظاهرما العموم في كل ما يوعد به. وقال الحسن: من مجيء الساعة لأنهم كانوا يكذبون بها. وقيل: من الوعد والوعيد.وقيل: من النصر للرسول لكائن. وقيل: من العذاب {*الآتي} يوم القيامة. وقيل: من الوعد يوم القيامة لقرينة {لأَتٍ وَمَا أَنتُمبِمُعْجِزِينَ } والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدّم خصوصاً وإما أن يكون للعموم مطلقاً فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد والعقائد تردد ذلك؛انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب فهو آت لا محالة، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدلعلى أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه أنه قال: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي لا تخرجون عن قدرتناوحكمتنا فلما ذكر الوعد جزم، ولما ذكر الوعيد ما زاد على {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } وذلك يدل على أن جانبالرحمة غالب فتلخص في قوله: {مَّا تُوعَدُونَ } العموم ويخرج منه ما خرج بالدليل أو يراد به الخصوص من الحشرأو النصر أو الوعيد أو الوعد أي بلازمهما من الثواب أو العقاب أو مجموعهما ستة أقوال. وكتبت أن مفصولة منما وما بمعنى الذي وفي هذه الجملة إشعار بقصر الأمل وقرب الأجل والمجازاة على العمل. {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ }أي فائتين أعجزني الشيء: فاتني أي لا يفوتنا عن ما أردنا بكم. قال ابن عطية: معناه بناجين وهنا تفسير باللازم.{قُلْ يٰأَهْلَ * قَوْمٌ * ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَيُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } قرأ أبو بكر على مكاناتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع ومن أفردفعلى الجنس والمكانة، مصدر مكن فالميم أصلية وبمعنى المكان ويقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون فالميم زائدة فيحتمل أنيكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، قال معناه الزجاج، ويحتمل أن يكون المعنى على جهتكم وحالكم التيأنتم عليها، يقال: على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله أي اثبت على ما أنت عليه لاتنحرف عنه. وقال ابن عباس: على ناحيتكم والمعنى ما تنحون أي ما تقصدون من صالح وطالح. وقال ابن زيد: علىحالكم. وقال يمان: على مذاهبكم. وقال إسماعيل الضرير: على دينكم في منازلكم لهلاكي خطاباً لكفار مكة {إِنّى عَـٰمِلٌ } لهلاككم؛انتهى. وهي ألفاظ متقاربة وهذا الأمر أمر تهديد ووعيد كقوله:

{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }

وهي التخلية والتسجيل علىالمأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعملبخلافه، ومعنى {إِنّى عَـٰمِلٌ } أي على مكانتي التي أنا عليها. قال الزمخشر: اثبتوا على كفركم وعداوتكم فيّ فإني ثابتعلى الاسلام وعلى مصابرتكم؛ انتهى. والظاهر أن {مِنْ } مفعول {*يتعلمون} وأجازوا أن يكون مبتدأ اسم استفهام وخبره {يَوْمَتَكُونُ } والفعل معلق والجملة في موضع المفعول إن كان يعلمون معدّى إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كانيتعدّى إلى مفعولين، و{عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } مآلها وما تنتهي إليه والدار يظهر منه أنها دار الآخرة. قال ابن عطية: ويحتملأن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب. وقال الزمخشري: العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لهاوهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدّة الوعيد والوثوق بأن المنذر محقوأن المنذر مبطل. وقيل: معنى {مَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } أي من له النصرة في دار الإسلام ومن لهالدار الآخرة أي الجنة وفي قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } من التهديد والوعيد ما لا يخفى كقوله:

{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ * ءايَةً *ٱلثَّقَلاَنِ }

{ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ }

وقال الشاعر

: إذا ما التقينا والتقى الرسل بيننا     فسوف ترى يا عمر وما الله صانع

وقال آخر

: ستعلم ليلى أي دين تداينت     وأي غريم للتقاضي غريمها

{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُٱلظَّـٰلِمُونَ } أي لا يفوزون قاله الضحاك. وقال عكرمة: لا يبقون. وقال عطاء: لا يسعد من كفر نعمتي. وقيل: لايأمنون ولا ينجون من العذاب وفيه إشعار بأنهم هم الظالمون الذين لا يفلحون، وفي قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُعَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } ترديد بينه عليه السلام وبينهم، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم وأن عاقبة الدار الحسنى هيله عليه السلام ولكنه أجرى مجرى قوله: فشركما لخيركما الفداء. وقوله

: فأيّـي ما وأيك كان شرا     فسيق إلى المقادة في هوان

وقد علم ما هو شر وما هو خير ولكنهأبرز في صورة الترديد إظهاراً لصورة الإنصاف ورمياً بالكلام على جهة الاشتراك اتكالاً على فهم المعنى. وقرأ حمزة والكسائي منيكون بالياء على التذكير وكذا في القصص. {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلاْنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْوَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ } روي عن ابن عباس ومجاهد والسدّي أن العرب كانت تجعل من غلاتهاوزروعها وأثمارها وأنعامها جزءاً تسميه لله وجزءاً تسميه لأصنامها وكانت عادتها تبالغ وتجتهد في إخراج نصيب الأصنام أكثر منها فينصيب الله، إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت منالذي لله إلى الذي لشركائهم تركوه ولم يردوه إلى نصيب الله ويفعلون عكس هذا، وإذا تفجر من سقي ما جعلوهلله في نصيب شركائهم تركوه وبالعكس سدوه وإذا لم ينجح شيء من نصيب آلهتهم جعلوا نصيب الله لها، وكذا فيالأنعام. وإذا أجدبوا أكلوا نصيب الله وتركوا نصيبها لما ذكر تعالى قبح طريقة مشركي العرب في إنكارهم البعث ذكر أنواعاًمن جهالاتهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وفي قوله تعالى: {مِمَّا ذَرَأَ } أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسنوالأجود وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح، إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا له منه نصيباً والقادر على تنميتهدون أصنامهم العاجزة عن ما يحل بها فضلاً عن أن تخلق شيئاً أو تنميه وفي قوله {مّمَّا } بمن التبعيضيةدليل على قسم ثالث وهو ما بقي لهم من غير النصيبين، وفي الكلام حذف دل عليه التقسيم أي ونصيباً {لِشُرَكَائِهِمْ} ألا ترى إلى قولهم {هَـٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا } و{ٱلْحَرْثِ } قيل هنا: الزرع. وقيل: الزرع والأشجار ومايكون من الأرض، {وَٱلاْنْعَـٰمُ } الإبل والبقر والغنم يتقربون بذبح ذلك. وقيل: إنه البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. وقيل: النصيب منالأنعام هو النفقة عليها وفي قوله: {فَقَالُواْ } تأكيد للفعل الذي هو الجعل بالقول ليتطابق ويتظافر الفعل بالقول، ثم إنهمأخلفوا ذلك واعترض أثناء الكلام قوله: {*يزعمهم} وجاء أثر قولهم: {فَقَالُواْ هَـٰذَا لِلَّهِ } لأنه إخبار كذب حيث أخلف ماجعلوه وأكدوه بالقول ولم يأت ذلك إثر قولهم: {وَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا } لتحقيق ما لشركائهم أنه لهم والزعم في أكثر كلامالعرب أقرب إلى غير اليقين والحق نبه على أنهم فعلوا ذلك من غير أن يأمرهم الله بذلك ولا أن يشرعهلهم، وذلك جرى على عادتهم في شرع أحكام لم يأذن فيها ولم يشرعها. وقرأ الكسائي: {بِزَعْمِهِمْ } فيهما بضم الزايوهي لغة بني أسد والفتح لغة الحجاز وبه قرأ باقي السبعة وهما مصدران. وقيل: الفتح في المصدر والضم في الاسم.وقرأ ابن أبي عبلة: بفتح الزاي والعين فيهما والسكر لغة لبعض قيس وتميم، ولم يقرأ به ويتعلق {بِزَعْمِهِمْ } بقالوا.وقيل: بما تعلق به {لِلَّهِ } من الاستقرار وشركاؤهم آلهتهم والشركاء من الشرك والإضافة إضافة تخصيص أي: الشركاء الذين أشركوابينهم وبين الله في القربة وليس معناه الإضافة إلى فاعل ولا مفعول. وقيل: سموا شركاء لأنهم نزلوها منزلة الشركاء فيأموالهم فتكون إضافة إما إلى الفاعل فالتقدير وهذا لأصنامنا التي تشركنا في أموالنا، وإما إلى المفعول فالتقدير التي شركناها فيأموالنا. وقال ابن عطية: سموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم يساهمونهم في الخير والشر، ومعنى {فَلاَ يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِ }أي لا يقع موقع ما يصرف في وجوه البر من الصدقة على المساكين وزوّار بيت الله ونحوها، ولو فعلوا ذلكلم ينفع لأنهم أشركوا أو لا يصل ألبتة إلى تلك الوجوه المقصود بها التقرب إلى الله. وقال الحسن: كانوا إذاهلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك لله. وقيل: كانوا يصرفون مما جعلوه لله إلى سدنةالأصنام ولا يتصدّقون بشيء مما جعلوه للأوثان، ومعنى {فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ } بإنفاق عليها بذبح نسائك عندها والآخر للنفقةعلى سدنتها. وقال ابن عطية: جمهور المتأوّلين إن المراد بقوله: {فَلاَ يَصِلُ } وقوله: {يَصِلُ } ما قدمنا ذكره منحمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك. وقال ابن زيد: إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله وذكرواآلهتهم على ذلك الذبح، وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله قال: {فَلاَ يَضِلُّ } إلى ذكر وقال: {فَهُوَ يَصِلُ }إلى ذكر الله؛ انتهى. وظاهر الآية يدل على أن ما جعلوه نصيباً لشركائهم فلا يصرف منه شيء في وجوه البرالذي يقتضيها وجهه، وما جعلوه نصيباً لله أنفق في مصاريف آلهتهم {سَاء مَا يَحْكُمُونَ } هذه ذمّ بالغ عام لأحكامهمفيندرج فيه حكمهم هذا السابق وغيره. وقال الزمخشري: في إيثارهم آلهتهم على الله وعملهم ما لم يشرع لهم. وقال الماتريدي:أي بئس الحكم حكمهم حيث قرنوا حقي بحق الأصنام وبخسوني. وقيل: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ } لأنفسهم، والظاهر أن {سَاء }هنا مجراة مجرى بئس في الذمّ كقوله:

{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم }

والخلاف الجاري في {بِئْسَمَا } وإعراب ما جارياهنا وتقدم ذلك مستوفى في قوله:

{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ }

في البقرة وعلى أن حكمهما حكم {بِئْسَمَا }فسرها الماتريدي فقال: بئس الحكم حكمهم وأعربها الحوفي وجعل ما موصولة بمعنى الذي قال والتقدير ساء الذي يحكمون حكمهم، فيكونحكمهم رفعاً بالابتداء وما قبله الخبر وحذف لدلالة يحكمون عليه. ويجوز أن يكون ما تمييزاً على مذهب من يجيز ذلكفي {بِئْسَمَا } فيكون في موضع نصب التقدير {سَاء } حكماً حكمهم ولا يكون {يَحْكُمُونَ } صفة لما لأن الغرضالإبهام ولكن في الكلام حذف بدل ما عليه والتقدير سا ما {مَا يَحْكُمُونَ }. وقال ابن عطية: و{مَا } فيموضع رفع كأنه قال: ساء الذي يحكمون ولا يتجه عندي أن تجري هنا {سَاء } مجرى نعم وبئس لأن المفسرهنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النجاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله:

{ سَاء مَثَلاً ٱلْقَوْمُ }

لأن المفسر ظاهر في الكلام؛ انتهى. وهذا قول من شدا يسير من العربية ولم يرسخ قدمه فيها بلإذا جرى ساء مجرى نعم وبئس كان حكمها حكمها سواء لا يختلف في شيء البتة من فاعل مضمر أو ظاهروتمييز، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح والذمّ والتمييز فيها لدلالة الكلام عليه فقوله: لأن المفسر هنا مضمر ولابد من إظهاره باتفاق النحاة إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما ذكر عجب عجاب.{وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } أي ومثل تزيين قسمة القربان بينالله وآلهتهم وجعلهم آلهتهم شركاء لله في ذلك. قال الزمخشري: أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين وقالابن الأنباري: ويجوز أن يكون {وَكَذٰلِكَ } مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى وهكذا زين؛ انتهى. و{كَثِيرٍ} يراد به من كان من مشركي العرب. قال مجاهد: {شُرَكَاؤُهُمْ } شياطينهم أمروهم أن يدفنوا بناتهم أحياء خشية العيلة.وقال الكلبي: {شُرَكَاؤُهُمْ } سدنتهم وخزنتهم التي لآلهتهم كانوا يزينون لهم دفن البنات أحياء. وقيل: رؤساؤهم كانوا يقتلون الإناث تكبراًوالذكور خوف الفقر. وقال الزمخشري: {قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ } بالوأد أو بنحرهم للآلهة، وكان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد ليكذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب. وقرأ الجمهور: {زُيّنَ } مبنياً للفاعل ونصب {قَتْلَ } مضافاً إلى {أَوْلَـٰدُهُمْ} ورفع {شُرَكَاؤُهُمْ } فاعلاً بزين وإعراب هذه القراءة واضح، وقرأت فرقة منهم السلمي والحسن وأبو عبد الملك قاضي الجندصاحب ابن عامر {زُيّنَ } مبنياً للمفعول {قَتْلَ } مرفوعاً مضافاً إلى {أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } مرفوعاً على إضمار فعل أيزينه شركاؤهم هكذا خرجه سيبويه، أو فاعلاً بالمصدر أي {قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } كما تقول: حبب لي ركوب الفرس زيدهكذا خرجه قطرب، فعلى توجيه سيبويه الشركاء مزينون لا قاتلون كما ذلك في القراءة الأولى، وعلى توجيه قطرب الشركاء قاتلون.ومجازه أنهم لما كانوا مزينين القتل جعلوا هم القاتلين وإن لم يكونوا مباشري القتل، وقرأت فرقة كذلك إلا أنهم خفضواشركائهم وعلى هذا الشركاء هم الموعودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث، أو لأنهم قسيموا أنفسهم وأبعاض منها. وقرأ ابن عامر:{كَذٰلِكَ } إلا أنه نصب {أَوْلَـٰدُهُمْ } وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهي مسألة مختلف فيجوازها، فجمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخر وهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر، وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودهافي هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهراللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضاً في لسان العرب في عذة أبيات قد ذكرناها في كتاب منهج السالك من تأليفناولا التفات إلى قول ابن عطية وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو لشركاءثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله

: كما خط الكتاب بكف يوما     يهودي يقارب أو يزيل

فكيفبالمفعول في أفصح كلام ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش

: فزججته بمزجة     زج القلوص أبي مزادة

وفي بيت الطرماح وهو قوله

: يطفن بجوزي المراتع لم يرع     بواديه من قرع القسيّ الكنائن

انتهى كلام ابن عطية، ولا التفات أيضاً إلى قول الزمخشري: إن الفصل بينهما يعني بين المضاف والمضافإليه فشا لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر أكان سمجاً مردوداً فكيف به في القرآن المعجز لحسن نظمه وجزالته؟والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر {*الأولاد} والشركاء لأن {أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب؛ انتهى ما قاله. وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد علىعربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراءالأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم ولا التفاتأيضاً لقول أبي علي الفارسي: هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أولى لأنهم لميجزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف وإنما أجازوه في الشعر؛ انتهى. وإذا كانواقد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب هو غلام إن شاء الله أخيك فالفصل بالمفرد أسهل،وقد جاء الفصل في اسم الفاعل في الاختيار. قرأ بعض السلف: مخلف وعده رسله بنصب وعده وخفض رسله وقد استعملأبو الطيب الفصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول اتباعاً لما ورد عن العرب فقال

