تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الزلزلة


بسم الله الرحمن الرحيم

{ إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } * { وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا } * { وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا } * { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } * { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } * { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ } * { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } * { وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }

الذرّة: النملة صغيرة حمراء رقيقة، ويقال: إنها أصغر ما تكون إذا مضى لهاحول. وقال امرؤ القيس:

ومن القاصرات الطرف لودب محول     من الذّر فوق الأتب منها لأثرا

وقيل: الذرّ: ما يرى في شعاع الشمس من الهباء. {إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاْرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ ٱلارْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَـٰلَهُمْ* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }. هذه السورة مكية فيقول ابن عباس ومجاهد وعطاء، مدنية في قول قتادة ومقاتل، لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا بالمدينة. ولما ذكر فيماقبلها كون الكفار يكونون في النار، وجزاء المؤمنين، فكأن قائلاً قال: متى ذلك؟ فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاْرْضُ زِلْزَالَهَا }. قيل:والعامل فيها مضمر، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره: تحشرون. وقيل: اذكر. وقال الزمخشري: تحدث، انتهى. وأضيف الزلزال إلى الأرض،إذ المعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها، ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل؛ والفرقبين أكرمت زيداً كرامة وكرامته واضح. وقرأ الجمهور: {زِلْزَالَهَا } بكسر الزاي؛ والجحدري وعيسى: بفتحها. قال ابن عطية: وهو مصدركالوسواس. وقال الزمخشري: المكسور مصدر، والمفتوح اسم، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف، انتهى. أما قوله: والمفتوح اسم،فجعله غيره مصدراً جاء على فعلال بالفتح. ثم قيل: قد يجيء بمعنى اسم الفاعل، فتقول: فضفاض في معنى مفضفض، وصلصال:في معنى مصلصل. وأما قوله: وليس في الأبنية الخ؛ فقد وجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف، قالوا: ناقة بهاخزعان بفتح الخاء وليس بمضاعف. {وَأَخْرَجَتِ ٱلارْضُ أَثْقَالَهَا }: جعل ما في بطنها أثقالاً. وقال النقاش والزجاج والقاضي منذربن سعيد: أثقالها: كنوزها وموتاها. ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال، لا يوم القيامة، وقائل ذلك يقول: هو الزلزاليكون في الدنيا، وهو من أشراط الساعة، وزلزال: يوم القيامة، كقوله: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } ، فلا يردعليه بذلك، إذ قد أخذ الزلزال عاماً باعتبار وقتيه. ففي الأول أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها، وصدقت أنها زلزلتزلزالها وأخرجت أثقالها. وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله {تُلْقِىَ * ٱلاْرْضِ } أمثال الأسطوان من الذهب والفضة. وقال ابن عباس:موتاها، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية، فهو زلزال يوم القيامة، لا الزلزال الذي هو من الأشراط.{ٱلارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا لَهَا }: يعني معنى التعجب لما يرى من الهول، والظاهر عموم الإنسان. وقيل: ذلك الكافرلأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة، والمؤمن، وإن كان مؤمناً بالبعث، فإنه استهول المرأى. وفي الحديث: ليس الخبر كالعيان . قال الجمهور: الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن. {يَوْمَئِذٍ }: أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث،ويومئذ بدل من إذا، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل. {تُحَدّثُأَخْبَارَهَا }: الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد،وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما. ويشهد له ما جاء في الحديث: بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة ، وما جاء في الترمذي عنه أنه قرأ هذهالآية ثم قال: أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا، قال فهذه أخبارها . هذا حديث حسن صحيح غريب. قال الطبري:وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول ما لهاإلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت، ولم لفظت الأموات، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه. وقال يحيـىبن سلام: تحدث بما أخرجت من أثقالها، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة. وفيسنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتني». وعن ابن مسعود: تحدث بقيامالساعة إذا قال الإنسان ما لها، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جواباً لهمعند سؤالهم. وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين، والأول محذوف، أي تحدث الناس، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلىاثنين فتتعدى إلى ثلاثة. {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا }: أي بسبب إيحاء الله، فالباء متعلقة بتحدث. قال الزمخشري: ويجوزأن يكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها،كما تقول: نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين. انتهى، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه. وقال أيضاً: ويجوزأن يكون {بِأَنَّ رَبَّكَ } بدلاً من {أَخْبَارَهَا }، كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول:حدثته كذا وحدثته بكذا، انتهى. وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد،فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب. فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقولمن الذنب، ولا اخترت زيداً الرجال الكرام، بنصب الرجال وخفض الكرام. وكذلك لا يجوز أن تقول: استغفرت من الذنب العظيم،بجر الذنب ونصب العظيم، وكذلك في اخترت. فلو كان حرف الجر زائداً، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة فيعلم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن من زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ. ولا يجوز نصب رجلوجر عاقل على مراعاة جواز دخول من، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر. وعدى أوحى باللام لا بإلى، وإنكان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل. قال العجاج يصف الأرض:

