تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة البروج

{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } * { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } * { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } * { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } * { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } * { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } * { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } * { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } * { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } * { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } * { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } * { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ } * { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } * { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } * { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ } * { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } * { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ } * { وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } * { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } * { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } الأخدود: الخد في الأرض، وهو الشق ونحوهما بناء، ومعنى الخق والأخقوق، ومنه:فساحت قوائمـهفي أخـافيق جـردان {وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ * وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ * وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلاْخْدُودِ * ٱلنَّارِ ذَاتِٱلْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْبِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ * ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ * إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ * إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ جَنَّـٰتٌ تَجْرِىمِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ * وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ* ذَوَا * ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ * هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ ٱلَّذِينَكَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ * وَٱللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ }. هذهالسورة مكية. ومناسبتها لما قبلها: لما ذكر أنه تعالى أعلم بما يجمعون للرسول وللمؤمنين من المكر،والخداع، وإذاية من أسلم بأنواع من الأذى، كالضرب، والقتل، والصلب، والحرق بالشمس، وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوهعليه؛ ذكر أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم يعذبون بالنار، وأن أولئك الذين أعرضوا على النار كان لهممن الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم أو يحرموا، وأن أولئك الذين عذبوا عباد الله ملعونون، فكذلكالذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ملعونون. فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذب. {ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ }، قال ابنعباس والجمهور: هي المنازل التي عرفتها العرب، وهي اثنا عشر على ما قسمته، وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمرفي ثمانية وعشرين يوماً. وقال عكرمة والحسن ومجاهد: هي القصور. وقال الحسن ومجاهد أيضاً: هي النجوم. وقيل: عظام الكواكب، سميتبروجاً لظهورها. وقيل: هي أبواب السماء؛ وقد تقدم ذكر البروج في سورة الحجر. {وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ }: هو يوم القيامة، أيالموعود به.{وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ }: هذان منكران، وينبغي حملهما على العموم لقوله: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } ، وإن كان اللفظ لايقتضيه، لكن المعنى يقتضيه، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي. فإذا لوحظ فيها معنى العموم، اندرج فيها المعرفةفحسن القسم. وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة، كقوله: { وَٱلطُّورِ وَكِتَـٰبٍ مُّسْطُورٍ } ، ولأنه إذاحمل {وَكِتَـٰبٍ مُّسْطُورٍ } على العموم دخل فيه معنيان: الكتب الإلهية، كالتوراة والإنجيل والقرآن، فيحسن إذ ذاك القسم به.ولما ذكر واليوم الموعود، وهو يوم القيامة باتفاق، وروي ذلك عن النبي ، ناسب أن يكون المقسمبه من يشهد في ذلك اليوم ومن يشهد عليه. إن كان ذلك من الشهادة، وإن كان من الحضور، فالشاهد: الخلائقالحاضرون للحساب، والمشهود: اليوم، كما قال تعالى: { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } ، كان موعوداً به فصارمشهوداً، وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيينهما. وعن ابن عباس: الشاهد: الله تعالى؛ وعنه وعن الحسن بن علي وعكرمة:الرسول ؛ وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار: آدم عليه السلام وذريته؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن:الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة، وفي كل قوم منها المشهود يوم القيامة؛ وعن علي وابن عباس وأبي هريرة والحسن وابنالمسيب وقتادة: وشاهد يوم الجمعة؛ وعن ابن المسيب: يوم التروية؛ وعن علي أيضاً: يوم القيامة؛ وعن النخعي: يوم الأضحى. ومشهودفي هذه الأقوال يوم عرفة؛ وعن ابن عمر: يوم الجمعة، ومشهود يوم النحر؛ وعن جابر: يوم الجمعة، ومشهود الناس؛ وعنمحمد بن كعب: ابن آدم، ومشهود الله تعالى؛ وعن ابن جبير: عكس هذا؛ وعن أبي مالك: عيسى، ومشهود أمته، وعنعلي: يوم عرفة، ومشهود يوم النحر؛ وعن الترمذي: الحكيم الحفظة، ومشهود عليهم: الناس؛ وعن عبد العزيز بن يحيـى: محمد صلىالله عليه وسلم، ومشهود عليه أمته؛ وعنه: الأنبياء، ومشهود أممهم؛ وعن ابن جبير ومقاتل الجوارح يوم القيامة، ومشهود أصحابها. وقيل:هما يوم الاثنين ويوم الجمعة. وقيل: الملائكة المتعاقبون وقرآن الفجر. وقيل: النجم والليل والنهار. وقيل: الله والملائكة وأولو العلم، ومشهودبه الوحدانية، و { إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ } . وقيل: مخلوقاته تعالى، ومشهود به وحدانيته. وقيل: هما الحجر الأسود والحجج. وقيل:الليالي والأيام وبنو آدم. وقيل: الأنبياء ومحمد ؛ وهذه أقوال سبعة وعشرون لكل منها متمسك، وللصوفية أقوالغير هذه. والظاهر ما قلناه أولاً، وجواب القسم قيل محذوف، فقيل: لتبعثن ونحوه. وقال الزمخشري: يدل عليه {قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلاْخْدُودِ}. وقيل: الجواب مذكور فقيل: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ }. وقال المبرد: {إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ }. وقيل: قتل وهذا نختارهوحذفت اللام أي لقتل، وحسن حذفها كما حسن في قوله: { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَـٰهَا } ، ثم قال: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا } ،أي لقد أفلح من زكاها، ويكون الجواب دليلاً على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله، وتنبيهاًلكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم، على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين. وإذا كان{قَتْلَ } جواباً للقسم، فهي جملة خبرية، وقيل: دعاء، فكون الجواب غيرها. وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد، والجمهور بالتخفيف.وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالاً فوق العشرة، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا؛ ومضنهاأن ناساً من الكفار خدوا أخدوداً في الأرض وسجروه ناراً وعرضوا المؤمنين عليها، فمن رجع عن دينه تركوه، ومن أصرّعلى الإيمان أحرقوه؛ وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين. وقال الربيع وأبو العالية وابن إسحاق: بعث الله على المؤمنين ريحاً فقبضتأرواحهم أو نحو هذا، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنىاللعن، ويكون خبراً عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم. وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهورولما دل عليه القصص الذي ذكروه. وقرأ الجمهور: {ٱلنَّارِ } بالجر، وهو بدل اشتمال، أو بدل كل من كل علىتقدير محذوف، أي أخدود النار. وقرأ قوم النار بالرفع. قيل: وعلى معنى قتلهم، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين، وقتلعلى حقيقته. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى: الوقود بضم الواو وهو مصدر، والجمهور: بفتحها، وهو ما يوقد به.وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضاً مصدر كالضم. والظاهر أن الضمير في {إِذْ هُمْ } عائد على الذين يحرقون المؤمنين،وكذلك في {وَهُمْ } على قول الربيع يعود على الكافرين، ويكون هم أيضاً عائداً عليهم، ويكون معنى {عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ}: ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين. وقيل: أصحاب الأخدود محرق، وتم الكلام عند قوله: {ذَاتِ ٱلْوَقُودِ }، ويكون المراد بقوله:{وَهُمْ } قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات، وإذا العامل فيه قتل، أي لعنوا وقعدوا على النار، أو على مايدنو منها من حافات الأخدود، كما قال الأعشى:

تشب لمقرورين يصطليانها     وبات على النار الندى والمحلق

{شُهُودٌ }: يشهد بعضهم لبعض عند الملك، أي لم يفرط فيما أمر به، أو شهود يوم القيامة علىما فعلوا بالمؤمنين، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم. وقرأ الجمهور: {نَقَمُواْ } بفتح القاف؛ وزيد بن عليّ وأبو حيوة وابنأبي عبلة: بكسرها، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان، كقوله: { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ } ، وكقول قيسالرقيات:

ما نقموا من بني أمية إلا     أنهم يحلمون أن غضبوا

جعلواما هو في غاية الحسن قبيحاً حتى نقموا عليه، كما قال الشاعر:

ولا عيب فيها غير شكلة عينها     كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها

وفي المنتخب: إنما قال {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ }، لأن التعذيب إنماكان واقعاً على الإيمان في المستقبل، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى، فكأنه قال: إلا أن يدعواعلى إيمانهم. انتهى. وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به، وهو كونه تعالى عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه،حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته، له ملك السموات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريراًلأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي. {وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ}: وعيد لهم، أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم. والظاهر أن {ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ } عام في كل من ابتلىالمؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى، وأن لهم عذابين: عذاباً لكفرهم، وعذاباً لفتنتهم. وقال الزمخشري: يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحابالأخدود خاصة، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود، ومعنى فتنوهم: عذبوهم بالنار وأحرقوهم، {فَلَهُمْ } في الآخرة {عَذَابَ جَهَنَّمَ } بكفرهم،{وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ }: وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذابالحريق في الدنيا لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، انتهى. وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوّزه، لأن فيالآية {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ }، وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحداً منهم تاب، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلاوهم قد ماتوا على الكفر. وقال ابن عطية: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } يقوي أن الآيات في قريش، لأن هذا اللفظفي قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم. وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآيةمن تاب وآمن، انتهى. وكذلك قوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }، المراد به العموم لا المطروحون في النار، والبطش: الأخذ بقوة.{يُبْدِىء وَيُعِيدُ }، قال ابن زيد والضحاك: يبدىء الخلق بالإنشاء، ويعيده بالحشر. وقال ابن عباس: عام في جميع الأشياء، أيكلّ ما يبدأ وكل ما يعاد. وقال الطبري: يبدىء العذاب ويعيده على الكفار؛ ونحوه عن ابن عباس قال: تأكلهم النارحتى يصيروا فحماً، ثم يعيدهم خلقاً جديداً. وقرىء: يبدأ من بدأ ثلاثياً، حكاه أبو زيد. ولما ذكر شدّة بطشه،ذكر كونه، غفوراً ساتراً لذنوب عباده، ودوداً لطيفاً بهم محسناً إليهم، وهاتان صفتا فعل. والظاهر أن الودود مبالغة في الوادّ؛وعن ابن عباس: المتودد إلى عباده بالمغفرة. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولدله، وأنشد:

وأركب في الروع عريانة     ذلول الجماع لقاحاً ودودا

أي: لاولد لها تحن إليه. وقيل: الودود فعول بمعنى مفعول، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون. {ذُو ٱلْعَرْشِ }: خص العرشبإضافة نفسه تشريفاً للعرش وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات. وقرأ الجمهور: {ذُو } بالواو؛ وابن عامر في رواية: ذي بالياء،صفة لربك. وقال القفال: {ذُو ٱلْعَرْشِ }: ذو الملك والسلطان. ويجوز أن يراد بالعرش: السرير العالي، ويكون خلق سريراً فيسمائه في غاية العظمة، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه، انتهى. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابنوثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان: {ٱلْمَجِيدِ } بخفض الدال، صفة للعرش، ومجادته: عظمه وعلوّه ومقداره وحسن صورته وتركيبه، فإنهقيل: العرش أحسن الأجسام صورة وتركيباً. ومن قرأ: ذي العرش بالياء، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي، والأحسن جعلهذه المرفوعات أخباراً عن هو، فيكون {فَعَّالٌ }خبراً. ويجوز أن يكون {ٱلْوَدُودُ * ذُو ٱلْعَرْشِ } صفتين للغفور، و{فَعَّالٌ }خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة، والمعنى: أن كل ما تعلقت به إرادته فعلهلا معترض عليه. {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ }: تقرير لحال الكفرة، أي قد أتاك حديثهم، وما جرى لهم معأنبيائهم، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم. والجنود: الجموع المعدّةللقتال. {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ }: بدل من {ٱلْجُنُودِ }، وكأنه على حذف مضاف، أي جنود فرعون، واختصر ما جرى لهم إذهم مذكورون في غير ما سورة من القرآن. وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدّمة، وذكر فرعون لشهرةقصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضاً. ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله:

ألم تر أن الله أهلك تبعا     وأهلك لقمان بن عاد وعاديا وأهلك ذا القرنين من قبل ما لوى

وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك، فدل بقصته وقصة ثمود علىأمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم. {بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: أي من قومك، {فِى تَكْذِيبٍ }: حسداً لك، لم يعتبروابما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم. {وَٱللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ }: أي هو قادر على أن ينزل بهم ماأنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطاً به، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعاً، والمعنى: دنو هلاكهم. ولما ذكرأنهم في تكذيب، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم، وكان قد كذبوه وكذبوا ما جاءبه وهو القرآن، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ }: أي بل الذي كذبوا بهقرآن مجيد، ومجادته: شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه. وقرأ الجمهور:{بَلْ هُوَ }: موصوف وصفة. وقرأ ابن السميفع: {بَلْ هُوَ } بالإضافة، قال ابن خالويه: سمعت ابن الأنباري يقول معناه:بل هو قرآن رب مجيد، كما قال الشاعر:

ولكن الغنـي رب غفور    

معناه: ولكن الغنى غنى رب غفور، انتهى. وعلىهذا أخرجه الزمخشري. وقال ابن عطية: وقرأ اليماني: قرآن مجيد على الإضافة، وأن يكون الله تعالى هو المجيد، انتهى. ويجوزأن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته؛ فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع مجيد واحداً، وهذا أولى لتوافق القراءتين. وقرأ الجمهور:{فِى لَوْحٍ } بفتح اللام، {مَّحْفُوظٍ } بالخفض صفة للوح، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء. وقرأ ابن يعمروابن السميفع: بضم اللام. قال ابن خالويه: اللوح: الهواء. وقال الزمخشري: يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظمن وصول الشياطين إليه، انتهى. وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه: محفوظ بالرفع صفة لقرآن، كماقال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ }، أي هو محفوظ في القلوب، لا يلحقه خطأ ولا تبديل.