تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة التوبة

{ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ } * { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } * { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } * { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } * { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } * { ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ } * { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } * { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } * { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } * { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } * { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } * { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } * { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } * { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إَنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } * { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } * { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } عدل

المرصد: مفعل من رصد يرصد رقب، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً. وقال عامربن الطفيل:

ولقد علمت وما إخالك ناسيا     أن المنية للفتى بالمرصد

الآل الحلف والجؤار، ومنه قول إبي جهل.

لآل علينا واجب لا نضيعه     متين قواه غير منتكث الحبل

كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروهمن الآل وهو الجؤار، وله أليل أي أنين يرفع به صوته. وقيل: القرابة. وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر:

أفسد الناس خلوف خلفوا     قطعوا الآل وأعراق الرحم

وظاهر البيت أنه في العهد. ومن القرابة قول حسان:

لعمرك أن لك من قريش     كل السقب من رأل النعام

وسميت إلاًّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق. وقيل:من أل البرق لمع. وقال الأزهري: الأليل البريق، يقال: أل يؤل صفا ولمع. وقال القرطبي: مأخوذ من الحدة، ومنه الآلةالحربة. واذن مؤللة محددة، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه: أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها،والعهد يسمى إلاًّ لصفائه، ويجمع في القلة الآل، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل، فسهلت الهمزة الساكنة التي هيفاء الكلمه فأبدلها ألفاً، وأدغمت اللامفي اللام، الذمة؛ العهد. وقال أبو عبيدة: الأمان. وقال الأصمعي: كل ما يجب أن يحفظويحمى. أبى يأبى منع، قال:

أبى الضيم والنعمان يخرق نابه     عليه فافضى والسيوف معاقله

وقال:

أبى الله إلا عدله ووفاءه     فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ، ومنه آبىاللحم لرجل من الصحابة. شفاه: أزال سقمه. العشيرة جماعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة. اقترف اكتسب. كسدالشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق. الموطن: الموقف والمقام، قال الشاعر:

وكم موطن لولاي طحت كما هوى     بإجرامه من قلة النيق منهوي

ومثله الوطن. حنين: وادٍ بين مكة والطائف، وقيل: واد إلى جنب ذي المجاز.العيلة: الفقر، عال يعيل افتقر. قال:

وما يدري الفقير متى غناه     وما يدري الغني متى يعيل

الجزية: ماأخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها. أو لأنها تجزى بها منمنّ عليهم بالإعفاء عن القتل. المضاهاة: المماثلة والمحاكاة، وثقيف تقول: المضاهأة بالهمز، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها، إلاإنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت: توضيت، وقريت، وأخطيت فيمكن. وأما ضهيأ بالهمز مقصوراًفهمزته زائدة كهمزة عرفىء، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث. حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيبانيفي النوادر قال: جمع بين علامتي تأنيث. ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض، أو التي لاثدي لها شابهت بذلك الرجال. فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين، لأصالة همزة المضاهأة، وزيادةهمزة ضهياء في لغاتها الثلاث. {بَرَاءةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِى ٱلاْرْضِ أَرْبَعَةَأَشْهُرٍ وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِى ٱلْكَـٰفِرِينَ } هذه السورة مدنية كلها، وقيل: إلا آيتين من آخرهافإنهما نزلتا بمكة، وهذا قول الجمهور. وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة، وخلافاً عن الصحابة: أهيوالأنفال سورة واحدة، أو سورتان؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك، فأخلينا كتابنا منه، ويطالع ذلك في كتب المفسرين. ويقال:برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذينعاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، أو على إضمار مبتدأ أي: هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءةبالنصب. قال ابن عطية: أي الزموا، وفيه معنى الاغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة. قال: فإن قلت: بم تعلقت البراءة، باللهورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولاً، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليهوسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم: إعلموا أنّالله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وقال ابن عطية: لما كان عهد الرسول لازماً لجميع أمته حسن أن يقول: عاهدتم. وقال ابن إسحاق وغيره: كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليهوسلم عهداً عاماً على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية، وأحللجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كانأمده أكثر أتمّ له عهده، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن لهعهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي: يذهب فيها مسرحاً آمناً. وظاهر لفظة من المشركين العموم، فكل منعاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم. وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين.وقال مقاتل: المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة. وقيل: هذه الآية في أهل مكة،وكان الرسول صالح قريشاً عام الحديبية على أنْ يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، فدخلتخزاعة في عهد الرسول، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش، وكان لبني الديل من بني بكر دمٌ عندخزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا، وأعانت قريشبني بكر بالسلاح، وقوم أعانوهم بأنفسهم، فهزمت خزاعة إلى الحرم، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية، فخرج من خزاعة بديل بنورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم، فقدموا على الرسول مستغيثين، وأنشده عمرو فقال:

يا رب إني ناشد محمدا     حلف أبينا وأبيه الأتلدا كنت لنا أباً وكنا ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصراً عبدا     وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل الشمس ينمو صعدا إن سيم خسفاً وجهه تريدا     في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا     وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالحطيم هجدا

فقال رسول الله : لا نصرت إنْ لم أنصركم فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان، ثم خرجإلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف، فجعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم،وأذن في الحرب فسيحوا أمر إباحة، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي: قلْ لهم سيحوا. يقال:ساح سياحة وسوحاً وسيحاناً، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. وقال طرفة:

لو خفت هذا منك ما نلتني     حتى ترى خيلاً أمامي تسيح

قال ابن عباس والزهري: أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يومالأذان بخمسين، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان.وقال السدّي وغيره: أولها يوم الأذان، وآخرها العشر من ربيع الآخر. وقيل: العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهرربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانيةفي ذي الحجة غير معجزي الله لا تفوتونه وإنْ أملهكم وهو مخزيكم أي: مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وفيالآخرة بالعذاب. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران: أنهم يقرأون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين، واتباعاً لكسرةالنون. {وَأَذَانٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجّ ٱلاْكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِىء مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } قرأ الضحاك وعكرمةوأبو المتوكل: وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج: إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ، والكسر علىإضمار القول على مذهب البصريين، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسىبن عمر، وزيد بن علي: ورسوله بالنصب، عطفاً على لفظ اسم أنْ. وأجاز الزمخشري أنْ ينتصب على أنه مفعول معه.وقرىء بالجر شاذاً، ورويت عن الحسن. وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار. وقيل: هي واوالقسم. وروي أن أعرابياً سمع منم يقرأ بالجر فقال: إنْ كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه القارىءإلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء، والخبر محذوف أي: ورسولهبريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وجوزوا فيه أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في بريء، وحسنه كونه فصلبقوله: من المشركين، بين متحمله، والمعطوف. ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك، مع أنّ المفتوحة. ومنهممن أجاز ذلك مع المكسورة، ومنع مع المفتوحة. قال ابن عطية: ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش علىمقتضى كلام سيبويه: أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى. وهذا كلام فيهتعقب، لأنّ علة كون إنّ موضع لما دخلت عليه، ليس ظهور عمل العامل، بدليل ليس زيد بقائم، وما في الدارمن رجل، فإنه ظهر عمل العامل، ولهما موضع. وقوله: والإجماع إلى آخره يريد: أنّ ليت لا موضع لها من الإعراببالإجماع، وليس كذلك، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن، وأنّ حكم إنّ في كون اسمهن له موضع.وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة،كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد. والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أنّالأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء، ويضعف جعله خيراً عن. وأذان إذا أعربناه مبتدأ، بل الخبر قوله: إلى الناس. وجازالابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله: من الله ورسوله. ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله:وأذان، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة، ومن جهةأن لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله، وقد أخبر عنه بقوله: إلى الناس. لما كان سنةتسع أراد رسول الله أنْ يحج، فكره أنْ يرى المشركين يطوفون عراة، فبعث أبا بكر أميراًعلى الموسم، ثم أتبعه علياً ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكباً ناقته العضباء، فقيل له: لو بعثت بها إلىأبي بكر فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني فلما اجتمعا قال: أبو بكر أمير أو مأمور، قال: مأمور. فلماكان يوم التروية خطب أبو بكر وقام عليّ يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال: «يا أيها الناس إني رسول رسولالله إليكم»، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين. وعن مجاهد: ثلاث عشرة ثم قال: «أمرت بأربع أن لايقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأنْ لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأنْ يتمإلى كل ذي عهد عهده» فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنهليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل: عادة العرب في نقض عهودها أنْ يتولى رجل من القبيلة،فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود، فلذلك جعل علياً يتولاه، وكان أبو هريرةمع علي، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة. والظاهر أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم أحد. فقال عمر، وابنالزبير، وأبو جحيفة، وطاووس، وعطاء، وابن المسيب: هو يوم عرفة، وروى مرفوعاً إلى الرسول . وقال أبوموسى، وابن أبي أوفى، والمغيرة بن شعبة، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي: هو يوم النحر. وقيل:يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها، قال سفيان بن عيينة. قال ابن عطية: والذي تظاهرت به الأحاديث أنّ علياً أذّنبتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر،وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره، ويتبعوا بها أيضاً أسواق العربكذي المجاز وغيره، وبهذا يترجح قول سفيان. ويقول: كان هذا يوم صفين، ويوم الجمل، يريد جميع أيامه. وقال مجاهد: يومالحج الأكبر أيام منى كلها، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم: إنْ لا يجتمع المسلمونوالمشركون بعد عامهم هذا، ووصفه بالأكبر. قال الحسن، وعبد الله بن الحرث بن نوفل: لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون،وصادف عيد اليهود والنصارى، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر. وضعف هذا القول بأنهتعالى لا يصفه بالأكبر لهذا. وقال الحسن أيضاً: لأنه حج فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود. قال ابن عطية: وهذاهو القول الذي يشبه نظر الحسن، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى اللهعليه وسلم، ونبذت فيه العهود، وعز فيه الدين، وذل فيه الشرك، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولىرسول الله عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله، فكل حج بعد حج أبي بكرفمتركب عليه، فحقه لهذا أنْ يسمى أكبر انتهى. ومن قال: إنه يوم عرفة، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته، فإذا فاتفات الحج. ومن قال: إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي. وقيل :وصف بالأكبر لأنّ العمرة تسمى بالحج الأصغر. وقال منذر بن سعيد وغيره: كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمستقف بالمزدلفة، وكان الجمع يوم النحر بمنى، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيهمفترقون. وقد ذكر المهدوي: أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي الله عنه. وحكى القرطبي عنابن سيرين: أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله في حجةالوداع، وحج معه الأمم، وهذا يحتاج إلى إضمار، كأنه قال: هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حجرسول الله انتهى. وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج. وقال فيه: خذوا عني مناسككم وجملةبراءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فافترقتا وعلقت البراءةبالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً، وغيره مسلماً وكافراً، هذا هو قولالجمهور. قيل: ويجوز أنْ يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع. فظاهره أنّ المخاطب بتلك الجملالكفار، ولما كان المجرور خبراً عن قوله وأذان، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم. ولو كان المجرور فيموضع المفعول لكان باللام، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول. تقول: برئت منك، وبرئت من الدين بخلافمِنْ في قوله: براءة من الله، فإنها في موضع الصفة {فَإِن تُبْتُمْ } أي: من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسولهمنكم. {فَهُوَ } أي التوب {خَيْرٌ لَّكُمْ } في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم منالنار. {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي عن الإسلام {فَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى ٱللَّهِ } أي لا تفوتونه عما يحل بكم مننقماته {وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدةالأوثان وغيرهم، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم. {إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْيُظَـٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ } قال قوم: هذا استثناء منقطع، التقدير: لكن الذين عاهدتم فثبتواعلى العهد أتموا إليهم عهدهم. وقال قوم منهم الزجاج: هو استثناء متصل من قوله: إلى الذين عاهدتم من المشركين. وقالالزمخشري: وجهه أنْ يكون مستثنى من قوله:

{ فَسِيحُواْ فِى ٱلاْرْضِ }

لأنّ الكلام خطاب للمسلمين ومعناه: براءة من الله ورسولهإلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم: سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم. والاستثناء بمعنىالاستدراك، كأنه قيل بعد أنْ أمروا في الناكثين: ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلواالوفيّ كالغادر. وقيل: هو استثناء متصل، وقبله جملة محذوفة تقديرها: اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذين عاهدتم، وهذا قول ضعيف جداً،والأظهر أنْ يكون منقطعاً لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه. قال مجاهد وغيره: همقوم كان بينهم وبين الرسول عهد لمدة، فأمر أنْ يفي لهم. وعن ابن عباس لما قرأعليَّ براءة قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم: إنّ الله قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية. والظاهرأنّ قوله: إلى مدتهم، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة. وعن ابنعباس: كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر، فأتم إليهم عهدهم. وعنه أيضاً: إلى مدتهم، إلى الأربعة الأشهر التي فيالآية. وهذا بعيد، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لميتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة. وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة، وأبو زيد، وابنالسميفع: ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد، وهي بمعنى قراءة الجمهور، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب.وهو على حذف مضاف، أي ولم ينقضوا عهدكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني: هيبالضاد أقرب إلى معنى العهد، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله: فأتموا إليهم. والتمام ضدالنقص. وانتصب شيئاً على المصدر، أي: لا قليلاً من النقص ولا كثيراً، ولم يظاهروا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببنيبكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتوا بإلى لتضمنه معنى فأدوا، أيْ: فأدوه تاماً كاملاً. وقول قتادة: إنّ المستثنينهم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله. وقوله: يحب المتقين، تنبيه على أنّالوفاء العهد من التقوى، وأنّ من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين. {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلاشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُوَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } تقدم الكلام على انسلخ في قوله: فانسلخ. وقال أبو الهيثم: يقال أهللناهلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه، ثم نسلخه عن أنفسنابعد تكامل النصف منه جزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا كله، فينسلخ. وأنشد:

إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله     كفيَّ قاتلاً سلخ الشهور وإهلال

والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أنْ يسيحوا فيها، ووصفت بالحرملأنها محرم فيها القتال، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها. وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكربالضمير نحو: لقيت رجلاً فضربته. ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل، ولا يجوز أنْ يوصفبوصف يشعر بالمغايرة لو قلت: لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق، وأنت تريد الرجل الذي لقيته، لم يجز بل ينصرف ذلكإلى غيره، ويكون المضروب غير الملقى. فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور. وهناجاء الأشهر الحرم، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لايتعرض إليكم فيها، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة. وقيل: الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة، وهي الأشهر التي حرم اللهفيها القتال منذ خلق السموات والأرض، وهي التي جاء في الحديث فيها «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللهالسموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب» فتكون الأربعة من سنتين. وقيل:أولها المحرم، فتكون من سنة. وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا.وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان، وقد قتل أبو بكر أصحاب الردّة بالإحراق بالنار، وبالحجارة، وبالرميمن رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار. وتعلق بعموم هذه الآية، وأحرق عليّ قوماً من أهل الرّدّة، وقد وردت الأحاديث الصحيحةبالنهي عن المثلة. ولفظ المشركين عام في كل مشرك، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي فيالحرب، ومن قاتل من هؤلاء قتل. وقال الزمخشري: يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم. ولفظ: «حيث وجدتموهم» عام في الأماكن منحل وحرم. «وخذوهم» عبارة عن الأسر، والأخيذ الأسير. ويدل على جواز أسرهم: واحصروهم، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وقيل:استرقوهم. وقيل: معناه حاصروهم إنْ تحصّنوا. وقرىء: فحاصروهم شاذاً، وهذا القول يروى عن ابن عباس. وعنه أيضاً: حولوا بينهم وبينالمسجد الحرام. وقيل: امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن. قال القرطبي في قوله: «واقعدوا لهم كل مرصد»دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة، لأنّ المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة، وهذا تنبيه على أنّ المقصود إيصال الأذى إليهمبكل طريق، إما بطريق القتال، وإما بطريق الاغتيال. وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب، وإسلال خيلهم،وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام، إلا أنْ يصالحوا على مثل ذلك. قال الزمخشري: «كلمرصد» كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه، وانتصابه على الظرف كقوله:

{ لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

انتهى. وهذا الذي قاله الزجاجقال: كل مرصد ظرف، كقولك: ذهبت مذهباً ورده أبو علي، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ، فهو مكان مخصوصلا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه: دخلت البيت، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى. وأقول: يصح انتصابه علىالظرف، لأن قوله: «واقعدوا لهم» ليس معناه حقيقة القعود، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه، ولما كان بهذاالمعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال: وقد قعدوا منها كل مقعد. فمتى كان العامل في الظرفالمختص عاملاً من لفظه أو من معناه، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز جلست مجلس زيد، وقعدت مجلسزيد، تريد في مجلس زيد. فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه، فكذلك إلى الظرف. وقالالأخفش: معناه على كل مرصد، فحذف وأعمل الفعل، وحذف على، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه، يخصه أصحابنا بالشعر. وأنشدوا:

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة     وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

أي لقضي عليّ. {فإن تابوا وأقاموا الصلاةوآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه منالمعاصي، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية،وبهما تظهر القوة العملية، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل. فخلوا سبيلهم، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمينفي تصرفاتهم حيث ما شاؤوا، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر:

خل السبيل لمن يبنى المنار به    

أو يكون المعنى:فأطلقوهم من الأسر والحصر. والظاهر الأول، لشمول الحكم لمن كان مأسوراً وغيره. وقال ابن زيد: افترضت الصلاةوالزكاة جميعاً، وأبى الله أنْ لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله:«لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة» وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام.قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر، ودفن فيمقابر الكفار، وكان ماله فيئاً. ومنْ ترك السنن فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنهيصير راداً على النبي ما جاء به وأخبر عنه انتهى. والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهضأنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكونبالحبس وغيره، فلا يتعين القتل. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مكحول، ومالك، والشافعي، وحماد بن زيد، ووكيع، وأبو ثور:يقتل. وقال ابن شهاب، وأبو حنيفة، وداود: يسجن ويضرب، ولا يقتل. وقال جماعة من الصحابة والتابعين: يقتل كفراً، وماله مالمرتد، وبه قال إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي إلى زماننا.{وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }قال الضحاك والسدّي: هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين. وقال الحسن ومجاهد: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن ابن جبير:جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: إنْ أراد الرجل منا أنْ يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل ليسمعكلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأن الله تعالى قال: وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى. وقيل:هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلاً، والظاهر أنها محكمة. ولما أمر تعالى بقتل المشركينحيث وجدوا، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون، وتلك إذا جاء واحد منهممسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين. فالمعنى: وإنْ أحد من المشركين استجارك، أي طلب منك أنتكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد، ويقف على ما بعثت به، فكنمجيراً له حتى يسمع كلام الله ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إنْ لم يسلم،ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة. وحتى يصح أن تكون للغاية أي: إلى أن يسمع. ويصح أنتكون للتعليل، وهي متعلقة في الحالين بأجره. ولا يصح أن يكون من باب التنازع، وإن كان يصح من حيث المعنىأن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره، وذلك لمانع لفظي وهو: أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، وحتى لا تجرالمضمر، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع. لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوزأن يكون ذلك عنده من باب التنازع، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور. ولما كان القرآن أعظم المعجزات،علق السماع به، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم. وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: أنتلم تسمع، تريد لم تفهم. وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالقومأمنه مكان أمنه. وقيل: مأمنه مصدر، أي ثم أبلغه أمنه. وقد استدلت المعتزلة بقوله: «حتى يسمع كلام الله» على حدوثكلام الله، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات. ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك، وهذا مذكور في علم الكلام. وفي هذهالآية دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال، وأوجب علىالرسول أن يبلغه مأمنه. ومنها دلالة على أنّ التقليد غير كاف في الدين، إذ كان لا يمهل بل يقال له:إما أن تسلم، وإما أن تقتل. وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام الله لا يقر بأرض الإسلام، بل يبلغمأمنه، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام الله. والخطاب بقوله: استجارك وفأجره، يدل على أنّ أمان السلطان جائز،وأما غيره فالحر يمضي أمانه. وقال ابن حبيب: ينظر الإمام فيه والعبد. قال الأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بنالحسن، وأبو ثور، وداود: له الأمان، وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو قول في مذهبمالك. والحرة لها الأمان على قول الجمهور. وقال عبد الملك بن الماجشون: لا، إلا أن يجيره الإمام، وقوله شاذ. والصبيإذا أطاق القتال جاز أمانه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون، أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن، بسبب أنهم قوم جهلةلا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق، قاله الزمخشري.وقال ابن عطية: إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن، لا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول. {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَاٱسْتَقَـٰمُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إن الله يحب المتقين} هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد. قال التبريزي والكرماني: معناه النفي، أيلا يكون لهم عهد وهم لكم ضد. ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك. وقال القرطبي:وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث؟ انتهى. والاستفهام يراد به النفي كثيراً، ومنه قولالشاعر:

فها ذي سيوف يا هدى بن مالك     كثير ولكن ليس بالسيف ضارب

أي ليس بالسيف ضارب. ولماكان الاستفهام معناه النفي، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. قالالحوفي: ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين، لأن معنى ما تقدم النفي، أي: ليس يكونللمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا. قال ابن عباس: هم قريش. وقال السدي: بنو جذيمة بن الديل. وقال ابن إسحاق:قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول وقريش. وقال الزمخشري:كبني كنانة وبني ضمرة. وقال قوم منهم مجاهد: هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح. وقال ابن زيد: هم قريش نزلتفلم يستقيموا، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك. وضعف هذا القول بأنّ قريشاً بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهمإلا مسلم، وذلك بعد فتح مكة بسنة، وكذلك خزاعة قاله الطبري. فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء.وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف، لقوله: كيف كان عاقبة مكرهم، وأن يكون الخبر للمشركين. وعند علىهذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو للحال، أو هي وصف للعهد. وأن يكون الخبر عند الله، وللمشركين تبيين، أو تعلقبيكون، وكيف حال من العهد انتهى. والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية، أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبوالبقاء: هي شرطية كقوله:

{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ }

انتهى. فكان التقدير: ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموالهم. وقال الحوفي: ما شرط في موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى.فكان التقدير فأي: وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم. وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا، لأن المصدريةالزمانية لا تحتاج إلى الفاء. وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم، وأنشد على ذلك مايدل ظاهره على صحة دعواه. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل، وتأولنا ما استشهد به. فعلى قوله تكون زمانية شرطية:أنّ الله يحب المتقين، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين، والتقوى تتضمنالإيمان والوفاء بالعهد. {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوٰهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـٰسِقُونَ} كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد. والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها، وحذف للعلمبه في كيف السابقة، والتقدير: كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقولهتعالى:

{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ }

. وقال الشاعر:

وخبرتماني إنما الموت بالقرىفكيف وهاتا هضبة وكثيب    

أي:فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة:

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم     على معظم وأن أديمكم قدّوا

أي فكيفتلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر. وقدر أبو البقاء الفعل المحذوفبعد كيف بقوله: كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره: كيف لا يقتلونهم؟ والواو في «وإن يظهروا» واو الحال. وتقدم الكلام علىوقوع جملة الشرط حالاً في قوله:

{ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ }

ومعنى الظهور العلو والظفر، تقول: ظهرت على فلانعلوته. والمعنى: وإنْ يقدروا عليكم ويظفروا بكم. وقرأ زيد بن علي: وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول. لا يرقبوا: لا يحفظوا ولايرعوا إلا عهداً أو قرابة أو حلفاً أو سياسة أو الله تعالى، أو جؤاراً أي: رفع صوت بالتضرع، أقوال.قال مجاهد وأبو مجلز: إنْ اسم الله بالسريانية وعرب. ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة، فقال: هذاكلام لم يخرج من إل. وقرأت فرقة: ألا بفتح الهمزة، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد. وقرأ عكرمة:إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها، فقيل: هو اسم الله تعالى. ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء،كما قالوا في: إما إيما. قال الشاعر:

يا ليتما أمنا سالت نعامتها     إيما إلى الجنة إيما إلى نار

قال ابن جني: ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها،أي: لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، من رأى أنّ الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحدأو متقاربين، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان. ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أنْ ظهروا عليهم ذكرحالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين، فقال: يرضونكم بأفواههم. واستأنف هذا الكلام أي: حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم، وهذا كلهتقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن. وقيل: يرضونكم بأفواههم فيالعدة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الكفر. وقيل: يرضونكم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية. والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل:وأكثرهم، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان. وقيل: لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عمايثلم العرض، ويجر أحدوثة السوء، وأكثرهم خبثاً لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم، ولا طباع مرضية تزعهم، لا يحترزونعن كذب ولا مكر ولا خديعة، ومن كان بهذا الوصف كان مذموماً عند الناس وفي جميع الأديان. ألا ترى إلىأهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة. وقيل: معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون، قاله ابنعطية والكرماني. {ٱشْتَرَوْاْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الظاهر عود الضميرعلى من قبله من المشركين المأمور بقتلهم، ويكون المعنى: اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمناً قليلاً، وهو اتباعالشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر، كان ذلك كالشراء والبيع. وقال مجاهد: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيانعلى طعامه. وقال أبو صالح: هم قوم من اليهود، وآيات الله التوراة. وقال ابن عباس: هم أهل الطائف كانوا يمدونالناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه. والظاهر أنّساء هنا محولة إلى فعل. ومذهب بابها مذهب بئس، ويجوز إقرارها على وصفها الأول، فتكون متعدية أي: أنهم ساءهم ماكانوا يعملون، فحذف المفهوم لفهم المعنى. {لا * يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ } هذاتنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان، ولما كان قوله:

{ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ }

يتوهم أنّ ذلك مخصوص بالمخاطبين، نبّهعلى علة ذلك، وأنّ سبب المنافاة هو الإيمان، وأولئك أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلموالشر ونقض العهد. {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدّينِ } أي فإنْ تابوا عن الكفر ونقضالعهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم، أي: فهم إخوانكم، والإخوان، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين. ومن زعم أنّ الإخوةتكون في النسب، والإخوان في الصداقة، فقد غلط. قال تعالى:

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }

وقال: أو بيوت إخوانكم، وعلق حصولالأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة، ويظهر أنّ مفهوم الشرط غير مراد. {وَنُفَصّلُ ٱلاْيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أينبيّنها ونوضحها. وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين، بين قوله: فإن تابوا، وقوله: وإن نكثوا، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصلتعالى من الأحكام، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم. {وَإِن نَّكَثُواْأَيْمَـٰنَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَـٰتِلُواْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَـٰنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي: وإنْ نقضواإقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أنْ لا ينكثوا. وطعنوا: أي عابوه وثلبوه واستنقصوه. والطعن هنا مجاز، وأصله الإصابة بالرمحأو العود وشبهه، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة: إنْ تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل أي عبتموها واستنقصتموها. والظاهر أنّ هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلاً، لأنّ منأسلم ثم ارتد فيكون قوله: فقاتلوا أئمة الكفر، أي رؤساء الكفر وزعماءه. والمعنى: فقاتلوا الكفار، وخص الأئمة بالذكر لأنهم همالذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر. وقال الكرماني: كل كافر إما نفسه، فالمعنى فقاتلوا كل كافر. وقيل: من أقدمعلى نكث العهد والطعن في الدين صار رأساً في الكفر، فهو من أئمة الكفر. وقال ابن عباس: أئمة الكفر زعماءقريش. وقال القرطبي: هو بعيد، لأن الآية في سورة براءة، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة قريش ولم يبقمنهم إلا مسلم أو مسالم. وقال قتادة: المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة، وغيرهم، وهذا ضعيف إن لميؤخذ على جهة المثال، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير. وروي عن حذيفة أنه قال: لم يجىء هؤلاء بعدُ، يريدلم ينقرضوا فهم يجيئون أبداً ويقاتلون. وقال ابن عطية: أصوب ما في هذا أن يقال: إنه لا يعني بها معين،وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسولالله أن يكون الإشارة إليهم أولاً بقوله: أئمة الكفر، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة، إذ الذييتولى قتال النبي والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يومالقيامة، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى. وقيل: المراد بالعهد الإسلام، فمعناه كفروا بعدإسلامهم. ولذلك قرأ بعضهم: وإنْ نكثوا إيمانهم بالكسر، وهو قول الزمخشري، قال: فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضعضميرهم، إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمرداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاةوآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد،وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه، لا يشقكافر غبارهم. والمشهور من مذهب مالك أنّ الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئاً مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلىالله عليه وسلم ونحوه قتل. وقيل: إنْ أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك، وإنْكفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل. وقال أبو حنيفة: يستتاب، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقيةالقتل. فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، وفي العتبية أنه يقتل، ولا يكون أحسن حالاًمن المسلم. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بإبدال الهمزة الثانية ياء. وروي عن نافع مد الهمزة. وقرأ باقي السبعة وابنأبي أويس عن نافع: بهمزتين، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام، أدغموا الميم في الميمفنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي بينمخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولايجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى. وذلك دأبه في تلحين المقرئين. وكيف يكون ذلك لحناً وقدقرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء، وقارىء مكة ابن كثير، وقارىء مدينة الرسول نافع، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم، أو يكون على حذف الوصف أي:لا أيمان لهم يوفون بها. وقرأ الجمهور: بفتح الهمزة. وقرأ الحسن، وعطاء، وزيد بن علي، وابن عامر: لا إيمان لهمأي لا إسلام ولا تصديق. قال أبو علي: وهذا غير قوي، لأنه تكرار وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لاإيمان لهم، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً، ومنه قوله تعالى:

{ وآمنهم من خوف }

فالمعنى أنهم لا يؤمنونأهل الذمة، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف. قال أبو حاتم: فسر الحسن قراءته لا إسلام لهمانتهى. وكذا تبعه الزمخشري، فقال: وقرىء لا إيمان لهم، أي لا إسلام لهم، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث، ولاسبيل إليه. وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين، وقال: معناهأنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله: فقاتلوا أئمة الكفر، أي ليكن غرضكم فيمقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيءبالرحمة. {أَلاَ تُقَـٰتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَـٰنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِنكُنتُم مُّؤُمِنِينَ } ألا حرف عرض، ومعناه هنا الحض على قتالهم. وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام، ولا النافية، فصارفيها معنى التخصيص. وقال الزمخشري: دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة، ومعناها: الحض عليها على سبيل المبالغة. ولما أمرتعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها، وكل واحد منها على انفرادهكاف في الحض على مقاتلتهم. ومعنى نكثوا أيمانهم: نقض العهد. قال السدي، وابن إسحاق، والكلبي: نزلت في كفار مكة، نكثواأيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى. وهمهم هو همّ قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروابدار الندوة، فأذن الله في الهجرة، فخرج بنفسه، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع،أو اليهود، هموا بغدر الرسول ونقضوا عهده وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة، ثلاثة أقوال أولهاللسدي. وقال الحسن: من المدينة. قال ابن عطية: وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلةلأنّ رسول الله جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحدّاهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال،فهم البادئون، والبادىء أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله تصدمونهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم، وحضهم عليها، ثموصفهم بما يوجب الحض عليها. وتقرر أنّ من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول والبدء بالقتال منغير موجب حقيق بأنْ لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها، قاله: الزمخشري وهو تكثير. وقال ابن عطية: أولمرة. قيل: يريد أفعالهم بمكة بالنبي وبالمؤمنين. وقال مجاهد: ما بدأت به قريش من معونة بنيبكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي ، فكان هذا بدء النقض. وقال الطبري: يعني فعلهم يوم بدرانتهى. وقرأ زيد بن علي: بدوكم بغير همز، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء، كما قالوا فيقرأت: قريت، فصار كرميت. فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت، فصار بدوكم كما تقول: رموكم. أتخشونهم تقرير للخشية منهم،وتوبيخ عليها. فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق، وأن تخشوه بدل من الله أي: وخشيةالله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذاحذف حرف الجر، وتقديره: بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ،وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه، والجملة خبر عن الأول. وحسن الابتداءبالنكرة لأنها أفعل التفضيل، وقد أجاز سيبويه أنْ تكون المعرفة خبراً للنكرة في نحو: اقصد رجلاً خير منه أبوه. إنكنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان، لأنهم كانوا مؤمنين. وقال الزمخشري: يعني أنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلاربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى:

{ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ }

. {قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْعَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قررت الآياتقبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم، والحض على القتال، وحرم الأمر بالقتال في هذه، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيابالقتل والأسر والنهب، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم، وينصركم يظفركم بهم، وشفاه الصدور بإعلاء دينالله وتعذيب الكفار وخزيهم. وقرأ زيد بن علي: ونشف بالنون على الالتفات، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبينوكل مؤمن، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن. وقيل: المراد قوم معينون. قالابن عباس: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فبعثوا إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب وقال مجاهد والسدي: هم خزاعة. ووجه تخصيصهم أنهم هم الذيننقض فيهم العهد ونالتهم الحرب، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير. ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى اللهعليه وسلم:

ثمت أسلمنا قلم ننزع يداً    

وفي آخر الرجز:

    وقتلونا ركعا وسجداً

وإذهابالغيظ بما نال الكفار من المكروه، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ.وقرأ فرقة: ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي: كذلك إلا أنه رفع الباء. وهذه المواعيد كلهاوجدت، فكان ذلك دليلاً على صدق الرسول وصحة نبوته وبدىء أولاً فيها بما تسبب عن النصروهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون،ثم ذكر ما السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين، ثم ذكر ما تسبب أيضاً عن النصر من شفاء صدورالمؤمنين وإذهاب غيظهم تتميماً للنعم، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراكالثأر، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتلالأعداء هي اللائقة بطباعهم.

