تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة التغابن

{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } * { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } * { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } * { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } * { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } * { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } التغابن: تفاعل من الغبن وليس من اثنين، بل هو من واحد، كتواضح وتحامل.والغبن: أخذ الشيء بدون قيمته، أو بيعه كذلك. وقيل: الغبن: الإخفاء، ومنه غبن البيع لاستخفائه، ويقال: غبنت الثوب وخبنته، إذاأخذت ما طال منه عن مقدارك، فمعناه النفص. {يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ *لَهُ ٱلْمُلْكُوَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ * شَىْء قَدِيرٌ * هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *خُلِقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ بِٱلْحَقّ * وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَيَعْلَمُمَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْعَذَابٌ أَلِيمٌ * ذٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ *زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ * فَـئَامِنُواْ}. هذه السورة مدنية في قول الأكثرين. وقال ابن عباس وغيره: مكية إلا آيات من آخرها: {ٱلْمُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوٰجِكُمْ }الخ، نزلت بالمدينة. وقال الكلبي: مدينة ومكية. ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أن ما قبلهامشتمل على حال المنافقين، وفي آخرها خطاب المؤمنين، فأتبعه بما يناسبه من قوله: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ}، هذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله: كل مولود يولد على الفطرة، وقولهتعالى: فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا . وقيل: ذانك في أصل الخلقة، بدليل ما في حديث النطفة من قولالملك: أشقيّ أم سعيد؟ والغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع يوم طبع كافراً. وما روى ابن مسعود أنهعليه الصلاة والسلام قال: خلق الله فرعون في البطن كافراً . وحكى يحيـى بن زكريا: في البطن مؤمناً. وعن عطاء بنأبي رباح: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ } بالله، {مُؤْمِنٍ } بالكواكب؛ ومؤمن بالله وكافر بالكوكب. وقدّم الكافر لكثرته. ألا ترى إلى قولهتعالى: { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ } ؟ وحين ذكر الصالحين قال: { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } . وقال الزمخشري: فمنكم آت بالكفر وفاعلله، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ }، والدليلعليه قوله تعالى: {وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }: أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من قبلكم، والمعنى: الذي تفضل عليكمبأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين. انتهى، وهوعلى طريقة الاعتزال. وقال أيضاً: وقيل: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ } بالخلق: هم الدهرية، {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } به. وعنالحسن: في الكلام حذف دل عليه تقديره: ومنكم فاسق، وكأنه من كذب المعتزلة على الحسن. وتقدم الجار والمجرور في قوله:{لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ }، قال الزمخشري: ليدل بتقدمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأن الملكعلى الحقيقة له، لأنه مبدىء كل شيء ومبدعه، والقائم به المهيمن عليه؛ وكذلك الحمد، لأن أصول النعم وفروعها منه. وأماملك غيره فتسليط منه، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده. وقرأ الجمهور: {صُوَرَكُمْ } بضم الصاد؛ وزيدبن عليّ وأبو رزين: بكسرها، والقياس الضم، وهذا تعديد للنعمة في حسن الخلقة، لأن أعضاء بني آدم متصرّفة بجميع ماتتصرّف فيه أعضاء الحيوان، وبزيادة كثيرة فضل بها. ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح، كما قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } . وقيل: النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل، فهذا هوالذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل، لا المعنى القائم بالصورة. ونبهتعالى بعلمه بما في السموات والأرض، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنهتعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله، ثم بخاص العبادمن سرّهم وإعلانهم، ثم ما خص منه، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها، وهذا كله في معنىالوعيد، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب. وقرأ الجمهور: {مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } بتاء الخطاب؛ وعبيدعن أبي عمرو، وأبان عن عاصم: بالياء. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ }: الخطاب لقريش، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمودوقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها، وقد سمعت قريش أخبارهم، {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ }: أي مكروههموما يسوؤهم منه. {ذٰلِكَ }: أي الوبال، {بِأَنَّهُ }: أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشررسولاً، كما استبعدت قريش، فقالوا على سبيل الاستغراب: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا }، وذلك أنهم يقولون: نحن متساوون في البشرية، فأنى يكونلهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا؟ وارتفع {أَبَشَرٌ } عند الجوفي وابن عطية على الابتداء، والخبر {يَهْدُونَنَا }، والأحسنأن يكون مرفوعاً على الفاعلية، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل، فالمسألة من باب الاشتغال. {فَكَفَرُواْ }: العطف بالفاء يدل علىتعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها، بل عقبوا مجيئها بالكفر، {وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ }:استفعل بمعنى الفعل المجرد، وغناه تعالى أزلي، فالمعنى: أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم، وليست استفعل هنا للطلب. وقالالزمخشري: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك. انتهى، وفيه دسيسةالاعتزال. والزعم: تقدم تفسيره، والذين كفروا: أهل مكة، وبلى: إثبات لما بعد حرف النفي، {وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }: أيلا يصرفه عنه صارف. {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ }: وهو محمد ، {وَٱلنّورِ ٱلَّذِى أَنزَلْنَا }: هوالقرآن، وانتصب {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ }، أو بخبير، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء، أو باذكر مضمرة، قالهالزمخشري؛ والأول عن النحاس، والثاني عن الحوفي. وقرأ الجمهور: يجمعكم بالياء وضم العين؛ وروي عنه سكونها وإشمامها الضم؛ وسلام ويعقوبوزيد بن علي والشعبي: بالنون. {لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ }: يجمع فيه الأولون والآخرون، وذلك أن كل واحد يبعث طامعاً في الخلاصورفع المنزلة. {ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ }: مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً، لأن السعداء نزلوامنازل الأشقياء لو كانوا سعداء، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء، وفي الحديث: ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ، وذلك معنى يوم التغابن. وعن مجاهد وغيره: إذا وقع الجزاء، غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفارفي النار. وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن عليّ والحسن بخلاف عنه:نكفر وندخله بالنون فيهما؛ والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة: بالياء فيهما. قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ * وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰرَسُولِنَا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ * ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلْمُؤْمِنُونَ * يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمِنْ أَزْوٰجِكُمْ وَأَوْلـٰدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُعِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ* إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَـٰعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.الظاهر إطلاق المصيبة على الرزية وما يسوء العبد، أي في نفس أو مال أو ولد أو قول أو فعل،وخصت بالذكر، وإن كان جميع الحوادث لا تصيب إلا بإذن الله. وقيل: ويحتمل أن يريد بالمصيبة الحادثة من خير وشر،إذ الحكمة في كونها بأذن الله. وما نافية، ومفعول أصاب محذوف، أي ما أصاب أحداً، والفاعل من مصيبة، ومن زائدة،ولم تلحق التاء أصاب، وإن كان الفاعل مؤنثاً، وهو فصيح، والتأنيث لقوله تعالى: { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } ، وقوله: { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِـئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } ، أي بإرادته وعلمه وتمكينه. {وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ }: أي يصدقبوجوده ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره، {يَهْدِ قَلْبَهُ } على طريق الخير والهداية. وقرأ الجمهور: يهد بالياء، مضارعاً لهدى،مجزوماً على جواب الشرط. وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة: بالنون؛ والسلمي والضحاك وأبو جعفر: يهد مبنياًللمفعول، قلبه: رفع؛ وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار: يهدأ بهمزة ساكنة، قلبه بالرفع: يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولايكون فيه اضطراب. وعمرو بن فايد: يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة؛ وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً: يهد بحذف الألفبعد إبدالها من الهمزة الساكنة وإبدال الهمزة ألفاً في مثل يهدأ ويقرأ، ليس بقياس خلافاً لمن أجاز ذلك قياساً، وبنىعليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى:

جزى متى يظلم يعاقب بظلمه     سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

أصله: يبدأ، ثم أبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذفها للجازم تشبيهاً بألفيخشى إذا دخل الجازم. ولما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، ثم أمر بطاعة اللهوطاعة رسوله، وحذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة، ولا أعدى على الرجلمن زوجته وولده إذا كانا عدوين، وذلك في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه، وأما في الآخرة فبمايسعى في اكتسابه من الحرام لهما، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه. وكم من امرأة قتلت زوجها وجذمت وأفسدت عقله، وكممن ولد قتل أباه. وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير. وعن عطاء بن أبي رباح: أن عوف بنمالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي ، فاجتمع أهله وولده، فثبطوه وشكوا إليه فراقة، فرق ولم يغز؛إنه ندم بمعاقبتهم، فنزلت: {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية. وقيل: آمن قوم بالله، وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة،ولم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم، فنزلت. وقيل: قالوالهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير. فلماهاجروا، منعوهم الخير، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة. ومن في {مِنْ أَزْوٰجِكُمْ وَأَوْلـٰدِكُمْ } للتبعيض، وقد توجدزوجة تسر زوجها وتعينه على مقاصده في دينه ودنياه، وكذلك الولد. وقال الشعب العبسي يمدح ولده رباطاً:

إذا كان أولاد الرجال حزازة     فأنت الحلال الحلو والبارد العذب لنا جانب منه دميث وجانب
إذا رامه الأعداء مركبه صعب وتأخذه عند المكارم هزة     كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب

وقال قرعان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان عاقاً له، قصيدة فيها بعض طول منها:

وربيته حتى إذا ما تركته     أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه فلما رآني أحسب الشخص أشخصاًبعيداً وذا الشخص البعيد أقاربه تعمد حقي ظالماً ولوى يدي

{إِنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْفِتْنَةٌ }: أي بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما. وفي باب العداوة جاء بمن التيتقتضي التبعيض، وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد على بعضها، وذلك لغلبة الفتنة بهما، وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبةبن حاطب، أحد من نزل فيه، ومنهم من عاهد الله: { لَئِنْ ءاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ } الآيات. وقد شاهدنا من ذكرأنه يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيراً من الصلوات الخمس فائتة. وقد شاهدنا من كان موصوفاً عند الناسبالديانة والورع، فحين لاح له منصب وتولاه، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه، وإن كان بعض من استنابه صغيرالسن قليل العلم سيىء الطريقة، ونعوذ بالله من الفتن. وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة، { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ } ، شغلتنا أموالنا وأهلونا. {وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }: تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. والأجرالعظيم: الجنة. {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ }، قال أبو العالية: جهدكم. وقال مجاهد: هو أن يطاع فلا يعصى، {وَٱسْمَعُواْ} ما توعظون به، {وَأَطِيعُواْ } فيما أمرتم به ونهيتم عنه، {وَأَنْفِقُواْ } فيما وجب عليكم. و{خَيْرًا } منصوب بفعلمحذوف تقديره: وأتوا خيراً، أو على إضمار يكن فيكون خبراً، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقاً خيراً، أوعلى أنه حال، أو على أنه مفعول بوأنفقوا خيراً، أي مالاً، أقوال، الأول عن سيبويه. ولما أمر بالإنفاق، أكدهبقوله: {إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }، ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنوب. وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء، وفيلفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى. ثم اتبع جوابى الشرط بوصفين: أحدهما عائد إلى المضاعفة، إذ شكره تعالى مقابلللمضاعفة، وحلمه مقابل للغفران. قيل: وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة، وقيل، هو في المندوب إليه. وتقدم الخلاف في القراءةفي {يُوقَ } وفي {شُحَّ } وفي {يُضَـٰعِفْهُ }.