تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الأنفال
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } * { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } * { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } * { يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } * { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ } * { لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ } * { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } * { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ } * { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }
عدلالنفل: الزيادة على الواجب وسميت الغنيمة به لأنها زيادة على القيام بحماية الحوزةقال لبيد:
إنّ تقوى ربّنا خير نفل | وبإذن الله ريثي وعجل |
أي خير غنيمةوقال غيره:
إنّا إذا احمرّ الوغى فروي القنا | ونعف عند مقاسم الأنفال |
الوجَل الفزع. الشّوكة قالالمبرد السلاح وأصله من الشوك النبت النبت الذي له خربشة السلاح به يقال رجل شاكي السلاح إذا كان حديد السّنانوالنّصل وأصله شائك وهو اسم فاعل من الشوكة قال:
لديّ أسد شاكي السلاح مقذف | له لبد أظفاره لم تقلم |
وقال أبو عبيدة: الشاكي والشائك جميعاً ذو الشوكة وانجر في سلاحه ويوصف به السلاح كمايوصف به الرجل قال:
وألبس من رضاه في طريقي | سلاحاً يذعر الأبطال شاكا |
ويقال:رجل شاكٍ وسلاح شاكٍ وشاك فشاك أصله شوك نحو كبش صاف أي صوف وشاك إما محذوفة أو مقلوب وإيضاح هذافي علم النحو. الاستغاثة طلب الغوث والنصر غوث الرجل قال واغوثاه والاسم الغوث والغواث والغواث. وقيل الاستغاثة طلب سر الخلةوقت الحاجة، وقيل الاستجارة. ردف وأردف بمعنى واحد تبع ويقال أردفته إياه أي اتبعته. العنق معروف وجعه في القلة علىأعناق وفي الكثرة على عنوق. البنان الأصابع وهو اسم جنس واحده بنانة وقالوا فيه البنام بالميم بدل النون قال رؤبة:
يا هال ذات المنطق التمتام | وكفك المخضّب البنام |
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِوَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } هذه السورة مدنية كلها. قال ابن عباس:إلا سبع آيات أوّلها
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }
إلى آخر الآيات. وقال مقاتل غير آية واحدة وهي {وَإِذْيَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية نزلت في قصة وقعت بمكّة ويمكن أن تنزل الآية بالمدينة في ذلك ولا خلافأنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه وقد طول المفسرون الزمخشري وابن عطيّة وغيرهما في تعيين ما كان سبب نزولهذه الآيات وملخّصها: أنّ نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثَرة والاختصاص، ونحنلا نسمي من أبلي ذلك اليوم فنزلت ورضي المسلمون وسلموا وأصلح الله ذات بينهم واختلف المفسّرون في المراد بالأنفال. فقالابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد: يعني الغنائم مجملة قال عكرمة ومجاهد: كان هذا الحكم من اللهلدفع الشغب ثم نسخ بقوله:
{ وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء }
الآية. وقال أبو زيد لا نسخ إنما أخبر أنّالغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبيّن لحكم الله والمضارع فيها ليقع التسليم فيها منالناس وحكم القسمة قاتل خلال ذلك، وقال ابن عباس أيضاً: الأنفال في الآية ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيفأو فرس أو نحوه، وقال علي بن صالح وابن جني والحسن: الأنفال في الآية الخمس، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً:الأنفال في الآية ما شذّ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر والعبد الآبق وهو للنبي ﷺيصنع فيه ما يشاء، وقال ابن عباس أيضاً: الأنفال في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة. وهذهالأقوال الأربعة مخالفة لما تظافرت عليه أسباب النزول المروية والجيّد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت الروايات به، وقال الشعبي:الأنفال الأسرى وهذا إنما هو منه على جهة المثال وقد طول ابن عطية وغيره في أحكام ما ينقله الإمام وحكمالسّلب وموضوع ذلك كتب الفقه وضمير الفاعل في يسألونك ليس عائداً على مذكور قبله إنما يفسّره وقعة بدر، فهو عائدعلى من حضرها من الصحابة وكان السائل معلوم معين ذلك اليوم فعاد الضمير عليه والخطاب للرسول ﷺوالسؤال قد يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول فيتعدى إذ ذاك بعن كما قال:
سلـي إن جهلـت النـاس عنـا وعنهـم |
وقال تعالى:
{ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ }
{ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ }
وكذا هنا {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ } حكمها ولمن تكونولذلك جاء الجواب {قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } وقد يكون السؤال لاقتضاء مال ونحوه فيتعدى إذ ذاك لمفعولين تقول سألتزياداً مالاً وقد جعل بعض المفسرين السؤال هنا بهذا المعنى وادعى زيادة عن، وأن التقدير يسألونك الأنفال، وهذا لا ضرورةتدعو إلى ذلك، وينبغي أن تحمل قراءة من قرأ بإسقاط عن على إرادتها لأن حذف الحرف، وهو مراد معنى، أسهلمن زيادته لغير معنى غير التوكيد وهي قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وولديه زيد ومحمدالباقر وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف. وقيل عن بمعنى من أي يسألونك من الأنفال ولا ضرورةتدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف، وقرأ ابن محيصن علنفال نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتدّ بالحركةالمعارضة فأدغم نحو، وقد تبين لكم، ومعنى {قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } ليس فيها لأحد من المهاجرين ولا من الأنصارولا فوض إلى أحد بل ذلك مفوض لله على ما يريده وللرسول حيث هو مبلغ عن الله الأحكام وأمرهم بالتقوىليزول عنهم التخاصم ويصيروا متحابين في الله وأمر بإصلاح ذات البَين وهذا يدلّ على أنه كانت بينهم مباينة ومباعدة ربماخيف أن تفضي بهم إلى فساد ما بينهم من المودة والمعافاة، وتقدم الكلام على {ذات} في قوله
{ بذات الصدور }
، والبينهنا الفراق والتباعد وذات هنا نعت لمفعول محذوف أي وأصلحوا أحوالاً ذات افتراقكم لما كانت الأحوال ملابسةً للبين أُضيفت صفتهاإليه كما تقول اسقني ذا إنائك أي ماء صاحب إنائك لما لابس الماء الإناء وصف بذا وأُضيف إلى الإناء والمعنىاسقني ما في الإناء من الماء. قال ابن عطية: وذات في هذا الموضع يُراد بها نفس الشيء وحقيقته والذي يفهممن بينكم هو معنى يعمّ جميع الوصل والالتحامات والمودّات وذات ذلك هو المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه فخضّ الله علىإصلاح تلك الأجزاء وإذا حصلت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم، وقد تُستعمل لفظة الذات على أنهالزيمة ما يضاف إليه وإن لم يكن نفسه وعينه وذلك في قوله
{ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }
و{ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ } ويحتملذات البين أن تكون هذه وقد يقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا وهو قولهم فعلت كذاذات يوم ومنه قول الشاعر:
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة | ذات العشاء ولا تسري أفاعيها |
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال ذات بينكم الحال التي بينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء ووجهه الطبري،وهو قول بين الانتقاض انتهى وتلخص أن البين يطلق على الفراق ويطلق على الوصل وهو قول الزجاج هنا قال ومثله
{ لقد تقطّع بينُكم }
ويكون ظرفاً بمعنى وسط، ويحتمل ذات أن تضاف لكل واحد من هذه المعاني وإنما اخترنا في أنهبمعنى الفراق لأن استعماله فيه أشهر من استعماله في الوصل ولأن إضافة ذات إليه أكثر من إضافة ذات إلى بينالظرفية لأنها ليست كثيرة التصرف بل تصرّفها كتصرّف أمام وخلف وهو تصرّف متوسط ليس بكثير، وأمر تعالى أولاً بالتقوى لأنهاأصل للطاعات ثم بإصلاح ذات البين لأنّ ذلك أهم نتائج التقوى في ذلك الوقت الذي تشاجروا فيه، ثم أمر بطاعتهوطاعة رسوله فيما أمركم به من التقوى والإصلاح وغير ذلك ومعنى إن كنت مؤمنين أي كنتم كاملي الإيمان، وتسنن هناالزمخشري واضطرب فقال: وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله تعالى والرسول ﷺ من لوازم الإيمانوموجباته ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ومعنى إن كنتم مؤمنين إن كنتم كاملي الإيمان. قال ابن عطية:كما يقول الرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كاملَ الرجوليّة، قال: وجواب تلشرط في قوله المتقدم وأطيعواهذا مذهب سيبويه ومذهب أبي العباس أن الجوابَ محذوف متخر يدلّ عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ومذهبه فيهذا أن لا يتقدّم الجواب على الشرط انتهى. والذي مخالف لكلام النحاة فإنهم يقولون إن مذهب سيبويه أن الجواب محذوفوأن مذهب أبي العباس وأبي زيد الأنصاري والكوفيين جواز تقديم جواب الشرط عليه وهذا النقل هو الصحيح. {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } قرىء وجلت بفتح الجيموهي لغة وقرأ ابن مسعود فرقت، وقرأ أبيّ فزعت وينبغي أن تُحمل هاتان القراءتان على التفسير ولما كان معنى، إنكنتم مؤمنين، قال: إنما المؤمنون أي الكاملو الإيمان، ثم أخبر عنهم بموصول وصل بثلاث مقامات عظيمة مقام الخوف، ومقام زيادةالإيمان، ومقام التوكل، ويحتمل قوله إذا ذكر الله أن يذكر اسمه ويلفظ به تفزع قلوبهم لذكره استعظاماً له وتهيباً وإجلالاًويكون هذا الذكر مخالفاً للذكر في قوله
{ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ }
لأنّ ذكرَ الله هناك رأفتهورحمته وثوابه ويحتمل أن يكون ذكر الله على حذف مضاف أي ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاهقاله الزجاج، وقال السدّي: هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله فيفزع عنها وفي الحديث في السبع الذين يُظلّهم الله تحتظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب فقال إني أخاف الله ، ومعنى زادتهم إيماناً أييقيناً وتثبيتاً لأن تظاهر الأدلة وتظافرها أقوى على الطمأنينة المدلول عليه وأرسخ لقدمه. وقيل المعنى أنه إذا كان لم يسمعحكماً من أحكام القرآن منزّل للنبيّ ﷺ فآمن به زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن بهإذ لكلّ حكم تصديق خاص، ولهذا قال مجاهد عبر بزيادة الإيمان عن زيادة العلم وأحكامه. وقيل زيادة الإيمان كناية عنزيادة العمل، وعن عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سنة وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان، وقيل هذا في الظالميوعظ فيقال له اتّقِ الله فيقلع فيزيده ذلك إيماناً والظاهر أن قوله {وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } داخل في صلة الذينكما قلنا قبل، وقيل هو مستأنف وترتيب هذه المقامات أحسن ترتيب فبدأ بمقام الخوف إما خوف الإجلال والهيبة وإما خوفالعقاب، ثم ثانياً بالإيمان بالتكاليف الواردة، ثم ثالثاً بالتفويض إلى الله والانقطاع إليه ورخص ما سواه. {ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَوَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } الأحسن أن يكون {ٱلَّذِينَ } صفة للذين السابقة حتى تدخل في حيّز الجزئية فيكون ذلك إخباراًعن المؤمنين بثلاث الصفة القلبية وعنهم بالصفة البدنية والصفة المالية وجمع أفعال القلوب لأنها أشرف وجمع في أفعال الجوارح بينالصلاة والصدقة لأنهما عموداً أفعال وأجاز الحوفي والبريزي أن يكون {ٱلَّذِينَ } بدلاً من الذين وأن يكون خبر مبتدأ محذوفأي هم الذين والظاهر أن قوله و{مّمّا رَزَقْنَـٰهُمْ * يُنفِقُونَ } عام في الزكاة ونوافل الصدقات وصلات الرحم وغير ذلكمن المبار المالية، وقد خصّ ذلك جماعة من المفسرين بالزكاة لاقترانها بالصلاة. {أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } قال ابنعطيّة {حَقّاً } مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه وهو المصدر غير المنتقل والعامل فيه أحقّ ذلك حقاً انتهى، ومعنىذلك أنه تأكيد لما تضمنته الجملة من الإسناد الخبري وأنه لا مجاز في ذلك الإسناد. وقال الزمخشري حقاً صفة للمصدرالمحذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقًّا وهو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون كقوله هو عبد اللهحقاً أي حقّ ذلك حقاً. وعن الحسن أنه سأله رجل أمؤمن أنت قال: الإيمان إيمانان فإن كانت تسألني عن الإيمانبالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله إنما المؤمنون فواللهلا أدري أمنهم أنا أم لا وأبعد من زعم أن الكلام ثم عند قوله أولئك هم المؤمنون وأنّ حقاً متعلقبما بعده أي حقاً لهم درجات وهذا لأنّ انتصابَ حقاً على هذا التقدير يكون عن تمام جملة الابتداء بمكان التأخيرعنها لأنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة فلا يجوز تقديمه وقد أجازه بعضهم وهو ضعيف. {لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌوَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وبدنية ومالية ترتّب عليها ثلاثة أشياء فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات، والبدنية بالغفران،وفي الحديث أن رجلاً أتى من امرأة أجنبية ما يأتيه الرجل من أهله غير الوطء، فسأله الرسول صلى الله عليهوسلم لما أخبر بذلك أصلّيت معنا فقال نعم فقال له: غفر الله لك وقوبلت المالية بالرزقبالكريم وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البيان. وقال ابن عطية والجمهور: إنّ المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجاتها علىقدر أعمالهم، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا وقوله ورزق كريم يريد به مآكل الجنة ومشاربها وكريم صفةتقتضي رفع المقام كقوله ثوب كريم وحسب كريم، وقال الزمخشري درجات شرف وكرامة وعلوّ منزلة ومغفرة وتجاوز لسيئاتهم ورزق كريمونعيم الجنة منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم وهذا معنى الثواب انتهى. وقال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، وقال الربيعبن أنس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وقيل مراتب ومنازل في الجنة بعضها علىبعض، وفي الحديث أنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما يتراءى الكوكب الدرّيّ وثلاثة الأقوال هذه تدل على أنه أريدالدرجات حقيقة وعن مجاهد درجات أعمال رفيعة. {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَـِّرِهُونَ *يُجَـٰدِلُونَكَ فِي ٱلْحَقّ بَعْدَمَا * مَا تَبَيَّنَ * كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } اضطرب المفسرون في قوله {كَمَاأَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقّ } واختلفوا على خمسة عشر قولاً. أحدها أن الكاف بمعنى واو القسم وما بمعنى الذيواقعة على ذي العلم وهو الله كما وقعت في قوله
{ وما خلق الذكر والأنثى }
وجواب القسم {يجادلونك}، والتقدير والله الذيأخرجك من بيتك يجادلونك في الحق قاله أبو عبيدة وكان ضعيفاً في علم النحو، وقال الكرماني هذا سهو، وقال ابنالأنباري الكاف ليست من حروف القسم انتهى. وفيه أيضاً أن جواب القسم بالمضارع المثبت جاء بغير لام ولا نون توكيدولا بدّ منهما في مثل هذا على مذهب البصريين أو من معاقبة أحدهما الآخر على مذهب الكوفيين، أما خلوّه عنهماأو أحدهما فهو قول مخالف لما أجمع عليه الكوفيون والبصريون، القول الثاني أن الكاف بمعنى إذ وما زائدة تقديره أذكرإذ أخرجك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أن الكاف تكون بمعنى إذ في لسان العرب ولم يثبت أن ما تزادبعد هذا غير الشرطيّة وكذلك لا تزاد ما ادعى أنه بمعناها، القول الثالث الكاف بمعنى على وما بمعنى الذي تقديرهامض على الذي أخرجك ربك من بيتك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أنّ الكاف تكون بمعنى على ولأنه يحتاج الموصولإلى عائد وهو لا يجوز أن يحذف في مثل هذا التركيب، القول الرابع قال عكرمة: التقدير وأطيعوا الله ورسوله إنكنتم مؤمنين كما أخرجك في الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لهم، القول الخامس قال الكسائي وغيره كما أخرجكربك من بيتك على كراهة من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودّون غير ذات الشوكة من بعدماتبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون، قال ابن عطية والتقدير على هذا التأويل يجادلونك فيالحق مجادلةً لكراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهة وكذا وقع التشبيه في المعنى وقائلهذا المقالة يقول إنّ المجادلين هم المشركون، القول السادس قال الفراء: التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت إنكرهوا كما أخرجك ربك انتهى. قال ابن عطية: والعبارة بقوله إمضِ لأمرك ونفل من شئت غير محرّرة وتحرير هذا المعنىعندي أن يقال هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفالكأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم فكانت هذه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلىالله عليه وسلم بإخراجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة وتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ههنا الخروج، وحكم اللهفي النفل بأنه لله والرسول فهو بمثابة إخراجه نبيه ﷺ من بيته ثم كانت الخيرة في القصتينمما صنع الله وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله يجادلونك كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار أي يجادلونك في شريعةالإسلام من بعدما تبين الحقّ فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان وهذا الذي ذكرت من أن يجادلونكفي الكفار منصوص، قال ابن عطية: فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن وصف اللفظ انتهى. ونعني بالقولين قول الفراءوقول الكسائي وقد كثر الكلام في هاتين المقالتين ولا يظهران ولا يلتئمان من حيث دلالة العاطف، القول السابع قال الأخفش:الكاف نعت لحقاً والتقدير هم المؤمنون حقًّا كما أخرجك، قال ابن عطية والمعنى على هذا التأويل كما زاد لا يتناسق،القول الثامن أن الكاف في موضع رفع والتقدير كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر. قال ابن عطية: وهذاالمعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر؛ القول التاسع قال الزجاج الكاف في موضع نصبوالتقدير الأنفال ثابتة لله ثباتاً كما أخرجك ربك وهذا الفعل أخذه الزمخشري وحسنه. فقال ينتصب على أنه صفة مصدر للفعلالمقدّر في قوله الأنفال لله والرسول أي الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياكمن بيتك وهم كارهون انتهى، وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين المشبّه والمشبّه به ولا يظهر كبير معنى لتشبيه هذابهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة، القول العاشر أن الكاف في موضع رفع والتقدير لهم درجاتعند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حقّ كما أخرجك وهذا في حذف مبتدأ وخبر ولو صرّح بذلك لم يلتئمالتشبيه ولم يحسن؛ القول الحادي عشر أنّ الكاف في موضع رفع أيضاً والمعنى وأصلحوا ذات بينكم ذلكم خير لكم كماأخرجك فالكاف نعت لخبر ابتدأ محذوف وهذا أيضاً فيه حذف وطول فصل بين قوله وأصلحوا وبين كما أخرجك، القول الثانيعشر أنه شبه كراهية أصحاب رسول الله ﷺ بخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عنأبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم نزع الغنائم من أيديهم وجعلها للرسول أو التنفيل منها وهذا القول أخذه الزمخشري وحسّنه فقال:يرتفع محلّ الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيتمن تنفيل القراءة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب وهذا النهي قاله هذا القائل وحسّنه الزمخشري هو ما فسر بهابن عطية قول الفراء بقوله هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهمعن الأنفال إلى آخر كلامه، القول الثالث عشر أن المعنى قسمتك للغنائم حق كما كان خروجك حقاً؛ القول الرابع عشرأنّ التشبيه وقع بين إخراجين أي إخراجك ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كاره لخروجك وكانت عاقبة ذلك الخيروالنصر والظفر كإخراج ربك إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقيب ذلك الظفر والنصر القول الخامس عشر الكاف للتشبيهعلى سبيل المجاز كقول القائل لعبده كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مدداً فأمددتك وقويْتُك وأزحت عللك فخذْهم الآن فعاقبهمبكذا وكم كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكما أحسنت إليك ما شكرتني عليه فتقدير الآية كما أخرجك ربّك منبيتك بالحق وغشاكم النعاس أمنه منه يعني به إياه ومن معه وأنزل من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم منالسماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان كأنه يقول قد أزحت عللكم وأمددتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذهالمواضع وهو القتل لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وملخّص هذا القول الطويل أن {كَمَا أَخْرَجَكَ } يتعلقبقوله فاضربوا وفيه من الفصل والبعد ما لا خفاء به وقد انتهى ذكر هذه الأقوال الخمسة عشر التي وقفنا عليها.ومن دفع إلى حوك الكلام وتقلّب في إنشاء أفانينه وزاول الفصاحة والبلاغة لم يستحسن شيئاً من هذه الأقوال وإنكان بعض قائلها له إمامة في علم النحو ورسوخ قدم لكنه لم يحتط بلفظ الكلام ولم يكن في طبعه صوغهأحسن صوغ ولا التصرّف في النظر فيه من حيث الفصاحة وما به يظهر الإعجاز. وقبل تسطير هذه الأقوال هنا وقعتعلى جملة منها فلم يلق لخاطري منها شيء فرأيت في النوم أنني أمشي في رصيف ومعي رجل أباحثه في قوله{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقّ } فقلت له ما مرّ بي شيء مشكل مثل هذا ولعل ثم محذوفاً يصحبه المعنى وما وقفت فيه لأحد من المفسرين على شيء طائل ثم قلت له ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلكالمحذوف هو نصرك واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره، والتقدير فكأنه قيل كما أخرجكربك من بيتك بالحق أي بسبب إظهار دين الله وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيباً للقتال وخوفاً من الموت إذكان أمر النبي ﷺ لخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك اللهوأمدّك بملائكته ودلّ على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم الآيات، ويظهر أنالكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل، ود نص النحويون على أنها قد تحدث فيهامعنى التعليل وخرجوا عليه قوله تعالى:
{ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ }
وأنشدوا:
لا تشتـم الـناس كمـا لا تشتـم |
أي لانتفاء أنيشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع على هذا المعنى كما تطيع الله يدخلك الجنة أي لأجل طاعتك الله يدخلكالجنة فكان المعنى إن خرجت لإعزاز دين الله وقتل أعدائه نصرك الله وأمدّك بالملائكة والواو في وإن فريقاً واو الحالوالظاهر أن من بيتك هو مقام سكناه وقيل المدينة لأنها مهاجره ومختصة به، وقيل مكة وفيه بعد لأن الظاهر أنهذا إخبار عن خروجه إلى بدر فصرفه إلى الخروج من مكة ليس بظاهر ومفعول لكارهون هو الخروج أي لكارهون الخروجمعك وكراهتهم ذلك إما لنفرة الطبع أو لأنهم لم يستنفروا أو العدول من العير إلى النفير لما في ذلك منقوّة أخذ الأموال ولما في هذا من القتل والقتال، أو لترك مكة وديارهم وأموالهم أقوال أربعة، والظاهر أن ضمير الرفعفي يجادلونك عائد على فريق المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنانصرة دين الإسلام، وقيل الضمير يعود على المشركين وجدالهم في الحق هو في شريعة الإسلام. وقرأ عبد الله بعدما بينبضم الباء من غير تاء وفي قوله بعدما تبين إنكار عظيم عليهم لأنّ من جادل في شيء لم يتضح كانأخف عتباً أما من نازع في أمر واضح فهو جدير باللوم والإنكار ثم شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يساريهمإلى الظفر والغنيمة بحال من يساق على الصفا إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها، وقيل كانخوفهم لقلة العدد وأنهم كانوا رجالة، وروي أنه ما كان فيهم إلا فارسان وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان المشركون فينحو ألف رجل وقصة بدر هذه مستوعبة في كتاب السير وقد لخص منها الزمخشري وابن عطية ما يوقف عليه فيكتابيهما. {وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّالحَقَّ } إحدى الطائفتين غير معينة والطائفتان هما كطائفة غير قريش وكانت فيهما تجارة عظيمة لهم ومعها أربعون راكباً فيهاأبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام وطائفة الذين استنفرهم أبو جهل وكانوا في العدد الذي ذكرناه وغير ذاتالشوكة هي العير لأنها ليست ذات قتال وإنما هي غنيمة باردة ومعنى إثبات الحق تثبيته وإعلاؤه وبكلماته بآياته المنزلة فيمحاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وبما ظهرما أخبر به ﷺ وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال والمعنى أنكم ترغبون في إبقاء العاجلة وسلامة الأحوالوسفساف الأمور وإعلاء الحق والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلهم ونصركموأذلهم وأعزّكم وحصل لكم ما أربى على دائرة العير وما أدناه خير منهما، وقرأ مسلمة بن محارب بعدكم بسكون الداللتوالي الحركات وابن محيصن الله إحدى بإسقاط همزة إحدى على غير قياس، وعنه أيضاً أحد على التذكير إذ تأنيث الطائفةمجاز، وأدغم أبو عمرو الشوكة تكون، وقرأ مسلم بن محارب بكلمته على التوحيد وحكاها ابن عطية عن شيبة وأبي جعفرونافع بخلاف عنهم وأطلق المفر مراداً به الجمع للعلم به أو أريد به كلمة تكوين الأشياء وهو كن قيل وكلماتههي ما وعد نبيه في سورة الدخان فقال:
{ يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ }
أي من أبي جهل وأصحابه،وقيل أوامره ونواهيه، وقيل مواعيده النصر والظفر والاستيلاء على إحدى الطائفتين، وقيل كلماته التي سبقت في الأزل ومعنى ليحقّ الحقّليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام ويبطل الباطل فعل ذلك؛ وقيل الحقّ القرآن والباطل إبليس وتتعلق هذه اللام بمحذوف تقديرهليحقّ الحقّ ويبطل الباطل فعل ذلك أي ما فعله إلا لهما وهو إثبات الإسلام وإظهاره وإبطال الكفر ومحوه وليس هذابتكرير لاختلاف المعنيين الأول تبيين بين الإرادتين والثاني بيان لما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليهاوأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك على كثرتهم إلا لهذا المقصد الذي هو أسنى المقاصد وتقدير ما تعلّق به متأخراًأحسن. قال الزمخشري ويجب أن يقدر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص وينطبق عليه المعنى انتهى، وذلك على مذهبه فيأنّ تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص والحصر وذلك عندنا لا يدل على ذلك إنما يدلّ على الاعتناء والاهتمام بماقدّم لا على تخصيص ولا حصر وتقدم الكلام معه في ذلك؛ وقيل يتعلق ليحق بقوله ويقطع؛ وقال ابن عطية ولوكره أي وكراهتكم واقعة فهي جملة في موضع الحال انتهى، وقد تقدم لنا الكلام معه في ذلك وأن التحقيق فيهأن الواو للعطف على محذوف ذلك المحذوف في موضع الحال والمعطوف على الحال حال ومثّلنا ذلك بقوله أعطوا السائل ولوجاء على فرس أي على كل حال ولو على هذه الحالة التي تنافي الصدقة على السائل، وأن ولو هذه تأتيلاستقصاء ما بطن لأنه لا يندرج في عموم ما قبله لملاقاة التي بين هذه الحال وبين المسند الذي قبلهما، وقالالحسن هاتان الآيتان متقدمتان في النزول على قوله كما أخرجك ربك وفي القراءة بعدهما لتقابل الحق بالحق والكراهة بالكراهة انتهى،وهذه دعوى لا دليل عليها ولا حاجة تضطرنا إلى تصحيحها. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَٱلْمَلَـئِكَةِ مُرْدِفِينَ }. استغاث طلب الغوث لما علموا أنه لا بدّ من القتال شرعوا في طلب الغوث من الله تعالىوالدعاء بالنصرة والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله وإذ يعدكم وتودّون وأن الخطاب في قوله كما أخرجك ويجادلونك هو خطابللرسول ولذلك أفرد فالخطابان مختلفان، وقيل المستغيث هو النبي ﷺ، وروي عن ابن عباس أنه قال: حدثنيعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف وإلى المشركين وهمألف فاستقبل القبلة ومدّ يده وهو يقول: اللهم أنجزني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصةبة لا تعبد في الأرضولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه فرده أبو بكر رضي الله عنه كفاك يا رسول الله مناشدتك الله فإنه سينجزلك ما وعدك، قالوا فيكون من خطاب الواحد المعظّم خطاب الجميع، وروي أن أبا جهل عندما اصطفّ القوم قال: اللهمأولانا بالحق فانصره وإذ بدل من إذ يعدكم قاله الزمخشري وابن عطية وكان قد قدم أن العامل في إذ يعدكماذكر، وقال الطبري هي متعلقة بيحق ويبطل وأجاز هو والحوفي أن تكون منصوبة بيعدكم وأجاز الحوفي أن تكون مستأنفة علىإضمار واذكروا وأجاز أبو البقاء أن تكون ظرفاً لتودون واستغاث يتعدى بنفسه كما هو في الآية ويتعدى بحرف جر كماجاء في لفظ سيبويه في باب الاستغاثة، وفي باب ابن مالك في النحو المستغاث ولا يقول المستغاث به وكأنه لمارآه في القرآن تعدّى بنفسه قال المستغاث ولم يعده بالباء كما عداه سيبويه والنحويون وزعم أن كلام العرب بخلاف ذلكوكلامه مسموع من كلام العرب فما جاء معدى بالباء قول الشاعر:
حتى استغاث بماء لا رشاء له | من الأباطح في حاجاته البرك مكلّل بأصول النبت تنسجه ريح حريق لضاحي مائه حبك كما استغاث بشيء قبر عنطلةخاف العيون ولم ينظر به الحشك |
وقرأ الجمهور {أني} بفتح أي بأني وعيسى بن عمر ورواها عن أبي عمرووإني بكسرها على إضمار القول على مذهب البصريين أو على الحكاية باستجاب لإجرائه مجرى الفعل إذ سوى في معناه وتقدمالكلام في شرح استجاب. وقرأ الجمهور {بألف} على التوحيد والجحدري بآلف على وزن أفلس وعنه وعن السدّي بآلف والجمع بينالأفراد والجمع أن يحمل الأفراد على من قاتل منهم أو على الوجوه الذين من سواهم اتباع لهم؛ وقرأ نافع وجماعةمن أهل المدينة وغيرهم مردفين بفتح الدال وباقي السبعة والحسن ومجاهد بكسرها أي متابعاً بعضهم بعضاً، وروي عن ابن عباس:خلف كلَّ ملك ملك وراءه. وقرأ بعض المكيين فيما روى عنه الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية مردفين بفتحالراء وكسر الدال مشددة أصله مرتدفين فأدغم؛ وقال أبو الفضل الرازي وقد يجوز فتح الراء فراراً إلى أخفّ الحركات أولثقل حركة التاء إلى الراء عند الإدغام ولا يعرف فيه أثراً انتهى؛ وروي عن الخليل أنه يضمّ الراء اتباعاً لحركةالميم لقولهم مخضم؛ وقرىء كذلك إلا أنه بكسر الراء اتباعاً لحركة الدال أو حرّكت بالكسر على أصل التقاء الساكنين؛ قالابن عطية: ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة كقولهم مخصم، وتقدّم الكلام في عدد الملائكة وهل قاتلتأم لم تقاتل في آل عمران ولم تتعرض الآية لقتالهم والظاهر أن قراءة من قرأ مردفين بسكون الراء وفتح الدالأنه صفة لقوله بألف أي أردف بعضهم لبعض؛ قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالمردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة فمردفينعلى هذا حال من الضمير قال الزمخشري وأردفته إياه إذا اتبعته ويقال أردفته كقولك اتبعته إذا جئت بعده فلا يخلوالمسكور الدال أن يكون بمعنى متبعين أو متبعين فإن كان بمعنى متبعين فلا يخلو أن يكون بمعنى متبعين بعضهم بعضاًأو متبعين بعضهم لبعض أو بمعنى متبعين إياهم المؤمنون أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم أو متبعين لهم يشيعوهم ويقدمونهم بين أيديهموهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحفظهم أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين أو متبعين غيرهم من الملائكة ويعضد هذاالوجه قوله تعالى في سورة آل عمران
{ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُنزَلِينَ }
{ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُسَوّمِينَ }
انتهى.وهذا تكثير في الكلام وملّخصه أنّ اتّبع مشدداً يتعدى إلى واحد واتبع مخففاً يتعدى إلى اثنين وأردف أتى بمعناهما والمفعوللـ (تبع) محذوف والمفعولان لـ (تبع) محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى وقوله أو متبعين إياهم المؤمنين هذا ليس منمواضع فصل الضمير بل مما يتصل وتحذف له النون لا يقال هؤلاء كاسون إياك ثوباً بل يقال كاسوك فتصحيحه أنيقول أو بمعنى متبعيهم المؤمنين أو يقول أو بمعنى متبعين أنفسهم المؤمنين. {وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِقُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ * عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تقدم تفسير نظير هذه الآية والمعنى{إلا بشرى} لكم واثبت في آل عمران لأنّ القصة فيها مسهبة وهنا موجزة فناسب هنا الحذف وهنا قدم وأخر هناكعلى سبيل التفنن والاتساع في الكلام وهنا جاء {إنّ الله عزيز حكيم} مراعاة لأواخر الآي وهناك ليست آخر آية لتعلقيقطع بما قبله فناسب أن يأتي
{ العزيز الحكيم }
على سبيل الصفة وكلاهما مشعر بالعلية كما تقول أكرم زيداً العالم وأكرمزبداً أنه عالم والضمير في وما جعله عائد على الإمداد المنسبك من أني ممدكم أو على المدد أو على الوعدالدال عليه يعدكم إحدى الطائفتين أو على الألف أو على الاستجابة أو على الإرداف أو على الخبر بالإمداد أو علىجبريل أقوال محتملة مقولة أظهرها الأول ولم يذكر الزمخشري غيره. {إِذْ * يُغَشّاكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّنٱلسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام} قال الزمخشري بدل ثان من إذيعدكم أو منصوب بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكر انتهى.أما كونه بدلاً ثانياً من إذ يعدكم فوافقه عليه ابن عطية فإنّ العامل في إذ هو العامل في قوله وإذيعدكم بتقدير تكراره لأنّ الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف وإنما القصد أن يعدّد نعمه علىالمؤمنين في يوم بدر فقال واذكروا إذ فعلنا بكم كذا اذكروا إذ فعلنا كذا وأما كونه منصوباً بالنصر ففيه ضعفمن وجوه: أحدها أنه مصدر فيه أل وفي إعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله، الثاني أنه موصولوقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو إلا من عند الله وذلك إعمال لا يجوز لا يقال ضرب زيدشديد عمراً، الثالث أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل إلا في ما بعدها من غير أن يكون ذلك المفعولمستثنى أو مستنثى منه أو صفة له وإذ ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يومالجمعة وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش، وأما كونه منصوباً بما في عند الله من معنى الفعل فيضعفه المعنى لأنه يصيراستقرار النصر مقيداً بالظرف والنصر من عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره وأما كونه منصوباً بما جعله اللهفقد سبقه إليه الحوفيّ وهو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك الثلاثة، وقال الطبريالعامل في إذ قوله ولتطمئن. قال ابن عطية: وهذا مع احتماله فيه ضعف، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون ظرفاًلما دلّ عليه عزيز حكيم وقد سبقه إلى قريب من هذا ابن عطية فقال: ولو جعل العامل في إذا شيئاًفرنها بما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في إذ حكيم لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمة حكمة منالله عز وجل انتهى، والأجود من هذه الأقوال أن يكون بدلاً وقرأ مجاهد وابن محيصن وأبو عمرو وابن كثير يغشاكمالنعاس مضارع غشى والنعاس رفع به، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع يغشيكم مضارع أغشى، وقرأ عروة بن الزبيرومجاهد والحسن وعكرمة وأبو رجاء وابن عامر والكوفيون يغشيكم مضارع غشى و{النعاس} في هاتين القراءتين منصوب والفاعل ضمير الله وناسبتقراءة نافع قوله
{ يغشى طائفة منكم }
وقراءة الباقين وينزل حيث لم يختلف الفاعل ومعنى يغشيكم يعطيكم به وهو استعارة جعلما غلب عليهم من النعاس غشياناً لهم، وتقدم شرح {النعاس} و{أمنة} في آل عمران والضمير في {منه} عائد على اللهوانتصب {أمنة}، قيل على المصدر أي فأمنتم أمنة والأظهر أنه انتصب على أنه مفعول له في قراءة يغشيكم لاتحاد الفاعللأنّ المغشى والمؤمن هو الله تعالى، وأما على قراءة {يغشاكم} فالفاعل مختلف إذ فاعل {يغشاكم} هو {النعاس} والمؤمن هو اللهوفي جواز مجيء المفعول له مع اختلاف الفاعل خلاف، وقال الزمخشري، (فإن قلت): أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعللوالعلة واحداً، قلت بلى ولكن لما كان معنى {يغشاكم النعاس} تتغشون انتصب {أمنة} على أن النعاس والأمنة لهم والمعنى إذتتغشون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم ومنه صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من الله تعالى، (فإن قلت): هل يجوزأن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو يغشاكم أي يغشاكم النعاس لأمنه على أنّ إسناد الأمن إلى النعاس إسنادمجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة أو على أنه أمانكم في وقته كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوفأن لا يقدم على غشياكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة من الله تعالى لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل، (قلت):لا تتعدى فصاحة القرآن عن احتماله وله فيه نظائر ولقد ألمّ به من قال:
يهاب النوم أن يغشى عيونا | تهابك فهو نفار شرود |
وقرىء {أمنة} بسكون الميم ونظير أمن أمنة حيـي حياة ونحو أمنمن أمنة رحم رحمه، والمعنى أنّ ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم فلما طامن الله تعالى قلوبهمأمنهم وأقروا، وعن ابن عباس: النعاس في القتال أمنة من الله تعالى وفي الصلاة وسوسة من الشيطان انتهى، وعن ابنمسعود شبيه هذا الكلام وقال النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله تعالى وهو في الصلاةمن الشيطان، قال ابن عطية: وهذا إنما طريقة الوحي فهو لا محالة يسندها انتهى، والذي قرأ {أمنة} بسكون الميم هوابن محيصن ورويت عن النخعي ويحيـى بن يعمر وغشيان النوم إياهم قيل حال التقاء الصفين ومضي مثل هذا في يومأحد في آل عمران، وقيل: الليلة التي كان القتال في غدها امتنّ عليهم بالنوم مع الأمر المهم الذي يرونه فيغد ليستريحوا تلك الليلة وينشطوا في غدها للقتال ويزول رعبُهم، ويقال: الأمن مُنيم والخوف مُسهر والأولى أن يكون ترتيب هذهالجمل في الزمان كترتيبها في التلاوة فيكون إنزال المطر تأخر عن غشيان النعاس، وعن ابن نجيح أن المطر كان قبلالنعاس واختاره ابن عطية قال ونزول الماء كان قبل تغشية النعاس ولم يترتب كذلك في الآية إذ القصد منها تعديدالنعم فقط، وقرأ طلحة وينزّل بالتشديد، وقرأ الجمهور ماء بالمد، وقرأ الشعبي ما بغير همز، حكاه ابن جنّي، صاحب اللوامحفي شواذ القراءات، وخرّجاه على أنّ ما بمعنى الذي، قال صاحب اللوامح: وصلته حرف الجر الذي هو ليطهركم والعائد عليههو ومعناه الذي هو ليطهركم به انتهى، وظاهر هذا التخريج فاسد لأنّ لام كي لا تكون صلة ومن حيث جعلالضمائر هو وقال معناه الذي هو ليطهركم ولا تكون لام كي هي الصلة بل الصلة هو ولام الجر والمجرور، وقالابن جنّي ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره فكأنه قال ما للطهور انتهى. وهذا فيه ما قلنا من مجيءلام كي صلة ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أنّ ما ليس موصولاً بمعنى الذي وأنه بمعنى ماءالمحدود وذلك أنهم حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا ما يا هذا بحذف الهمزة وتنوين الميم فيمكن أن تُحرّجعلى هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين لأنك إذا وقفت على شربت ما قلت شربت ما بحذفالتنوين وإبقاء الألف إما ألف الوصل الذي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة وإما الألف التي هي بدل منالتنوين حالة النصب، وقرأ ابن المسيّب ليطهرّكم بسكون الطاء ومعنى ليطهركم من الجنابات وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجناباتوعدموا الماء وكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكان المشركون قد سبقوهمإلى ماء بدر، وقيل بل المؤمنون سبقوا إلى الماء ببدر وكان نزول المطر قبل ذلك، والمرويّ عن ابن عباس وغيرهأن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبواوصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول الله، وحالنا هذه، والمشركون علىالماء فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعةَ عشر من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهّروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخةالتي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزلتلبدت قالوا فهذا معنى قوله ليطهركم به أي من الجنابات ويذهب عنكم رجز الشيطان أي عذابه لكم بوسواسه والرجز العذاب،وقيل رجزه كيده ووسوته، وقيل الجنابة من الاحتلام فإنها من الشيطان، وورد ما احتلم نبي قط إنما الاحتلام يكون منالشيطان، وقرأ عيسى بنُ عمرو يذهب بجزم الباء، وقرأ ابن محيصن رجز بضم الراء وأبو العالية رجس بالسين ومعنى الربطعلى القلب هو اجتماع الرأي والتشجيع على لقاء العدو والصبر على مكافحة العدو والربط الشد هو حقيقة في الأجسام فاستعيرمنها لما حصل في القلب من الشدة والطمأنينة بعد التزلزل، ومقتضى ذلك الربط قال ابن عباس الصبر، وقال مقاتل الإيمان،وقيل نزول المطر، وهو الظاهر، لأن قوله ليطهّركم وما بعده تعليل لإنزال المطر والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأنالمكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملاً تغوص فيه الأرجل فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام والضمير في به عائدعلى المطر، وقيل التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال والضمير في به عائد على المصدر الدالعليه وليربط وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولاً منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة، وهو فعل جسمانيأعني اغتسالهم من الجنابة، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوسإليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني، وهو فعل محله القلب، وهوالتشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يقرّون وقت الحربفحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبيّ ظهر حرف التعليل وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولاًبالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل ولأنه الذي تؤدي به أفضل العبادات وتحيا به القلوب. {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَىٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ } هذا أيضاً من تعددالنعم إذ الإيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويعينهم وأمرهم بتثبيت المؤمنين والإخبار بما يأتي بعد من إلقاءالرعب في قلوب أعدائهم والأمر بالضرب فوق أعناقهم وكلّ بنان منهم من أعظم النعم، وفي ذلك إعلام بأنّ الغلبة والظفروالعاقبة للمؤمنين، وقال الزمخشري: إذ يوحى يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من إذ يعدكم وأن ينتصب بثبت، وقال ابن عطية:العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ولو قدّرناه قريباً لكان قوله ويثبت على تأويل عود الضميرعلى الرّبط وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في إذ انتهى وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيتعنده وزمان هذا الوحي لأنّ زمان إنزال المطر وما تعلق به من تعاليله متقدم على تغشية النعاس والإيحاء كانا وقتالقتال وهذا الوحي إما بإلهام وإما بإعلام، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه إذ معكم الهمزة على إضمار القول علىمذهب البصريين أو على إجراء يوحي مجرى تقول على مذهب الكوفيين والملائكة هم الذين أمدّ المؤمنون بهم، ولما كان ماتقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم وينزل عليكم ويطهّركم ويذهب رجز وليربط على قلوبكم إذ كانفي هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده فقال إذ يوحى ربكففي ذلك تشريف بمواجهته بالخطاب وحدَه أي مربيك والناظر في مصلحتك ويثبت الذين آمنوا. قال الحسن بالقتال أي فقاتلوا، وقالمقاتل بشّروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل فيقول أبشروا فإن الله ناصركم وذكر الزجاج أنهم يثبتونهمبأشياء يلقونها في قلوب تقوى بها، وذكر الثعلبي ونحوه قال: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، وقال ابن عطية نحوه قال:ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجريعليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } وأن كان إلقاء الرعبيطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد وعلى هذا التأويل يجيء قولهسألقي في قلوب الذين كفروا الرعب مخاطبة للملائكة ثم يجيء قوله فاضربوا فوق الأعناق لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عنصورة الحال كما تقول إذا وصفت لمن تخاطبه لقبنا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك، أي هذهكانت صفة الحال ويحتمل أن يكون سألقي إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله بالكفار في المستقبل كمافعله في الماضي ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضًّا على نصرة الدين، وقال الزمخشري والمعني أني معينكم علىالتثبت فثبتوهم فقوله سألقي فاضربوا يجوز أن يكون تفسيراً لقوله أني معكم فثبتوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب فيقلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة ويجوز أن يكون غير تفسير وأن يُراد بالتثبيت أنيخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة، وقيل كان الملكيتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي فيقول إني سمعت المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفّين فيقولابشروا فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه انتهى، ثم قال ويجوز أن يكون قوله سألقي إلى قوله كلبنان عقيب قوله فثبتوا الذين آمنوا تلقينا للملائكة وما يثبتونهم به كأنه قال قولوا لهم سألقي والضاربون على هذا همالمؤمنون انتهى، والذي يظهر أن ما بعد {يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ } هو من جملة الموحى به وأن الملائكة همالمخاطبون بتثبيت المؤمنين وبضرب فوق الأعناق وكل بنان، وقال السائب بن يسار: كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السّواري عنالرّعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف كان يأخذ الحصا ويرمي به الطست فيظن فيقول: كنا نجد في أجوافنامثل هذا، وقرأ ابن عامر والكسائي والأعرج الرّعب بضم العين وفوق قال الأخفش: زائدة أي فاضربوا الأعناق وهو قول عطيةوالضحاك فيكون الأعناق هي المفعول باضربوا هذا ليس بجيد لأن فوق اسم ظرف والأسماء لا تزاد، وقال أبو عبيدة: {فوق}بمعنى على تقول ضربته فوق الرأس وعلى الرأس ويكون مفعول {فاضربوا} على هذا محذوفاً أي فاضربوهم فوق الأعناق وهذا قولحسن لا بقاء {فوق} على معناها من الظرفية. وقال ابن قتيبة {فوق} بمعنى دون قال ابن عطية: وهذا خطأ بيّنوإنما دخل عليه اللبس من قوله
{ بعوضة فما فوقها }
في القلّة والصغر فأشبه المعنى دون انتهى. وعلى قولا بن قتيبةيكون المفعول محذوفاً أي فاضربوهم، وقال عكرمة: {فوق} على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق، قال الزمخشري: يعني ضربالهام. قال الشاعر:
واضـرب هـامـة البطــل المشيــح |
وقال آخر:
غشيته وهو في جأواء باسلة | عضباً أصاب سوء الرأس فانفلقا |
انتهى. وقال ابن عطية: وهذا التأويل أنبلها ويحتمل عندي أن يريد بقوله فوق الأعناق بوصفأبلغ ضربات العنق وأحكمها وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل، وينظر إلى هذا المعنىقول دريد بن الصمّة الجشمي لابن الدّغنة السلمي حين قال له أخذ سيفي وأرفع عن العظم وأخفض عن الدماغ فهكذاكنت أضرب أعناق الأبطال ومنه قول الشاعر:
جعل السيف بين الجيد منه | وبين أسيل خديه عذارا |
فيجيء على هذا فوق الأعناق متمكّناً انتهى. فإن كان قول عكرمة تفسير معنى فحسن ويكون مفعول فاضربوا محذوفاًوإن كان أراد أنّ فوق هو المضروب فليس بجيّد لأن فوق من الظروف التي لا يتصرف فيها لا تكون مبتدأةولا مفعولاً بها ولا مضافاً إليها إنما يتصرف فيها بحرف جر كقوله
{ من فوقهم ظلل }
هذا هو الصحيح في {فوق}وقد أجاز بعضهم أن يكون {فوق} في الآية مفعولاً به وأجاز فيها التصرّف قال: تقول فوقك رأسك بالرفع وفوقك قلنسوتكبالنصب ويظهر هذا القول من الزمخشري قال: {فوق الأعناق} أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضربفيها جزّاً وتطييراً للرأس انتهى، والبنان تقدم الكلام فيها في المفردات، وقالت فرقة منهم الضحاك البنان هي المفاصل حيث كانتمن الأعضاء، وقالت فرقة البنان الأصابع من اليدين والرّجلين. وقيل الأصابع وغيرها من الأعضاء والمختار أنها الأصابع. وقال عنترة العبسي:
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها | ويضرب عند الكرب كلّ بنان |
وقال أيضاً:
وأن الموت طرح يدي إذا ما | وصلت بنانها بالهندواني |
وضرب الكفار مشروع في كلّ موضع منهم وإنماقصد أبلغ المواضع وأثبت ما يكون المقاتل لأنه إذا عمد إلى الرأس أو الأطراف كانت ثابت الجأش متبصراً فيما يضعفيه آلة قتاله من سيف ورمح وغيرهما مما يقع به اللقاء إذ ضرب الرأس فيه أشغل شاغل عن القتال وكثيراًما يؤدّي إلى الموت وضرب البنان فيه تعطيل القتال من المضروب بخلاف سائر الأعضاء. قال الفراء: علمهم مواضع الضرب فقال:اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل فكأنه قال فاضربوا الأعالي إن تمكّنتم من الضرب فيها فإن لم تقدروا فاضربوهم في أوساطهم فإنلم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم فإنّ الضرب في الأعالي يسرع بهم إلى الموت والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدمالامتناع والضرب في الأسافل يمنعم من الكرّ والفرّ فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية وإما الاستيلاء عليهم انتهى، وفي قولالفرّاء هذا تحميل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله، وقال الزمخشري والمعنى فاضربوا المقاتل والشوى لأنّ الضرب إما واقع على مقتلأو غير مقتل فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً انتهى.
{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ }
عدل{ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الإشارة إلى ما حلّ بهم من إلقاءالرعب في قلوبهم وما أصابهم من الضرب والقتل، والكاف لخطاب الرسول أو لخطاب كل سامع أو لخطاب الكفار على سبيلالالتفات وذلك مبتدأ وبأنهم هو الخبر والضمير عائد على الكفار وتقدّم الكلام في المشاقّة في قوله
{ فإنما هم في شقاق }
والمشاقّة هنا مفاعلة فكأنه تعالى لما شرع شرعاً وأمر بأوامر وكذبوا بها وصدّوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق وعبّر المفسرونفي قوله شاقّوا الله أي صاروا في شقّ غير شقّه. {وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أجمعواعلى الفكّ في يشاقق اتباعاً لخط المصحف وهي لغة الحجاز والإدغام لغة تميم كما جاء في الآية الأخرى ومن يشاقالله، وقيل فيه حذف مضاف تقديره شاقّوا أولياء الله ومن شرطية والجواب فإن وما بعدها والعائد على من محذوف أي
{ شديد العقاب }
له وتضمن وعيداً وتهديداً وبدأهم بعذاب الدنيا من القتل والأسر والاستيلاء عليهم. {ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابَٱلنَّارِ } جمع بين العذابين عذاب الدنيا وهو المعجّل وعذاب الآخرة وهو المؤجّل والإشارة بذلكم إلى ما حلّ بهم منعذاب الدنيا والخطاب للمشاقّين ولما كان عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة يسيراً سمى ما أصابهم منه ذوقاً لأنّ الذّوقيعرف به الطعم وهو يسير ليعرف به حال الطعم الكثير كما قال تعالى:
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّالُّونَ ٱلْمُكَذّبُونَ * لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ }
فما حصل لهم من العذاب في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلىما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب العظيم وذلكم مرفوع إما على ابتداء والخبر محذوف أي ذلكم العقاب أو علىالخبر والمبتدأ محذوف أي العقاب ذلكم وهما تقديران للزمخشري. وقال ابن عطية: أي ذلكم الضّرب والقتل وما أوقع الله بهميوم بدر فكأنه قال الأمرد ذلكم فذوقوه انتهى. وهذا تقدير الزجاج، وقال الزمخشري ويجوز أن يكون نصباً على عليكم ذلكم فذوقوه كقولك زيداً فاضربه انتهى، ولا يجوز هذا التقدير لأنّ عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه له بقولك زيداً فاضربه ليس بجيد لأنهم لم يقدروه بعليك زيداً فاضربه وإنما هذا منصوب على الاشتغال وقد أجاز بعضهم فيذلك أن يكون منصوباً على الاشتغال وقال بعضهم لا يجوز أن يكون ذلكم مبتدأ أو فذوقوه خبراً لأنّ ما بعد الفاء لا يكون خبراً لمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة نحو الذي يأتيني فله درهم وكلرجل في الدار فمكرم انتهى، وهذا الذي قاله صحيح ومسألة الاشتغال تنبني على صحة جواز أن يكون ذلكم يصحّ فيه الابتداء إلا أن قولهم زيداً فاضربه وزيد فاضربه ليست الفاء هنا كالفاء في الذي يأتيني فله درهم لأكن هذه الفاء دخلت لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ولذلك شروط ذكرت في النحو والفاء في زيد فاضربه هي جواب لأمر مقدّر ومؤخرة من تقديم والتقدير تنبه فزيداً ضربه وقالت العرب زيداً فاضربه وقدره النحاة تنبه فاضرب زيداً وابتنى الاشتغال في زيداً فاضربه على هذا التقدير فقد بان الفرق بين الفاءين ولولا هذا التقدير لم يجز زيداً فاضرب بل كان يكون التركيب زيداًاضرب كما هو إذا لم يقدر هناك أمر بالتنبيه محذوف. وقرأ الجمهور وأن بفتح الهمزة. قال الزمخشري عطف على ذلكم في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى مع ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير أي مكان وأنّ لكم وأنّ للكافرين. وقال ابن عطية إما على تقدير وحتم أن فتقدير ابتداء محذوف يكون خبره. وقال سيبويه التقدير الأمر ذلكم وأما على تقدير واعلموا أن فهي في موضع نصب انتهى. وقرأ الحسن وزيدبن علي وسليمان التيمي وإن بكسر الهمزة على استئناف الأخبار.
{ يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } * { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ } * { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } * { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } * { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } * { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } * { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } * { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } * { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } * { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } * { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } * { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } * { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ }
عدلقال الليث: الجماعة يمشون إلى عدوهم هو الزحف. قال الأعشى:
لمن الظعائن سيرهن تزحف | منك السفين إذا تقاعس تجرف |
وقال الفرّاء: الزحف الدّنو قليلاً يقال زحف إليهيزحف زحفاً إذا مشى، وأزحفت القوم دنوت لقتالهم وكذلك تزحف وتزاحف وازحف لنا عدونا ازحافاً صاروا يزحفون لقتالنا فازدجف القومازدحافاً مشى بعضهم إلى بعض، وقال ثعلب ومنه الزّحاف في الشعر وهو أن يسقط من الحرفين حرف ويزحف أحدهما إلىالآخر وسُمّي الجيش العرمرم بالزحف لكثرته كأنه يزحف إليّ يدبّ دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على إليته قليلاً قليلاًوأصله مصدر زحف وقد جمع أزحف على زحوف. وقال الهذليّ يصف منهلاً:
كان مزاحف الحيّات فيه | قبيل الصبح آثار السّياط |
المتحيّز المنضم إلى جانب، وقال أبو عبيدة: التحيّز والتحوّز التنحّي، وقال الليث:ما لك متحوز إذا لم تستقرّ على الأرض وأصله من الحوز وهو الجمع يقال خرته في الطرس فانحار وتحيّز انضمّواجتمع وتحوّزت الحية انطوت واجتمعت وسمى التنحّي تحيزاً لأن المتنحي عن جانب ينضمّ عنه ويجتمع إلى غيره وتحيز تفيعل أصلهتحيوز اجتمعت ياء وواو وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمَتْ فيها الياء وتحوّز تفعل ضعفت عينه. الرمي معروف ويكونبالسهم والحجر والتراب. المكاء الصفير. وقال عنترة:
وخليل غانية تركت مجندلا | تمسكوا فريصته كشدق الأعلم |
أي تصوت ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح. وقال السدي: المكاء الصفير على لحن طائر أبيضبالحجاز يقال له المكاء، قال الشاعر:
إذا غرّد المكاء في غير روضة | فويل لأهل السّقاء والحمرات |
وقال أبو عبيدة: وغيره مكا يمكو مكاء إذا صفر والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصّراخ والخوار والدعاء والنباح.التصدية التصفيق صدى يصدي تصدية صفق وهو فعل من الصدى وهو الصوت الركم. قال الليث: جمعك شيئاً فوق شيء حتىتجعله ركاماً مركوماً كركام الرمل والسحاب. مضى تقدم والمصدر المضي. {ٱلنَّارِ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاًفَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلادْبَارَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرّعب في قلوب الكفار وأمرمن آمن بضرب فوق أعناقهم وبنانهم حرضهم على الصير عند مكافحة العدوّ ونهاهم عن الانهزام وانتصب زحفاً على الحال، فقيلمن المفعول أي لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفرّوا فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، وقيلمن الفاعل أي وأنتم زحف من الزحوف وكان ذلك إشعاراً بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزاموا وهم اثنا عشرألفاً بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ، وقيل حال من الفاعل والمفعول أي متزاحفين ولم يذكر ابن عطية إلا مايدل على أنه خال منهما قال زحفاً يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص أي يزحف بعضهم إلى بعض. وقيل انتصب زحفاًعلى المصدر بحال محذوفة أي زاحفين زحفاً وهذا الذي قيل محكم فحرم الفرار عند اللقاء بكلّ حال. وقيل كان هذافي الابتداء الإسلام حيث كان الأمر بالمصابرة أن يواقف مسلم عشرة كفار ثم خفّف فجعل واحد في مقابلة اثنين ويأتيحكم المؤمنة الفارّة من ضعفها في آية التخفيف وعدل عن الظهور إلى لفظ الأدبار تقبيحاً لفعل الفار وتبشيعاً لانهزامه وتضمّنهذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة. {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍمّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعّد من ولّى دبره وقت لقاء العدوّ وناسب قولهومن يولهم فقد باء بغضب كان المعنى فقد ولّى مصحوباً بغضب الله وعدل أيضاً عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغةفي التقبيح والذمّ إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدًّا ألا ترى إلى قول الشاعر:
فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا | ولكن على أقدامنا تقطر الدما |
قال في التحرير: وهذا النوع من علم البيانيُسمى بالتعريض عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم وخساسة منزلتهم وبعضهم يسميه الإيماء وبعضهم يسميه الكنانة وهذا ليس بشيء فإنّ الكنايةأن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح انتهى، والظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد {إذ} وعوض منها التنوين هي قوله {إذلقيتم الكفار} فقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فرّ ونسخ بعد ذلكحكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس كبيرة وقد فرّ الناس يوم أحد فعفا الله عنهم وقال اللهفيهم ويوم حنين
{ ثم وليتم مدبرين }
ولم يقع على ذلك تعنيف انتهى، وهذا القول بأن الإشارة بقوله يومئذ لا يظهرإلى يوم بدر لا يظهر لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاءالقتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون خاصاً به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخليوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال. قال ابن عطية والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاءالذي تضمنه قوله إذا لقيتم وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بسبب الضعف الذي بيّنه الله في آية أخرى وليسفي الآية نسخ وأما يوم أحد فإنما فرّ الناس من مراكزهم من ضعفهم ومع ذلك عنفو لكون رسول الله صلىالله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه، وأما يوم حنين فكذلك من فرّ إنما انكشف أمام الكرة ويحتمل أن عفو اللهعن مَن فرّ يوم أحد كان عفواً عن كثرة انتهى، وقرأ الحسن دبره بسكون الباء وانتصب متحرفاً ومتحيزاً عن الحالمن الضمير المستكن في قولهم العائد على من. قال الزمخشري: وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين أي ومن يولهمإلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً انتهى، وقال ابن عطية: وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من انتهى ولايريد الزمخشري بقوله ولا لغو إنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو يولهم وصل إلى العمل فيما بعدها كماقالوا في لا من قولهم جئت بلا زاد أنها لغو وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة والتقدير: ومن يولهمملتبساً بأية حالة إلا في حال كذا وإن لم يقدّر حال غاية محذوفة لم يصحّ دخول إلا لأن الشرط عندهمواجب وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات لأنه يكون استثناء مفرغاً والاستثناءالمفرغ لا يكون في الواجب لو قلت ضربت إلا زيداً وقمت إلا ضاحكاً لم يصحّ والاستثناء المفرغ لا يكون إلامع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناءمن ذلك العموم فلا يكون استثناء غير مفرغ، وقال قوم الاستثناء هو من أنواع التّولي وردّ بأنه لو كان ذلكلوجب أن يكون إلا تحرفاً أو تحيّزاً والتحرّف للقتال هو الكرّ بعد الفرّ يخيل عدوّه أنه منهزم ثم ينعطف عليهوهو عين باب خِدَع الحرب ومكائدها قاله الزمخشري، وقال يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدوّ وأعود عليهبالشر، والفئة هنا قال الجمهور هي الجماعة من الناس الحاضرة للحرب فاقتضى هذا الإطراق أن تكون هذه الفئة من الكفارأي لكونه يرى أنه يُنكي فيها العدوّ ويبلي أكثر من إبلائه فيما قابله من الكفار إما لعدم مقاومته أو لكونغيره يعنى فيمن قاتله منهم فتحيّز إلى فئة أخرى من الكفار ليبلى فيها واقتضى أيضاً أن تكون هذه الفئة منالمسلمين أي تحيّز إليها لينصرها ويقويها إذا رأى فيها ضعفاً وأغنى غيره في قتال من قاتله من الكفار وبهذا فسرالزمخشري قال إلى فئة جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها، وقيل الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمينأينما كانوا، وروي هذا عن عمر: انهزم رجل من القادسيّة فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال يا أميرالمؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه عنه: أنا فئتك. وعن ابن عمر رضي الله عنه: خرجتسرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون. فقال: بل أنتمالعكارون وأنا فئتكم. قال ثعلب العكارون العطّافون، وقال غيره: يقال للرجل الذي يولّي عن الحرب لم يكن راجعاً عكر واعتكر،وعن ابن عباس رضي الله عهما: الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال:سمعت النبي ﷺ {اتقوا السبع الموبقات} وعد فيها الفرار من الزحف وفي التحرير التولّي الذي وقع عليهالوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار انتهى. وماأحسن ما استعذر الحارث بن هشام إذ فرّ فقيل فيه:
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم | ونجا برأس طمره ولجام |
وقال الحرث من أبيات:
وعلمت أني إن أقاتل واحدا | أقتل ولم يضرر عدوّي مشهدي |
واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أنمن انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم. قال: وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كمافعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله {يا أيها الذين آمنوا} انتهى، ولا حجة في ذلكلأنه عامّ مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيّز سواء عظم العسكر أم لا، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أنّ الفرارمن الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة مَن فرّ مِن الزّحف وإن فر أمامهمومَنن فرّ فليستغفر الله ففي الترمذي: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيُّوم غفر له وإنكان قد فرّ من الزحف. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَمِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ ٱللَّهَ } لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل قتلت وأسرت فنزلت. قال الزمخشري:والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقىالرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعموإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان كان امتثال ما أمروا بهسبباً للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأنّ الأقدار عليه والخالق له إنما هو الله ليس للقاتل فيهاشيء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبت لله وفي ذلك ردّ على من زعم أن أفعال العبادخلق لهم، ومجيء لكن هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله هو المنفيّ عنهم وهو حقيقة القتل ومنزعم أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم أوّل الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذيأنزل الملائكة إلى آخر كلامه، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفيّة يلم لأنّ لم نفي للماضي وإن كان بصورةالمضارع لأنّ لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيهَ بلم فتأتي بالمضاع والأصل هو الأوللأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجابلفظاً؛ الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله وما رميْت إذ رميت ولم يصرّح في قوله فلم تقتلوهم بقولهإذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمراً خارقاً للعادة مُعجزاً آية من آياتِ الله على أي وجهفسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه، فقال ابن عباس قبض رسول الله ﷺ يوم بدر قبضة من ترابفقال شاهت الوجوه أي قبحت فلم يبقَ مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شيء، وقال حكيم بن حرامفسمعنا صوتاً من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست فرمى رسول الله ﷺ تلك الرّمية فانهزموا،وقال أنس: رمى ثلاث حصيات يوم بدر واحدة في ميمنة القوم واحدة في ميسرتهم وثالثة بين أظهرهم، وقال: شاهت الوجوه فانهزموا، وقيل الرمي هنا رمي رسول الله ﷺ بحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد، قال ابنعطية: وهذا ضعيف لأنّ الآية نزلت عقب بدر وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وبعدها وذلك بعيد، وقيل المرادالسهم الذي رمى به رسول الله ﷺ في حصن خيبر فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبيالحقيق وهذا فاسدو والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا وقوله وما رميت نفي وإذ رميت إثبات فاحتيجإلى تأويل وهو أن يغاير بين الرميين فالمنفيّ الإصابة والظفر والمثبت الإرسال، وقيل المنفيّ إزهاق الروح والمثبت أثر الرّمي وهوالجرح وهذان القولان متقاربان، وقيل ما استبددت بالرمي إذ أرسلت التراب لأنّ الاستبداد به هو فعل الله حقيقة وإرسال الترابمنسوب إليه كسباً كان المعنى، {وما رميت} الرمي الكافي {إذ رميت} ونحوه قول العباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ | فلم أعط شيئاً ولم أمنع |
أي لم أعط شيئاً مرضيًّا. وقيل متعلقالمنفي الرّعب ومتعلق المنبت الحصيات أي وما {رميت} الرعب في قلوبهم إذ {رميت} الحصيات، وقال الزمخشري يعني أنّ الرمية التيرميتها لم ترمِها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ولكنها كانت رميةالله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرّمي لرسول الله ﷺ لأن صورة الرمي وجدت منه ونفاهاعنه لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله فكان الله تعالى هو فاعل الرمي حقيقة وكأنها لم توجد منالرسول أصلاً انتهى، وهو راجع لمعنى القولين أولاً وتقدّم خلاف الفرّاء في {لكن} وما بعدها عند قوله: {وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ* وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا }. قال السدي ينصرهم وينعم عليهم يقال أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنهوالبلاء يستعمل للخير والشر ووصفه بحسن يدل على النصر والعزة، قال الزمخشري: وليعطيهم عطاء جميلاً كما قال، فأبلاهما خير البلاءالذي يبلو. انتهى، والبلاء الحسن قيل بالنصر والغنيمة، وقيل بالشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً منهم عبيدةبن الحرث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ومعاذ وعمر وإبنا عفراء أنه قال: لولا أن المفسرين اتفقوا على حملالبلاء هنا على النعمة لكان يحتمل المحنة للتكليف بما بعده من الجهاد حتى يقال إنّ الذي فعله تعالى يوم بدركان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات انتهى. وسياق الكلام ينفي أن يراد بالبلاء المحنةلأنه قال: وليبلى المؤمنين منه بلاء حسناً، فعل ذلك أي قتل الكفار ورميهم ونسبة ذلك إلى الله وكان ذلك سببهزيمتهم والنصر عليهم وجعلهم نهبة للمؤمنين وهذا ليس محنة بل منحة إن الله سميع عليم لما كاوا قد أقبلوا علىالمفاخر بقتل من قتلوا وأسر من أسروا وكان ربما قد لا يخلص العمل من بعض المقاتلين إما لقتال حميّة وإمالدفع عن نفس أو ما ختمت بهاتين الصفتين فقيل إن الله سميع عليم لكلامكم وما تفخرون به عليم بما انطوتعليه الضمائر ومن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا. {ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } قال: ذلكم إشارةإلى البلاء الحسن ومحله الرفع وأنّ الله موهن معطوف على وليبلي يعني أنّ الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين انتهى،وقال ابن عطية ذلكم إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم وموضع ذلك من الإعراب رفع قال سيبويه:التقدير الأمر ذلكم، وقال بعض النحويين يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلك وأنّ معطوف على ذلكم ويحتملأن يكون خبر مبتدأ مقدّر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا انتهى، وقال الحوفي ذلكم رفع بالابتداء والخبر محذوف والتقديرذلكم الأمر ويجوز أن يكون ذلكم الخبر والأمر الابتداء ويجوز أن يكون في موضع نصب تقديره فعلنا ذلكم والإشارة إلىالقتل و إلى إبلاء المؤمنين بلاء حسناً وفي فتح أن وجهان النصب والرفع عطفاً على ذلكم على حسب التقديرين أوعلى إضمار فعل تقديره واعلموا أنّ الله موهن انتهى، وقرأ الحرميان وأبو عمر وموهن من وهن والتعدية بالتضعيف فيما عينهحرف حلق غير الهمزة قليل نحو ضعفت ووهنت وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته وأوهنته وألحمته، وقرأ باقي السبعة والحسنوأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص. {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْوَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كثرت وإن الله مع المؤمنين} تقدّم ذكر المؤمنين والكافرين وسبق الخطابللمؤمنين بقوله فلم تقتلوهم وبقوله ذلكم فحملة قوم على أنه خطاب للمؤمنين ويؤيده قوله فقد جاءكم الفتح إذ لا يليقهذا الخطاب إلا بالمؤمنين على إرادة النصر بالاستفتاح وأنّ حمله على البيان والحكم ناسب أن يكون خطاباً للكفار والمؤمنين فإذاكان خطاباً للمؤمنين فالمعنى أن تستنصروا فقد جاءكم النصر {وإن تنتهوا} عن مثل ما فعلتموه في الغنائم والأسرى قبل الإذن{فهو خير لكم وإن تعودوا} إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما قال
{ لولا كتاب من الله سبق }
الآية ثمأعلمهم أنّ الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله ومعونته ثم آنسهم بإخباره أنه تعالى مع المؤمنين،وقال الأكثرون هي خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم وذلك أنه حين أرادوا أن ينفروا تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمانصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعاني إن كان محمد على حقّ فانصره وإن كنا على حقّ فانصرنا، ورُوي أنهمقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، ورُوي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر: اللهم أينا كانأهجر وأقطع للرحم فاحِنه اليوم أي فأهلكه، وروي عنه دعا شبه هذا، وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: كان هذا القول منقريش وقت خروجهم لنصرة العير، وقال النضر بن الحرث:
{ اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك }
الآية وهو ممنقتل يوم بدر، وعلى هذا القول يكون معنى قوله فقد جاءكم الفتح ولكنه كان للمسلمين عليكم، وقيل معناه: فقد جاءكمما بان لكم به الأمر واستقرّ به الحكم وانكشف لكم الحقّ به، ويكون الاستفتاح على هذا بمعنى الحكم والقضاء وإنانتهوا عن الكفر وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد بعد نعد إلى نصر المؤمنين وخذلانكم، وقالت فرقة: إن تستفتحواخطاب للمؤمنين وإن تنتهوا خطاب للكافرين أي وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله ﷺ {فهو خير لكموإن تعودوا} لمحاربته {نعد} لنصرته عليكم، وقال الكرماني: {وإن تنتهوا} عن أمر الأنفال وفداء الأسرى ببدر {وإن تعودوا} إلى معصيةالله {نعد} إلى الإنكار وقرىء: ولن يغني بالياء لأنّ التأنيث مجاز وحسنه الفصل، وقرأ الصاحبان وحفص: {وأن الله} بفتح الهمزةوباقي السبعة بكسرها وابن مسعود {والله مع المؤمنين}. {ٱلْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْتَسْمَعُونَ } لما تقدّم قوله وإن تنتهوا وكان الضمير ظاهره العود على المؤمنين ناداهم وحرّكهم إلى طاعة الله ورسوله والظاهرأنه نداء وخطاب للمؤمنين الخلّص حثّهم بالأمر على طاعة الله ورسوله ولما كانت الآية قبلها مسوقة في أمر الجهاد. قيلمعنى أطيعوه فيما يدعوكم إليه من الجهاد، وقيل في امتثال الأمر والنهي وأفردهم بالأمر رفعاً لأقدارهم وإن كان غيرهم مأموراًبطاعة الله ورسوله وهذا قول الجمهور، وأما من قال إنّ قوله {وإن تنتهوا} خطاب للكفار فيرى أن هذه الآية نزلتبسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب للمنافقينأي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وهذا لا يناسب لأنّ وصفهم بالإيمان وهو التصديق وليس المنافقون من التصديق في شيءوأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب لبني إسرائيل لأنه أيضاً يكون أجنبياً من الآيات وأصل {ولا تولوا} ولا تتولوا،وتقدّم الخلاف في حرف التاء في نحو هذا أهي حرف المضارعة أم تاء تفعل والضمير في {عنه} قال الزمخشري لرسولالله لأنّ المعنى وأطيعوا رسول الله كقوله
{ والله ورسوله أحق أن ترضوه }
ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد منيطع الرسول فقد أطاع الله فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان ويجوزأن يرجع إلى الأمر بالطاعة ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه أو ولا تتولوا عن رسول الله ولاتخالفوه وأنتم تسمعون أي تصدّقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة انتهى، وإنما عاد على الرسول لأنّ التولي إنمايصح في حقّ الرسول بأن يعرضوا عنه وهذا على أن يكون التولي حقيقة وإذا عاد على الأمر كان مجازاً، وقيلهو عائد على الطاعة، وقيل هو عائد على الله، وقال الكرماني ما معناه إنه لما لم يطلق لفظ التثنية علىالله وحده لم يجمع بينه تعالى وبين غيره في ضميرها بخلاف الجمع فإنه أطلق على لفظة تعظيماً فجمع بينه وبينغيره في ضميره ولهذا نظائر في القرآن منها {إذا دعاكم} ومنها {أن يرضوه} ففي الحديث ذمّ من جمع في التثنيةبينهما في الضمير وتعليمه أن يقول: ومن عصى الله ورسوله {وأنتم تسمعون} جملة حالية أي لا يناسب سماعكم التولي ولايجامعه وفي متعلقه أقوال: أحدها وعظ الله لكم، الثاني: الأمر والنهي، الثالث: التعبير بالسماع عن العقل والفهم، الرابع: التعبير عنالتصديق وهو الإيمان. {وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } نهي عن أن يكونوا كالذين ادّعوا السماعوالمشبّه بهم اليهود أو المنافقون أو المشركون أو الذين قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا، أو بنو عبدالدار بن قصيّ ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة أو النضر بن الحارث ومن تابعهستة أقوال، ولما لم يجد سماعهم ولا أثر فيهم نفى عنهم السّماع لانتفاء ثمرته إذ ثمرة سماع الوحي تصديقه والإيمانبه والمعنى أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوة فإذا صدر منكم تولِّ عن الطاعة كان تصديقكم كلا تصديق فأشبه سماعكم سماع منلا يصدق، وجاءت الجملة النافية على غير لفظ المثبتة إذ لم تأتِ وهم ما سمعوا لأنّ لفظ المضي لا يدلّعلى استمرار الحال ولا ديمومته بخلاف نفي المضارع فكما يدل إثباته على الدّيمومة في قولهم هو يعطي ويمنع كذلك يجيءنفيه وجاء حرف النفي لا لأنها أوسع في نفس المضارع من ما وأدلّ على انتفاء السماع في المستقبل أي همممن لا يقبل أن يسمع. {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } لما أخبر تعالى إنّهؤلاء المشبّه بهم لا يسمعون أخبر أنّ شرّ الحيوان الذي يدبّ الصمّ أو أن شرّ البهائم فجمع بين هؤلاء وبينجمع الدواب وأخبر أنهم شرّ الحيوان مطلقاً ومعنى الصم عن ما يلقى إليهم من القرآن البَكم عن الإقرار بالإيمان ومافيه نجاتهم ثم جاء بانتفاء الوصف المنتج لهم الصمم والبكم الناشئين عنه وهو العقل وكان الابتداء بالصمم لأنه ناشىء عنهالبكم إذ يلزم أن يكون كلّ أصم خلقه أبكم لأنّ الكلام إنما يتلقنه ويتعلمه من كان سالم حاسة السمع وهذامطابق لقوله تعالى
{ صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون }
إلا أنه زاد في هذا وصف العمى وكلّ هذه الأوصاف كنايةعن انتفاء قبولهم للإيمان وإعراضهم عما جاء به الرسول ﷺ وظاهر هذه الأخبار العموم، وقيل: نزلت فيطائفة من بني عبد الدار كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلواجميعاً ببدر وكانوا أصحاب اللواء، وقال ابن جريج هم المنافقون، وقال الحسن: هم أهل الكتاب. {وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْخَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } قال ابن عطية: أخبر تعالى بأنّ عدم سماعهم وهداهم إنما هو بماعلمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمّهم ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهموالمراد لأسمعهم إسماع تفهم وهدى ثم ابتدأ عزّ وجل الخبر عنهم بما هو عليه من ختمه عليهم بالكفر فقال: {ولوأسمعهم} أي ولو فهمهم {لتولوا وهم معرضون} بالقضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبيّن لهم من الهدي، وقال الزمخشري: ولو علمالله في هؤلاء الصمّ البكم خيراً أي انتفاعاً باللطف لأسمعهم اللطف بهم حتى سمعوا سماع المصدقين ثم قال {ولو أسمعهملتولّوا} يعني ولو لطف بهم لما نفعهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أي ولو لطف أي ولو لطف بهم فصدّقوا لارتدّوابعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا، وقال الزجاج: {لأسمعهم} جواب كلما سألوا، وحكى ابن الجوزي: {لأسمعهم} كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهملأنهم طلبوا إحياء قُصيّ بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد ﷺ، وقال أبو عبد الله الرازي: التعبيرعن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقدير الكلام لو حصل فيهم خير {لأسمعهم} الله الحجج والمواعظ سماع تعليممفهم ولو أسمعهم إذ علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها وتولوا وهم معرضون، وقال أيضاً: معلومات الله علىأربعة أقسام. أحدها: جملة الموجودات، الثاني: جملة المعدومات، الثالث: إن كان كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف حاله،الرابع: إن كان كلّ واحد من المعدومات لو كان موجوداً فكيف حاله فالقسمان الأولان علم بالواقع والقسمان الثانيان علم بالمقدورالذي هو غير واقع فقوله ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم من القسم الثاني وهو العلم بالمقدورات وليس من أقسامالعلم بالواقعات، ونظيره قوله تعال حكاية عن المنافقين
{ لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم وإن قوتلتم لننصرنكم }
فقال تعالى
{ لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار ثم لا ينصرون }
فعلم الله تعالى في المعدوم أنه لوكان موجوداً كيف يكون حاله وأيضاً قوله
{ ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه }
أخبر عن المعدوم أنه لو كان موجوداًكيف يكون حاله انتهى. وأقول: ظاهر هاتين الملازمتين يحتاج إلى تأويل لأنه أخبر أنه كان يقع إسماع منه لهم علىتقدير علمه خيراً فيهم ثم أخبر إنه كان يقع توليهم على تقدير إسماعهم إياهم فأنتج أنه كان يقع توليهم علىتقدير علمه تعالى خيراً فيهم وذلك بحرف الواسطة لأن المرتب على شيء يكون مرتّباً على ما رتب عليه ذلك الشيءوهذا لا يكون لأنه لا يقع التولّي على تقدير علمه فيهم خيراً ويصير الكلام في الجملتين في تقدير كلام واحدفيكون التقدير ولو علم الله فيهم خيراً فأسمعهم لتولّوا ومعلوم أنه لو علم فيهم خيراً ما تولّوا. {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } تقدم الكلام في استجاب في فليستجيبوا لي وأفرد الضمير في دعاكمكما أفرده في ولا تولوا عنه لأنّ ذكر أحدهما مع الآخر إنما هو على سبيل التوكيد والاستجابة هنا الامتثال والدعاءبمعنى التحريض والبعث على ما فيه حياتهم وظاهر استجيبوا الوجوب، ولذلك قال ﷺ: لأبيّ حين دعاه وهوفي الصلاة متلبث: ما منعك عن الاستجابة ألم تخبر فيما أوحي إليّ استجيبوا الله وللرسول؟ والظاهر تعلق لما بقوله دعاكمودعا يتعدى باللام. قال:
دعـــوت لــمــا نــابـنــي مســـوراً |
وقال آخر:
وإن أدع للحلـى أكـن مـن حمـاتهـا |
وقيل: اللام بمعنى إلىويتعلّق باستجيبوا فلذلك قدّره بإلى حتى يتغاير مدلول اللام فيتعلق الحرفان بفعل واحد، قال مجاهد والجمهور: المعنى {استجيبوا} للطاعة وماتضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنّعمة السرمديّة، وقيل: {لما يحييكم} هو مجاهدة الكفار لأنهم لو تركوها لغلبوهموقتلوهم
{ ولكم في القصاص حياة }
، وقيل: الشهادة لقوله:
{ بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ }
قاله ابن إسحاق، وقيل: لما يحييكممن علوم الديانات والشرائع لأنّ العلم حياة كما أنّ الجهل موت. قال الشاعر:
لا تعجبن الجهول حليته | فذاك ميّت وثوبه كفن |
وهذا نحو من قول الجمهور ومجاهد، وقال مجاهد أيضاً: ما يحييكمهو الحقّ، وقيل: هو إحياء أمورهم وطيب أحوالهم في الدنيا ورفعتهم، يقال: حييت حاله إذا ارتفعت، وقيل: ما يحصل لكممن الغنائم في الجهاد ويعيشون منها، وقيل: الجثة والذي يظهر هو القول الأوّل لأنه في سياق قوله ولو علم اللهفيهم خيراً لأسمعهم فالذي يحيا به من الجهل هو سماع ما ينفع مما أمر به ونهى عنه فيمتثل المأمور بهويجتنب المنهي عنه فيؤول إلى الحياتين الطيبتين الدنيوية والأخروية. {وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} المعنى: أنه تعالى هو المتصرّف في جميع الأشياء والقادر على الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه فهو الذيينبغي أن يستجاب له إذا دعاه إذ بيده تعالى ملكوت كل شيء وزمامه وفي ذلك حضّ على المراقبة والخوف منالله تعالى والبدار إلى الاستجابة له، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك: يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان، وقالمجاهد: يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل عقوبة على عناده ففي التنزيل
{ إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب }
أي عقل، وقال السدي: يحول بين كل واحد وقلبه فلا يقدر على إيمان ولا كفر إلا بإذنه، وقالابن الأنباري: بينه وبين ما يتمناه، وقال ابن قتيبة: بينه وبين هواه وهذان راجعان إلى القول الأول، وقال علي بنعيسى: هو أن يتوفاه ولأنّ الأجل يحول بينه وبين أمل قلبه وهذا حثّ على انتهاز الفرصة قبل الوفاة التي هوواجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومخالجة أدوائه وعلله وردّه سليماً كما يريده الله فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعةالله ورسوله انتهى، وهو على طريقة المعتزلة وعلي بن عيسى هو الرماني وهو معتزلي، وقال الزمخشري أيضاً. وقيل معناه: أنّالله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ وقيل: يبدل الجبن جراءة وهو تحريض على القتال بعد الأمر به بقوله{استجيبوا} ويكشف حقيقته قوله ﷺ: قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء وتأويله بين أثرين من آثار ربوبيته . وقيل: يحول بين المؤمن وبين المعاصي التي يهمّ بها قلبه بالعصمة، وقيل: معناه أنه يطلععلى كل ما يخطر المرء بباله لا يخفى عليه شيء من ضمائره فكأنه بينه وبين قلبه واختار الطبري أن يكونالمعنى أنّ الله أخبر أنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينهما إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاًإلا بمشيئته تعالى، وقرأ ابن أبي إسحاق: {بين المرء} بكسر الميم اتباعاً لحركة الإعراب إذ في المرء لغتان: فتح الميممطلقاً واتباعها حركة الإعراب، وقرأ الحسن والزهري: بين المرّ بتشديد الراء من غير همز ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلىالراء وحذف الهمزة ثم شدّدها كما تشدّد في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف وكثيراً ما تفعل العرب ذلك تُجري الوصلمجرى الوقف، وهذا توجيه شذوذ {وأنه إليه تحشرون} الظاهر أن الضمير في {أنه} عائد إلى الله ويحتمل أن يكون ضميرالشأن ولما أمرهم بأن يعلموا قدرة الله وحيلولته بين المرء ومقاصد قلبه أعلمهم بأنه تعالى إليه يحشرهم فيثيبهم على أعمالهمفكان في ذلك تذكار لما يؤول إليه أمرهم من البعث والجزاء بالثواب والعقاب. {وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْمِنكُمْ خَاصَّةً } هذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختصّ بالظالم بل تعمّ الصالح والطالح وكذلك روي عنابن عباس قال: أمر المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم الله بالعذاب ففي البخاري والترمذي أن الناس إذارأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده، وفي مسلم من حديث زينب بنت جحشسألت رسول الله ﷺ أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ، وقيل الخطاب للصحابة، وقيل لأهلبدر، وقيل لعلي وعمار وطلحة والزبير، وقيل لرجلين من قريش قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمّهما والفتنة هناالقتال في وقعة الجمل أو الضلالة أو عدم إنكار المنكر أو بالأموال والأولاد أو بظهور البدع أو العقوبة أقوال، وقالالزبير بن العوام يوم الجمل: ما علمت أنا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بهافي ذلك الوقت والجملة من قوله لا تصيبن خبريّة صفة لقوله فتنة أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أن دخولنون التوكيد على المنفى بلا مختلف فيه، فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور والذي نختارهالجواز وإليه ذهب بعض النحويين وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل مبنياً بلا مع الفصل نحو قوله:
فلاذا نعيم يتركن لنعيمه | وإن قال قرظني وخذ رشوة أبي ولا ذا بئيس يتركن لبؤسه فينفعه شكوى إليه إن اشتكى |
فلان يلحقه مع غير الفصل أولى نحو {لا تصيبنّ} وزعم الزمخشري أنّ الجملة صفة وهي نهي قال وكذلكإذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل {واتقوا} فتنة مقولاً فيها {لا تصيبنّ} ونظيره قوله:
حتى إذا جنّ الظلام واختلط | جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط |
أي بمذق مقول فيه هذا القول لأنّ فيه لونالزّرقة التي هي معنى الذئب انتهى. وتحريره أن الجملة معمولة لصفة محذوفة وزعم الفرّاء أن الجملة جواب للأمر نحو قولك:إنزل عن الدابة لا تطرحنّك أي إن تنزل عنها لا تطرحنكّ، قال: ومنه
{ لا يحطّكمنّكم سليمان }
أي إن تدخلوا لايحطمنّكم فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء انتهى، وهذا المثال بقوله ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ليس نظير واتقوا فتنةلأنه ينتظم من المثال والآية شرط وجزاء كما قدر ولا ينتظم ذلك هناك ألا ترى أنه لا يصحّ تقدير إنتتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط مقتضاه من جهة المعنى وأخذ الزمخشريقول الفرّاء وزاده فساداً وخبط فيه فقال وقوله {لا تصيبن} لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر أو نهياً بعدأمر أو صفة لفتنة فإذا كان جواباً فالمعنى إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم انتهى. تقرير هذاالقول فانظر كيف قدّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو {اتقوا} ثم قدّر أداة الشرط داخلة على غير مضارع {اتقوا}فقال فالمعنى إن أصابتكم يعني الفتنة وانظر كيف قدّر الفراء في أنزل عن الدابة لا تطرحنك وفي قوله {ادخلوا مساكنكملا يحطمنكم} فأدخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر وهكذا يقدر ما كان جواباً للأمر وزعم بعضهم أن قوله {لاتصيبنّ} جواب قسم محذوف، وقيل {لا} نافية وشبه النفي بالموجب فدخلت النون كما دخلت في لتضربنّ التقدير: والله {لا تصيبن}فعلى القول الأوّل بأنها صفة أو جواب أمر أو جواب قسم تكون النون قد دخلت في المنفى بلا وذهب بعضالنحويين إلى أنها جواب قسم محذوف والجملة موجبة فدخلت النون في محلها ومطلت اللام فصارت لا والمعنى لتصيبنّ ويؤيد هذاقراءة ابن مسعود وعلى وزيد ان ثابت والباقر والربيع بن أنس وأبي العالية لتصيبن وفي ذلك وعيد للظالمين فقط وعلىهذا التوجيه خرّج ابن جنّي أيضاً قرا0ءة الجماعة {لا تصيبن} وكون اللام مطلت فحدثت عنها الألف إشباعاً لأن الإشباع بابهالشعر، وقال ابن جني في قراءة ابن مسعود ومن معه يحتمل أن يراد بهذه القراءة لا تصيبنّ فحذفت الألف تخفيفاًواكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله. قال المهدوي كما حذفت من ما وهي أخت لا في قوله أم والله واللهلأفعلنّ وشبهه انتهى وليست للنفي، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ فتنة أن تصيب، وعن الزبير: لتصيبنّ وخرّج المبرّدوالفراء والزجاج قراءة {لا تصيبنّ} على أن تكون ناهية. وتمّ الكلام عند قوله {واتقوا فتنة} وهو خطاب عام للمؤمنين تمالكلام عنده ثم ابتدىء نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة إسناده للفتنة فهونهي محول كما قالوا لا أرينّك ههنا أي لا تكن هنا فيقع مني رؤيتك والمراد هنا لا يتعرض الظالم للفتنةفتقع إصابتها له خاصة، وقال الزمخشري في تقدير هذا الوجه وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل واحذروا ذنباً أوعقاباً ثم قيل لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب من ظلم منكم خاصّة، وقال الأخفش {لا تصيبنّ} هوعلى معنى الدعاء انتهى والذي دعاه إلى هذا والله أعلم استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بلا واعتياض تقريره نهياًفعدل إلى جعله دعاء فيصير المعنى لا أصابت الفتنة الظالمين خاصّة واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير لا أصابتظالماً ولا غير ظالم فكأنه {واتقوا فتنة}، لا أوقعها الله بأحد، فتلخص في تخريج قوله {لا تصيبن} أقوال الدعاء والنهيعلى تقديرين وجواب أمر على تقديرين وصفة. قال الزمخشري، (فإن قلت): كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر،(قلت): لأن فيه معنى التمني إذا قلت إنزل عن الدابة لا تطرحك فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبن ولا يحطمنكمانتهى، وإذا قلت لا تطرحك وجعلته جواباً لقولك إنزل وليس فيه نهي بل نفي محض جواب الأمر نفي بلا وجزمهعلى الجواب على الخلاف الذي في جواب الأمر والستة معه هل ثم شرط محذوف دل عليه الأمر وما ذكر معهمعنى الشرط وإذا فرعنا على مذهب الجمهور في أن الفعل المنفي بلا لا تدخل عليه النون للتوكيد لم يجز أنزلعن الدابة لا تطرحنّك، وقال الزمخشري، (فإن قلت): ما معنى من في قوله {الذين ظلموا منكم خاصّة}، (قلت): التبعيض علىالوجه الأول فالتبيين على الثاني لأن المعنى لا تصيبكم خاصة على ظلمكم لأن الظلم منكم أقبح من سائر الناس انتهى،ويعني بالأول أن يكون جواباً بعد أمر وبالثاني أن يكون نهياً بعد أمر وخاصة أصله أن يكون نعتاً لمصدر محذوفأي إصابة خاصة وهي حال من الفاعل المستكن في {لا تصيبنّ} ويحتمل أن يكون حالاً من الذين ظلموا أي مخصوصينبها بل تعمهم وغيرهم، وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون خاصة حالاً من الضمير في ظلموا ولا أتعقل هذا الوجه.{وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } هذا وعيد شديد مناسب لقوله {لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة} إذ فيهحثّ على لزوم الاستقامة خوفاً من عقاب الله لا يقال كيف يوصل الرحيم الكريم الفتنة والعذاب لمن لم يذنب، (قلت):لأنه تصرّف بحكم الملك كما قد ينزل الفقر والمرض بعبده ابتداءً فيحسن ذلك منه أو لأنه علم اشتمال ذلك علىمزيد ثواب لمن أوقع به ذلك. {وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلاْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمبِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نزلت عقب بدر، فقيل خطاب للمهاجرين خاصة كانوا بمكة قليلي العدد مقهورين فيهايخافون أن يسلبهم المشركون، قال ابن عباس فآتوا هم بالمدينة وأيدهم بالنصر يوم بدر و{الطيبات} الغنائم وما فتح به عليهم،وقيل الخطاب للرسول والصحابة وهي حالهم يوم بدر و{الطيبات} الغنائم والناس عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة والتأييد هو الإمداد بالملائكةوالتغلب على العدد، وقال وهب وقتادة الخطاب للعرب قاطبة فإنها كانت أعرى الناس أجساماً وأجوعهم بطوناً وأقلّهم حالاً حسنة والناسفارس والروم والمأوى النبوة والشريعة والتأييد بالنصر فتح البلاد وغلبة الملوك و{الطيبات} تعم المآكل والمشارب والملابس، قال ابن عطية: هذاالتأويل يردّه أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأولوإنما كان يمكن أن يخاطب العرب بهذه الآية في آخر زمان عمر رضي الله عنه فإن تمثّل أحد بهذه الآيةبحال العرب فتمثيله صحيح وإما أن يكون حالة العرب هي سبب نزول الآية فبعيد لما ذكرناه انتهى، وهذه الآية تعديللنعمه تعالى عليهم، قال الزمخشري: {إذ أنتم} نصب على أنه مفعول به لاذكروا ظرف أي اذكروا وقت كونكم أقِلّة أذِلّةانتهى، وفيه التصرّف في إذ بنصبها مفعولة وهي من الظروف التي لا تتصرّف إلا بأن أضيف إليها الأزمان، وقال ابنعطية: وإذ ظرف لمعمول واذكروا تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ولا يجوز أن تكون إذ ظرفاًلـ(ذكروا) وإنما تعمل اذكر في إذ لو قدّرناها مفعوله انتهى، وهو تخريج حسن. وقال الحوفي إذ أنتم ظرف العامل فيهاذكروا انتهى، وهذا لا يتأتى أصلاً لأنّ اذكر للمستقبل فلا يكون ظرفه إلا مستقبلاً وإذ ظرف ماضٍ يستحيل أن يقعفيه المستقبل ولعلكم تشكرون متعلق بقوله فآواكم وما بعده أي فعل هذا الإحسان لإرادة الشكر. { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْلاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } قال ابن عباس والأكثرون: نزلت في أبي لبابة حين استنصحته قريظةلما أتى الرسول ﷺ أن يسيّرهم إلى أذرعات وأريحا كفعله ببني النصير فأشار أبو لبابة إلى حلقهأي ليس عند الرسول إلا الذبح فكانت هذه خيانته في قصّة طويلة، وقال جابر في رجل من المنافقين كتب إلىأبي سفيان بشيء من إخبار الرسول ﷺ، وقال المغيرة بن شعبة في قتل عثمان. قال ابن عطيةويشبه أن يتمثل بالآية في قتله فقد كان قتله خيانة لله ورسوله والأمانات انتهى، وقيل في حاطب بن أبي بلتعةحين كتب إلى أهل مكة يعلمهم بخروج الرسول ﷺ إليها، وقيل في قوم كانوا يسمعون الحديث منالرسول فيفشونه حتى يبلغ المشركين وخيانتهم الله في عدم امتثال أوامره وفعل ما نهي عنه في سرّ وخيانة الرسول فيمااستحفظ وخيانة الأمانات إسقاطها وعدم الاعتبار بها، وقيل وتخونوا ذوي أماناتكم وأنتم تعلمون جملة حالية أي وأنتم تعلمون تبعة ذلكووباله فكان ذلك أبعد لكم من الوقوع في الخيانة لأن العالم بما يترتب على الذنب يكون أبعد الناس عنه، وقيلوأنتم تعلمون أن الخيانة توجد منكم عن تعمّد لا عن سهو، وقيل وأنتم عالمون تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن وجوّزوافي وتخونوا أن يكون مجزوماً عطفاً على لا تخونوا ومنصوباً على جواب النهي وكونه مجزوماً هو الراجح لأن النصب يقتضيالنهي عن الجمع والجزم يقتضي النهي عن كل واحد، وقرأ مجاهد أمانتكم على التوحيد وروى ذلك عن أبي عمرو.{وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذابأو محنة واختبار لكم وكيف تحافظون على حدوده فيها ففي كون الأجر العظيم عنده إشارة إلى أن لا يُفتن المرءبماله وولده فيؤثر محبته لهما على ما عند الله فيجمع المال ويحب الولد حتى يؤثر ذلك كما فعل أبو لبابةلأجل كون ماله وولده كانوا عند بني قريظة. {عَظِيمٌ يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْعَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } فرقاناً قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك والسدّي وابن قتيبة ومالكفيما روي عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب مخرجاً، وقرأ مالك
{ ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً }
والمعنى مخرجاً فيالدّين من الضلال، وقال مزرد بن ضرار:
بادر الأفق أن يغيب فلما | أظلم الليل لم يجد فرقانا |
وقال الآخر:
مالك من طول الأسى فرقان | بعد قطين رحلوا وبانوا |
وقال الآخر:
وكيف أرجى الخلد والموت طالبي | وما لي من كأس المنية فرقان |
وقال ابن زيدوابن إسحاق فصلاً بين الحق والباطل، وقال قتادة وغيره: نجاة، وقال الفرّاء فتحاً ونصراً وهو في الآخرة يدخلكم الجنة والكفارالنار، وقال ابن عطية: فرقاً بين حقّكم وباطل من ينازعكم أي بالنصر والتأييد عليهم والفرقان مصدر من فرق بين الشيئينحال بينهما، وقال الزمخشري: نصراً لأنه يفرّق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ومنه
{ قوله تعالى يوم الفرقان }
أو بياناً وظهوراً يشهد أمركم ويثبت صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض تقول بت أفعل كذا حتى سطع الفرقانأي طلع الفجر أو مخرجاً من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلاً ومزيةفي الدنيا والآخرة انتهى، ولفظ فرقاناً مطلق فيصلح لما يقع به فرق بين المؤمنين والكافرين في أمور الدنيا والآخرة والتقوىهنا إن كانت من اتقاء الكبائر كانت السيئات الصغائر ليتغاير الشرط والجواز وتكفيرها في الدنيا ومغفرتها إزالتها في القيامة وتغايرالظرفان لئلا يلزم التكرار، وتقدّم تفسير والله ذو الفضل العظيم في البقرة. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْيَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم ذكره ﷺنعمه عليه في خاصة نفسه وكانت قريش قد تشاوروا في دار الندوة بما تفعل به فمن قائل: يحبس ويقيّد ويتربّصبه ريب المنون ومن قائل: يخرج من مكة تستريحوا منه وتصور إبليس في صورة شيخ نجدي وقيل هذين الرأيين ومنقائل: يجتمع من كل قبيلة رجل ويضربونه ضربة واحدة بأسيافهم فيتفرق دمه في القبائل فلا تقدر بنو هاشم لمحاربة قريشكلها فيرضون بأخذ الدية فصوّب إبليس هذا الرأي فأوحى الله تعالى إلى نبيه ﷺ بذلك وأمره أنلا يبيت في مضجعه وأذن له بالخروج إلى المدينة وأمر عليًّا أن يبيت في مضجعه ويتّشح ببردته وباتوا راصدين فبادرواإلى المضجع فأبصروا عليًّا فبُهتوا وخلف عليًّا ليردّ ودائع كانت عنده وخرج إلى المدينة. قال ابن عباس ومجاهد: ليثبتوك أييقيّدوك، وقال عطاء والسدّي: ليثخنوك بالجرح والضرب من قولهم ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح ورمي الطائر فأثبتهأي أثخنه. قال الشاعر:
فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم | قال الخليفة أمسى مثبتاً وجعا |
أي مثخناً.وقرأ النخعي ليبيتوك من البيات وهذا المكر هنا هو بإجماع المفسّرين ما اجتمعت عليه قريش في دار الندوة كما أشرناإليه وهذه الآية مدنيّة كسائر السورة وهو الصواب، وعن عكرمة ومجاهد إنها مكية وعن ابن زيد نزلت عقيب كفاية اللهرسوله المستهزئين ويتأوّل قول عكرمة ومجاهد على أنهما أشارا إلى قصة الآية إلى وقت نزولها وتكرر ويمكرون إخباراً باستمرار مكرهموكثرته وتقدم شرح مثل باقي الآية في آل عمران. {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَامِثْلَ هَـٰذَا }. قائل ذلك هو النضر بن الحارث واتبعه قائلون كثيرون وكان من مردة قريش سافر إلى فارس والحيرةوسمع من قصص الرهبان والأناجيل وأخبار رستم واسفنديار ويرى اليهود والنصارى يركعون ويسجدون، قتله رسول الله ﷺصبراً بالصفراء بالأنيل منها منصرفه من بدر، وفي هذا التركيب جواز وقوع المضارع بعد إذا وجوابه الماضي جوازاً فصيحاً بخلافأدوات الشرط فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر نحو:
مـن يكـدنـي بشـيء كنت منــه |
ومعنى قد سمعنا قدسمعنا ولا نطيع أو قد سمعنا منك هذا وقولهم لو نشاء أي لو نشاء القول لقلنا مثل هذا الذي تتلوهوذكر على معنى المتلو وهذا القول منهم على سبيل البهت والمصادمة وليس ذلك في استطاعهم فقد طولبوا بسورة منه فعجزواوكان أصعب شيء إليهم الغلبة وخصوصاً في باب البيان فقد كانوا يتمالطون ويتعارضون ويحكم بينم في ذلك وكانوا أحرص الناسعلى قهر رسول الله ﷺ فكيف يحيلون المعارضة على المشيئة ويتعللون بأنهم لو أرادوا لقالوا مثل هذاالقول. {إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ }. تقدم شرحه في الأنعام. {وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قائل ذلك النضر، وقيل أبو جهل رواهالبخاريّ ومسلم، وقال الجمهور: قائل ذلك كفار قريش والإشارة في قوله إن كان هذا إلى القرآن أو ما جاء بهالرسول ﷺ من التوحيد وغيره أو نبوّة محمد ﷺ من بين سائر قريش أقوالوتقدّم الكلام على اللهم، وقرأ الجمهور هو الحقّ بالنصب جعلوا هو فصلاً، وقرأ الأعمش وزيد بن عليّ بالرفع وهي جائزةفي العربية فالجملة خبر كان وهي لغة تميم يرفعون بعد هو التي هي فصل في لغة غيرهم كما قال:
وكنـت عليهــا بـالمـلا أنـت أقـدر |
وتقدّم الكلام على الفصل وفائدته في أول البقرة، وقال ابن عطية ويجوز في العربيّة رفع الحقّعلى أنه خبر والجملة خبر كان. قال الزجاج ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز، وقراءة الناس إنما هي بنصب الحقانتهى، وقد ذكر من قرأ بالرفع وهذه الجملة الشرطيّة فيها مبالغة في إنكار الحق عظيمة أي إن كان حقًّا فعاقبناعلى إنكاره بأمطار الحجارة علينا أم بعذاب آخر، قال الزمخشري ومراده نفي كونه حقًّا فإذا انتفى كونه حقًّا لم يستوجبمنكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقاً مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قوله إن كان الباطل حقًّامع اعتقاده أنه ليس بحق وقوله هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق ويقال أمطرتكأنجمت وأسبلت ومطرت كهتفت وكثر الأمطار في معنى العذاب، (فإن قلت): فما فائدة قوله من السماء والأمطار لا تكون إلامنها، (قلت): كأنه أراد أن يقال فأمطر علينا السجّيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب موضع حجارة من السماء موضع السجّيل، كمايقال صبّ عليه مسرودة من حديد يريد درعاً انتهى، ومعنى جوابه أن قوله من السماء جاء على سبيل التأكيد كماأن قوله من حديد معناه التأكيد لأنّ المسرودة لا تكون إلا من حديد كما أنّ الأمطار لا تكون إلا منالسماء، وقال ابن عطية: وقولهم من السماء مبالغة وإغراق انتهى. والذي يظهر لي أن حكمة قولهم من السماء هي مقابلتهممجيء الأمطار من الجهة التي ذكر ﷺ أنه يأتيه الوحي من جهتها أي إنك تذكر أنه يأتيكالوحي من السماء فأتنا بعذاب من الجهة التي يأتيك منها الوحي إذ كان يحسن أن يعبّر عن إرسال الحجارة عليهممن غير جهة السماء بقولهم: فأمطر علينا حجارة، وقالوا ذلك على سبيل الاستبعاد والاعتقاد أن ما أتي به ليس بحق،وقيل على سبيل الحسد والعناد مع علمهم أنه حق واستبعد هذا الثاني ابن فورك قال: ولا يقول هذا على وجهالعناد عاقل انتهى، وكأنه لم يقرأ
{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }
وقصّة أمية بن أبي الصلت وأحبار اليهود الذين قال اللهتعالى فيهم:
{ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }
، وقول الرسول ﷺ لهم: والله إنكم لتعلمون أني رسول الله أو كلام يقاربه واقتراحهم هذين النوعين هو على ما جرى عليه اقتراح الأمم السالفة، وسأل يهودي ابن عباس ممنأنت قال من قريش فقال أنت من الذين قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك الآية، فهلا قالوا فاهدناإليه، فقال ابن عباس فأنت يا إسرائيلي من الذين لم تجفَّ أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومهونجا موسى وقومه حتى قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فقال له موسى
{ إنكم قوم تجهلون }
فأطرق اليهودي مفحماً،وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة فقال أجهل من قومي قومك قالوالرسول الله ﷺ حين دعاهم إلى الحقّ إن كان هذا هو الحق الآية، ولم يقولوا: فاهدنا له.{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } نزلت هذه إلى يعلمون بمكة، وقيل بعد وقعة بدر حكاية عما حصلفيها. وقال ابن ابزي: الجملة الأولى بمكة إثر قوله بعذاب أليم، والثانية عند خروجه من مكة في طريقه إلى المدينةوقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، والثالثة بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم ولما علقوا أمطار الحجارة أو الإتيان بعذاب أليمعلى تقدير كينونة ما جاء به الرسول ﷺ حقاً أخبر تعالى أنهم مستحقو العذاب لكنه لا يعذبهموأنت فيهم إكراماً له وجرياً على عادته تعالى مع مكذّبي أنبيائه أن لا يعذبهم وأنبياؤهم مقيمون فيهم عذاباً يستأصلهم فيه،قال ابن عباس لم تعذّب أمة قط ونبيها فيها وعليه جماعة المتأولين فالمعنى فما كانت لتعذب أمتك وأنت فيهم بلكرامتك عند ربك أعظم وقال تعالى
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }
ومن رحمته تعالى أن لا يعذّبهم والرسول فيهما ولماكان الإمطار للحجارة عليهم مندرجاً تحت العذاب كان النفي متسلّطاً على العذاب الذي إمطار الحجارة نوع منه فقال تعالى {وماكان الله ليعذبهم} ولم يجيء التركيب، وما كان الله ليمطر أوليائي بعذاب وتقييد نفي العذاب بكينونة الرسول فيهم إعلام بأنهإذا لم يكن فيهم وفارقهم عذّبهم ولكنه لم يعذبهم إكراماً له مع كونهم بصدد من يعذب لتكذيبهم. قال ابن عطيةعن أبي زيد: سمعت من العرب من يقول {وما كان الله ليعذبهم} بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملةفي القرآن انتهى، وبفتح اللام في {ليعذبهم} قرأ أبو السّمال، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالفتح في لام الأمرفي قوله
{ فلينظر الإنسان إلى طعامه }
، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد أن من العرب من يفتح كلّ لام إلافي نحو: الحمد لله انتهى، يعني لام الجرّ إذا دخلت على الظاهر أو على ياء المتكلم والظرفية في فيهم مجازوالمعنى: وأنت مقيم بينهم غير راجل عنهم. {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }. أنظر إلى حُسن مساق هاتينالجملتين لما كانت كينونته فيهم سبباً لانتفاء تعذيبهم أكّد خبر كان باللام على رأي الكوفيين أو جعل خبر كان الإرادةالمنفية على رأي البصريين وانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكدباللام بل جاء خبر كان قوله معذبهم، فشتّان ما بين استغفارهم وكينونته ﷺ فيهم والظاهر أن هذهالضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار وهو قول قتادة، وقال ابن عباس وابن أبزي وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه:إن الضمير في قوله معذّبهم عائد على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد الرسولﷺ بمكة أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون، قال ابن عطية: ويدفع في صدرهذا القول أنّ المؤمنين الذين ردّ الضمير إليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه إنّ الضميربن عائدان على الكفار وكانوا يقولون في دعائهم غفرانك ويقولون لبّيك لا شريك لك ونحو هذا مما هو دعاء واستغفارفجعله الله أمنة من عذاب الدنيا على هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إنّ الله جعل من عذابالدنيا أمنتين كون الرسول ﷺ مع الناس والاستغفار فارتفعت الواحدة وبقي الاستفغار إلى يوم القيامة، وقال الزّجاجوحكى عن ابن عباس وهم يستغفرون عائد على الكفار والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفرفالمعنى وما كان الله ليعذب الكفار ومنهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وقال مجاهد وهم يستغفرون أي وذريتهم يستغفرونويؤمنون فأسند إليهم إذ ذريتهم منهم والاستغفار طلب الغفران، وقال الضحّاك ومجاهد: معنى يستغفرون يصلون، وقال عكرمة ومجاهد أيضاً: يسلمونوظاهر قوله وهم يستغفرون أنهم ملتبسون بالاستغفار أي هم يستغفرون فلا يعذّبون كما أن الرسول فيهم فلا يعذبون فكلا الحالينموجود كون الرسول فيهم واستغفارهم، وقال الزمخشري وهم يستغفرون في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممنيؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم كقوله تعالى
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }
ولكنهم لا يستغفرونولا يؤمنون ولا يتوقع ذلك منهم انتهى، وما قاله تقدّمه إليه غيره، فقال: المعنى وهم بحال توبة واستغفار من كفرهمأن لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري وهو مرويّ عن قتادة وابن زيد. {وَمَا لَهُمْ * أَن لا *يُعَذّبَهُمُٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاءهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }. الظاهر أنما استفهامية أي أيّ شيء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير أي كيف لا يعذبون وهم متّصفون بهذهالحالة المتقضية للعذاب وهي صدّهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ولا متأهّلين لولابته ومن صدّهم ما فعلوا بالرسولﷺ عام الحديبية وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصدّ كانوا يقولون نحن ولاة البيت نصدّ من نشاءوندخل من نشاء وأنْ مصدرية، وقال الأخفش: هي زائدة، قال النّحّاس: لو كان كما قال لرفع تعذيبهم انتهى، فكان يكونالفعل في موضع الحال كقوله:
{ وما لنا لا نؤمن بالله }
وموضع إن نصب أو جر على الخلاف إذ حذف منهاني وهي تتعلق بما تعلّق به لهم أي أيّ شيء كائن أو مستقرّ لهم في أن لا يعذبهم الله والمعنىلا حظ لهم في انتفاء العذاب وإذا انتفى ذلك فهم معذبون ولا بدّ وتقدير الطبري وما يمنعهم من أن يعذبواهو تفسير معنى لا تفسير إعراب وكذلك ينبغي أن يتأوّل كلام ابن عطية أنّ التقدير وما قدرتهم ونحوه من الأفعالموجب أن يكون في موضع نصب والظاهر عود الضمير في أولياءه على المسجد لقربه وصحّة المعنى، وقيل ما للنفي فيكونإخباراً أي وليس لهم أن لا يعذبهم الله أي ليس ينتفي العذاب عنم مع تلبّسهم بهذه الحال، وقيل الضمير فيأولياءه عائد على الله تعالى، وروي عن الحسن والظاهر أن قوله وما كانوا أولياءه استئناف إخبار أي وما استحقوا أنيكونوا ولاة أمره إن أولياؤه إلا المتقون أي المتقون للشرك وقال الزمخشري: إلا المتقون من المسلمين ليس كل مسلم أيضاًممن يصلح أن يلي أمره إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً فكيف عبدة الأصنام انتهى؟ ويجوز أن يكون وماكانوا أولياءه معطوفاً على وهم يصدّون فيكون حالاً والمعنى كيف لا يعذبهم الله وهم متّصفون بهذين الوصفين صدّهم عن المسجدالحرام وانتفاء كونهم أولياءه أو أولياءه أي أولياء المسجد أي ليسوا ولاته فلا ينبغي أن يصدّوا عنه أو أولياء اللهفهو كفار فيكون قد ارتقى من حال إلى أعظم منها وهو كونهم ليسوا مؤمنين فمن كان صادًّا عن المسجد كافراًبالله فهو حقيق بالتعذيب والضمير في أنّ أولياؤه مترتب على ما يعود عليه في قوله: وما كانوا أولياءه واختلفوا فيهذا التعذيب فقال قوم: هو الأول إلا أنه كان امتنع بشيئين كون النبي ﷺ فيهم واستغفار منبينهم من المؤمنين فلما وقع التمييز بالهجرة وقع بالباقين يوم بدر، وقيل: بل وقع بفتح مكة، وقال قوم: هذا التعذيبغير ذلك فالأوّل: استئصال كلهم فلم يقع لما علم من إسلام بعضهم وإسلام بعض ذراريهم، والثاني: قتل بعضهم يوم بدر،وقال ابن عباس: الأوّل عذاب الدنيا، والثاني: عذاب الآخرة، فالمعنى وما كان الله معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا وما لهمأن لا يعذبهم الله في الآخرة ومتعلّق لا يعلمون محذوف تقديره لا يعلمون أنهم ليسوا أولياءه بل يظنون أنهم أولياؤهوالظاهر استدراك الأكثر في انتفاء العلم إذ كان بينهم وفي خلالهم من جنح إلى الإيمان فكان يعلم أن أولئك الصادّينليسوا أولياء البيت أو أولياء الله فكأنه قيل ولكن أكثرهم أي أكثر المقيمين بمكة لا يعلمون لتخرج منهم العباس وأمالفضل وغيرهما ممن وقع له علم أو إذ كان فيهم من يعلمه وهو يعاند طلباً للرياسة أو أريد بالأكثر الجميععلى سبيل المجاز فكأنه قيل ولكنهم لا يعلمون كما قيل: قلما رجل يقول ذلك في معنى النفي المحض وإبقاء الأكثرعلى ظاهره أولى وكونه أريد به الجميع هو تخريج الزمخشري وابن عطية. {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءوَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }. لما نفي عنهم أن يكونوا ولاة البيت ذكر من فعلهم القبيح ما يؤكدذلك وأنّ من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أولياءه فالمعنى والله أعلم أن الذي يقوم مقام صلاتهمهو المكاء والتصدية وضعوا مكان الصلاة والتقرّب إلى الله التصفير والتصفيق كانوا يطوفون غراة، رجالهم ونساؤهم مشبكين بين أصابعهم يصفرونويصفّقون يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول ﷺ يخلطون عليه في صلاته ونظير هذا المعنى قولهم كانت عقوبتكعزلتك أي القائم مقام العقوبة هو العزل. وقال الشاعر:
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه | أداهم سوداً أو مدحرجة سمرا |
أقام مقام العطاء القيود والسّياط كما أقاموا مقام الصلاة المكاء والتصدية، وقال ابن عباس: كان ذلكعبادة في ظنهم، قال ابن عطية لما نفى تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول كيف لا نكونأولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده فقطع الله هذا الاعتراض، وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية كما يقال الرجل: أنا أفعلالخير، فيقال له: ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل أي هذه عادتك وغايتك قال: والذي مر بي منأمر العرب في غير ما ديوان أنّ المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديماً قبل الإسلام على جهة التقرب والتشرع،وروي عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء وبينهما أربعة أميال وعلى هذا يستقيمتعييرهم وتنقيصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوايتزيّدون فيها وقت قراءة النبي ﷺ ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، قال ابن عمر ومجاهد والسدّي: والمكاء:الصفير، والتصدية: التصفيق، وعن مجاهد أيضاً المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم والتصدية الصفير والصفير بالفم وقد يكون بالأصابع والكف فيالفم قاله مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يريدون أن يشغلوا بذلك الرسول عن الصلاة، وقال ابنجبير وابن زيد: التصدية صدهم عن البيت، وقال ابن بحر: إنّ صلاتهم ودعاءهم غير رادّين عليهم ثواباً إلا كما يجيبالصدى الصائح فتلخص في معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: ما ظاهره أن الكفار كانت لهم صلاة وتعبّد وذلك هو المكاءوالتصدية، والثاني: أنه كانت لهم صلاة ولا جدوى لها ولا ثواب فجعلت كأنها أصوات الصدا حيث لها حقيقة، والثالث: أنهلا صلاة لهم لكنهم أقاموا مقامها المكاء والتصدية، وقال بعض شيوخنا: أكثر أهل العلم على أنّ الصلاة هنا هي الطوافوقد سمّاه الرسول ﷺ صلاة، وقرأ إبان بن تغلب وعاصم والأعمش بخلاف عنهما صلاتهم بالنصب الإمكاء وتصديةبالرفع وخطا قوم منهم أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبراً والنكرة اسماً قالوا: ولا يجوز ذلك إلا فيضرورة كقوله:
يكـون مـزاجهـا عسـل ومــاء |
وخرّجها أبو الفتح على أنّ المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحدانتهى، وهو نظير قول من جعل نسلخ صفة لليل في قوله
{ وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ }
ويسبني صفةللئيم في قوله:
ولقـد أمـر علـى اللئيـم يسبنــي |
وقرأ أبو عمر وفيما روي عنه إلا مكاباً لقصر منوّناً فمن مدّفكالثغاء والرغاء ومن قصّر فكالبكا في لغة من قصّر والعذاب في قوله
{ فذوقوا العذاب }
، قيل هو في الآخرة، وقيل هوقتلهم وأخذ غنائمهم ببدر وأسرهم، قال ابن عطية: فيلزم أن تكون هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بدّ، والأشبهأنّ الكلّ بعد بدر حكاية عن ماض وكون عذابهم بالقتل يوم بدر هو قول الحسن والضحاك وابن جريج. {إِنَّٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } قال مقاتل والكلبيّ نزلتفي المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلاً أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجّاجوأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حرام وأبيّ بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بننوفل والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش وكان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشر جزائر، وقال مجاهد والسدّيوابن جبير وابن ابزي: نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي صلىالله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب، وفيهم يقول كعب بن مالك:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه | أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن بقيّةثلاث مئين إن كثرنا وأربع |
وقال الحكم بن عيينة:أنفق على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من ذهب، وقال الضحّاك وغيره: نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر كانوا ينحرونيوماً عشراً من الإبل ويوماً تسعاً وهذا نحو من القول الأوّل، وقال ابن إسحاق عن رجاله لما رجع فل قريشإلى مكة من بدر ورجع أبو سفيان بعيره كلم أبناء من أصيب ببدر وغيرهم أبا سفيان وتجّار العِير في الإعانةبالمال الذي سلم لعلّنا ندرك ثاراً لمن أصيب ففعلوا فنزلت، وروي نحوه عن ابن شهاب ومحمد بن يحيـى بن حيانوعاصم بن عمرو بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، ومناسبة هذه الآية لما قبلهاأنه تعالى لما ذكر من شرح أحوالهم في الطاعات البدنية وهي صلاتهم شرح حالهم في الطاعات المالية وهي إنفاقهم أموالهمللصدّ عن سبيل الله، والظاهر الإخبار عن الكفار بأنّ إنفاقهم ليس في سبيل الله بل سببه الصدّ عن سبيل اللهفيندرج هؤلاء الذين ذكروا في هذا العموم وقد يكون اللفظ عاماً والسبب خاصاً والمعنى أنّ الكفار يقصدون بنفقتهم الصدّ عنسبيل الله وغلبة المؤمنين فلا يقع إلا عكس ما قصدوا وهو تندمهم وتحسّرهم على ذهاب أموالهم ثم غلبتهم والتمكن منهمأسراً وقتلاً وغنماً والعطف بثم يقوّي أنّ الحسرة في الدنيا، وقيل الحسرة في الآخرة، وفي الآخرة {فسينفقونها} إلى آخره منالإخبار بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل كونه ثم كان أخبروا الإخبار بين الاستقبال يدل على إنفاق متأخر عن وقعةأحد وبدر وأنّ ذلك إخبار عن علو الإسلام وغلبة أهله، وكذا وقع فتحوا البلاد ودوّخوا العباد وملأ الإسلام معظم أقطارالأرض واتسعت هذه الملة اتساعاً لم يكن لشيء من الملل السابقة. {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ ٱللَّهُٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } هذا إخبار بمايؤول إليه حال الكفار في الآخرة من حشرهم إلى جهنم إذ أخبر بما آل إليه حالهم في الدنيا من حسرتهموكونهم مغلوبين ومعنى قوله {والذين كفروا} من وافى على الكفر وأعاد الظاهر لأنّ من أنفق ماله من الكفار أسلم منهمجماعة ولام {ليميز} متعلقة بقوله {يحشرون}، و{الخبيث} و{الطيب} وصفان يصلحان للآدميين وللمال وتقدّم ذكرهما في قوله {إن الذين كفروا ينفقونأموالهم} فمن المفسرين من تأوّل {الخبيث} و{الطيب} على الآدميين، فقال ابن عباس: {ليميز} أهل السعادة من أهل الشقاوة ونحوه، قالالسدّي ومقاتل قالا: أراد المؤمن من الكفار وتحريره ليميز أهل الشقاوة من أهل السعادة والكافر من المؤمن، وقدّره الزمخشري: الفريقالخبيث من الكفار من الفريق الطيّب من المؤمنين، ومعنى جعل الخبيث بعضه على بعض وركمه ضمّه وجمعه حتى لا يفلتمنهم أحد واحتمل الجعل أن يكون من باب التصيير ومن باب الإلقاء، وقال ابن القشيري: {ليميز الله الخبيث من الطيب}بتأخير عذاب كفار هذه الأمة إلى يوم القيامة ليستخرج المؤمنين من أصلاب الكفار انتهى، فعلى ما سبق يكون التمييز فيالآخرة وعلى القول الأخير يكون في الدنيا ومن المفسرين من تأوّل الخبيث والطيب على الأموال، فقال ابن سلام والزجاج: المعنىبالخبيث المال الذي أنفقه المشركون كمال أبي سفيان وأبي جهل وغيرهما المنفَق في عداوة رسول الله ﷺوالإعانة عليه في الصد عن سبيل الله والطيب هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله كمال أبي بكر وعمر وعثمانولام ليميز على هذا متعلقة بقوله يغلبون قاله ابن عطية، وقال الزمخشري بقوله ثم تكون عليهم حسرة والمعنى ليميز اللهالفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبث وينصر أهل الطيب ويكون قوله فيجعله في جهنم من جملة ما يعذبون بهكقوله
{ فتكوى بها جباههم }
- إلى قوله -
{ فذوقوا ما كنتم تكنزون }
قاله الحسن، وقيل الخبيث ما أُنفق في المعاصيوالطيب ما أنفق في الطاعات، وقيل المال الحرام من المال الحلال، وقيل ما لم تؤدّ زكاته من الذي أُدِّيت زكاته،وقيل هو عامّ في الأعمال السيئة وركمها ختمها وجعلها قلائد في أعناق عمالها في النار ولكثرتها جعل بعضها فوق بعضوإن كان المعنى بالخبيث الأموال التي أنفقوها في حرب رسول الله ﷺ، فقيل: الفائدة في إلقائها فيالنار أنها لما كانت عزيزة في أنفسها عظيمة بينهم ألقاها الله في النار ليريهم هو أنها كما تلقى الشمس والقمرفي النار ليرى من عبدهما ذلهما وصغارهما والذي يظهر من هذه الأقوال هو الأول، وهو أن يكون المراد بالخبيث الكفاروبالطيب المؤمنون إذ الكفار أولاهم المحدّث عنهم بقوله ينفقون أموالهم، وقوله فسينفقونها وبقوله ثم إلى جهنم يحشرون وأخراهم المشار إليهمبقوله أولئك هم الخاسرون ولما كان تغلب الإنسان في ماله وتصرفه فيه يرجو بذلك حصول الربح له أخبر تعالى أنهؤلاء هم الذين خسروا في إنفاقهم وأخفقت صفقتهم حيث بذل أعزّ ما عنده في مقابلة عذاب الله ولا خسران أعظممن هذا، وتقدم ذكر الخلاف في قراءة ليميز في قوله
{ حتى يميز الخبيث من الطيب }
ويقال ميزته فتميز وميزته فانمازحكاه بعقوب، وفي الشاذ وانمازوا اليوم وأنشد أبو زيد قول الشاعر:
لما ثنى الله عني شرّ عذرته | وانمزت لا مشيا دعراً ولا رجلا |
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ }لما ذكر ما يحل بهم من حشرهم إلى النار وجعلهم فيها وخسرهم تلطّف بهم وأنهم إذا انتهوا هن الكفر وآمنواغفرت لهم ذنوبهم السالفة وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر فلذلك كان المعنى إن ينتهواعن الكفر واللام في للذين الظاهر أنها للتبليغ وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكيةبالقول وسواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وجعل الزمخشري اللام لام العلة، فقال: أي قل لأجلهم هذا القول إن ينتهواولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل إن تنتهوا نغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود ونحوه،
{ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه }
خاطبوا به غيرهم ليسمعوه انتهى، وقرىء {يغفر} مبنياً للفاعل والضمير لله تعالى. {وإنيعودوا فقد مضت سنة الأوّلين}. العود يقتضي الرجوع إلى شيء سابق ولا يكون الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه فالمعنى عَوْدهمإلى ما أمكن انفصالهم منه وهو قتال رسول الله ﷺ، وقيل وإن يعودوا إلى الارتداد بعد الإسلام،وبه فسّر أبو حنيفة وإن يعودوا واحتج بالآية على أن المرتد إذا أسلم فلا يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حالالردّة وقبلها وأجمعوا على أن الحربي إذا أسلم لم تبقَ عليه تبعة وأما إذا أسلم الذميّ فيلزمه قضاء حقوق الآدميينلا حقوق الله تعالى والظاهر دخول الزنديق في عموم قوله قل للذين كفروا فتقبل توبته وهو مذهب أبي حنيفة والشافعيوقال مالك لا تقبل، وقال يحيـى بن معاذ الرازي: التوحيد لا يعجز عن هدم ما قبله من كفر فلا يعجزعن هدم ما بعده من ذنب وجواب الشرط قالوا: {فقد مضت سنة الأولين}، ولا يصح ذلك على ظاهره بل ذلكدليل على الجواب والتقدير {وإن يعودوا} انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنّة الأوّلين في أنا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهموكفرهم ويحتمل {سنة الأولين} أن يراد بها سنة الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر وسنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم فدمّروافليتوقعوا مثل ذلك وتخويفهم بقصة بدر أشدّ إذ هي قريبة معاينة لهم وعليها نص السدّيّ وابن إسحاق، ويحتمل أن يرادبقوله {سنة الأولين} مَن تقدّم مِن أهل بدر والأمم السالفة والمعنى فقد عاينتم قصة بدر وسمعتم ما حلّ بهم.
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }
عدل{وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ }. تقدم تفسير نظيرهذه الآية وهنا زيادة كله توكيداً للدّين. وقرأ الأعمش: ويكون برفع النون والجمهور بنصبها. {فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَايَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي فإن انتهوا عن الكفر ومعنى بصير بإيمانهم فيجازيهم على ذلك ويثيبهم، وقرأ الحسن ويعقوب وسلام بنسليمان بما تعملون بالتاء على الخطاب لمن أمروا بالمقاتلة أي بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعاء إلى دينه يصيريُجازيكم عليه أحسن الجزاء. {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }. أي مواليكم ومعينكم وهذاوعد صريح بالظّفر والنصر والأعرق في الفصاحة أن يكون مولاكم خبر أنّ ويجوز أن يكون عطف بيان والجملة بعده خبرأنّ والمخصوص بالمدح محذوف أي الله أو هو والمعنى فثقوا بموالاته ونصرته واستدلّ بقوله وقاتلوهم على وجوب قتال أصناف أهلالكفر إلا ما خصّه الدليل وهم أهل الكتاب والمجوس فإنهم يقرّون بالجزية وإنه لا يقرّ سائر الكفار على دينهم بالذّمةإلا هؤلاء الثلاثة لقيام الدليل على واز إقرارها بالجزية.
وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } * { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } * { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } * { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } * { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } * { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } * { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ } * { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } * { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } * { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } * { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } * { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
عدلالقصوّ البعد والقصوى تأنيث الأقصى ومعظم أهل التصريف فصلوا في الفعلى مما لامهواو فقالوا إن كان اسماً أبدلت الواو ياء ثم يمثّلون بما هو صفة نحو الدنيا والعليا والقصيا وإن كان صفةأقرت نحو الحلوى تأنيث الأحلى، ولهذا قالوا شذّ القصوى بالواو وهي لغة الحجاز والقصيا لغة تميم وذهب بعض النحويين إلىأنه إن كان اسماً أقرت الواو نحو حزوى وإن كان صفة أبدلت نحو الدنيا والعليا وشذّ إقرارها نحو الحلوى ونصعلى ندور القصوى ابن السكيت، وقال الزمخشريّ فأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا إلا أن استعمالالقصوى أكثر مما كثر استعمال استصوب مع مجيء استصاب وأغيلت مع أغالت والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو، البطر قالالهروي: الطغيان عند النعمة، وقال ابن الأعرابي: سوء احتمال الغي، وقال الأصمعي: الحيرة عند الحق فلا يراه حقاً، وقال الزجاج:يتكبر عند الحق فلا يقبله، وقال الكسائي: مأخوذ من قول العرب ذهب دمه بطراً أي باطلاً، وقال ابن عطية: البطرالأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها، نكص قال النضر بن شميل: رجع القهقرى هارباً، وقال غيره: هذا أصلهثم استعمل في الرجوع من حيث جاء. وقال الشاعر:
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا | لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا |
ويقال أراد أمراً ثم نكص عنه. وقال تأبط شرًّا:
ليس النكوص على الأدبار مكرمة | إنّ المكارم إقدام على الأسل |
ليس هنا قهقرى بل هو فرار، وقال مؤرج: نكص رجع بلغة سليم. شرّد فرّق وطرّد والمشرّدالمفرّق المبعد وأما شرذ بالذال فسيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر قراءة من قرأ بالذال، التحريض المبالغة في الحثّوحركه وحرّسه وحرّضه بمعنى، وقال الزمخشريّ من الحرض وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت أو أنيسميه حرضاً ويقول له ما أزال إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه ليهيجه ويحرّكه منه، وقالت فرقة: المعنى حرضعلى القتال حتى يتبين لك فيمن تركه إنه حارض، قال النقاش: وهذا قول غير ملتئم ولا لازم من اللفظ ونحاإليه الزّجاج والحارض الذي هو القريب من الهلاك لفظة مباينة لهذه ليست منها في شيء، أثخنته الجراحات أثبتته حتى تثقلعليه الحركة وأثخنه المرض أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والإثخان المبالغة في القتل والجراحات. {وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُممّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُم بِٱللَّهِ }. قال الكلبي: نزلتبدر، وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوّال على رأس عشرينشهراً من الهجرة، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة اقتضى ذلكوقائع وحروباً فذكر بعض أحكام الغنائم وكان في ذلك تبشير للمؤمنين بغلبتهم للكفار وقسم ما تحصّل منهم من الغنائم، والخطابفي واعلموا للمؤمنين والغنيمة عرفاً ما يناله المسلمون من العدوّ بسعي وأصله الفوز بالشيء يقال غنم غنماً. قال الشاعر:
وقد طوّفت في الآفاق حتى | رضيت من الغنم بالإياب ويوم الغنم يوم الغنم مطعمه |
والغنيمة والفيء هل هما مترادفان أو متباينان قولان وسيأتي ذلك عند ذكر الفيء إنشاء الله تعالى. والظاهر أن ما غنم يخمس كائناً ما كان فيكون خمسة لمن ذكر الله فأما قوله فإن للهخمسه فالظاهر أن ما نسب إلى الله يصرف في الطاعات كالصدقة على فقراء المسلمين وعمارة الكعبة ونحوهما، وقال بذلك فرقةوأنه كان الخمس يُقسم على ستة فما نسب إلى الله قسّم على من ذكرنا، وقال أبو العالية سهم الله يصرفإلى رتاج الكعبة وعنه كان رسول الله ﷺ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ بيده قبضة فيجعلهاللكعبة وهو سهم الله تعالى ثم يقسم ما بقي على خمسه، وقيل سهم الله لبيت المال، وقال ابن عباس والحسنوالنخعي وقتادة والشافعي قوله فإن لله خمسه استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده: أعتقك الله وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيمالأمر والدنيا، كلها لله وقسم الله وقسم الرسول واحد وكان الرسول ﷺ يقسم الخمس على خمسة أقسام،وهذا القول هو الذي أورده الزمخشري احتمالاً، فقال: يحتمل أن يكون معنى لله {وللرسول} كقوله تعالى
{ والله ورسوله أحقّ أن يرضوه }
وأن يراد بقوله فإن لله خمسه أي من حقّ الخمس أن يكون متقرّباً به إليه لا غير ثم خصّمن وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلاً لها على غيرها كقوله تعالى
{ وجبريل وميكال }
والظاهر أن للرسول عليه الصلاة والسلام سهماًمن الخمس. وقال ابن عباس فيما روى الطبري: ليس لله ولا للرسول شيء وسهمه لقرابته يقسم الخُمس على أربعة أقسام،وقالت فرقة: هو مردود على الأربعة الأخماس، وقال علي يلي الإمام سهم الله ورسوله والظاهر أنه ليس له عليه السلامغير سهم واحد من الغنيمة، وقال ابن عطية: كان مخصوصاً عليه السلام من الغنيمة بثلاثة أشياء، كان له خمس الخمس،وكان له سهم رجل في سائر الأربعة الأخماس، وكان له صفي يأخذه قبل قسم الغنيمة دابة أو سيفاً أو جاريةولا صفي بعده لا حد بالإجماع إلا ما قاله أبو ثور من أن الصفي إلى الإمام، وهو قول معدود فيشواذ الأقوال انتهى، وقالت فرقة: لم يورث الرسول ﷺ فسقط سهمه، وقيل سهمه موقوف على قرابته وقدبعثه إليهم عمر بن عبد العزيز، وقالت فرقة: هو لقرابة القائم بالأمر بعده، وقال الحسن وقتادة: كان للرسول صلى اللهعليه وسلم في حياته فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده انتهى، وذوو القربى معناه قربى رسول الله صلى اللهعليه وسلم والظاهر عموم قرباه، فقالت فرقة: قريش كلها بأسرها ذوو قربى، وقال أبو حنيفة والشافعي: هم بنو هاشم وبنوالمطلب استحقوه بالنصرة والمظاهرة دون بني عبد شمس وبني نوفل، وقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وابن عباس:هم بنو هاشم فقط، قال مجاهد: كان آل محمد لا تحل لهم الصدقة فجعل له خمس الخمس، قال ابن عباس:ولكن أبى ذلك علينا قومنا وقالوا قريش كلها قربى والظاهر بقاء هذا السهم لذوي القربى وأنه لغنيّهم وفقيرهم، وقال ابنعباس كان على ستة لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، ولذلك روي عنعمرو من بعده من الخلفاء، وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوجأيمكم ويخدم من لا خادم له منكم وإنما الغنيّ منكم فهو بمنزلة ابن السبيل الغنيّ لا يعطى من الصدقة شيئاًولا يتيم موسر، وعن زيد بن علي: ليس لنا أن نبني منه قصوراً ولا أن نركب منه البراذين، وقال قوم:سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة والظاهر أنّ {اليتامى والمساكين وابن السبيل} عامّ في يتامى المسلمين ومساكينهم وابن السبيل منهم، وقيل:الخمس كله للقرابة، وقيل: لعلي إن الله تعالى قال: {واليتامى والمساكين} فقال: أيتامنا ومساكيننا، وروي عن علي بن الحسين وعبدالله بن محمد بن علي أنهما قالا: الآية كلها في قريش ومساكينها وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد قالهالشافعي، قال: وللإمام أن يفضل أهل الحاجة لكن لا يحرم صنفاً منهم، وقال مالك: للإمام أن يعطي الأحوج ويحرم غيرهمن الأصناف، ولم تتعرض الآية لمن يصرف أربعة الأخماس والظاهر أنه لا يقسم لمن لم يغنم فلو لحق مدد للغانمينقبل حوز الغنيمة لدار الإسلام فعند أبي حنيفة هم شركاؤهم فيها، وقال مالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي، لا يشاركونهم والظاهرأن من غنم شيئاً خمس ما غنم إذا كان وحده ولم يأذن الإمام، وبه قال الثوري والشافعي، وقال أصحاب أبيحنيفة: هو له خاصة ولا يخمس وعن بعضهم فيه تفصيل، وقال الأوزاعي إن شاء الإمام عاقبه وحرمه وإن شاء خمسوالباقي له. والظاهر أن قوله {غنمتم }خطاب للمؤمنين فلا يسهم لكافر حضر بإذن الإمام وقاتل ويندرج في الخطاب العبيد المسلمونفما يخصّهم لساداتهم، وقال الثوري والأوزاعي إذا استعين بأهل الذمة يسهم لهم، وقال أشهب إذا خرج المقيّد والذميّ من الجيشوغنماً فالغنيمة للجيش دونهم والظاهر أن قوله {أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } عامّ في كل ما يغنممن حيوان ومتاع ومعدن وأرض وغير ذلك فيخمس جميع ذلك وبه قال الشافعي إلا الرجال البالغين، فقال الإمام فيهم مخيربين أن يمنّ أو يقتل أو يسبى ومن سبي منهم فسبيله سبيل الغنيمة، وقال مالك إن رأى الإمام قسمة الأرضكان صواباً أو إن أدّاه الاجتهاد إلى أن لا يقسمها لم يقسمها والظاهر أنه لا يخرج من الغنيمة غير الخمسفسلب المقتول غنيمة لا يختصّ به القاتل إلا أن يجعل له الأمير ذلك على قتله وبه قال مالك وأبو حنيفةوالثوري، وقال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر: السّلب للقاتل، قال ابن سريج وأجمعوا علىأنّ من قتل أسيراً أو امرأة أو شيخاً أو ذفف على جريج أو قتل من قطعت يداه ورجله أو منهزماًلا يمنع في انهزامه كالمكتوف ليس له سلب واحد من هؤلاء والخلاف هل من شرطه أن يكون القاتل مقبلاً علىالمقتول وفي معركة أم ليس ذلك من شرطه ودلائل هذه المسائل مستوفاة في كتب الفقه وفي كتب مسائل الخلاف وفيكتب أحكام القرآن. والظاهر أنّ {ما} موصولة بمعنى الذي وهي اسم أن وكتبت أن متصلة بما وكان القياس أن تكتبمفصولة كما كتبوا
{ إن ما توعدون لآت }
مفصولة وخبر إن هو قوله: {فإنّ لله خمسه} وإن لله في موضع رفععلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم إن لله ودخلت الفاء في هذه الجملة الواقعة خبراً لأن، كما دخلت فيخبر أن في قوله
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ }
وقال الزمخشري: فإن للهمبتدأ خبره محذوف تقديره حقّ أو فواجب أمن لله خمسة انتهى، وهذا التقدير الثاني الذي هو أو فواجب أنّ للهخمسه تكون أن ومعمولاها في موضع مبتدأ خبره محذوف وهو قوله فواجب وأجاز الفرّاء أن تكون ما شرطية منصوبة بغنمتمواسم أن ضمير الشأن محذوف تقديره أنه وحذف هذا الضمير مع أنّ المشددة مخصوص عند سيبويه بالشعر، وروى الجعفي عنهارون عن أبي عمرو فإن لله بكسر الهمزة، وحكاها ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، ويقوّي هذهالقراءة قراءة النخعي فلله خمسه، وقرأ الحسن وعبد لوارث عن أبي عمرو: خمسه بسكون الميم، وقرأ النخعي {خمسه} بكسر الخاءعلى الاتباع يعني اتباع حركة الخاء لحركة ما قبلها كقراءة من قرأ
{ وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْحُبُكِ }
بكسر الحاء اتباعاً لحركة التاء ولم يعتد بالساكن لأنه ساكن غير حصين، وانظر إلى حسن هذا التركيب كيف أفرد كينونة الخمس لله وفصل بيناسمه تعالى وبين المعاطيف بقوله خمسه ليظهر استبداده تعالى بكينونة الخمس له ثم أشرك المعاطيف معه على سيل التبعية لهولم يأتِ التركيب فإن لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خمسه، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم آمنتمبالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرّب به ولا يراد مجرد العلم بل العلم والعمل بمقتضاه ولذلك قدّر بعضهمإن كنتم آمنتم بالله فاقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وأبعد من ذهب إلى أن الشرط متعلق معناه بقوله فنعمالمولى ونعم النصير والتقدير فاعلموا أنّ الله مولاكم وما أنزلنا معطوف على بالله، ويوم الفرقان يوم بدر بلا خلاف فرقفيه بين الحق والباطل والجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين قتل فيها صناديد قريش نصّ عليه ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسنوقتادة وكانت يوم الجمعة سابع عشر رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول الجمهور، وقال أبو صالح لتسعة عشريوماً والمنزل: الآيات والملائكة والنصر وختم بصفة القدرة لأنه تعالى أدال المؤمنين على قلتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم،وقرأ زيد بن علي عبدنا بضمتين كقراءة من قرأ
{ وعبد الطاغوت }
بضمتين فعلى {عبدنا} هو الرسول ﷺو{على عبدنا} هو الرسول ومن معه من المؤمنين وانتصاب يوم الفرقان على أنه ظرف معمول لقوله {وما أنزلنا}، وقال الزجاجويحتمل أن ينتصب {بغنمتم} أي إنّ ما غنمتم {يوم الفرقان} يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا، أي كنتم آمنتمبالله أي فانقادوا لذلك وسلّموا، قال ابن عطية: وهذا تأويل حسن في المعنى ويعترض فيه الفضل بين الظرف وبين ماتعلقه به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام انتهى، ولا يجوز ما قاله الزجاج لأنه إن كانت ما شرطية على تخريجالفرّاء لزم فيه الفصل بين فعل الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلقاتها وإن كانت موصولة فلا يجوز الفصل بين فعل الصلةومعموله بخبر أنّ. {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } العدوة شطّ الوادي وتسمي شفيراًوضفّة سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه أي منعته. وقال الشاعر:
عدتني عن زيارتها العوادي | وقالت دونها حرب زبون |
وتسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة، وقرأ ابنكثير وأبو عمرو بالعدوة بكسر العين فيهما وباقي السبعة بالضم والحسن وقتادة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد بالفتح وأنكرأبو عمر والضم، وقال الأخفش لم يسمع من العرب إلاّ الكسر، وقال أبو عبيد الضمّ أكثرهما، وقال اليزيدي الكسر لغةالحجاز انتهى، فيحتمل أن تكون الثلاث لغى ويحتمل أن يكون الفتح مصدراً سمي به وروي بالكسر والضمّ بيت أوس:
وفارس لم يحلّ اليوم عدوته | ولو إسراعاً وما هموا بإقبال |