إن الأسود أسود الغاب همتها     يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وقرأالجمهور: ويتوبُ الله رفعاً، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره، وكان ذلك عالم كثيرون وحسنإسلامهم. قال الفراء والزجاج وأبو الفتح: وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال اليوم في جوابالشرط الذي في قاتلوهم انتهى. وقرأ زيد بن علي، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وعيسى الثقفي، وعمرو بن عبيد، وعمر بنقائد، وأبو عمرو، ويعقوب فيما روي عنهما: ويتوبَ الله بنصب الباء، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل:ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. قال ابن عطية: ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بهاأنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم، فتدخل التوبة على هذا في شرطالقتال. وقال غيره: لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبةمن تلك الكراهة. وقيل: حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعياًلهم إلى التوبة مما تقدم، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى. وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جوابالأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار، فالمعنى على من يشاء منالكفار، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس، وإن لم يكن لهم رغبةفي الإسلام، ولا داعية قبل القتال. ألا ترى إلى قتال رسول الله أهل مكة كيف كانسبباً لإسلامهم، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة، وقد يدخل على كره واضطرار، ثم قد تحسن حالهفي الإسلام. ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولاً في الإسلام، ثم صار أمره إلىاحسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته، وكان من خيار الصحابة؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل مايعلم ما قد كان، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عبادهمن حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ} تقدّم تفسير نظير هذه الجملة، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلَّص منكم وهم المجاهدونفي سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم. {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِوَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا. غير متخذين وليجة، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهيالبطانة. والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار، شبه النفاق به. وقال قتادة: الوليجة الخيانة. وقال الضحاك: الخديعة. وقال عطاء: الأودّاء.وقال الحسن: الكفر والنفاق. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوموليس منهم، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس، وجمعها ولائج وولج،كصحيفة وصحائف وصحف. وقال عبادة بن صفوان الغنوي:

ولائجهم في كل مبدي ومحضر     إلى كل من يرجى ومن يتخوف

وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال، والمعنى: لا بد من اختباركم أيهاالمؤمنون كقوله:

{ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }

ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافقنفى هذا الوصف عنه، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار. {وَٱللَّهُخَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله: أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلامبالياء على الغيبة التفاتاً. {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَـهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } قرأ ابن السميفع:أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والجحدري: مسجد بالإفراد، وباقي السبعةومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركينوأنواعاً من قبائحهم توجب البراءة منهم، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام. رويأنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق عليّ يوبخ العباس، فقال الرسول: واقطيعة الرحم، وأغلظ له فيالقول. فقال العباس: تظهرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجراً، إنا لنعمر المسجدالحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم. ومعنى ما كان للمشركين: أي بالحق الواجب،وإلا فقد عمروه قديماً وحديثاً على سبيل التغلب. وقال الزمخشري: أي ما صح وما استقام انتهى. وعمارته وحوله والقعود فيهوالمكث من قولهم: فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه، أو رفع بنائه، وإصلاح ما تهدّم منه، أو التعبد فيه، والطوافبه. والصلاة ثلاثة أقوال. ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله: {وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أو الجنسفيدخل تحته المسجد الحرام، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته. ومن قرأ بالجمع فيحتمل أنْ يراد به المسجد الحرام، وأطلقعليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فكان عامره عامر المساجد. ويحتملأن يراد الجمع، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتبالله، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك. وانتصب شاهدين على الحال، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرينمتنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته. وقرأ زيد بن علي: شاهدون على إضمارهم شاهدون، وشهادتهم علىأنفسهم بالكفر قولهم في الطواف: لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. أو قولهم إذاسئلوا عن دينهم: نعبد اللات والعزى، أو تكذيبهم الرسول، أو قول المشرك: أنا مشرك كما يقول اليهودي: هو يهودي، والنصرانيهو نصراني، والمجوسي هو مجوسي، والصابىء هو صابىء، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة، وغير ذلكأقوال خمسة، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره، وقيل: معناه شاهدين على رسولهم، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما منبطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء، أي أشرفهموأجلهم قدراً. {أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذُكر أنه من الأعمالالحميدة. قال الزمخشري: وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن؟ وإلى ذلك أشار تعالىبقوله:

{ شَـٰهِدِينَ }

حيث جعله حالاً عنهم، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة،وذلك محال غير مستقيم انتهى. وقوله: أو الكبيرة، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال. {وَفِى ٱلنَّارِهُمْ خَـٰلِدُونَ } ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها. وقرأ زيد بن علي: بالياء نصباً على الحال، وفي النارهو الخبر. كما تقول: في الدار زيد قاعداً. وقال الواحدي: دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين،ولو أوصى لم تقبل وصيته، ويمنع من دخول المساجد، فإنْ دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لميعزر، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم. وقد أنزل رسول الله وفد ثقيف وهم كفار المسجد، وربطثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر. {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِٱلاْخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ أن يكونوا من المهتدين} قرأ الجحدري، وحماد بنأبي سلمة عن ابن كثير: مسجداً لله بالتوحيد. وقرأ السبعة وجماعة: بالجمع، والمعنى إنما يعمرها بالحق والواجب، ويستقيم ذلك فيمناتصف بهذه الأوصاف. وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد، ويتناول عمارتها رمّ ما تهدّم منها، وتنظيفها، وتنويرها، وتعظيمها،واعتيادها للعبادة والذكر. ومن الذكر درس العلم بل هو أجله، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا.وفي الحديث: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ولم يذكر الإيمان بالرسول، لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هومتلقف من أخبار الرسول، فيتضمن الإيمان بالرسول. أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمانبالرسول، لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه، فانطوى تحتذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول . وقيل: دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ لايتلقى ذلك إلا منه. والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعاً لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما،وناسب ذكر إيتاء الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعاً للناس بأنّ فيها أمر الغني والفقير، وعرفت أحوال منيؤدي الزكاة ومن يستحقها، ولم يخش إلا الله. قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسانيخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه. وقال الزمخشري: هي الخشية والتقوى فيأبواب الدنيا، وأنْ لا يختار على رضا الله رضا غيره، وإذا اعترضه أمر أن أحدهما حق الله تعالى، والآخر حقنفسه، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى.وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ مَن جمعهذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عار منها: وفي ذلك ترجيح الخشية علىالرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها. وقال تعالى: أن يكونوا من المهتدين، أي:من الذين سبقت لهم الهداية ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين، بل جعلوا بعضاً من المهتدين، وكونهم منهم أقل فيالتعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية. {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَجَـٰهَدَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ والله لا يهدي القوم الظالمين} في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشيرقال: كنت عند منبر رسول الله فقال رجل: ما أبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد أنأسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمرَ المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيلالله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يومالجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية. وذكرابن عطية وقوله أقوالاً آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة. وقرأ الجمهور: سقاية وعمارة وهمامصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات، فاحتيج إلى حذف من الأول أي: أهل سقاية، أو حذف من الثاني أي: كعملمن آمن. وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة: سقاة الحاج، وعمرة المسجد، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة.وقرأ ابن جبير كذلك، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة. وقرأ الضحاك: سقاية بضم السين، وعمرة بنيالجمع على فعال كرخل ورخال، وظئر وظؤار، وكان المناسب أن يكون بغير هاء، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة.وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها، ولما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقالالنبي : أقيموا عليها فهي لكم خير وعمارة المسجد هي السدانة، وكان في بني عبد الدار، وشيبةوعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعدأن طلبه العباس وعليّ، وقال لعثمان وشيبة: خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم يعنيالسدانة. ومعنى الآية: إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة. ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله: والله لايهدي القوم الظالمين، من الراجح منهما وأنّ الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله، وبما جاء به الرسول،وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم. وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله:

{ فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ }

وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله: والله يهدي القوم الظالمين. {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } زادت هذه الآية وضوحاً في الترجيح للمؤمنينالمتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسولوترك ديارهم التي نشأوا عليها، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، المعرضين بالجهاد للتلف. فهذه الخصال أعظم درجاتالبشرية، وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهمفضيلة، فخوطبوا على اعتقادهم. أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا. وقيل: أعظم ليست علىبابها، بل هي كقوله:

{ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً }

. وقول حسان:

فشركما لخيركما الفداء    

وكأنه قيل: عظيمون درجة.وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله:

{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ }

قال أبو عبد الله الرازي: الأرواح المقدسةالبشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال، وترقت من العبديةإلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية، ولذلك قال تعالى:

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً }

انتهى، وهو شبيه بكلام الصوفية، ثم ذكر تعالى أنّ من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته، الناجي منالنار. {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَعِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } قال ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة انتهى، وأسند التبشير إلى قوله: ربهم، لما في ذلكمن الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم. ولما كانت الأوصافالتي تحلوا بها وصاروا بها عبيدة حقيقة هي ثلاثة: الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال والنفس، قوبلوا ي التبشير بثلاثة: الرحمة، والرضوان،والجنات. فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشىء عنها تيسير الإيمان لهم، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهومقابل الجهاد، إذ هو بذل النفس والمال، وقد على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة. وفيالحديث الصحيح: إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك، فيقول: لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها وأتى ثالثاً بقوله: وجنات لهم فيها نعيم مقيم، أي دائم لا ينقطع. وهذا مقابل لقوله

{ وهاجروا }

لأنهمتركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة، فقوبلوا على ذلكبالجنات ذوات النعيم الدائم، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع: الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد. وجاء الترتيب في المقابلعلى حسب الأعم، ثم الأشرف، ثم التكميل. قال التبريزي: ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي: رحمة لا يبلغها وصفواصف. وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وحميد بن هلال: يَبشُرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في روايةأبي بكر: ورُضوان بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معاً. قال أبوحاتم: لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز، فقد قالت العرب: سلُطان بضم اللام، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء.{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوٰنَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَـٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم، فقالوا: يارسول الله، إنْ نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا، وخرجت ديارنا، ويقيناضائعين، فنزلت. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولاينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أنلا يوالوا الآباء والإخوة، فيكونوا لهم تبعاً في سكنى بلاد الكفر. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة،فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم. وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم.وقرأ عيسى بن عمران: استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلاً، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطاً. ومعنى استحبوا: آثروا وفضلوا، استفعلمن المحبة أي طلبوا محبة الكفر. وقيل: بمعنى أحب. وضمن معنى اختار وآثر، ولذلك عديَ بعلى. ولما نهاهم عن اتخاذهمأولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم، فقال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأنّ من رضي بالشرك فهو مشرك. قالمجاهد: وهذا كله كان قبل فتح مكة. وقال ابن عطية: وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر. {قُلْ إِن كَانَءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوٰنُكُمْ وَأَزْوٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ } هذه الآية تقتضيالحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة، وهم أعلق بالنفس، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا، لأن المقصود منها الرأيوالمشورة. وقدّم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب. ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشيةوهي الإخوان، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال: وعشيرتكم. وقرأالجمهور: بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن: بألف على الجمع. وزعم الأخفش أنّ العربتجمع عشيرة على عشائر، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها، لأن الأموال يعادلحبها حب القرابة، بل حبها أشد، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة، وأكثر الناس كانوا فقراء. ثم ذكر: وتجارة تخشونكسادها، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال، وجعل تعالى التجارة سبباً لزيادة الأموال ونمائها. وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلىالبنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ. وقال الشاعر:

كسدن من الفقر في قومهن     وقد زادهن مقامي كسودا

ثم ذكر: ومساكن ترضونها، وهي القصور والدور. ومعنى: ترضونها، تختارون الإقامة بها. وهذه الدواعي الأربعة سببلمخالطة الكفار حب الأقارب، والأموال، والتجارة، والمساكن. فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور. وفي الكلام حذفأي: أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. والقراء على نصبأحب لأنه خبر كان. وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: أحب بالرفع، ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهةالعربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن،ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان. وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتىيأتي الله بأمره. قال ابن عباس ومجاهد: الإشارة إلى فتح مكة. وقال الحسن: الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله،والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق، وفيالتحرير الفسق هنا الكفر، ويدل عليه ما قابله من الهداية. والكفر ضلال، والضلال ضد الهداية، وإنْ كان ذلك في المؤمنينالذين لم يهاجروا، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة. {لَقَدْنَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلارْضُ بِمَا رحبت ثموليتم مدبرين} لما تقدم قوله:

{ قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ }

واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالىنصره إياهم في مواطن كثيرة، والمواطن مقامات الحرب وموافقها. وقيل: مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو، وهي جمعموطن بكسر الطاء قال:

وكم موطن لولاي طحت كما هوى     بإجرامه من قلة النيق منهوى

وهذه المواطن: وقعاتبدر، وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطناً. وحنينواد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز. وصرف مذ هو بابه مذهب المكان، ولو ذهب به مذهب البقعة لميصرف كما قال:

نصروا نبيهم وشدّوا أزره     بحنين يوم تواكل الأبطال

وعطف الزمان على المكان. قال الزمخشري:وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة، ويوم حنين. وقال ابن عطية: ويوم عطف على موضع قوله: في مواطن، أوعلى لفظه بتقدير: وفي يوم، فحذف حرف الخفض انتهى. وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم، وإن كان صادراًمن واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال: لن نغلب اليوم من قلة. والقائل قال ابن المسيب: هو أبوبكر، أو سلمة بن سلامة بن قريش، أو ابن عباس، أو رجل من بني بكر. ونقل أنّ رسول الله صلىالله عليه وسلم ساءه كلام هذا القائل، ووكلوا إلى كلام الرجل. والكثرة بفتح الكاف، ويجمع على كثرات. وتميم تكسرالكاف، وتجمع على كثر كشذوة وشذر، وكسرة وكسر، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفاً، وعن النحاس أربعة عشرألفاً، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي: اثنا عشر ألفاً، وعن مقاتل عن ابن عباس: أحد عشر ألفاً وخمسمائة.والباء في بما رحبت للحال، وما مصدرية أي: ضاقت بكم الأرض مع كونها رحباً واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهملا يجدون مكاناً يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب، فكانها ضاقت عليهم. والرحب: السعة، وبفتح الراء الواسع. يقال:فلان رحب الصدر، وبلد رحب، وأرض رحبة، وقد رحبت رحباً ورحابة. وقرأ زيد بن علي: بما رحبت في الموضعين بسكونالحاء وهي لغة تميم، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرْف. ثم وليتم مدبرين أي: وليتم فارين على أدباركم منهزمينتاركين رسول الله . وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم، إذ ثبت مع رسول الله ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله، فيقول لما افتتح رسول الله صلىالله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفاً إلىما انضاف إليهم من الأعراب من سليم، وبني كلاب، وعبس، وذبيان، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم، فجمعت له هوزانوألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثينألفاً، فخرج إليهم رسول الله بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة، حتى اجتمعوا بحنين، فلماتصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها، فانهزم المسلمون. قال قتادة: ويقال إنّ الطلقاء من أهلمكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وبلغ فلهم مكة، وثبت رسول الله في مركزه علىبغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلبوابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وربيعة بن الحرث، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمنابن أم أيمن، وقتل بين يدي الرسول هؤلاء من أهل بيته، وثبت معه أبو بكر وعمرفكانوا عشرة رجال، ولهذا قال العباس:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة     وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكةبعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر، ونزل عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله، وأخذ قبضة منتراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال: شاهت الوجوه قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لميبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب، وقال للعباس وكان صيتاً: نادِ أصحاب السمرة، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً،ثم نادى يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون: لبيك لبيك، وانهزم المشركون فنظر رسولالله إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمي الوطيس وركض رسول الله خلفهم على بغلته. وفي صحيح مسلم من حديث البراء: أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل منجراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: أنا النبي لا كذبأنا ابن عبد المطلباللهم أنزل نصرك قال البراء: كنا والله إذا حمي البأس نتقي به، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي . وفي أول هذا الحديث: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: اشهد عليّ رسول الله ما ولى. {ثُمَّأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } السكينة: النصر الذي سكنت إليه النفوس، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: رحمتهالتي سكنوا بها. وقيل: الوقاء والثبات بعد الاضطراب والقلق، ويخرج من هذا القول الرسول ، فإنه لميزل ثابت الجأش ساكنه، وعلى المؤمنين ظاهره شمول مَنْ فرَّ ومَنْ ثبت. وقيل: هم الأنصار إذ هم الذين كروا وردّواالهزيمة. وقيل: من ثبت مع الرسول حالة فرّ الناس. وقرأ زيد بن علي: سِكينته بكسر السينوتشديد الكاف مبالغة في السكينة. نحو شرّيب وطبيخ. {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة بلا خلاف، ولم تتعرضالآية لعددهم. فقال الحسن: ستة عشر ألفاً. وقال مجاهد: ثمانية آلاف. وقال ابن جبير: خمسة آلاف. وهذا تناقض في الأخبار،والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين. وعن ابن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفناالمسلمين جعلنا نسوقهم، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسانها فقالوا: شاهت الوجوه، ارجعوا فرجعنا، فركبواأكتافنا. والظاهر انتفاء الرؤية عن المؤمنين، لأن الخطاب هو لهم. وقد روي أنّ رجلاً من بني النضير قال للمؤمنين بعدالقتال: أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليها بيض ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟فأخبروا النبي فقال: تلك الملائكة . وقيل: لم تروها، نفى عن الجميع، ومن رأى بعضهم لم يركلهم. وقيل: لم يرها أحد من المسلمين ولا الكفار، وإنما أنزلهم يلقون التثبيت في قلوب المؤمنين والرعب والجبن في قلوبالكفار. وقال يزيد بن عامر: كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب. {وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَجَزَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي بالقتل الذي استحر فيهم، والأسر لذراريهم ونسائهم، والنهب لأموالهم، وكان السبي أربعة آلاف رأس. وقيل: سنةآلاف، ومن الإبل اثنا عشر ألفاً سوى ما لا يعلم من الغنم، وقسمها الرسول بالجعرانة، وفيها قصة عباس بن مرداسوشعره. وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عليها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة قال: هويرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد القتلة المشهورة، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ويقال له: ابنالدغنة. {ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ * مَا يَشَاء وَٱللَّهُ * غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إخبار بأن اللهيتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيسهوازن ومن أسلم معه من قومه. وروي أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خيرالناس وأبرّ الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى، فقال: إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإمّا أموالكم فقالوا: ما نعدل بالأحساب شيئاً. وتمام الحديثأنهم أخذوا نساءهم زذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحملت منه فلم يردها. أخبرنا القاضي العالم أبوعلي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي قراءة مني عليه بمدينة مالقة. قال: أخبرنا أبو الحسن بن محمدبن بيقي بن حبلة الخزرجي باوو بولة، قال: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني باسكندرية (ح) وأخبرناأستاذنا الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير قراءة مني عليه بغرناطة عن القاضي أبي الخطاب محمدبن أحمد بن خليل السكوني عن أبي طاهر السلفي وهو آخر من حدث عنه بالغرب، (ح) وأخبرنا عالياً القاضي السعيدصفي الدين أبو محمد عبد الوهاب بن حسن بن الفرات قراءة عليه مرتين بثغر الاسكندرية، عن أبي الطاهر اسماعيل بنصالح بن ياسين الجبلي وهو آخر من حدث عنه قالا: أعني السلفي والجبلي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمدبن ابراهيم الرازي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن بقاء بن محمد الوراق بمصر أخبرنا أبو عبد الله محمد بنالحسين بن عمر اليمني التنوخي بانتفاء خلف الواسطي الحافظ (ح) وأخبرنا المحدث العدل نجيب الدين أبو عبد الله محمد بنأحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني عرف بابن العجمي قراءة مني عليه بالقاهرة قلت له: أخبرك أبو الفخر أسعد بنأبي الفتوح بن روح وعفيفة بنت أحمد بن عبد الله في كتابيهما قالا: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمدبن عقيل الجوزدانية. قالت: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة الضبي، قال: أخبرنا أبو القاسم سليمان بنأحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا: ــ أعني التنوخي والطبراني ـ أخبرنا عبيد الله بن رماحس زاد التنوخي بن محمدبن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين، وقالالطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين، قال: حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخيالجشمي. وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيدقومه وكان يكنى أبا صرد. قال: لما كان يوم حنين أسرنا رسول الله فبينا هو يميزبين الرجال والنساء، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول: وقال الطبرانيعن زياد قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله يومحنين قوم هوازن، وذهب يفرق السبي والشاء، فأتيته فأنشأت أقوال هذا الشعر:

امنن علينا رسول الله في كرم     فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على بيضة قد عاقها قدر
مفرق شملها في دهرها غير أبقت لنا الحرب هتافاً على حرن     على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركهم نعماء تنشرها
يل أرجح الناس حلماً حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها     إذ فوك يملأوها من محضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر يا خير من مرحت كمت الجياد به     عند الهياج إذا ما استوقد الشرر لا تجعلنا كمن شالت نعامته
واستبق منا فإنا معشر زهر إنا نؤمل عفواً منك نلبسه     هذى البرية أن تعفو وتنتصر إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت
وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه     من أمهاتك أن العفو مشتهر واعف عفا الله عما أنت راهبه

وفي رواية الطبرانيتقديم وتأخير في بعض الأبيات، وتغيير لبعض ألفاظ، فترتيب الأبيات بعد قوله: إذ أنت طفل قوله: لا تجعلنا، ثم إنۤالنشكر، ثم فالبس العفو، ثم تأخير من مرحت، ثم إنا نؤمل، ثم فاعف. وتغيير الألفاظ قوله: وإذ يربيك بالراء والباءمكان الزاي والنون. وقوله للنعماء: إذ كفرت. وقوله: إذ تعفو. وفي رواية الطبراني قال: فلما سمع النبي صلى الله عليهوسلم هذا الشعر قال : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وقالت قريش: ما كانلنا فهو لله ولرسوله. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وفي رواية التنوخي، فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فللَّه ولكم وقالت الأنصار: ما كان لنا فللَّه ولرسوله، ردّت الأنصارما كان في أيديها من الذراري والأموال. {رَّحِيمٌ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَعَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن } لما أمر النبي علياً أنْ يقرأعلى مشركي مكة أول براءة، وينبذ إليهم عهدهم، وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس: يا أهل مكة ستعلمونما تلقون من الشدّة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت. وقيل: لما نزل إنما المشركون نجس، شق على المسلمين وقالوا: منيأتينا بطعامنا، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة، فنزلت: وإن خفتم عيلة الآية. والجمهور على أنّ المشرك من اتخذ مع الله إلۤهاًآخر، وعلى أنّ أهل الكتاب ليسوا بمشركين. ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الاشراك لقوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }

أي يكفر به. وقرأ الجمهور: نجس بفتح النون والجيم، وهو مصدر نجس نجساً أي قذر قذراً، والظاهرالحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس. قال ابن عباس، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وغيره: الشرك هو الذي نجسهم،فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير. وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ. وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال: إن الوضوء يجبمن مسِّ المشرك، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية. وقال قتادة، ومعمر بن راشد وغيرهما: وصف المشركبالنجاسة لأنه جنب، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين، وهومذهب مالك. وقال ابن عبد الحكم: لا يجب، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجساًمبالغة في وصفهم بالنجاسة. وقرأ أبو حيوة: نِجْس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، أي: جنس نجس،أو ضرب نجس، وهو اسم فاعل من نجس، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش. وقرأ ابنالسميفع: أنجاس، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل. وفي النهيعن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وهذا النهيمن حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام. والظاهر أنّ النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام، وهذامذهب أبي حنيفة. وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وقال الزمخشري: إنّ معنىقوله: «فلا يقربوا المسجد الحرام» فلا يحجوا ولا يعتمروا، ويدل على قول عليّ حين نادى ببراءة: لا يحج بعد عامناهذا مشرك، قال: ولا يمنعون من دخول الحرم، والمسجد الحرام، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى. وقال الشافعي: هي عامةفي الكفار، خاصة في المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد. وقاس مالك جميع الكفار من أهلالكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد. وقال عطاء: المرادبالمسجد الحرام الحرم، وأنّ على المسلمين أنْ لا يمكنوهم من دخوله. وقيل: المراد من القربان أنْ يمنعوا من تولى المسجدالحرام والقيام بمصالحه، ويعزلوا عن ذلك. وقال جابر بن عبد الله وقتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكونصاحب حرية، أو عبد المسلم، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا: هو عام تسع من الهجرة، وهو العام الذي حج فيهأبو بكر أميراً على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة. وقال قتادة: هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله، والعيلة الفقر. وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: عائلة وهو مصدر كالعاقبة، أو نعت لمحذوف أي:حالاً عائلة، وإنّ هنا على بابها من الشرط. وقال عمرو بن قائد: المعنى وإذ خفتم كقولهم: إنْ كنت ابني فأطعني،أي: إذ كنت. وكون إنْ بمعنى إذ قول مرغوب عنه. وتقدّم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى. قال الضحاك: مافتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة. وقال عكرمة: أغناهم بادرار المطر عليهم، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم، وأغنىالله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم، وعلق الاغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دونوقت. وقيل: لإجراء الحكم على الحكمة، فإنْ اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم. وقال القرطبي: إعلاماً بأنّ الرزق لا يأتي بحيلةولا اجتهاد، وإنما هو فضل الله. ويروي للشافعي:

لو كان بالحيل الغنى لوجدتني     بنجوم أقطار السماء تعلقي لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق ومن الدليل على القضاء وكونه     بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

إن الله بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة. وقال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيماحكم في المشركين. {قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَدِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليهوسلم بغزو الروم، وغزا بعد نزولها تبوك. وقيل: نزلت في قريظة والنضير فصالحهم، وكانت أول جزية أصابها المسلمون، وأول ذلكأصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله، آذ يصفونه بما لايليق أن يوصف به قاله الكرماني. وقال الزجاج: لأنهم جعلوا له ولداً وبدلوا كتابهم، وحرموا ما لم يحرم، وحللوا مالم يحلل. وقال ابن عطية: لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع مالهم في البعث وفيالله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذْ يلقونها من غير طريقها. وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة، لأنهم شبهوا وقالوا:عزير ابن الله وثالث ثلاثة، وغير ذلك. ولهم أيضاً في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان. وقول اليهودفي النار يكون فيها أياماً انتهى. وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة، والمؤمن لا يجسم انتهى. والمنقول عن اليهودوالنصارى إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في السنة. وقيل: في التوراة والإنجيل،لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل، والرسول على هذا موسى وعيسى، وعلى القول الأول محمد . وقيل:ولا يحرمون الخمر والخنزير. وقيل: ولا يحرمون الكذب على الله، قالوا:

{ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ }

وقيل: ما حرم الله من الربا وأموال الأميين، والظاهر عموم ما حرم اللهورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن. ولا يدينون دين الحق أي: لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق، وما سواهباطل. وقيل: دين الحق دين الله، والحق هو الله قاله: قتادة. يقال: فلان يدين بكذا أي يتخذه ديناً ويعتقده. وقالأبو عبيدة: معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان لهوخضع. قال زهير:

لئن حللت بجوفي بني أسد     في دين عمرو وحلت بيننا فدك

{مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} بيان لقوله: الذين. والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصاً. وأجمع الناس على ذلك.وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم انتهى. وروي أنه كان بعث في المجوسنبي اسمه زرادشت، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب. وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهمالجزية وتؤكل ذبيحتهم. وقالت فرقة: لا تؤخذ منهم جزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقيل: تؤخذ منهم الجزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقالالأوزاعي: تؤخذ من كل عابد وثن أو نارٍ أو جامدٍ مكذب. وقال أبو حنيفة: لا يقبل من مشركي العرب إلاالإسلام أو السيف، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية. وقال مالك: تؤخذ من عابد النار والوثن وغيرذلك كائناً من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد. وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور: لا تقبلإلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط. والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لاتؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين. وقال مالك في الواضحة: إن كانتقد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط، وتضرب على رهبان الكنائس. واختلف في الشيخ الفاني، ولم تتعرض الآية لمقدار ماعلى كل رأس ولا لوقت إعطائها. فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر: أربعة دنانيرعلى أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، وفرض عمر ضيافة وأرزاقاً وكسوة. وقال الثوري: رويت عن عمر ضرائب مختلفة،وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم. وقال الشافعي وغيره: على كل رأس دينار. وقال أبو حنيفة: على الفقير المكتسباثنا عشر درهماً، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهماً، ولا يؤخذ عنده من فقيرلا كسب له. قال ابن عطية: وهذا كله في الفترة. وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير.وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة، وعند الشافعي آخر السنة. وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عماأسدي عليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالعقدة والجلسة، ومن هذا المعنى قول الشاعر:

نجزيك أو نثني عليك وأن من     أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

وقيل: لأنها طائفة مما على أهل الذمة أنْ يجزوهأي يقضوه عن يد. قال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها. وقال عثمان: يعطونها نقداً لا نسيئة. وقال قتادة:يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم. وقيل: عن اعتراف. وقيل: عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمرفيهم، كما تقول: اليد في هذا لفلان أي الأمر له. وقيل: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبولها منهم عوضاً عنأرواحهم إنعام عليهم من قولهم له: عليَّ يد أيْ: نعمة. وقال القتبي: يقال أعطاه عن يدٍ وعن ظهر يد، إذاأعطاه مبتدئاً غير مكافىء. وقيل: عن يد عن جماعة أي: لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله. واليد جماعة القوم،يقال القوم على يد واحدة أي: هم مجتمعون. وقيل: عن يد أي عن غنى، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير. ولخصالزمخشري في ذلك فقال: أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم، لأنقبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم. وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يدٍ مواتية غير ممتنعة، لأنّمن أبي وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده إذا انقاد واحتجب. ألا ترى إلى قولهم:نزع يده عن الطاعة، أو عن يد إلى يد أي نقداً غير نسيئة، أولاً مبعوثاً على يد آخر ولكن عنيد المعطى البريد الآخذ. وهم صاغرون جملة حالية أي: ذليلون حقيرون. وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرضلتعيين شيء منها الآية. قال ابن عباس: يمشون بها ملببين. وقال سليمان الفارسي: لا يحمدون على إعطائهم. وقال عكرمة: يكونقائماً والآخذ جالساً. وقال الكلبي: يقال له عند دفعها أدّ الجزية ويصك في قفاه. وحكى البغوي: يؤخذ بلحيته ويضرب فيلهزمته. {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوٰهِهِمْ يُضَـٰهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنقَبْلُ قاتلهم الله أنى يؤفكون} بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين منيعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره، لأنّ الشرك هو أنْ يتّخذ مع الله معبوداً، بل عابد الوثن أخف كفراًمن النصراني، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة.قال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم: سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف. وقيل:قاله فنحاص. وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم.قيل: والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب،وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلاميسيح في الأرض، فأتاه جبريل فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانهلا يخرم حرفاً فقالوا: ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه، ونقلوا حكايات في ذلك.وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم:أنّ المسيح إلۤه، وأنه ابن الإلۤه. ويقال: إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّةالمحمدية وظهور دلائل صدقها، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى. وقرأ عاصم، والكسائي عزيرمنوناً على أنه عربي، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كعاذر وغيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر.وقال أبو عبيد: هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود. قيل: وليس قوله بمستقيم، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر،إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر. ومن زعم أنّ التنوين حذفمن عزير لالتقاء الساكنين كقراءة:

{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ }

وقول الشاعر:

إذا غطيف السلمى فرّا    

أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه، والخبر محذوف أي: إلاٰ هنا ومعبودنا. فقوله متمحل، لأنّ الذيأنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى. ومعنى بأفواههم: أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظفارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى لفظةمقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير. وقيل: معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد،كما قال:

{ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ }

{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ }

ولا بد من حذف مضاف في قوله: يضاهون أييضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله، وهو قول الضحاك. أو الضميرعائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي: يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير،واليهود أقدم من النصارى، وهو قول قتادة. وقرأ عاصم وابن مصرف: يضاهئون بالهمز، وباقي السبعة بغير همز. قاتلهم الله أنىيؤفكون: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المقتول. وقال ابن عباس: معناه لعنهم الله. وقال ابان بنتغلب:

قاتلها الله تلحاني وقد علمت     إني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وقال قتادة: قتلهم، وذكر ابن الأنباريعاداهم. وقال النقاش: أصل قاتل الدعاء، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدونالدعاء. وأنشد الأصمعي:

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني     وأخبر الناس أني لا أباليها

وليس من باب المفاعلةبل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص. أنّى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجبٰ.

{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } عدل

{ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ } تعدتاتخذ هنا المفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى. قال حذيفة: لم يعبدوهم ولكنْ أحلوا لهم الحرام فأحلوه، وحرموا عليهم الحلالفحرموه، وقد جاء هذا مرفوعاً في الترمذي إلى الرسول من حديث عدي بن حاتم. وقيل: كانوايسجدون لهم كما يسجدون لله، والسجود لا يكون إلا لله، فأطلق عليهم ذلك مجازاً. وقيل: علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول،وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم، فهؤلاء اتخذوهم أرباباً حقيقة.ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيراً، وقالوا بالاتحاد. وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا، وقدرأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر. وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشياً في زمانه، حكاه في تفسيره عنبعض المروزيين كان يقول لأصحابه: أنتم عبيدي، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية. وإذا كان هذا مشاهداً فيهذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهىٰ وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوّفقطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتاباً في هذه الطائفة، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج، وأباعبد الله الشوذي كان بتلمسان، وابراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة، وأبا عبد الله بن أحلىالمتأمر بلورقة، وأبا عبد الله بن العربي الطائي، وعمر بن علي بن الفارض، وعبد الحق بن سبعين، وأبا الحسن الششتريمن أصحابه، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى، والصفيفير من أصحابه أيضاً، والعفيف التلمساني. وذكر في كتابه من أحوالهموكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب. وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها، وقدرأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره، وكان يتكتم هذا المذهب. وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطاًله خلطة كثيرة، وكان متهماً بهذا المذهب، وخرج التلمساني من القاهرة هارباً إلى الشام من القتل على الزندقة. وأما ملوكالعبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلۤهية، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد. والأحبار علماء اليهود،والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع. أخبر عن المجموع، وعاد كل ما يناسبه. أي:اتخذ اليهود أحبارهم، والنصارى رهبانهم. والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم. {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـٰهاً وٰحِداً لاَّ إِلَـٰهَهُوَ سُبْحَـٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا، أي: أمروا في التوراة والإنجيلعلى ألسنة أنبيائهم. وقيل: في القرآن على لسان رسول الله . وقيل: في الكتب الثلاثة. وقيل: فيالكتب المنزلة، وعلى لسان جميع الأنبياء. وقال الزمخشري: أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام، أنه منيشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة. وقيل: الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أرباباً أي: وما أمر هؤلاء إلاليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون؟ وفي قوله: عما يشركون، دلالة على إطلاق اسم الشركعلى اليهود والنصارى. {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ }مثلهم ومثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ فينور عظيم منبث في الآفاق، ونور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث، فمن حيث سماه نوراً سمى محاولة إفسادهإطفاء. وقالت فرقة: النور القرآن وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها. أخبر أنهم يحاولون أمراً جسيماً بسعيٍ ضعيف، فكان الإطفاءبنفخ الأفواه. ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فهم سامعٍ، وناسب ذكر الإطفاء الأفواه.وقيل: إن الله لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور، ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منهمحذوف، لأنه فعل موجب، والموجب لا تدخل معه إلا، لا تقول كرهت إلا زيداً. وتقدير المستثنى منه: ويأبى الله كلشيء إلا أنْ يتم قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: جاز هذا في أبي، لأنه منع وامتناع، فضارعت النفي. وقالالكرماني: معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة. وقال الفراء: دخلت إلالأنّ في الكلام طرفاً من الجحد. وقال الزمخشري: أجرى أبى مجرى لم يرد. ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوابقوله: ويأبى الله، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره؟ {هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } هو محمد ، والهدى التوحيد، أو القرآن، أوبيان الفرائض أقوال ثلاثة. ودين الحق: الإسلام

{ إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ }

والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد علىالرسول لأنه المحدّث عنه، والدين هنا جنس أي: ليعليه على أهل الأديان كلهم، فهو على حذف مضاف. فهو صلى اللهعليه وسلم غلبت أمته اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناحية الروم والمغرب، وغلبوا المجوسعلى ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند، وكذلك سائر الأديان. وقيل: المعنى يطلعه علىشرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منه، فالدين هنا شرعه الذي جاء به. وقال الشافعي: قد أظهر الله رسول على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل. وقيل: الضميريعود على الدين، فقال أبو هريرة، والباقر، وجابر بن عبد الله: إظهار الدِّين عند نزول عيسى ابن مريم ورجوع الأديانكلها إلى دين الإسلام، كأنها ذهبت هذه الفرقة إلى إظهاره على أتم وجوهه حتى لا يبقى معه دين آخر. وقالتفرقة: ليجعله أعلاها وأظهرها، وإن كان معه غيره كان دونه، وهذا القول لا يحتاج معه إلى نزول عيسى، بل كانهذا في صدر الأمة، وهو كذلك باق إن شاء الله تعالى. وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحدإلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج. وقيل: مخصوص بجزيرة العرب، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحداً من الكفار. وقيل:مخصوص بقرب الساعة، فإنه إذ ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم. وقيل: ليظهره بالحجة والبيان. وضعف هذا القول لأنّ ذلككان حاصلاً أول الأمر. وقيل: نزلت على سبب وهو أنه كان لقريش رحلتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيفإلى الشام والعراقين، فلما أسلموا انقطعت الرحلتان لمباينة الدين والدار، فذكروا ذلك للرسول فنزلت هذه الآية.فالمعنى: ليظهره على الدين كله في بلاد الرحلتين، وقد حصل هذا أسلم أهل اليمن وأهل الشام والعراقين. وفي الحديث: رويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها قال بعض العلماء: ولذلك اتسع مجال الإسلام بالمشرقوالمغرب ولم يتسع في الجنوب انتهى. ولا يسما اتساع الإسلام بالمشرق في زماننا، فقلّ ما بقي فيه كافر، بل أسلممعظم الترك التتار والخطا، وكل من كان يناوىء الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجاً والحمد لله. وخص المشركون هنا بالذكرلما كانت كراهة مختصة بظهور دين محمد ، وخص الكافرون قبل لأنها كراهة إتمام نور الله فيقديم الدهر، وباقيه يعم الكفرة من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها، ووقعت الكراهة والإتمام مراراً كثيرة.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } * { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } * { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } * { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } * { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } * { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } * { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } * { لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } * { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } * { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ } * { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } * { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } * { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } * { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } * { وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } * { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } * { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } * { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ } * { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } عدل

أصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال:

لا درّ درّي إنْ أطعمت ضائعهم     قرف الجثى وعندي البر مكنوز

وقالوا: رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه. وقال الراجز:

على شديد لحمه كناز     بات ينزيني على أوفاز

ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة.الكي: معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد. والجبهة: معروفة وهي صفحة أعلى الوجه. والغاز: معروف وهونقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه، وقال ابن فارس: الغار الكهف، والغار نبت طيب الريح، والغار الجماعة، والغاران البطن والفرج.ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه، وناقة ثبطة أي بطيئة السير. وأصل التثبيط التعويق، وهو أن يحول بين الإنسان وبينأمر يريده بالتزهيد فيه. الزهق: الخروج بصعوبة، قال الزجاج: بالكسر خروج الروح، وقال الكسائي والمبرد: زهقت نفسه وزهقت لغتان، والزهقالهلاك، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر، والزهوق البعد، والزهوق البئر البعيدة المهواة. الملجأ: مفعل من لجأ إلىكذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته. جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل.قال:

سبوحاً جموحاً وإحضارها     كمعمعة السعف الموقد

وقال مهلهل:

وقد جمحت جماحاً في دمائهم     حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا

وقال آخر:

إذا جمحت نساؤكم إليه     اشظ كأنه مسد مغار

حمز قفر، وقيل: بمعنى جمح.قال رؤبة:

قاربت بين عنقي وجمزي    

اللمز قال الليث: هو كالغمز في الوجه. وقال الجوهري: العيب، وأصله الإشارة بالعينونحوها. وقال الأزهري: أصل اللمز الدفع، لمزتُه دفعته. الغرم: أصله لزوم ما يشق، والغرام العذاب الشاق، وسمي العشق غراماً لكونهشاقاً ولازماً. {ٱلْمُشْرِكُونَ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلاْحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنسَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } لمّا ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ذكر ما هوكثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً لهم، وأنّ مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم، فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليهمن أكل المال بالباطل، وصدهم عن سبيل الله. واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين: أكلالمال بالباطل، وكنز المال إن ضنوا أنْ ينفقوها في سبيل الله، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائبباسم الكنائس والبيع، وغير ذلك مما يوهمونهم به أنّ النفقه فيه من الشرع والتقرب إلى الله، وهم يحجبون تلك الأموالكالراهب الذي استخرج سلمان كنزه. وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام، كإيهام حماية دينهم، وصدهم عن سبيل الله هو دينالإسلام واتباع الرسول. وقيل: الجور في الحكم، ويحتمل أن يكون يصدون متعدياً وهو أبلغ في الذم، ويحتمل أن يكون قاصراً.وقرأ الجمهور: والذين بالواو، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين. وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط، ولذلك دخلتالفاء في خبره في قوله: فبشرهم. وقيل: والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان. وروي هذا القول عن عثمانومعاوية. وقيل: كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين، وروي هذا القول عن السدي، والظاهر العموم كما قلناه، فيقرنبين الكانزين من المسلمين، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب. وروي العموم عنأبي ذر وغيره. وقرأ ابن مصرّف: الذين بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم.والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله. وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء، وأنه يكوى بهاإلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، فلذلكقال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدّى زكاته وإن كان على وجه الأرض، فأما المال المدفون إذاأخرجت زكاته فليس بكنز. قال رسول الله : كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وعن عمر أنهقال لرجل باع أرضاً أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال: أليس بكنز، فقال: «ما أدّى زكاتهفليس بكنز». وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدّي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك. وقال علي: أربعة آلاف فما دونهانفقة، وما زاد عليها فهو كنز وإن أدّيت زكاته. وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل علىحاجة نفسه فهو كنز. وهذان القولان يقتضيان أنّ الذم في جنس المال، لا في منع الزكاة فقط. وقال عمر بنعبد العزيز: هي منسوخة بقوله: خذ من أموالهم صدقة فأتى فرض الزكاة على هذا كله، كأنّ الآية تضمنت: لا تجمعوامالاً فتعذبوا، فنسخه التقرير الذي في قوله: خذ من أموالهم صدقة، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالاًمن جهة أذن له فيها ويؤدّى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهمكعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، يقتنون الأموال ويتصرّفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة، لأنّالإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، وما روي عن عليّ كلامفي الأفضل. وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر: يكنزون بضم الياء، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأمواللأنهما قيم الأموال وأثمانها، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال، وكنزهمايدل على ما سواهما. والضمير في: ولا ينفقونها، عائد على الذهب، لأن تأنيثه أشهر، أو على الفضة. وحذف المعطوف فيهذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً، فروعي المعنى كقوله:

{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ }

أو لأنهما محتويانعلى جمع دنانير ودراهم، أو على المكنوزات، لدلالة يكنزون. أو على الأموال، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه. ولاينفقونها، أو على الزكاة أي: ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال. وقال كثير من المفسرين: عاد على أحدهما كقوله:

{ وَإِذْ * رَأَوْاْ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْواً }

وليس مثله، لأن هذا عطف بأو، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو،إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن، وهو خلاف الظاهر. {يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَفَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } يقال: حميت الحديدة في النار أيأوقدت عليها لتحمى، وتقول: أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضاً فحميت. وقرأ الجمهور: يوم يحمى عليها بالياء، أصله يحمى النار عليها،فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور، لم تلحق التاء كما تقول: رفعت القصة إلىالأمير. وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت: رفع إلى الأمير، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلىالنار، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء. وقيل: من قرأ بالياء، فالمعنى: يحمى الوقود. ومن قرأ بالتاء فالمعنى:تحمى النار. والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي: يعذبون يوم يحمى. وقرأ أبو حيوة: فيكوى بالياء ، لماكان ما أسند إليه تأنيثه حقيقياً، ووقع الفصل أيضاً ذكر، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك فيالإدغام الكبير، كما أدغم مناسككم وما سلككم، وخصت هذه المواضع بالكي. قيل: لأنه في الجهة أشنع، وفي الجنب والظهر أوجع.وقيل: لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر، بخلاف اليد والرجل. وقيل: معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم. وقيل:لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم. وقال الزمخشري: لأنهم لميطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدّم، وأن يكون ماءوجوههم مصوناً عندهم يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثيابيطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم. لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى اللهعليه وسلم: ذهب أهل الدثور بالأجور وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوابأركانهم، وولوا ظهورهم. وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي: يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز، أوإشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم، أي: هذا الكي نتيجة ما كنزتم، أو ثمرة ما كنزتم. ومعنىلأنفسكم: لتنتفع به أنفسكم وتلتذ، فصار عذاباً لكم، وهذا القول توبيخ لهم. فذوقوا ما كنتم أي: وبال المال الذي كنتمتكنزون. ويجوز أن تكون ما مصدرية أي: وبال كونكم كانزين. وقرىء يكنزون بضم النون. وفي حديث أبي ذر: بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم وفي حصحي البخاري وصحيح مسلم: الوعيد الشديد لمانع الزكاة . {إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَايُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ } كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها، فكانت إذا توالت عليهمالأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمسوهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد، ثم ابنه قلع، ثم ابنهأمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف، وعليه قام الإسلام. وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليهمن شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً أي: أخِّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، فيغيرون فيهويعيشون. ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدّة الأشهر الأربعة، ويسمون ذلك الصفر المحرم، ويسمون ربيعاً الأول صفراً، وربيعاً الآخر ربيعاًالأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضع لهم، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيءالسنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا.قال مجاهد: ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتىكانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . ومناسبة هذه الآية أنهلما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى، لأنهحكم في وقت بحكم خاص، فإذا غيَّروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله. والشهور: جمع كثرة لما كانت أزيد منعشرة، بخلاف قوله:

{ الحج أشهر معلومات }

فجاء بلفظ جمع القلة، والمعنى: شهور السنة القمرية، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لاشمسية، توارثوه عن اسماعيل وابراهيم. ومعنى عند الله: أي، في حكمه وتقديره كما تقول: هذا عند أبي حنيفة. وقيل: التقديرعدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر. وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص: بإسكانالعين مع إثبات الألف، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة، كما روي: التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا. وقرأطلحة: بإسكان الشين، وانتصب شهراً على التمييز المؤكد كقولك: عندي من الرجال عشرون رجلاً. ومعنى في كتاب الله قال بانعباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: في إيجاب الله. وقيل: في حكمه. وقيل: في القرآن، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعةهي السنة القمرية، وهذا الحكم في القرآن. قال تعالى:

{ وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ }

وقال:

{ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ }

قال ابن عطية: أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره، فهيصفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليس بمعنى قضائه وتقديره، لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض انتهى. وعند الله متعلقبعدة. وقال الحوفي: في كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضاً بعدّة. وقال أبو علي: لايجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهراً،ولأنه لا يجوز انتهى. وهو كلام صحيح. وقال أبو البقاء: عدة مصدر مثل العدد، وفي كتاب الله صفة لاثنا عشر،ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدراً لا جثة، ويجوز أن يكون جثة، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى.وقيل: انتصب يوم بفعل محذوف أي: كتب ذلك يوم خلق السموات، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقالفيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }

جمع هنا بينهما، إذ لا تعارض والضميرفي منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر، وفي موضع الحالمن ضمير في مستقر. وأربعة حرم سميت حرماً لتحريم القتال فيها، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها. وتسكين الراء لغة.وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا، والصحيح: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة،والمحرم. وأولها عند كثير من العلماء رجب، فيكون من سنتين. وقال قوم: أولها المحرم، فيكون من سنة واحدة. ذلك الدينالقيم أي: القضاء المستقيم، قاله ابن عباس. وقيل: العدد الصحيح. وقيل: الشرع القويم، إذ هو دين ابراهيم. فلا تظلموا فيهنأنفسكم، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهراً، قاله ابن عباس: والمعنى: لا تجعلوا حلالاً حراماً، ولا حراماً حلالاًكفعل النسيء. ويؤيده كون الظلم منهياً عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم. وقال قتادة والفراء: هو عائد علىالأربعة الحرم، نهى عن المظالم فيها تشريفاً لها وتعظيماً بالتخصيص بالذكر، وإن كانت المظالم منهياً عنها في كل زمان. وقالالزمخشري: فلا تظلموا فيهن أي: في الأشهر الحرم، أي: تجعلوا حرامها حلالاً. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرمبراءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى:

{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ }

وإن كان ذلك محرماً في سائر الشهور انتهى. ويؤيدعوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن، ولم يجىء بلفظ فيها كما جاء منها أربعةحرم، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثةفتقول: الجذوع انكسرت، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول: الأجذاع انكسرن، هذا هو الصحيح. وقد يعكسقليلاً فتقول: الجذوع انكسرن، والاجذاع انكسرت، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال، أو بالبداءة بالقتال،أو بترك المحارم لعددكم أقوال. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول، ومعناه جميعاً. ولا يثنى، ولا يجمع،ولا تدخله أل، ولا يتصرف فيها بغير الحال. وتقدم بسط الكلام فيها في قوله:

{ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً }

فأغنىعن إعادته. والمعية بالنصر والتأييد، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها. {إِنَّمَا ٱلنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَكَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ }: يقال: نسأه وأنسأه إذا أخَّره، حكاه الكسائي. قالالجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسيء كما حولمقتول إلى قتيل. ورجل ناسىء، وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة انتهى. وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكيرمن أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناهالزيادة انتهى. فإذا قلت: أنسأ الله؛ الله أجله بمعنى أخَّر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفاً للزيادة،بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً، وإذا كان بمعنىمفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة أي: ذو زيادة. وبتقدير هذاالإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة،والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر. وقرأ الجمهور: النسيء مهموز على وزن فعيل. وقرأ الزهري وحميد وأبوجعفر وورش عن نافع والحلواني: النسيّ بتشديد الياء من غير همز، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء،وأدغم الياء فيها، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا: نبي وخطية بالإبدال والإدغام. وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمدوالزهري بإسكان السين. وقرأ مجاهد: النسوء على وزن فعول بفتح الفاء، وهو التأخير. ورويت هذه عن طلحة والسلمي. وقول أبيوائل: إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف. وقول الشاعر:

أنسنا الناسئين على معد     شهور الحل نجعلها حراما

وقال آخر:

نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها     من قبلكم والعز لم يتحول

وأخبر أنّ النسيء زيادة في الكفر أي: جاءت مع كفرهم بالله، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازدادكفراً. قال تعالى:

{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }

كما أنّ المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيماناً. قال تعالى:

{ فَزَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }

وأعاد الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة. وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يضل مبنياًللمفعول، وهو مناسب لقوله: زين، وباقي السبعة مبنياً للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب:يضل أي الله، أي: يضل به الذين كفروا اتباعهم. ورويت هذه القراءة عن: الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأأبو رجاء: يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل. وقرأالنخعي ومحبوب عن الحسن: نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي: نضل نحن. ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً: لا يرادان ذلك،كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام. وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهمتوالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كانمن قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة، وإنَّ هذه كانت حال القوم. وتقدم لنا أنّالذي انتدب أولاً للنسيء القلمس. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة.وعن ابن عباس: إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ، وهو أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم. وقالالكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة. والمواطأة: الموافقة، أي ليوافقوا العدة التيحرم الله وهي الأربعة ولا يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد الذي هو أربعة فيأشخاص أشهر معلومة وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم كما تقدم. ويقال: تواطؤا على كذا إذا اجتمعوا عليه، كانكل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. ومنه الإيطاء في الشعر، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحدومعنى واحد، وهو عيب إنْ تقارب. واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله: ويحرمونه، وذلك على طريق الأعمال. ومَنن قال: إنه متعلقبيحلونه ويحرمونه معاً، فإنه يريد من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب. قال ابن عطية: ليحفظوا في كل عام أربعةأشهر في العدد، فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر رمضان، ويصوم شهراً من السنةبغير مرض أو سفر انتهى. وقرأ الأعمش وأبو جعفر: ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملةالمبدل منه، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف، فكنت لاستثقال الضمة عليها، وذهبت لالتقاءالساكنين، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا. وجاء عن الزهري: ليواطيوابتشديد الياء، هكذا الترجمة عنه. قال صاحب اللوامح: فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف،فلا أعرف وجهه انتهى. فيحلوا ما حرم الله أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله تعالى منالقتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها. وقرأ الجمهور: زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول. والأولى أن يكون المنسوب إليهالتزيين الشيطان، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم. وقرأ زيد بن علي: زيِّن لهم سوءبفتح الزاي والياء والهمزة، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم. قال الزمخشري: خذلهم الله تعالى فحسبوا أعمالهمالقبيحة حسنة. والله لا يهدي أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. وقال أبو علي: لا يهديهمإلى طريق الجنة والثواب. وقال الأصم: لا يحكم لهم بالهداية. وقيل: لا يفعل بهم خيراً، والعرب تسمي كل خير هدى،وكل شر ضلالة انتهى. وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون. {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَلَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلاْرْضِ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلاْخِرَةِ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاقليل}: لما أمر الله رسوله بغزاة تبوك، وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار، عظم ذك على الناس وأحبواالمقام، نزلت عتاباً على من تخلف عن هذه الغزوة، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، غزا فيها الرومفي عشرين ألفاً من راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون. وخص الثلاثة بالعتاب الشديدبحسب مكانهم من الصحبة، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسبما يأتي إن شاءالله تعالى. ولما شرح معاتب الكفار رغب في مقابلتهم. وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع، وبني قيل للمفعول، والقائل هوالرسول لم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره. إذ أخلد إلى الهوينا والدعة: من أخلد وخالفأمره . وقرأ الأعمش: تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم، وهو ماض بمعنى المضارع، وهو فيموضع الحال، وهو عامل في إذ أي: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا. وقال أبو البقاء: الماضي هنا بمعنىالمضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وموضعه نصب. أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على مذهب الخليلانتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه يلزم منه حذف أنْ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل، وحذف أنْفي نحو هذا قليل جداً أو ضرورة. وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا، لأن معمول المصدرالموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبراً لما. وقرىء: اثاقلتمعلى الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام. فقال الزمخشري: يعمل فيهما دل عليه، أو ما في ما لكم من معنى الفعل، كأنه قال: ما تصنعون إذا قيل لكم، كما تعملهفي الحال إذا قلت: ما لك قائماً. والأظهر أن يكون التقدير: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا، وحذف لدلالةاثاقلتم عليه. ومعنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر. وقيلملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله: الزجاج. ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى. وفي قوله: أرضيتم، نوع من الإنكار والتعجبأي: أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي. ومِن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي: بدلالآخرة كقوله:

{ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَـئِكَةً }

أي بدلاً، ومنه قول الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربة     مبردة باتت على طهيان

أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلقفيه أوعية الماء حتى تبرد. وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هنُّ للبدل. ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير: فما متاع الحياةالدنيا محسوباً في نعيم الآخرة. وقال الحوفي: في الآخر متعلق بقليل، وقليل خبر الابتداء. وصلح أن يعمل في الظرف مقدماً،لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف. ولو قلت: ما زيد عمراً إلا يضرب، لم يجز. {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًاأَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }: هذا سخط على المتثاقلين عظيم، حيث أوعدهمبعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه،لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً. وقيل: يعذبكم بإمساك المطر عنكم. وروي عن ابن عباس أنه قال: استنفر رسول الله صلىالله عليه وسلم قبيلة فقعدت، فأمسك الله عنها المطر وعذبها بها به. والمستبدل الموعود بهم، قال: جماعة أهل اليمن. وقالابن جبير: أبناء فارس. وقال ابن عباس: هم التابعون، والظاهر مستغن عن التخصيص. وقال الأصم: معناه أنه تعالى يخرج رسولهمن بين أظهرهم إلى المدينة. قال القاضي: وهذا ضعيف، لأنّ اللفظ لا دلالة فيه على أنه ينتقل من المدينة إلىغيرها، ولا يمتنع أن يظهر في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حالكونه هناك. والضمير في: ولا تضروه شيئاً، عائد على الله تعالى أي: ولا تضروا دينه شيئاً. وقيل: على الرسول، لأنهتعالى قد عصمه ووعده بالنصر، ووعده كائن لا محالة. ولما رتب على انتفاء نفرهم التعذيب والاستبدال وانتفاء الضرر، أخبر تعالىأنه على كل شيء تتعلق إرادته به قدير من التعذيب والتغيير وغير ذلك. {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْأَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ }: ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأيّطريق كان من نفر أو غيره. وجواب الشرط محذوف تفسيره: فسينصره، ويدل عليه فقد نصره الله أي: ينصره في المستقبلكما نصره في الماضي. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يكون قوله تعالى: فقد نصره الله جواباً للشرط؟ (قلت): فيه وجهان:أحدهما: فسينصره، وذكر معنى ما قدمناه. والثاني: أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل منبعده انتهى. وهذا لا يظهر منه جواب الشرط، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق، والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذييظهر الوجه الأول. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه: فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج، والإشارة إلى خروج رسول الله صلىالله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. ونسب الإخراج إليهم مجازاً، كما نسب في قوله:

{ ٱلَّتِى أَخْرَجَتْكَ }

وقصة خروجالرسول وأبي بكر مذكورة في السير. وانتصب ثاني اثنين على الحال أي: أحد اثنين وهما: رسولالله ، وأبو بكر رضي الله عنه. وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام: من يخرج معي؟ قال: أبو بكر. وقال الليث: ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر. وقال سفيان بنعيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: ألا تنصروه. قال ابن عطية: بل خرج منها كلمن شاهد غزوة تبوك، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام. وفيهذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين الله، إذ بين فيها أنّ الله ينصره كما نصره، إذ كان في الغاروليس معه فيه أحد سوى أبي بكر. وقرأت فرقة: ثاني اثنين بسكون ياء ثاني. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو،ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف. والغار: نقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة،مكث فيه ثلاثاً. هذ هما: بدل. وإذ يقول: بدل ثان. وقال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكارهكلام الله تعالى، وليس ذلك لسائر الصاحبة. وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله ،فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه، وأخبره بقوله: إن الله معنا، يعني: بالمعونة والنصر. وقال أبو بكر: يا رسول الله إنْ قتلتُفأنا رجل واحد، وإنْ قتلْتَ هلكت الأمة وذهب دين الله، فقال : ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وقال أبو بكر رضي الله عنه:

قال النبي ولم يجزع يوقرني     ونحن في سدف من ظلمة الغار لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا
وقد تكفل لي منه بإظهار وإنما كيد من تخشى بوارده     كيد الشياطين قد كادت لكفار والله مهلكهم طراً بما صنعوا

{فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَكَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } قال ابن عباس: السكينة الرحمة. وقال قتادة في آخرين: الوقار. وقالابن قتيبة: الطمأنينة. وهذه الأقوال متقاربة. والضمير في عليه عائد على صاحبه، قاله حبيب بن أبي ثابت، أو على الرسولقاله الجمهور، أو عليهما. وأفرده لتلازمهما، ويؤيده أنّ في مصحف حفصة: فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما. والجنود: الملائكة يوم بدر،والأحزاب، وحنين. وقيل: ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه، ويصرفون وجوه الكفار عنه. والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبيبكر، لأن النبي كان ثابت الجأش، ولذلك قال: لا تحزن إن الله معنا. وأنّ الضمير فيوأيده عائد على الرسول كما جاء:

{ لّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ }

يعني الرسول، وتسبحوه: يعنيالله تعالى. وقال ابن عطية: والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم، والخصائص التي لاتصلح إلا لهم كقوله:

{ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ }

ويحتمل أن يكون قوله: فأنزل الله سكينته إلى آخر الآية يرادبه ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار. وكلمة الذينكفروا هي الشرك، وهي مقهورة. وكلمة الله: هي التوحيد، وهي ظاهرة. هذا قول الأكثرين. وعن ابن عباس: كلمة الكافرين ماقرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله: أنه ناصره. وقيل: كلمة الله لا إله إلا الله، وكلمة الكفارقولهم فيالحرب: يا لبني فلان، ويا لفلان. وقيل: كلمة الله قوله تعالى:

{ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى }

وكلمة الذين كفروا قولهم فيالحرب: أعل هبل، يعنون صنمهم الأكبر. وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء. وقرىء: وكلمة الله بالنصب أي: وجعل. وقراءةالجمهور بالرفع أثبت في الإخبار. وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ: وجعل كلمته هي العلياء، وناسب الوصف بالعزة الدالة علىالقهر والغلبة، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر. {ٱنْفِرُواْ خِفَافًاوَثِقَالاً وَجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }: لما توعد تعالى من لا ينفرمع الرسول وضرب له من الأمثال ما ضرب، أتبعه بهذا الأمر الجزم. والمعنى: انفروا على الوصفالذي يحف عليكم فيه الجهاد، أو على الوصف الذي يثقل. والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة، ومن يمكنهبصعوةب، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا. وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال: أعليّ أنْ أنفر؟ قال: نعم، حتى نزلت:

{ لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ }

وذكر المفسرون من معانيالخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر. قال الحسنوعكرمة ومجاهد: شباباً وشيوخاً. وقال أبو صالح: أغنياء وفقراء في اليسر والعسر. وقال الأوزاعي: ركباناً ومشاة. وقيل: عكسه. وقال زيدبن أسلم: عزباناً ومتزوجين. وقال جويبر: أصحاء ومرضى. وقال جماعة: خفافاً من السلاح أي مقلين فيه، وثقالاً أي مستكثرين منه.وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي: خفافاً من الإشغال وثقالاً بها. وقال ابن عباس: خفافاً من العيال، وثقالاً بهم.وحكى التبريزي: خفافاً من الأتباع والحاشية، ثقالاً بهم. وقال علي بن عيسى: هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة. وحكىالماوردي: خفافاً إلى الطاعة، وثقالاً عن المخالفة. وحكى صاحب الفتيان: خفافاً إلى المبارزة، وثقالاً في المصابرة. وحكى أيضاً: خفافاً بالمسارعةوالمبادرة، وثقالاً بعد التروي والتفكر. وقال ابن زيد: وقال ابن زيد: ذوي صنعة وهو الثقيل، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف.وحكى النقاش: شجعاناً وجبناً. وقيل: مهازيل وسماتاً. وقيل: سباقاً إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش، والثقال الجيش بأسره. وقال ابنعباس وقتادة: النشيط والكسلان. والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية، ولم يقصد به فرض الأعيان. وقال الحسن وعكرمة:هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة، ثم نسخ بقوله:

{ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً }

وانتصب خفافاً وثقالاً على الحال. وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله، فحضعلى كمال الأوصاف وقدِّمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله. والخيرية هيفي الدنيا بغلبة العدو، ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله. وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر وماتفيه، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى.{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ }:أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال، وسفراً قاصداً وسطاً مقارباً. وهذه الآية في قصة تبوك حيناستنفر المؤمنين فنفروا، واعتذر منهم فريق لأصحابه، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة. وليس قوله:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ }

خطاباً للمنافقين خاصة، بل هو عام. واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم. لاتبعوك: لبادرواإليه، لا لوجه الله، ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة أي: المسافة الطويلة في غزو الرّوم. والشّقة بالضم منالثياب، والشقة أيضاً السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر قاله: الجوهري. وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد. وقال ابن عيسى: الشقةالقطعة من الأرض يشق ركوبها. وقال ابن فارس: الشقة المسير إلى أرض بعيدة، واشتقاقها منه الشق، أو من المشقة. وقرأعيسى بن عمر: بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين، وافقه الأعرج في بعدت. وقال أبو حاتم: إنها لغة بني تميمفي اللفظين انتهى. وحكى الكسائي: شقة وشقة. وسيحلفون: أي المنافقون، وهذا إخبار بغيب. قال الزمخشري في قوله: وسيحلفون بالله، مانصه بالله متعلق بسيحلفون، أو هو من كلامهم. والقول مراد في الوجهين أي: سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوكمعتذرين، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله: لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولوجميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة، واستطاعةالأبدان، كأنهم تمارضوا انتهى. وما ذهب إليه من أنّ قوله: لخرجنا، سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولو جميعاً ليس بجيد، بلللنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: إن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدمالقسم على الشرط، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور. والآخران لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها، وهذااختيار ابن مالك. إنْ لخرجنا يسد مسدهما، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك. ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لماحذف جواب لو، ودل عليه جواب القسم جعل، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً. وقرأ الأعمش وزيدبن علي: لوُ استطعنا بضم الواو، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين. وقرأالحسن: بفتحها كمتا جاء:

{ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ }

بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، أي: يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنهاجملة استئناف إخبار منه تعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين. والمعنى:أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يخلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله: لخرجنا أي، لخرجنامعكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب لأنهمخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً؟ يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبةعلى حكم الإخبار، والتكلم على الحكام انتهى. أما كون يهلكون بدلاً من سيحلفون فبعيد، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف، ولاهو نوع من الحلف، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه. وأماكونه حالاً من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم، فالذي يجري عليهإنما يكون بضمير المتكلم. فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب: نهلكُ أنفسنا أي: مهلكي أنفسنا. وأما قياسه ذلكعلى حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم، لوقلت: حلف زيد ليفعلن وأنا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز، وكذا عكسه نحو:حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائماً لم يجز. وأما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطةليس مخبراً عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى لو قيل: لواستطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكاية. والحال من جملةكلامهم المحكي، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالداً،تريد اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هند: خرج زيد أضرب خالداً، تريد خرج زيد ضارباً خالداً، لم يجز.{عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَـٰذِبِينَ }: قال ابن عطية: هذه الآيةفي صنف مبالغ في النفاق. واستأذنوا دون اعتذار منهم: عبد الله بن أبيّ، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، ومناتبعهم. فقال بعضهم: ائذن لي ولا تفتني. وقال بعضهم: ائذن لنا في الإقامة، فأذن لهم استبقاءً منه عليهم، وأخذا بالأسهلمن الأمور، وتوكلا على الله. قال مجاهد: قال بعضهم: نستأذنه، فإن أذن في القعود قعدنا، وإن لم يأذن فعدنا، فنزلتالآية في ذلك انتهى. وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه: ذهب ناس إلى أنّ النبي معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزلعليه الوحي كما قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل.وقد قال الله تعالى:

{ تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء }

لأنه كان له أن يفعل ما يشاءمما لم ينزل عليه فيه وحي. واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه صلى الله عليهوسلم، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة،فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن، وليس هو عفواًعن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال : عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق وما وجبتا قط ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك انتهى. ووافقه عليه قوم فقالوا: ذكرالعفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع منقدره، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون: أصلح الله الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر، ومعناه الدعاء انتهى.ولم ولهم متعلقان بأذنت، لكنه اختلف مدلول اللامين، إذ لام لم للتعليل، ولام لهم للتبليغ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما.ومتعلق الإذن غير مذكور، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي: لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتىتعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل: متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو، لما ترتب على خروجهممن المفاسد، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين. ويدل عليه قوله:

{ وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْ }

وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أنتكون الدائرة عليهم فقيل: لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحةبقوله:

{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً }

. وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي: ما كان أن تأذن لهمحتى يتبين من له العذر، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء: حتى يتبين متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره: هلاّأخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين. وقوله: لم أذنت لهم يدل على المحذوف. ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت، لأنذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التبيين، وهذا لا يعاتب عليه انتهى. وكلام الزمخشري فيتفسير قوله: عفا الله عنك لم أذنت لهم، مما يجب اطراحه، فضلاً عن أن يذكر فيردّ عليه. وقوله: الذين صدقواأي: في استئذانك. وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك. وتعلم الكاذبين: تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفونعند حدك وهم كذبة، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن. وقال الطبري: حتى نعلم الصادقين في أنّلهم عذراً، ونعلم الكاذبين في أنْ الأعذار لهم. وقال قتادة: نزلت بعد هذه الآية آية النور، فإذا استأذنوك لبعض شأنهمفأذنْ لمن شئت منهم. وهذا غلط، لأنّ النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنينالرسول في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات، فأباح الله أن يأذن، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى. {لاَيَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ أَن يُجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ }: قال ابن عباس: لا يستأذنك أيبعد غزوة تبوك. وقال الجمهور: ليس كذلك، لأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك، والظاهر أنمتعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصارلا يستأذنون النبي أبداً، ويقولون: لنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا. وقيل: التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروجولا القعود كراهة أن يجاهدوا، بل إذا أمرت بشيء ابتدروا إليه، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علامة على النفاق. وقوله:والله عليم بالمتقين، شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب. {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِوَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ }: هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً. ومعنى ارتابت: شكت. ويتردّدون: يتحيرون،لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر الرسول، وتارة يخطر لهم خلاف ذلك. {وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لاعَدُّواْلَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ } قال ابن عباس: عدّة من الزاد والماء والراحلة،لأنّ سفرهم بعيد في زمان حر شديد. وفي تركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف. وقال قوم: كانوا قادرين علىتحصيل العدّة والإهبة. وروى الضحاك عن ابن عباس: العدّة النية الخالصة في الجهاد. وحكى الطبري: كل ما يعد للقتال منالزاد والسلاح. وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية: عُدَّ بضم العين من غير تاء، والفراء يقول: تسقطالتاء للإضافة، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة. وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب، ولكن لايقيس ذلك، إنما نقف فيه مع مورد السماع. قال صاحب اللوامح: لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها، وذلكلأنّ العد بغير تاء، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه. وقال أبو حاتم: هو جمع عدة كبرة وبرودرة ودر، الوجه فيه عدد، ولكن لا يوافق خط المصحف. وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم: عده بكسر العين،وهاء إضمار. قال ابن عطية: وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد، وسمي قتلاً إذ حقه أن يقتل. وقرىءأيضاً: عبة بكسر العين، وبالتاء دون إضافة أي: عدة من الزاد والسلاح، أو مما لهم مأخوذ من العدد. ولما تضمنتالجملة انتفاء الخروج والاستعداد، وجاء بعدها ولكن، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه،لا بين متفقين، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقاً لما قبلها. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف موقع حرف الاستدراك؟(قلت): لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: ولكن كره الله انبعاثهم، كأنه قيل:ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى. وليست اةيةنظير هذا المثال، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى، والانبعاثالانطلاق والنهوض. قال ابن عباس: فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم. وبنى وقيل للمفعول، فاحتمل أن يكون القول: أذن الرسول لهم فيالقعود، أو قول بعضهم لبعض إما لفظاً وإما معنى، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه. وقال الزمخشري: جعلالقاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود. وقيل: هو من قول الشيطان بالوسوسة. قال: (فإن قلت): كيف جازأن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح. (قلت): خروجهم كانمفسدة لقوله تعالى:

{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً }

فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحةانتهى. وهذا السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة، وهذا القول هو ذمٌّ لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزنيالذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخلفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى:

{ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ }

والقعودهنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمِينَ}: لما خرج رسول الله ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبيّ عسكرهأسفل منها، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت بعرى الله ورسوله إلى قوله:وهم كارهون. وفيكم أي: في جيشكم أو في جملتكم. وقيل: في بمعنى مع. قال ابن عباس: الخبال الفساد ومراعاة إخمادالكلمة. وقال الضحاك: المكر والغدر. وقال ابن عيسى: الاضطراب. وقال الكلبي: الشر، وقاله: ابن قتيبة. وقيل: إيقاع الاختلاف والأراجيف، وتقدّمشرح الخبال في آل عمران. وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر، وقد كان في هذهالغزوة منافقون كثير، ولهم لا شك خبال، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال. وقال الزمخشري: المستثنى منه غير مذكور، فالاستثناءمن أعم العام الذي هو الشيء، فكان هو استثناء متصلاً لأنّ بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلاخبالاً. وقيل: هو استثناء منقطع، وهذا قولمن قال: إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال. فالمعنى: ما زادوكم قوة ولاشدة لكن خبالاً. وقرأ ابن أبي عبلة: ما زادوكم بغير واو، ويعني: ما زادكم خروجهم إلا خبالاً. والإيضاع الإسراع قال:

أرانا موضعين لأمر غيب     ونسحر بالطعام وبالشراب

ويقال: وضعت الناقة تضع وضعاًووضوعاً قال:

يا ليتني فيها جذع     أخب فيها وأضع

قالالحسن: معناه لأسرعوا بالنميمة. وقرأ محمد بن القاسم: لأسرعوا بالفرار. ومفعول أوضعوا محذوف تقديره: ولا وضعوا ركائبكم بينكم، لأن الراكبأسرع من الماشي. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد: ولا وفضوا أي أسرعوا كقوله:

{ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ }

وقرأ ابن الزبير:ولا رفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضاً ورفضاناً قال حسان:

بزجاجة رفضت بما في جوفها     رفض القلوص براكب مستعجل

وقال غيره:

والـرافضــات إلــى منــى فــالقبقب    

والخلاف جمع الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين.وقال الأصمعي: تخللت القوم دخلت بين خللهم وخلالهم، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي: بينها، ويبغون حال أي: باغين. قالالفراء: يبغونها لكم. والفتنة هنا الكفر قاله: مقاتل، وابن قتيبة، والضحاك. أو العيب والشر قاله: الكلبي. أو تفريق الجماعة أوالمحنة باختلاف الكلمة أو النميمة. وقال الزمخشري: يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم. وفيكمسماسعون لهم أي: ضامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يستمعون للمنافقين ويطيعونهم انتهى. فاللام في القول الأول للعليل،وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله:

{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ }

والقول الأول قاله: سفيان بن عيينة، والحسن، ومجاهد، وابن زيد، قالوا:معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، ورجحه الطبري. والقول الثاني قول الجمهور قالوا: معناه وفيكم مطيعون سماعون لهم. ومعنى وفيكمفي خلالكم منهم، أو منكم ممن قرب عهده بالإسلام. والله عليم بالظالمين يعم كل ظالم. ومعنى ذلك: أنه يجازيه علىظلمه. واندرج فيه من يقبل كلام المنافقين، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين، ومن تخلف عن هذه الغزاة من المنافقين.{لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلامُورَ حَتَّىٰ جَاء ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَـٰرِهُونَ } تقدّم ذكر السببفي نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبي وأصحابه في هذه الغزاة، حقّر شأنهم فيهذه الآية، وأخبر أنهم قديماً سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم، وفي الأمور المقلبة أقوال. قال ابن عباس: بغوا لكالغوائل. وقال ابن جريج: وقف اثنا عشر من المنافقين على التثنية ليلة العقبة كي يفتكوا به. وقال أبو سليمان الدمشقي:احتالوا في تشتيت أمرك وإبطال دينك. قال ابن جريج: كانصراف ابن أبيّ يوم أحد بأصحابه. ومعنى من قبل أي: مننقبل هذه الغزاة، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول الله ورجوعهم عنه في أحدوغيرها. وتقليب الأمور: هو تدبيرها ظهر البطن، والنظر في نواحيها وأقسامها، والسعي بكل حيلة. وقيل: طلب المكيدة من قولهم: هوحول قلب. وقرأ مسلمة بن محارب: وقلبوا بتخفيف اللام. حتى جاء الحق أي: القرآن وشريعة الرسول .ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب. وظهر أمر الله وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور أي: غلب وعلا دين الله.وهم كارهون لمجيء الحق وظهور دين الله. وفي ذلك تنبيه على أنه لا تأثير لمكرهم وكيدهم، ومبالغتهم في إثارة الشرفإنهم مذ راموا ذلك رده الله في نحرهم، وقلب مرادهم، وأتى بضد مقصودهم، فكما كان ذلك في الماضي كذا يكونفي المستقبل. {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ }: نزلتفي الجد بن قيس، وذكر أن رسول الله لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناسفقال للجد بن قيس: هل لك العام في جلاد بني الأصفر وقال له وللناس: اغزوا تغنموا بنات الأصفر . فقال الجد:ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكربنات الأصفر، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهم وتفتنني، ولاتفتني بالنساء. هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وقيل: ولا تفتني أي ولا تصعب عليّ حتى احتاج إلى مواقعةمعصيتك فسهِّل عليّ، ودعني غير مختلج. وقال قريباً منه الحسن وقتادة والزجاج قالوا: لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهوغير متيسر لي، فآثم بمخالفتك. وقال الضحاك: لا تكفرني بإلزامك الخروج معك. وقال ابن بحر: لا تصرفني عن شغلي معكهلك مالي وعيالي. وقيل: إنه قال: ولكنْ أعينك بمالي. ومتعلق الإذن محذوف تقديره: في القعود وفي مجاورته الرسول صلى اللهعليه وسلم على نفاقه. وقرأ ورش: بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واواً لضمة ما قبلها. وقال النحاس ما معناه: إذادخلت الواو أو الفاء على أأئذن، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذالونون، والفرق أنَّ ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما. وقرأ عيسى بن عمرو: لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن. قالأبو حاتم هي لغة تميم، وهي أيضاً قراءة ابن السميقع، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي. وجمع الشاعر بين اللغتينفقال:

لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت     سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم

والفتنة التي سقطوا فيهاهي فتنة التخلف، وظهور كفرهم، ونفاقهم. ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها. وقال قتادة: الإثم بخلافهم الرسول في أمره،وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة، أو الآن على سبيل المجاز. لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها، أو لأنّمصيرهم إليها. {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ }:قال ابن عباس: الحسنة في يوم بدر، والمصيبة يوم أحد. وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل، واللفظ عام في كلمحبوب ومكروه، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو، ولذلك قالوا: الحسنة الظفر والغنيمة، والمصيبة الخيبة والهزيمة، مثل ماجرى في أول غزوة أحد. ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو،من قبل ما وقع من المصيبة. ويحتمل أن يكون التولي حقيقة أي: ويتولوا عن مقام التحديث بذلك، والاجتماع له إلىأهليهم وهم مسرورون. وقيل: أعرضوا عن الإيمان. وقيل: عن الرسول، فيكون التولي مجازاً. {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـٰنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }: قرأ ابن مسعود وابن مصرف: هل يصيبنا مكان لن يصيبنا. وقرأابن مصرف أيضاً وأعين قاضي الرّي: هل يصيبنا بتشديد الياء، وهو مضارع فيعل نحو: بيطر، لا مضارع فعل، إذ لوكان كذلك لكان صوّب مضاعف العين. قالوا: صوب رأيه لما بناه على فعل، لأنه من ذوات الواو. وقالوا: صاب يصوبومصاوب جمع مصيبة، وبعض العرب يقول: صاب السهم يصيب، جعله من ذوات الياء، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارعصيب على وزن فعل، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلـين. وقال عمرو بن شقيق: سمعت أعين قاضي الري يقول: قل لنيصيبنا بتشديد النون. قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك، لأن النون لا تدخل مع لن، ولو كانت لطلحة بن مصرفالحارث، لأنها مع هل. قال تعالى:

{ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }

انتهى. ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم،وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد، وهذا توجيه شذوذ. أي:ما أصابنا فليس منكم ولا بكم، بل الله هو الذي أصابنا وكتب أي: في اللوح المحفوظ أو في القرآن منالوعد بالنصر، ومضاعفة الأجر على المصيبة، أو ما قضى وحكم ثلاثة أقوال: هو مولانا، أي ناصرنا وحافظنا قاله الجمهور. وقالالكلبي: أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة. وقيل: مالكنا وسيدنا، فلهذا يتصرف كيف شاء. فيجب الرضا بما يصدر منجهته. وقال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا، وأن الكافرين لا مولى لهم، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه. {قُلْهَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ }: أيما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب: إما النصرة، وإما الشهادة. فالنصرة مآلها إلىالغلبة والاستيلاء، والشهادة مآلها إلى الجنة. وقال ابن عباس: إنّ الحسينيين الغنيمة والشهادة. وقيل: الأجر والغنيمة. وقيل: الشهادة والمغفرة. وفيالحديث: تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة، أو رجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة، والعذاب من عند الله قال ابن عباس:هو هنا الصواعق. وقال ابن جريج: الموت. وقيل: قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على عاد وثمود. قال ابن عطية:ويحتمل أن يكون توعداً بعذاب الآخرة، أو بأيدينا بالقتل على الكفر. فتربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصالمن خالفه، قاله الحسن. وقال الزمخشري: فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا أنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم، فلا بدأنْ نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه انتهى. وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد. وقرأ ابن محيصن الأحدي: بإسقاط الهمزة. قالابن عطية: فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس، وهذا نحو قول الشاعر:

يـابـا المغيـرة رب أمـر معضــل    

ونحو قولالآخر:

إن لـم أقـاتـل فـالبسني برقعـا    

انتهى. {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَـٰسِقِينَ}: قرأ الأعمش وابن وثاب: كرهاً بضم الكاف، ويعني: في سبيل الله ووجوه البر. قيل: وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ.وقال الزمخشري: هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى:

{ قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً }

ومعناهلن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً. ونحوه قوله تعالى:

{ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ }

وقوله: أسيىء بناأو أحسنى لا ملومة. أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أمأحسنت انتهى. وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي: إنْ تتفقوا طوعاً أو كرهاً لم يتقبل منك، وذكرالآية وبيت كثير على هذا المعنى. قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء، وهذا مستمر في كل أمر معهجزاء، والتقدير: إنْ تنفقوا لن نتقبل منكم. وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى. ويقدح فيهذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلنيتقبل بالفاء، لأنّ لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء، فكذلك ما ضمن معناه. ألا ترى جزمه الجواب في مثلاقصد زيداً يحسن إليك، وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله، والكره إلزامذلك. وسمَّى الإلزام كراهاً لأنهم منافقون، فصار الإلزام شاقاً عليهم كالإكراه. أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم، أو إلزاممنهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة. والجمهور على أنّ هذه نزلت بسبب الجد بنقيس حين استأذن في القعود وقال: هذا مالي أعينك به. وقال ابن عباس: فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أولهولمن فعل فعله. فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلكالباقون، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده، وإما كون الله لا يثيب عليه، وعلل انتفاء التقبل بالفسق.قال الزمخشري: وهو التمرد والعتو، والأولى أن يحمل على الكفر. قال أبو عبد الله الرازي: هذه إشارة إلى أنّ عدمالقبول معلل بكونهم فاسقين، فدلَّ على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى. وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذهالمسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال. فكان الجمعُ بين استحقاقهمامحالاً، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله:

{ وَمَا مَنَعَهُمْ }

الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القول إلاالكفر. ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات، فنفى تعالى أنّ عدم القبول ليس معللاً بعموم كونه فسقاً،بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً، فثبت أنّ استدلال الجبائي باطل انتهى. وفيه بعض تلخيص. {وَمَا مَنَعَهُمْأَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـٰتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ }. ذكرالسبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر، وأتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليلعليه. وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى، وإيتاء النفقة وهم كارهون. فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال منثمرات الكفر، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثواباً، ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً. وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلاوهم لا يرجون به ثواباً. وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة، واكتفى بهما وإن كانوا أفسدحالاً في سائر أعمال البر، لأنّ الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية، وهما وصفان المطلوبإظهارهما في الإسلام، ويستدل بهما على الإيمان، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذماً وتقبيحاً. وقرأ الأخوان وزيد بن علي: أنيقبل بالياء، وباقي السبعة بالتاء، ونفقاتهم بالجميع، وزيد بن علي بالإفراد. وقرأ الأعرج بخلاف عنه: أن تقبل بالتاء من فوقنفقتهم بالإفراد. وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول. وقرأت فرقة: أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة. قال الزمخشري: وقراءةالسلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أنّ الفعل لله تعالى انتهى. والأولى أن يكون فاعل منع قوله: ألا أنهم أيكفرهم، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي: وما منعهم الله، ويكون إلا أنهم تقديره: إلا لأنهم كفروا. وأن تقبل مفعولثان إما لوصول منع إليه بنفسه، وإما على تقدير حذف حرف الجر، فوصل الفعل إليه. { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْوَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وهم كافرون}: لما قطع رجاء المنافقين عن جميعمنافع الآخرة، بيّن أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها الله تعالى أسباباً ليعذبهم بها في الدنيا أي:ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } وفيهذا تحقير لشأن المنافقين. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهمولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة انتهى. ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملةاعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب، لأنّ من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حالهولا يفتتن بها، إلا أنّ تقييد الإيجاب المنهى عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكونإلا في الحياة الدنيا، فنفى ذلك، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب، فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة،ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة. وقال الحسن: الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقةفي سبيل الله، فالضمير في قوله: بها، عائد في هذا القول على الأموال فقط. وقال ابن زيد وغيره: التعذيب هومصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب، إذ لا يؤجرون عليها انتهى. ويتقوى هذا القول بأنّ تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم منتعذيبهم بسائر الرزايا، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله: ابن عطية، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال: إنماأعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهونله على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. وقيل: أموالهم التي ينفقونها فإنها لاتقبل منهم ولا أولادهم المسلمون، مثل عبد الله بن عبد الله بن أبي وغيره، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاهالقشيري. وقيل: يتمكن حب المال من قلوبهم، والتعب في جمعه، والوصل في حفظه، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده،ثم يقدم على ملك لا يعذره. وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم، ونفوسهم أميل إليها، فإنهم كانوا يقتلونأولادهم خشية ذهاب أموالهم. قال تعالى:

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ }

. قال الزمخشري: (فإن قلت): إن صح تعليقالعذاب بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون؟ (قلت): المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى:

{ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }

كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى.وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني، وهما كلاهما معتزليان. قال ابن عيسى: المعنى إنما يريد الله أن يملي لهمويستدرجهم ليعذبهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى ليعذبهم بها في الحياةالدنيا وفي الآخرة، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر، لأنّ من مات كافراً عذب في الآخرةلا محالة. والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدةالتعذيب الذي يننالهم. {وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ }: أي لمن جملة المسلمين. وأكذبهمالله بقوله: وما هم منكم. ومعنى يفرقون: يخافون القتل. وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية، وهم يبطنون النفاق، أو يخافوناطلاع الله المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار. ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكرمصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال: ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين، وهي عادة الله في سترأشخاص العصاة. {لَوْ يَجِدُونَ * مَلْجَأَ *أَوْ مَغَـٰرَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }: لما ذكر فرق المنافقينمن المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا، ولكنْ صحبتهم لهمصحبة اضطرار لا اختيار. قال ابن عباس: الملجأ الحرز. وقال قتادة: الحصن. وقال السدي: المهرب. وقال الأصمعي: المكان الذي يتحصنفيه. وقال ابن كيسان: القوم يأمنون منهم. والمغارات جمع مغارة وهي الغار، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذادخل مفعلة للمكان كقولهم: مزرعة. وقيل: المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع. وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف:مغارات بضم الميم، فيكون من أغار. قيل: وتقول العرب: غار الرجل وأغار بمعنى دخل، فعلى هذا يكون مغارات من أغاراللازم. ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم. وقال الزجاج: ويصحأن يكون من قولهم: جبل مغار أي مفتول. ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم، فيجيء التأويل على هذا لويجدون نصرة أو أموراً مرتبطة مشدّدة تعصمهم منكم أو مدّخلاً لولوا إليه. وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلبإذا أسرع، بمعنى مهارب ومغارّ انتهى. والمدّخل قال مجاهد: المعقل يمنعهم من المؤمنين. وقال قتادة: السرب يسيرون فيه على خفاء.وقال الكلبي: نفقاً كنفق اليربوع. وقال الحسن: وجهاً يدخلون فيه على خلاف الرسول. وقيل: قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسولومن المؤمنين. وقال الجمهور: مدّخلاً وأصله مدتخل، مفتعل من ادّخل، وهو بناء تأكيد ومبالغة، ومعناه السرب والنفق في الأرض قاله:ابن عباس. بدىء أولاً بالأعم وهو الملجأ، إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيرانفي الجبال، ثم أتى ثالثاً بالمدّخل وهو النفق باطن الأرض. وقال الزجاج: المدّخل قوم يدخلونهم في جملتهم. وقرأ الحسن، وابنأبي إسحاق، ومسلمة بن محارب، وابن محيصن، ويعقوب، وابن كثير بخلاف عنه: مدخلاً بفتح الميم من دخل. وقرأ محبوب عنالحسن: مدخلاً بضم الميم من أدخل. وروى ذلك عن الأعمش وعيسى ابن عمر. وقرأ قتادة، وعيسى بن عمر، والأعمش: مدخلاًبتشديد الدال والخاء معاً أصله متدخل، فأدغمت التاء في الدال. وقرأ أبي مندخلاً بالنون من اندخل. قال:

ولا يـدي في حميت السمـن تنـدخـل    

وقال أبو حاتم: قراءة أبي متدخلاً بالتاء. وقرأ الأشهب العقيلي: لوالوا إليه لتابعوا إليه وسارعوا. وروي ابنأبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه، عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ لوالوا إليه من الموالاة، وأنكرهاسعيد بن مسلم وقال: أظنها لو ألوا بمعنى للجأوا. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي: وهذا مما جاءفيه فاعل وفعل بمعنى واحد، ومثله ضاعف وضعف انتهى. وقال الزمخشر: وقرأ أبي بن كعب متدخلاً لوالوا إليه لا لتجأواإليه انتهى. وعن أبيّ لولوا وجوههم إليه. ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفرداً على قاعدة النحو في أو،فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ، أو على المدخل، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغاراتلتذكيره، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها. وهم يجمحون يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء. وقرأ أنس بن مالك والأعمش: وهميجمزون. قيل: يجمحون، ويجمزون، ويشتدون واحد. وقال ابن عطية: يجمزون يهرولون، ومنه قولهم في حديث الرجم: فلما إذ لقته الحجارةجمز. {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَـٰتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }: اللامزحرقوص بن زهير التميمي، وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان الرسول يقسم غنائم حنين فقال:إعدل يا رسول الله الحديث. وقيل: هو ابن الجواظ المنافق قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاةالغنم. وقيل: ثعلبة بن حاطب كان يقول: إنما يعطى محمد قريشاً. وقيل: رجل من الأنصار أتى الرسول بصدقة يقسمها، فقال:ما هذا بالعدل؟ وهذه نزغة منافق. والمعنى: من يعيبك في قسم الصدقات. وضمير ومنهم للمنافقين، والكاف للرسول. وهذا الترديدينالشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم، وإن لمزهم الرسول إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال، وأنّ رضاهموسخطهم إنما متعلة العطاء. والظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه. وقيل: التقدير فإن أعطوا منها كثيراً يرضوا، وإن لم يعطوامنها كثيراً بل قليلاً، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين، لأنّ الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه، بلقد يجوز أن يتأخر نحو: إن أسلمت دخلت الجنة، فإنما يقتضي مطلق الترتب. وأما جواب الشرط الثاني فجاء إذا الفجائية،وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها. ومفعول رضوامحذوف أي: رضوا ما أعطوه. وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون، ولأنّ رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين، بلللدنيا. وقرأ الجمهور: يلمزك بكسر الميم. وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم: بضمها، وهيقراءة المكيين، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ الأعمش: يلمزك. وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير: يلامزك، وهي مفاعلةمن واحد. وقيل: وفرق الرسول قسم أهل مكة في الغنائم استعطافاً لقلوبهم، فضج المنافقون. {وَلَوْأَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى ٱللَّهِ رٰغِبُونَ }: }هذاوصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم،وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره: لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم. وكان ذلك الفعلدليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم الله، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون:سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وقيل: جواب لو هو قوله: وقالوا على زيادة الواو، وهو قول كوفي. قال الزمخشري: والمعنى:ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله تعالىوصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى، فسيؤتينا رسول الله أكثر مما آتانا اليوم، إناإلى الله في أنْ يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى. وقال ابن عباس: راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا منالعقاب. وقال التبريزي: راغبون في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس. وقيل: ماآتاهم الله بالتقدير، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عنالعتب والخطأ عليم بالعواقب، فكل قضائه صواب وحق، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان،فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه، فهو إخبارحسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ الله مترادفة عليه حالاً ومآلاً، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ثم أتىرابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره، والرغبة إليه، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولماكانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب، وما تضمن الإقرار باللسان، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم:حسبنا الله لم تتعاطفا، إذ هما كالشرح لقولهم: حسبنا الله، فلا تغاير بينهما. {إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلْفُقَرَاء وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْعَـٰمِلِينَعَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ٱلرّقَابِ وَٱلْغَـٰرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ }: لما ذكر تعالى من يعيبالرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، أو يخص أقاربه، أو يأخذ لنفسه ما بقي. وكانوايسألون فوق ما يستحقون، بيّن تعالى مصرف الصدقات، وأنه إنما قسم على ما فرضه الله تعالى.ولفظه إنما إنْ كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذمناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطفمشعر بالتغاير، فتكون الفقراء عين المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائماً، إذ لم يرد نص في نسخ شيءمنها. والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً، والخلاف في كل شيء منهذه الظواهر. فأما أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه يجوز أن يقتصر على بعضهؤلاء الأصناف، ويجوز أن يصرف إلى جميعها. فمن الصحابة: عمر، وعليّ، ومعاذ، وحذيفة، وابن عباس، ومن التابعين النخعي، وعمر بنعبد العزيز، وأبو العالية، وابن جبير، قالوا: في أيّ صنف منها وضعتها أجزأتك. قال ابن جبير: لو نظرت إلى أهلبيت من المسلمين فقراء متعففين فخيرتهم بها كان أحب إليّ. قال الزمخشري: وعليه مذهب أبي حنيفة قال غيره: وأبي يوسف،ومحمد، وزفر، ومالك. وقال جماعة من التابعين: لا يجوز الاقتصار على أحد هذه الأصناف منهم: زين العابدين علي بن الحسين،وعكرمة، والزهري، بل يصرف إلى الأصناف الثمانية. وقد كتب الزهري لعمر بن عبد العزيز: يفرّقها على الأصناف الثمانية، وهو مذهبالشافعي قال: إلا المؤلفة، فإنهم انقطعوا. وأما أنّ الفقراء غير المساكين، فذهب جماعة من السلف إلى أنّ الفقير والمسكين سواءلا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، وهما صنف واحد سمي باسمين ليعطي سهمين نظراً لهم ورحمة. قالفي التحرير: وهذا هو أحد قولي الشافعي. وذهب الجمهور إلى أنهما صنفان يجمعهما الإقلال والفاقة، واختلفوا فيما به الفرق. فقالالأصمعي وغيره منهم أحمد بن حنبل وأحمد بن عبيد الفقير: أبلغ فاقة. وقال غيره منهم أبو حنيفة، ويونس بن حبيب،وابن السكيت، وابن قتيبة المسكين: أبلغ فاقة، لأنه لا شيء له. والفقير من له بلغة من الشيء. وقال الضحاك: الفقراءهم من المهاجرين، والمساكين من لم يهاجر. وقال النخعي نحوه. وقال عكرمة: الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الذمة. لانقول لفقراء المسلمين مساكين. وروى عنه بالعكس حكاه مكي. وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر: الفقير من لا مال لهولا حرفة، سائلاً كان أو متعففاً. والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غيرسائل. وقال قتادة: الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج. وقال ابن عباس: والحسن، ومجاهد، والزهري، وابن زيد، وجابر بن زيد،والحكم، ومقاتل، ومحمد بن مسلمة: المساكين الذين يسعون ويسألون، والفقراء هم الذين يتعاونون. وأما بقاء الحكم للأصناف الثمانية فذهبعمر بن الخطاب والحسن والشعبي وجماعة: إلى أنه انقطع صنف المؤلفة بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة،قال بعض الحنفيين: أجمعت الصحابة على سقوط سهمهم في خلافة أبي بكر لما أعز الله الإسلام وقطع دابر الكافرين. وقالالقاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقات. وقال كثير من أهل العلم: المؤلفة قلوبهم موجودونإلى يوم القيامة. قال ابن عطية: وإذا تأملت الثغور وجدت فيها الحاجة إلى الائتلاف انتهى. وقال يونس: سألت الزهري عنهمفقال: لا أعلم نسخاً في ذلك. قال أبو جعفر النحاس: فعل هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلىتألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى حسن إسلامه بعدُ دفع إليه. وقال القاضي أبو بكر بن العربي:الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما كان رسول الله يعطيهم. فإن في الصحيح: بدا الإسلام غريباً وسيعود كما بدا وفي كتاب التحرير قال الشافعي: العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان فيهذا الزمان، بقيت الأصناف الستة، فالأولى صرفها إلى الستة. وأما أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظهإن كان موجوداً فهو مذهب الشافعي، ذهب إلى أنه لا بد في كل صنف من ثلاثة، لأن أقلّ الجمع ثلاثة،فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز أن يعطي جميعزكاته مسكيناً واحداً. وقال مالك: لا بأس أن يعطي الرجل زكاة الفطر عن نفسه وعياله واحداً، واللام في للفقراء. قيل:للملك. وقيل: للاختصاص. والظاهر عموم الفقراء والمساكين، فيدخل فيه الأقارب والأجانب وكل من اتصف بالفقر والمسكنة فأما ذو وقربىالرسول فقال أصحاب أبي حنيفة: تحرم عليهم الصدقة منهم: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآلعقيل، وآل الحرث بن عبد المطلب. وروى عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أنّ فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقة.وقال أبو يوسف: لا يدخلون. قال أبو بكر الرازي: المشهور عن أصحابنا أنهم من تقدم من آل العباس ومن ذكرمعهم، ويخص التحريم الفرض لا صدقة التطوع. وقال مالك: لا تحل الزكاة لآل محمد، ويحلّ التطوع. وقال الثوري: لا تحللبني هاشم، ولم يذكر فرقاً بين النفل والفرض. وقال الشافعي: تحرم صدقة الفرض على بني هاشم وبني المطلب، وتجوز صدقةالتطوع على كل أحدٍ إلا رسول الله ، فإنه كان لا يأخذها. وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ:وابن حبيب: لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة، ولا من التطوع. وقال مالك في الواضحة: لا يعطى آل محمدمن التطوع. وأما أقارب المزكي فقال أصحاب أبي حنيفة: لا يعطى منها والد وإن علا، ولا ابن وإن سفل،ولا زوجة. وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والليث: لا يعطى من تلزمه نفقته. وقال ابن شبرمة: لا يعطى قرابتهالذين يرثونه، وإنما يعطى من لا يرثه وليس في عياله. وقال الأوزاعي: لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لميكونوا من عياله، ويتصدق على مواليه من غير زكاة ماله. وقال مالك والثوري وابن شبرمة والشافعي وأصحاب أبي حنيفة: لايعطى الفرض من الزكاة. وقال عبيد الله بن الحسن: إذا لم يجد مسلماً أعطى الذمي، فكأنه يعني الذمي الذي هوبين ظهرانيهم. وقال مالك وأبو حنيفة: لا تعطى الزوجة زوجها من الزكاة. وقال الثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد: تعطيه، واختلفوافي المقدار الذي إذا ملكه الإنسان دخل به في حد الغنى وخرج عن حد الفقر وحرمت عليه الصدقة. فقال قوم:إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة، ومن كان عنده دون ذلك حلت له. وقال قوم: حتىيملك أربعين درهماً، أوعد لها من الذهب. وقال قوم: حتى تملك خمسين درهماً أو عد لها من الذهب، وهذا مرويعن علي وعبد الله والشعبي. قال مالك: حتى تملك مائتي درهم أو عد لها من عرض أو غره فاضلاً عمايحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرش، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. فلو دفعها إلى من ظن أنه فقير فتبينأنه غنى، أو تبين أن المدفوع إليه أبوه أو ذمي ولم يعلم بذلك وقت الدفع. فقال أبو حنيفة ومحمد: يجزئه.وقال أبو يوسف: لا يجزئه. والعامل هو الذي يستنيبه الإمام في السعي في جميع الصدقات، وكل من يصرف ممنلا يستغنى عنه فيها فهو من العاملين، ويسمى جابي الصدقة والساعي قال:

إن السعاة عصوك حين بعثتهم     لم يفعلوا مما أمرت فتيلا

وقال:

سعى عقالاً فلم يترك لنا سبدا     فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

أراد بالعقال هنا زكاة السنة، وتعدى بعلى ولم يقل فيها، لأنّ على للاستعلاء. المشعر بالولاية. والجمهور علىأن للعامل قدر سعيه، ومؤنته من مال الصدقة. وبه قال مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر، وأبو حنيفة وأصحابه، فلوتجاوز ذلك من الصدقة، فقيل: يتم له من سائر الأنصباء. وقيل: من خمس الغنيمة. وقال مجاهد والضحاك والشافعي: هو الثمنعلى قسم القرآن. وقال مالك من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد عنه: يعطون من بيت المال. واختلففي الإمام، هل له حق في الصدقات؟ فهمنهم من قال: هو العامل في الحقيقة، ومنهم من قال: لا حق لهفيها. والجمهور على أنّ أخذها مفوض للإمام ومن استنابه، فلو فرقها المزكي بنفسه دون إذن الإمام أخذها منه ثانياً. وقالأبو حنيفة: لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ويأخذ عمالته منها، فإن تبرع فلا خلاف بينأهل العلم في جوازه. وقال آخرون: لا بأس لهم بالعمالة من الصدقة. وقيل: إنْ عمل أعطيها من الخمس. والمؤلفةقلوبهم أشراف العرب مسلمون لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، أعطاهم ليتمكن الإيمان من قلوبهم، أو كفار لهم اتباع أعطاهم ليتألفهمواتباعهم على الإسلام. قال الزهري: المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً فمن المؤلفة: أبو سفيان بنحرب، وسهيل بن عمرو، والحرث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف النضري، والعلاء بنحارثة الثقفي، فهؤلاء أعطاهم الرسول مائة بعير مائة بعير. ومخرمة بن نوفل الزهري، وعمير بن وهبالجمحي، وهشام بن عمرو العابدي، أعطاهم دون المائة. ومن المؤلفة: سعيد بن يربوع، والعباس بن مرداس، وزيد الخيل، وعلقمة بنعلانة، وأبو سفيان الحرث بن عبد المطلب، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عمرو، وعيينة بن حصن.وحسن إسلام المؤلفة حاشا عيينة فلم يزل مغموصاً عليه. وأما قوله وفي الرقاب فالتقدير: وفي فك الرقاب فيعطي ماحصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق، أو تخليص مكاتب أو أسير. وقال النخعي، والشعبي، وابنجبير، وابن سيرين: لا يجزىء أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة، وهو قول أصحاب أبي حنيفة والليث والشافعي. وقال ابنعباس وابن عمر: أعتق من زكاتك. وقال ابن عمر والحسن وأحمد وإسحاق: يعتق من الزكاة، وولاؤه لجماعة المسلمين لا للمعتق.وعن مالك والأوزاعي: لا يعطي المكاتب من الزكاة شيئاً، ولا عبد كان مولاه موسراً أو معسراً. وعن ابن عباس والحسنومالك: هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته. والجمهور على أنّ المكاتبين يعانون في فك رقابهم من الزكاة.ومذهب أبي حنيفة وابن حبيب: أنّ فك رقاب الأساري يدخل في قوله: وفي الرقاب، فيصرف في فكاكها من الزكاة. وقالالزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين، ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى. والغارم من عليه دين قاله: ابنعباس، وزاد مجاهد وقتادة: في غير معصية ولا إسراف. والجمهور على أنه يقضي منها دين الميت إذ هو غارم. وقالأبو حنيفة وابن المواز: لا يقضى منها. وقال أبو حنيفة: ولا يقضي منها كفارة ونحوها من صنوف الله تعالى، وإنماالغارم من عليه دين يحبس فيه. وقيل: يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبر وإن كان غنياً إذاكان ذلك يجحف بماله، وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد. وفي سبيل الله هو المجاهد يعطي منها إذا كان فقيراً.والجمهور على أنه يعطي منها وإن كان غنياً ما ينفق في غزوته. وقال الشافعي، وأحمد، وعيسى بن دينار، وجماعة: لايعطي الغني إلا إن احتاج في غزوته، وغاب عنه وفره. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطي إلا إذا كان فقيراًأو منقطعاً به، وإذا أعطي ملك، وإن لم يصرفه في غزوته. وقال ابن عبد الحكم: ويجعل من الصدقة في الكراعوالسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته. والجمهور على أنهيجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وإن كانوا أغنياء. وقال الزمخشري: وفي سبيل الله فقراء الغزاة، والحجيج المنقطع بهم انتهى.والذي يقتضيه تعداد هذه الأوصاف أنها لا تتداخل، واشتراط الفقر في بعضها يقضي بالتداخل. فإن كان الغازي أو الحاجشرط إعطائه الفقر، فلا حاجة لذكره لأنه مندرج في عموم الفقراء، بل كل من كان بوصف من هذه الأوصاف جازالصرف إليه على أي حال كان من فقر أو غنى، لأنه قام به الوصف الذي اقتضى الصرف إليه. قال ابنعطية: ولا يعطى منها في بناء مسجد، ولا قنطرة، ولا شراء مصحف انتهى. وابن السبيل قال ابن عباس: هوعابر السبيل. وقال قتادة في آخرين: هو الضيف. وقال جماعة: هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده.وقالت جماعة: هو إلحاج المنقطع. وقال الزجاج: هو الذي قطع عليه الطريق. وفي كتاب سحنون قال مالك: إذا وجد المسافرالمنقطع به من يسلفه لم يجز له أن يأخذ من الصدقة، والظاهر الصرف إليه. وإن كان له ما يغنيه فيطريقه لأنه ابن سبيل، والمشهور أنه إذا كان بهذا الوصف لا يعطى. قال الزمخشري: (فإن قلت): لم عدل عناللام إلى في في الأربعة الأخيرة؟ (قلت): للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأنّ في للوعاء،فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أوالرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقروالعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال. وتكرير في في قوله تعالى: وفي سبيل الله وابنالسبيل، فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. (فإن قلت): فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكائدهم؟ (قلت):ذل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم، على أنهم ليسوا منهم حسماً لا طعاممهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان، وأنهمبعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم ولها، وما سلطهم على الكلام لها ولمن قاسمها. وانتصب فريضة لأنه في معنى المصدرالمؤكد، لأن قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء، معناه فرض من الله الصدقات لهم. وقرىء فريضة بالرفع على تلك فريضة انتهى.وقال الكرماني وأبو البقاء: فريضة حال من الضمير في الفقر، أي مفروضة. قال الكرماني: كما تقول هي لك طلقاً انتهى.وذكر عن سيبويه أنها مصدر، والتقدير: فرض الله الصدقات فريضة. وقال الفراء: هي منصوبة على القطع. والله عليم حكيم، لأنما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة، أو عليم بمقادرير المصالح، حكيم لا يشرع إلاما هو الأصلح.

{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } * { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ } * { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } * { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } * { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } * { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } * { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } * { كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } عدل

الاعتذار التنصل من الذنب، فقيل: أصله المحو، من قولهم: اعتذرت المنازل ودرست، فالمعتذريحاول إزالة ذنبه. قال ابن أحمر:

قد كنت تعرف آيات فقد جعلت     إطلال إلفك بالوعساء تعتذر

وعن ابن الأعرابي: إنّ الاعتذار هو القطع، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع، واعتذرت المياه انقطعت، والعذر سبب لقطعالذم. عدن بالمكان يعدن عدونا أقام، قاله: أبو زيد وابن الأعرابي. قال الأعشى:

وإن يستضيفوا إلى حلمه     يضافوا إلى راجح قد عدن

وتقول العرب: تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبلالمكان فتألفه ولا تبرحه. وسمي المعدن معدناً لا نبات الله الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أيثبت. وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن اليمن قطاناً ودوراً. {وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُخَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ }: كان قدام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بنسويد في آخين يؤذون الرسول فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا. فقالالجلاس: بل نقول بما شئنا، فإنّ محمداً أذن سامعة، ثم نأتيه فيصدقنا فنزلت. وقيل: نزلت في نبتل بن الحرث كانينم حديث الرسول إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال ذلك القول. وقيل: نزلت في الجلاسوزمعة بن ثابت في آخرين أرادوا أن يقعوا في الرسول وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه، فقالوا:لئن كان ما يقول محمّد حقاً لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام فقال: والله إنّ ما يقول محمد حق، وأنتملشر من الحمير، ثم أتى رسول الله فأخبره فدعاهم، فسألهم، فحلفوا أنّ عامراً كاذب، وحلف عامرأنهم كذبة وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب، ونزلت هذه الآية يحلفون بالله لكم ليرضوكم،فقال رجل: أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع قاله الجوهري. وقال الزمخشري: الأذن الرجل الذييصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كان جملته أذن سامعة ونظيره قولهمللرئية: عين. وقال الشاعر:

قد صرت أذناً للوشاة سميعة     ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا

وهذا منهمتنقيص للرسول ، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع. وقيل: المعنى ذو أذن، فهو على حذف مضاف قالهابن عباس. وقيل: أذن حديد السمع، ربما سمع مقالتنا. وقيل: أذن وصف بنى على فعل من أذن يأذن أذناً إذااستمع، نحو أنف وشلل وارتفع. أذن على إضمار مبتدأ أي: قل هو أذن خير لكم. وهذه الإضافة نظيرها قولهم: رجلصدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الإذن. ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحقوما يجب سماعه وقبوله، وليس بإذن في غير ذلك. ويدل عليه خير ورحمة في قراءة من جرها عطفاً على خيرأي: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكرعن عاصم في رواية قل: أذن بالتنوين خير بالرفع. وجوزوا في أذن أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وخير خبر ثانلذلك المحذوف أي: هو أذن هو خير لكم، لأنه يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلتكم.وأن يكون خير صفة لأذن أي: أذن ذو خير لكم. أو على أنّ خيراً أفعل تفضيل أي: أكثر خيراً لكم،وأن يكون أذن مبتدأ خبره خبر. وجاز أن يخبر بالنكرة عن النكرة مع حصول الفائدة فيه قاله صاحب اللوامح، وهوجائز على تقدير حذف وصف أي: أذن لا يؤاخذكم خير لكم، ثم وصفه تعالى بأنه يؤمن بالله، ومن آمن باللهكان خائفاً منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل. ويؤمن للمؤمنين أي: يسمع من المؤمنين ويسلم لهم ما يقولون ويصدقهم لكونهممؤمنين، فهم صادقون. ورحمة للذين آمنوا منكم، وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين، لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسوللم يحصل لغيرهم، وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم. وهذه الأوصاف الثلاثة مبينة جهة الخيرية،ومظهرة كونه أذن خير. وتعدية يؤمن أولاً بالباء، وثانياً باللام. قال ابن قتيبة: هما زائدان، والمعنى:يصدق الله، ويصدق المؤمنين. وقال الزمخشري: قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر، فعدى بالباء، وقصد الاستماع للمؤمنين، وإنيسلم لهم ما يقولون فعدى باللام. ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـٰدِقِينَ }

ماأنباه عن الباء ونحوه

{ فَمَا ءامَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ }

{ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلاْرْذَلُونَ }

{ قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ }

انتهى. وقال ابن عطية: يؤمن بالله يصدق بالله، ويؤمن للمؤمنين. قيل: معناه ويصدق المؤمنين، واللام زائدةكما هي في

{ رَدِفَ لَكُم }

وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل، كأنه قال: وإيمانه للمؤمنين أي: وتصديقه.وقيل: يقال آمنت لك بمعنى صدقتك، ومنه قوله:

{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }

وعندي أنّ هذه التي معها اللام فيضمنها باء فالمعنى: ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به، وكذلك وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك انتهى. وقرأ أبي، وعبدالله، والأعمش، وحمزة: ورحمة بالجر عطفاً على خبر، فالجملة من يؤمن اعتراض بين المتعاطفين، وباقي السبعة بالرفع عطفاً على يؤمن،ويؤمن صفة لأذن خير. وابن أبي عبلة: بالنصب مفعولاً من أجله حذف متعلقه التقدير: ورحمة يأذن لكم، فحذف لدلالة أذنخير لكم عليه. وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيماً لشأنه، وجمعاً له فيالآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوّة والرسالة، وإضافته إليه زيادة في تشريفه، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم، وحق لهمذلك والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم. {يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّأَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }: الظاهر أنّ الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون: هو أذن أنكره وحلفوا أنهمما قالوه. وقيل: عائد على الذين قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن شر من الحمير، وتقدم ذكر ذلك.وقيل: عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع الرسول والمؤمنون اعتذروا وحلفوا واعتلوا، قاله:ابن السائب، واختاره البيهقي. وكانوا ثلاثة وثمانين حلف منهم ثمانون، فقبل الرسول أعذارهم واعترف منهم بالحق ثلاثة، فأطلع الله رسولهعلى كذبهم ونفاقهم، وهلكوا جميعاً بآفات، ونجا الذين صدقوا. وقيل: عائد على عبد الله بن أبي ومن معه حلفوا أنلا يتخلفوا عن رسول الله وليكونوا معه على عدوه. وقال ابن عطية المراد جميع المنافقين الذين يحلفون للرسول والمؤمنين أنهممعهم في الدين وفي كل أمر وحرب، وهم يبطنون النفاق، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وهذا قول جماعة من أهل التأويل. واللامفي ليرضوكم لام كي، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم، وأفرد الضمير في أن يرضوه لأنهما في حكم مرضيواحد، إذ رضا الله هو ضا الرسول، أو يكون في الكلام حذف. قال ابن عطية: مذهب سيبويه أنهما جملتان، حذفتالأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. وهذا كقول الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما عنـــــدك راض والـــرأي مـخـتلــف    

ومذهب المبرد: أنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره: والله أحقأن يرضوه ورسوله. وقيل: الضمير عائد على المذكور كما قال رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق     كأنه في الجلد توليع البهق

انتهى. فقوله: مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الأولى لدلالة الثانية عليهاأنْ كان الضمير في أنهما عائداً على كل واحدة من الجملتين، فكيف تقول حذفت الأولى ولم تحذف الأولى إنما حذفخبرها؟، وإن كان الضمير عائداً على الخبر وهو أحق أن يرضوه، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون أنْ يرضوه مبتدأوأحق المتقدم خبره، لكن لا يتعين هذا القول: إذ يجوز أن يكون الخبر مفرداً بأن يكون التقدير: أحق بأن يرضوه.وعلى التقدير الأول يكون التقدير: والله إرضاؤه أحق. وقدره الزمخشري: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. إن كانوا مؤمنين كمايزعمون، فأحق من يرضونه الله ورسوله بالطاعة والوفاق. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُفَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْىُ ٱلْعَظِيمُ } أي ألم يعلم المنافقون؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار. وقرأالحسن والأعرج: بالتاء على الخطاب، فالظاهر أنه التفات، فهو خطاب للمنافقين. قيل: ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين، فيكون معنى الاستفهامالتقرير. وإن كان خطاباً للرسول فهو خطاب تعظيم، والاستفهام فيه للتعجب، والتقدير: ألا تعجب من جهلهم في محادّة الله تعالى:وفي مصحف أبيّ ألم يعلم. قال ابن عطية: على خطاب النبي عليه السلام انتهى. والأولى أن يكون خطاباً للسامع، قالأهل المعاني: ألم تعلم، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئاً مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له: ألمتعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي معه، وكثر منه التحذيرعن معصية الله والترغيب في طاعة الله. قال بعضهم: المحادّة المخالفة، حاددته خالفته، واشتقاقه من الحد أي كان على حدغير حادة كقولك: شاقة، كان في شق غير شقه. وقال أبو مسلم: المحادة مأخوذة من الحديد، حديد السلاح. والمحادة هنا،قال ابن عباس: المخالفة. وقيل: المحاربة. وقيل: المعاندة. وقيل: المعادة. وقيل: مجاوزة الحد في المخالفة. وهذه أقوال متقاربة. وقرأ الجمهورفإنّ له بالفتح، والفاء جواب الشرط. فتقتضي جملة وإنّ له مفرد في موضع رفع على الابتداء، وخبره محذوف قدره الزمخشري:مقدماً نكرة أي: فحق أن يكون وقدره غيره: متأخراً أي فإن له نار جهنم واجب، قاله: الأخفش، ورد عليه بأنأنْ لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر، وهذا مذهب سيبويه والجمهور. وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة علىالخبر، فالأخفش خرج ذلك على أصله. أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب أنّ له النار.قال علي بن سليمان: وقال الجرمي والمبرد: إن الثانية مكررة للتوكيد، كان التقدير: فله نار جهنم، وكرر أنّ توكيداً. وقالالزمخشري: ويجوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه، على أن جواب من محذوف تقديره: ألم يعلموا أنه من يحاددالله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى، فيكون فإنّ له نار جهنم في موضع نصب. وهذا الذي قدره لايصح، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ، أو مضارعاً مجزوماًبلم، فمن كلامهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز أن تفعل، وهنا حذف جواب الشرط، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظولا مضارعاً مقروناً بلم، وذلك إنْ جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة. وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب. ونقلواعن سيبويه أنّ أنّ بدل من أنه. قال ابن عطية: وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى. والأولىفي هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر. وأيضاً فإنّ الفاء مانعالبدل وأيضاً، فهي معنى آخر غير الأول، فيقلق البدل. وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى. وقال أبو البقاء: وهذايعني البدل ضعيف لوجهين: أحدهما: أن الفاء التي معها تمنع من ذلك، والحكم بزيادتها ضعيف. والثاني: أن جعلها بدلاً يوجبسقوط جواب الكلام انتهى. وقيل: هو على إسقاط اللام أي: فلأن له نار جهنم، فالفاء جواب الشرط، ويحتاج إلى إضمارما يتم به جواب الشرط جملة أي: فمحادته لأن له نار جهنم. وقرأ ابن أبي عبلة: فإن له بالكسر فيالهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني، وهي قراءة محبوب عن الحسن، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو، ووجهه في العربيةقوي لأنّ الفاء تقتضي الاستئناف، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار، بخلاف الفتح. وقال الشاعر:

فمن يك سائلاً عني فإني     وجروة لا ترود ولا تعار

وعلى هذا يجوز في أنّ بعد فاء الجزاءوجهان: الفتح، والكسر. ذلك لأن كينونة النار له خالداً فيها هو الهوان العظيم كما قال:

{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }

. {يَحْذَرُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءواْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّاتَحْذَرُونَ }: كان المنافقون يعيبون الرسول ويقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا فنزلت، قاله مجاهد. وقال السدي: قال بعضهم:وددت أني جلدت مائة ولا ينزل فيناشىء يفضحنا، فنزلت. وقال ابن كيسان: وقف جماعة منهم للرسول في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام فنزلت. وقيل قالوا في غزوة تبوك: أيرجوهذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها: هيهات هيهات فأنزل الله قل استهزؤوا. والظاهر أنّ يحذر خبر، ويدل عليهأن الله مخرج ما تحذرون. فقيل: هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسوليخبرهم بما يكتمونه، وقع الحذر والخوف في قلوبهم.وقال الأصم: كانوا يعرفونه رسولاً من عند الله فكفروا حسداً، واستبعد القاضي في العالم بالله ورسوله وصحة دينه أن يكونمحاداً لهما وليس ببعيد، فإنه إذا استحكم الحسد نازع الحاسد في المحسوسات. وقيل: هو حذر أظهروه على وجه الاستهزاء حينرأوا الرسول يذكر أشياء وأنها عن الوحي وكانوا يكذبون بذلك، فأخبر الله رسوله بذلك، وأعلم أنه مظهر سرهم، ويدل عليهقوله: قل استهزؤوا. وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عناداً: هو مضارع في معنى الأمرأي: ليحذر المنافقون، ويبعده مخرج ما تحذرون، وأن تنزل مفعول يحذر، وهو متعد. قال الشاعر:

حذر أموراً لا تضرّ وآمن     ما ليس ينجيه من الأقدار

وقال تعالى:

{ وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }

لما كان قبلالتضعيف متعدياً إلى واحد، عداه بالتضعيف إلى اثنين. وقال المبرد: حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثلفزع، والتقدير: يحذر المنافقون من أن تنزل، ولا يلزم ذلك: ألا ترى أنّ خاف من هيئات النفس وتتعدى؟ والظاهر أنقوله عليهم: وتنبئهم، الضمير أنّ فيهما عائدان على المنافقين، وجاء عليهم لأنّ السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة علهمقاله: الكرماني، والزمخشري. قال الكرماني: ويحتمل أنه من قولك: هذا عليك لا لك. ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم: تذيعأسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة، فكأنها تخبرهم بها. وقال الزمخشري: والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، وصح ذلكلأنّ المعنى يعود إليه انتهى. والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله:

{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }

ومعنى مخرج ما تحذرون مبرزإلى حيز الوجود، ما تحذرونه من إنزال السورة، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم. وفعل ذلك تعالى فيهذه السورة فهي تسمى الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين. قيل: كانوا سبعين رجلاً أنزل الله أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن، ثمرفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه، لأن أبناءهم كانوا مسلمين. {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُقُلْ أَبِٱللَّهِ وَءايَـٰتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ }: أي: ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم:انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام، وقول بعضهم: كأنكم غداً في الجبال أسرى لبني الأصفر، وقول بعضهم:ما رأيت كهؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجبن عند اللقاء، فأطلع الله نبيه على ذلك فعنفهم، فقالوا:يا نبي الله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك، إنما كنا في شيء مما يخوض فيه الركب،كنا في غير جدّ. قل: أبالله تقرير على استهزائهم، وضمنه الوعيد، ولم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهممعترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير. وذلك إنما يستقيمبعد وقوع الاستهزاء وثبوته قاله: الزمخشري، وهو حسن. وتقديم بالله وهو معمول خبر كان عليها، يدل على جواز تقديمه عليها.وعن ابن عمر: رأيت قائل هذه المقالة يعني: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ وذكر أنّ هذا المتعلق عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك. {تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْقَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }: نهوا عن الاعتذار، لأنها اعتذاراتكاذبة فهي لا تنفع. قد كفرتم أظهرتم الكفر بعد إيمانكم أي: بعد إظهار إيمانكم، لأنهم كانوا يسرُّون الكفر فأظهروه باستهزائهم،وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة، والتعذيب لطائفة. وكان المنافقون صنفين: صنف أمر بجهادهم:

{ جاهد الكفار والمنافقين }

وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف،فعذبوا بإخراجهم من المسجد، وانكشاف معظم أحوالهم. وصنف ضعفه مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر، لم يؤذوا الرسول فعفى عنهم، وهذاالعذاب والعفو في الدنيا. وقيل: المعفو عنها من علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان، والمعذبون من مات منهمعلى نفاقه. وقيل: المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشى بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء، كان مع الذينقالوا:

{ إنما كنا نخوض ونلعب }

وقيل: كان منافقاً ثم تاب توبة صحيحة. وقيل: إنه كان مسلماً مخلصاً، إلا أنه سمعكلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم، فعفا الله عنه، واستشهد باليمامة وقد كان تاب، ويسمى عبد الرحمن، فدعا اللهأن يستشهدوا ويجهل أمره، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده. وقرأ زيد بن ثابت، وأبو عبد الرحمن، وزيد بنعلي، وعاصم من السبعة: إن نعف بالنون، نعذب بالنون طائفة. ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقيبغرناطة فسألني قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباغ؟ فقلت: قراءة عاصم، فأنشدني:

لعاصم قراءة     لغيرها مخالفة إن نعف عن طائفة

وقرأ باقي السبعة: إن تعف تعذب طائفة، مبنياً للمفعول. وقرأالجحدري: أن يعف بعذب مبنياً للفاعل فيهما، أي: أن يعف الله. وقرأ مجاهد: أن تعف بالتاء مبنياً للمفعول، تعذب مبنياًللمفعول بالتاء أيضاً. قال ابن عطية: على تقدير إن تعف هذه الذنوب. وقال الزمخشري: الوجه التذكير لأنّ المسند إليه الظرفكما تقول: سير بالدابة، ولا تقول سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة فأنث لذلك، وهوغريب. والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى. مجرمين: مصرين على النفاق غير تائبين.{ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ }:بيّن تعالى أن ذكورهم وأناثهم ليسوا من المؤمنين كما قال تعالى:

{ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ }

بلبعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق، فهم على دين واحد. وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم ووصفهمبخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم يأمرون بالمنكر وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي، وينهون عن المعروف، لأن الذين نزلتفيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة، وذلك بظهور الإسلام وعزته. وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإنفاق في سبيلالله قاله الحسن. وقال قتادة: عن كل خير. وقال ابن زيد: عن الجهاد وحمل السلاح في قتال أعداء الدين. وقالسفيان: عن الرفع في الدعاء. وقيل ذلك كناية عن الشح في النفقات في المبار والواجبات، والنسيان هنا الترك. قال قتادة:تركوا طاعة الله وطاعة رسوله فنسيهم، أي: تركهم من الخير، أما من الشر فلم ينسهم. وقال الزمخشري: أغفلوا ذكره فنسيهمتركهم من رحمته وفضله، ويغبر بالنسيان عن الترك مبالغة في أنه لا يخطر ذلك ببال. هم الفاسقون أي: هم الكاملونفي الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ من كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسب هذا الاسمالفاحش الذي وصف الله به المنافقين. {وَعَدَ الله الْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتِ وَٱلْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُوَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }: الكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة، لأن الخلود لم يقارن الوعد. وحسبهم كافيهم، وذلكمبالغة في عذابهم، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظمأهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين. مقيم: مؤبّد لا نقلة فيه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم فيالعاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق. والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين، وما يحذرونه أبداً منالفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم. {كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰدًا فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلَـٰقِهِمْفَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }: هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. قال الفراء: التشبيه منجهة الفعل أي: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب. وقال الزجاج: المعنى وعد كما وعد الذينمن قبلكم، فهو متعلق بوعد. وقال ابن عطية: وفي هذا قلق. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وهذافيه بعد. وقيل: في موضع رفع التقدير أنتم كالذين. والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض. وقوله: كانوا أشد، تفسير لشبههم بهم،وتمثيل لفعلهم بفعلهم. والخلاق: النصيب أي: ما قدر لهم. قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فائدة في قوله: فاستمتعوا بخلاقهم،وقوله: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه، كما أغنى كالذي خاضوا؟ (قلت): فائدته أنْ قدم الأولين بالاستمتاع ماأوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم، فشبهوا بهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسسأمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به، ثم شبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما يريد أن ينبه بعض الظلمة علىسماجة فعله فيقول: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. وأما وخضتم كالذي خاضوافمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى. يعني: استغنى عن أن يكون التركيب، وخاضوافخضتم كالذي خاضوا. قال ابن عطية: كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى: عجلوا حظهمفي دنياهم، وتركوا باب الآخرة، فاتبعتموهم أنتم انتهى. ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوةوكثرة الأولاد، واستمتاعهم بما قدّر لهم من الأنصباء، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال: كمااستمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإعادة الظاهرمكان المضمر على التفخيم والتعظيم، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى:

{ يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً }

وكقوله:

{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ }

ولم يأت التركيب أنه كان، ولا أنهم هم.وخضتم: أي دخلتم في اللهو والباطل، وهو مستعار من الخوض في الماء، ولا يستعمل إلا في الباطل، لأنّ التصرف فيالحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه: رب متخوض في مال الله له النار يومالقيامة. كالذي خاضوا: أي كالخوض الذي خاضوا قاله الفراء. وقيل: كالخوض الذين خاضوا. وقيل: النون محذوفة أي: كالذين خاضوا، أيكخوض الذين. وقيل: الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي: كخوضهم. والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّةوكثرة الأموال والأولاد، والمعنى: وأنتم كذلك يحبط أعمالكم. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين المعاصرين لمحمد صلى اللهعليه وسلم، ويكون الخطاب لمحمد ، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول. وقوله: فيالدنيا ما يصيبهم في الدنيا من التعب وفساد أعمالهم، وفي الآخرة نار لا تنفع ولا يقع عليها جزاء. ويقوي الإشارةبأولئك إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة

{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ }

فتأمله انتهى. وقال الزمخشر: حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، نقيضقوله تعالى:

{ وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين }

. {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍوَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرٰهِيمَ وِأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ فَمَا }: لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة فيالدنيا وتكذيب الأنبياء، وكان لفظ الذين من قبلكم فيه إبهام، نصّ على طوائف بأعيانها ستة، لأنهم كان عندهم شيء منأنبائهم، وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب، وكانوا أكثر الأمم عدداً، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء: نوح أول الرسل، وابراهيم الأب الأقربللعرب وما يليها من الأمم مقاربون لهم في الشدّة وكثرة المال والولد. فقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد بالريح، وثمود بالصيحة،وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضهاأسافل، وأمطار الحجارة عليهم. قال الواحدي: معنى الائتفاك الانقلاب، فأفكته فائتفك أي قلبته فانقلب. والمؤتفكات صفة للقرى التي ائتفكتبأهلها، فجعل أعلاها أسفلها. والمؤتفكات مدائن قوم لوط. وقيل: قريات قوم لوط وهود وصالح. وائتفاكهن: انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلىالشر. قال ابن عطية: والمؤتفكات أهل القرى الأربعة. وقيل: التسعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام، وقد جاءت في القرآنمفردة تدل على الجمع، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان:

لمنطق مستبين غير ملتبس     به اللسان ورأي غير مؤتفك

أي غير منقلب متصرّف مضطرب. ومنه يقال للريح: مؤتفكة لتصرفها، ومنه

{ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }

والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب انتهى. وفي قوله: ألم يأتهم، تذكير بأنباء الماضين وتخويف أنْ يصيبهم مثلما أصابهم، وكان أكثرهم عالمين بأحوال هذه الأمم، وقد ذكر شيء منها في أشعار جاهليتهم كالأفوه الأزدي، وعلقمة بن عبدة،وغيرهما. ويحتمل أن يكون قوله: ألم يأتهم تذكيراً بما قص الله عليهم في القرآن من أحوال هؤلاء وتفاصيلها. والظاهر أنّالضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة، والجملة شرح للنبأ. وقيل: يعود على المؤتفكات خاصة، وأتى بلفظرسل وإن كان نبيهم واحداً، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً، فهم رسول رسول الله، ذكره الطبري. وقالالكرماني: قيل: يعود على المؤتفكات أي: أتاهم رسول بعد رسول. والبينات المعجزات، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق، لا بالنسبة إلىالمكذبين. قال ابن عباس: ليظلمهم ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم. والمعنى: أنهم أهلكوا باستحقاقهم. وقال مكي: فما كان اللهليضع عقوبته في غير مستحقها، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إذ عصوا الله وكذبوارسله حتى أسخطوا ربهم واستوجبوا العقوبة، فظلموا بذلك أنفسهم. وقال الكرماني: ليظلمهم بإهلاكهم، يظلمون بالكفر والتكذيب. وقال الزمخشري: فما صحمنه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح، وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقواعقابه انتهى. وذلك على طريقة الاعتزال. ويظهر أن بين قوله بالبينات. وقوله: فما كان كلاماً محذوفاً تقديره ـ والله أعلمـ فكذبوا فأهلكهم الله، فما كان الله ليظلمهم. {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ * مِنْ *ٱلْمُنْكَرِوَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }: لما ذكر المنافقين والمنافقات وماهم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض، وفي هؤلاء بعضهم أولياءبعض. قال ابن عطية: إذ. لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض، فكان المراد هنا الولايةفي الله خاصة. وقال أبو عبد الله الرازي: بعضهم من بعض يدل على أنّ نفاق الاتباع وكفرهم حصل بسبب التقليدلأولئك الأكابر، وسبب مقتضى الطبيعة والعادة. أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة، بل بسبب المشاركةفي الاستدلال والتوفيق والهداية، والولاية ضد العداوة. ولما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري كالتفسير والشرحله، وهي الخمسة التي يميز بها المؤمن على المنافق. فالمنافق يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف ولا يقوم إلى الصلاة إلاوهو كسلان، ويبخل بالزكاة، ويتخلف بنفسه عن الجهاد، وإذا أمره الله تثبط وثبط غيره. والمؤمن بضد ذلك كله من الأمربالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والجهاد. وهو المراد في هذه الآية بقوله: ويطيعون الله ورسوله انتهى، وفيهبعض تلخيص. وقال أبو تلخيص. وقال أبو العالية: كل ما ذكره الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء منالشرك إلى الإسلام، وما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأصنام والشياطين. وقال ابن عباس: ويقيمون الصلاةهي الصلوات المس. قال ابن عطية: وبحسب هذا تكون الزكاة المفروضة والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أجدىبإقامة الفروض، ويطيعون الله ورسوله جامع للمندوبات انتهى، سيرحمهم الله. قال ابن عطية: السين مدخلة في الوعد مهلة، لتكون النفوستتنعم برجائه وفضله تعالى. وقال الزمخشري: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك:سأنتقم منك يوماً يعني: إنك لا تفوتني وإن تبطأ ذلك. ونحوه:

{ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً }

{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ }

{ سَوْفَ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ }

انتهى. وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، يشير إلى أنهيجب على الله تعالى إثابة الطائع، كما تجب عقوبة العاصي. وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه، إنما تدل علىتخليص المضارع للاستقبال فقط. ولما كانت الرحمة هنا عبارة عما يترتب على تلك الأعمال الصالحة من الثواب والعقاب في الآخرة،أتى بالسين التي تدل على استقبال الفعل أنّ الله عزيز غالب على كل شيء، قادر عليه، حكيم واضع كلاًّ موضعه.{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَـٰكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوٰنٌ مّنَ ٱللَّهِأَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }: لمّا أعقب المنافقين بذكر ما وعدهم به من نار جهنم، أعقب المؤمنين بذكر ماوعدهم به من نعيم الجنان. ولما كان قوله:

{ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ }

وعداً إجمالياً فصله هنا تنبيهاً على أنّ تلك الرحمةهي هذه الأشياء، ومساكن طيبة. قال ابن عباس: هي دور المقربين. وقيل: دور في جنات عدن مختلفة في الصفات باختلافحال الحالين بها. وقيل: قصور زبرجد ودر وياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في أماكن إقامتهم. وفي الحديث: قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوته حمراء، وفي كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً وذكر في آخر هذا الحديث أشياء، وإن صحّ هذا النقل عن الرسول وجب المصير إليه. في جناتعدن أي: إقامة. وقال كعب الأحبار: هي بالفارسية الكروم والأعناب. قال ابن عطية: وأظن هذا ما اختلط بالفردوس. وقال ابنمسعود: عدن بطنان الجنة وشرقها، وعنه: وسط الجنة. وقال عطاء: نهر في الجنة، جنانه على حافيته. وقال الضحاك وأبو عبيدة:مدينة الجنة، وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد، والجنات حولها. وقال الحسن: قصر في الجن لايدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ومدتها صوته. وعنه: قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد. وروىأبو الدرداء عن رسول الله : عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، ولا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصديقون، والشهداء يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك وإن صحّ هذا عن الرسول وجبالمصير إليه. وقال مقاتل: هي أعلى درجة في الجنة. وقال عبد الله بن عمرو: قصر حوله البروج والمروج، له خمسةآلاف باب، على كل باب خيرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وقي: قصته الجنة فيها نهر علىحافتيه بساتين. وقيل: التسنيم، وفيه قصور الدر والياقوت والذهب، والأرائك عليها الخيرات الحسان، سقفها عرش الرحمن لا ينزلها إلا الأنبياءوالصديقون والشهداء والصالحون، يفوح ريحها من مسيرة خمسمائة عام. وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب، وبعضها يدل على التخصيصوهو مخالف لظاهر الآية، إذ وعد الله بها المؤمنين والمؤمنات. وقال الزمخشري: وعدن علمٌ لقوله تعالى:

{ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ }

ويدل عليه ما روى أبو الدرداء، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء، وإنما استدل بالآية علىأنّ عدناً علم، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولايتعين ذلك، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً بإضمار أعني: أو أمدح، أو بدلاً من جنات.ويبعد أن تكون صفة لقوله: الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت، وجيءبعده بالبدل. وقرأ الأعمش ورضوان: بضمتين. قال صاحب اللوامح: وهي لغة، ورضوان مبتدأ. وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله:من الله، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي: وشيء من رضوانه أكبر من كل ما ذكر. والعبد إذا علمبرضا مولاه عنه كان أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم، وإنما يتهيأ له النعيم بعامه برضاه عنه. كما أنهإذا علم بسخطه تنغصت حاله، ولم يجد لها لذة. ومعنى هذه الجملة موافق لما روي في الحديث: أن الله تعالى يقول لعباده إذا استقروا في الجنة: هل رضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني، أرضى عنكم فلا أسخط عليكم أبداً وقال الحسن: وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هوألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة. قال ابن عطية: ويظهر أن يكون قوله تعالى: ورضوانمن الله أكبر، إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تشنيم، والذين يرون كما يرى النجم الغائر في الأفق، وجميع منفي الجنة راض، والمنازل مختلفة، وفضل الله تعالى متسع انتهى. وقال الزمخشري: رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة انتهى.والإشارة بذلك إلى جميع ما سبق، أو إلى الرضوان قولان، والأظهر الأول.

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } * { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } * { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } * { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } * { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } * { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ } * { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } * { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } * { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ } * { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } * { لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } عدل

{ٱلْعَظِيمُ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }:لما ذكر وعيد غير المؤمنين وكانت السورة قد نزلت في المنافقين بدأبهم في ذلك بقوله:

{ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم }

ولما ذكر أمر الجهاد، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسباباً في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال، قال:جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم. قال ابن عباس وغيره: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان. وقال الحسن وقتادة: والمنافقين بإقامة الحدودعليهم إذا تعاطوا أسبابها. وقال ابن مسعود: جاهدهم باليد، فإن لم تستطع فباللسان، فإن لم تستطع فبالقلب، وإلا كفرار فيوجوههم، وأغلظ عليهم في الجهادين. والغلظ ضد الرقة، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حقالمؤمنين. واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد، فهذا حكمه يجاهد بالحجة، ويستعمل معه الغلظ ماأمكن. {يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـٰمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ}: الضمير عائد على المنافقين. فقيل: هو حلف الجلاس، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس. وقيل: حلف عبد الله بنأبي أنه ما قال

{ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ }

الآية. وقال الضحاك: حلفهم حين نقل حذيفة إلى الرسول صلى اللهعليه وسلم أصحابه وإياه في خلوتهم، وأما وهموا بما لم ينالوا فنزلت قيل: في ابن أبي في قوله: ليخرجن، قالهقنادة، وروي عن ابن عباس. وقيل: بقتل الرسول، والذي همّ به رجل يقال له: الأسود من قريش، رواه مجاهد عنابن عباس. وقال مجاهد: نزلت في خمسة عشر هموا بقتله وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ اتسمالعقبة، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة يوقع إخفاف الإبلوقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم يا أعداء الله فهربوا، وكان منهم عبد الله بن أبي، وعبد اللهبن سعد بن أبي سرح، وطعيمة بن أبيرق، والجلاس بن سويد، وأبو عامر بن نعمان، وأبو الأحوص. وقيل: همهم بمالم ينالوا، هو أن يتوجوا عبد الله بن أبي إذا رجعوا من غزوة تبوك يباهون به الرسول صلى الله عليهوسلم، فلم ينالوا ما هموا به، فنزلت. وعن ابن عباس: كان لرسول الله جالساً في ظلشجرة فقال: إنه سيأتلكم إنسان فينظر إليكم شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أنْ طلع رجل أزرق فدعاه فقال:علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق لرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فأنزل الله هذه الآية. وكلمة الكفر قولابن أبي لما شاور الجهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الجهني، وقد كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع، فصاح الجهجاه:يا للأنصار، وصاح سنان: يا للمهاجرين، فثار الناس، وهدأهم الرسول فقال ابن أبي: ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا عليناما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أو الاستهزاء، أو قول الجلاس المتقدم، أو قولهم: نعقد التاج،أو قولهم: ليس بنبي، أو القول: لئن رجعنا إلى المدينة أقوال. وكفروا: أي أظهروا الكفر بعد إسلامهم أي إظهار إسلامهم.ولم يأت التركيب بعد إيمانهم لأنّ ذلك لم يتجاوز ألسنتهم. والهم دون العزم، وتقدم الخلاف في الهام والمهموم به. وقيل:هو همّ المنافقين أو الجلاس بقتل ناقل حديث الجلاس إلى الرسول، وفي تعيين اسم الناقل خلاف، فقيل: عاصم بن عدي.وقيل: حذيفة. وقيل: ابن امرأة الجلاس عمير بن سعد. وقيل: اسمه مصعب. وقيل: هموا بالرسول والمؤمنين أشياء لم ينالوها «ومانقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله» هذا مثل قوله:

{ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا }

{ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ }

وكان حق الغني من الله ورسوله أن يشكر لا أين ينقم، جعلوا الغنى سبباً ينتقمبه، فهو كقوله:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

وكان الرسولقد أعطى لعبد الله بن أبي دية كانت قد تغلظت له، قال عكرمة: اثنا عشر ألفاً. وقيل: بل كانت للجلاس.وكانت الأنصار حين قدم الرسول المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل. ولا يجوزون الغنيمة،فأثروا وقال الرسول للأنصار: {وَكُنتُمْ * حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } وقيل: كان على الجلاس دين كثير فقضاه الرسول، وحصلله من الغنائم مال كثير. وقوله: وما نقموا الجملة كلام أجرى مجرى التهكم به، كما تقول: ما لي عندك ذنبإلا إني أحسنت إليك، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئاماً. وقال الشاعر:

ما نقموا من بني أمية إلا     أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا

وقال الآخر وهو نظير البيت السابق:

ولا عيب فينا غير عرق لمعشر     كرام وإنا لا نحط على النمل

فإن يتوبوا هذا إحسان منه تعالى ورفق ولطف بهم، حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكابتلك الجرائم العظيمة. وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أن قال ما نقل عنه قد اعترف، وصدق الناقل عنه وتاب وحسنتتوبته، ولم يرد أنّ أحداً قبلت توبته منهم غير الجلاس. قيل: وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المس الكفرالمظهر للإيمان، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا تقبل فإن جاء تائبتاً من قبل نفسه قبل أن يعثرعليه قبلت توبته بلا خلاف، وإن يتولوا أي: عن التوبة، أو الإيمان، أو الإخلاص، أو الرسول. والمعنى: وإنْ يديموا التوليإذ هم متولون في الدنيا بإلحاقهم بالحربيين إذ أظهروا الكفر، فيحل قتالهم وقتلهم، وسبي أولادهم وأزواجهم، وغنم أموالهم. وقيل: مايصيبهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل: عذاب القبر. وقيل: التعب والخوف والهجنة عند المؤمنين، وفي الآخرة بالنار. {وَمِنْهُمْمَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ ءاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ* مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْيَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ }: قال الضحاك: هم نبتل بن الحرث، وجد بن قيس،ومعتب بن قشير، وثعلبة بن حاطب، وفيهم نزلت الآية. وقال الحسن ومجاهد: في معتب وثعلبة خرجا على ملأ فقالا ذلك.وقال ابن السائب: في رجل من بني عمرو بن عوف كان له مال بالشام فأبطأ عنه، فجهد لذلك جهداً شديداً،فحلف بالله لئن آتانا من فضله أي من ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن، فآتاه فلم يفعل. والأكثر على أنها نزلتفي ثعلبة، وذكروا له حديثاً طويلاً وقد لخصت منه: أنه سأل الرسول أن يدعو الله أنيرزقه مالاً فقيل له: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فألح عليه، فدعا الله، فاتخذ غنماً كثرت حتىضاقت عنها المدينة، فنزل وادياً وما زالت تنمو، واشتغل بها حتى ترك الصلوات، وبعث إليه الرسول المصدق فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، فنزلت هذه الآية. فأخبره قريب له بها، فجاء بصدقتهإلى الرسول فلم يقبلها، فلما قبض الرسول أتى أبا بكر فلم يقبلها، ثم عمر فلم يقبلها، ثم عثمان فلم يقبلها،وهلك في أيام عثمان. وقرأ الأعمش: لنصدقنّ ولنكوننّ بالنون الخفيفة فيهما، والظاهر والمستفيض من أسباب النزول أنهم نطقوا بذلكولفظوا به. وقال معبد بن ثابت وفرقة: لم يتلفظوا به، وإنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألمتسمع إلى قوله:

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ }

(من الصالحين): أي من أهل الصلاح في أموالهمبصلة الرحم والإنفاق في الخير والحج وأعمال البر. وقيل: من المؤمنين في طلب الآخرة. بخلوا به أي: بإخراج حقه منه،وكلُّ بخل أعقب بوعيد فهو عبارة عن منع الحق الواجب. والظاهر أنّ الضمير في فأعقبهم هو عائد على الله، عاقبهمعلى الذنب بما هو أشد منه. قال الزمخشري: خذلهم حين نافقوا، وتمكن من قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أنْيموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين، ومنه خلف الموعد ثلث النفاق انتهى. وقوله: خذلهم هولفظ المعتزلة. وقال الحسن وقتادة: الضمير في فاعقبهم للبخل، أي فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم. وقال أبو مسلم: فأعقبهمأي البخل والتولي والإعراض. قال ابن عطية: يحتمل أن يكون نفاق كفر، ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليهلمكان إظهاره الإسلام، وتعلقه بما فيه احتمال. ويحتمل أن يكون نفاق معصية وقلة استقامة، فيكون تقريره صحيحاً، ويكون ترك قبولالزكاة منه عقاباً له ونكالاً. وهذا نحو ما روي أنّ عاملاً كتب إلى عمر بن عبد العزيز أنّ فلاناً يمنعالزكاة، فكتب إليه: أن دَعه، واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك.والظاهر عود الضمير في: يلقونه، على الله تعالى. وقيل: يلقون الجزاء. فقيل: جزاء بخلهم. وقيل: جزاء أفعالهم. وقرأ أبورجاء: يكذبون بالتشديد. ولفظه: فأعقبهم، نفاقاً لا تدل ولا تشعر بأنه كان مسلماً، ثم لما بخل ولم يف بالعهد صارمنافقاً كما قال أبو عبد الله الرازي، لأن المعقب نفاق متصل إلى وقت الموافاة، فهو نفاق مقيد بغاية، ولا يدلالمقيد على انتفاء المطلق قبله. وإذا كان الضمير عائداً على الله فلا يكون اللقاء متضمناً رؤية الله لإجماع العلماء علىأنّ الكفار لا يرون الله، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى:

{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ }

ليس بظاهر، ولقوله:[من حلف على يمين كاذبة ليقطع حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان] وأجمعوا على أنّ المراد هنا لقيما عند الله من العقاب. ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع. وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن: تعلموابالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير. وأنه تعالى فاضح المنافقين، ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئاً فشيئاً سرهم ونجواهم.هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علم الله بهم. والظاهر أنّ الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيرهم، وخصتها فرقةبمن عاهد وأخلف. فقال الزمخشري: ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، وما يتناجون به فيما بينهم منالمطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية، وتدبير منعها. وقيل: أشار بسرهم إلى ما يخفونه من النفاق، وبنجواهم إلى ما يفيضونبه بينهم من تنقيص الرسول ، وتعييب المؤمنين. وقيل: سرهم ما يسار به بعضهم بعضاً، ونجواهم ماتحدثوا به جهراً بينهم، وهذه أقوال متقاربة متفقة في المعنى. {ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـٰتِ وَالَّذِينَ لاَيَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أليم}: نزلت فيمن عاب المتصدقين. وكان رسول الله صلى اللهعليه وسلم حث على الصدقة، فتصدّق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وأمسك مثلها، فبارك له الرسول صلى الله عليهوسلم فيما أمسك وفيما أعطى. وتصدق عمر بنصف ماله، وعاصم بن عدي بمائة وسق، وعثمان بصدقة عظيمة، وأبو عقيل الأرلشيبصاع تمر، وترك لعياله صاعاً، وكان آجر نفسه لسقي نخيل بهما، ورجل بناقة عظيمة قال: هي وذو بطنها صدقة يارسول الله، وألقى إلى الرسول خطامها فقال المنافقون ما تصدق هؤلاء إلا رياء وسمعة، وما تصدّق أبو عقيل إلا ليذكرمع الأكابر، أو ليذكر بنفسه فيعطي من الصدقات، والله غني عن صاعه. وقال بعضهم: تصدق بالناقة وهي خير منه. وكانالرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سواداً، فنظر إليه الرسول وقال: قل هو خير منك، ومنها يقولهاثلاثاً. وأصل المطوعين المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، وهم المتبركون كعبد الرحمن وغيره. والذين لا يجدون إلا جهدهم هم مندرجونفي المطوعين، ذكروا تشريفاً لهم، حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشيء، وإن كانوا أشد الناس حاجة إليه، وأتعبهم فيتحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل، وأبي خيثمة، وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظر أيهما. وكان أبو علي الفارسييذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال: لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله.وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال، وفي قوله:

{ فِيهِمَا فَـٰكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ }

وإلى هذا كان يذهب تلميذهابن جني، وأكثر الناس على خلافهما. وتسمية بعضهم التجريد، جردوا بالذكر على سبيل التشريف، وقد تقدم الكلام على ذلك فيقوله:

{ وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ }

. وقرأ ابن هرمز وجماعة: جهدهم بالفتح. فقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقال القتبي بالضمالطاقة، وبالفتح المشقة. وقال الشعبي: بالضم القوت، وبالفتح في العمل. وقيل: بالضم شيء قليل يعاش به. والأحسن في الإعراب أنيكون الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين، كأنه قيل: يلمزون الأغنياء وغيرهم. وفيسخرونمعطوف على يلمزون، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون. وذكر أبو البقاء أن قوله: والذين لا يجدون،معطوف على الذين يلمزون، وهذا غير ممكن، لأن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر، ولا يمكن مشاركة الذين لايجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين. قال: وقيل: والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين، وهذابعيد جداً. قال: وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان: أحدهما فيسخرون. ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرطانتهى هذا الوجه. وهذا بعيد، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ، لأنّ من عاب وغمز أحداً هوساخر منه، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها، وهو لا يجوز. قال: والثاني: أن الخبر سخر الله منهم، قال:وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر، تقديره عاب الذين يلمزون. وقيل:الخبر محذوف تقديره: منهم الذين يلمزون. وقال أبو البقاء أيضاً: من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين، وفي الصدقات متعلقبيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى. وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر، وإذا كان حالاً جاز الفصلبها بين العامل فيها، وبين المعمول أخر، لذلك العامل نحو: جاءني الذي يمر راكباً بزيد. والسخرية: الاستهزاء. والظاهر أن قوله:سخر الله منهم خبر لفظاً ومعنى، ويرجحه عطف الخبر عليه. وقيل: صيغته خبر، ومعناه الدعاء. ولما قال: فيسخرون منهم قال:سخر الله منهم على سبيل المقابلة، ومعناه: أمهلهم حتى ظنوا أنه أهملهم. قال ابن عباس: وكان هذا في الخروج إلىغزوة تبوك. وقيل: معنى سخر الله منهم جازاهم على سخريتهم، وجزاء الشيء قد يسمى باسم الشيء كقوله:

{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }

قال ابن عطية: تسمية للعقوبة باسم الذنب، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم انتهى.وهو قريب من القول الذي قبله. وقال الأصم: أمر الله نبيه أن يقبل معاذيرهم الكاذبة فيالظاهر، ووبال فعلهم عليهم كما هو، فكأنه سخر منهم ولهذا قال: ولهم عذاب أليم، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى. وفيهذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر، لما يعقبهما من الوعيد. {وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ * أَوْلاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً * فَانٍ * يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُلاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }: سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله وكانرجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال : قد رخص لي فأزيد على السبعين فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. وقيل: لما نزل سخر الله منهم ولهم عذاب أليم، سألوا الرسولأن يستغفر لهم فنزلت. وعلى هذا فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم، أو على جميع المنافقين قولان. والخطاب بالأمر للرسول،والظاهر أنّ المراد بهذا الكلام التخيير، وهو الذي روى عن رسول الله وقد قال له عمر:كيف تستغفروا لعدو الله وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟ فقال : ما نهاني ولكنه خيرني فكأنهقال له عليه السلام: إن شئت فاستغفر، وإن شئت فلا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعينمرة. وقيل: لفظه أمر ومعناه الشرط، بمعنى إنْ استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر الله، فيكون مثل قوله:

{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ }

وبمنزلة قول الشاعر:

أسيء بنا أو أحسني لا ملومة     لدينا ولا مقلية إن تقلت

ومر الكلام في هذا في قوله:

{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً }

وإلى هذا المعنىذهب الطبري وغيره، وهو اختيار الزمخشري قال: وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر اللهلهم استغفرت أم لم تستغفر، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى. يعني فيتفسير قوله تعالى:

{ قُلْ أَنفِقُواْ }

وكان قال هناك. (فإن قلت): كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: لن يتقبل؟ (قلت): هوأمر في معنى الخبر كقوله:

{ قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً }

ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتمطوعاً أو كرهاً، ونحوه قوله: أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وقوله:

أسيء بنـا أو أحسنيـي لا ملومـة    

أي: لنيغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت. فإن قيل: متى يجوز نحوهذا؟ قلت: إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك: غفر الله لزيد ورحمة. (فإن قلت): لم فعل ذلك؟ (قلت):لنكتة وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة: امتحني لطف محلك عندي، وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة والإحْسان، وانظري هل تتفاوتخالي معك مسيئة كنت أو محسنة. وفي معناه قول القائل:

أحول الذي إن قمت بالسيف عامدا     لتضربه لم يستغشك في الودّ

وكذلك المعنى أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم، واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم. وانظر هلترى خلافاً بين حالي الاستغفار وتركه؟ انتهى. وقيل: هو أمر مبالغة في الإياس ومعناه: إنك لو طلبت الاستغفار لهم طلبالمأمور، أو تركته ترك المنهى عنه، لم يغفر لهم. وقيل: معناه الاستزاء أي: استغفارك لهم وترك الاستغفار سواء. (فإن قلت):كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر أنهم كفروا؟ فالجواب قالوا من وجوه: أحدها: أن ذلك كان على سبيل التأليفليخلص إيمان كثير منهم. وقد روي أنه لما استغفر لابن سلول وكساه ثوبه، وصلى عليه، أسلم ألف من الخزرج لمارأوه يطلب الاستشفاء بثوب الرسول، وكان رأس المنافقين وسيدهم. وقيل: فعل ذلك تطييباً لقلب ولده ومن أسلم منهم، وهذا قريبمما قبله. وقيل: كان المؤمنون يسألون الرسول أن يستغفر لقومهم المنافقين في حياتهم رجاء أن يخلصوافي إيمانهم، وبعد مماتهم رجاء الغفران، فنهاه الله عن ذلك وأيأسهم منه، وقد سأل عبد الله بن عبد الله الرسولأن يستغفر لأبيه رجاء أن يخفف عنه. وقيل: إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يحقق خروجهمعن الإسلام، ورد هذا القول بأنه تعالى أخبر بأنهم كفروا فلا يصح أن يقال إنه غير عالم بكفرهم. وقال أبوعبد الله الرازي: الأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس: أنّ الذين كانوا يلمزون هم الذينطلبوا الاستغفار، ولا يجوز أن يكون الرسول اشتغل بالاستغفار فنهاه عنه لوجوه: الأول: أن المنافق كافر،وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز، فلهذا السبب أمره الله تعالى بالاقتداء بإبراهيم عليهما السلامإلا في قوله: {لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع، فكيف يجوز الإقدام عليه؟ الثاني: أنّ استغفار الغيرللغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبيح والمعصية. الثالث: أن إقدامه على الاستغفار لمنافقين يجري مجرى إغرائهمبالإقدام على الذنب. الرابع: أنه إذا كان لا يجيبه بقي دعاء الرسول مردوداً عند الله، وذلك يوجب نقصان منصبه صلىالله عليه وسلم. الخامس: أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة، فثبتأنّ المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه، وليس المقصود من ذكرهذا العدد تحديد المنع، بل هو كما يقول القائل: إنْ سأله حاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك لايريد بذلك أنه إذا زاد قضاها، فكذا ههنا. والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية: ذلك بأنهم كفروا. فبيّن أنالعلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول لهم، وإن بلغ سبعين مرة، هي كفرهم وفسقهم. وهذا المعنى قائم في الزيادةعلى السبعين، فصار هذا القليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع أن ينفعهم استغفار الرسول مع إصرارهم على كفرهم، ويؤكد: واللهلا يهدي القوم الفاسقين. والمعنى: أنّن فسقهم مانع من الهداية، فثبت أنّ الحق ما ذكرناه. وقال الأزهري في جماعة منأهل اللغة: السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة، لا السبعة التي فوق الستة انتهى. والعرب تستكثر في الآحار بالسبعة، وفيالعشرات بالسبعين، وفي المئين بسبعمائة. قال الزمخشري: والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير. قال عليّ رضي الله تعالى عنه:

لأصبحن العاص وابن العاصي     سبعين ألفاً عاقدي النواصي

قال ابن عطية: وأما تمثيله بالسبعيندون غيرها من الإعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية ومقنعاً في الكثرة. ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى،وإلى أصحاب العقبة؟ وقد قال بعض اللغويين: إنّ التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة،فإنها عدد مقنع هي في السموات وفي الأرض، وفي خلق الإنسان، وفي بدنه، وفي أعضائه التي بها يطيع الله، وبهايعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي: عيناه، وأذناه، وأسنانه، وبطنه، وفرجه، ويداه، ورجلاه. وفي سهام الميسر،وفي الأقاليم، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس، والعنبس، ونحو هذا من القول انتهىى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأنّ التخصيصبالعدد يدل على أنّ الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال: [وَٱللَّهُ لأزيدن على السبعين ] ولم ينصرفحتى نزل:

{ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ }

فكف عنه. قيل: ولقائلأن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى، لأنه تعالى لمّا بين أنه لا يغفر لهم البتة ثبت أنّ الحال فيما وراءالعدد مساوٍ للحال في العدد، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه.قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف خفي على رسول الله وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته،والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستفغار كيف؟ وقد تلاه بقوله تعالى ذلك بأنهم كفروا الآية، فبين الصارف عنالمغفرة لهم حتى قال: رخص لي ربي فأزيد على السبعين ؟ (قلت): لم يخف عليه ذلك، ولكنهخيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام:

{ وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وفي إظهار النبي الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعضانتهى. وفي هذا السؤال والجواب. غض من منصب النبوة، وسوء أدب على الأنبياء، ونسبته إلهم ما لا يليق بهم. وإذاكان يقول: لم يكن لنبي خائنة الأعين أو كما قال: وهي الإشارة، فكيف يكون له النطقبشيء على سبيل التحييل؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليقبحالهم، ولقد تكلم عند تفسير قوله:

{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }

بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذاأنْ أنقله فيه، والله تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك،وانتفاء هداية الله الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك، فهو عام مخصوص. {فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُواْأَن يُجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ }: لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاقوالهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين، ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد،واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة، حتى أذن لهم، فكشف الله للرسول عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم، فأنزلالله عليه: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله الآية: أي: عن غزوة تبوك. وكان الرسول قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا،فأذن لهم. وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد. ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير، ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وهيأمكن من لفظة المتخلفين، إذ هم مفعول بهم ذلك، ولم يفرح إلا منافق فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر. ولفظالمقعد يكون للزمان والمكان، والمصدر وهو هنا للمصدر أي: بقعودهم، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة. وانتصب خلاف على الظرف، أيبعد رسول الله يقال: فلان أقام خلاف الحي، أي بعدهم. إذا ظعنوا ولم يظعن معهم. قالهأبو عبيدة، والأخفش، وعيسى بن عمرو. قال الشاعر:

عقب الربيع خلافهم فكأنما     بسط السواطب بينهنّ حصيرا

ومنه قول الشاعر:

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى     تأهب لأخرى مثلها وكأن قد

ويؤيد هذاالتأويل: قراءة ابن عباس، وأبي حيوة، وعمرو بن ميمون خلف رسول الله. وقال قطرب، ومؤرج، والزجاج، والطبري: انتصب خلاف علىأنه مفعول لأجله أي: لمخالفة رسول الله، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا. ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ خُلفبضم الخاء، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين، وكراهتهم للجهاد هي لكونهملا يرجون به ثواباً، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقاباً. وفي قوله: فرح وكرهوا مقابلة معنوية، لأن الفرح من ثمرات المحبة.وفي قوله: أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ويتحملهم المشاق العظيمة أي: كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد فيسبيل الله، وآثروا ذلك على الدعة والخفض، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعثالإيمان. والفرح بالقعود يتضمن الكراهة للخروج، وكأن الفرج بالقعود هو لمثل الإقامة ببلده لأجل الألفة والإيناس بالأهل والولد، وكراهة الخروجإلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والتلف. واستعذروا بشدّة الحر، فأجاب الله تعالى عما ذكروا أنه سبب لترك النفر،وقالوا: إنه قال بعضهم لبعض وكانوا أربعة وثمانين رجلاً. وقيل: قالوا للمؤمنين لم يكفهم ما هم عليه من النفاق والكسلحتى أرادوا أن يكسبوا غيرهم وينبهوهم على العلة الموجبة لترك النفر. قال ابن عباس، وأبو رزثن والربيع: قال رجل: يارسول الله، الحر شديد، فلا ننفر في الحر. وقال محمد بن كعب هو رجل من بني سلمة انتهى. أي: قالذلك عن لسانهم، فلذلك جاء وقالوا بلفظ الجمع. وكانت غزوة تبوك في وقت شدّة الحر وطيب الثمار والظلال، فأمر اللهنبيه أن يقول لهم: قل نار جهنم أشد حراً، أقام الحجة عليهم بأنه قيل لهم: إذا كنتم تجزعون من حرالقيظ، فنار جهنم التي هي أشدّ أحرى أن تجزعوا منها لو فقهتم. قال الزمخشري: قل نار جهنم أشدّ حراً استجهاللهم، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بذلك التصوّن في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل. ولبعضهم:

مسرّة أحقاد تلقيت بعدها     مساءة يوم اربها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة

انتهى. وقرأ عبيد الله: يعلمون مكان يفقهون، وينبغي أن يحمل ذلك علىمعنى التفسير، لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه، ولما روي عنه الأئمة. والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر، والمعنى:فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره. روي أنّ أهلالنفاق يكونون في النار عمرالدنيا، لا يرقأ لهم دمع، ولا يكتحلون بنوم. والظاهر أنّ قوله: فليضحكوا قليلاً إشارة إلى مدّةالعمر في الدنيا، وليبكوا كثيراً إشارة إلى تأييد الخلود، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم. قال ابن عطية: ويحتملأن تكون صفة حالهم أي: هم لما هم عليه من الحظر مع الله وسوء الحال، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهمقليلاً وبكاؤهم كثيراً من أجل ذلك، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا نحو قوله عليه السلام لأمته: لو يعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً وانتصب قليلاً وكثيراً على المصدر، لأنهما نعت للمصدر أي: ضحكاً قليلاً وبكاءكثيراً. وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت، ويقوم نعته مقامه، وذلك لدلالة الفعل عليه. وقال أبو البقاء: ويجوز أنيكونا نعتاً لظرف محذوف أي: زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً انتهى. والأول أجود، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته علىالزمان بهيئته، فدلالته على المصدر أقوى. وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله، وهو متعلق بقوله: وليبكوا كثيراً. {فَإِن رَّجَعَكَٱللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـٰتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ }: الخطاب للرسولوالمعنى: فإن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك. قيل: ودخول إنْ هنا وهي للمكن وقوعه غالباً إشارة إلىأنه لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره، إلا أن يعلمه الله، وقد صرح بذلك فيقوله تعالى:

{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا * فِعْلَ *بِى وَلاَ بِكُمْ * وَلاَ * كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء }

قال نحوه ابن عطية وغيره، إلى طائفة منهم لأنّ منهم منمات، ومنهم من تاب وندم، ومنهم من تخلف لعذر صحيح. فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه هكذا قيل.وإذا كان الضمير في منهم عائداً على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا، فالذي يظهر أنّ ذكر الطائفة هو لأجلأنّ منهم من مات. قال ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي، وإلا فكيف يترتب على أن يصلي على موتاهم إنْ لم يعينهم. وقوله: وما تواوهم فاسقون، نصفي موافاتهم. ومما يؤيد هذا أنّ النبي عينهم لحذيفة بن اليمان، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفةتأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها. وروي عن حذيفة أنه قال يوماً: بقي من المنافقين كذا وكذا.وقال له عمرو بن الخطاب: أنشدك الله أنا منهم؟ فقال: لا والله، لا أمنت منها أحداً بعدك. وأمر الله نبيهأن يقول لهم: لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم وإظهار لدنائة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبةبن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قدر فضه الشرع وردهكالجمل الأجرب. قال الزمخشري: فاستأذنوك للخروج يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهمعلى تخلفهم الذي علم الله تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المحلفين انتهى. وانتقل بالنفي منالشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة، إلى الأشق وهو قتال العدو، لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التيتحتها الجنة، ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمرالله في قوله:

{ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً }

وقالوا هم: لا تنفروا في الحر، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السببوهو النفاق. وأولمرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك، ومرة مصدر كأنه قيل: أو خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أولخرجة خرجها الرسول للغزاة، فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق. وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الرومبنفسه. وقيل: أول مرة قبل الاستئذان. وقال أبو البقاء: أول مرة ظرف، ونعني ظرف زمان، وهو بعيد. وقال الزمخشري:(فإن قلت): مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟(قلت): أكثر اللغتين هند. أكبر النساء، وهي أكبرهن. ثم إنّ قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه، ولكن هيأكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة انتهى. فاقعدوا مع الخالفين أي: أقيموا، وليس أمراً بالقعود الذي هو نظير الجلوس، وإنماالمراد منعهم من الخروج معه. قال أبو عبيدة: الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله، وهو الذي يتخلف عنالقوم. وقيل: الخالفين المخالفين من قولهم: عبد خالف أي: مخالف لمولاه. وقيل: الإخساء الأدنياء من قولهم: فلان خالفة قومه لاخسهم وأرذلهم. ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد، وقطع العلقة بينهما، والاحتراز منه. وعنقتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلاً. قال ابن عطية: والخالفون جميع من تخلف من نسائ وصبيان وأهل عذر.غلب المذكر، فجمع بالواو والنون، وإن كان ثمّ نساء وهو جمع خالف. وقال قتادة: الخالفون النساء، وهذا مردود. وقال ابنعباس: هم الرجال. وقال الطبري: يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد،ومنه خلوف فم الصائم. وقرأ مالك بن دينار وعكرمة: مع الخلفين، وهو مقصور من الخالفين كما قال: عدداً وبدداً يريدعاددا وباددا، وكما قال الآخر:

مثـل النقـي لبـده ضـرب الظلـل    

يريد الظلال. {وَلاَ تُصَلّ عَلَىٰ أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداًوَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَـٰسِقُونَ }: النهي عن الصلاة على المنافقين إذا ماتوا عقوبةثانية وخزي متأبد عليهم. وكان فيما روي يصلي على المنافقين إذا ماتوا، ويقوم على قبورهم بسبب ما يظهرونه من الإسلام،فإنهم كانوا يتلفظون بكلمتي الشهادة، ويصلون، ويصومون، فبنى الأمر على ما ظهر من أقوالهم وأفعالهم، ووكل سرائرهم إلى الله، ولميزل على ذلك حتى وقعت واقعة عبد الله بن أبي. وطول الزمخشري وغيره في قصته، فتظافرت الروايات أنه صلى عليهرسول الله فنزلت هذه الآية بعد ذلك. وروى أنس أنه لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريلفجذبه بثوبه وتلا عليه: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً، فانصرف ولم يصل. وذكروا محاورة عمر لرسول الله صلىالله عليه وسلم حين جاء ليصلي عليه. ومات صفة لا حد، فقدم الوصف بالمجرور ثم بالجملة، وهو ماض بمعنى المستقبل،لأن الموت غير موجود لا محالة. نهاه الله عن الصلاة عليه، والقيام على قبره وهو الوقوف عند قبره حتى يفرغمن دفنه. وقيل: المعنى ولا تتولوا دفنه وقبره، فالقبر مصدره. كان إذا دفن الميت وقف علىقبره ودعا له، فنهي عن ذلك في حق المنافقين، فلم يصل بعد على منافق، ولا قام على قبره. إنهم كفرواتعليل للمنع من الصلاة والقيام بما يقتضي الامتناع من ذلك، وهو الكفر والموافاة عليه. {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَايُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ }: تقدّم نظير هذه الآية وأعيد ذلك لأن تجددالنزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهوعنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين. فأشبهالشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه، ويتخلص إليه. وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أنيحذر منه قاله: الزمخشري. وقال ابن عطية: ووجه تكريرها توكيد هذا المعنى. وقال أبو علي: ظاهره أنه تكرير وليس بتكرير،لأن الآيتين في فريقين من المنافقين، ولو كان تكريراً لكان مع تباعد الآيتين لفائدة التأكيد والتذكير. وقيل: أراد بالأولى لاتعظمهم في حال حياتهم بسبب كثرة المال والولد، وبالثانية لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق. وقد تغايرت الآيتان فيألفاظ هنا، ولا، وهناك، فلا ومناسبة الفاء أنه عقب قوله: ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي: للإنفاق، فهم معجبون بكثرةالأموال والأولاد، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب. ومناسبة الواو أنه نهي عطف على نهي قبله. ولا تصل، ولا تقم، ولاتعجبك، فناسبت الواو وهنا وأولادهم وهناك، ولا أولادهم، فذكر لا مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد واحد على انفراد. ويتضمنذلك النهي عن المجموع، وهنا سقطت، فكان نهياً عن إعجاب المجموع. ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد واحد. فدلتالآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين. وهنا أن يعذبهم، وهناك ليعذبهم، فأتى باللام مشعرة بالتعليل.ومفعول يريد محذوف أي: إنما يريد الله ابتلاءهم بالأموال والأولاد لتعذيبهم. وأتى بأن لأنّ مصب الإرادة هو التعذيب أي: إنمايريد الله تعذيبهم. فقد اختلف متعلق الفعل في الآيتين هذا الظاهر، وإن كان يحتمل زيادة اللام. والتعليل بأنّ وهناك الدنيا،وهنا في الحياة الدنيا، فأثبت في الحياة على الأصل، وحذفت هنا تنبيهاً على خسة الدنيا، وأنها لا تستحق أن تسمىحياة، ولا سيما حين تقدمها ذكر موت المنافقين، فناسب أنْ لا تسمى حياة. {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءامِنُواْ بِٱللَّهِوَجَـٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ رَضُواْ } الجمهور على أنّ السورة هنا كلسورة كان فيها الأمر بالإيمان والجهاد. وقيل: براءة لأنّ فيها الأمر بهما. وقيل: بعض سورة، فأطلق عليه سورة، كما يطلقعلى بعض القرآن قرآن وكتاب. وهذه الآية وإن تقدم أنهم كانوا استأذنوا الرسول في القعود، فيها تنبيه على أنهم كانوامتى تنزل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد استأذنوا، وليست هنا إذاً تفيد التعليق فقط، بل انجرَّ معها معنى التكرار سواءكان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال، لا الوضع. وهي مسألة خلاف في النحو، ومما وجد معها التكرارقول الشاعر:

إذا وجدت أوار النار في كبدي     أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

ألا ترى أنّالمعنى متى وجدت وإن آمنوا يحتمل أنْ أنْ تكون تفسيرية، لأن قبلها شرط ذلك؟ ويحتمل أن تكون مصدرية أي: بأنآمنوا أي: بالإيمان. والظاهر أنّ الخطاب للمنافقين أي: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. قيل: ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ومعناه:الاستدامة والطول. قال ابن عباس والحسن: الغنى. وقيل: القوة والقدرة. وقال الأصم: أولو الطول الكبراء والرؤساء. وأولو الأمر منهم أي:من المنافقين كعبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وإضرابهم. وأخص أولو الطول لأنهم القادرون على التنفيروالجهاد، ومن لا مال له، ولا قدرة لا يحتاج إلى الاستئذان، والاستئذان مع القدرة على الحركة أقبح وأفحش. والمعنى: استأذنكأولو الطول منهم في القعود، وفي استأذنك التفات، إذ هو خروج من لفظ الغيبة وهو قوله: ورسوله، إلى ضمير الخطاب.وقالوا: درنا نكن مع القاعدين الزمني وأهل العذر، ومن ترك لحراسة المدينة، لأن ذلك عذر. وفي قوله: رضوا بأن يكونوامع الخوالف، تهيجن لهم، ومبالغة في الذم. والخوالف: النساء قاله: الجمهور كابن عباس، ومجاهد وقتادة، وشمر بن عطية، وابن زيد،والفراء، وذلك أبلغ في الذم كما قال:

وما أدري وسوف إخال أدري     أقوم آل حصن أم نساء فإن تكن النساء مخبآت

وقال آخر:

كتب القتل والقتال علينا     وعلى الغانيات جر الذيول

فكونهم رضوا بأنْ يكونوا قاعدين مع النساء فيالمدينة أبلغ ذم لهم وتهجين، لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة اللواتي لا مدافعة عندهنّ ولا غنى. وقال النضر بنشميل: الخوالف من لا خير فيه. وقال النحاس: يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، وهذا جمعه بحسب اللفظ، والمرادأخساء الناس وأخلافهم. وقالت فرقة: الخوالف جمع خالف، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، والظاهر أن قوله: وطبع خبر منالله بما فعل بهم. وقيل: هو استفهام أي: أو طبع على قلوبهم، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمونما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والضلال. {لَـٰكِنِ * ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ جَـٰهَدُواْبِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }: لما ذكر أنّ أولئك المنافقين اختاروا الدعة وكرهوا الجهاد، وفروا من القتال، وذكر ما أثر ذلك فيهممن الطبع على قلوبهم، ذكر حال الرسول والمؤمنين في المثابرة على الجهاد، وذلك ما لهم من الثواب. ولكن وضعها أنْتقع بين متنافيين. ولما تضمن قول المنافقين ذرنا، واستئذانهم في القعود، كان ذلك تصريحاً بانتفاء الجهاد. فكأنه قيل: رضوا بكذاولم يجاهدوا، ولكنّ الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا. والمعنى: إنْ تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خيرمنهم وأخلص نية. كقوله تعالى:

{ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَـٰفِرِينَ }

{ فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }

والخيرات: جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموماللفظ، وكثرة استعماله في النساء ومنه فيهن خيرات حسان. وقال الشاعر:

ولقد طعنت مجامع الربلات     ربلات هند خيرة الملكات

وقيل: المراد بالخيرات هنا الحور العين. وقيل: المراد بها الغنائم من الأموال والذراري. وقيل: أعدّالله لهم جنات، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم. {وَجَاء ٱلْمُعَذّرُونَ مِنَ ٱلاْعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَوَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }: ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الإعراب. قرأالجمهور: المعذبون بفتح العين وتشديد الذال، فاحتمل وزنين: أحدهما: أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه: تكلف العذر ولا عذر له،ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذراً فيما يفعل ولا عذر له. والثاني: أنيكون وزنه افتعل، وأصله اعتذر كاختصم، فأدغمت التاء في الذال. ونقلت حركتها إلى العين، فذهبت ألف الوصل. ويؤيده قراءة سعيدبن جبير: المعتذرون بالتاء من اعتذر. وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل. الأخفش، والفراء، وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزجاج، وابنالأنباري. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، والأعرج، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، ويعقوب، والكسائي، في رواية المعذرون منأعذر. وقرأ مسلمة: المعذرون بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم: أراد المتعذرين، والتاء لا تدغم فيالعين لبعد المخارج، وهي غلط منه أو عليه. واختلف في هؤلاء المعذرين أهم مؤمنون أم كافرون؟ فقال ابن عباس ومجاهدوجماعة: هو مؤمنون، وأعذارهم صادقة. وقال قتادة وفرقة: هم كافرون وأعذارهم كذب. وكان ابن عباس يقول: رحم الله المعذرين ولعنالمعذرين. قيل: هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالاً وأن بنا جهداً، فأذن لهم في التخلف. وقيل: هم رهط عامربن الطفيل قالوا: إنْ غزونا معك غارات إعراب طي على أهالينا ومواشينا، فقال : سيعني الله عنكم وعن مجاهد: نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى. قال ابن إسحاق: نفر من غفار منهم خفاف بن إيماء،وهذا يقتضي أنهم مؤمنون، والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين كما قال ابن عباس، لأن التقسيم يقتضي ذلك. ألا ترىإلى قوله:

{ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

فلو كان الجميع كفاراً لم يكنلوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص، وكان يكون التركيب سيصيبهم عذاب أليم. ويحتمل أن يكونوا كفاراً كما قال قتادة، فانقسموا إلىجاء معتذر وإلى قاعد، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين. ويكون الضمير في منهم عائداً على الإعراب، أو يكون المعنى: سيصيبالذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقرأ الجمهور: كذبوا بالتخفيف أي:في إيمانهم فاظهروا ضد ما أخفوه. وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه: ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالىولا رسوله، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم. {لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَيَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ * ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ *مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَىٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً }: لما ذكرحال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه، ذكر حال من له عذر في تركه. والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم،ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضؤلة، بحيث لا يمكنه الجهاد. والمريض من عرض له المرض، أو كان زمناًويدخل فيه العمى والعرج. والذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء. قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة، ونفى الحرج عنهمفي التخلف عن الغزو، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بمايقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلاًّ عليهم، كان له في ذلك ثواب جزيل. فقد كانعمرو بنِ الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار، وهو في أول الجيش، وقال له رسول الله : إن الله قد عذرك فقال: والله لأحقرن بعرجتي هذه في الجنة. وكان ابن أم مكتوم أعمى، فخرج إلى أحد وطلبأن يعطي اللواء فأخذه، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى، فضربت فأمسكه بصدره. وقرأ:

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ }

وشرط في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراًخالصة لله من الغش، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين، داعية لهم بالنصر والتمكين. ففي سنن أبي داود «لقد تركتم بعدكمقوماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا هم معكم فيه» قالوا: يا رسول الله وكيفيكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: «حبسهم العذر». وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة، والمعطوف ما على المحسنينمن سبيل أي: من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم، وقيل: المحسنينهنا المعذورون الناصحون، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس. وإن المحسن هو المسلم، لانتفاء جميع السبيل، فلا يتوجه عليهشيء من التكاليف إلا بدليل منفصل، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة. وقال الكرماني: المحسنين هم الذين أطاعواالله ورسوله في أقوالهم، ثم أكد الرجاء فقال: والله عفو رحيم، وقراءة ابن عباس: والله لأهل الإساءة غفور رحيم علىسبيل التفسير، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف. قيل: وقوله: ما على المحسنين من سبيل، فيه نوع من أنواعالبديع يسمى: التمليح، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر، أو شعرٍ نادر، أو قصةٍ مشهورة، أو مايجري مجرى المثل. ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه، وهو يشرب الخمر:

اليوم خمر ويبدو في غد خبر     والدهر من بين إنعام وإيئاس

{وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ * مَاذَا *مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ }، معطوفعلى ما قبله، وهم مندرجون في قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم،وأنهم بالغوا في تحصيل ما يخرجون به إلى الجهاد حتى أقضي بهم الحال إلى المسألة، والحاجة لبذل ماء وجوههم فيطلب ما يحملهم إلى الجهاد، والاستعانة به حتى يجاهدوا مع الرسول ، ولا يفوتهم أجر الجهاد. ويحتملأنْ لا يندرجوا في قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، بأن يكون هؤلاء هم الذين وجدوا ما ينفقون،إلا أنهم لم يجدوا المركوب، وتكون النفقة عبارة عن الزارد لا عبارة عما يحتاج إليه المجاهد من زاد ومركوب وسلاحوغير ذلك مما يحتاج إليه. وهذه نزلت في العرباض بن سارية. وقيل: في عبد الله بن مغفل. وقيل: في عائذبن عمرو. وقيل: في أبي موسى الأشعري ورهطه. وقيل: في تسعة نفر من بطون شتى فهم البكاؤون وهم: سالم بنعمير من بني عوف، وحرمي بن عمرو من بني واقف، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بنالنجار، وسلمان بن صخر من بني المعلى وأبو رعيلة عبد الرحمن بن زيد بن بني حارثة، وعمرو بن غنمة منبني سلمة، وعائذ بن عمرو المزني. وقيل: عبد الله بن عمرو المزني. وقال مجاهد: البكاؤن هم بنو بكر من مزينة.وقال الجمهور: نزلت في بني مقرن، وكانوا ستة أخوة صحبوا النبي ، وليس في الصحابة ستة أخوةغيرهم. ومعنى لتحملهم أي: على ظهر مركب، ويحمل عليه أثاب المجاهد. قال معناه: ابن عباس. وقال أنس بن مالك: لتحملهمبالزاد. وقال الحسن بن صالح: بالبغال. وروي أنّ سبعة من قبائل شتى قالوا: يا رسول الله قد ندبتنا إلى الخروجمعك، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزُ معك فقال: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } فتولوا وهم يبكون. وقرأمعقل بن هارون: لنحملهم بنون الجماعة، وإذا تفتضي جواباً. والأولى أن يكزن ما يقرب منها وهو قلب، ويكون قوله:تولو جواباًلسؤال مقدر كأنه قيل: فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض.وقيل: جواب إذا تولوا، وقلب جملة فيموضع الحال من الكاف، أي: إذا ما أتوك قائلاً لا أجد، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله: حصرت صدورهمقاله الزمخشري. أو على حذف حرف العطف أي: وقلت، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره: فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملةحالية. قال الزمخشري: (فإن قلت): فهل يجوز أن يكون قوله: قلت لا أجد استئنافاً مثله يعني: مثل رضوا بأن يكونوامع الخوالف؟ كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا اجد ما أحملهم عليه،إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض (قلت): نعم، ويحسن انتهى. ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب، فكيف فيكلام الله وهو فهم أعجمي؟ وتقدم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب

{ لتجدن }

من سورة المائدة.وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلهادمع فائض. ومن للبيان كقولك: افديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى. ولا يجوز ذلك لأن التمييزالذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضاً فإنه معرفة، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييزمعرفة. وانتصب حزناً على المفعول له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال. وأن لا يجدوامفعول له أيضاً، والناصب له حزناً، قال أبو البقاء: ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناًمفعولاً له والعامل فيه تفيض، لأن العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله: أن لايجدوا ما ينفقون فيه دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج.

{ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } * { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } * { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } * { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } * { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } * { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } * { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } عدل

الإعراب صيغة جمع، وفرق بينه وبن العرب. فالعربي من له نسب في العرب،والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ، كان من العرب أو من مواليهم. وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل: الأعرابي، وجمع الأعرابعلى الأعارب جمع الجمع. أجدر أحق وأحرى، قال الليث: جدر جدارة فهو جدير وأجدر، به يؤنث ويثني ويجمع. قالالشاعر:

نخيل عليها جنة عبقرية     جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا

أسس على وزن فعلمضعف العين، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف، ويقال فيه: أس. والجرف: البئر التي لم تطوه، وقال أبوعبيدة: الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. هار: منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض، وفعله هار يهور ويهار ويهير،فعين هار يحتمل أن تكون واواً أو ياءً، فاصله هاير أو هاور فقلبت، وصنع به ما صنع بقاضٍ وغازٍ، وصارمنقوصاً مثل شاكي السلاح ولاث قال: لاث به الآشاء والعبريّ. وقيل: هار محذوف العين لفرعله فتجري الراء بوجوه الإعراب. وحكىالكسائي: تهور وتهير. أواه كثير قول أوّه، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع، ووزنه فعال للمبالغة. فقياس الفعل أن يكون ثلاثياً،وقد حكاه قطرب: حكى آه يؤوه أوهاً كقال يقول قولاً ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا: ليس من لفظأوه فعل ثلاثي، إنما يقال: أوّه تأويها وتأوّه تأوهاً. قال الراجز: فأوه الداعي وضوضأ أكلبه. وقال المثقب العبدي:

إذا ما قمت أرحلها بليل     تأوه آهة الرجل الحزين

وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرتفي علم لنحو. الظمأ: العطش الشديد، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن، ويمد فيقال ظماء. الوادي: ما انخفضمن الأصل مستطيلاً كمحاري السيول ونحوها، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه، قال تعالى:

{ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }

وقياسه فواعل،لكنهم استثقلوه لجمع الواوين. قال النحاس: ولا أعرف فاعلاً أفعلة سواه، وذكر غيره ناد وأندية قال الشاعر:

وفيهم مقامات حسان وجوههم     وأندية ينتابها القول والفعل

والنادي: المجلس، وحكى الفراء في جمعه أو داء، كصاحبوأصحاب قال جرير:

عرفت ببرقة الأوداء رسما     مجيلاً طال عهدك من رسوم

وقال الزمخشري: الواديكل منعرج من جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودي إذا سال، ومنه الودى. وقد شاعفي استعمال العرب بمعنى الأرض تقول: لا تصل في وادي غيرك. {إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْبِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }: أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حقالمحسنين، فدل لأجل المقابلة أنّ هؤلاء مسيؤن، وأي إساءة أعظم من النفاق والتخلف عن الجهاد والرغبة بأنفسهم عن رسول الله،وليست إنما للحصر، إنما هي للمبالغة في التوكيد، والمعنى: إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلفعن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت:

هل من سبيل إلى خمر فاشربها     أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

لأنّ على تدل على الاستعلاء وقلة منعة مندخلت عليه، ففرق بين لا سبيل لي على زيد، ولا سبيل لي إل زيد. وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم:عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وغيرهم. ورضوا: استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا في القعودبالمدينة وهم قادرون على الجهاد، فقيل: رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف. وعطف وطبع تنبيهاً على أنّ السبب في تخلفهمرضاهم بالدناءة، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا. {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَارَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ }: لن نؤمن لكمعلة للنهي عن الاعتذار، لأنّ عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كفَّ عنه.قد نبأنا الله من أخباركم علة لانتفاء التصديق، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشروالفساد، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم. قال ابن عطية: والإشارة بقوله: قد نبأ الله من أخباركم إلى قوله: ما زادوكمإلا خبالاً ولا وضعوا خلالكم، ونحو هذا. ونبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف، نحو قوله: من أنبأك هذا؟ والثاني هومن أخباركم أي: جملة من أخباركم، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم. وقيل: نبأ بمعنى أعلمالمتعدية إلى ثلاثة، والثالث محذوف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي: من أخباركم كذباً أو نحوه. وسيرى الله توعد أي: سيراهفي حال وجوده، فيقع الجزاء منه عليه إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر. وقال الزمخشري: وسيرى الله عملكم أتنيبون أمتثبتون على الكفر، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها. قال ابن عيسى: وسيرىلجعله من الظهور بمنزلة ما يرى، ثم يجازى عليه. وقيل: كانوا يظهرون للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حباً وشفقة فقيل: وسيرىالله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما. وفي ذلكدلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم، لا تفاوت عنده في ذلك. {سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْإِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }: لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذارأخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وأنّ سبب الحلف هو طلبتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم، فاعرضواعنهم أي: فأجيبو إلى طلبتهم. وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق، فتجب مباعدتهم واجتنابهمكما قال:

{ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ }

فمن كان رجساً لاة تنفع فيه المعاتبة، ولا يمكن تطهير الرجس. ويحتملأن يكون سبب الحلف مخافتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم، وبيَّنالعلة في ذلك برجسيتهم، وبأنّ مآل أمرهم إلى النار. قال ابن عباس: فاعرضوا عنهم لا تكلموهم. وفي الخبر أنه عليهالسلام لما قدم من تبوك قال: لا تجالسوهم ولا تكلموهم . قيل: إنّ هذه الآية من أول ما نزل فيشأن المنافقين في غزوة تبوك، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره، فأذن فخرجوا وقال أحدهم: ماهو إلا شحمة لأول آكل، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم:نزل فيكم قرآن فقالوا له: وما ذلك؟ قال: لا أحفظ،إلا إني سمعت وصفكم فيه بالرجس، فقال لهم مخشي: لوددت أنْأجلد مائة ولا أكون معكم، فخرج حتى لحق بالرسول فقال له: ما جاء بك ؟ فقال له:وجه رسول الله تسفعه الريح، وأنا في لكن. فروي أنه ممن تاب. قال ابن عطية: فاعرضواعنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله، بلكان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطاً. وقوله: رجس أي نتن وقذر. وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية، ثم عطف لمحطةالآخرة. ومن حديث كعب بن مالك: أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة، وكانوا بضعة وثمانين، فقبل منهم علانيتهم وبايعهمواستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِٱلْفَـٰسِقِينَ }: قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنهبعدها، وحلف بن أبي سرح لنكونن معه على عدوه، وطلب من الرسول أن يرضى عنه، فنزلت، وهنا حذف المحلوف به،وفي قوله:

{ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ }

أثبت كقوله:

{ إِذَا * أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا }

وقوله:

{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ }

فلا فرق بين حذفهوإثباته في انعقاد ذلك يميناً. وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين لنفعهم في دنياهم، لا أنّ مقصدهم وجه الله تعالى.والمراد: هي أيمان كاذبة، وأعذار مختلقة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض، جاء الأمر بالإعراضنصاً، لأنّ الإعراض من الأمور التي تظهر للناس، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية،لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى، وخرج مخرج المتردّد فيه، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم، فصار رضا المؤمنينعنهم أبعد شيء في الوقوع، لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجبلانتفاء الرضا وهو الفسق، وجاء اللفظ عامًّا، فيحتمل أن يراد به لخصوص كأنه قيل: فإنّ الله لا يرضى عنهم، ويحتملبقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول، إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السببمن العموم بتخصيص ولا غيره. {ٱلاْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ * أَن لا *يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰرَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }: نزلت في أعراب من أسد، وتميم، وغطفان. ومن أعراب حاضري المدينة أي: أشد كفراً منأهل الحضر. وإذا كان الكفر متعلقاً بالقلب فقط، فالتقدير أشد أسباب كفر، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة.وكانوا أشد كفراً ونفاقاً لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدبولا ضابط، فنشأوا كما شاؤا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله، ولبعدهم عن مهبط الوحي. كانواأطلق لساناً بالكفر والنفاق من منافقي المدينة، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين، فكان كفرهم سراً ولا يتظاهرونبه إلا تعريضاً. وأجدر أي: أحق أنْ لا يعلموا أي بأن لا يعلموا. والحدود: هنا الفرائض. وقيل: الوعيد عل مخالفةلرسول، والتأخر عن الجهاد. وقيل: مقادير التكاليف والأحكام. وقال قتادة: أقل علماً بالسنن. وقال رسول الله : إن الجفاء والقسوة في الفدادين والله عليم يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر، حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهممن ثواب وعقاب. {وَمِنَ ٱلاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: نزلت في أعراب أسد، وغطفان، وتميم، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات. وقيل: من الزكاة، ولذلك قال بعضهم:ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية. وقيل: كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعاً، وهو ما ينفقهالرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده. فعل هذاالمغرم إلزام ما لا يلزم. وقيل: المغرم الغرم والخسر، وهو قول: ابن قتيبة، وقريب من الذي قبله. وقال ابن فارس:المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه. والتربص: الانتظار. والدوائر: هي المصائب التي لا مخلص منها، تحيطبه كما تحيط الدائرة. وقيل: تربص الدوائر هنا موت الرسول وظهور الشرك. وقال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها     تطلق يوماً أو يموت حليلها

وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة،وقوله: عليهم دائرة السوء، دعا معترض، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله:

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ }

والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء، لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته. وقال الكرماني:عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين، وهنا وعد للمسلمين وإخبار. وقيل: دعاء أي: قولوا عليهم دائرة السوء أيالمكروه، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام. وقيل: يدور به الفلك في سيره، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها. وفي الحجةيجوز أن تكون الدائرة مصدراً كالعاقبة، ويجوز أن تكون صفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: والسوء هنا. وفي سورة الفتحثانية بالضم، وباقي السبعة بالفتح، فالفتح مصدر. قال الفراء: سوأته سوأ ومساءة وسوائية، والضم الاسم وهو الشر والعذاب، والفتح ذمالدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا: رجل سوء في نقيض رجل صدق، يعنونفي هذا الصلاح لا صدق اللسان، وفي ذلك الفساد. ومنه

{ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء }

أي أمرأً فاسداً. وقالالمبرد: لسوء بالفتح الرداءة، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء، قاله أكثرهم. وقد حكي بالضم وقال الشاعر:

وكنت كذيب السوء لما رأى دما     بصاحبه يوماً أحال على الدم

والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم. {وَمِنَ ٱلاْعْرَابِ مَنيُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَـٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوٰتِ ٱلرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ }: نزلت في بنيمقرن من مزينة قاله مجاهد. وقال عبد الرحمٰن بن مغفل بن مقرن: كنا عشرة ولد مقرن فنزلت: ومن الأعراب منيؤمن الآية يريد: الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم. وقال الضحاك: في عبد الله ذي النجادين ورهطه. وقالالكلبي: في أسلم وغفار وجهينة. ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرماً ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفقمغنماً، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، إذ جزاء ما ينفقإنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة. وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان، وهو اتخاذه ما ينفق مغرماًوتربصه بالمؤمنين الدوائر. والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة، والمعنى: يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول، وكان يدعو للمصدقينبالخير والبركة، ويستغفر لهم كقوله : اللهم صل على آل أبي أوفى وقال تعالى:

{ وَصَلّ عَلَيْهِمْ }

والظاهر عطف وصلوات على قربات. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفاً على ما ينفق، أي: ويتخذ بالأعمالالصالحة صلوات الرسول قربة. قال ابن عباس: صلوات الرسول هي استغفاره لهم. وقال قتادة: أدعيته بالخير والبركة سماها صلوات جرياًعلى الحقيقة اللغوية، أو لأنّ الدعاء فيها، وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهوراً والضمير في أنها قيل: عائد على الصلوات. وقيل: عائد على النفقات. وتحرير هذا القول أنه عائد على ما علىمعناها، والمعنى: قربة لهم عند الله. وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقرجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه، وهو ألا وحرف التوكيد هو أنّ. قال الزمخشري: وما في السين من تحقيقالوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأنّ الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية منصاحبها انتهى. وتقدم الكلام معه في دعواه أنّ السين تفيد تحقيق الوعد. وقرأ ورش: قربة بضم الراء، وباقي السبعة بالسكون،وهما لغتان. ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع، وإن كانجمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعاً لما قبله، كما قالوا: ظلمات في جمع ظلمة. {وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلاْوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلانْصَـٰرِوَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلانْهَـٰرُ }: قال أبو موسى الأشعري، وابنالمسيب، وابن سيرين، وقتادة: السابقون الأولون من صلى إلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدراً قال: وحوّلت القبلة قبل بدربشهرين. وقال الشعبي: من أدرك بيعة الرضوان، بيعة الحديبية ما بين الهجرتين. ومن فسر السابقين بواحد كأبي بكر أو عليّ،أو زيد بن حارثة، أو خديجة بنت خويلد، فقوله بعيد من لفظ الجمع، وإنما يناسب ذلك في أول من أسلم.والظاهر أنّ السبق هو إلى الإسلام والإيمان. وقال ابن بحر: هم السابقون بالموت أو بالشهادة من المهاجرين والأنصار، سبقوا إلىثواب الله وحسن جزائه، ومن المهاجرين والأنصار أي: ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة أولاً وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبةالثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. قال ابن عطية: ولو قالقائل: إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقضت الهجرة، لكان قولاً يقتضيه اللفظ، وتكون من لبيان الجنس.والذين اتبعوهم بإحسان هم سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ التابعون، وسائر الأمة لكن بشرط الإحسان. وقد لزم هذا الاسمالذي هو التابعون من رأى من رأى النبي . وقال أبو عبد الله الرازي: الصحيح عندي أنهمالسابقون في الهجرة والنصر، لأن في لفظ السابقين إجمالاً، ووصفهم بالمهاجرين والأنصار يوجب صرف ذلك إلى ما اتصف به وهيالهجرة والنصرة، والسبق إلى الهجرة صفة عظيمة من حيث كونها شاقة على النفس ومخالفة للطبع، فمن أقدم أولاً صار قدوةلغيره فيها، وكذلك السبق في النصرة فازوا بمنصب عظيم انتهى ملخصاً. ولما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين، وماأعد لهم من النعيم، بين حال هؤلاء السابقين وما أعد لهم، وشتان ما بين الإعدادين والثناءين، هناك قال:

{ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ }

وهنا {رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ }، وهناك

{ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ }

وهنا {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي }،وهناك ختم:

{ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وهنا {ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }. وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وقتادة، وعيسى الكوفي،وسلام، وسعيد بن أبي سعيد، وطلحة، ويعقوب، والأنصار: برفع الراء عطفاً على والسابقون، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ. وعلى قراءة الجمهور وهي الجر، يكونون قسمين: سابق أول، وغير أول. ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم، والذين اتبعوهم الضميرفي القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار. والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر، وجوّزوا في الخبر أنْ يكون الأولون أي:هم الأولون من المهاجرين. وجوّزوا في قوله: والسابقون، أن يكون معطوفاً على قوله: من يؤمن أي: ومنهم السابقون. وجوزوا فيوالأنصار أنْ يكون مبتدأ، وفي قراءة الرفع خبره رضي الله عنهم، وذلك على وجهين. والسابقون وجه العطف، ووجه أنْ لايكون الخبر رضي الله، وهو أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن. وقرأ ابن كثير: من تحتها بإثبات من الجارة، وهيثابتة في مصاحف مكة. وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم. وعن عمر أنه كان يرى: والذين اتبعوهم بإحسان،بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد بن ثابت: إنها بالواو فقال: ائتوني بأبيّ فقال: تصديق ذلك في كتابالله في أول الجمعة

{ وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ }

وأوسط الحشر:

{ وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ }

وآخر الأنفال:

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ }

. وروي أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو فقال: من أقرأك؟ فقال: أُبيّ فدعاه فقال: أقرأنيه رسول الله، ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا وقعنا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا. {وَمِمَّنْ حَوْلَكُممّنَ ٱلاْعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ }: لما شرحأحوال منافقي المدينة، ثم أحوال منافقي الأعراب، ثم بين أنّ في الأعراب، من هو مخلص صالح، ثم بين رؤساء المؤمنينمن هم ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الإعراب، وفي المدينة لا تعلمونهم أي: لا تعلمون أعيانهم، أولا تعلمونهم منافقين. ومعنى حولكم: حول بلدتكم وهي المدينة. والذين كانوا حول المدينة جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ومزينة، وعصية، ولحيان،وغيرهم ممن جاوز المدينة. ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات، فيكون معطوفاً على من في قوله: وممن،فيكون المجرور أن يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون، ويكون مردوا استئنافاً، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق. ويبعد أنيكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم، فيصير نظير في الدارزيد وفي القصر العاقل، وقد أجازه الزمخشري تابعاً للزجاج. ويجوز أن يكون من عطف الجمل، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأأي: ومن أهل المدينة قوم مردوا، أو منافقون مردوا. قال الزمخشري: كقوله: أنا ابن جلا. انتهى. فإن كان شبهه فيمطلق حذف الموصوف، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه، وهي فيتقدير الاسم، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم: منا ظعن ومنا أقام. وأما أنا ابن جلا فضرورة شعر كقوله:

يرمي بكفي كان من أرمى البشر    

أي بكفي رجل. وكذلك أنا ابن جلا تقديره: أنا ابن رجل جلاأي كشف الأمور. وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملاً للنوعين، وعلى الوجه الثاني يكون مختصاً بأهل المدينة. وتقدم شرحمردوا في قوله:

{ شَيْطَـٰناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ ٱللَّهُ }

وقال هنا ابن عباس: مردوا، مرنوا وثبتوا، وقال أبو عبيدة: عتوامن قولهم تمرد. وقال ابن زيد: أقاموا عليه لم يتوبوا لا تعلمهم أي: حتى نعلمك بهم، أو لا تعلم عواقبأمرهم، حكاه ابن الجوزي. أو لا تعلمهم منافقين، لأن النفاق مختص بالقلب. وتقدم لفظ منافقين فدل على المحذوف، فتعدت إلىاثنين قاله: الكرماني. وقال الزمخشري: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم. وأسند الطبريعن قتادة في قوله: لا تعلمهم نحن نعلمهم قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس؟ فلان في الجنة، فلان فيالنار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئاً ماتكلفه الرسل. قال نبي الله نوح:

{ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقال نبي الله شعيب:

{ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

وقال الله تعالى لنبيه: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } انتهى. فلو عاشقتادة إلى هذا العصر الذي هو قرن ثمانمائة وسمع ما أحدث هؤلاء المنسوبون إلى الصوف من الدعاوى والكلام المبهرج الذيلا يرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ، والتجري على الإخبار الكاذب عن المغيبات، لقضى منذلك العجب. وما كنت أظن أنّ مثل ما حكى قتادة يقع في ذلك الزمان لقربه من الصحابة وكثرة الخير، لكنشياطين الإنس يبعد أن يخلو منهم زمان. نحن نعلمهم. قال الزمخشري: نطلع على سرهم، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهمإبطاناً، ويبرزون لك ظاهراٌ كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروبه، ولهمفيه اليد الطولى انتهى. وفي قوله: نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله: سنعذبهم مرتين. والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكونلا يراد بها شفع الواحد، بل يكون المعنى على التكثير كقوله:

{ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ }

أي كرة بعد كرة.كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة. وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أنّ العذاب الثاني هو عذابالقبر، وأما المرة الأولى فقال ابن عباس في الأشهر عنه: هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق. وروي في هذا التأويل أنه عليهالسلام خطب يوم جمعة بدر فندر بالمنافقين وصرح وقال: اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق، واخرج أنت يا فلان، واخرج أنت يا فلان حتى أخرج جماعة منهم، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناسانتشروا، وأن الجمعة فاتته، فاختفى منهم حياء، ثم وصل المسجد فرأى أنّ الصلاة لم تقض وفهم الأمر. قال ابن عطية:وفعله على جهة التأديب اجتهاد منه فيهم، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام، وإنما هو كما يخرجالعصاة والمتهمون، ولا عذاب أعظم من هذا. وكان رسول الله كثيراً ما يتكلم فيهم على الإجمالدون تعيين، فهذا أيضاً من العذاب انتهى. ويبعد ما قال ابن عطية لأنه نص على نفاق من أخرج بعينه، فليسمن باب إخراج العصاة. بل هؤلاء كفار عنده وإنْ أظهروا الإسلام. وقال قتادة وغيره: العذاب الأول علل وأدواء أخبر اللهنبيه أنه سيصيبهم بها، وروي أنه أسرّ إلى حذيفة باثني عشر منهم وقال: سنة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تفضي إلى صدره، وستة يموتون موتاً وقال مجاهد: هو عذابهم بالقتل والجوع. قيل: وهذابعيد، لأن منهم من لم يصبه هذا. وقال ابن عباس أيضاً: هو هو أنهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهمفيه. وقال ابن إسحاق: هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته. وقيل: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم. وقال الحسن:الأول ما يؤخذ من أموالهم قهراً، والثاني الجهاد الذي يؤمرون به قسراً لأنهم يرون ذلك عذاباً. وقال ابن زيد: مرتينهما عذاب الدنيا بالأموال والأولاد كل صنف عذاب فهو مرتان، وقرأ

{ فَلاَ تُعْجِبْكَ }

. وقيل: إحراق مسجد الضرار، والآخر إحراقهمبنار جهنم. ولا خلاف أن قوله: إن عذاب عظيم هو عذاب الآخرة وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء، وسكن عياش عنأبي عمر والياء. {وَءاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌرَّحِيمٌ }: نزلت في عشرة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك فلما دنا الرسول من المدينة أوثقسبعة منهم. وقيل: كانوا ثمانية منهم: كردم، ومرداس، وأبو قيس، وأبو لبابة. وقيل: سبعة. وقيل: ستة أوثق ثلاثة منهم أنفسهمبسواري المسجد، فيهم أبو لبابة. وقيل: كانوا خمسة. وقيل: ثلاثة أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بنخذام الأنصاري. وقيل: نزلت في أبي لبابة وحده. ويبعد ذلك من لفظ وآخرون، لأنه جمع، فدخل رسول الله صلى اللهعليه وسلم المسجد حين قدم فصلى فيه ركعتين، وكانت عادته كلما قدم من سفر، فرآهم موثقين فسأل عنهم: فذكروا أنهمأقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحلهم، فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم: وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فنزلت، فأطلقهم وعذرهم.وقال مجاهد: نزلت في أبي لبابة في شأنه مع بني قريظة حين استشاروه في النزول على حكم الله ورسوله، فأشارهو لهم إلى حلقه يريد أنّ الرسول يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم، وربط نفسهفي سارية في المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفاالله عنه. والاعتراف: الإقرار بالذنب عملاً صالحاً توبة وندماً، وآخر سيئاً. أي تخلفاً عن هذه الغزاة قاله: الطبري، أو خروجاًإلى الجهاد قبل. وتخلفاً عن هذه قاله: الحسن وغيره. أو توبة وإثماً قاله: الكلبي. وعطف أحدهما على الآخر دليل علىأنّ كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، كقولك: خلطت الماء واللبن، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن، فليس فيه إلا أنّالماء خلط باللبن، قال معناه الزمخشري: ومتى خلطت شيئاً بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به، منحيث مدلولية الخلط، لأنها أمر نسبي. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهماً، بمعنى شاة بدرهم.والاعتراف بالذنب دليل على التوبة، فلذلك قيل: عسى الله أن يتوب عليهم. قال ابن عباس: عسى من الله واجبانتهى. وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل، إذ لفظة عسى طمع وإشفاق، فأبرزت التوبة في صورته، ثم ختم ذلكبما دل على قبول التوبة وذلك، صفة الغفران والرحمة. وهذه الآية وإن نزلت في ناس. مخصوصين فهي عامة في الأمةإلى يوم القيامة. وقال أبو عثمان: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: وآخرون عترافوا بذنوبهم. وفيحديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي: أنّ الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر شيئا وتابوا رآهم الرسول حول إبراهيم، وفي ألوانهم شيء، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه. {خُذْمِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }: الخطاب للرسول، والضمير عائدعلى الذين خلطوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزلت. فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله: خذ من أموالهم. والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابنعباس وغيره: أنها في هؤلاء المتخلفين، وقال جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة. فقوله: على هذا من أموالهمهو لجميع الأموال، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب.وفي المأخوذ منهم كالعبيد، وصدقة مطلق، فتصدق بأدنى شيء. وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد.وفي قوله: خذ، دليل على أنّ الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها. ومن أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهمحال من ضمير خذ، فالفاعل ضمير خذ. وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة،فلما تقدم كان حالاً، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة، وأن يكون استئنافاً، وأن يكون ضمير تطهرهم عائداً على صدقة، ويبعدهذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضميران، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ، فقدرردّ بأنّ الواو للعطف، فيكون التقدير: صدقة مطهرة ومزكياً بها، وهذا فاسد المعنى، ولو كان بغير واو جاز انتهى. ويصحعلى تقدير مبتدأ محذوف، والواو للحال أي: وأنت تزكيهم، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب. والتزكية مبالغةفي التطهر وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال. وقرأ الحسن: تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر.وصلِّ عليهم أي ادع لهم، أو استغفر لهم، أو صل عليهم إذا ماتوا، أقوال. ومعنى سكن: طمأنينة لهم، إنّ اللهقبل صدقتهم مقاله: ابن عباس. أو رحمة لهم قاله أيضاً، أو قربة قاله أيضاً، أو زيادة وقار لهم قاله: قتادة،أو تثبيت لقلوبهم قاله: أبو عبيدة، أو أمن لهم. قال:

يا جارة الحي إن لا كنت لي سكنا     إذ ليس بعض من الجيران أسكنني

وهذه أقوال متقاربة. وقال أبو عبد الله الرازي: إنما كانت سكناً لهم لأنّ روحه كانت روحاً قوية مشرقة صافية، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية علىأرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم، وصفت سرائرهم، وانقلبوا من الظلمة إلى النور، ومن الجسمانية إلى الروحانية. قال الشيخ جمال الدينأبو عبد الله محمد بن سليمان عرف بابن النقيب في كتابه التحرير والتحبير: كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلىأنَّ قوى الأنفس مؤثرة فعاله، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير انتهى. وقال الحسن وقتادة: في هؤلاء المعترفين المأخوذمنهم الصدقة هم سوى الثلاثة الذين خلفوا. وقرأ الأخوان وحفص: إن صلاتك هنا، وفي هود صلاتك بالتوحيد، وباقي السبعة بالجمع.والله سميع باعترافهم، عليم بندامتهم وتوبتهم. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَـٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَهُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون، فنزلت. وفيمصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه: ألم تعلموا بالتاء على الخطاب، فاحتمل أن يكون خطاباً للمتخلفين الذين قالوا: ما هذهالخاصة التي يخص بها هؤلاء؟ واحتمل أن يكون على معنى: قل لهم يا محمد، وأن يكون خطاباً على سبيل الالتفاتمن غير إضمار للقول، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء. وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبةمن تاب، فكأنه قيل: أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة، ويقبل الصدقات الخالصةالنية لله؟ وقيل: وجه التخصيص بهو، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره، فاقصدوه ووجهوها إليه.قال الزجاج: وأخذ الصدقات معناه قبولها، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالىقبل أن تقع في يد السائل، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل. وقالابن عطية: المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول: أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه. وعن بمعنى مِن،وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه، وهذه تقول: لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وفعل ذلك فلان منأسره ونظره، وعن أسره ونظره انتهى. وقيل: كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان، إلا أنّ عن تفيد البعد. فإذا قيل: جلسعن يمين الأمير أفاد أن جلس في ذلك الجانب، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقدفي نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عنحضرته. فلفظه عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى. والذي يظهر من موضوع عن أنهاللمجاوزة. فإن قلت: أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك، وإذا قلت: من زيد دل على ابتداء الغاية، وأنهابتداء أخذك إياه من زيد. وعن أبلغ لظهور الانتقال معه، ولا يظهر مع من. وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلىالله، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم. ألا ترى إلى قوله: وأن الله هو التواب الرحيم، فكل منهما متصف بالتوبة وإناختلفت جهتا النسبة. ألا ترى إلى ما روي: «ومَن تقرب إليّ شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربتمنه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة». {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِفَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }: صيغة أمر ضمنها الوعيد، والمعتذرون التائبون من المتخلفين، هم المخاطبون. وقيل: هم المعتذرون الذين لميتوبوا. وقيل: المؤمنون والمنافقون. فسيرى الله إلى آخرها تقدم شرح نظيره. وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين وهو الظاهر، فقدأبرزوا بقوله: فسيرى الله عملكم، إبراز المنافقين الذين قيل لهم:

{ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ * نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أخباركم }

وسيرى الآيةتنقيصاً من حالهم وتنفيراً عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهملا يرغبون بأنفسهم عن نفسه. {تَعْمَلُونَ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }:قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن إسحاق: نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أميةالواقفي، ومرارة بن الربيع العامري، وكعب بن مالك. وقيل: نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار. وقرأ الحسن،وطلحة، وأبو جعفر، وابن نصاح، والأعرج، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص: مرجون وترجى بغير همز. وقرأ باقي السبعة: بالهمز، وهما لغتان،لأمر الله أي لحكمة، إما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا، وإما يتوب عليهم إن تابوا. وقال الحسن: هم قوم منالمنافقين أرجأهم رسول الله عن حضرته. وقال الأصم: يعني المنافقين أرجأهم الله فلم يخبر عنهم بماعلم منهم، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا. وإما معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء، فينجر مع ذلكأن تكون للشك أو لغيره، فهي هنا على أصل موضوعها وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعمواأنها وضعت له وضع الاشتراك. والله عليم بما يؤول إليه أمرهم، حكيم فيما يفعله بهم. {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا* كُفْراً *وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْلَكَـٰذِبُونَ } لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالاً وأفعالاً لأذكر أنّ منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعاًللمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر، وسموه مسجداً. ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى الرسول صلىالله عليه وسلم فجاء وصلى فيه ودعا لهم، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف، وبنو سالم بن عوف، وحرضهمأبو عمر والفاسق على بنائه حين نزل الشام هارباً من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال: ابنوا لي مسجداً فإنيذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه، فبنوه إلى مسجد قباء، وكانوا اثنى عشر رجلاً من المنافقين:خذام بن خالد. ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتلبن الحرث، وعباد بن حنيف، ونجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وأبو حنيفة الأزهر، وبخرج بن عمرو، ورجل من بنيضبيعة، وقالوا لرسول الله : بنينا مسجد الذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصليلنا فيه، وتدعوا لنا بالبركة فقال : إني على جناح سفر وحال شغل، وذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاماً قارئاً للقرآن حسن الصوت، وهو ممن حسن إسلامه، وولاه عمرإمامة مسجد قباء بعد مراجعة، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن، فلما قفل رسول الله منغزوة تبوك نزل بذي أوانٍ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعامالك بن الدخشم ومعنا وعاصماً ابني عدي. وقيل: بعث عمار بن ياسر ووحشياً قاتل حمزة بهدمه وتحريقه، فهدم وحرق بنارفي سعف، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة. وقال ابن جريج: صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولميحرق. وقرأ أهل المدينة: نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: الذين بغير واو، كذا هي في مصاحف المدينة والشام،فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله: وآخرون مرجون، وأن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، وأن يكون مبتدأ. وقال الكسائي:الخبر لا تقم فيه أبد. قال ابن عطية: ويتجه بإضمار إما في أول الآية، وإما في آخرها بتقدير لا تقمفي مسجدهم. وقال النحاس والحوفي: الخبر لا يزال بنيانهم. وقال المهدوي: الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه. وقرأ جمهورالقراء: والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي: ومنهم الذين اتخذوا، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعربمبتدأ. وقال الزمخشري: (فإن قلت): والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ (قلت): محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى:

{ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ }

وقيل: هو مبتدأ وخبره محذوف، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى:

{ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ }

وانتصب ضراراً على أنهمفعول من أجله أي: مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء، ومعازّة وكفراً وتقوية للنفاق، وتفريقاً بين المؤمنين، لأنهم كانوا يصلون مجتمعينفي مسجد قباء فيغتص بهم، فأرادوا أنْ يفترقوا عنه وتختلفم كلمتهم، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه، وذلك داعيةإلى صرفه عن الإيمان. ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موع الحال. وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ثانياًلاتخذوا، وإرصاداً أي: إعداداً لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه، ويظهر علي رسولالله ، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمى الراهب، وسماه الرسول الفاسق، وكانسيداً في قومه نظيراً وقريباً من عبد الله بن أبي بن سلول، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهراًبذلك، وقال لرسول الله بعد محاورة: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتلهوحزب على رسول الله الأحزاب، فلما ردهم الله بغيظهم أقام بمكة مظهراً للعداوة، فلما كان الفتحهرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر مستنصراً على الرسول، فمات وحيداً طريداً غريباً بقنسرين،وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمّن الرسول، فكان كما دعا، وفيه يقول كعب بن مالك:

معاذ الله من فعل خبيث     كسعيك في العشيرة عبد عمرو وقلت بأن لي شرفاً وذكرا

وقرأ الأعمش: وإرصاداً للذين حاربوا الله ورسوله، والظاهر أنّ من قبل متعلقاً بحارب، يريدفي غزوة الأحزاب وغيرها، أي: من قبل اتخاذ هذا المسجد. وقال الزمخشري: (فإن قلت): بم يتصل قوله تعالى: من قبل؟(قلت): باتخذوا أي: اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى. وليس بظاهر، والخالف هو الذي لايخرج أي للغزو:ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد قباء. قالالزمخشري: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسع على المصلينانتهى. كأنه في قوله: إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولاً، وفي قوله: أو لإرادة الحسنى جعله عله، وكأنه ضمن أراد معنىقصد أي: ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة، وهذا وجه متكلف، فأكذبهم الله في قولهم،ونهاه أن يقوم فيه فقال: لا تقم فيه أبداً نهاه لأن بناته كانوا خادعوا الرسول، فهمَّ الرسول صلى الله عليهوسلم بالمشي معهم، واستدعى قميصه لينهض فنزلت: لا تقم فيه أبداً، وعبَّر بالقيام عن الصلاة فيه. قال ابن عباسوفرقة من الصحابة والتابعين: المؤسس على التقوى مسجد قباء، أسسه رسول الله وصلى فيه أيام مقامهبقباء، وهي: يوم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخيمس، وخرج يوم الجمعة، وهو أولى لأنّ الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقعمنها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار، وذلك لائق بالقصة. وعن زيد بن ثابت، وأبي سعيد، وابن عمر: أنه مسجد الرسول.وروي أنه قال: هو مسجدي هذا لم اسئل عن المسجد الذي أسس على التقوى. وإذا صحّهذا النقل لم يمكن خلافه، ومن هنا دخلت على الزمان، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية فيالزمان، وتأوله البصريون على حذف مضاف أي: من تأسيس أول يوم، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان، وتحقيق ذلكفي علم النحو. قال ابن عطية: ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنىالبداءة، كأنه قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى. وأحق بمعنى حقيق،وليست أفعل تفضيل، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى الله عليهوسلم. وقرأ عبد الله بن يزيد: فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين، والأصل الضم، وفيهرفع توهم التوكيد، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. وجوزوا في فيه رجالأن يكون صفة لمسجد، ولحال، والاستئناف. وفي الحديث قال لهم: يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون ؟قالوا: يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك، فلما جاء الإسلام لمندعه فقال: فلا تدعوه إذاً وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف. وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارةأو بالماء أيهما أفضل؟ ورأت فرقة الجمع بينهما، وشذ ابن حبيب فقال: لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء، فعلى ماروي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء. وقيل: هو عام في النجاساتكلها. وقال الحسن: من التطهير من الذنوب بالتوبة. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب، فحموا عن آخرهم. وفي دلائلالنبوة للبيهقي. أن أهل قباء شكوا الحمى فقال إن شئتم دعوت الله فأزالها عنكم، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة فقالوا:بل اجعلها لنا طهرة. ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء، ومحبة اللهإياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. وقرأ ابن مصرف والأعمش: يطهروا بالإدغام، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين.{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ }:قرأ نافع وابن عامر: أسس بنيانه مبنياً للمفعول في الموضعين. وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنياً للفاعل، وبنصب بنيان. وقرأعمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول، والثانية على بنائه للفاعل. وقرأ نصر بن علي، ورويت عن نصر بنعاصم أسس بنيانه، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضاً، أساس جمع أسّ. وعن نصر بن عاصمآسس بهمزة مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء إساس بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء أساس بفتح الهمزة، وأُس بضم الهمزةوتشديد السين، وهما مفردان أضيفاً إلى البنيان، فهذه تسع قراءات. وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم: أفمن أسس بالتخفيف والرفع،بنيانه بالجرّ على الإضافة، فأسس مصدر أس: الحائط يؤسة أساً وأسساً. وعن نصر أيضاً أساس بنيانه كذلك، إلا أنه بالألف،وأسّ وأس وأساس كلّ مصادر انتهى. والبنيان مصدر كالغفران، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق. وقيل: هو جمع واحده بنيانهقال الشاعر:

كبنيانة القاريّ موضع رحلها     وآثار نسعيها من الدفّ أبلق

وقرأ عيسى بنعمر على تقوى بالتنوين، وحكى هذه القراءة سيبويه، وردها الناس. قال ابن جني: قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كارطي. وقرأجماعة منهم: حمزة، وابن عامر، وأبو بكر، جرف بإسكان الراء، وباقي السبعة وجماعة بضمها، وهما لغتان. وقيل: الأصل الضم. وفيمصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم، والظاهر أنّ هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين: مسجد قباء، أو مسجدالرسول ومسجد الضرار، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما، وكذلك قال كثير من المفسرين. وقال جابر بن عبدالله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين. وروى سعيد بن جبير: أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤيمنه الدخان يخرج، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة، وكان يحفر ذلك الموضعالذي انهار فيخرج منه دخان. وقيل: هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانهعلى الشرك والنفاق، وبين أنّ بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم. قال ابن عطية: قيل:بل ذلك حقيقة، وأنّ ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله: قتادة، وابن جريج. وخير لا شركة بين الأمرينفي خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل. وقال الزمخشري: والمعنى: أفمن أسس بنياندينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ورسوله خيرٌ، أم من أسس على قاعدة هيأضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك؟ وضع شفاالجرف في مقابلة التقوى، لا جعل مجازاً عن ما ينافي التقوى. (فإن قلت): فما معنى قوله: تعالى فانهار به فينار جهنم؟ (قلت): لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل: فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نارجهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، ولتصور أنّ الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرفمن أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل علىحقيقة الباطل. وكنه أمره والفاعل فانهار أي: البنيان أو الشفا أو الجرف به، أي: المؤسس الباني، أو أنهار الشفا أوالجرف به أي: بالبنيان. ويستلزم انهيار الشفا والبنيان، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره. والله لا يهدي القوم الظالمين، إشارة إلىتعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنيةلوجه الله وعبادته، فبنوه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله. {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِى بَنَوْاْرِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }: يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي: لا يزالذلك الفعل وهو البنيان، ويحتمل أن يراد به المبني، فيكون على حذف مضاف أي: لا يزال بناء المبنى. قال ابنعباس: لا يزالون شاكين. وقال حبيب بن أبي ثابت: غيظاً في قلوبهم، أي سبب غيظ. وقيل: كفراً في قلوبهم. وقالعطاء: نفاقاً في قلوبهم. وقال ابن جبير: أسفاً وندامة. وقال ابن السائب ومقاتل: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنيانه. وقالقتادة: في الكلام حذف تقديره: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم. وقال ابن عطية:الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال، والريبة الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه، والإعراض في الشيء والتخبيطفيه. والحزازة من أجله، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك.ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق، واعتقاد صواب فعلهم، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام. فمقصدالكلام: لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء. وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا،وفسرها السدي بالكفر. وقيل له: أفكفر مجمع بن جارية؟ قال: لا، ولكنها حزازة. قال ابن عطية: ومجمع رحمه الله، قدأقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم، ولا قصد سوء. والآية إنما عنت من أبطن سوأ. وليس مجمع منهم. ويحتملأن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم. وجملة هذا أنّ الريبة في الآية تعم معانيكثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق. وقال أبو عبد الله الرازي: جعل نفس البنيان ريبة لكونه سبباًلها، وكونه سبباً لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم، وازداد بعضهم له، وارتيابهم في نبوته،أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلاً ونهباً، أو بقوا شاكين: أيغفر الله لهم تلكالمعصية؟ انتهى، وفيه تلخيص. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص: إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي: يتقطع، وباقي السبعةبالضم، مضارع قطع مبنياً للمفعول. وقرىء يقطع بالتخفيف. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، ويعقوب: إلى أن نقطع، وأبو حيوة إلى أنتُقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة، ونصب قلوبهم خطاباً للرسول أي: تقتلهم، أو فيه ضمير الريبة. وفي مصحفعبد الله: ولو قطعت قلوبهم، وكذلك قرأها أصحابه. وحكى أبو عمرو هذه القراءة: إن قطعت بتخفيف الطاء. وقرأ طلحة: ولوقطعت قلوبهم خطاب للرسول ، أو كل مخاطب. وفي مصحف أبي: حتى الممات، وفيه حتى تقطع. فمنقرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى: بالقتل. وأما على من قرأه مبنياً للمفعول، فقال ابن عباس وقتادة وابنزيد وغيرهم: بالموت أي: إلى أن يموتوا. وقال عكرمة: إلى أن يبعث من في القبور. وقال سفيان: إلى أن يتوبواعما فعلوا، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه. قال ابن عطية: وليس هذا بظاهر، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحاًيكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هماً. وقال الزمخشري: لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهمونفاقهم، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء، فحينئذ يسألون عنه، وأماما دامت سليمة مجتمعة قائمة فيها متمكنة. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم، أو في القبور،أو في النار. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. والله عليم بأحوالهم، حكيمفيما يجري عليهم من الأحكام، أو عليم بنياتهم، حكيم في عقوباتهم. {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّلَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا }: نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبةالكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو. وذلك أنهم اجتمعوا مع رسولالله عند العقبة فقالوا: اشترط لك ولربك، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة، فاشترط صلى اللهعليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا: مالنا على ذلك؟ قال: الجنة، فقالوا: نعم ربح البيع، لا تقيل ولا نقال. وفي بعض الروايات: ولا نستقيل، فنزلت.والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد إلى يوم القيامة، وعنجابر بن عبد الله: نزلت ورسول الله في المسجد فكبر الناس، فأقبل رجل من الأنصار ثانياًطرف ركابه على أحد عاتقيه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: «نعم» فقال: بيع ربح لا تقيل ولانستقيل. وفي بعض الروايات: فخرج إلى الغزو فاستشهد. وقال الحسن: لا والله إن في الأرض مؤمن إلا وقد أحدث بيعته.وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش: وأموالهم بالجنة، مثّل تعالى إثابتهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء، وقدم الأنفسعلى الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد. وفي لفظة اشترى لطيفة وهي: رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطهبه، ولم يأت التركيب أن المؤمنين باعوا، والظاهر أنّ هذا الشراء هو مع المجاهدين. وقال ابن عيينة: اشترى منهم أنفسهمأن لا يعملوها إلا في طاعة، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله، فالآية على هذا أعم من القتلفي سبيل الله. وعلى هذا القول يكون يقاتلون مستأنفاً، ذكر أعظم أحوالهم، ونبه على أشرف مقامهم. وعلى الظاهر وقول الجمهوريكون يقاتلون، في موضع الحال. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والعربيان، والحرميان، وعاصم: أولاً على البناء للفاعل، وثانياً على البناءللمفعول. وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك، والمعنى واحد، إذ الغرض أنّ المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم منيقتل، وفيهم من يقتل، وفيهم من يجتمع له الأمران، وفيهم من لا يقع له واحد منهما، بل تحصل منهم المقاتلة.وقال الزمخشري: يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى:

{ تُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ }

انتهى. فعلى هذا لا تكونالجملة في موضع الحال، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالاً. وانتصب وعداً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة،لأنّ معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله الجنة على الجهاد في سبيله، والظاهر من قوله: في التوراة والإنجيل والقرآن،أنّ كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة، فيكون في التوراة متعلقاً بقوله: اشترى. ويحتمل أن يكون متعلقاً بتقدير قولهمذكوراً، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي: وعداً عليه حقاً مذكوراً في التوراة، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذهالأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن. وقيل: الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع، ومن أوفى استفهام على جهةالتقرير أي: لا أحد، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقاً أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق منالوعد، إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائز إخلافه، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به، إذ هو آكد منالوعد. قال الزمخشري: ومن أوفى بعهده من الله، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازهعليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط؟ ولا ترى تر غيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى.وفيه دسيسة الاعتزال، واستعمال قط في غير موضوعة، لأنه أتى به مع قوله: لا يجوز عليه قبيح قط. وقط ظرفماض فلا يعمل فيه إلا الماضي. ثم قال: فاستبشروا، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريفلهم، وهي حكمة الالتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. والذي بايعتم به وصف علىسبيل التوكيد، ومحيل على البيع السابق. ثم قال: وذلك هو الفوز العظيم أي: الظفر للحصول على الربح التام، والغبطة فيالبيع لحط الذنب ودخول الجنة. {ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلاْمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِوَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }: قال ابن عباس: لما نزل أنّ الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل: يا رسول الله وإنزنا، وإن سرق، وإن شرب الخمر: فنزلت التائبون الآية. وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحليبها عباده، وليكونوا على أوفى درجات الكمال. وآية أنّ الله اشترى مستقلة بنفسها، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان، فيندرجفيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم تكن فيه هذه الصفات. والشهادة ماحية لكل ذنب، حتىروي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه. وقالت فرقة: هذه الصفات شرط في المجاهد. والآيتان مرتبطتان فلايدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الصفات شرط في المجاهد. والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلاالمؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله. وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ }

الآية وقال: لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيهحرج وتضييق، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون، فقيل: هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون، وما بعده خبر بعد خبرأي: التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف، وتقديره: من أهل الجنةأيضاً وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى:

{ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ }

ولذلك جاء:

{ وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

وعلىهذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها. وقيل: التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون، أي الذينبايعوا الله هم التائبون، فيكون صفة مقطوعة للمدح، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش: التايبين بالياء إلى والحافظين نصباً علىالمدح. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين، وقاله أيضاً: ابن عطية. وقيل: يجوز أن يكون التائبون بدلاً من الضميرفي يقاتلون. قال ابن عباس: التائبون من الشرك. وقال الحسن: من الشرك والنفاق. وقيل: عن كل معصية. وعن ابن عباس:العابدون بالصلاة. وعنه أيضاً المطيعون بالعبادة، وعن الحسن: هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء. وعن ابن جبير: الموحدونن لسائحون.قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض، لامتناعهم من شهواتهم. وعن عائشة: سياحة هذه الأمة الصيام،ورواه أبو هريرة عن النبي . قال الأزهري: قيل: للصائم سائح، لأن الذي يسيح في الأرض متعبدلا زاد معه، كان ممسكاً عن الأكل والصائم، ممسك عن الأكل. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وعن أبي أمامة: أنّ رجلاًاستأذن رسول الله في السياحة فقال: إنّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله صححه أبو محمدعبد الحق. وقيل: المراد السياحة في الأرض. فقيل: هم المهاجرون من مكة إلى المدينة. وقيل: المسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل:المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات الله، وغرائب ملكه نظر اعتبار. وقيل: الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته.والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها، وإذا تباينما بين الوصفين جاز العطف. ولما كان الأمر مبايناً للنهي، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل، حسن العطف فيقوله: والناهون ودعوى الزيادة، أو واو الثمانية ضعيف. وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن، إذا بدأ أولاً بما يخصالإنسان مرتبة على ما سعى، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله. ولما ذكر تعالى مجموع هذهالأوصاف أمر رسوله بأن يبشر المؤمنين. وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار، فحصلت لهم المزية التامةبأن الله أمرهم بالاستبشار، وأمر رسوله أن يبشرهم. {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِىقُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ }: قال الجمهور: ومداره على ابن المسيب، والزهري، وعمرو بن دينار، نزلتفي شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه وقال: أي عمّ قل لا إله إلا لله كلمة أحاج لك بها عند الله وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟فقال أبو طالب: يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لا قررت بها عينك، ثم قال:أنا على ملة عبد المطلب، ومات فنزلت:

{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ }

فقال رسول الله : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية، فترك الاستغفار لأبي طالب. وروي أن المؤمنينلما رأوه يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم، فلذلك ذكروا في قوله: ما كان للنبي والذين آمنوا. وقال فضيلبن عطية وغيره: لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس، وجعل يرغب في أن يؤذنله في الاستغفار فلم يؤذن له، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها، ونزلت الآية وقالتفرقة: نزلت بسبب قوله : والله لأزيدن على السبعين وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: بسبب جماعة منالمؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه. وتضمن قوله ما كان للنبي الآية النهي عن الاستغفار لهم على أيحال كانوا، ولو في حال كونهم أولى قربى. فقوله: ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة، وتقدم لنا الكلام علىمثل هذا التركيب أنّ ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها. ودلت الآية على المبالغةفي إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب، ونبه على الوصف الشريف من النبوةوالإيمان، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك بالله. ومعنى من بعد ما تبين أي: وضح لهم أنهمأصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك، والتبين هو بإخبار الله تعالى