أوحى لها القرار فاستقرت     وشدها بالراسيات الثبت

فعداها باللام. وقيل: الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرضتلك الأفعال. واللام في لها للسبب، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها. وإذا كان الإيحاء إليها، احتمل أن يكونوحي إلهام، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة. {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ }: انتصب يومئذ بيصدر، والصدر يكون عن ورد. وقالالجمهور: هو كونهم في الأرض مدفونين، والصدر قيامهم للبعث، و{أَشْتَاتاً }: جمع شت، أي فرقاً مؤمن وكافر وعاص سائرون إلىالعرض، {لّيُرَوْاْ أَعْمَـٰلَهُمْ }. وقال النقاش: الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، ووردهم هو ورد المحشر. فعلى الأول المعنى:ليرى عمله ويقف عليه، وعلى قول النقاش: ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار. والظاهر تعلق {لّيُرَوْاْ } بقوله {يُصْدِرَ}.وقيل: بأوحى لها وما بينهما اعتراض. وقال ابن عباس: أشتاتاً: متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الأيمان على حدة، وأهل كلدين على حدة. وقال الزمخشري: أشتاتاً: بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين، انتهى. ويحتمل أن يكون أشتاتاً، أي كل واحدوحده، لا ناصر له ولا عاضد، كقوله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ } . وقرأ الجمهور: {لّيُرَوْاْ } بضم الياء؛ والحسنوالأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية: بفتحها، والظاهر تخصيص العامل، أي {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَذَرَّةٍ خَيْراً } من السعداء، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة، وتعميم {وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً } منالفريقين، لأنه تقسم جاء بعد قوله: {يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَـٰلَهُمْ }. وقال ابن عباس: قال هذه الأعمال في الآخرة،فيرى الخير كله من كان مؤمناً، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه، والمؤمنتعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها، وما عمل من شر أو خير رآه. ونبه بقوله: {مِثْقَالَذَرَّةٍ } على أن ما فوق الذرة يراه قليلاً كان أو كثيراً، وهذا يسمى مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكوروالمسكوت عنه في حكم واحد، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم، كقوله: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ }. والظاهرانتصاب خيراً وشراً على التمييز، لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل: بدل من مثقال. وقرأ الجمهور: بفتح الياء فيهما، أي يرىجزاءه من ثواب وعقاب. وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوةوخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه: بضمها؛ وهشام وأبو بكر: بسكون الهاء فيهما؛وأبو عمرو: بضمهما مشبعتين؛ وباقي السبعة: بإشباع الأولى وسكون الثانية، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه، وحكاهاالكسائي أيضاً عن بني كلاب وبني عقيل، وهذه الرؤية رؤية بصر. وقال النقاش: ليست برؤية بصر، وإنما المعنى يصيبه ويناله.وقرأ عكرمة: يراه بالألف فيهما، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة، حكاها الأخفش؛ أوعلى توهم أن من موصولة لا شرطية، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقيوجزم يصبر، توهم أن من شرطية لا موصولة، فجزم ويصبر عطفاً على التوهم، والله تعالى أعلم.