وقرىء بالعدية بقلب الواو لكسرة العين ولم يعتدّوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم هو ابن عميدنيا والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة وفي حرف ابن مسعود بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى ووادي بدر آخذين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرقوبينهما مرحلتان، وقرأ زيد بن علي القصيا وقد ذكرنا أنه القياس وذلك لغة تميم والأحسن أن يكون وهم والركب معطوفانعلى أنتم فهي مبتدآت تقسيم لحالهم وحال أعدائهم ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال وأسفل ظرف في موضع الخبر،وقرأ زيد بن علي أسفل بالرفع اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازاً والركب هم الأربعون الذين كانوا يقودون العِيرعير أبي سفيان، وقيل الإبل التي كانت تحمل أزواد الكفار وأمتعتهم كانت في موضع يأمنون عليها، قال الزمخشري: (فإن قلت):ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العِير كانت أسفل منهم (قلت): الفائدة فيه الإخبار عن الحالة الدالة علىقوّة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدّته وتمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذهالحال ليست إلا صنعاً من الله تعالى ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسّر إلا بحوله تعالى وقوته وباهر قدرته،وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنياوهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة وكانت العِير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وكانتالحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذبّ عنالحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه فيجمع ذلكقلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصويرما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر انتهى، وهو كلام حسن. وقال ابن عطية: كان الرّكب ومدبّر أمره أبو سفيانقد نكب عن بدر حين ندر بالنبي ﷺ وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الواديمن حيث يأتي. {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَـٰدِ وَلَـٰكِن لّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ* وَيُحْىِ *مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }. كان الالتقاء على غير ميعاد. قال مجاهد: أقبل أبوسفيان وأصحابه من الشام تجاراً لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد ﷺ بكفار قريش ولاكفار قريش بمحمد ﷺ وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر للسّقي كلهم فاقتتلوا فعليهم أصحاب محمد صلىالله عليه وسلم فأسروهم، قال الطبريّ وغيره: المعنى لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهموقال معناه الزمخشري، قال: ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخاف بعضكم بعضاً فثبطكمقلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله ﷺ والمسلمين فلم يتفقلكم من التلاقي ما وفقه الله وسببه له، وقال المهدوي: المعنى لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بالناس، قال ابن عطية: وهذاأنبل يعني من قول الطبري وأصحّ وإيضاحه أن المقصد من الآية تبين نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ماتيسر من ذلك فالمعنى إذ هيّأ الله لكم هذه الحال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الله الذي تمّمذلك وهذا كما تقول لصاحبك في أمر شاءه الله دون تعب كثير لو ثبنا على هذا وسعينا فيه لم يتمهكذا انتهى، وقال الكرماني ولو تواعدتم أنتم والمشركون للقتال لاختلفتم في الميعاد أي كانوا لا يصدّقون مواعدتكم طلباً لغرتكم والجيلةعليكم، وقيل المعنى ولو تواعدتم من غير قضاء الله أمر الحرب لاختلفتم في الميعاد لأنه تعالى اذا لم يقدر امرالم يقع انتهى {وَلَـٰكِن لّيَقْضِيَ ٱللَّهُ } ولكن تلاقيتم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً من نصر دينه وإعزاز كلمتهوكسر الكفار وإذلالهم كان مفعولاً أي موجوداً متحققاً واقعاً وعبّر بقوله مفعولاً لتحقّق كونه، قال ابن عطية: ليقضي أمراً قدقدّره في الأزل مفعولاً لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم وذلك كله معلوم عنده، وقال الزمخشري: ليقضي الله متعلق بمحذوفأي ليقضي الله أمراً كان واجباً أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك، وقيل كان بمعنى صار ليهلكبدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به ليقضي، وقيل يتعلق بقوله مفعولاً، وقيل الأصل وليهلك فحذف حرف العطف والظاهرأن المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من الله وإعذار بالرسالة ويعيش من عاش عن بيانمنه وأعذار لا حجة لأحد عليه، وقال ابن إسحاق وغيره: ليكفر ويؤمن فالمعنى أنّ الله تعالى جعل قصة بدر عبرةوآية ليؤمن مَن آمن عن وضوح وبيان ويكفر من كفر عن مثل ذلك، وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عنعاصم: ليهلك بفتح اللام، وقرأ نافع والبزي وأبو بكر من حيـي بالفكّ وباقي السبعة بالإدغام وقال المتلمس:
فهذا أوان العرض حيّ ذبـابـه |
والفكّ والإدغام لغتان مشهورتان وختم بهاتين الصفتين لأنّ الكفر والإيمان يستلزمان النطق اللساني والاعتقاد الجناني فهو سميع لأقوالكم عليم بنياتكم. {إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاْمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُعَلِيمٌ بِذَاتِ } الخطاب للرسول ﷺ وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى الرسول ﷺفيها الكفار قليلاً فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم، وقال النبي ﷺ لأصحابه حين انتبه: أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم والمراد بالقلّة هنا قلة القدر واليأس والنجدة وأنهم مهزومون مصروعون ولا يحمل على قلةالعدد لأنه ﷺ رؤياه حق وقد كان علم أنهم ما بين تسعمائة إلى ألف فلا يمكن حملذلك على قلّة العدد وروي عن الحسن أن معنى في منامك في عينك لأنها مكان النوم كما قيل للقطيفة المنامةلأنه ينام فيها فتكون الرؤية في اليقظة وعلى هذا فسّر النقاش وذكره عن المازني وما روي عن الحسن ضعيف، قالالزمخشري وهذا تفسير فيه تعسّف وما أحسب الرواية فيه صحيحة عن الحسن وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته والمعنى: ولوأراكهم في منامك كثيراً لفشلتم أي لخرتم وجبنتم عن اللقاء ولتنازعتم في الأمر أي تفرّقت آراؤكم في أمر القتال فكانيكون ذلك سبباً لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم لأنه لو رآهم كثيراً أخبركم برؤياه ففشلتم ولما كان الرسول عليهالسلام محميًّا من الفشل معصوماً من النقائص أسند الفشل إلى مَن يمكن ذلك في حقّه فقال تعالى لفشلتم وهذا منمحاسن القرآن ولكن الله سلم من الفشل والتنازع والاختلاف بإرايته له ﷺ الكفار قليلاً فأخبرهم بذلك فقويتبه نفوسهم إنه عليم بذات الصدور يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع وإذ بدل من إذ وانتصبقليلاً. قال الزمخشري على الحال وما قاله ظاهر لأنّ أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأوّل كافخطاب الرسول ﷺ، والثاني ضمير الكفار فقليلاً وكثيراً منصوبان على الحال وزعم بعض النحويين أن أرى الحلميةتتعدى إلى ثلاثة كأعلم وجعل من ذلك قوله تعالى: {إِذْ * يُرِيكُمْ * ٱللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً } فانتصاب قليلاًعنده على أنه مفعول ثالث وجواز حذف هذا المنصوب اقتصاراً يبطل هذا المذهب. تقول رأيت زيداً في النوم وأراني اللهزيداً في النوم. {وَإِذَا * يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاًوَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلامُورُ }. هذه الرؤية هي يقظة لا منام وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيراً لهم ولئلا يجبنواعن لقائهم. قال ابن مسعود: لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل: إلى جنبي أتراهم سبعين، قال: أراهم مائة وهذامن عبد الله لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول ﷺ من عددهم وقلّل المؤمنون في أعينالكفار حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور وذلك قبل الالتقاء وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال،إذ لو كثروا قبل اللقاء لا حجموا وتحيّلوا في الخلاص أو استعدوا واستنصروا ولما التحم القتال كثر الله المؤمنين فيأعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم كما قال
{ يرونهم مثليهم رأي العين }
وعظم الاحتجاجعليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم رخراً ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر الله بعضها عن بعضأ و بأن أحدث في أعينهم ما يستقلّون به الكثير هذا إذا كانت الرؤية حقيقة وأما إذا كانت بمعنى التّخمين والحذرالذي يستعمله الناس فيمكن ذلك، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب وإذ يريكموهم لأنه لا يجوز على أن يرىالكثير قليلاً لا حقيقة ولا تخميناً على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة لا من بابتقليل العدد ألا ترى قولهم المرء كثيراً بأخيه وإلى قول الشاعر:
أروح وأغتدي سفها | أكثر من أقلّ به |
فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر، لا من باب تقليل العدد ليقضيأي فعل ذلك ليقضي والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها، وقيل هما المعنيين من معاني القصة أريد بالأوّل الوعد بالنصرةيوم بدر وبالثاني الاستمرار عليها وتقدم تفسير وإلى الله ترجع الأمور واختلاف القراء في ترجع في سورة البقرة. {ٱلامُورُيَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي فئة كافرة حذف الوصف لأن المؤمنينما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء اسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف وفي الحديث: لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا ليقتموهم فاثبتوا . وأمرهم بذكره تعالى كثيراً في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحمبالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عندالشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيهاعن كل شيء ويغيب فيها الحسّ
{ ألا بذكر ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }
. وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتالتأخذ الشجاع هزة وتعتريه مثل السكر لهول الملتقى فأمر المؤمنين بذكرالله في هذه الحالة العظيمة وقد نظم الشعراء هذا المعنىفذكروا أنهم في أشقّ الأوقات عليهم وأشدّها لم ينسوا مَحبوبَهم وأكثروا في ذلك فقال بعضهم:
ذكرت سليمى وحرّ الوغى | كقلبي ساعة فارقتها وأبصرت بين القنا قدّها |
قال قتادة: افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف، وقال الزمخشري: فيه إشعار بأنّ على العبدأن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون همًّا وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإنكانت متوزّعة عن غيره، وذكر أن الثبات وذكر الله سببا الفلاح وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب،والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان والظاهر أن لا يعين ذكر، وقيل هو قولالمجاهدين: الله أكبر الله أكبر عند لقاء الكفار، وقيل الدعاء عليهم: اللهم اخذلهم اللهم دمرهم وشبهه، وقيل دعاء المؤمنين لأنفسهمبالنصر والظفر والتثبيت كما فعل قوم طالوت فقالوا
{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ }
وقيل:هم لا ينصرون وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء، وقال محمد بن كعب: لو رخص ترك الذكر لرخص في الحربولذكرنا حيث أمر بالصمت ثم قيل له: واذكر ربك كثيراً، وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً إلا إن كان منالجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به لأنه يفت في أعضاد الكفار وفي سنن أبي داود كان أصحاب الرسول صلىالله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة، وقال ابن عباس: يكره التلثم عند القتال. {وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُوَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ }، أمرهم تعالى بالطاعة لله ولرسوله ونهاهم عن التنازع وهوتجاذب الآراء وافتراقها والأظهر أن يكون فتفشلوا جواباً للنهي فهو منصوب ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشلوهو الخور والجبن عن لقاء العدو وذهاب الدولة باستيلاء العدو ويجوز أن يكون فتفشلوا مجزوماً عطفاً على ولا تنازعوا وذلكفي قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وجزم الباء، وقرأ أبو حيوة وإبان وعصمة عن عاصم ويذهب بالياء ونصب الباء،وقرأ الحسن وابراهيم فتفشِلوا بكسر الشين، قال أبو حاتم: وهذا غير معروف، وقال غيره: هي لغة. قال مجاهد: الريح والنصرةوالقوة وذهبت ريح أصحاب رسول الله ﷺ حين ناغوه بأحد، وقال الزمخشري: والريح الدّولة شبهت لنفوذ أمرهاوتشبيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله:
أتنظران قليلاً ريث غفلتهم | أم تعدوان فإنّ الريح للعادي |
انتهى وهو قول أبي عبيدة إن الريح هي الدولةومن استعارة الريح قول الآخر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها | فإن لكلّ عاصفة سكونا |
ورواهأبو عبيدة ركوداً. وقال شاعر الأنصار:
قد عودتهم صباهم أن يكون لهم | ريح القتال وأسلاب الذين لقوا |
وقال زيد بن علي ويذهب ريحكم معناه الرّعب من قلوب عدوكم ومنه قيل للخائف انتفخ سحره. قال ابن عطية:وهذا حسن بشرط أن يعلم العدوّ بالتنازع فإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فينهزمون انتهى، وقال ابن زيد وغيره الريحعلى بابها وروي في ذلك أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار واستند بعضهم فيهذه المقالة إلى قوله ﷺ نصرت بالصبا، وقال الحكم وتذهب ريحكم يعني الصّبا إذ بها نصر محمدﷺ وأمته، وقال مقاتل ريحكم حدتكم، وقال عطاء جلدكم، وحكى التبريزي هيبتكم، ومنه قول الشاعر:
كما حميناك يوم النّعف من شطط | والفضل للقوم من ريح ومن عدد |
{وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمبَطَراً وَرِئَاء ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }. نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا النصرة العِيربالقينات والمعازف ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني وكان صديقاً له بهدايا مع ابنه وقال: إن شئت أمددناك بالرجال وإن شئتبنفسي مع من خفّ من قومي، فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا باللهطاقة وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة والله، لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراًفنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات فإنّ بدراً مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابناآخر الأبد فوردوا بدراً فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله المؤمنين أن يكون مثلهؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله، وقال رسول الله ﷺ: اللهم إن قريشاً أقبلتبفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم خاضها الغداة وفي قوله والله بما يعملون محيط وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار.{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ}. أعمالهم ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتال رسول الله صلى الله عليهوسلم وهذا التزيين والقول والنكوص هل ذلك على سبيل المجاز أو الحقيقة قولان للمفسرين بدأ الزمخشري بالأوّل فقال: وسوس إليهمأنهم لا يغلبون ولا يطاقون وأوهمهم أنّ اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما تحبرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم،أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم انتهى، ويكونذلك من باب مجاز التمثيل، وقال المهدويّ يضعف هذا القول إنّ قوله: وإنّي جار لكم ليس مما يلقى بالوسوسة انتهى،ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ونسب ذلكإلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة والجمهور على أنّ إبليس تصورلهم فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية، وقيل جاءهم في طريقهمإلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم وكان منأشراف كنانة فقال: ما حكى الله عنه ومعنى جار لكم مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص، وقيلكانت يده في يد الحارث بن هشام فلما نكص قال له الحرث: إلى أن أتخذ لنا في هذه الحال فقالإني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة بن مالكفبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وفي الموطأ وغيره مارؤي الشيطان في يوم قل ولا أحقر ولا أصفر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأىيوم بدر قيل: وما رأى يا رسول الله قال: رأى الملائكة يريحها جبريل، وقال الحسن: رأى إبليس جبريل يقود فرسهبين يدي النبي ﷺ وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام ولكم ليس متعلقاً بقوله: لا غالب لأنهكان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولاً والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أيكائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف واليوم عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله وإني جار لكم معطوفاًعلى لا غالب لكم اليوم ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسيوبقومي والفئتان جمعاً المؤمنين والكافرين، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة نكص على عقبيه رجع في ضد إقباله وقال: إني بريءمنكم مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتفِ بالفعل حتى أكد ذلك بالقول ما لا ترون رأي خرق العادة ونزولالملائكة إني أخاف الله، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف الله قط، وقال الزجاج وغيره: بل خاف ممارأى من الهول إنه يكون اليوم الذي أنظر إليه انتهى وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى
{ كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ }
ويحتمل أنّ يكون والله شديد العقاب معطوفاً على معمول القول قال: ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحققأنّ عذاب الله شديد ويحتمل أن يكون من كلام الله استأنف تهديداً لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش. {إِذْيَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ }، العامل في إذ زيّن أو نكص أو سميع عليم أواذكروا أقوال وظاهر العطف التغاير. فقيل المنافقون هم من الأوس والخزرج لما خرج الرسول ﷺ قال بعضهم:نخرج معه، وقال بعضهم: لا نخرج غرّ هؤلاء أي المؤمنين دينهم فإنهم يزعمون أنهم على حق وأنهم لا يغلبون هذامعنى قول ابن عباس، والذين في قلوبهم مرض قوم أسلموا ومنهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرهاً فلما نظرواإلى قلة المسلمين ارتابوا وقالوا غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا جميعاً، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكهبن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وعلي بن أمية والعاصي بن منبه بن الحجاج ولم يذكر أنّ منافقاً شهدبدراً مع المسلمين إلا معتب بن قشير فإنه ظهر منه يوم أحد قوله:
{ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا }
وقيل {والذين في قلوبهم مرض} هو من عطف الصّفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق وهو إظهار ما يخفيهمن المرض كما قال تعالى في قلوبهم مرض وهم منافقو المدينة، وعن الحسن هم المشركون ويبعد هذا إذ لا يتّصفالمشركون بالنفاق لأنهم مجاهرون بالعداوة لا منافقون، وقال ابن عطية، قال المفسّرون: إنّ هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هممن أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلّة عددهم قالوا مشيرين إلى المسلمين غرّ هؤلاء دينهم أي اغترّوافأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به وكنّى بالقلوب عن العقائد والمرض أعمّ من النفاق إذ يطلق مرض القلب علىالكفر. {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } هذا يتضمن الردّ على من قال غرّ هؤلاء دينهمفكأنه قيل هؤلاء في لقاء عدوّهم هم متوكلون على الله فهم الغالبون، ومن يتوكل على الله ينصره ويعزَّه فإن اللهعزيز لا يغالب بقوة ولا بكثرة حكيم يضع الأشياء مواضعها أو حاكم بنصره من يتوكل عليه فيديل القليل على الكثير.{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَـئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ * ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَلَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }. لو التي ليست شرطاً في المستقبل تقلب المضارع للمضي فالمعنى لو رأيت وشاهدت وحذف جواب لوجاز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدلّ على التعظيم أي لرأيت أمراً عجيباً وشأناً هائلاً كقوله
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار }
والظاهر أنّ {الملائكة} فاعل {يتوفى} ويدلّ عليه قراءة ابن عامر والأعرج تتوفى بالتاء وذكر في قراءة غيرهمالأن تأنيث الملائكة مجاز وحسنه الفضل، وقيل: الفاعل في هذه القراءة الفاعل ضمير الله و{الملائكة} مبتدأ والجملة حاليّة، كهي في{يضربون}، قال ابن عطية: ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا انتهى، ولا يضعفه إذ جاء بغيرواو في كتاب الله وفي كثير من كلام العرب و{الملائكة} ملك الموت وذكر بلفظ الجمع تعظيماً أو هو وأعوانه منالملائكة فيكون التوفي قبض أرواحهم أو الملائكة الممدّ بهم يوم بدر، والتوفي قتلهم ذلك اليوم أو ملائكة العذاب فالتوفي سوقهمإلى النار أقوال ثلاثة، والظاهر حقيقة الوجوه والإدبار كناية عن الأستاه. قال مجاهد: وخصا بالضرب لأن الخزي والنكال فيهما أشد،وقيل: ما أقبل منهم وما أدبر فيكون كناية عن جميع البدن وإذا كان ذلك يوم بدر فالظاهر أن الضّاربين همالملائكة. وقيل: الضمير عائد على المؤمنين أي يضرب المؤمنون فمن كان أمامهم من المؤمنين ضربوا وجوههم ومن كان وراءهم ضربواأدبارهم فإن كان ذلك عند الموت ضربتهم الملائكة بسياط من نار، وقوله {ذوقوا} هذا على إضمار القول من الملائكة أيويقولون لهم {ذوقوا عذاب الحريق} ويكون ذلك يوم بدر وكانت لهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتغل جراحاتهم ناراً أويقال لهم ذلك في الآخرة وهو كلام مستأنف من الله على سبيل التقريع للكافرين أما في الدنيا حالة الموت أيمقدّمة عذاب النار، وأما في الآخرة ويحتمل ذلك وما يعده أن يكون من كلام الملائكة أو من كلام الله، {ذلك}أي ذلك العذاب وهو مبتدأ خبره {بما قدّمت أيديكم} {وأنّ الله} عطف على ما أي ذلك العذاب بسبب كفركم وبسببأنّ الله لا يظلمكم إذ أنتم مستحقّون العذاب فتعذيبكم عدل منه وتقدّم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة آل عمران.{كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } تقدّمتفسير نظير هذه الآية في أوائل سورة آل عمران. {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍحَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }. ذلك مبتدأ وخبره بأن الله لم يكُ أي ذلك العذاب أوالانتقام بسبب كذا وظاهر النعمة أنه يُراد به ما يكونون فيه من سعة الحال والرفاهية والعزّة والأمن والخصب وكثرة الأولادوالتغيير قد يكون بإزالة الذات وقد يكون بإزالة الصفات فقد تكون النعمة أذهبت رأساً وقد تكون قلّلت وأضعفت، وقال القاضيأنعم الله عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبيل والمقصو أنْ يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر فإذا صرفوا هذهالأمور إلى الكفر والفسق فقد غيّروا أنعم الله على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وهذا منأوكد ما يدلّ على أنه تعالى لا يبتدىء أحداً بالعذاب والمضرّة وأنّ الذي يفعله لا يكون إلا جزاءً على معاصسلفت ولو كان تعالى خلقهم وخلق حياتهم وعقولهم ابتداءً للنار كما يقوله القوم لما صحّ ذلك انتهى، قيل: وظاهر الآيةيدلّ على ما قاله القاضي إلا أنه يمكن الحمل على الظاهر لأنه يلزم من ذلك أن يكون صفة الله معلّلةبفعل الإنسان ومتأثرة له وذلك محال في بديهة العقل وقد قام الدليل على أنّ حكمه وقضاءه سابق أوّلاً فلا يمكنأن يكون فعل إلا بقضائه وإرادته. وقيل أشار بالنعمة إلى محمد ﷺ بعثه رحمة فكذّبوه فبدّل اللهما كانوا فيه من النعمة بالنقمة في الدنيا وبالعقاب في الآخرة قاله السدّي والظاهر من قوله على قوم العموم فيكل من أنعم الله عليه من مسلم وكافر وبرّ وفاجر وأنه تعالى متى أنعم على أحد فلم يشكر بدّله عنهابالنقمة، وقيل القوم هنا قريش أنعم الله تعالى عليهم ليشكروا ويفردوه بالعبادة فجحدوا وأشركوا في ألوهيته وبعث إليهم الرسول صلىالله عليه وسلم فكذّبوه فلما غيروا ما اقتضته نعمة وحدّثتهم أنفسهم بأنّ تلك النِّعم من قبل أوثانهم وأصنامهم غير تعالىعليهم بنقمة في الدنيا وأعدّ لهم العذاب في العقبى، وقال ابن عطية: ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلىالله عليه وسلم فكفروا وغيّروا ما كان يجب أن يكونوا عليه فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم منالأنصار وأحلّ بهم عقوبته انتهى. وتغيير آل فرعون ومشركي مكة ومن يجري مجراهم بأن كانوا كفاراً ولم تكن لهم حالةمرضية فغيّروا تلك الحالة المسخوطة إلى أسخط منها من تكذيب الرّسل والمعاندة والتخريب وقتل الأنبياء والسعي في إبطال آيات اللهفغير الله تعالى ما كان أنعم عليهم به وعاجلهم ولم يمهلهم وفي قول الزمخشري ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أنالله تعالى لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمه عند قوم حتى يغيّروا ما بهم من الحالدسيسة الاعتزال {وأن الله سميع} لأقوال مكذّبي الرسول، {عليم} بأفعالهم فهو مجازيهم على ذلك. {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِنقَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَـٰتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ } قال قوم: هذا التكرير للتأكيد، وقال ابنعطية: هذا التكرير لمعنى ليس للأوّل أو الأوّل أو الأوّل دأب في أنْ هلكوا لما كفروا وهذا الثاني دأب فيأن لم يغير نعمتهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم انتهى، وقال قوم: كرّر لوجوه منها أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأوللأنّ في ذلك ذكر إجرامهم وفي هذا ذكر إغراقهم وأُريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت وبالثاني مانزل بهم من العذاب في الآخرة وفي الأوّل {بآيات الله} إشارة إلى إنكار دلائل الإلهية وفي الثاني {بآيات ربهم} إشارةإلى إنكار نعم من ربّاهم ودلائل تربيته وإحسانه علي كثرتها وتواليها وفي الأوّل اللام منه الأخذ، وفي الثاني اللازم منهالهلاك والإغراق، وقال الزمخشري في قوله تعالى: {بآيات ربهم} زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحقّ وفي ذكر الإغراق بيانللأخذ بالذنوب، وقال الكرماني يحتمل أن يكون الضمير في الآية الأولى في كفروا عائداً على قريش وفي الأخيرة في كذّبواعائد على آل فرعون والذين من قبلهم انتهى، وقيل فأهلكناهم هم الذين أهلكوا يوم بدر فيلزم من هذا القول أنيكون كذّبوا عائداً على كفار قريش، وقال التبريزي فأهلكناهم قوم نوح بالطّوفان وعادا بالريح وثموداً بالصّيحة وقوم لوط بالخسف، وفرعونوآله بالغرق، وقوم شعيب بالظلّة، وقوم داود بالمسخ وأهلك قريشاً وغيرها بعضهم بالفزغ وبعضهم بالسيف وبعضهم بالعدسة كأبي لهب، وبعضهمبالغدة كعامر بن الطّفيل، وبعضهم بالصاعقة كأويد بن قيس انتهى، فيظهر من هذه الكلام أن الضمير في كذّبوا وأهلكناهم عائدعلى المشبه والمشبه به في كدأب إذ عمّ الضمير القبيلتين وإنما خصّ آل فرعون بالذكر وذكر الذي أهلكوا به وهوإغراقهم لأنه انضم إلى كفرهم دعوى الإلهية والرّبوبية لغير الله تعالى فكان ذلك أشنع الكفر وأفظعه ومراعاة لفظ كلّ إذاحذف ما أضيف إليه ومعناه جائزة واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل إذ لو كان التركيب وكلّ كان ظالماً لميقع فاصلة، وقال الزمخشري {وكلهم} من غرقى القبط وقتلى قريش {كانوا ظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي انتهى، ولا يظهر تخصيص الزمخشريكلاًّ بغرقى القبط وقتلى قريش إذ الضمير في {كذبوا} وفي {فأهلكناهم} لا يختصّ بهما فالذي يظهر عموم المشبه به وهمآل فرعو والذين من قبلهم أو عموم المشبّه والمشبّه بهم. {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَيُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ }. نزلت في بني قريظة منهمكعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم الرسول أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا نسينا وأخطأنا ثمعاهدهم فنكثوا مالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم قال البغوي من روى أنه كعب بنالأشرف أخطأ ووهم بل يحتمل أنه كعب بن أسد فإنه كان سيّد قريظة، وقيل: هم بنو قريظة والنضير، وقيل: نفرمن قريش من عبد الدّار حكاه التبريزي في تفسيره فهم لا يؤمنون إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكنأن يقع منهم إيمان، قال ابن عباس شرّ الناس الكفار وشرّ الكفار المصرّون منهم وشرّ المصرّين الناكثون للعهود فأخبر تعالىأنهم جامعون لأنواع الشرّ الذين عاهدت بدل من الذين كفروا قاله الحوفي والزمخشري وأجاز أبو البقاء أن يكون خبر المبتدأمحذوف وضمير الموصول محذوف أي عاهدتهم منهم أي من الذين كفروا، قال ابن عطية: يحتمل أن يكون شرّ الدّواب بثلاثةأوصاف: الكفر والموافاة عليه والمعاهدة مع النقض، والذين على هذا بدل بعض من كلّ ويحتمل أن يكون الذين عاهدت فرقةأو طائفة ثم أخط يصف حال المعاهدين بقوله ثم ينقضون عهدهم في كل مرة انتهى، فعل هذا الاحتمال يكون الذينمبتدأ ويكون الخبر قوله فإما تثقفنهم ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط فكأنه قيل من يعاهد منهم أي منالكفار فإن تظفر بهم فاصنع كذا أو من للتّبعيض لأنّ المعادين بعض الكفار وهي في موضع الحال أي كائنين منهم،وقيل: بمعنى مع، وقيل: الكلام محمول على المعنى أي أخذت منهم العهد فتكون من على هذا التقدير لابتداء الغاية، وقيل:من زائدة أي عاهدتهم وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة وأتى ثم ينقضون بالمضارع تنبيهاً على أنّ من شأنهم نقض العهد مرةبعد مرة تقديره وهم لا يتّقون لا يخافون عاقبة العدوّ ولا يبالون بما في نقض العهد من العار واستحقاق النار.{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى ٱلْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي فإن تظفر بهم في الحرب وتتمكن منهمفشرّد بهم من خلفهم، قال ابن عباس فنكّل بهم من خلفهم، وقال ابن جبير: أنذر من خلفهم عن قتل منظفر به وتنكيله فكان المعنى فإن تظفر بهم فاقتلهم قتلاً ذريعاً حتى يفرّ عنك من خلفهم ويتفرّق ولما كان التّشريدوهو التّطريد والإبعاد ناشئاً عن قتل من ظفر به في الحرب من المعاهدين الناقضين جعل جواباً للشرط إذ هو يتسببعن الجواب، وقالت فرقة فسمع بهم وحكاه الزهراوي عن أبي عبيدة، وقال الزمخشري: من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسرعليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم، وقال الكرماني: قيل التّشريد التخويف الذي لا يبقى معه القرار أي لا ترضَمنهم إلاّ الإيمان أو السيف. وقرأ الأعمش بخلاف عنه فشرّذ بالذال وكذا في مصحف عبد الله قالوا ولم تحفظ هذهالمادة في لغة العرب، فقيل: الذال بدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخزاذيل، وقال الزمخشري: فشرّذ بالذال المعجمة بمعنىففرّق وكأنه مقلوب شذر من قولهم ذهبوا شذر ومنه الشّذَر الملتقط من المعدن لتفرّقه انتهى. وقال الشاعر:
غرائر في كن وصون ونعمة | تحلين ياقوتاً وشذراً مفقراً |
وقال قطرب: بالذال المعجمة التنكيل وبالمهملة التفريق، وقرأأبو حيوة والأعمش بخلاف عنه من خلفهم جاراً ومجروراً ومفعول فشرد محذوف أي ناساً من خلفهم والضمير في لعلّهم يظهرأنه عائد على من خلفهم وهم المشرّدون أي لعلّهم يتعظون بما جرى لنا قضي العهد أو يتذكرون بوعدك إياهم وقيل:الضمير عائد إلى المثقوفين وفيه بعد لأن من قُتل لا يتذكر. {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰسَوَاء إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَـٰئِنِينَ }. الظاهر أنّ هذا استئناف كلام أخبره الله تعالى بما يصنع في المستقبل معمن يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر. وقال مجاهد هي في بني قريظة ولا يظهر ما قال لأن بني قريظةلم يكونوا في حد من خاف منه خيانة لأن خيانتهم كانت ظاهرة مشهورة، ولقوله من قوم فلو كانت في بنيقريظة وإما تخافنّ منهم، وقال يحيـى بن سلام: تخافنّ بمعنى تعلم وحكاه بعضهم أنه قول الجمهور، وقيل الخوف على بابهفالمعنى أنه يظهر منهم مبادىء الشرّ وينقل عنهم أقوال تدلّ على الغدر فالمبادىء معلومة والخيانة التي هي غاية المبادىء مخوفةلا متيقنة ولفظ الخيانة دالّ على تقدم عهد لأنه من لا عهد بينك وبينه لا تكون محاربته خيانة فأمر اللهتعالى نبيه إذا أحسّ من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم وهو النّبذ ومفعول فانبذ محذوفالتقدير فانبذ إليهم عهدهم أي ارمه واطرحه، وفي قوله فانبذ عدم اكتراث به كقوله
{ فنبذوه وراء ظهورهم }
{ فنبذناهم في اليم }
كما قال، نبذ الحذاء المرقع، وكأنه لا ينبذ ولا يرمي إلا الشيء التافه الذي لا يبالي به وقوّة هذا اللفظتقتضي حربهم ومناجزتهم أن يستقصوا ومعنى على سواء أي على طريق مستو قصد وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهمإخباراً مكشوفاً بيّناً إنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منكإنّ الله لا يحب الخائنين فلا يكن منك إخفاءً للعهد قاله الزمخشري بلفظه وغيره كابن عباس بمعناه، وقال الوليد بنمسلم: على سواء على مهل كما قال تعالى:
{ بَرَاءةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }
الآية. وقالالفرّاء المعنى فانبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولاتفجأ بحرب بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك يعني موازنة ومقايسة. وقرأ زيد بن علي سواء بكسر السين وظاهرأنّ الله أن يكون تعليلاً لقوله: فانبذ أي فانبذ إليهم على سواء على تبعد من الخيانة إنّ الله لا يحبّالخائنين ويحتمل أن يكون طعناً على الخائنين الذين عاهدهم الرسول ويحتمل على سواء أن يكون في موضع الحال من الفاعلفي فانبذ أي كائناً على طريق قصد أو من الفاعل والمجرور أي كائنين على استواء في العلم أو في العداوة.{وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ * كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قال الزهري: نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدرفالمعنى لا تظنهم ناجين مفلتين فإنهم لا يعجزون طالبهم بل لا بد من أخذهم، قيل: وذلك في الدّنيا ولا يفوتونبل يظفرك الله بهم، وقيل: في الآخرة قاله الحسن وقيل: الذين كفروا عام قاله ابن عباس وأعجز غلب وفات، قالسويد:
وأعجزنا أبو ليلى طفيل | صحيح الجلد من أثر السلاح |
وقرأ ابن عامر وحمزةوحفص ولا يحسبنّ بالياء أي ولا يحسبن الرسول أو حاسب أو المؤمن أو فيه ضمير يعود على من خلفهم فيكونمفعولاً يحسبنّ الذين كفروا وسبقوا القراءة باقي السبعة بالتاء خطاباً للرسول أو للسامع وجوّزوا أن يكون في قراءة الياء فاعللا يحسبنّ هو الذين كفروا وخرج ذلك على حذف المفعول الأوّل لدلالة المعنى عليه تقديره أنفسهم سبقوا وعلى إضمار أنقبل سبقوا فحذفت وهي مرادة فسدّت مسدّ مفعولي يحسبنّ ويؤيّده قراءة عبد الله أنهم سبقوا، وقيل التقدير ولا تحسبنهم الذينكفروا فحذف الضمير لكونه مفهوماً وقد ردّدنا هذا القول في أواخر آل عمران، وعلى أنّ الفاعل هو الذين كفروا خرّجالزمخشري قراءة الياء وذكر نقل توجيهها على حذف المفعول إما الضمير وإما أنفسهم وإما حذف أن وإما أنّ الفعل وقععلى أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال يعني سابقين أو مفلتين هاربين وعلى ولا تحسبنقتيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا ثم قال وهذه الأقاويل كلّها متمحلة وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة انتهى،ولم يتفرّد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللّحن وقرأ علي وعثمانوحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش، وتقدم ذكر توجيهها على غيرما نقل مما هو جيّد في العربية فلا التفات لقوله وليست بنيرة وتقدّم ذكر في فتح السين وكسرها في قوله
{ يحسبهم الجاهل أغنياء }
وأما قوله: وقيل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة فهذا لا يتأتى على قراءةحمزة لأنه يقرأ بكسر الهمزة ولو كان واقعاً عليه لفتح أن وإنما فتحها من السبعة ابن عامر وحده واستبعد أبوعبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي أي لا تحسبنّهم فائتين لأنهم لا يعجزون أيلا يقع منك حسبان لفوتهم لأنهم لا يعجزون أي لا يفوتون، وقرأ الأعمش ولا يحسب بفتح السين والياء من تحتوحذف النون وينبغي أن يخرج على حذف النون الخفيفة لملاقاة الساكن فيكون كقوله:
لا تهين الفقير علّك أن | تركع يوماً والدهر قد رفعه |
وقرأ ابن محيصن لا تعجزوني بكسر النون وياء بعدها، وقال الزجاج:الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على أن المعنى أنهم لا يعجزونني وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر:
تراه كالثّغام يعل مسكا | يسوء الغالبات إذا فليني |
البيت لعمرو بن معدي كرب، وقال أبوالحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة:
ولقد علمت ولا محالة أنّني | للحادثات فهل تريني أجزع |
فهذا يجوز على الاضطرار فقال قوم: حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها في موضع الإعراب، وقال المبرّدأرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية وكذا كان يقول في بيت عمرو، وقرأ طلحة بكسر النون من غير تشديدولا ياء، وعن ابن محيصن تشديد النون وكسرها أدغم نون الإعراب في نون الوقاية وعنه أيضاً بفتح النون وتشديد الجيموكسر النون، قال النحاس: وهذا خطأ من وجهين أحدهما إنّ معنى عجزه ضعفه وضعف أمره والآخر أنه كان يجب أنيكون بنونين انتهى، أما كونه بنون واحدة فهو جائز لا واجب وقد قرىء به في السبعة وأما عجزني مشدّداً فذكرصاحب اللوامح أن معناه بطأ وثبط قال وقد يكون بمعنى نسبني إلى العجز والتشديد في هذه القراءة من هذا المعنىفلا تكون القراءة خطأ كما ذكر النحاس. {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ }. لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولاعدة وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سببلاً للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ماقدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الارصاد وعلّق ذلك بالاستطاعة لطفاً منه تعالى والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في لهم عائدعلى الكفار المتقدّمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعمّ من بعده. وقيل: يعود على الذين ينبذ إليهم العهدوالظاهر العموم في كل ما يتوقى به على حرب العدوّ مما أورده المفسّرون على سبيل الخصوص والمراد به التمثيل كالرّميوذكور الخيل وقوّة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وآلات الحرب وعددها والأرواد والملابس الباهية حتى أنّ مجاهداً رؤي يتجهز للجهادوعنده جوالق فقال هذا من القوة وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول اللهﷺ وهو على المنبر يقول {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا وإنّ القوة الرّمي ألا إن القوة الرمي فمعناه والله أعلم أنّ معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي كما جاء الحجّ عرفة وجاء في فضل الرمي أحاديثوعلى ما اخترناه من عموم القوة يكون قوله ومن رباط الخيل تنصيص على فضل رباط الخيل إذا كانت الخيل هيأصل الحروب والخير معقود بنواصيها وهي مراكب الفرسان الشجعان، وقال أبو زيد الرّباط من الخيل الخمس فما فوقها وجماعة ربطوهي التي ترتبط يقال: منه ربط ربطاً وارتبط انتهى، قال:
تلوم على ربط الجياد وحبسها | وأوصى بها الله النبيّ محمداً |
قال ابن عطية: {ورباط الخيل} جمع ربط ككلب وكلاب ولا يكثر ربطها إلاّ وهيكثيرة ويجوز أن يكون الرّباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس وإن جعلناه مصدراًمن رابط وكان ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً فإذا ربط كل واحد منهمفرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط وذلك الذي حضّ في الآية عليه وقال قال ﷺ: من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها والأحاديث في هذا المعنى كثيرة انتهى، فجوّز في رباطأن يكون جمعاً لربط وأن يكون مصدراً لربط والرابط وقوله: لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بللها مصادر مُنقاسة ذكرها النحويون، وقال الزمخشري والرّباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن تسمى بالرّباط الذيهو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار ومن ربط بضمّالراء والباء وعن أبي حيوة والحسن أيضاً ربط بضمّ الراء وسكون الباء وذلك نحو كتاب وكتب وكتب، قال ابن عطية:وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر انتهى، ولا يتعيّن كونه مصدراً ألا ترى إلى قول أبي زيد إنه منالخيل الخمس فما فوقها وإنّ جماعها ربط وهي التي ترتبط والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها، وقال عكرمة: {رباط الخيل} إناثهاوفسّر القوة بذكورها واستحبّ رباطها بعض العلماء لما فيها من النّتاج كما قال: بطونها كنز، وقيل: {رباط الخيل} الذكور منهالما فيها من القوة والجلَد على القتال والكفاح والكرّ والفرّ والعدو والضمير في {به} عائد على ما من قوله مااستطعتم، وقيل: على الإعداد، وقيل: على القوّة، وقيل: على رباط وترهبون، قالوا: حال من ضمير وأعدّوا أو من ضمير لهمويحصل بهذا الارتباط والإرهاب فوائد منها: إنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وباشتداد الخوف قد يلتزمون الجزية أو يسلمون أولا يعينون سائر الكفار، وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو وترهبون مشدّداً عدي بالتضعيف كما عدى بالهمزة، قال أبوحاتم وزعم عمرو أن الحسن قرأ يرهبون بالياء من تحت وخفّفها انتهى، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليهلهم وهم الكفار والمعنى أنّ الكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خوفوا من يليهم من الكفاروأرهبوهم إذ يعلمونهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب فيخافون منكم وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم فهو أشدخوفاً لكم، وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد: تخزون به مكان ترهبون به وذكرها الطبري على جهة التفسير لا على جهةالقراءة وهو الذي ينبغي لأنه مخالف لسواد المصحف، وقرأ السلمي عدوًّا لله بالتنوين ولام الجر، قال صاحب اللوامح: فقيل أرادبه اسم الجنس ومعناه أعداء الله وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة لأنها نكرة أيضاً لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأنهاسم الفاعل ومعناه الحال والاستقبال ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف وأما عدوّكم فيجوز أن يكون كذلك نكرة ويجوزأن يكون قد تعرّف لإعادة ذكره ومثله رأيت صاحباً لكم فقال لي صاحبكم والله أعلم انتهى، وذكر أولاً عدوّ اللهتعظيماً لما هم عليه من الكفر وتقوية لذمّهم وأنه يجب لأجل عداوتهم لله أن يقاتلوا ويبغضوا ثم قال وعدوّكم علىسبيل التحريض على قتالهم إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل والمراد بهاتين الصفتين منقرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب، قيل ويجوز أن يراد جميع الكفار وآخرين من دونهمأصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة أو مجاز. قال ابن عطية: من دونهم بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاءفدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل: وأمر دون عبيدةالوزم، قال مجاهد وآخرين: بنو قريظة، وقال مقاتل: اليهود، وقال السدّي: أهل فارس، وقالت فرقة: كفار الجن ورجّحه الطبري واستندفي ذلك إلى ما روي من أنّ صهيل الخيل تنفر الجنّ منه وأنّ الشياطين لا تدخل داراً فيها فرس الجهادونحو هذا، وقالت فرقة: هم كل عدوّ للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي ﷺ أن يشرّد بهممن خلفهم، وقال ابن زيد: هم المنافقون وهذا أظهر لأنه قال لا تعلمونهم الله يعلمهم أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهمإذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة ومنجعله متعلقاً بالنسبة فقدّر مفعولاً ثانياً محذوفاً وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عندبعض النحويين وعزيز جداً عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّرهبعضهم لا تعلمونهم فازغين راهِبين الله يعلّمهم بتلك الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين كما قلنا على جهة الطّعنعليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كلّ من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير فيظهور الإسلام وعلوّه، وقال القرطبي ما معناه لا ينبغي أن يعين قوله وآخرين لأنه تعالى قال لا تعلمونهم الله يعلمهمفكيف يدّعي أحد علماً بهم إلا أن يصحّ حديث فيه عن الرسول ﷺ انتهى، ثم حضّ تعالىعلى النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل وجهّز عثمان جيش العسرةبألف دينار يوفّ إليكم جزاؤه وثوابه من غير نقص، وقيل هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعدّلهم في الآخرة من الثواب. {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }. جنحالرّجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل مالت أعناقها في السير. قال ذو الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه | بذكراك والعيس المراسيل جنح |
وجنح الليل أقبل وأمال أطنابه إلى الأرض. وقال النابغة يصف طيوراً تتبع الجيش:
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله | إذا ما التقى الجيشان أوّل غالب |
ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوةومنه الجناح لميله، وقال النضر بن شميل: جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في جنحواعائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير، وقيل على مشركي قريش والعرب، وقيل على قوم سألوامن الرسول ﷺ قبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث. فقيل: التأنيث لغة، وقيلعلى معنى المسالمة، وقيل حملاً على النقيض وهو الحرب، وقال الشاعر:
وأفنيت في الحرب آلاتها | وعددت للسلم أوزارها |
وتقدّم الخلاف في قراءة السين وكسرها والسّلم الصّلح لغة، فقال قتادة هي موادعة المشركين ومهادنتهم وهذاراجع إلى رأي الإمام فإن رآه مصلحة فعل وإلا فلا، وقيل نزلت في قوم معتب سألوا الموادعة فأمر الله نبيهالإجابة إليها ثم نسخت بقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون، وقيل: أداء الجزية، وقال الحسن: السلم الإسلام، وعن ابن عباس نسختبقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون، وعن مجاهد بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، قال الزمخشري: والصحيح أنّ الأمر موقوف على مايرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً،وقرأ الأشهب العقيلي فاجنح بضمّ النون وهي لغة قيس والجمهور بفتحها وهي لغة تميم، وقال ابن جني: القياس في فعلاللازم ضم عين الكلامة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر وأمره تعالى بالتوكل عليه فلا يبالي بهم وإن أبطنواالخديعة في جنوحهم إلى السلم فإنّ الله كاف من توكّل عليه وهو السميع لأقوالهم العليم بنياتهم. {وَإِن يُرِيدُواْ أَنيَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً مَّاأَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ }. أي وإن يرد الجانحون للسّلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانةوالغدر مخادعة فاجنح لها فما عليك من نياتهم الفاسدة فإنّ حسبك وكافيك هو الله ومن كان الله حسبه لا يباليبمن ينوي سوءً ثم ذكره بما فعل معه أولاً من تأييده بالنّصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكمالطف بك أوّلاً يلطف بك آخراً والمؤمنون هنا الأوس والخزرج وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ماكان لولا الإسلام لينقضي أبداً ولكنه تعالى منّ عليهم بالإسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قرباً، ومعنى لو أنفقت ما فيالأرض جميعاً على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً وكونها في الأوس والخزرج، تظاهر به أقوال المفسرين، وقال ابنمسعود: نزلت في المتحابّين في الله، قال ابن عطية ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليفما كان بين جمعهم فكل يألف في الله. وقال الزمخشري: التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى اللهعليه وسلم لما رأوا من الآيات الباهرة لأنّ العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيءوإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى اللهعليه وسلم واتحدوا وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ وأماط عنهممن التباغض وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ولا يقدر على ذلك إلاّ من يملك القلوب فهويقلبها كما يشاء ويصنع فيها ما أراد انتهى، وكلامه آخراً قريب من كلام أهل السنة لأنهم قالوا في هذه الآيةدليل على أنّ العقائد والإرادات والكراهات من خلق الله لأنّ ما حصل من الألف هو بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلىالله عليه وسلم فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلاً للعبد وذلك خلاف صريح الآية، وقال القاضي:لولا ألطاف الله تعالى ساعة ساعة ما حصلت هذه الأحوال فأضيفت إلى الله على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علمالولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذلك هنا انتهى، وهذا هو مذهب المعتزلة.{حَكِيمٌ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وقال ابنعباس وابن عمر وأنس: في إسلام عمر، قال ابن جبير: أسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت،والظاهر رفع ومن عطفاً على ما قبله وعلى هذا فسّره الحسن وجماعة أي حسبك الله والمؤمنون، وقال الشعبي وابن زيدمعنى الآية: حسبك الله وحسب من اتبعك، قال ابن عطية: فمن في هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضعالكاف لأنّ موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدّت حسبك مسدّها انتهى، وهذا ليس بجيّد لأنّ حسبك ليس مما تكونالكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب وحسبك مبتدأ مضاف إلى الضمير وليس مصدراً ولااسم فاعل إلا أنّ قيل إنه عطف على التوهم كأنه توهم أنه قيل يكفيك الله أو كفاك الله، ولكنّ العطفعلى التوهم لا ينقاس فلا يحمل عليه القرآن ما وجدت مندوحة عنه والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابنزيد هو أن يكون ومن مجرورة على حذف وحسب لدلالة حسبك عليه فيكون كقوله:
أكل امرىء تحسبين امرأ | ونار توقد بالليل نارا |
أي وكلّ نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور، وقال ابنعطية: وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بأنه ضرورة الشعر انتهى، وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجاز سيبوبه في الكلاموخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح، قال الزمخشري ومن اتبعك الواو بمعنى مع وما بعده منصوب تقول وحسبك وزيداًدرهم ولا يجرّ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع. قال:
فحسبــك والضحّــاك سيــف مهنــد |
والمعنى كفاك وكفى أتباعك منالمؤمنين الله ناصراً انتهى، وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه، قال سيبويه: قالوا حسبك وزيداً درهم لما كان فيهمن معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسب أخاك درهم ولذلك كفيك انتهى، كفيكهو من كفاه يكفيه وكذلك قطّك تقول كفيك وزيداً درهم وقطّك وزيداً درهم وليس هذا من باب المفعول معه وإنماجاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل للدلالة فحسبك يدلّ على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى أقولحسبي فالناصب في هذا فعل يدلّ عليه المعنى وهو في كفيك وزيداً درهم أوضح لأنه مصدر للفعل المضمر أي ويكفيزيداً وفي قطّك وزيداً درهم التقدير فيه أبعد لأنّ قطّك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه إنما هو مفسرمن حيث المعنى فقط وفي ذلك الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم والنية بالدرهم التقديم فيصير من عطف الجمل ولايجوز أن يكون من باب الأعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرىمجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك، وقال الزّجاج: حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع انتهى، فعالى هذا يكونالله فاعلاً لحسبك وعلى هذا التقدير يجوز في ومن أن يكون معطوفاً على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرورلأن اسم الفعل لا يضاف إلا أنّ مذهب الزُّجاج خطأ لدخول العوامل على حسبك تقول بحسبك درهم وقال تعالى:
{ فإنّ حسبك الله }
ولم يثبت كونه اسم فعل في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسماً غير اسم فعل كرويدوأجاز أبو البقاء رفع ومن على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وحسبك من اتبعك وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديرهومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم الله، وقرأ الشعبي ومن أتبعك بإسكان النون وأتبع على وزن أكرم.{يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَرّضِٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ ٱلَّذِينَ }. هاتانالجملتان شرطيّتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبراً محضاً لميكن فيه النسخ لكنّ الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النّسخ وهذا من ذلك ولذلك نسخ بقوله الآنخفف الله عنكم والتقييد بالصبر في أول كلّ شرط لفظاً هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى وتقييد الشرطالثاني بقوله: من الذين كفروا لفظاً هو محذوف من الشرط الأول في قوله: {يغلبوا مائتين} فانظر إلى فصاحة هذا الكلامحيث أثبت قيد من الجملة الأولى وحذف نظره من الثانية وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى ولما كان الصبرشديد المطلوبيّة أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله والله مع الصابرينمبالغةً في شدّة المطلوبيّة ولم يأتِ في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاءً بما قبل ذلك وتظاهرت الروايات عن ابن عباسوغيره من الصحابة أنّ ثبات الواحد للعشرة كان فرضاً لما شقّ عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقرّبأيضاً، وسواء كان فرضاً أم ندباً هو نسخ وقول من قال: إنه تخفيف لا نسخ كمكي بن طالب ضعيف، قالمكي: إنما هو كتخفيف الفطر في السفر ولو صام لم يأتم وأجزأه ومناسبة هذه الأعداد أنّ فرضيّة الثبات أو نديبتهكان أولاً في ابتداء الإسلام فكان العشرون تمثيلاً للسرية والمائة تمثيلاً للجيش فلما اتسع نطاق الإسلام وذلك بعد زمان كانالمائة تمثيلاً للسّرايا والألف تمثيلاً للجيش وليس في أمره تعالى نبيه بتحريض المؤمنين على القتال دليل على ابتداء فرضية القتالبل كان القتال مفترضاً قبل هذه الآية وإنما جاءت هذه حثًّا على أمر كان وجب عليهم ونصّ تعالى على سببالغلبة بأن الكفار قوم لا يفقهون، والمعنى أنهم قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فتفل نياتهم ويعدمونلجهلهم بالله نصرته فهو تعالى يخذلهم وذلك بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو موعود من الله بالنصر والغلبة، وعن ابنجريج: كان عليهم أن لا يفرّوا ويثبت الواحد للعشرة، وكان رسول لله ﷺ قد بعث حمزة فيثلاثين راكباً فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب، قيل ثم ثقل عليهم ذلك وضجّوا منه وذلك بعد مدّة طويلة فنسخوخفّف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين، وقال بعض العلماء الذي استقرّ حكم التكليف عليه بمقتضي هذه الآية إنّ كل مسلم بالغوقف بإزاء المشركين عبداً كان أو حرًّا فالهزيمة عله محرّمة ما دام معه سلاحه يقاتل به فإن كان ليس معهسلاح فله أن ينهزم وإن قابله ثلاثة حلّت له الهزيمة والصبر أحسن، وروى البيهقي وغيره: أنّ جيش مؤتة وكانوا ثلاثةآلاف من المسلمين وقفوا لمائتي ألف مائة ألف من الروم ومائة ألف من الأنباط وروي أنهم وقفوا لأربعمائة ألف والأوّلهو الصحيح وفي تاريخ فتح الأندلس أن طارقاً مولى موسى بن نصير سار في ألف رجل وسبعمائة رجل إلىالأندلس وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقى هو وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان فزحفإليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق وكان الفتح انتهى وما زالت جزيرة الأندلس تلتقي الشرذمة القليلة منهم بالعددالكثير من النصارى فيغلبونهم، وأخبرنا من حضر الوقعة التي كانت في الديموس الصغير على اثني عشر ميلاً من مدينة غرناطةسنة تسع عشرة وسبعمائة وكان المسلمون ألفاً وسبعمائة فارس من الأندلسيين والبربر وكان النصارى مائة ألف راجل وستين ألف رامٍوخمسة عشر ألف فارس بين رامٍ ومدرّع فصبروا لهم وأسروا أكابرهم وقتلوا ملك قشتالة دون جوان ونجا أخوه دون بطرمجروحاً وكان ملوك النصارى ملك قشتالة المذكور وملك إفرنسة وملك يوطقال وملك غلسية وملك قلعة رباح قد خرجوا عازمين علىاستئصال المسلمين من الجزيرة فهزمهم الله، قال الزمخشري: (فإن قلت): لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لالأكثر منها مرتينقبل التخفيف وبعده، (قلت): للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ولا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومةالعشرين للمائتين والمائة للألف فكذلك بين المائة للمائتين والألف للألفين انتهى، ومعنى {بإذن الله} بإرادته وتمكينه وفي قوله {والله معالصابرين} ترغيب في الثبات للقاء العدوّ وتبشير بالنصر والغلبة لأنه من كان الله معه هو الغالب، وقرأ الأعمش حرص بالصادالمهملة وهو من الحرص وهو قريب من قراءة الجمهور بالضّاد، وقرأ الكوفيون {يكن منكم مائة} على التذكير فيهما ورواها خارجةعن نافع، وقرأ الحرميان وابن عامر على التأنيث، وقرأ أبو عمر وعلى التذكير في الأول ولحظ يغلبوا والتأنيث في الثانيةولحظ {صابرة}، وقرأ الأعرج على التأنيث كلها إلا قوله: {وإن يكن منكم ألف} فإنه على التذكير بلا خلاف، وقرأ المفضلعن عاصم وعلم مبنيًّا للمفعول، وقرأ الحرميان والعربيّان والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق {ضعفاً}وفي الرّوم بضمّ الضاد وسكون العين وعيسى بن عمر بضمّهما وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين وهي كلها مصادر، وعنأبي عمرو بن العلاء ضمّ الضاد لغة الحجاز وفتحها لغة تميم، وقرأ ابن القعقاع {ضعفاً} جمع ضعيف كظريف وظرفاء وحكاهاالنّقّاس عن ابن عباس، فقيل الضّعف في الأبدان، وقيل في البصيرة والاستقامة في الذين وكانوا متفاوتين في ذلك، وقال الثعالبيالضّعف بفتح الضّاد في العقل والرأي والضعف في الجسم، وقال ابن عطية وهذا قول تردّه القراءة انتهى. {مَا كَانَلِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلاْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلاْخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ }.
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
عدل{لَّوْلاَ كِتَـٰبٌ مّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُواْ مِمَّاغَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. نزلت في أسرى بدر وكان الرسول صلى الله عليهوسلم قد استشار أبا بكر وعمر وعليًّا فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل في حديث طويل يوقف عليه في صحيحمسلم، وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفاً والمراد به في التنكير والتعريف الرسول ﷺولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً وتقدّم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي وهو هناعلى حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ فحذف اختصاراً ولذلك جاء الجمع في قوله تريدون عرضالدنيا ولم يجيء التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه ﷺ لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحربولا أراد عرض الدنيا قط، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب وقد طول المفسرون في قصّة هؤلاء الأسارى، وذلك مذكور فيالسّير وحذفناه نحن لان في بعضه ما لا يناسب ذكره بالنسبة إلى مناصب الرسل، وقرأ أبو عمرو أن تكون علىتأنيث لفظ الجمع وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى، وقرأ الجمهور والسبعة أسرى على وزن فعلى وهو قياس فعيلبمعنى مفعول إذا كان آفة كجريج وجرحى، وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم أسارى وشبه فعيل بفعلان نحو كسلانوكسالى كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعاً كسلى قاله سيبويه وهما شاذّان، وزعم الزجاج أن أسارى جمع أسرى فهوجمع جمع وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في فعلى أهو جمع أو اسم جمع وأنّ مذهب سيبويه أنه من أبنيةالجموع ومدلول أسرى وأسارى واحد، وقرأ أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثوقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون ربطاً،وحكى أبو حاتم أنه سمع ذلك من العرب وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش، وقال العرب: لا تعرف هذا كلاهماعندهم سواء، وقرأ أبو جعفر ويحيـى بن يعمر ويحيـى بن وثاب حتى يثخن مشدّداً عدوه بالتضعيف والجمهور بالتخفيف وعدوّه بالهمزةإذ كان قبل التعدية ثخن ومعنى عرض الدنيا ما أخذتم في فداء الأساري وكان فداء كل رجل عشرين أوقية، وفداءالعباس أربعون أوقية وعن ابن سيرين مائة أوقية، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير، وكانوا مالوا إلى الفداء ليقووا ما يصيبونهعلى الجهاد وإيثاراً للقرابة ورجاء الإسلام وكان الإثخان والقتل أهيب للكفار وأرفع لمنار الإسلام وكان ذلك إذ المسلمون قليل فلمااتسع نطاق الإسلام وعزّ أهله نزل فإما منا بعد وإما فداء، وقرىء يريدون بالياء من تحت وسمى عرضاً لأنه حدثقليل اللبث، وقرأ الجمهور الآخرة بالنصب، وقرأ سليمان بن جمار المدنيّ بالجرّ واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف فمنهم من قدّرهعرض الآخرة، قال: وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه، قال بعضهم: وقد حذف العرض في قراءة الجمهور وأقيم المضاف إليه مقامهفي الإعراب فنصب وممن قدّره عرض الآخرة الزمخشري قال على التقابل يعني ثوابها انتهى. ونعني أنه لما أطلق على الفداءعرض الدنيا أطلق على ثواب الآخرة عرضاً على سبيل التقابل لا أن ثواب الآخرة زائل فإن كعرض الدنيا فسُمّي عرضاًعلى سبيل التقابل وإن كان لولا التقابل لم يسمَّ عرضاً وقدّره بعضهم عمل الآخرة أي المؤدّي إلى الثواب في الآخرةوكلهم جعله كقوله:
ونار توقد بالليل ناراً. |
ويعنون في حذف المضاف فقط وإبقاء المضاف إليه على جرّه لأن جرّمثل ونار جائز فصيح وذلك إذا لم يفصل بين المجرور وحرف العطف أو فصل بلا نحو ما مثل زيد ولاأخيه يقولان ذلك وتقدم المحذوف مثله لفظاً ومعنى وأما إذا فصل بينهما بغير لا كهذه القراءة فهو شاذّ قليل، واللهعزيز ينصر أولياءه ويجعل الغلبة لهم ويمكّنهم من أعدائهم قتلاً وأسراً حكيم يضع الأشياء مواضعها، قال ابن عباس ومقاتل لولاأنّ الله كتب في أمّ الكتاب أنه سيحلّ لكم الغنائم لمسّكم فيما تعجّلتم منها ومن الفداء يوم بدر قبل أنتؤمروا بذلك عذاب عظيم، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد: لو سبق أنه يعذبّ من أتى ذنباً على جهالة لعوقبتم، وقالعلي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وابن إسحاق: سبق أن لا يعذّب إلا بعد النهي ولم يكننهاهم، وقال الحسن وابن جبير وابن زيد وابن أبي نجيح عن مجاهد لولا ما سبق لأهل بدر إنّ الله لايعذبهم لعذّبهم، وقال الماورديّ لولا أن القرآن اقتضى غفران الصغائر لعذبهم، وقال قوم: الكتاب السابق عفوه عنهم في هذا الذنبمعيناً، وقيل: هو أن لا يعذبهم والرسول فيه، وقيل: ما كتبه على نفسه من الرحمة. وقيل: سبق أنه لا يضلّقوماً بعد إذ هداهم، وقيل: سبق أنه سيحلّ لهم الغنائم والفداء، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن، وقيل: سبق أنيغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر لعذّبكم بأخذ الغنائم، واختاره النحاس، وقال قوم: الكتاب السابق هو القرآن والمعنى لولا الكتاب الذيسبق فآمنتم به وصدّقتم لمسّكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة، وقال الزمخشري: لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح وهوأن لا يعاقب أحداً بخطأ وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهموتوبتهم وأنّ فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عنهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهْيب لمن وراءهم وأفللشوكتهم انتهى. وروي لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر وفي حديث آخر وسعد بن معاذ وذلك أنرأيهما كان أن تقتل الأسارى. والذي أقوله أنهم كانوا مأمورين أوّلاً بقتل الكفار في غير ما آية كقوله { واقتلوهم حيث وجدتموهم } { واقتلوهم حيث ثقفتموهم }فلما كانت وقعة بدر وأسروا جماعة من المشركين اختلفوا في أخذ الفداء منهم وفي قتلهم فعوتبمن رأى الفداء إذ كان قد تقدّم الأمر بالقتل حيث لم يستصحبوا امتثال الأمر ومالوا إلى الفداء وحرصوا على تحصيلالمال ألا ترى إلى قول المقداد حين أمر الرسول ﷺ بقتل عقبة بن أبي معيط قال: أسيرييا رسول الله، وقول مصعب بن عمير لمن أسر أخاه: شدّ يدك عليه فإن له أما مؤسرة، ثم بعد هذهالمعاتبة أمر الرسول بقتل بعض والمنّ بالإطلاق في بعض والفداء في بعض فكان ذلك نسخاً لتحتّم القتل، ثم قال تعالى:{لولا كتاب من الله سبق} في تأييدكم ونصركم وقهركم أعداءكم حتى استوليتم عليهم قتلاً وأسراً ونهباً على قلّة عددكم وعددكم{لمسكم فيما أخذتم} من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم منهم لكونهم كانوا أكثر عدداً منكم وعدداً ولكنه سهل تعالى عليكم ولميمسّكم منهم عذاب لا بقتل ولا أسر ولا نهب وذلك بالحكم السابق في قضائه أنه يسلّطكم عليهم ولا يسلّطهم عليكمفليس المعنى لمسكم من الله وإنما المعنى لمسكم من أعدائكم كما قال: { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } وقال: { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } ثم قال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيّباً } أيمما عنمتم ومنه ما حصل بالفداء الذي أقره الرسول ﷺ وقال لا يفلتن منهم رجل إلا بفديةأو ضرب عنق وليس هذا الأمر منشأً لإباحة الغنائم إذ قد سبق تحليلها قبل يوم بدر ولكنه أمر يفيد التوكيدواندراج مال الفداء في عموم ما غنمتم إذ كان قد وقع العتاب في الميل للفداء ثم أقرّه الرسول وانتصب {حلالاً}على الحال من ما إن كانت موصولة أو من ضميره المحذوف أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أكلاً حلالاًوجوّزوا في ما إن تكون مصدرية وروي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها فنزلت، وجعل الزمخشري قوله {فكلوا}متسبّباً عن جملة محذوفة هي سبب وأفادت ذلك الفاء وقدّرها قد أبحت لكم الغنائم فكلوا، وقال الزجاج الفاء للجزاء والمعنىقد أحللت لكم الفداء فلكوا وأمر تعالى بتقواه لأن التقوى حاملة على امتثال أمر الله وعدم الإقدام على ما لميتقدّم فيه إذن ففيه تحريض على التقوى من مال إلى الفداء ثم جاءت الصفتان مشعرتين بغفران الله ورحمته عن الذينمالوا إلى الفداء قبل الإذن، وقال الزمخشري: معناه إذا اتقيتموه بعدما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكمفيه غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم، وقال ابن عطية: وجاء قوله {واتقوا الله} اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول لأن قوله {إن الله غفور رحيم} هو متصل بقوله {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً}، وقيل غفور لما أتيتم رحيم بإحلال ما غنمتم.
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
عدل{رَّحِيمٌ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ ٱلاْسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِيقُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ }. نزلت هذه الآية عقيب بدر في أسرى بدر أعلمواأنّ لهم ميلاً إلى الإسلام وأنهم يؤملونه إن فدوا ورجعوا إلى قومهم، وقيل في عباس وأصحابه قالوا للرسول: آمنا بماجئت ونشهد أنك روسل الله لننصحن لك على قومنا ومعنى في أيديكم أي ملكتكم كان الأيدي قابضة عليهم والصحيح أنالأسارى كانوا سبعين والقتلى سبعين كما ثبت في صحيح مسلم وهو قول ابن عباس وابن المسيب وأبي عمرو بن العلاء،وكان عليهم حين جيء بهم إلى المدينة شقران مولى رسول الله ﷺ، وقال مالك: كانوا مشركين ومنهمالعباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان قصيراً والعباس ضخم طويل فلما جاءبه قال الرسول ﷺ: لقد أعانك عليه ملك وعن العباس كنت مسلماً ولكنهم استكرهوني فقال رسول اللهﷺ: إن يكن ما تقول حقًّا فالله يجريك فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا وكان أحد الذينضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك، وروي أن رسول الله ﷺ قال للعباس لهند ابني أخيكعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث، فقال يا محمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال له: أين المال الذيدفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بيحدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس: وما يدريك قال: أخبرني به ربي، قال العباس: فأنا أشهدأنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنت عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليهافي سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب، قال العباس فأبدلني الله خيراً منذلك لي الآن عشرون عبداً إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموالمكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي، وروي أنه قدم على رسول الله ﷺ مال البحرين ثمانون ألفاًفتوضّأ لصلاة الظهر وما صل حتى فرّقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول: هذاخير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ومعنى إنْ يعلم الله أنْ يتبين للناس علم الله في قلوبكم خيراً أي إسلاماًكما زعمتم بأن تظهروا الإسلام فإنه سيعطيكم أفضل مما أخذ منكم بالفداء وسيغفر لكم ما اجترحتموه فإن الإسلام يحب ماقبله، وقرأ الجمهور من الأسرى وابن محيصن من أسرى منكراً وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبوعمرو من السبعة من الأسارى واختلف عن الحسن وعن الجحدري، وقرأ الأعمش يثبكم خيراً من الثواب، وقرأ الحسن وأبو حيوةوشيبة وحميد مما أخذ مبنياً للفاعل، وإيتاء هذا الخير، قيل في الدنيا وقيل في الآخرة، وقيل فيهما والظاهر أن الضميرفي وإن يريدوا على الأسرى لأنه أقرب مذكور، والخيانة هي كونهم أظهر الإسلام بعضهم ثم ردّوا إلى دينهم فقد خانواالله لخروجهم مع المشركين، وقال الكرماني: وإن يريدوا يعني الأسرى خيانتك يعني نقض ما عهدوا معك فقد خانوا الله بالكفروالشكر قبل العهد، وقيل: قبل بدر فأمكن منهم أو فأمكنك منهم وهزمتهم وأسرتهم، وقال الزمخشري: خيانتك أي ينكث ما بايعوكعليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم فقد خانوا الله من قبل في كفرهم ونقض ما أخذ على كلّ عاقلمن مشاقّه فأمكن منهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة، وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا منالفداء، وقال ابن عطية: إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلايسرّهم ذلك ولا يسكنون إليه فإن الله بالمرصاد فهم الذين خانوه بكفرهم وتركهم النّظر في آياته وهو قد بيّنها لهموجعل لهم إدراكاً يحصلونها به فصار ذلك كعهد متقرّر فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكّن منهم المؤمنين وجعلهم أسرىفي أيديهم والله عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم انتهى، وقيل الضمير في وإن يريدوا عائدعلى الذين قيل في حقهم:
{ وإن جنحوا للسلم }
أي وإن يريدوا خيانتك في إظهار الصّلح والجمهور على أن الضمير في{وإن يريدوا} عائد على الأسرى، وروي عن قتادة: إن هذه الآية في قصة عبد الله بن أبي سرح فإن كانقال ذلك على سبيل التمثيل فيمكن، وإن كان على سبيل أنها نزلت في ذلك فلا لأنه إنما بيّن أمره فيفتح مكة وهذه نزلت عقيب بدر.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
عدل{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْأُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }. قسّم الله المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصلالإسلام وأول من استجاب الله فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلىالمدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدّين من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلىيوم القيامة وثنّى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال لكنه عادل الهجرة إلا بواء والنصر وانفرد المهاجرونبالسبق وذكر ثالثاً من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا ومعنى {أولياء بعض} فيالنصرة والتعاون والموازرة، كما جاء في غير آية نحو
{ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }
. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة:ذلك في الميراث آخى الرسول ﷺ بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكنله بالمدينة وليّ مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري. قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتحمكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة فمعنى ما لكم من ولايتهم من شيء نفي الموالاة في التوارث وكانقوله: وأولوا الأرحام بعضهم أولى نسخاً لذلك وعلى القول الأوّل يكون المعنى في نفي الولاية على أنها صفة للحال إذلا يمكن ولايته ونصره لتباعد ما بين المهاجرين وبينهم وفي ذلك حضّ للأعراب على الهجرة، قيل ولا يجوز أن تكونالموالاة لأنه عطف عليه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غيرالنّصرة انتهى. ولما نزل {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} قال الزبير هل نعينهم على أمر إن استعانوابنا فنزل {وإن استنصروكم} ومعنى ميثاق عهد لأن نصركم إياهم نقض للعهد فلا تقاتلون لأنّ الميثاق مانع من ذلك وخصّالاستنصار بالدين لأنه بالحمية والعصبية في غير الدين منهى عنه وعلى تقتضي الوجوب ولذلك قدّره الزمخشري بقوله: فواجب عليكم أنتنصروهم. وقال زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم | وعند المقلّين السماحة والبذل |
وقرأ الأعمشوابن وثاب وحمزة {ولايتهم} بالكسر وباقي السبعة والجمهور بالفتح وهما لغتان قاله الأخفش، ولحن الأصمعي الأخفش في قراءته بالكسر وأخطأفي ذلك لأنها قراءة متواترة، وقال أبو عبيدة بالكسر من ولاية السلطان وبالفتح من المولى يقال مولى بين الولاية بفتحالواو، وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال: ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضاً جنساًمن الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال: وقرىء {من ولايتهم}بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاولأمراً ويباشر عملاً، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا، وفي الكهف لأنّ معناهما منالموالاة لأنها في الدين، وقال الفرّاء: يريد من مواريثهم فكسر الواو وأجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانتنصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعاً، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياءعلى الغيبة.
{ وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }
عدل{وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } وقرأت فرقة أولى ببعض. قال ابن عطية:هذا الجمع الموارثة والمعاونة والنصرة، وقال الزمخشري ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله في المسلمين ومعناه نهي المسلمين عن الموالاة الذينكفروا وموارثيهم وإيجاب مساعدتهم ومصادقتهم وإن كانوا أقارب وإن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً. وقال غيره: لما ذكر أقسام المؤمنين الثلاثةوأنهم أولياء ينصر بعضهم بعضاً ويرث بعضهم بعضاً بين أن فريق الكفار كذلك إذ كانوا قبل بعثة الرسول صلى اللهعليه وسلم ينادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربّصون بهم الدوائر فصاروا بعد بعثه يوالي بعضهم بعضاً وإلباً واحداً على الرسولصوناً على رئاساتهم وتحزّباً على المؤمنين. {أَن لا * تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلاْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }. الضمير المنصوبفي {تفعلوه} عائد على الميثاق أي على حفظه أو على النصر أو على الإرث أو على مجموع ما تقدم أقوالأربعة، وقال الزمخشري: أي إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاًلنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرضومفسدة عظيمة لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً، وقال ابن عطية: والفتنةالمحنة بالحرب وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر والفساد الكبير ظهور الشّرك، وقال البغوي: الفتنة في الأرض قوّة الكفروالفساد الكبير ضعف الإسلام، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي: كثير بالثاء المثلثة وروي أن الرسول ﷺفرأ وفساد عريض.
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
عدل{وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَحَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }. هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرة إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليستتكراراً لأن السابقة تضمنت ولاية بعضهم بعضاً وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم وهذه تضمنت الثناءوالتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم وتقدم تفسير أواخر نظيرة هذه الآية في أوائل هذه السورة.
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
عدل{وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ }. يعني الذين لحقوابالهجرة من سبق إليها فحكم تعالى بأنهم من المؤمنين السابقين في الثواب والأجر وإن كان للسابقين شفوف السّبق وتقدّم الإيمانوالهجرة والجهاد ومعنى {من بعد} من بعد الهجرة الأولى وذلك بعد الحديبية قاله ابن عباس، وزاد ابن عطية وبيعة الرضوانوذلك أنّ الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك وكان يقال لها الهجرة الثانية لأن الحربوضعت أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة. وبه قال عليه السلام: {لا هجرة بعد الفتح}. وقال الطبري: {من بعد}ما بينت حكم الولاية فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية فأخبر تعالى في هذه الآية أنهم من الأولين في الموازرةوسائر أحكام الإسلام، وقيل: من بعد يوم بدر، وقال الأصمّ: من بعد الفتح وفي قوله {معكم} إشعار أنهم تبع لاصدر كما قال فأولئك مع المؤمنين وكذلك فأولئك منكم كما جاء مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم. {وَأُوْلُوٱلاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ * أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ }. أي وأصحاب القرابات ومن قال: إنّقوله في المؤمنين المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض في المواريث بالأخوة التي كانت بينهم، قال: هذه في المواريث وهي نسخللميراث بتلك الأخوة وإيجاب أن يرث الإنسان قريبة المؤمن وإن لم يكن مهاجراً واستدلّ بها أصحاب أبي حنيفة على توريثذوي الأرحام، وقالت فرقة منهم: مالك ليست في المواريث وهذا فرار عن توريث الخال والعمّة ونحو ذلك، وقالت فرقة: هيفي المواريث إلا أنها نسختها آية المواريث المبيّنة، والظاهر أنّ {كتاب الله} هو القرآن المنزّل وذلك في آية المواريث، وقيل:في كتاب الله السابق، اللوح المحفوظ، وقيل: في كتاب الله في هذه الآية المنزلة، وقال الزجاج: في حكمه، وتبعه الزمخشري،فقال في حكمه وقسمته وختم السورة بقوله {إنّ الله بكلّ شيء عليم}، في غاية البراعة إذ قد تضمنت أحكاماً كثيرةفي مهمّات الدين وقوامه وتفصيلاً لأحوال، فصفة العلم تجمع ذلك كله وتحيط بمبادئه وغاياته.