: بعثت إليه من لساني حديقة     سقاها الحيا سقي الرياض السحائب

وقال أبو الفتح: إذا اتفقكل شيء من ذلك نظر في حال العربي وما جاء به فإن كان فصيحاً وكان ما أورده يقبله القياس فالأولىأن يحسن به الظن، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. وقالأبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير ونحوهما روى ابن سيرين عن عمر بن الخطاب أنه حفظ أقل ذلك وذهب عنهم كثيره يعني الشعر في حكاية فيهاطول. وقال أبو الفتح: فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح إذا سمع منه ما يخالف الجمهور بالخطا؛ انتهى،ملخصاً مقتصراً على بعض ما قاله. وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر {زُيّنَ } بكسر الزاي وسكون الياءعلى القراءة المتقدمة من الفصل بالمفعول، ومعنى {لِيُرْدُوهُمْ } ليهلكوهم من الردى وهو الهلاك {وَلِيَلْبِسُواْ } ليخلطوا و{دِينَهُمُ } ماكانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل {دِينَهُمُ } الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: معناهوليوقعوهم في دين ملتبس. وقرأ النخعي {وَلِيَلْبِسُواْ } بفتح الياء. قال أبو الفتح: استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطةواللام متعلقة بـ{زُيّنَ }. وقال الزمخشري: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلىمعنى الصيرورة. {وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } الظاهر عود الضمير على القتل لأنه المصرّح به والمحدّث عنه والواوفي {فَعَلُوهُ } عائد على الكثير. وقيل: الهاء للتزيين والواو للشركاء. وقيل: الهاء للبس وهذا بعيد. وقيل: لجميع ذلك إنجعلت الضمير جار مجرى الإشارة وهذه الجملة ردّ على من زعم أنه يخلق أفعاله. وقال الزمخشري: {وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ }مشيئة قسر؛ انتهى، وهو على مذهبه الاعتزالي. {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي ما يختلفون من الإفك على الله والأحكامالتي يشرعونها وهو أمر تهديد ووعيد. {وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ } أعلمتعالى بأشياء مما شرعوها وتقسيمات ابتدعوها والتزموها على جهة الفرية والكذب منهم على الله، أفردوا من أنعامهم وزروعهم وثمارهم شيئاًوقالوا: هذا حجر أي حرام ممنوع. وقرأ أبان بن عثمان: نعم على الإفراد. وقرأ باقي السبعة بكسر الحاء وسكون الجيموالحجر بمعى المحجور كالذبح والطحن يستوي في الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات قالهالزمخشر. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم. وقال القرطبي: قرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم، وعن الحسنأيضاً {حِجْرٍ } بضم الحاء. وقرأ أبان بن عثمان وعيسى بن عمر بضم الحاء والجيم، وقال هارون: كان الحسن يضمالحاء من {حِجْرٍ } حيث وقع وقع إلا وحجراً محجوراً فيكسرها وقرأ أبيّ وعبد الله وابن عباس وابن الزبير وعكرمةوعمرو بن دينار والأعمش حرج بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها، وخرج على القلب فمعناه معنى {حِجْرٍ } أومن الحرج وهو التضييق لا يطعمها لا يأكلها إلا من نشاء وهم الرجال دون النساء، أو سدنة الأصنام {بِزَعْمِهِمْ }أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق. {وَأَنْعَـٰمٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا } هي البحائر والسوائب والحوامي وتقدّمتفسيرها في المائدة. {وَأَنْعَـٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا } أي عند الذبح. وقال أبو وائل: وجماعة لا يحجونعليها ولا يلبون كانت تركب في كل وجه إلا في الحج. {ٱفْتِرَاء عَلَيْهِ } اختلاقاً وكذباً على الله حيثقسموا هذه الأنعام هذا التقسيم ونسبوا ذلك إلى الله وانتصب {ٱفْتِرَاء } على أنه مفعول من أجله أو مصدر علىإضمار فعل، أي يفترون أو مصدر على معنى وقالوا: لأنه في معنى افتروا أو مصدر في موضع الحال. {سَيَجْزِيهِمبِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } تهديد شديد ووعيد. {وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلانْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوٰجِنَا }الذي في بطونها هو الأجنة قاله السدّي. وقال الزمخشري: كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حياً فهوخالص لذكورنا ولا تأكل منه الإناث، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث. وقال ابن عباس وقتادة والشعبي: الذي فيبطونها هو اللبن. وقال الطبري: اللفظ يعم الأجنة واللبن؛ انتهى. والظاهر الأجنة لأنها التي في البطن حقيقة، وأما اللبن: ففيالضرع لا في البطن إلا بمجاز بعيد. وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة: خالص بالرفعبغير تاء وهو خبر ما و{لِّذُكُورِنَا } متعلق به. وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني خالصاً بالنصب بغير تاء،وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة أو على الحال من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديمالحال على العامل فيها؛ انتهى ملخصاً. ويعني بقوله: على الحال من {مَا } أي من ضمير {مَا } الذي تضمنهخبر {مَا } وهو {لِّذُكُورِنَا } ويعني بقوله: في إجازته إلى آخره على العامل فيها إذا كان ظرفاً أو مجروراًنحو زيد قائماً في الدار، وخبر {مَا } على هذه القراءة هو {لِّذُكُورِنَا }. وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابنجبير أيضاً {خَالِصَةٌ } بالنصب وإعرابها كإعراب خالصاً بالنصب وخرّج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية. وقرأ ابن عباسأيضاً وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري {خَالِصَةٌ } على الإضافة وهو بدل من {مَا } أو مبتدأخبره {لِّذُكُورِنَا } والجملة خبر ما. وقرأ الجمهور {خَالِصَةٌ } بالرفع وبالتاء وهل التاء للمبالغة كراوية أو حملاً على معنىما لأنها أجنة والعام أو هو مصدر يبنى على فاعلة كالعافية والعافية أي ذو خلوص؟ أقوال: وكان قد سبق لناإن شيخنا علم الدين العراقي رحمه الله ذكر أنه لم يوجد في القرآن حمل على المعنى أولاً ثم حمل علىاللفظ بعده إلا في هذه الآية، ووعدنا أن نحرر ذلك في مكان وما ذكره قاله مكي، قال: الآية في قراءةالجماعة أتت على خلاف نظائرها في القرآن لأن كل ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة إنما يبتدأ أولاًبالحمل على اللفظ، ثم يليه الحمل على معنى نحو

{ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ }

ثم قال:

{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ }

هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب. وهذه الآية تقدم فيها الحمل على المعنى فقال: {خَالِصَةٌ } ثم حمل على اللفظفقال: و{مُحَرَّمٌ } ومثله كل ذلك كان سيئة في قراءة نافع ومن تابعه فأنث على معنى كل لأنها اسم لجميعما تقدّم مما نهي عنه من الخطايا، ثم قال:

{ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا }

فذكر على لفظ كل، وكذلك

{ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ }

حملاً على ما، ووحد الهاء حملاً على لفظ ما. وحكي عن العرب هذاالجراد قد ذهب فأراحنا من أنفسه جمع الأنفس ووحد الهاء وذكرها انتهى وفيه بعض تلخيص. ومن ذهب إلى أن الهاءللمبالغة أو التي في المصدر كالعافية فلا يكون التأنيث حملاً على معنى ما، وعلى تسليم أنه حمل على المعنى فلايتعين أن يكون بدأ أولاً بالحمل على المعنى ثم بالجمل على اللفظ لأن صلة ما متعلقة بفعل محذوف وذلك الفعلمسند إلى ضمير ما ولا يتعين أن يكون وقالوا: ما استقرت في بطون الإنعام، بل الظاهر أن يكون التقدير مااستقر فيكون حمل أولاً على التذكير ثم ثانياً على التأنيث، وإذا احتمل هذا الوجه وهو الراجح لم يكن دليلاً علىأنه بدأ بالحمل على التأنيث أولاً ثم بالحمل على اللفظ وقول مكي هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، أما القرآنفكذلك هو، وأما كلام العرب فجاء فيه الحمل على اللفظ أولاً ثم على المعنى وهو الأكثر وجاء الحمل على المعنىأولاً ثم على اللفظ، وأما قوله: ومثله كل ذلك كان سيئة فليس مثله، بل حمل أولاً على اللفظ في قوله:كان ألا ترى أنه أعاد الضمير مذكراً ثم على المعنى فقال: سيئة وأما قوله: وكذلك ما تركبون فليس مثله، لأنهيحتمل أن يكون التقدير ما تركبونه فيكون قد حمل أولاً على اللفظ ثم على المعنى في قوله: ظهوره ثم علىاللفظ في إفراد الضمير، وأما هذا الجراد قد ذهب فقد حمل أولاً على إفراد الضمير على اللفظ ثم جمع علىالمعنى ثم على اللفظ في إفراد الضمير، ومعنى لأزواجنا: لنسائنا أي معدّة أن تكون أزواجاً قاله مجاهد. وقال ابن زيد:لبناتنا. {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء } كانوا إذا خرج الجنين ميتاً اشترك في أكله الرجال والنساء، وكذلكما مات من الأنعام الموقوفة نفسها. وقرأ أبو بكر: وإن تكن بتاء التأنيث {مَيْتَةً } بالنصب أي وإن تكن الأجنةالتي تخرج ميتة. وقرأ ابن كثير: وإن يكن {مَيْتَةً } بالتذكير وبالرفع على كان التامة وأجاز الأخفش أن تكون الناقصةوجعل الخبر محذوفاً التقدير وإن تكن في بطونها ميتة وفيه بعد. وقال الزمخشري: وقرأ أهل مكة وإن تكن {مَيْتَةً }بالتأنيث والرفع؛ انتهى. فإن عنى ابن كثير فهو وهم وإن عنى غيره من أهل مكة فيمكن أن يكون نقلاً صحيحاًوهذه القراءة التي عزاها الزمخشري لأهل مكة هي قراءة ابن عامر. وقرأ باقي السبعة {وَإِن يَكُنْ } التذكير {مَيْتَةً }بالنصب على تقدير وإن يكن ما في بطونها ميتة. قال أبو عمرو بن العلاء: ويقوي هذه القراءة قوله: {فَهُمْ فِيهِشُرَكَاء } ولم يقل فيها؛ انتهى. وهذا ليس بجيد لأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه قيل:وإن يكن ميتاً {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء }. وقرأ يزيد: {مَيْتَةً } بالتشديد. وقرأ عبد الله {فَهُمْ فِيهِ } سواء.{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي جزا {وَصْفَهُمْ } الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله

{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام }

{ إنه حكيم عليم} أي {حَكِيمٌ } في عذابهم {عَلِيمٌ } بأحوالهم.{قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَاء عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ} كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهنّ وهو دفنهن أحياء، فبعضهم يئد خوف العيلة والإقتاروبعضهم خوف السبي فنزلت هذه الآية. في ذلك إخباراً بخسران فاعل ذلك ولما تقدّم تزيين قتل الأولاد وتحريم ما حرموهفي قولهم {هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } جاء هنا تقديم قتل الأولاد وتلاه التحريم وفي قوله: {يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ }إشارة إلى خفة عقولهم وجهلهم بأن الله هو الرزاق والمقدّر السبي وغيره، ما رزقهم الله إظهار لإباحته لهم فقابلوا إباحةالله بتحريمهم هم وما رزقهم الله يعم السوائب والبحائر والزروع، وترتب على قتلهم أولادهم الخسران معللاً بالسفه والجهل وعلى تحريم{مَا رَزَقَهُمُ } الخسران معللاً بالافتراء ثم الإخبار بالضلال وانتفاء الهداية؛ وكل واحدة من هذه السبعة سبب تام في حصولالذم فأما الخسران فلأن الولد نعمة عظيمة من الله فإذا سعى في إبطال تلك النعمة والهبة فقد خسر واستحق الذمفي الدنيا بقولهم: قتل ولده خوف أن يأكل معه وفي الآخرة العقاب لأن ثمرة الولد المحبة، ومع حصولها ألحق بهأعظم المضار وهو القتل كان أعظم الذنوب فيستحق أعظم العقاب، وأما السفه وهي الخفة المذمومة فقتل الولد لخوف الفقر وإنكان ضرراً فالقتل أعظم منه؛ وأيضاً فالقتل ناجز والفقر موهوم، وأما الجهل فيتولد عنه السفاهة والجهل أعظم القبائح، وأما تحريمما أحل الله فهو من أعظم الجنايات وأما الافتراء فجراءة على الله وهو من أعظم الذنوب، وأما الضلال فهو أنلا يرشدوا في مصالح الدنيا ولا الآخرة، وأما انتفاء الهداية فتنبيه على أنهم لم يكونوا قط فيما سلكوه من ذلكذوي هداية. وقرأ الحسن والسلمي وأهل مكة والشام ومنهما ابن كثير وابن عامر: {قَـٰتِلُواْ } بالتشديد. وقرأ اليمني سفهاء على الجمع.

{ وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } * { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } * { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } * { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } * { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } * { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } عدل

الزرع: الحب المقتات: الحصاد: بفتح الحاء وكسرها كالجذاذ بالفتح والكسر وهو مصدر حصدومصدره أيضاً حصد وهو القياس. وقال سيبويه: جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على فعال وربما قالوا فيه فعال. وقالالفراء: الكسر للحجاز والفتح لنجد وتميم. الحمولة: الإبل التي تحمل الأحمال على ظهورها قاله أبو الهيثم، ولا يدخل فيها البغالولا الحمير وأدخل بعضهم فيها البقر إذ من عادة بعض الناس الحمل عليها. الفرش: الغنم. وقال الزجاج: أجمع أهل اللغةعلى أن الفرش صغار الإبل وأنشد الشاعر

: أورثني حمولة وفرشا     أمشها في كل يوم مشا

وقال آخر

: وحوينا الفرش من أنعامكم     والحمولات وربات الحجل

والفرش: مشترك بين صغار الإبل. قال أبو زيد: ويحتمل إن سميت بالمصدر وهي المفروش من متاع البيتوالزرع إذا فرش والفضاء الواسع واتساع خف البعير قليلاً والأرض الملساء، عن أبي عمرو وفرش النعل وفراش الطائر ونبت يلتصقبالأرض. قال الشاعر

:كمشـفــر النــاب يلــوك الفــرســا    

ويأتي ذكر الاختلاف في الحمولة والفرش إن شاء الله.الإبل الجمال للواحد والجمع، ويجمع على آبال وتأبل الرجل اتخذ إبلاً وقولهم: ما آبل الرجل في التعجب شاذاً. الضأن: معروفبسكون الهمزة وفتحها ويقال: ضئين وكلاهما اسم جمع لضائنة وضائن. المعز: معروف بسكون العين وفتحها ويقال: معيز ومعزى وأمعوز وهيأسماء جموع لماعزة وماعز. السفح: الصب مصدر سفح يسفح والسفح موضع. الظفر: معروف وهو بضم الطاء والفاء وبسكون الفاء وبكسرهماوبسكون الفاء، وأظفور وجمع الثلاثي أظفار وجمع أظفور أظافير وأظافر ورجل أظفر طويل الأظفار. الشحم: معروف. الحوايا: إن قدر وزنهافواعل فجمع حاوية كراوية وروايا أو جمع حاوياء كقاصعا وقواصع، وإن قدر وزنها فعائل فجمع حوية كمطية ومطايا وتقرير صيرورةذلك إلى حوايا مذكور في علم التصريف وهي الدوّارة التي تكون في بطون الشياه ويأتي خلاف المفسرين فيها إن شاءالله تعالى. هلمّ: لغة الحجاز إنها لا تلحقها الضمائر بل تكون هكذا للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فهي عند النحوييناسم فعل ولغة بني تميم لحاق الضمائر على حدّ لحوقها للفعل، فهي عند معظم النحويين فعل لا تتصرف والتزمت العربفتح الميم في اللغة الحجازية وإذا كان أمراً للواحد المذكر في اللغة التميمية فلا يجوز فيها ما جاز في ردّ،ومذهب البصريين أنها مركبة من ها التي للتنبيه ومن الميم ومذهب الفراء من هل وأمّ وتقول للمؤنثات هلممن. وحكى الفراءهلمين وتكون متعدّية بمعنى أخضر ولازمة بمعنى أقبل. الإملاق: الفقر قاله ابن عباس وغيره، يقال: أملق الرجل إذا افتقر ويشبهأن يكون كأرمل أي لم يبق له شيء إلا الملق وهي الحجارة السود وهي الملقة ولم يبق له إلا الرملوالتراب. وقال مؤرج: هو الجوع بلغة لخم. وقال منذر بن سعيد: هو الإنفاق أملق ماله أي أنفقه. وقال محمد بننعيم الترمذي: هو الإسراف في الإنفاق. الكيل: مصدر كال وكال معروف، ثم يطلق على الآلة التي يكالبها كالمكيال. الميزان: مفعالمن الوزن وهو آلة الوزن كالمنقاش والمضراب والمصباح، وتختلف أشكاله باختلاف الأقاليم كالمكيال. {وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَ جَنَّـٰتٍ مَّعْرُوشَـٰتٍ وَغَيْرَمَعْرُوشَـٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـٰبِهٍ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبرعنهم أنه حرموا أشياء مما رزقهم الله، أخذ يذكر تعالى ما امتنّ به عليهم من الرزق الذي تصرّفوا فيه بغيرإذنه تعالى افتراء منهم عليه واختلافاً فذكر نوعي الرزق النباتي والحيواني فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذا،واستطرد منه إلى الحيواني إذ كانوا قد حرّموا أشياء من النوعين و{مَّعْرُوشَـٰتٍ } اسم مفعول يقال: عرّشت الكرم إذا جعلتله دعائم وسمكاً ينعطف عليه القضبان. وهل المعروشات ما غرسه الناس وعرّشوه وغيرها ما نبت في الصحاري والبراري؟ وهو قولابن عباس، أو كل شجر ذيي ساق كالنخل والكرم وكل ما نجم غير ذي ساق كالزرع أو ما يثمر ومالا يثمر أو الكرم قسمت إلى ما عرش فارتفع وإلى ما كان منها منبسطاً على الأرض؟ قاله ابن عباس، أوما حوله حائط وما لا حائط حوله وما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ، وما قام على ساقكالنخل والزرع والأشجار قاله ابن عباس، أو الكرم الذي عرش عنبه وسائر الشجر الذي لا يعرش أو ما يرتفع بعضأغصانه على بعض وما لا يحتاج إلى ذلك، أو ما عادته أن يعرش كالكرم وما يجري مجراه وما لا يعرشكالنخل وما أشبهه؟ تسعة أقوال: والظاهر أن المعروش ما جعل له عرش كرماً كان أو غيره، وغير المعروش ما لميجعل له ذلك، ولما كانت هذه الآية واردة في معنى ذكر المنة والإحسان قدم ما حاجة العرب إليه أشد وماهو أكثر فيه، كما قال تعالى:

{ بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ }

وهو غالب قوتهم، فقل: {وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ } ولماكانت تلك الآية جاءت عقب إنكار الكفار التوحيد وجعلهم معه آلهة، استطرد من ذلك إلى المعاد الأخروي واستدل عليه بقوله:{وَهُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء } فاندرج فيه {ٱلنَّخْلِ * وَٱلزَّرْعَ } كان الابتداءفي التقسيم بذكر الزرع لصغر حبه وهو أدل على التوحيد، والقدرة التامّة وأبلغ في الاعتبار وأسرع في الانتفاع من ماهو فوقه في الجرم، والظاهر دخول {وَٱلنَّخْلَ } وما بعده في قوله: {جَنَّـٰتٍ مَّعْرُوشَـٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَـٰتٍ } فاندرج في {جَنَّـٰتُ} وخص بالذكر وجرد تعظيماً لمنفعته والامتنان به، ومن خص الجنات بقسمها بالكرم قال: ذكر النخل وما بعده ذكر أنواعأخبر تعالى بأنه أنشأها واختلاف أكله وهو المأكول، هو بأن كل نوع من أنواع النخل والزرع طعماً ولوناً وحجماً ورائحةيخالف به النوع الآخر والمعنى مختلفاً أكل ثمره وانتصب مختلفاً على أنه حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء مختلفاً.وقيل: هي حال مقارنة وذلك بتقدير حذف مضاف قبله تقديره وثمر النخل وحب الزرع والضمير في {أَكَلَهُ } عائد على{ٱلنَّخْلِ * وَٱلزَّرْعَ } وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية قال معناه الزمخشري: وليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفرادضمير المتعاطفين. وقال الحوفي: والهاء في {أَكَلَهُ } عائدة على ما تقدّم من ذكر هذه الأشياء المنشآت؛ انتهى. وعلى هذالا يكون ذو الحال {ٱلنَّخْلِ * وَٱلزَّرْعَ } فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها في اختلاف المأكول، ولو كانكما زعم لكان التركيب مختلفاً أكلها إلا إن أخذ ذلك على حذف مضاف أي ثمر جنات وروعي هذا المحذوف فقيل:{أَكَلَهُ } بالإفراد على مراعاته فيكون ذلك نحو قوله:

{ أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يغشاه موج }

أو كذيظلمات، ولذلك أعاد الضمير في {يَغْشَـٰهُ } عليه، والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو {ٱلزَّرْعَ } ويكون قد حذفت حال{ٱلنَّخْلِ } لدلالة هذه الحال عليها، التقدير {وَٱلنَّخْلَ * مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } والزرع مختلفاً أكله كما تأول بعضهم في قولهم:زيد وعمرو قائم أي زيد قائم وعمرو قائم، ويحتمل أن يكون الحال مختصة بالزرع لأن أنواعه مختلفة الشكل جدّاً كالقمحوالشعير والذرة والقطينة والسلت والعدس والجلبان والأرز وغير ذلك، بخلاف النخل فإن الثمر لا يختلف شكله إلا بالصغر والكبر، وتقدّمالكلام على قوله: {وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـٰبِهٍ } فأغني عن إعادته. {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } لماكان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والشحر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسدوتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب، قال: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إشارة إلى الإيجاد أولاً وإلى غايتهوهنا لما كان معرض الغاية الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } فحصل بمجموعهما الحياة الأبديةالسرمدية والحياة الدنيوية السريعة الانقضاء، وتقدّم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب وهذا أمر بإباحة الأكل ويستدل به علىأن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق وقيده بقوله: {إِذَا أَثْمَرَ } وإن كان من المعلوم إنه إذا لم يثمر فلاأكل تنبيهاً على أنه لا ينتظر به محل إدراكه واستوائه، بل متى أمكن الأكل منه فعل. {وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَجَنَّـٰتٍ } والذي يظهر عود الضمير على ما عاد عليه من ثمره وهو جميع ما تقدّم ذكره مما يمكن أنيؤكل إذا أثمر. وقيل: يعود على {ٱلنَّخْلِ } لأنه ليس في الآية ما يجب أن يؤتى حقه عند جذاذه إلاالنخل. وقيل: يعود على {وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ } لأنهما أقرب مذكور. وأفرد الضمير للوجوه التي ذكرناها في قوله {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ }{وَأْتُواْ } أمر على الوجوب وتقدّم الأمر بالأكل على الأمر بالصدقة، لأن تقديم منفعة الإنسان بما يملكه في خاصة نفسهمترجحة على منفعة غيره كما قال تعالى:

{ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا }

وأحسن كما أحسن الله إليك وابدأ بنفسك ثم بمن تعول، إنما الصدقة عن ظهر غنى والحق هنا محمل واختلف فيه أهو الزكاة أمغيرها؟ فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وطاوس وجابر بن زيد وابن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية وابن طاوسوالضحاك وزيد بن أسم وابنه ومالك بن أنس: هو الزكاة واعترض هذا القول بأن السورة مكية وهذه الآية على قولالجمهور غير مستثناة. وحكى الزجاج: أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة. وقال محمد بن علي بن الحسين وهوالباقر وعطاء وحماد ومجاهد وإبراهيم وابن جبير ومحمد بن كعب والربيع بن أنس ويزيد بن الأصم والحكم: هو حق غيرالزكاة. وقال مجاهد: إذا حضر المساكين فاطرح لهم عند الجذاذ وعند التكديس وعند الدرس وعند التصفية، وعنه أيضاً كانوا يعلقونالعذق عند الصرام فيأكل منه من مس. وعن إبراهيم هو الضغث يطرحه للمساكين ولفظ ما يسقط منك من السنبل لايمنعهم منه. وروي عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن وعطية العوفي والسدّي: أنها منسوخة نسخها العشر ونصف العشر. قالسفيان: قلت للسدّي نسخها عن من قال عن العلماء. وقال أبو جعفر النحاس ما ملخصه: هل أريد بها الزكاة أونسخت بالزكاة المفروضة أو بالعشر ونصف العشر أو هي محكمة يراد بها غير الزكاة أو ذلك على الندب؟ خمسة أقوال:وإذا كان معنياً به الزكاة فالظاهر إخراجه من كل ما سبق ذكره، فيعم جميع ما أخرجته الأرض وبه قال أبوحنيفة وزفر إلا الحطب والقصب والحشيش. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء فيما أخرجته الأرض إلا ما كان له ثمرةباقية. وقال مالك: الزكاة في الثمار والحبوب فمن الثمار العنب والزيتون ومن الحب القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والحمص والعدسواللوبيا والجلبان والأرز وما أشبه ذلك إذا كان خمسة أوسق. وقال الشافعي وأبو ثور: يجب في يابس مقتات مدخر لافي زيتون لأنه إدام. وقال الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المبارك ويحيـى بن آدم: لا يجب إلافي الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وعن أحمد أقوال: أظهرها: كمذهب أبي حنيفة إذا كان يوثق فأوجبها في اللوز لأنه مكيلولم يوجبها في الجوز لأنه معدود. وروي عن جماعة من السلف منهم عمرو بن دينار لا صدقة في الخضر. وعنابن عباس: كان يأخذ من دساتيج الكراث العشر بالبصرة. وعن إبراهيم في كل ما أخرجت الأرض حتى في كل عشردساتيج من بقل واحد. وقال الزهري والحسن: يزكى اثنان الخضر والفواكه إذا أينعت وبلغ ثمنها مائتي درهم، وقاله الأوزاعي فيثمن الفواكه. وأما مقدار ما يجب فيه الزكاة فقال أبو حنيفة: في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره. وقال مالك والليثوابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعي: لا يخرج حتى يبلغ خمسة أوسق إذا كان مكيلاً فإن كان غير مكيل،فعن أبي يوسف ومحمد: اختلاف فيما يعتبر وذكروا هنا فروعاً قالوا: لا زكاة عند أصحاب مالك في الجوز واللوز والحلوزوما أشبهها وإن كان مدّخراً، كما لا زكاة عندهم في الإجاص والتفاح والكمثري والمشمش ونحوه مما ييبس ولا يدخر، وعدّمالك التين في الفواكه. وقال ابن حبيب: فيه الزكاة وإليه ذهب جماعة من أتباع مالك إسماعيل بن إسحاق وأبو بكرالأبهري وغيرهم. وقال مالك: لا زكاة في الزيتون. وقال هو والشافعي ولا في الرمان. وقال الزهري والأوزاعي والثوري والليث: تجبالزكاة في الزيتون. وعن مالك لا يخرص الزيتون ولكن يؤخذ العشر من زيته إذا بلغ مكيله خمسة أوسق. وأبو حنيفةفي هذه كلها على أصله وما خصصوه به من عموم الآية يحتاج إلى دليل، والأدلة مذكورة في كتب الفقهاء. والظاهرأن {يَوْمَ حَصَادِهِ } معمول لقوله: {وَأْتُواْ } والمعنى واقصدوا الإيتاء واهتموا به وقت الحصاد فلا يؤخر عن وقت إمكانالإيتاء فيه. ويجوز أن يكون معمولاً لقوله: {حَقَّهُ } أي {وَأْتُواْ } ما استحق {يَوْمَ حَصَادِهِ } فيكون الاستحقاق بإيتاءيوم الحصاد والأداء بعد التصفية ولذلك قال بعضهم في الكلام: محذوف تقديره {وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَ جَنَّـٰتٍ } إلى تصفيته قال:فيكون الحصاد سبباً للوجوب الموسع والتصفية سبب للأداء، والظاهر وجوب إخراج الحق منه كله ما أكل صاحبه وأهله منه وماتركوه وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال جماعة: لا يدخل ما أكل هو وأهله منه في الحق، والظاهر أنه أمربأن يؤتى {حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فلا يخرص عليه. قال النخعي: الخرص اليوم بدعة. وقال الثوري: الخرص غير مستعمل ولايجوز بحال وإنما على رب الحائط أن يؤدّي عشر ما يصل في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق. وقرأ العربيانوعاصم: حصاده بفتح الحاء. وقرأ باقي السبعة بكسرها. {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } لما أمر تعالى بالأكلمن ثماره وبإيتاء حقه، نهى عن مجاوزة الحد فقال: {لا * تُسْرِفُواْ } وهذا النهي يتضمن إفراد الإسراف فيدخل فيهالإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى منها شيء للزكاة، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقى لنفسه ولا لعيالهشيئاً وقيده أبو العالية وابن جريج بالصدقة بجميع المال فيبقى هو وعياله كلاًّ على الناس. وقال ابن جريج: أيضاً: هونهي في الأكل فيأكل حتى لا يبقى ما تجب فيه. وقال الزهري: هو نهي عن النفقة في المعصية. وقيل: فيصرف الصدقة إلى غير الجهة التي افترضت، كما صرف المشركون إلى جهة أصنامهم. وقيل: نهي للعاملين على الصدقة عن أخذالزائد. وروي عن ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس جذ خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يتركلأهله شيئاً فنزلت {وَلاَ تُسْرِفُواْ } أي لا تعطوا كله، وعن ابن جريج جذ معاذ بن جبل فلم يزل يتصدقحتى لم يبق منها شيئاً فنزلت {لا * تُسْرِفُواْ * شَيْئاً }. وقال أبو العالية: كانوا يعطون شيئاً عند الجذاذفتماروا فيه فأسرفوا فنزلت. وقال مجاهد: لو كان أبو قبيس لرجل ذهباً فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ولوأنفق درهماً واحداً في معصية الله كان مسرفاً. وقال إياس بن معاوية: كل ما جاوزت فيه أمر الله فهو سرف.{وَمِنَ ٱلانْعَـٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } هذا معطوف على {جَنَّـٰتُ } أي وأنشأ {مّنَ ٱلاْنْعَـٰمِ * حَمُولَةً وَفَرْشًا } وهلالحمولة ما قاله ابن عباس ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والفرش الغنم؟ أو ما قاله أيضاًما انتفع به من ظهورها والفرش الراعية؟ أو ما قاله ابن مسعود والحسن ومجاهد وابن قتيبة: ما حمل من الإبلوالفرش صغارها؟ أو ما قاله الحسن أيضاً: الإبل والفرش الغنم؟ أو ما قاله ابن زيد: ما يركب والفرش ما يؤكللحمه ويجلب من الغنم والفصلان والعجاجيل؟ أو ما قاله الماتريدي: مراكب النساء والفرش ما يكون للنساء أو ما قاله أيضاً:كل شيء من الحيوان وغيره يقال له فرش؟ تقول العرب: أفرشه الله كذا أي جعله له أو ما قاله بعضهم:ما كان معدّاً للحمل من الحيوانات، والفرش: ما خلق لهم من أصوافها وجلودها التي يفترشونها ويجلسون عليها، أو ما يحملالأثقال. والفرش: ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش. أو ما قاله الضحاك: واختاره النحاس الإبل والبقروالفرش الغنم ورجح هذا بإبدال ثمانية أزواج منه عشرة أقوال، وقدّم الحمولة على الفرش لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفعبها في الحمل والأكل. {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } أي مما أحله الله لكم ولا تحرموا كفعل الجاهلية وهذانص في الإجابة وإزالة لما سنه الكفار من البحيرة والسائبة. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } أي في التحليل والتحريممن عند أنفسكم وتعلقت بها المعتزلة في أن الحرام ليس برزق وتقدّم تفسير

{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ }

إلى آخره فيالبقرة. {ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ مّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ * ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلانْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُٱلانْثَيَيْنِ } تقدّم تفسير المشركين فيما أحلوا وما حرموا ونسبتهم ذلك إلى الله، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي وكان خطيبهم مالك بن عوف بن أبي الأحوص الجشمي فقال: يا محمد بلغنا أنك تحل أشياءفقال له: إنكم قد حرمتم أشياء على غير أصل، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أم من قبل الأنثى فسكت مالك بن عوف وتحير؛ فلو علل بالذكورةوجب أن يحرم الذكر أو بالأنوثة فكذلك أو باشتمال الرحم وجب أن يحرما لاشتمالها عليهما، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامسأو السابع أو ببعض دون بعض فمن أين؟ وروي أنه قال لمالك: ما لك لا تتكلم فقال لهمالك: بل تكلم وأسمع منك والزوج ما كان مع آخر من جنسه وهما زوجان قال:

{ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى }

فإن كان وحده فهو فرد ويعني باثنين ذكراً وأنثى أي كبشاً ونعجة وتيساً وعنزاً وهذا الاستفهام هو استفهامإنكار وتوبيخ وتقريع، حيث نسبوا ما حرموه إلى الله تعالى وكانوا مرة يحرمون الذكور ومرة الإناث ومرة أولادها ذكوراً أوإناثاً أو مختلطة، فبين تعالى أن هذا التقسيم هو من قبل أنفسهم لا من قبله تعالى وانتصب {ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ }على البدل في قول الأكثرين من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا } وهو الظاهر. وأجازوا نصبه بـ{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } وهوقول عليّ بن سليمان وقدره كلوا لحم ثمانية وب(أنشأ) مضمرة قاله الكسائي، وعلى البدل من موضع ما من قوله: {مِمَّارَزَقَكُمُ } وبـ{كُلُواْ } مضمرة وعلى أنها حال أي مختلفة متعددة. وقرأ طلحة بن مصرّف والحسن وعيسى بن عمر: {مّنَٱلضَّأْنِ } بفتح الهمزة. وقرأ الابنان وأبو عمرو: {وَمِنَ ٱلْمَعْزِ } بفتح العين. وقرأ أبي ومن المعزى. وقرأ أبان بنعثمان: اثنان بالرفع على الابتداء والخبر المقدم وتقديم المفعول وتأخير الفعل دل على وقوع تحريمهم الذكور تارة والإناث أخرى، ومااشتملت عليه الرحم أخرى، فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث نسبوه إليه تعالى فقال: {حَرَّمَ } أي حرم الله أي لميحرم تعالى شيئاً من ذلك لا ذكورها ولا إناثها ولا مما تحمله أرحام إناثهما، وقدم في التقسيم الفرش على الحمولةلقرب الذكر وهما طريقان للعرب تارة يراعون القرب وتارة يراعون التقديم، ولأنهما أيسر ما يتملكه ويقتنيه الفقير والغني كما قالالشاعر

:ألا إن لا تكــن إبــل فمعــزى    

وقدّم الضأن على المعز لغلاء ثمنه وطيب لحمهوعظم الانتفاع بصوفه. {نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } أي {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } في نسبة ذلك التحريم إلىالله، فأخبروني عن الله بعلم لا بافتراء ولا بتخرص وأنتم لا علم لكم بذلك إذ لم يأتكم بذلك وحي منالله تعالى، فلا يمكن منكم تنبئة تذلك وفصل بهذه الجملة المعترضة بين المتعاطفين على سبيل التقريع لهم والتوبيخ حيث لميستندوا في تحريمهم إلا إلى الكذب البحت والافتراء. {وَمِنَ ٱلإِبِلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ * ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِٱلانثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلانثَيَيْنِ } انتقل من توبيخهم في نفي علمهم بذلك إلى توبيخهم في نفي شهادتهم ذلكوقت توصية الله إياهم بذلك، لأن مدرك الأشياء المعقول والمحسوس فإذا انتفيا فكيف يحكم بتحليل أو بتحريم؟ وكيفية انتفاء الشهادةمنهم واضحة وكيفية انتفاء العلم بالعقل إن ذلك مستند إلى الوحي وكانوا لا يصدّقون بالرسل، ومع انتفاء هذين كانوا يقولون:إن الله حرم كذا افتراء عليه. قال الزمخشري: فتهكم بهم في قوله:

{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء }

على معنى أعرفتمالتوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل؛ انتهى. وقدم الإبل على البقر لأنها أغلى ثمناً وأغنى نفعاً في الرحلة، وحملالأثقال عليها وأصبر على الجوع والعطش وأطوع وأكثر انقياداً في الإناخة والإثارة. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًالِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي لا أحد {أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } فنسب إليه تحريم ما لميحرمه الله تعالى، فلم يقتصر على افتراء الكذب في حق نفسه وضلالها حتى قصد بذلك ضلال غيره فسنّ هذه السنةالشنعاء وغايته بها إضلال الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها. {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } نفيهداية من وجد منه الظلم وكان من فيه الأظلمية أولى بأن لا يهديه وهذا عموم في الظاهر، وقد تبين تخصيصهمن ما يقتضيه الشرع. {قُل لا أَجِدُ * فِيمَا *أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةًأَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ } لما ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله، أمرهتعالى أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه لا بما تهوي الأنفس وما تختلقه علىالله تعالى، وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة وجاء هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوف بقوله: {مَّسْفُوحًا }والفسق موصوفاً بقوله: {أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } وفي تينك السورتين معرفاً لأن هذه السورة مكية فعلق بالتنكير، وتانك السورتانمدنيتان فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة. وروي عن ابن عامر {فِيمَا *أُوحِىَ } بفتح الهمزة والحاء جعله فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل و{مُحَرَّمًا } صفة لمحذوف تقديره مطعوماً ودل عليه قوله {عَلَىٰطَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } ويطعمه صفة لطاعم. وقرأ الباقر {*بطعمه} بتشديد الطاء وكسر العين والأصل يطتعمه أبدلت تاؤه طاء وأدغمت فيهافاء الكلمة. وقرأت عائشة وأصحاب عبد الله ومحمد بن الحنفية تطعمه بفعل ماض وإلا أن يكون استثناء منقطع لأنه كونوما قبله عين، ويجوز أن يكون نصبه بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز. وقرأ الابنان وحمزةإلا أن تكون بالتاء وابن كثير وحمزة {يَكُونَ مَيْتَةً } بالنصب واسم {يَكُونَ } مضمر يعود على قوله: {مُحَرَّمًا }وأنث لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر {مَيْتَةً } بالرفع جعل كان تامة. وقرأ الباقون بالياء ونصب {مَيْتَةً } واسم كانضمير مذكر يعود على {مُحَرَّمًا } أي {إِلا أَن يَكُونَ } المحرم {مَيْتَةً } وعلى قراءة ابن عامر وهي قراءةأبي جعفر فيما ذكر مكي يكون قوله: {أَوْ * وَمَا } معطوفاً على موضع {أَن يَكُونَ } وعلى قراءة غيره،يكون معطوفاً على قوله: {مَيْتَةً } ومعنى {مَّسْفُوحًا } مصبوباً سائلاً كالدم في العروق لا كالطحال والككبد، وقد رخص فيدم العروق بعد الذبح. وقيل لأبي مجلز: القدر تعلوها الحمرة من الدم. فقال: إنما حرم الله تعالى المسفوح وقالت: نحوهعائشة وعليه إجماع العلماء. وقيل: الدم حرام لأنه إذا زايل فقد سفح. والظاهر أن الضمير في {فَإِنَّهُ } عائد على{لَحْمَ خِنزِيرٍ } وزعم أبو محمد بن حزم أنه عائد على {خِنزِيرٍ } فإنه أقرب مذكور، وإذا احتمل الضمير العودعلى شيئين كان عوده على الأقرب أرجح وعورض بأن المحدث عنه إنما هو اللحم، وجاء ذكر {ٱلْخِنزِيرِ } على سبيلالإضافة إليه لا أنه هو المحدث عنه المعطوف، ويمكن أن يقال: ذكر اللحم تنبيهاً على أنه أعظم ما ينتفع بهمن الخنزير وإن كان سائره مشاركاً له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجساً أو لإطلاق الأكثر على كلهأو الأصل على التابع لأن الشحم وغيره تابع للحم. واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة؟ وهو قول الشعبي وابن جبيرفعلى هذا لا شيء محرم من الحيوان إلا فيها وليس هذا مذهب الجمهور. وقيل: هي منسوخة بآية المائدة، وينبغي أنيفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط. وقيل: جميع ما حرم داخل في الاستثناء سواء كان بنص قرآن أو حديثعن الرسول بالاشتراك في العلة التي هي الرجسية والذي نقوله: إن الآية مكية وجاءت عقيب قوله:{ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } وكان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي من هذه الثمانية، فالآية محكمة وأخبرفيها أنه لم يجد فيما أوحي إليه إذ ذاك من القرآن سوى ما ذكر ولذلك أتت صلة {مَا } جملةمصدرة بالفعل الماضي فجميع ما حرّم بالمدينة لم يكن إذ ذاك سبق منه وحي فيه بمكة فلا تعارض بين ماحرم بالمدينة وبين ما أخبر أنه أوحي إليه بمكة تحريمه، وذكر {ٱلْخِنزِيرِ } وإن لم يكن من ثمانية الأزواج لأنمن الناس من كان يأكله إذ ذاك ولأنه أشبه شيء بثمانية الأزواج في كونه ليس سبعاً مفترساً يأكل اللحوم ويتعذىبها، وإنما هو من نمط الثمانية في كونه يعيش بالنبات ويرعى كما ترعى الثمانية. وذكر المفسرون هنا أشياء مما اختلفأهل العلم فيه ونلخص من ذلك شيئاً، فنقول: أما الحمر الأهلية: مذهب الشعبي: وابن جبير إلى انه يجوز أكلها وتحريمرسول الله لها إنما كان لعلة واما لحوم الخيل فاختلف فيها السلف وأباحها الشافعي وابن حنبل وأبو يوسف ومحمد بنالحسن، وعن أبي حنيفة الكراهة. فقيل: كراهة تنزيه. وقيل: كراهة تحريم وهو قول مالك والأوزاعي والحكم بن عيينة وأبي عبيدوأبي بكر الأصم وقال به من التابعين مجاهد ومن الصحابة ابن عباس، وروى عنه خلافه وقد صنف في حكم لحومالخيل جزءاً أقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن ابراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي رحمه الله قرأناه عليه وأجمعوا علىتحريم البغال، وأما الحمار الوحشي إذا تأنس فذهب أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي إلى جواز أكله وروى ابنالقاسم عن مالك أنه إذا دجن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي أنه لا يؤكل. وقال أبو حنيفة وأبويوسف وزفر ومحمد: لا يحل أكل ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير. وقال مالك: لا يؤكل سباع الوحشولا البر وحشياً كان أو أهلياً ولا الثعلب ولا الضبع ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقاب والنسور وغيرها ماأكل الجيفة وما لم يأكل. وقال الأوزاعي: الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم. وقال الشافعي: ما عدا على الناسمن ذي الناب كالأسد والذئب والنمر وعلى الطيور من ذي المخلب كالنسر والبازي لا يؤكل، ويؤكل الثعلب والضبع وكره أبوحنيفة الغراب الأبقع لا الغراب الزرعي والخلاف في الحدأة كالخلاف في العقاب والنسر وكره أبو حنيفة الضب. وقال مالك والشافعي:لا بأس به والجمهور على أنه لا يؤكل الهر الإنسي وعن مالك جواز أكله إنسياً كان أو وحشياً وعن بعضالسلف جواز أكل إنسية. وقال ابن أبي ليلى: لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت. وقال الليث: لا بأس بأكل القنفذوفراخ النحل ودود الجبن ودود التمر ونحوه وكذا قال ابن القاسم عن مالك في القنفذ. وقال أبو حنيفة والشافعي: لاتؤكل الفأرة. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل اليربوع. وقال الشافعي: يؤكل وعن مالك في الفأر التحريم والكراهة والإباحة، وذهب أبوحنيفة والشافعي وأصحابهما إلى كراهة أكل الجلالة. وقال مالك والليث: لا بأس بأكلها. وقال صاحب التحرير والتحبير: وأما المخدرات كالبنجوالسيكران واللفاح وورق القنب المسمى بالحشيشة فلم يصرح فيها أهل العلم بالتحريم وهي عندي إلى التحريم أقرب، لأنها إن كانتمسكرة فهي محرّمة بقوله : ما أسكر كثيره فقليله حرام وبقوله: كل مسكر حرام وإن كانت غير مسكرة فإدخال الضرر على الجسم حرام. وقد نقل ابن بخنتيشوع في كتابه: إن ورق القنب يحدثفي الجسم سبعين داءً وذكر منها أنه يصفر الجلد ويسوّد الأسنان ويجعل فيها الحفر ويثقب الكبد ويحميها ويفسد العقل ويضعفالبصر ويحدث الغم ويذهب الشجاعة والبنج، والسيكران كالورق في الضرر وأما المرقدات كالزعفران والمازريون فالقدر المضر منها حرام، وقال جمهورالأطباء: إذا استعمل من الزعفران كثير قتل فرحاً؛ انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال أبو بكر الرازي في قوله: {عَلَىٰ طَاعِمٍيَطْعَمُهُ } دلالة على أن المحرّم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها وإن لم يتناول الجلد المدبوغ ولا القرنولا العظم ولا الظلف ولا الريش ونحوها، وفي قوله: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } دلالة على أن دم البق والبراغيث والذبابليس بنجس؛ انتهى {أَوْ فِسْقًا } الظاهر أنه معطوف على المنصوب قبله سمى ما أهلّ لغير الله به فسقاً لتوغلهفي باب الفسق ومنه {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } وأنه لفسق وأهل صفة له منصوبة المحلوأجاز الزمخشري أن ينتصب فسقاً على أنه مفعول من أجله مقدم على العامل فيه وهو أهلّ لقوله

.طـربت ومـا شوقـاً إلى البيض أطـرب    

وفصل به بين أو وأهل بالمفعول له ويكون أو أهل معطوفاً على {يَكُونَ} والضمير في {بِهِ } يعود على ما عاد عليه في {يَكُونَ } وهذا إعراب متكلف جداً وتركيب على هذاالإعراب خارج عن الفصاحة وغير جائز في قراءة من قرأ {إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } بالرفع فيبقى الضمير في {بِهِ} ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير أو شيء {أُهِلَّلِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. {فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍفَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تقدّم تفسير مثل هذا ولما كان صدر الآية مفتتحاً بخطابه تعالى بقوله: {قُل لا أَجِدُ} اختتم الآية بالخطاب فقال: فإن ربك ودلّ على اعتنائه به تعال بتشريف خطابه افتتاحاً واختتاماً. {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْحَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } مناسبة هذه لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي أخبر أنهحرّم على بعض الأمم السابقة أشياء، كما حرّم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل فالتحريم إنماهو راجع إلى الله تعالى في الأمم جميعها وفي قوله: {حَرَّمْنَا } تكذيب اليهود في قولهم: إن الله لم يحرمعلينا شيئاً وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والسدّي: هيذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والإوز ونحوهما، واختاره الزجاج. وقال ابن زيد: هي الإبل خاصةوضعف هذا التخصيص. وقال الضحاك: هي النعامة وحمار الوحش وهو ضعيف لتخصيصه. وقال الكلبي: كل ذي مخلب من الطير وذيحافر من الدواب وذي ناب من السباع. وقال القتبي: الظفر هنا بمنزلة الحافر يدخل فيه كل ذي حافر من الدوابسمى الحافر ظفر استعارة. وقال ثعلب: كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب. قال النقاش:هذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر. وقال الزمخشري: ما له أصبع من دابة أو طائر، وكان بعض ذوات الظفرحلالاً لهم فلما ظلموا حرم ذلك عليهم فعم التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله:

{ فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }

وقال أبو عبد الله الرازي: حمل الظفر على الحافر ضعيف لأن الحافر لا يكاد يسمىظفراً ولأنه لو كان كذلك لقيل: حرم عليهم كل حيوان له حافر وذلك باطل لدلالة الآية على إباحة البقر والغنممع أنها لها حافر، فوجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات لجوارح الصيد في الاصطياد فيدخل فيه أنواعالسباع والكلاب والسنانير والطيور التي تصطاد ويكون هذا مختصاً باليهود لدلالة {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ } على الحصر فيختص التحريم باليهودولا تكون محرمة على المسلمين وما روي من تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير ضعيف، لأنه خبرواحد على خلاف كتاب الله فلا يقبل ويقوي مذهب مالك؛ انتهى، ملخصاً وفيه منوع. أحدها: لا نسلم تخصيص ذي الظفربما قاله. الثاني: لا نسلم الحصر الذي ادّعاه. الثالث: لا نسلم الاختصاص. الرابع: لا نسلم إن خبر الواحد في تحريمذي الناب وذي المخلب على خلاف كتاب الله وكل من فسر الظفر بما فسره من ذوي الأقوال السابقة بذاهب إلىتحريم لحم ما فسره وشحمه وكل شيء منه. وذهب بعض المفسرين إلى أن ذلك على حذف مضاف وليس المحرم ذاالظفر وإنما المراد ما صاده ذو الظفر أي ذو المخلب الذي لم يعلم وهذا خلاف الظاهر. وقرأ أبي الحسن والأعرج{ظُفُرٍ } بسكون الفاء والحسن أيضاً وأبو السمال قعنب بسكونها وكسر الطاء. {وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } أيشحوم الجنسين ويتعلق من بحرمنا المتأخرة ولا يجب تقدمها على العامل، فلو كان التركيب وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومهالكان تركيباً غريباً، كما تقول: من زيد أخذت ماله ويجوز أخذت من زيد ماله، والإضافة تدل على تأكيد التخصيص والربطإذ لو أتى في الكلام من البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لكان كافياً في الدلالة على أنه لا يراد إلاشحوم البقر والغنم، ويحتمل أن يكون {ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ } معطوفاً على {كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } فيتعلق من بحرمناالأولى ثم جاءت الجملة الثانية مفسرة ما أبهم في من التبيعيضة من المحرم فقال: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ }. وقال أبو البقاء:لا يجوز أن يكون {مِنْ * ٱلْبَقَرِ } متعلقاً بحرمنا الثانية بل ذلك معطوف على كل {وَحَرَّمْنَا * عَلَيْهِمْ }تبيين للمحرّم من البقر والغنم وكأنه يوهم أن عود الضمير مانع من التعلق إذ رتبة المجرور بمن التأخير، لكن عنماذا أما عن الفعل فمسلم وأما عن المفعول فغير مسلم وإن سلمنا أن رتبته التأخير عن الفعل والمفعول ليس بممنوع،بل يجوز ذلك كما جاز ضرب غلام المرأة أبوها وغلام المرأة ضرب أبوها وإن كانت رتبة المفعول التأخير، لكنه وجبهنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبته التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة أعنيفي كونهما فضلة فلا يبالي فيهما بتقديم أيهما شئت على الآخر. وقال الشاعر

:وقـد ركـدت وسط السمـاء نجومهــا    

فقدّم الظرف وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف واختلف في تحريم ذلك على المسلمين منذبائح اليهود، فعن مالك منع أكل الشحم من ذبائحهم وروي عنه الكراهة، وأباح ذلك بعض الناس من ذبائحهم ومن ذبحهمما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مسلم. وقال ابن حبيب: ما كان معلوماً تحريمه عليهم من كتابنا فلا يحللنا من ذبائحهم، وما لم نعلمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم؛ انتهى. فظاهر قوله:

{ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ }

إن الشحم الذي هو من ذبائحهم لا يحل لنا أنه ليس من طعامهم فلايدخل تحت عموم {وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ } وحمل قوله: {وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ } على الذبائح فيه بعد وهو خلاف الظاهر. {إِلاَّمَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } أي إلا الشحم الذي حملته ظهورهما البقر والغنم. قال ابن عباس: هو مما علق بالظهر منالشحم وبالجنب من داخل بطونهما. وقيل: سمين الظهر وهي الشرائح التي على الظهر من الشحم فإن ذلك لم يحرم عليهم.وقال السديّ وأبو صالح: الاليات مما حملت ظهورهما. {أَوِ ٱلْحَوَايَا } هو معطوف على {ظُهُورُهُمَا } قاله الكسائي، وهوالظاهر أي والشحم الذي حملته {ٱلْحَوَايَا }. قال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد والسدّي وابن زيد: هي المباعر.وقال علي بن عيسى: هو كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار. وقال ابن زيد أيضاً: هي بنات اللبن. وقيل: الأمعاءوالمصارين التي عليها الشحم. {أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } هو معطوف على {مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } بعظم هو شحمالإلية لأنه على العصعص قاله السدّي وابن جريج، أو شحم الجنب أو كل شحم في القوائم والجنب والرأس والعينين والأذنينقاله ابن جريج أيضاً، أو مخ العظم والظاهر أن هذه الثلاثة مستثناة من الشحم فهي حلال لهم. قيل: بالمحرم أذبشحم الثرب والكلى. وقيل: أو الحوايا أو ما اختلط بعظم معطوف على قوله {شُحُومَهُمَا } فتكون داخلة في المحرم أيحرمنا عليهم شحومهما {أَوِ ٱلْحَوَايَا } أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما وتكون أو كهي في قوله

{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً }

يراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد، كما تقول: هؤلاء أهل أنيعصوا فاعص هذا أو هذا فالمعنى حرم عليهم هذا وهذا. قال الزمخشري: وأو بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابنسيرين؛ انتهى. وقال النحويون: أو في هذا المثال للإباحة فيجوز له أن يجالسهما معاً وأن يجالس أحدهما، والأحسن في الآيةإذا قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون أوفية للتفصيل فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم. وقالابن عطية: وقال بعض الناس {أَوِ ٱلْحَوَايَا } معطوف على الشحوم. قال: وعلى هذا يدخل الحويا في التحريم وهذا قوللا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه؛ انتهى. ولم يبين دفع اللفظ والمعنى لهذا القول. {ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم بِبَغْيِهِمْ }قال ابن عطية: {ذٰلِكَ } في موضع رفع وقال الحوفي: {ذٰلِكَ } في موضع رفع على إضمار مبتدإ تقديره الأمرذلك، ويجوز أن يكون نصب بـ {جَزَيْنَـٰهُم } لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك. وقال أبو البقاء: {ذٰلِكَ }في موضع نصب بـ{جَزَيْنَـٰهُم } لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك. وقال أبو البقاء: {ذٰلِكَ } في موضع نصببـ{جَزَيْنَـٰهُم } ولم يبين على أيّ شيء انتصب هل على المصدر أو على المفعول بإذ؟ وقيل: مبتدأ والتقدير جزيناهموه؛ انتهى،وهذا ضعيف لضعف زيد ضربت. وقال الزمخشري: ذلك الجزاء {جَزَيْنَـٰهُم } وهو تحريم الطيبات؛ انتهى. وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر،وزعم ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا واتبع بالمصدر فتقول: قمت هذا القيام وقعدتذلك العقود، ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر،والبغي هنا الظلم. وقال الحسن: الكفر. وقال أبو عبد الله الرازي: هو قتلهم الأنبياء بغير حق وأخذهم الربا وأكلهم أموالالناس بالباطل، ونظيره

{ فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا }

وهذا يقتضي أن هذا التحريم كان عقوبة لهم على ذنوبهمواستعصائهم على الأنبياء. قال القاضي: نفس التحريم لا يكون عقوبة على جرم صدر منهم، لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثوابإحسان. والجواب: أن المنع من الانتفاع يمكن لمن يرى استحقاق الثواب، ويمكن أن يكون للجرم المتقدم وكل واحد منهما غيرمستبعد. {وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ } في الإخبار عما {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ }. وقال ابن عطية: إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم:ما حرم الله علينا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه، ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم. وقال التبريزي: في اتمامجزائهم في الآخرة الذي سبق الوعيد فيكون التحريم من الجزاء لمعجل لهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وقالالزمخشري {وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ }{وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ } فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة، فلماعصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب؛ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍوٰسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } الظاهر عود الضمير على أقرب مذكور وهم اليهود وقاله مجاهد والسدّي أي{فَإِن كَذَّبُوكَ } فيما أخبرت به أنه تعالى حرمه عليهم وقالوا: لم يحرمه الله وإنما حرمه إسرائيل قبل متعجباً منقولهم: ومعظماً لافترائهم مع علمهم بما قلت: {فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وٰسِعَةٍ } حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدّة هذاالجرم كما تقول عند رؤية معصية عظيمة. ما أحلم ٰالله وأنت تريد لإمهاله العاصي. وقيل: الضمير للمشركين الذين كان الكلاممعهم في قوله: }نبئوني} وقوله: {*}نبئوني} وقوله: {*} وقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } أي {فَإِن كَذَّبُوكَ } في النبوة والرسالةوتبليغ أحكام الله. وقال الزمخشري: {فَإِن كَذَّبُوكَ } في ذلك وزعموا أن الله واسع المغفرة وأنه لا يؤاخذنا بالبغي ويخلفالوعيد جوداً وكرماً {فَقُل لَّهُمْ * رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وٰسِعَةٍ } لأهل طاعته {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } مع سعة رحمته{عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته؛ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال و{ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } عاميندرج فيه مكذبو الرسل وغيرهم من لمجرمين، ويحتمل أن يكون من وقوع الظاهرموقع المضمر أي {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } عنكموجاء معمول {قُلْ } الأول جملة اسمية لأنها أبلغ في الإخبار من الجملة الفعلية، فناسبت الأبلغية في الله تعالى بالرحمةالواسعة وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت اسمية فيكون التركيب وذو بأس لئلا يتعادل الإخبار عن الوصفين وباب الرحمة واسعفلا تعادل. وقال الماتريدي: {فَإِن كَذَّبُوكَ } فيما تدعوهم إليه من التصديق والتوحيد {فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وٰسِعَةٍ } إذارجعتم عن التكذيب؛ انتهى. وقيل: {ذُو رَحْمَةٍ } لا يهلك أحداً وقت المعصية ولكن يؤخر {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } إذانزل. {سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء } هذا إخبار بمستقبل،وقد وقع وفيه إخبار بمغيب معجزة للرسول فكان كما أخبر به تعالى وهذا القول منهم ورد حين بطل احتجاجهم وثبتالرد عليهم فعدلوا إلى أمر حق وهو أنه لو أراد الله أن لا يقع من ذلك شيء، وأوردوا ذلك علىسبيل الحوالة على المشيئة والمقادير مغالطة وحيدة عن الحق وإلحاداً لا اعتقاداً صحيحاً وقالوا: ذلك اعتقاداً صحيحاً حين قارفوا تلكالأشياء استمساكاً بأن ما شاء الله هو الكائن كما يقول: الواقع في معصية إذا بين له وجهها: هذا قدر اللهلا مهرب ولا مفر من قدر الله أو قالوا ذلك وهو حق على سبيل الاحتجاج على تلك الأشياء، أي لولم يرد الله ما نحن عليه لم يقع ولحال بيننا وبينه. وقال الزمخشري: يعنون بكفرهم وتمردهم أن شركهم وشرك آبائهموتحريمهم ما أحل الله بمشيئة الله وإرادته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك كمذهب المجبرة بعينه؛ انتهى، وهو علىطريقة الاعتزال. وقال الماتريدي: يحتمل أن تكون المشيئة بمعنى الرضا أو بمعنى الأمر والدعاء لأنهم قالوا: إن الله أمرنا بذلك،ويحتمل أن قالوه استهزاء وسخرية انتهى. ولا تعلق للمعتزلة بذلك مع هذه الاحتمالات. قال ابن عطية: وتعلقت المعتزلة بهذه الآيةفقالوا: إن الله قد ذم لهم هذه المقالة وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله بل هو خلق لهم قال:وليس الأمر على ما قالوا، وإنما ذم الله ظنّ المشركين إن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب وأما أنهذم قولهم: لولا المشيئة لم تكفر فلا؛ انتهى. و{ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } مشركو قريش أو مشركو العرب قولان، {وَلاَ ىَابَاؤُنَا }معطوف على الضمير المرفوع وأغني الفصل بلا بين حرف العطف والمعطوف على الفصل بين المتعاطفين بضمير منفصل يلي الضمير المتصلأو بغيره. وعلى هذا مذهب البصريين لا يجيزون ذلك بغير فصل إلا في الشعر ومذهب الكوفيين جواز ذلك وهو عندهمفصيح في الكلام. وجاء في سورة النحل

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ }

فقال: من دونه مرتين وقال: نحن فأكد الضمير لأن لفظ العبادة يصحأن ينسب إلى إفراد الله بها وهذا ليس بمستنكر، بل المستنكر عبادة شيء غير الله أو شيء مع الله فناسبهنا ذكر من دونه مع العبادة، وأما لفظ {مَا أَشْرَكْنَا } فالإشراك يدل على إثبات شريك فلا يتركب مع هذاالفعل لفظ من دونه لو كان التركيب في غير القرآن {مَا أَشْرَكْنَا } من دونه لم يصح معناه، وأما مندونه الثانية فالإشراك يدل على تحريم أشياء وتحليل أشياء، فلم يحتج إلى لفظ من دونه وأما لفظ العبادة فلا يدلعلى تحريم شيء كما دل عليه لفظ أشرك فقيد بقوله: من دونه ولما حذف من دونه هنا ناسب أن يحذفنحن ليطرد التركيب في التخفيف. {كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا } أي مثل ذلك التكذيب المشارإليه في قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ } فقد كذبت الأمم السالفة، فمتعلق التكذيب هو غير قولهم: {فَلَوْ شَاء * ٱللَّهُ مَاأَشْرَكْنَا } الآية أي بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم وحتى ذاقوا بأسناغاية لامتداد التكذيب إلى وقت العذاب، لأنه إذا حلّ العذاب لم يبق تكذيب وجعلت المعتزلة التكذيب راجعاً إلى قوله {وَلَوْشَاء ٱللَّهُ } الجملة التي هي محكية بالقول وقالوا: كذبهم الله في قولهم ويؤيده قراءة بعض الشواذ كذب. وقال الزمخشري:أي جاؤوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته منمشيئة القبائح وإرادتها والرسل أخبرت بذلك، فمن علق وجوه القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كلهوهو تكذيب الله وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره؛ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {قُلْ هَلْ عِندَكُممّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } استفهام على معنى التهكم بهم وهو إنكار،أي ليس عدكم من علم تحتجون به فتظهرونه لنا ما تتبعون في دعاواكم إلا الظنّ الكاذب الفاسد، وما أنتم إلاتكذبون أو تقدرون وتحزرون. وقرأ النخعيّ وابن وثاب: إن يتبعون بالياء. قال ابن عطية: وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله {وَإِنْأَنتُمْ } لأنه يكون من باب الالتفات. {قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } بين {قُلْ }والفاء محذوف قدره الزمخشري فإن كان الأمر كما زعمتم إن ما أنتم عليه بمشيئة الله فللّه الحجة البالغة عليكم وعلىردّ مذهبكم، {لَوْ شَاء * لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } منكم ومن مخالفيكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دينمن يخالفكم أيضاً بمشيئته فتوالوهم ولا تعادوهم وتوقروهم ولا تخالفوهم، لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما همعليه؛ انتهى. وهذا تفسير للآية على ما تقرر قبل في الآيات السابقة من مذهب الاعتزال والذي قدّره الزمخشري من شرطمحذوف و{فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ } في جوابه بعيد والأولى تقديره أنتم لا حجة لكم أي على إشراككم ولا على تحريمكممن قبل أنفسكم غير مستندين إلى وحي ولا على افترائكم على الله إنه حرم ما حرمتم، {فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ }في الاحتجاج الغالبة كل حجة حيث خلق عقولاً يفكر بها وأسماعاً يسمع بها وأبصاراً يبصر بها وكل هذه مدارك للتوحيدولاتباع ما جاءت به الرسل عن الله. قال أبو نصر القشيري: {ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ } تبيين للتوحيد وإيداء الرسل بالمعجزات فألزمأمره كل مكلف، فأما علمه وإرادته فغيب لا يطلع عليه العبد ويكفي في التكليف أن يكون العبد لو أراد أنيفعل ما أمر به مكنه، وخلاف المعلوم مقدور فلا يلتحق بما يكون محالاً في نفسه؛ انتهى، وفي آخر كلامه نظر.قال الكرماني: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ } هداية إلجاء واضطرار؛ انتهى، وهذه نزعة اعتزالية. وقال أبو نصر بن القشيري: هذا تصريحبأن الكفر واقع بمشئة الله تعالى. وقال البغوي: هذا يدل إنه لم يشأ إيمان الكافر. {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ ٱلَّذِينَيَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } بين تعالى كذبهم على الله وافتراءهم في تحريم ماحرموا منسوباً إلى الله تعالى فقال: {أُنزِلِ بِعِلْمِ } وقال: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } ولما انتفى هذان الوجهان انتقل إلىوجه ليس بهذين الوجهين وهو أن يستدعي منهم من يشهد لهم بتحريم الله ما حرموا، و{هَلُمَّ } هنا على لغةالحجاز وهي متعدية ولذلك انتصب المفعول به بعدها أي أحضروا شهداءكم وقربوهم وإضافة الشهداء إليهم تذل على أنهم غيرهم وهذاأمر على سبيل التعجيز، أي لا يوجد من يشهد بذلك شهادة حق لأنها دعوى كاذبة ولهذا قال: {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَتَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي فإن فرض أنهم يشهدون فلا تشهد معهم أي لا توافقهم لأنهم كذبة في شهادتهم كما أنالشهود لهم كذبة في دعواهم، وأضاف الشهداء إليهم أي الذين أعددتموهم شهوداً لكم بما تشتهي أنفسكم ولذلك وصف بـ{ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ} أي هم مؤمنون بالشهادة لهم وبنصرة دعاواهم الكاذبة، ولو قيل: {هَلُمَّ } شهداء بالتنكير لفات المعنى الذي اقتضته الإضافةوالوصف بالموصوف إذا كان المعنى هلم أناساً يشهدون بتحريم ذلك فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ينافي معنى الآية. وقالالحسن: أحضروا شهداءكم من أنفسكم، قال ولا تجدون ولو حضروا لم تقبل شهداتهم لأنها كاذبة. وقال ابن عطية: فإن افترىأحد وزوّر شهادة أو خبر عن نبوة فتجنب أنت ذلك ولا تشهد معهم، وفي قوله: {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } قوةوصف شهادتهم بنهاية الزور. وقال أبو نصر القشيري: فإن شهد بعضهم لبعض فلا يصدق إذ الشهادة من كتاب أو علىلسان نبي وليس معهم شيء من ذلك. قال الزمخشري: أمرهم باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر ويظهر للمشهودلهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء لتساوي أقدام الشاهدين، والمشهود لهم في أنهم يرجعون إلى ما يصح التمسك بهوقوله: {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهممثل شهادتهم فكان واحداً منهم؛ انتهى، وهو تكثير. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ وَهُمبِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ } الظاهر في العطف أنه يدل على مغايرة الذوات و{ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } يعم جميع من كذب الرسولوإن كان مقراباً بالآخرة كأهل الكتاب. {وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ } قسم من المكذبين بالآيات وهم عبدة الأوثان والجاعلون لربهمعديلاً وهو المثل عدلوا به الأصنام في العبادة والإلهية، ويحتمل أن يكون العطف من تغاير الصفات والموصوف واحد وهو قولأكثر الناس، ويظهر أنه اختيار الزمخشري لأنه قال: {لاَ تَتَّبِعُواْ * أَهْوَاء ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا } من وضع الظاهر موضعالمضمر لدلالته على إن من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير، لأنه لو تبع الدليللم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحد الله. وقال النقاش: نزلت في الدهرية من الزنادقة. {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَرَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } لما ذكر تعالى ما حرّموه افتراء عليه ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان،ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها وتقدم شرح {تَعَالَوْاْ }فيقوله تعالى:

{ إِلَىٰ كَلِمَةٍ }

والخطاب في قل للرسول وفي تعالوا قيل للمشركين. وقيل: لمن بحضرة الرسول من مؤمنوكتابي ومشرك وسياق الآيات يدل على أنه للمشركين، وإن كان حكم غيرهم في ذلك حكمهم أمره تعالى أن دعو جميعالخلق إلى سماع ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر، وأتل أسرد وأقص من التلاوة وهي اتباعبعض الحروف بعضاً. وقال كعب الأحبار: هذه الآيات مفتتح التوراة بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْعَلَيْكُمْ * أَن لا * تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } إلى آخر الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحكمات التيذكرها الله في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: إنها العشر كلماتالمنزلة على موسى عليه السلام و{مَا } بمعنى الذي وهي مفعولة باتل أي اقرأ الذي حرمه ربكم عليك. وقيل: مصدريةأي تحريم ربكم. وقيل: استفهامية منصوبة بحرّم أي أي شيء حرم ربكم، ويكون قد علق أتل وهذا ضعيف لأن أتلليس من أفعال القلوب فلا تعلق و{عَلَيْكُمْ } متعلق بـ حرم لا بأتل فهو من أعمال الثاني. وقال ابن الشجري:إن علقته باتل فهو جيد لأنه أسبق وهو اختيار الكوفيين فالتقدير اتل عليكم الذي حرّم ربكم. {أَن لا *تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } الظاهر أن {ءانٍ } تفسيرية و {لا } ناهية لأن {ٱتْلُ } فعل بمعنىالقول وما بعد {ءانٍ } جملة فاجتمع في أن شرطا التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى لقول وأن يكون بعدها جملةوذلك بخلاف أي فإنها حرف تفسير يكون قبلها مفرد وجملة يكون فيها معنى القول وغيرها، وبعدها مفرد وجملة وجعلها تفسيريةهو اختيار الزمخشري فإن قلت: إذا جعلت أن مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما {حَرَّمَ رَبُّكُمْ } وجب أن يكونما بعده منهياً عنه محرماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما يصنع بالأوامر؟ قلت: لما وردتهذه الأوامر مع النواهي وتقدّمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها وهيالإشارة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله؛ انتهى. وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخولتحت حكم التحريم وكون التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيد جداً وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وأماعطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين: أحدهما: أنها معطوفة على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أنالتفسيرية بل هي معطوفة على قوله: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ } أمرهم أولاً بأمر يترتب عليه ذكر مناه ثم أمرهمثانياً بأوامر وهذا معنى واضح، {إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَأَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ وَهُمبِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } مانهاكم ربكم عنه، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوفألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهيعلى الأمر كما قال امرؤ القيس

: يقولون لا تهلك أسًى وتجمل©†    

وهذا لا نعلم فيهخلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً وقد جوزوا في أن {ءانٍ } تكونمصدرية لا تفسيرية في موضع رفع وفي موضع نصب. فأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ دل عليه المعنى أو التقدير المتلو{أَنلا * تُشْرِكُواْ }. وأما النصب فمن وجوه. أحدها: أن يكون منصوباً بقوله: {عَلَيْكُمْ } ويكون من باب الإغراء وتمالكلام عند قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } أي التزموا انتفاء الإشراك وهذا بعيد لتفكيك الكلام عن ظاهره. الثاني: أميكون مفعولاً من أجله أي {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } {أَن لا * تُشْرِكُواْ } وهذا بعيد لأن ماجاء بعده أمر معطوف بالواو ومناه هي معطوفة بالواو فلا يناسب أن يكون تبييناً لما حرم، أما الأوامر فمن حيثالمعنى وأما المناهي فمن حيث العطف. الثالث: أن يكون مفعولاً بفعل محذوف تقديره أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله: {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِإِحْسَـٰناً } محمول على أوصيكم {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } وهذا بعيد لأن الإضمار على خلاف الأصل: وهذه الأوجه الثلاثة لا فيهاباقية على أصل وضعها من النفي وهو مراد. الرابع: أن يكون في موضع نصب على البدل من {مَا حَرَّمَ }أو من الضمير المحذوف من{مَا حَرَّمَ } إذ تقديره ما حرمه وهذان الوجهان لا فيهما زائدة كهي في قوله:

{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ * إِذْ أَمَرْتُكَ }

وهذا ضعيف لانحصار عموم المحرم في الإشراك إذ ما بعده من الأمرليس داخلاً من المحرم ولا بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعاء زيادة لا فيه لظهور أن لا فيها للنهي.وقال الزمخشري: فإن قلت هلا قلت هي التي تنصب الفعل وجعلت {أَن لا * تُشْرِكُواْ }بدلاً من {مَا حَرَّمَ} قلت: وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها وهي قوله:{وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } لأن التقدير وأحسنوا {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } وأوفوا وإذا قلتم فاعدلوا وبعهد الله أوفوا؛ انتهى. ولا يتعين أنتكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا بينا جواز عطف {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } على {تَعَالَوْاْ }وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله: {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } معطوفاً على {ءانٍ } و {أَن لا * تُشْرِكُواْ }شامل لمن أشرك بالله الأصنام كقوم إبراهيم ومن أشرك بالله الجن ومن أشرك بنين وبنات. وقال ابن الجوزي: قيل ادعاءشريك لله. وقيل: طاعة غير الله في معصية الله وتقدم تفسير {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } في سورة البقرة. {وَلاَ تَقْتُلُواْأَوْلَـٰدَكُمْ مّنْ إمْلَـٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } {مِنْ } هنا سببية أي من فقر لقوله

{ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ }

وقتلالولد حرام إلا بحقه وإنما ذكر هذا السبب لأنه كان العلة في قتل الولد عندهم، وبين تعالى أنه هو الرازقلهم ولأولادهم وإذا كان هو الرازق فكما لا تقتل نفسك كذلك لا تقتل ولدك. ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالديننهى عن الإساءة إلى الأولاد ونبه على أعظم الإساءة للأولاد هو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر كما قال في الحديثوقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله وهو قوله: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك ثم قال: وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك وقال: وأن تزاني حليلة جارك وجاء هذا الحديثمنتزعاً من هذه الآية وجاء التركيب هنا

{ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ }

وفي الإسراء {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فيمكن أنيكون ذلك من التفنن في الكلام ويمكن أن يقال في هذه الآية جاء {مّنْ إمْلَـٰقٍ } فظاهره حصول الإملاق للوالدلا توقعه، وخشيتة وإن كان واجداً للمال فبدأ أولاً بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ } خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإملاق وإحالةالرزق على الخلاق الرزاق، ثم عطف عليهم الأولاد. وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون وإن قتلهم إياهم إنما هولتوقع حصول الإملاق والخشية منه فبدىء فيه بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ } إخباراً بتكفله تعلى برزقهم فلستم أنتم رازقيهم وعطف عليهمالآباء وصارت الآيتان مفيدتان معنيين. أحدهما: أن الآباء نُهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم. والآخر: أنهم نُهوا عن قتلهموإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشية وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد. {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوٰحِشَ مَاظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } المنقول فيما {ظَـٰهِرَ * وَمَا بَطَنَ } كالمنقول في {وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } وتقدّمفأغنى عن إعادته. {وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } هذا مندرج تحت عموم الفواحش إذ الأجودأن لا يخص الفواحش بنوع مّا، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيماً لهذه الفاحشة واستهوالاً لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناءبقوله: {إِلاَّ بِٱلْحَقّ } إلا من القتل لا من عموم الفواحش، وقوله: {ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ } حوالة على سبق العهدفي تحريمها فلذلك وصفت بالتي، والنفس المحرمة هي المؤمنة والذمّية والمعاهدة و {بِٱلْحَقّ } بالسبب الموجب لقتلها كالرّدة والقصاص والزنابعد الإحصان والمحاربة. {ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أشار إلى جميع ما تقدّم وفي لفظ {وَصَّـٰكُمُ } مناللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان، ولما كان العقل مناط التكليف قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي فوائد هذا التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر. وقال الأعشى

: أجدك لم تسمع وصاة محمد     نبي الإلۤه حين أوصى وأشهدا

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ } هذا نهي عنالقرب الذي يعم جميع وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة. {إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } أي بالخصلة التي هي أحسنفي حق اليتيم ولم يأت إلا بالتي هي حسنة، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيهالحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى وأموال الناس ممنوع من قربانها، ونص على {ٱلْيَتِيمَ } لأن الطمع فيه أكثر لضعفهوقلة مراعاته. قال ابن عباس وابن زيد {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } التجارة فمن كان من الناظرين له مال يعيش بهفالأحسن إذ أثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها، ومن كان من الناظرين لا مالله ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه أنفق من ربح نظره. وقيل: الانتفاع بدوابه واستخدام جواريه لئلايخرج الأولياء بالمخالطة ذكره المروزي. وقيل لا يأكل منه إلا قرضاً وهذا بعيد وأي أحسنية في هذا. {حَتَّىٰ يَبْلُغَأَشُدَّهُ } هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي، ومعناه احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغأشده فادفعوه إليه. وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم قاله الشعبي وزيد بن أسلم ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك.وحكى ابن عطية عن الشعبي وربيعة ومالك وأبي حنيفة إنه البلوغ مع أنه لا يثبت فسقه وقد نقل في تفسيرالأشد أقوال لا يمكن أن تجيء هنا وكأنها نقلت في قوله

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ }

فعن ابن عباس مابين يماني عشرة إلى ثلاثين وعنه ثلاث وثلاثون، وعن ابن جبير ومقاتل ثماني عشرة وعن السدي ثلاثون وعن الثوري أربع وثلاثون، وعن عكرمة خمس وعشرون وعن عائشة أربعون وعن أبي العالية عقلة واجتماع قوته، وعن بعضهم من خمسة عشر إلىثلاثين وعن بعضهم ستون سنة ذكره البغوي. وأشد جمع شدة أو شد أو شد أو جمع لا واحد له منلفظه أو مفرد لا جمع له أقوال خمسة، اختار ابن الأنباري في آخرين الأخير وليس بمختار لفقدان أفعل في المفرداتوضعاً وأشد مشتق من الشدة وهي القوة والجلادة. وقيل: أصله الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. قال عنترة

: عهدي به شد النهار كأنما     خضب اللبان ورأسه بالعظلم

{وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدلوالتسوية. وقيل: القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي إذا وزنتم فأرجحوا {لاَنُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } أي إلا ما يسعها ولا تعجز عنه، ولما كانت مراعاة الحد من القسط الذي لازيادة فيه ولا نقصان يجري فيها الحرج ذكر بلوغ الوسع وإن ما وراءه معفو عنه، فالواجب في إيفاء الكيل والميزانهو القدر الممكن وأما التحقيق فغير واجب قال معناه الطبري. وقيل: المعنى لا نكلف ما فيه تلفه وإن جاز كقوله:

{ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }

فعلى هذا لا يكون راجعاً إلى إيفاء الكيل والميزان، ولذلك قال ابن عطية: يقتضي أنهذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيءالمتصرف فيه. {وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابةللقائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالداه وأقربوه فهو ينظر إلى قوله:

{ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ }

أو الوالدين والأقربين، وعنى بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادةزجر ووساطة بين الناس وغير ذلك لكونها منوطة بالقول، وتخصيصه بالحكم أو بالأمر أو بالشهادة أقوال لا دليل عليها علىالتخصيص. {وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ } ويحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي بما عهدكم الله عليه أوفوا وأن يكونمضافاً إلى المفعول أي بما عهدتم الله عليه. وقيل: يحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين وتكون إضافته إلى اللهتعالى من حيث أمر بحفظه والوفاء به. قال الماتريدي: أمره ونهيه في التحليل والتحريم. وقال التبريزي بعهده يوم الميثاق. وقالابن الجوزي: يشمل ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. {ذٰلِكُمْوَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور الظاهرة الجلية وجب تعلقها وتفهمها فختمت بقوله:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وهذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمتبقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }. وقرأ حفص والأخوان {تَذَكَّرُونَ } حيث وقع بتخفيف الذال حذفت التاء إذ أصله تتذكرون، وفي المحذوفخلاف أهي تاء المضارعة أو تاء تفعل. وقرأ باقي السبعة {تَذَكَّرُونَ } بتشديده أدغم تاء تفعل في الذال.

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } * { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } * { أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } * { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } * { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } * { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } * { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } عدل

وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} قرأ الأخوان {*} قرأ الأخوان {وَأَنَّ هَـٰذَا} بكسر الهمزة وتشديد النون على الاستئناف، {فَٱتَّبَعُوهُ } جملة معطوفة على الجملة المستأنفة. وقرأ الباقون بفتحها وخفف ابن عامرالنون وشدّدها الباقون. وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق {وَأَنْ } كقراءة ابن عمر، فأما تخفيف النون فعلى أنه خذفاسم أن وهو ضمير الشأن وخرجت قراءة فتح الهمزة على وجوه: أحدها: أن يكون تعليلاً حذف منها اللام تقديره ولأنهذا {صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ } كقوله:

{ وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً }

وقد صرّح باللام فيقوله {لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ * إِيلَـٰفِهِمْ }

{ فَلْيَعْبُدُواْ }

قال الفارسي: قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاءزائدة بمنزلتها في زيد فقام. الوجه الثاني: أن تكون معطوفة على {أَن لا * تُشْرِكُواْ } أي أتل عليكم نفيالإشراك والتوحيد وأتل عليكم أن هذا صراطي وهذا على تقدير أن {ءانٍ } في {أَن لا * تُشْرِكُواْ } مصدريةقاله الحوفي هكذا قرروا هذا الوجه فجعلوه معطوفاً على البدل مما حرم وهو أن لا تشركوا. وقال أبو البقاء: أنهمعطوف على المبدل منه أي أتل الذي حرم وأتل أن هذا {صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا } وهو تخريج سائغ في الكلام، وعلىهذا فالصراط مضاف للمتكلم وهو الرسول وصراطه هو صراط الله. الوجه الثالث: أن يكون في موضعجر عطفاً على الضمير في به قاله الفراء، أي وصاكم به وبأن حذفت الباء لطول أن بالصلة. قال الحوفي: وهيمرادة ولا يكون في هذا عطف مظهر على مضمر لإرادتها. وقال أبو البقاء: هذا فاسد لوجهين. أحدهما: عطف المظهر علىالمضمر من غير إعادة الجار والثاني أنه يصير المعنى وصاكم باستقامة الصراط. وقرأ الأعمش: و {هَـٰذَا صِرٰطِي } وكذا فيمصحف عبد الله ولما فصل في الآيتين قبل أجمل في هذه إجمالاً يدخل فيه جميع ما تقدم وجميع شريعته، والإشارةبهذا إلى الإسلام أو القرآن أو ما ورد في هذه السورة لأنها كلها في التوحيد وأدلة النبوّة وإثبات الدين وإلىهذه الآيات التي اعقبتها هذه الآية لأنها المحكمات التي لم تنسخ في ملة من الملل أقوال أربعة. {فَٱتَّبَعُوهُ } أمرباتباعه كله والمعنى: فاعملوا بمقتضاه من تحريم وتحليل وأمر ونهي وإباحة. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }قال ابن عباس: هي الضلالات، قال مجاهد: البدع والأهواء والشبهات. وقال مقاتل: ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث. وقيل:سبل الكفر كاليهودية والنصرانية والمجوسية وما يجزي مجراهم في الكفر والشرك وفي مسند الدارمي عن ابن مسعود قال: خط لنارسول الله يوماً خطأ ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه ويساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ثم قرأ هذه الآية وعن جابر نحو منهفي سنن ابن ماجة وانتصب فتفرق لأجل النهي جواباً له أي فتفرق فحذف التاء. وقرىء {فَتَفَرَّقَ } بتشديد التاء.{ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } كرر التوصية على سبيل التوكيد ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر تعالىباتباعه ونهى عن بنيات الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاد النار، إذ من اتبع صراطه نجاه النجاة الأبدية وحصلعلى السعادة السرمدية. قال ابن عطية: ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله جاءت العبادة{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر وركوب الجادة الكاملة تتضمن فعل الفضائلوتلك درجة التقوى. {ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْيُؤْمِنُونَ } {ثُمَّ } تقتضي المهلة في الزمان هذا أصل وضعها ثم تأتي للمهلة في الإخبار. فقال الزجاج: هو معطوفعلى أتل تقديره أتل ما حرم ثم أتل {ءاتَيْنَا }. وقيل: معطوف على {قُلْ } على إضمار قل أي ثمقال {ءاتَيْنَا }. وقيل: التقدير ثم إني أخبركم إنا آتينا. وقال الحوفي: رتبتم التلاوة أي تلونا عليكم قصة محمد ثمنتلو عليكم قصة موسى. وقال ابن عطية: مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به محمد كأنهقال: ثم مما وصينا {أَنَاْ * مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا } ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدم بالزمان علىمحمد . وقال ابن القشيري: في الكلام محذوف تقديره ثم كنا قد {مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا } قبلإنزالنا القرآن على محمد . وقال الزمخشري عطف على {وَصَّـٰكُمْ بِهِ } (فإن قلت): كيف صح عطفهعليه بثم والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل؟ (قلت): هذه التوصية قديمة لم تزل تواصاها كل أمة على لسان نبيها كماقال ابن عباس: محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب فكأنه قيل: {ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ } يا بني آدم قديماًوحديثاً ثم أعظم من ذلك {أَنَاْ * مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا } وأنزلنا هذا الكتاب المبارك؟ وقيل: هو معطوف على ماتقدّم قبل شطر السورة من قوله:

{ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ }

انتهى. وهذه الأقوال كلها متكلفة والذي ينبغي أنيذهب إليه أنها استعملت للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة، وقد ذهب إلى ذلك بعض النحاة و{ٱلْكِتَـٰبِ } هنا التوراةبلا خلاف وانتصب تماماً على المفعول له أو على المصدر أتممناه تماماً مصدر على حذف الزوائد أو على الحال إمامن الفاعل والمفعول وكل قد قيل. وقيل: معنى {بِمَا * مَرَّ } أي دفعة واحدة لم نفرق إنزاله كما فرقناإنزال القرآن قاله أبو سليمان الدمشقي. والذي أحسن جنس أي على من كان محسناً من أهل ملته قاله مجاهد أيإتماماً للنعمة عندهم. وقيل: المراد بالذي أحسن مخصوص. فقال الماوردي: إبراهيم كانت نبوة موسى نعمة على إبراهيم لأنه من ولدهوالإحسان للأبناء إحسان للآباء. وقيل: موسى عليه السلام تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ماأمر به، والذي في هذه التأويلات واقعة على من يعقل. وقال ابن الأنباري: {تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ } موسى منالعلم وكتب الله القديمة ونحو منه قول ابن قتيبة، قال: معنى الآية {تَمَامًا } على ما كان أحسن من العلموالحكمة من العلم والحكمة من قولهم: فلان يحسن كذا أي يعلمه. وقال الزمخشري في هذا التأويل: {تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ} موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه على وجه التتميم؛ انتهى. وقالابن عطية: على ما أحسن هو من عبادة ربه والاضطلاع بأمور نبوته يريد موسى عليه السلام هذا تأويل الربيع وقتادة؛انتهى. والذي في هذا التأويل واقعة على غير العاقل. وقيل: {ٱلَّذِى } وهو قول كوفي وفي {هُمْ أَحْسَنُ } ضميرموسى أي تماماً على إحسان موسى بطاعتنا وقيامه بأمرنا ونهينا، ويكون في على إشعار بالعلية كما تقول: أحسنت إليك علىإحسانك إليّ. وقيل: الضمير في {أَحْسَنُ } يعود على الله تعالى وهذا قول ابن زيد، ومتعلق الإحسان إلى أنبيائه أوإلى موسى قولان: وأحسن ما في هذه الأقوال كلها فعل. وقال بعض نحاة الكوفة: يصح أن يكون {أَحْسَنُ } اسماًوهو أفعل التفضيل وهو مجرور صفة للذي وإن كان نكرة من حيث قارب المعرفة إذ لا يدخله أل كما تقولالعرب: مررت بالذي خير منك، ولا يجوز مررت بالذي عالم؛ انتهى. وهذا سائغ على مذهب الكوفيين في الكلام وهو خطأعند البصريين. وقرأ يحيـى بن معمرو ابن أبي إسحاق {أَحْسَنُ } برفع النون وخرج على أنه خبر مبتدأ محذوف أيهو أحسن و{أَحْسَنُ } خبر صلة كقراءة من قرأ

{ مثلاً مّا بعوضة }

أي تماماً على الذي هو أحسندين وأرضاه أو تامّاً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن ما تكونعليه الكتب، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتم له الكتاب على أحسنه. وقال التبريزي:{ٱلَّذِى } هنا بمعنى الجمع وأحسن صلة فعل ماض حذف منه الضمير وهو الواو فبقي أحسن أي على الذين أحسنوا،وحذف هذا الضمير والاجتزاء بالضمة تفعله العرب. قال الشاعر

:فلــو أن الأطبــاء كــان حــولـي    

وقال آخر

: إذا شاؤوا أضروا من أرادوا     ولا يألوهم أحد ضرارا

وقالآخر

:شبـوا علـى المجـد شـابوا واكتهـل    

يريدوا كتهلوا فحذف الواو ثم حذف الضمير للوقف؛ انتهى.وهذا خصه أصحابنا بالضرورة فلا يحمل كتاب الله عليه {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ } أيلعلهم بالبعث يؤمنون، فالإيمان به هو نهاية التصديق إذ لا يجب بالعقل لكنه يجوز في العقل وأوجبه السمع وانتصاب {تَفْصِيلاً} وما بعده كانتصاب {تَمَامًا }. {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } هذا إشارة إلى القرآنو{أَنزَلْنَـٰهُ } و{مُّبَارَكٌ } صفتان لكتاب أو خبران عن هذا على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، وإن لم يكن فيمعنى خبر واحد وكان الوصف بالإنزال آكد من الوصف بالبركة فقدم لأن الكلام مع من ينكر رسالة الرسول صلى اللهعليه وسلم، وينكر إنزال الكتب الإلهية وكونه مباركاً عليهم هو وصف حاصل لهم منه متراخ عن الإنزال فلذلك تأخر الوصفبالبركة، وتقدم الوصف بالإنزال وكان الوصف بالفعل المسند إلى نون العظمة أولى من الوصف بالاسم لما يدل الإسناد إلى اللهتعالى من التعظيم والتشريف، وليس ذلك في الاسم لو كان التركيب منزل أو منزل منا وبركة القرآن بما يترتب عليهمن النفع والنماء بجمع كلمة العرب به والمواعظ والحكم والإعلام بأخبار الأمم السالفة والأجور التالية والشفاء من الأدواء. والشفاعة لقارئهوعده من أهل الله وكونه مع المكرمين من الملائكة وغير ذلك من البركات التي لا تحصى، ثم أمر الله تعالىباتباعه وهو العمل بما فيه والانتهاء إلى ما تضمنه والرجوع إليه عند المشكلات، والظاهر في قوله: {وَٱتَّقَوْاْ } أنه أمربالتقوى العامة في جميع الأشياء. وقيل: {وَٱتَّقَوْاْ } مخالفته لرجاء الرحمة وقال التبريزي اتقوا غيره فانه منسوخ وقال التبريزي فيكلام اشارة وهو وصف الله التوراة بالتمام والتمام يؤذن بالانصرام. قال الشاعر

: إذا تم أمر بدا نقصه     توقع زوالاً إذا قيل تم

فنسخها الله بالقرآن ودينها بالإسلام ووصف القرآن بأنهمبارك في مواضع كثيرة، والمبارك هو الثابت الدائم في ازدياد وذلك مشعر ببقائه ودوامه. {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ ٱلْكِتَـٰبُعَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَـٰفِلِينَ } {أَن تَقُولُواْ } مفعول من أجله فقدره الكوفيون لئلا تقولواولأجل أن لا تقولوا وقدره البصريون كراهة {أَن تَقُولُواْ } والعامل في كلا المذهبين {أَنزَلْنَـٰهُ } محذوفة يدل عليها قولهقبل {أَنزَلْنَا }، ولا يجوز أن يكون العامل {أَنزَلْنَـٰهُ } هذه الملفوظة بها للفاصل بينهما وهو مبارك الذي هو وصفلكتاب أو خبر عن هذا فهو أجنبي من العامل والمعمول. وظاهر كلام ابن عطية أن العامل فيه {أَنزَلْنَـٰهُ } الملفوظبها. وقيل: {أَن تَقُولُواْ } مفعول والعامل فيه {وَٱتَّقَوْاْ } أي {وَٱتَّقَوْاْ * أَن تَقُولُواْ } لأنه لا حجة لكمفيه والكتاب هنا جنس والطائفتان هما أهل التوراة والإنجيل اليهود والنصارى بلا خلاف، والخطاب متوجه إلى كفار قريش بإثبات الحجةعليهم بإنزال هذا الكتاب لئلا يحتجوا هم وكفار العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب فكأنه قيل: وهذا القرآن يا معشرالعرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا: إنما أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا ونحن لم نعرف ذلك فهذا كتاببلسانكم مع رجل منكم. وقرأ ابن محيصن: أن يقولوا بياء الغيبة ويعني كفار قريش. وقال الماتريدي: المعنى إنما ظهر نزولالكتاب عند الخلق على طائفتين من قبلنا ولم يكونوا وقت نزل التوراة والإنجيل يهوداً ولا نصارى، وإنما حدث لهما هذانالاسمان لما حدث منهما و{دِرَاسَتِهِمْ } قراءتهم ودرسهم والمعنى عن مثل {دِرَاسَتِهِمْ } وأعاد الضمير جمعاً لأن كل طائفة منهمجمع كما أعاده في قوله:

{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ }

وإن هنا هي المخففة من الثقيلة. وقال الكوفيون:إن نافية واللام بمعنى إلا والتقدير وما كنا عن دراستهم إلا غافلين. وقال قطرب: في مثل هذا التركيب إن بمعنىقد واللام زائدة وليس هذا الخلاف مقصوراً عل ما في هذه الآية، بل هو جار في شخصيات هذا التركيب وتقريرهفي علم النحو. وقال الزمخشري: {وَإِن كُنَّا } هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل {وَإِنكُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } غافلين على أن الهاء ضمير؛ انتهى. وما ذهب إليه من أن أصله {وَإِن كُنَّا } والهاءضمير الشأن يلزم منه أن إن المخففة من الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حالة التخفيف كما قال النحويون في أنالمخففة من الثقيلة والذي نص عليه أن إن المخففة من الثقيلة إذا لزمت اللام في أحد الجزءين بعدها أو فيأحد معمولي الفعل الناسخ الذي يليها، إنها مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر لا مثبت ولا محذوف فهذا الذيذهب إليه مخالف للنصوص وليست إذا وليها الناسخ داخلة في الأصل على ضمير شأن البتة. و{عَن دِرَاسَتِهِمْ } متعلق بقوله:{ٱلْغَـٰفِلِينَ } وهذا يدل على بطلان مذهب الكوفيين في دعواهم أن اللام بمعنى إلا ولا يجوز أن يعمل ما بعدإلا فيما قبلها، وكذلك اللام التي بمعناها ولهم أن يجعلوا عنها متعلقاً بمحذوف ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداءلزمت للفرق، فجاز أن يتقدم معمولها عليها لما وقعت في غير ما هو لها أصل كما جاز ذلك في أنزيداً طعامك لآكل حيث وقعت في غير ما هو لها أصل ولم يجز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لهاأصل وهو دخولها على المبتدأ. {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَـٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ } انتقال من الأخبارلحصر إنزال الكتاب على غيرهم وأنه لم ينزل عليهم إلى الأخبار بحكم على تقدير والكتاب يجوز أن يراد به الكتابالسابق ذكره، ويجوز أن يراد الكتاب الذي تمنوا أن ينزل على هم ومعنى {أَهْدَىٰ مِنْهُمْ } أرشد وأسرع اهتداء لكونهنزل علينا بلساننا فنحن نتفهمه ونتدبره وندرك ما تضمنه من غير إكداد فكر ولا تعلم لسان بخلاف الكتاب الذي أنزلعلى الطائفتين، فإنه بغير لساننا فنحن لا نعرفه ولا نغفل عن دراسته أو {أَهْدَىٰ مِنْهُمْ } لكون اليهود والنصارى قدافترقت فرقاً متباينة فلا نعرف الحق من الباطل. {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } هذا قطع لاعتذارهمبانحصار إنزال الكتاب على الطائفتين وبكونهم لم ينزل عليهم كتاب، ولو نزل لكانوا أهدى من الطائفتين. والظاهر أن البينة هيالقرآن وهو الحجة الواضحة الدالة النيرة حيث نزل عليهم بلسانهم وألزم العالم أحكامه وشريعته وإن الهدى والنور من صفات القرآن.وقيل: البينة الرسول قاله ابن عباس {بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي حجة وهو النبي والقرآن. وقيل:آيات الله التي أظهرها في كتابه وعلى لسان رسوله. وقيل: دين الله والهدى والنور على هذه الأقوال من صفات مافسرت البينة به والفاء في قوله: {فَقَدْ جَاءكُمُ } على ما قدره الزمخشري وغيره جواب شرط محذوف. قال الزمخشري: والمعنىإن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف؛ انتهى.وقدره غيره إن كنتم كما تزعمون إذا نزل عليكم كتاب تكونون أهدى من اليهود والنصارى، {فَقَدْ جَاءكُمُ } وأطبق المفسرونعلى أن الغرض بهذه الجملة إقامة الحجة على مشركي العرب وقطع احتجاجهم. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَعَنْهَا } أي بعد مجيء البينة والهدى والنور لا يكون أحد أشد ظلماً من المكذب بالأمر الواضح النير الذي لاشبهة فيه والمعرض عنه بعدما لاحت له صحته وصدقه وعرفه أو تمكن من معرفته، وتأخر الإعراض لأنه ناشىء عن التكذيبوالإعراض عن الشيء هو بعد رؤيته وظهوره. وقيل: قبل الفاء شرط محذوف تقديره فإن كذبتم فلا أحد أظلم منكم وآياتالله يحتمل أن يراد بها القرآن والرسول والأولى أن يحمل على العموم، {وَصَدَفَ } لازم بمعنى أعرض وقد شرحناه علىهذا المعنى ومتعدّ أي صدف عنها غيره بمعنى صده وفيه مبالغة في الذمّ حيث {كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } وجعل غيرهيعرض عنها ويكذب بها. وقرأ ابن وثاب وابن أبي عبلة {مِمَّن كَذَّبَ } بتخفيف الذال. {سَنَجْزِى ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْآيَـٰتِنَا سُوء ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } علق الجزاء على الصدوف لأنه هو ناشىء عن التكذيب، و{سُوء ٱلْعَذَابِ } شديدهكقوله؛

{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَـٰهُمْ عَذَابًا فَوْقَ ٱلْعَذَابِ }

وقرأت فرقة {يَصْدِفُونَ } بضم الدال.{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ } الضمير في {يُنظَرُونَ }عائد على الذين قيل لهم {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ } وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضى أكثر السورة في جدالهمأي ما ينتظرون {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } إلى قبض أرواحهم وتعذيبها وهو وقت لا تنفع فيه توبتهم وهو قولمجاهد وقتادة وابن جريج. وقيل: {أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ }الذين ينصرفون يوم القيامة يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين. وقيل:ذلك إشارة إلى قولهم:

{ أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً }

أي رسلاً من الله إليهم كما تمنوا، أو يأتيأمر ربك فيهم بالقتل أو غيره قاله ابن عباس. وقال مجاهد {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } بعلمه وقدرته بلا أين ولاكيف لفصل القضاء بين خلقه في الموقف يوم القيامة. وقال الزجاج: أو أتي إهلاك ربك إياهم. قال ابن عطية: وعلىكل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك وبطش وحساب ربك، وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حقالله تعالى ألا ترى أن الله تعالى يقول:

{ فَأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ }

فهذا إتيان قد وقعوهو على المجاز وحذف المضاف. وقال الزمخشري: {أَوْ يَأْتِىَ } كل آيات ربك بدليل قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ} يريد آيات القيامة والهلاك الكلي و{بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ } أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغيرها؛ انتهى. وقال ابنمسعود وابن عمر ومجاهد وقتادة والسدي: إنه طلوع الشمس من مغربها ورواه أبو سعيد عن النبي وفي الصحيحين عنه عليه السلام لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً وقال ابنمسعود فيما روى عنه مسروق: طلوع الشمس والقمر من مغربهما. وقيل: إحدى الآيات الثلاث طلوع الشمس من مغربها والدابة وفتحيأجوج ومأجوج رواه القاسم عن ابن مسعود. وقال أبو هريرة: طلوعها والدجال والدابة وفتح يأجوج ومأجوج. وقيل: العشر الآيات التيفي حديث البراء طلوع الشمس من مغربها والدجال والدابة وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، ونزول عيسى وفتح يأجوجومأجوج ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر. والظاهر أنهم توعدوا بالشيء العظيم من أشراط الساعة ليذهب الفكرفي ذلك كل مذهب لكن أتى بعد ذلك الإخبار عنه عن هذا البعض بعدم قبول التوبة فيه إذا أتى، وتصريحالرسول بأن طلوع الشمس من مغربها وقت لا تنفع فيه التوبة فيظهر أنه هذا البعض ويحتمل أن يكون هذا البعضغرغرة الإنسان عند الموت فإنها تكون في وقت لا تنفع فيه التوبة. قال تعالى:

{ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ إِنّى تُبْتُ ٱلاْنَ }

وفي الحديث أن توبة العبد تقبل ما لم يغرغر ويحتمل أن يكون قوله: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ } غير قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ } فيكون هذاعبارة عن ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ويكون قوله {وَيَوْمَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن } فيه وصف محذوفيدل عليه المعنى تقديره {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ } التي يرتفع معها التوبة. وثبت بالحديث الصحيح أن طلوع الشمسمن مغربها وقت لا تقبل فيه التوبة ويدل على التغاير إعادة آيات ربك إذ لو كانت هذه تلك لكان التركيبيوم يأتي بعضها أي بعض آيات ربك. {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْمِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـٰنِهَا خَيْرًا } منطوق الآية أنه إذا أتى هذا البعض {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا } كافرةإيمانها الذي أوقعته إذ ذاك و{لاَ يَنفَعُ نَفْسًا } سبق إيمانها وما كسبت فيه خيراً فعلق نفي الإيمان بأحد وصفين:إمّا نفي سبق الإيمان فقط وإمّا سبقه مع نفي كسب الخير، ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده أو السابق ومعهالخير ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة من أن الإيمان لا يشترط في صحته العمل. وقال الزمخشري: {مِنقَبْلُ أَوْ } صفة لقوله: {نَفْساً } وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـٰنِهَا خَيْرًا } عطف على {ءامَنتُ } والمعنى أنأشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانهامن قبل ظهور الآيات أو مقدمة إيمانها غير كاسبة خيراً في إيمانها، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذاآمنت في غير وقت الإيمان وبين النفس التي آمنت في وقتها ولم تكسب خيراً ليعلم أن قوله:

{ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ }

جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبها ويسعد وإلا فالشقاوةوالهلال؛ انتهى. وهو جار على مذهبه الاعتزالي. وقرأ الأخوان: إلا أن يأتيهم بالياء. وقرأ ابن عمرو وابن سيرين وأبو العاليةيوم تأتي بعض بالتاء مثل تلتقطه بعض السيارة وابن سيرين لا تنفع نفساً. قال أبو حاتم: ذكروا أنها غلط منه.وقال النحاس: في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه وذلك إن الإيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذهو منن النفس وبها وأنشد سيبويه رحمه الله

: مشين كما اهتزت رماح تسفهت     أعاليها مرّ الرياح النواسم

انتهى. وقال الزمخشري: وقرأ ابن سيرين لا تنفع بالتاء لكون الإيمان مضافاً إلىضمير المؤنث الذي هو بعضه لقوله: ذهبت بعض أصابعه؛ انهى. وهو غلط لأن الإيمان ليس بعضاً للنفس ويحتمل أن يكونأنث على معنى الإيمان وهو المعرفة أو العقيدة، فكان مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة ونصب يوم تأتي بقوله:{لاَّ ينفَعُ } وفيه دليل على تقدّم معمول الفعل المنفي بلا على لا خلافاً لمن منع. وقرأ زهي القروي {يَوْمَيَأْتِى } بالرفع والخبر {لاَّ ينفَعُ } والعائد محذوف أي لا ينفع فيه وإن لم يكن صفة وجاز الفصل بالفاعلبين الموصوف وصفته لأنه ليس بأجنبي إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل، فعلى هذا يجوز ضربهنداً غلامها التميمية ومن جعل الجملة حالاً أبعد ومن جعلها مستأنفة فهو أبعد. {قُلِ ٱنتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أيانتظروا ما تنتظرون {إِنَّا مُنتَظِرُونَ } ما يحل بكم وهو أمر تهديد ووعيد من قال: إنه أمر بالكف عن القتالفهو منسوخ عنده بآية السيف. {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } لما ذكر تعالى أن صراطه مستقيم ونهى عن اتباع السبل وذكر موسى عليه السلاموما أنزل عليه وذكر القرآن وأمر باتباعه وذكر ما ينتظر الكفار مما هو كائن بهم، انتقل إلى ذكر من اتبعالسبل فتفرّقت به عن سبيل الله لينبه المؤمنين على الائتلاف على الدين القويم، ولئلا يختلفوا كما اختلف من قبلهم منالأمم بعد أن كانوا متفقين على الشرائع التي بعث أنبياؤهم بها والذين فرّقوا دينهم الحرورية أو أهل الضلالة من هذهالأمّة أو أصحاب البدع أو الأهواء منهم، وهو قول الأحوص وأمّ سلمة أو اليهود أو هم والنصارى وهو قول ابنعباس والضحاك وقتادة، أي فرّقوا قوادين إبراهيم الحنيف أو هم مشركو العرب أو الكفار وأهل البدع أقوال ستة. وافتراق النصارىإلى ملكية ويعقوبية ونسطورية وتشعبوا إلى اثنين وسبعين فرقة وافتراق اليهود إلى موسوية وهارونية وداودية وسامرية وتشعبوا إلى اثنين وسبعينفرقة، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا من كان على ما عليه الرسول وأصحابه. وقيل:معنى {فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وأضاف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه إذ هو دينالله الذي ألزمه العباد فهو دين جميع الناس بهذا الوجه. وقرأ عليّ والأخوان فارقوا هنا وفي الروم بألف ومعناها قريبمن قراءة باقي السبعة بالتشديد تقول ضاعف وضعف. وقيل: تركوه وباينوه، ومن فرق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض فقد فارقدينه المطلوب منه. وقرأ ابراهيم والأعمش وأبو صالح {فَرَّقُواْ } بتخفيف الراء {وَكَانُواْ شِيَعاً } أي أحزاباً كل منهم تابعلشخص لا يتعداه {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء } أي لست من تفريق دينهم أو من عقابهم أو من قتالهم، أوهو إخبار عن المباينة التامّة والمباعدة كقول النابغة

: إذا حاولت في أسد فجورا     فإني لست منك ولست مني

احتمالات أربعة. وقال ابن عطية: أي لا تشفع لهم ولا لهم بكتعلق وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع إذ لهم حظ من تفريق الدين،ولما نفى كونه منهم في شيء حصر مرجع أمرهم من هلاك أو واستقامة إليه تعالى وأخبر أنه مجازيهم بأفعالهم وذلكوعيد شديد لهم. وقال السدّي: هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال. قال ابن عطية: وهذا كلام غيرمتقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمراً بموادعة فيشبه أن يقال: إن النسخ وقع في ذلكالمعنى الذي قد تقرر في آيات أخر. {مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّمِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } روى الخدري وابن عمر أنها نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة ضوعفت لهم الحسنةبعشر وضوعف للمهاجرين تسعمائة ذكره ابن عطية. وقال: يحتاج إلى إسناد يقطع العذر؛ انتهى. ولما ذكر أنه ينبئهم بفعلهم ذكركيفية المجازاة ولما كان قوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ } مشعراً بقسيمة ممن ثبت على دينه قسم المجازين إلى جاء بحسنةوجاء بسيئة، وفسرت الحسنة بالإيمان وعشر أمثالها تضعيف أجوره أي ثواب عشر أمثالها في الجنة، وفسرت السيئة بالكفر ومثلها الناروهذا مروي عن الخدري وابن عمر. وقال ابن مسعود ومجاهد والقسم بن أبيّ بزة وغيرهم: الحسنة هنا لا إله إلاالله والسيئة الكفر، والظاهر أن العدد مراد. وقال الماتريدي: ليس على التحديد حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه بلعلى التعظيم لذلك إذ هذا العدد له خطر عند الناس أو على التمثيل كقوله:

{ كَعَرْضِ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ }

وقال:{مَن جَاء } ولم يقل من عمل ليعلم أن النظر إلى ما ختم به وقبض عليه دون ما وجد منهمن العمل فكأنه قال: من ختم له بالحسنة وكذلك السيئة؛ انتهى. وأنث عشراً وإن كان مضافاً إلى جمع مفرد مثلوهو مذكر رعياً للموصوف المحذوف، إذ مفرده مؤنث والتقدير فله عشر حسنات أمثالها ونظيره في التذكير مررت بثلاثة نسابات راعىالموصوف المحذوف أي بثلاثة رجال نسابات. وقيل: أنث عشراً وإن كان مضافاً إلى ما مفرده مذكر لإضافة أمثال إلى مؤنثوهو ضمير الحسنة كقوله:

{ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ }

قاله أبو عليّ وغيره. وقيل: الحسنة والسيئة عامان وهو الظاهر وليسامخصوصين بالكفر والإيمان ويكون {وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ } مخصوصاً بمن أراد الله تعالى وقضى بمجازاته عليها، ولم يقض أن يغفرله وكونه له عشر أمثالها لا يدل على أنه يزاد إن كان مفهوم العدد قوياً في الدلالة إذ تكون العشرهي الجزاء على الحسنة وما زاد فهو فضل من الله كما قال والله يضاعف لمن يشاء. وقرأ الحسن وابن جبيروعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب والقزاز عن عبد الوارث عشر بالتنوين أمثالها بالرفع على الصفة لعشر ولا يلزم من المثليةأن يكون في النوع بل يكتفي أن يكون في قدر مشترك، إذ النعيم السرمدي والعذاب المؤبد ليسا مشتركين في نوعما كان مثلاً لهما لكن النعيم مشترك مع الحسنة في كونهما حسنتين والعذاب مشترك مع السيئة في كونهما يسوءان، وظاهرمن جاء العموم. وقيل: يختص بالأعراب الذين أسلموا كما ذكر في سبب النزول. وقيل: بمن آمن من الذين فرقوا دينهم.وقيل: بهذه الأمة وهي أدنى المضاعفة. وقيل: العشر على بعض الأعمال والسبعون على بعضها {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقصمن ثوابهم ولا يزاد في عقابهم. {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أمره تعالى بالإعلان بالشريعة ونبذما سواها ووصفها بأنها طريق مستقيم لا عوج فيها وهو إشارة إلى قوله: {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ } ولماتقدم ذكر الفرق أمره أن يخبر أنه ليس من تلك الفرق بل هو على الصراط المستقيم وأسند الهداية إلى ربهليدل على اختصاصه بعبادته إياه كأنه قيل: هداني معبودي لا معبودكم من الأصنام ومعنى {هَدَانِى } خلق فيّ الهداية. وقالبعض المعتزلة: دلني. قال الماتريدي: وهذا باطل إذ لا فائدة في تخصيصه لأن الناس كلهم كذلك. {دِينًا قِيَمًا }بالحق والبرهان. {مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أذكرهم أن هذا الدين الذي هو عليه هو ملةإبراهيم وهو النبيّ الذي يعظمه أهل الشرائع والديانات وتزعم كفار قريش أنهم على دينه، فرد تعالى عليهم بقوله: {وَمَا كَانَمِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } وانتصب {دِينًا } على إضمار عرفني لدلالة هداني عليه أو بإضمار هداني أو بإضمار اتبعوا وألزموا، أوعلى أنه مصدر لهداني على المعنى كأنه قال: اهتداء أو على البدل من إلى صراط على الموضع لأنه يقال: هديتالقوم الطريق. قال الله تعالى:

{ وَيَهْدِيَكَ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً }

وقرأ الكوفيون وابن عامر قيماً وتقدم توجيهه في أوائل سورةالنساء. وقرأ باقي السبعة قيماً كسيد وملة بدل من قوله: {دِينًا } و{حَنِيفاً } تقدم إعرابه في قوله:

{ بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا }

في سورة البقرة. وقال ابن عطية: و{حَنِيفاً } نصب على الحال من إبراهيم. {قُلْ إِنَّصَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الظاهر أن الصلاة هي التي فرضت عليه. وقيل: صلاة الليل. وقيل: صلاةالعيد لمناسبة النسك. وقيل: الدعاء والتذلل والنسك يطلق على الصلاة أيضاً وعلى العبادة وعلى الذبيحة، وأما في الآية فقال ابنعباس وابن جبير ومجاهد وابن قتيبة: هي الذبائح التي تذبح لله وجمع بينهما كما قال:

{ فصلّ لربك وانحر }

ويؤيد ذلك أنها نازلة قد تقدّم ذكرها، والجدال فيها في السورة. وقال الحسن: الدين والمذهب. وقيل: العبادة الخالصة ومعنى {وَمَحْيَاىَوَمَمَاتِى للَّهِ } أنه لا يملكهما إلى الله أو حياتي لطاعته ومماتي رجوعي إلى جزائه أو ما آتيه في حياتيمن العمل الصالح وما أموت عليه من الإيمان لله ثلاثة أقوال. وقال أبو عبد الله الرازي: معنى كونهما لله لخلقالله وهذا يدل على أن طاعة العبد مخلوقة لله انتهى. وقال ابن عطية: أمره تعالى أن يعلن أن مقصده فيصلاته وطاعاته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدّة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادةوجهه وطلبه رضاه، وفي إعلان النبي بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلزموا فيجميع أعمالهم قصد وجهه عز وجل وله تصرفه في جميع ذلك كيف شاء. وقرأ الحسن وأبو حيوة {وَنُسُكِى } بإسكانالسين وما روي عن نافع من سكون ياء المتكلم في {*محياي} هو جمع بين ساكنين أجرى الوصل فيه مجرى الوقفوالأحسن في العربية الفتح. قال أبو علي: هي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين وشاذة في الاستعمال ووجهها أنهقد سمع من العرب التقت حلقتا البطان ولفلان بيتا المال، وروى أبو خالد عن نافع {وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ } بكسر الياء.وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري ومحيـي على لغة هذيل كقول أبي ذؤيب. سبقوا هويّ. وقرأ عيسى بنعمر {صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } بفتح الياء وروي ذلك عن عاصم من سكون ياء المتكلم. {لاَ شَرِيكَ لَهُوَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } الظاهر نفي كل شريك فهو عام في كل شريك فتخصيص ذلك بما قيل منأنه لا شريك له في العالم أو لا شريك له فيما أتقرب به من العبادة أو لا شريك له فيالخلق والتدبير أو لا شريك فيما شاء من أفعاله الأولى بها أن تكون على جهة التمثيل لا على التخصيص حقيقة،والإشارة بذلك إلى ما بعد الأمرين {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى } {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى } وما بعدها أو إلى قوله:{لاَ شَرِيكَ لَهُ } فقط أقوال ثلاثة أظهرها الأول، والألف واللام في المسلمين للعهد ويعني به هذه الأمة لأن إسلامكل نبي سابق على إسلام أمته لأنهم منه يأخذون شريعته قاله قتادة. وقيل: من العرب. وقيل: من أهل مكة. وقالالكلبي: أولهم في هذا الزمان. وقيل: أولهم في المزية والرتبة والتقدّم يوم القيامة. وقيل: مذ كنت نبياً كنت مسلماً كنتنبياً وآدم بين الماء والطين. وقال أبو عبد الله الرازي: معناه من المسلمين لقضاء الله وقدره إذ من المعلوم أنهليس أولاً لكل مسلم؛ انتهى. وفيه إلغاء لفظ أول ولا تلغى الأسماء والأحسن من هذه الأقوال القول الأول. {قُلْ أَغَيْرَٱللَّهِ أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء } حكى النقاش أنه روي أنّ الكفار قالوا للنبي ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفّل لك بكل ما تريد في دنياك وآخرتكفنزلت هذه الآية والهمزة للاستفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ وهو رد عليهم إذ دعوه إلى آلهتهم والمعنى أنه كيف يجتمع ليدعوة غير الله رباً وغيره مربوب له. {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أي ولا تكسب كل نفس شيئاًيكون عاقبته على أحد إلا عليها. {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أي لا تذنب نفس مذنبة ذنب نفس أخرىوالمعنى لا تئاخذ بغيروزرها فهو تأكيد للجملة قبله وهو جواب لقولهم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم. {ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْفَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي مرجعكم إليه يوم القيامة والتنبئة عبارة عن الجزاء والذي اختلفوا فيه هو منالأديان والمذاهب يجازيكم بما ترتب عليها من الثواب والعقاب وسياق هذه الجمل سياق الخبر والمعنى على الوعيد والتهديد، وقيل: بماكنتم فيه تختلفون في أمري من قول بعضكم هو شاعر ساحر وقول بعضك افتراه وبعضكم اكتتبه ونحو هذا. {وَهُوَ ٱلَّذِىجَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لّيَبْلُوَكُمْ * فِيمَا * ءاتَـٰكُمُ }. أذكرهم تعالى بنعمته عليهم إذ كانالنبي المبعث وهو محمد خاتم النبيين فأمّته خلفت سائر الأمم ولا يجيءبعدها أمّة تخلفها إذ عليهم تقوم الساعة، وقال الحسن: إن النبيّ قال توفون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله وروى أنتم آخرها وأكرمها على الله ورفع الدّرجات هو بالشرف في المراتبالدنيوية والعلم وسعة الرزق وليبلوكم متعلق بقوله ورفع فيما آتاكم من ذلك جاهاً ومالاً وعلماً وكيف تكونون في ذلك، وقيل:الخطاب لبني آدم خلفوا في الأرض عن الجن أو عن الملائكة، وقيل: يخلف بعضهم بعضاً، وقيل: خلفاء الأرض تملكونها وتتصرفونفيها. {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما كان الابتلاء يظهر به المسيء والمحسن والطائع والعاصي ذكر هذينالوصفين وختم بهما ولما كان الغالب على فواصل الآي قبلها هو التهديد بدأ بقوله سريع العقاب يعني لمن كفر ماأعطاه الله تعالى وسرعة عقابه إن كان في الدّنيا فالسّرعة ظاهرة، وإن كان في الآخرة فوصف بالسّرعة لتحققه إذ كلما هو آت آت ولما كانت جهة الرحمة أرجى أكد ذلك بدخول اللام في الخبر ويكون الوصفين بنيا بناءً مبالغةولم يأتِ في جهة العقاب بوصفه بذلك فلم يأتِ إنّ ربك معاقب وسريع العقاب من باب الصفة المشبهة.