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }

والظاهر أنّالاستغفار هنا هو طلب المغفرة، وبه تظافرت أسباب النزول. وقال عطاء بن أبي رباح: الآية في النهي عن الصلاة علىالمشركين، والاستغفار هنا يراد به الصلاة. قالوا: والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه، ومن هذا قول أبي هريرة: رحمالله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه، قيل له: ولأبيه؟ قال: لا لأنْ أبي مات كافراً، فإن ورد نص من اللهعلى أحد إنه من أهل النار وهو حي كأبي لهب امتنع الاستغفار له، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيمتمويه على الشرك وبنص الله عليه وهي حي، أنه من أهل النار. ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء،لأنه يرجى إسلامهم ما حكى رسول الله : عن نبي قبله شجه قومه، فجعل النبي صلى اللهعليه وسلم يخبر عنه بأنه قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أنيقتدى به، ولذلك قال جماعة من المؤمنين: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه، بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه، وذكرأنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه ابراهيم. والموعدة التي وعدها ابراهيم أباه هي قوله:

{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي }

وقوله:

{ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ }

. والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم، وكان أبوه بقيد الحياة، فكان يرجو إيمانه، فلما تبينله من جهة الوحي من الله أنه عدوّ لله وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه منه، تبرأ منه وقطع استغفاره. ويدلعلى أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم: قراءة الحسن، وحماد الراوية، وابن السميقع، وأبي نهيك، ومعاذ القارىء، وعدهاأباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم، وعده أبوه أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه،فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه. وقرأ طلحة: وما استغفر إبراهيم، وعنه وما يستغفر إبراهيم على حكايةالحال. والذي يظهر أنّ استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا. ألا ترى إلى قوله:

{ وَٱغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّالّينَ }

وقوله:

{ رَّبّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوٰلِدَىَّ }

ويضعف ما قاله ابن جبير: من أن هذا كله يوم القيامة، وذلكأنّ ابراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله: سأستغفر لك ربي، فقول له: إلزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء، فيدعه حتىيأتي الصراط، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً، فيتبرأ منه حينئذ انتهى ما قاله ابن جير، ولا يظهر ربطهبالآخرة. قال الزمخشري: (فإن قلت): خفي على إبراهيم عليه السلام أنّ الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده. (قلت): يجوزأن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أنّ امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي،لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك وعن الحسن قيل لرسول الله : إنّ فلاناً يستغفر لآبائه المشركين فقال: ونحن نستغفر لهم وعنعلي رضي الله عنه: رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: فقال: أليس قد استغفر إبراهيم انتهى؟ وقوله: لأنّالعقل يجوز أن يغفر الله للكافر رجوع إلى قول أهل السنة. والأوّاه: الدعاء، أو المؤمن، أو الفقيه، أو الرحيم،أو المؤمن التواب، أو المسيح، أو الكثير الذكر له، أو التلاء لكتاب الله، أو القائل من خوف الله، أواه المكثرذلك، أو الجامع المتضرع، أو المؤمن بالحبشية، أو المعلم للخير، أو الموفى، أو المستغفر عند ذكر الخطايا، أو الشفيق، أوالراجع عن كل ما يكرهه الله، أقوال للسلف، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات. وقال الزمخشري: أوّاه فقال: منأوّه كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفرله مع شكاسته عليه. وقوله: لأرجمنك انتهى. وتشبيه أوّاه من أوّه بلال من اللؤلؤ ليس بجيد، لأنّ مادة أوّه موجودةفي صورة أوّاه، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لال ثلاثي، ولؤلؤ رباعي، وشرط الاشتقاق التوفق في الحروفالأصلية. وفسروا الحليم هنا بالصافح عن الذنب الصابر على الأذى، وبالصبور، وبالعاقل، وبالسيد، وبالرقيق القلب الشديد العطف. {وَمَا كَانَٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ إِنَّ }: مات قومكان عملهم على الأمر الأول: كاستقبال بيت المقدس، وشرب الخمر، فسأل قوم الرسول بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلكفنزلت. وقال الكرماني: أسلم قوم من الأعراب فعملوا بما شاهدوا الرسول يفعله من الصلاة إلى بيت المقدس، وصيام لأيام البيض،ثم قدموا عليه فوجوده يصلي إلى الكعبة ويصوم رمضان، فقالوا: يا رسول الله دنا بعدك بالضلال، إنك على أمرٍ وأناعلى غيره فنزلت. وقيل: خاف بعض المؤمنين من الاستغفار للمشركين دون إذن من الله فنزلت الآية مؤنسة أي: ما كانالله بعد أن هدى للإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمقارفتهم ذنباً لم يتقدم منه نهى عنه. فأماإذ بين لهم ما يتقون من الأمر، ويتجنبون من الأشياء، فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة. وقال الزمخشري: يعنيما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه، وبين أنه محظور، ولا يؤاخذ به عباده الذين هداهمللإسلام، ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم، وعلمه بأنه واجب الاتقاء والاجتناب، وأماقبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذرمن خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي في هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها، وهي أنّ المهديللإسلام إذا أقبل على بعض محظورات الله داخل في حكم الضلال، والمراد بما بتقون ما يجب اتقاؤه للنهي. فأما مايعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف انتهى. وفي هذا الأخير من كلامه وفي قوله: قبلفي تفسير ليضل ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم دسيسة الاعتزال، وفي كلامه إسهاب، وهو بسط ما قال مجاهد، قال: ماكان ليضلكم بالاستغفار للمشركين بعد إذ هداكم للإيمان حتى يتقدم بالنهي عن ذلك، وبينه لكم فتتقوه انتهى. وتقدم في أسبابالنزول ما يشرح به الآية من سؤالهم عمن مات، وقد صلى إلى بيت المقدس، وشرب الخمر، ومن قصة الأعراب.والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها وفي شرحها: أنه تعالى لما بين أنه لا يستغفر للمشركين ولو كانواأولي قربى، كان في هذه الآية وفي التي بعدها تباين ما بين القرابة حتى منعوا من الاستغفار لهم، فمنع رسولالله من الاستغفار لعمه أبي طالب وهو الذي تولى تربيته ونصره وحفظه إلى أن مات، ومنعابراهيم من الاستغفار لأبيه وهو أصل نشأته ومربيه، وكذلك منع المسلمون من الاستغفار للمشركين أقرباء وغير أقرباء، فكأنه قيل: لاتعجب لتباين هؤلاء، هذا خليل الله، وهذا حبيب الله، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء الله، فإضلال هؤلاء لم يكن إلابعد أن أرشدهم الله إلى طريق الحق بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي،فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن الله تعالى، ولذلك ختمهابقوله: إن الله بكل شيء عليم، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء. فالمعنى: وما كان الله ليديم إضلال قومأرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي: يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم، فحنيئذ يدوم إضلالهم. ولما ذكر تعالىعلمه بكل شيء، فهو يعلم ما يصلح لكل أحد، وما هيـىء له في سابق الأزل، ذكر ما دل على القدرةالباهرة من أنه له ملك السموات والأرض، فيتصرف في عباده بما شاء، ثم ذكر من أعظم تصرفاته الأحياء والإماتة أي:الإيجاد والإعدام. وتفسير الطبري هنا قوله: يحيـي ويميت، بأنه إشارة إلى أنه يجب للمؤمنين أن لا يجزعوا من عدو وإنكثر، ولا يهابوا أحداً فإنّ الموت المخوف، والحياة المحتومة إنما هي بيد الله، غير مناسب هنا وإن كان في نفسهقولاً صحيحاً. وتقدم شرح قوله:

{ وَمَا لَكُم مّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ }

في البقرة. {لَقَدْ تَابَالله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلاْنصَـٰرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ }: لما تقدمالكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم، وذكر ما فعلوا منمسجد الضرار، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بتركالاستغفار لهم، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرونبعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه. قال ابن عطية: التوبة منالله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه، وقد يكون في الأكثر رجوعاً عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة،وقد يكون رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها. وهذه توبته في هذه الآية على النبي ،لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها، إلى حاله بعد ذلك أكمل منها. وأما توبته على المهاجرينوالأنصار فحالها معرضة لأنْ تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق فرجوع منحالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا. وقال الزمخشري: تاب الله على النبي كقوله تعالى:

{ لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }

{ وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ }

وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلىالتوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة الفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى، وأنّ صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهمبالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى:

{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }

انتهى. وقيل: لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات، إلا أنه تعالى تابعليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول إلىذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في قبول التوبة. اتبعوه: أي اتبعوا أمره، فهو من مجاز الحذف. ويجوز أن يكون هوابتدأ بالخروج، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي: في وقت العسرة، والتباعة مستعارة للزمان المطلق، كما استعاروا الغداةوالعشية واليوم. قال:

غداة طفت علماء بكر بن وائل     عشية قارعنا جذام وحميرا

وآخر:

إذا جاء يومـاً وارثي يبتغي الغنـى    

وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيهاعزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية، فمن اعتزمعلى الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختلكونهم متبعين في ساعة العسرة. والعسرة: الضيق والشدة والعدم، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى اللهعليه وسلم: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله قلب الدنانير بيده وقال: وما على عثمان ما عمل بعد هذا وجاء أنصاري بسبعمائة وسق منبر. وقال مجاهد، وقتادة، والحسن: بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر،وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء، ثم يفعل بها كلهمذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما فيكروشها من الماء، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله فرفع يديه يدعو، فما رجعها حتى انسكبتسحابة، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر. وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل، فأمربجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير، فدعا فيه بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء وأكل القوم كلهم حتى شبعوا، وفضلت فضلة. وكان الجيش ثلاثين ألفاً وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى اللهعليه وسلم، وفيها خلف علياً بالمدينة. وقال المنافقون خلفه بغضاً له، فأخبره بقولهم فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ووصل إلى أوائل بلاد العدو، وبث السرايا، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما علىالجزية وانصرف. {يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ } قال الحسن: همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة. وقيل: زيغها كان بظنونلها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة، لما رأته من شدّة العسرة وقلة الوفر، وبعد الشقة، وقوة العدوالمقصود. وقال ابن عباس: تزيغ، تعدل عن الحق في المبايعة. وكاد تدل على القرب، لا على التلبس بالزيغ. وقرأ حمزةوحفص: يزيغ بالياء، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغفي موضع الخبر، لأنّ النية به التأخير. ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرأ باقي السبعة: بالتاء،فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد، وتزيغ الخبر وسط بينهما، كما فعل ذلك بكان. قال أبو علي: ولا يجوز ذلكفي عسى، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار، أي من بعد ماكاد هو أي: الجمع. وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء، كأنه قال: من بعدما كاد القوم. وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو: من أنّ خبرأفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها. فبعضهم أطلق، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة، ولا يكونسبباً، وذلك بخلاف كان. فإنّ خبرها يرفع الضمير، والسبي لاسم كاد، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضعنصب على الخبر، والمرفوع ليس ضميراً يعود على اسم كادبل ولا سبباً له، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضاً. وأماتوسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان: يقوم زيد، وفيه خلاف، والصحيح المنع. وأما توجيهالآخر فضعيف جداً من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبركاد واقعاً سببياً، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة، ومعناها مراد، لا عمل لها إذ ذاك في اسمولا خبر، فتكون مثل كان إذا زيدت، يراد معناها ولا عمل لها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: من بعدما زاغت، بإسقاط كاد. وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى:

{ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا }

مع تأثيرها للعامل، وعملهاهي. فأحرى أن يدعي زيادتها، وهي ليست عاملة ولا معمولة. وقرأ الأعمش والجحدري: تزيغ برفع التاء. وقرأ أبي: منبعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم، الضمير في عليهم عائد على الأولين، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيداً. أويراد بالأول إنشاء التوبة، وبالثاني استدامتها. أو لأنه لما ذكر أنّ فريقاً منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانياًرفعاً لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم. والثلاثة الذين خلفوا تقدمتأسماؤهم، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك قاله: قتادة. أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه، حيث تيب عليهم بعد التوبةعلى أبي لبابة وأصحابه إرجاء أمرهم خمسين يوماً ثم قبل توبتهم. وقد ردّ تأويل قتادة كعب بن مالك بنفسه فقال:معنى خلفوا تركوا عن قبول العذر، وليس بتخلفنا عن الغزو. وقرأ الجمهور: خلفوا بتشديد اللام مبنياً للمفعول. وقرأ أبو مالككذلك وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي، وذر ابن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القاري، وحميد: بتخفيف اللام مبنياًللفاعل، ورويت عن أبي عمرو أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة. وقرأ أبو العالية أبو الجوزاء كذلك مشدَّداللام. وقرأ أبو زيد، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه زيد، ومحمد الباقر، وابنه جعفر الصادق: خالفوابألف أي: لم يوافقوا على الغزو. وقال الباقر: ولو خلفوا لم يكن لهم. وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين، ولعله قرأكذلك على سبيل التفسير، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف. حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تقدم تفسير نظيرها فيهذه السورة في قصة حنين. وضاقت عليهم أنفسهم استعارة، لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وخرجتعن فرط الوحشة والغم، وظنوا أي: علموا. قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: أيقنوا، كما قالوا في قول الشاعر:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج     سراتهم في الفارسي المسرّد

وقال قوم: الظن هنا على بابه منترجيح أحد الجائزين، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن، أو كانوا قاطعين لكنهميجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة. وجاءت هذه الجمل في كنف إذاًفي غاية الحسن والترتيب، فذكر أولاً ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم، ونبوة الناس عن كلامهم. وثانياً وضاقت عليهمأنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم، والغم على قلوبهم، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع، فذكر أولاً ضيقالمحل، ثم ثانياً ضيق الحال فيه، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة. سم الخياط مع المحبوب ميدان. ثم ثالثاًلما يئسوا من الخللق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى

{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ }

وإذاً إنْ كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره: تاب عليهم، ويكون قوله: ثم تابعليهم، نظير قوله: ثم تاب عليهم، بعد قوله

{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ }

الآية. ودعوى أنّ ثم زائدة وجوابإذا ما بعد ثم بعيد جداً، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم. ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قدتجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله: خلفوا أي:خلفوا إلى هذا الوقت، ثم تاب عليهم ليتوبوا، ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا، أوليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علماً منهم أنّ الله ثواب على من تاب، ولو عاد في اليوممائة مرة. وقيل: معنى ليتوبوا ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها. وقيل: ليتوبوا، ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاطبالمؤمنين، وتستكن نفوسهم عند ذلك. قال ابن عطية: وقوله: ثم تاب عليهم ليتوبوا، لمّا كان هذا القول في تعديد نعمهبدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله تعالى ليكون ذلك منبّهاً على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره،ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى:

{ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }

ليكون هذا أشد تقريراً للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه. وبيان هذه الآية ومواقعألفاظها أنها تكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير، فلذلك اختصرتسوقه. وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأنّ الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه، إذ هوأسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة، وصاحباه من أهل بدر، وفي هذا ما يقتضي أنّ الرجلالعالم والمقتدي به أقل عذراً في السقوط من سواه. وكتب الأوزاعي إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة: واعلم أنّقرابتك من رسول الله لن تزيد حق الله عليك إلا عظماً، ولا ظاعته إلا وجوباً، ولاالناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكاراً والسلام. ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله:

والعيب يعلـق بـالكبيـر كبيــر    

وروي أنأناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله ومنهم من بدا له فيلحق بهم كأبي خيثمة، ومنهممن بقي لم يلحق بهم منهم الثلاثة. وسئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال: إن تضيق الى التائب الأرضبما رحبت، وتضيق عليه نفسه كتوبه كعب بن مالك وصاحبيه. {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ }: هوخطاب للمؤمنين، أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وأزاحهم عن ربقة النفاق. واعترضت هذهالجملة تنبيهاً على رتبة الصدق، وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله:

{ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ }

قال ابن جريج وغيره: الصدق هنا صدق الحديث. وقال الضحاك ونافع: ما معناه اللفظ أعم من صدقالحديث، وهو بمعنى الصحة في الدين، والتمكن في الخير، كما تقول العرب: رجل صدق. وقالت هذه الفرقة: كونوا مع محمدوأبي بكر وعمر وخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في الإسلام. وقيل: هم الثلاثة أي: كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم.وقال الزمخشري: هم الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله من قوله:

{ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }

وهمالذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً انتهى. وقيل: الخطاب بالذين آمنوا لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك.وعن ابن عباس: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي: كونوا مع المهاجرين والأنصار، ومع تقتضي الصحبة في الحال والمشاركةفي الوصف المقتضي للمدح. وقرأ ابن مسعود وابن عباس: من الصادقين، ورويت عن النبي . وكان ابنمسعود يتأوله في صدق الحديث وقال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا إن يعد منكم أحد صببه ثملا ينجزه، اقرؤوا إن شئتم: وكونوا مع الصادقين. وقال صاحب اللوامح: ومن أعم من مع، لأنّ كل ن كان منقوم فهو معهم في المعنى المأمور به، ولا ينعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي، وابن السميقع، وأبو المتوكل، ومعاذ القاري:مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله تعالى:

{ وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلاْحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ }

ولما تقدم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، أمروا بأنْيكونوا مع الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب المنهى عنه كما يقال: كن مع الله يكن معك. {مَا كَانَ لاهْلِٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ ٱلاْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ }: نزلت فيمن تخلفمن أهل المدينة عن غزوة تبوك، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار. ومناسبتها لماقبلها: أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله، وأمر بكينونتهم مع الصادقين، وأفضل الصادقين رسول الله ثمالمهاجرون والأنصار، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنّى توجه من الغزوات والمشاهد، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول فيغزوة، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه. قال الزمخشري: بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوالبرغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه ، علماً بأنها أعزُّ نفس عندالله تعالى وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيماتعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزناً، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلاً أن يربؤوا بأنفسهم عنمتابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعتهبأنفة وحمية. قال الكرماني: هذا نفي معناه النهي، وخصَّ هؤلاء بالذكر وكل الناس في ذلك سواء لقربهم منه، وأنه لايخفى عليهم خروجه. قال قتادة: كان هذا الإلزام خاصاً مع النبي وجواب النفر إلى الغزو إذاخرج هو بنفسه، ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء. وقال زيد بن أسلم: كان هذا الأمر والإلزام فيقلة الإسلام، واحتياج إلى اتصال الأيدي، ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله:

{ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً }

قال: وهذاكله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام، وأما إذا ألم العدوّ بجهة فيتعين على كل أحد القيامبذنبه ومكافحته، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه انتفاء التخلف من وجوب الخروج معه وبذل الفس دونه، كأنه قيل: ذلك الوجوبللخروج وبذل النفس هو بسبب ما أعد الله لهم من الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم، وما يتسنى على أيديهممن إيذاء أعداء الإسلام. والظمأ العطش. وقرأ عبيد بتن عمير ظماء بالمد مثل: سفه سفاهاً، ولما كان العطش أشقالأشياء المؤدية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصاً في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولاً، وثنى بالنصب وهو التعبلأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشىء عن العطش والسير، وأتى ثالثاً بالجوع لأنه حاله يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة،بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر. فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولاً فثانياً فثالثاً. وموطئاً مفعل منوطىء، فاحتمل أنْ يكون مكاناً، واحتمل مصدراً. والفاعل في يغيظ عائد على المصدر، إما على موطىء إن كان مصدراً، وإماعلى ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار. وأطلق موطئاً إذا كان مكاناً ليعم كلموطىء يغيظ وطؤه الكفار، سواء كان من أمكنة الكفار، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم. والوطء يدخلفيه بالحوافر والإخفاف والأرجل. وقرأ زيد بن علي: يغيظ بضم الياء. والنيل مصدر، فاحتمل أن يبقى على موضوعه، واحتمل أنيراد به المنيل. وأطلق نيلاً ليعمّ القليل والكثير مما يسوءهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزيمة، وليست الياء في نيل بدلاً منواو خلافاً لزاعم ذلك، بل نال مادتان: إحداهما من ذوات الواو نلته أنولة نولاً ونوالاً من العطية، ومنه التناول. والأخرى:هذه من ذوات الياء، نلته ناله نيلاً إذا أصابه وأدركه. وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضاً وهو الوطء، ثم ثنىبالنيل من العدو. جاء العموم في الكفار بالألف واللام، وفي من عدو لكونه في سياق النفي، وبدىء أولاً بما يحضالمسافر في الجهاد في نفسه، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو. وقالالزمخشري: ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام: آخر وطأة وطئها الله بوج .والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي: كتب في الصحائف، أو في اللوح المحفوظ، ليجازي عليه يوم القيامة. ويحتمل أنيكون استعارة، عبر عن الثبوت بالكتابة لأنّ من أراد أن يثبت شيئاً كتبه. والجملة من كتب في موضع الحال، وبهأفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي: بإصابة الظمأ والنصب والمخمصةوالوطء والنيل. وفي الحديث: من أغرث قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار وقال ابن عباس: بكل روعة تنالهمفي سبيل الله سبعون ألف حسنة. والنفقة الصغيرة قال ابن عباس: كالثمرة ونحوها، والكبيرة ما فوقها. وقال الزمخشري: صغيرة ولوتمرة، ولو علاقة سوط،. ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة انتهى. وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله:

{ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً }

{ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ }

وإذا كتب أجر الصغيرة فأحرى أجرالكبيرة. ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع، ويجوزأن يعود على قوله: عمل صالح المتقدم الذكر. وتأخرت هاتان الجملتان وقدّمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكىفي العدو، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لميحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأنّ، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين. وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتبوالتقدير: أحسن جزاء الذي كانوا يعملون، لأنّ عملهم له جزاء حسن، وله جزاء أحسن، وهنا الجزاء أحسن جزاء. وقال أبوعبد الله الرازي: أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان: الأول: أن أحسن من صفة فعلهم، وفيها الواجب والمندوب دون المباح اننتهى. هذا الوجه فاحتمل أن يكون أحسن بدلاً من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال، كأنه قيل: ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسنمن الجزاء، أو بما شاء من الجزاء. ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف فيكون التقدير: ليجزيهم جزاءاً أحسن أفعالهم.والثاني: أن الأحسن صفة للجزاء أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل، وهو الثواب انتهى، هذا الوجه، وإذاكان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبينالأعمال، ولم يصرح فيه بمن؟.

{ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } * { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون } * { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } عدل

{وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْفِى ٱلدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ }: لما سمعوا ما كان لأهل المدينة الآية أهمهم ذلك، فنفروا إلى المدينة إلىالرسول فنزلت. وقيل: قال المنافقون حين نزلت: ما كان لأهل المدينة الآية هكذا أهل البوادي فنزلت. وقيل: لما دعا الرسولعلى مضر بالسنن أصابتهم مجاعة، فنفروا إلى المدينة للمعاش وكادوا يفسدونها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان، وإنما أقدمه الجوع فنزلتالآية فقال: وما كان من ضعفة الإيمان لينفروا مثل هذا النفير أي: ليس هؤلاء بمؤمنين. وعلى هذه الأقوال لا يكونالنفير إلى الغزو، والضمير الذي في ليتفقهوا عائد على الطائفة النافرة، وهذا هو الظاهر. وقال ابن عباس: الآية في البعوثوالسرايا. والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو، وهذه ثابتة الحكم إذا لم يخرج أي: يجب إذا لميخرج أن لا ينفر الناس كافة، فيبقى هو مفرداً. وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة فيالدين، وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم. وقالت فرقة: هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الناس كافة النفير والقتال،فعلى هذا وعلى قول ابن عباس يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الطائفة المقيمة مع النبي ،ويكون معنى ولينذروا قومهم أي: الطائفة النافرة إلى الغزو يعلمونهم بما تجدّد من أحكام الشريعة وتكاليفها، وكان ثم جملة محذوفةدل عليها تقسيمها أي: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة مقعدت أخرى ليتفقهوا. وقيل: على أن يكون النفير إلىالغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على النافرين، ويكون تفقههم في الغزو بما يرون من نصرة الله لدينه،وإظهاره الفئة القليلة من المؤمنين على الكثيرة من الكافرين، وذلك دليل على صحة الإسلام، وإخبار الرسول بظهور هذا الدين. والذييظهر أنّ هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنونكلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم،فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولاً، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة أي: فهلا نفر من كل جماعةكثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير، وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم، وقتال أعدائهم، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذارجعوا إليهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ كلا النفيرين هو في سبيل الله وإحياء دينه هذا بالعلم، وهذابالقتال. قال الزمخشري: ليتفقهوا في الدين، ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها، ولينذروا قومهم، وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهمفي التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لعلهم يحذرون إرادة أن يحذروا الله تعالى، فيعملوا عملاً صالحاً. ووجه آخر: وهوأن رسول الله كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين منالآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير، وانقطعوا جميعاً عن الوحي والتفقه في الدين، فأمروا بأن ينفر من كلفرقة منهم طائفة إلى الجهاد، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأنّ الجهاد بالحجةأعظم أمراً من الجهاد بالسيف. وقوله تعالى: ليتفقهوا، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة، ولينذروا قومهم، ولينذر الفرق الباقيةقومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}: لما خصتعالى على التفقه في الدين، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم منالكفار، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف. وقال بعض الشعراء في ذلك:

من لا يعدله القرآن كان له     من الصغار وبيض الهند تعديل

قيل: نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة، فهي من التدريج الذي كانفي أول الإسلام. وضعف هذا القول بأنّ هذه الآية ما نزل. وقالت فرقة: إنما كان رسول الله صلى الله عليهوسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة. وقالت فرقة:الآية مبينة صورة القتال كافة، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أنّ الله تعالى أمر فيها المؤمنين أنيقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة، وهذا هو القتال لكملة الله ورد البأس إلى الإسلام. وأما إذامال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدوّ ذلك الصقع وإن بعدتالدار ونأت البلاد. وقال: قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام، لأنهم كانوا يومئذ العدوّ الذي يليويقرب، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرسوالديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال: عليك بالروم. وقال علي بن الحسين والحسن: همالروم والديلم، يعني في زمنه. وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروموغيرهم:

{ قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ }

إلى آخرها. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر. وقال قوم:تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم، فأمروا بقتالهم. ويلونكم: ظاهره القرب في المكان. وقيل: هو عام في القرب في المكان، والنسبوالبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة، وقد أمرنا بقتال كلهم، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائرالمهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن النفقات فيه، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل، ولأن قتال الأبعد تعريض لتداركالمسلمين إلى الفتنة، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل، وحصول غير الإسلام أيسر. وإن كانوا أقوياءكان تعرضهم لدار الإسلام أشد، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعددهم وعددهم، فترجحتالبداءة بقتال من يلي على قتال من بعد. وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدّة عليهم كما قال تعالى:

{ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ }

وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم. وقال تعالى:

{ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }

وفيالحديث: ألقوا الكفار بوجوه مكفهرة وقال تعالى

{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا }

وقال:

{ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ }

والغلظة: تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة، والغلظة حقيقة في الأجسام، واستعيرت هناللشدة في الحرب. وقرأ الجمهور: غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد، والأعمش وابان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحهاوهي لغة الحجاز، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وابن أيضاً بضمها وهي لغة تميم، وعن أبي عمر وثلاثةاللغات ثم قال: واعلموا أنّ الله مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوىالله تعالى، ومن اتقى الله كان الله معه بالنصر والتأييد، ولا يقصد بقتاله الغنيمة، ولا الفخر، ولا إظهار البسالة.{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذينفي قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}: قال ابن عباس: نزلت هذه والثانية في المنافقين، كانوا إذانزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله وعرض بهم في خطبته، فينظر بعضهم إلى بعضيريدون الهرب ويقولون: هل يراكم من أحد إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد. ولما استطرد من سفرالغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم، عادإلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم. وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفاروهم منهم، وقولهم: أيكم زادته هذه إيماناً، يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين، ويحتملأن يقولوا: ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق. ومعنى قولهم ذلك: هو على سبيل التحقير للسورةوالاستخفاف بها، كما تقول: أي غريب في هذا وأي دليل في هذا، وفي الفتيان قيل: هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه.وقرأ الجمهور: أيكم بالرفع. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير: أيكم بالنصب على الاشتغال، والنصب فيه عند الأخفش أفصحكهو بعد أداة الاستفهام نحو: أريد اضربته. والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين، وزيادة الإيمانعبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من الله تعالى، أو عبارة عنتنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة الله بأدلة، فنبهته هذه السورة على دليل راد في أدلته،أو عبارة عن إزالة شك يسير، أو شبهة عارضة غير مستحكمة، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة. وأما علىقول من يسمى الطاعة إيماناً، وذلك مجاز عند أهل السنة، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاماً. وقال الربيع: فزادتهم إيماناًأي خشية أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته. وقال الزمخشري: فزادتهم إيماناً لأنها أزيد للمتقين على الثبات، وأثلج للصدور. أوفزادتهم عملاً، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل انتهى. وهي نزعة اعتزالية، وهم يستبشرونبما تضمنته من رحمة الله ورضوانه. وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، والصحة والمرض في الأجسام، فنقل إلى الاعتقادمجازاً والرجس القذر، والرجس العذاب، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال. وإذا كفروا بسورة. فقد زاد كفرهمواستحكم وتزايد عقابهم. قال قطرب والزجاج: أراد كفراً إلى كفرهم. وقال مقاتل: إثماً إلى إثمهم. وقال السدي والكلبي: شكاً إلىشكهم. وقال ابن عباس: أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة، وأنتجنزول السورة للمؤمنين شيئين: زيادة الإيمان، والاستبشار بما لهم عند الله. وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس، والموافاة على الكفرأذاهم كفرهم الأصلي، والزيادة إلى أنْ ماتوا على الكفر. {أَوْ لاَ * يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةًأَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ }: لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة، ذكرأنهم أيضاً في الدنيا لا يخلصون من عذابها. والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض، وذلك على قراءةالجمهور بالياء. وقرأ حمزة: بالتاء خطاباً للمؤمنين. والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب، ومن رؤية البصر. وقرأ أبي وابنمسعود، والأعمش: أو لا ترى أي أنت يا محمد؟ وعن الأعمش أيضاً: أو لم تروا؟ وقال أبو حاتم عنه: أولم يروا؟ قال مجاهد: يفتنون، يختبرون بالسنة والجوع. وقال النقاش عنه: مرضه أو مرضتين. وقال الحسن وقتادة: يحتبرون بالأمر بالجهاد.قال ابن عطية: والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم،فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة. وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه، فمعنىالآية على هذا: أفلا يزدرج هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد، ويعلمون أن ذلكمن عند الله فيتوبون، ويذكرون وعد الله ووعيده انتهى. وقاله مختصراً مقاتل قال: يفضحون بإظهار نفاقهم، وأما الاختبار بالمرض فهوفي المؤمنين، وقد كان الحسن ينشد:

أفي كل عام مرضة ثم نقهة     فحتى متى حتى متى وإلى متى

وقالت فرقة: معنى يفتنون بما يشبعه المشركون على رسول الله من الأكاذيب والأراجيف، وأنّملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم، وإليه الإشارة بقوله:

{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }

فكان الذينفي قلوبهم مرض يفتنون في ذلك. وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة، وهو غريب من المعنى. وقال الزمخشري: يفتنون يبتلونبالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرونفي أمرهم، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه منالنصر وتأييده، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله فيقتلهم وينكل بهم، ثم لاينزجرون. وقرأ ابن مسعود: ولا هم يتذكرون. {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ }. ذكر أولاً ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء، ثم ذكرثانياً ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكاراً للوحي، وسخرية قائلين: هل يراكم منأحد من المسلمين لننصرف، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروجوالانسلال لو إذا يقولون: هل يراكم من أحد؟ والظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت. وقيل: ثم صفة محذوفة أي: سورةتفضحهم ويذكر فيها مخازيهم، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير، يفهم من تلك النظرة التقرير: هل يراكم من ينقلعنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم؟ ثم انصرفوا أي: عن طريق الاهتداء، وذلك أنهم حين ما بين لهمكشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيحوالاهتداء. قال الضحاك: هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل ثم انصرفوا إن كان حقيقة فالمعنى: قاموا من المكانالذي تتلى فيه السورة أو مجازاً، فالمعنى: انصرفوا عن الإيمان، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه، قاله الكلبي، أو رجعواإلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه، أو عنطريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله، وهذا القول راجع لقول الكلبي. صرف الله قلوبهم صيغته خبر،وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان، قاله الفراء. والظاهر أنه خير لما كان الكلام في معرضذكر التكذيب، بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله: ثم انصرفوا، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم علىفعلهم كقوله:

{ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }

. قال الزجاج: أضلهم. وقيل: عن فهم القرآن والإيمان به. وقال ابن عباس:عن كل رشد وخير وهدى. وقال الحسن: طبع عليها بكفرهم. قال الزمخشري: صرف الله قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان، ويصرف قلوبهمعما في قلوب أهل الإيمان من الانشراخ بأنهم قوم لا يفقهون يحتمل أن يكون متعلقاً بانصرفوا، أو بصرف، فيكون منباب الإعمال أي: بسبب انصرافهم، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن فيفقهون ما احتوى عليه ممايوجب إيمانهم والوقوف عنده. {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ * رَءوفٌ *رَّحِيمٌ }: لما بدرأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئاً فشيئاً، خاطب العرب على سبيلتعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم، أو من نسبهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصف بالأوصافالجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، ويحرص على هداهم، ويرأف بهم، ويرحمهم. قالابن عباس: ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي ، فكأنه قال: يا معشر العرب لقدجاءكم رسول من بني إسماعيل، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل، ويحتمل أن يكون حطاباً لبنيآدم، والمعنى: أنه لم يكن من غير جنس بني آدم، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله:

{ وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً }

ولما كان المخاطبون عاماً، إما عامة العرب، وإما عامة بني آدم، جاء الخطاب عاماً بقوله: عزيزعليه ما عنتم حريص عليكم أي: على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك. ولما كانت الرأفة والرحمة خاصةجاء متعلقها خاصاً وهو قوله: بالمؤمنين رؤوف رحيم. ألا ترى إلى قوله:

{ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ }

وقال:

{ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }

وقال في زناة المؤمنين:

{ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }

.قال ابن عطية: وقوله من أنفسكم، يقتضي مدحاً لنسب النبي وأنه من صميم العرب وأشرفها، وينظرإلى هذا المعنى قوله عليه السلام: إن الله اصطفى كناية من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم ومنه قوله : إني من نكاح ولست من سفاح معناه أننسبه إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زناانتهى. وصف الله نبيه عليه السلام بستة: أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسولوطهارة نفسه الزكية، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه، ولما كانت هذه الصفة أشرفبدىء بذكرها. وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذهالصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم،وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة. وكونه يعز عليه ما يشق عليكم، فهذا الوصف من نتائج الرسالة. ومن كونهمن أنفسهم، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم، وهو أيضاًمن نتائج الرسالة، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية. وكونه رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين، وهما وصفان من نتائج التبعية له، والدخولفي دين الله.

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }

المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك .وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي، ويعقوب منبعض طرقه: من أنفسكم بفتح الفاء. ورويت هذه القراءة عن رسول الله ، وعن فاطمة، وعائشة رضيالله عنهما، والمعنى: من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء. والظاهر أنّ ما مصدريةفي موضع الفاعل بعزيز أي: يعز عليه مشقتكم كما قال:

يسر المرء ما ذهب الليالي     وكان ذهابهن له ذهابا

أي يسر المرء ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي: عنتكم عزيز عليه،وقدم خبره، والأول أعرب. وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ، وما عنتم الخبر، وأن تكون ما بمعنى لذي، وأن تكونمصدرية، وهو إعراب دوب الإعرابين السابقين. وقال ابن القشيري: عزيز صفة للنبي ، وإنما وصف بالعزة لتوسطهفي قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته، ثم استأنف فقال: عليه ما عنتم أي: يهمه أمركم انتهى. والعنت: تقدم شرحه فيالبقرة في قوله { لاعْنَتَكُمْ } . وقال ابن عباس: هنا مشقتكم. وقال الضحاك: إثمكم. وقال سعيد بن أبي عروبة: ضلالكم.وقال العتبي: ما ضركم. وقال ابن الأنباري: ما أهلككم. وقيل: ما عمكم. والأولى أن يضمر في عليكم أي: على هداكموإيمانكم كقوله: { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ } وقوله: { وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } . وقيل: حريص على إيصال الخيراتلكم في الدنيا والآخرة. وقال الفراء: الحريص هو الشحيح، والمعنى: أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار. وقيل: حريص على دخولكمالجنة. وإنما احتيج إلى الإضمار، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات. ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برؤوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فيكونمن باب التنازع. وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول:زيداً ضربت وشتمت على التنازع، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين. وقال قوم: بالتوزيع، رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين. وقيل: رؤوف بمنرآه، رحيم بمن لم يره. وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بغيرهم. وقال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لنبي بين اسمينمن أسمائه إلا لنبينا ، فإنه قال: بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ * لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } . {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }: أيفإنْ أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي منّ الله عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل:حسبي الله أي: كافيّ من كل شيء، عليه توكلت أي: فوضت أمري إليه لا إلى غيره، وقد كفاه الله شرهمونصره عليهم، إذ لا إله غيره. وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات.وقال ابن عباس: العرش لا يقدر أحد قدره انتهى. وذكر في معرض شرح قدرة الله وعظمته، وكان الكفار يسمعون حديثوجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم. وقرأ ابن محيصن: العظيم برفع الميمصفة للرب، ورويت عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إليّ، لأنّ جعل العظيم صفة لله تعالىأولى من جعله صفة للعرش، وعظم العرش يكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار، وعظم الرب بتقديسه عنالحجمية والأجزاء والإبعاض، وبكمال العلم والقدرة، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام، أو تصل إليه الأفهام. وعن ابن عباس: آخرما نزل لقد جاءكم إلى آخرها. وعن أبيّ أقرب القرآن عهداً بالله لقد جاءكم الآيتان، وهاتان الآيتان لم توجدا حينجمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة، وقد كان زيديعرفها، ولذلك قال: فقدت آيتين من آخر سورة التوبة، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئاً أولاً، فإنما ثبتتالآية بالإجماع لا بخزيمة وحده. وقال عمر بن الخطاب: ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى مناأحد إلا سينزل فيه شيء. وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال: من قال: إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه.