تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة السجدة

{ الۤـمۤ } * { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } * { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } * { ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } * { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } * { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } * { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } * { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } * { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } * { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } * { أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } * { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } * { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } * { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } * { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } * { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ }

{الم * تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً * أَتَـٰهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ * مَالَكُمْ * مّن دُونِهِ مِن وَلِيّوَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ مِنَ ٱلسَّمَاء إِلَى ٱلاْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍمّمَّا تَعُدُّونَ * ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ * ٱلَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَـٰنِ مِن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلاْبْصَـٰرَوَٱلاْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَقَالُواْ * أَءذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلاْرْضِ أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كَـٰفِرُونَ* قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَرَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ }. هذه السورة مكية، قيل: إلا خمس آيات: {*تتجافي} إلى{بِهَا تُكَذّبُونَ }. وقال ابن عباس، ومقاتل، والكبي: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً }. قال كفار قريش:لم يبعث الله محمداً إلينا، وإنما الذي جاء به اختلاق منه، فنزلت. ولما ذكر تعالى، فيما قبلها، دلائل التوحيد منبدء الخلق، وهو الأصل الأول؛ ثم ذكر المعاد والحشر، وهو الأصل الثاني، وختم به السورة، ذكر في بدء هذه السورةالأصل الثالث، وهو تبيين الرسالة. و{ٱلْكِتَـٰبِ }: القرآن. قال الحوفي: {تَنزِيلَ } مبتدأ، {وَلاَ * رَيْبَ } خبره. ويجوزأن يكون {تَنزِيلَ } خبر مبتدأ، أي هذا المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل، و{الم } بدل على الحروف. وقالأبو البقاء: {الم } مبتدأ، و{تَنزِيلَ } خبره بمعنى المنزل، و{لاَ رَيْبَ فِيهِ } حال من الكتاب، والعامل فيه تنزيل،و{مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } متعلق بتنزيل أيضاً. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه، والعامل فيه الظرف. ويجوز أنيكون {تَنزِيلَ } مبتدأ، و{لاَ رَيْبَ فِيهِ } الخبر، و{مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } حال كما تقدم. ولا يجوز على هذاأن يتعلق بتنزيل، لأن المصدر قد أخبر عنه. ويجوز أن يكون الخبر {مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، و{لاَ رَيْبَ } حالمن الكتاب، وأن يكون خبراً بعد خبر. انتهى. والذي أختاره أن يكون {تَنزِيلَ } مبتدأ، و{لاَ رَيْبَ } اعتراض، و{مِنرَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الخبر. وقال ابن عطية: {مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } متعلق بتنزيل، ففي الكلام تقديم وتأخير؛ ويجوز أن يتعلقبقوله: {لاَ رَيْبَ }، أي لا شك، من جهة الله تعالى، وإن وقع شك الكفرة، فذلك لا يراعى. والريب: الشك،وكذا هو في كل القرآن، إلا قوله:

{ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ }

انتهى. وإذا كان {تَنزِيلَ } خبر مبتدأ محذوف،وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه، لم نقل فيه: إن فيه تقديماً وتأخيراً، بل لو تأخر لميكن اعتراضاً. وأما كونه متعلقاً بلا ريب، فليس بالجيد، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود، لأن المعنى: لا مدخلللريب فيه، إن تنزيل الله، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه، وهو الإعجاز، فهو أبعد شيء من الريب. وقولهم:{ٱفْتَرَاهُ }، كلام جاهل لم يمعن النظر، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله، فقال ذلك حسداً، أو حكماً منالله عليه بالضلال. وقال الزمخشري: والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي فيكونه منزلاً من رب العالمين. ويشهد لوجاهته قوله: {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ }، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون منرب العالمين. وكذلك قوله: {بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ }، وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيحمحكم، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه. ثم أضرب عن ذلك إلى قوله:{أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ }، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجزبلغائهم عن مثل ثلاث آيات، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك. انتهى، وهو كلام فيه تكثير.وقال أبو عبيدة: أم يكون معناه: بل يقولون، فهو خروج من حديث إلى حديث؛ ومن ربك في موضع الحال، أيكائناً من عند ربك، وبه متعلق بلتنذر، أو بمحذوف تقديره: أنزله لتنذر. والقوم هنا قريش والعرب، وما نافية، ومن نذير:من زائدة، ونذير فاعل أتاهم. أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد ،لا لهم ولا لآبائهم، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم،وعبدوا الأصنام وعم ذلك، فهم مندرجون تحت قوله:

{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }

أي شريعته ودينه؛والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر، بل يكون نذيراً لمن باشره، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير، ولم يباشرهمنذير غير محمد . وقال ابن عباس، ومقاتل: المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد، عليهماالسلام. وقال الزمخشري: {مَّا أَتَـٰهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ }، كقوله:

{ مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ }

وذلك أن قريشاًلم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد . فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير، لم تقم عليهمحجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم،لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان. انتهى. والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون، وذلكأنهم فهموا من قوله: {مَا ءاتَـٰهُمُ }، و{مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ }، أن ما نافية، وعندي أن ما موصولة، والمعنى: لتنذرقوماً العقاب الذي أتاهم. {مّن نَّذِيرٍ }: متعلق بأتاهم، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك. وكذلك

{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ }

أي العقاب الذي أنذره آباؤهم، فما مفعولة في الموضعين، وأنذر يتعدى إلى اثنين. قال تعالى:

{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً }

وهذا القول جار على ظواهر القرآن. قال تعالى:

{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }

و

{ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ }

{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً }

ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون: إن محمداً افتراه ورد عليهم، اقتصر في ذكر ماجاء به القرآن على الإنذار، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم، ولأنه إذا ذكر الإنذار، صارعند العاقل فكر فيما أنذر به، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته. و{لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }: ترجية من رسول الله، كماكان في قوله:

{ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ }

من موسى وهارون. قال الزمخشري: وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة. انتهى.يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي، ومعناه: إرادة اهتدائهم، وهذه نزغة اعتزالية، لأنه عندهم أن يرد هداية العبد، فلايقع ما يريد، ويقع ما يريد العبد، تعالى الله عن ذلك. ولما بين تعالى أمر الرسالة، ذكر ما على الرسولمن الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم. وتقدم الكلام على {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } في الأعراف. {مَا لَكُمْمّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ }: أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصراً وشفيعاً. {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } موجد هذاالعالم، فتعبدوه وترفضوا ما سواه؟ {يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ }، الأمر: واحد الأمور. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، والضحاك: ينفذالله قضاءه بجيمع ما يشاؤه. {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ }: أي يصعد، خبر ذلك {فِى يَوْمٍ } من أيام الدنيا، {مِقْدَارُهُ}: أن لو سير فيه السير المعروف من البشر {أَلْفَ سَنَةٍ }، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وقالمجاهد أيضاً: الضمير في مقداره عائد على التدبير، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر.وقال مجاهد أيضاً: يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا، وهو اليوم عنده، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها.فالمعنى: أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخر، لأن عاقبة الأمور إليه. وقيل: المعنى يدبره في الدنيا إلىأن تقوم الساعة، فينزل القضاء والقدر، ثم تعرج إليه يوم القيامة، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم، حيثينقطع أمر الأمراء، أو أحكام الحكام، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة، وهو على الكفار قدر خسمينألف سنة حسبما في سورة سأل سائل، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل منالسماء إلى الأرض، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل، وذلك في وقت هو فيالحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهويوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. قال الزمخشري: وبداية الأمر المأمور به منالطاعات والأعمال الصالحة، ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاًكما يريده ويرتضيه، إلا في مدة متطاولة، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعودإلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }. انتهى. وقيل: يدبر أمر الشمس في طلوعها منالمشرق وغروبها في المغرب، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب، وترجعإلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة. والضمير في {إِلَيْهِ } عائد إلى السماء، لأنها تذكر؛وقيل: إلى الله. وقال عبد الله بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل للرياح، والجنود وميكائيل للقطر والماء، وملك الموتلقبض الأرواح، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم. وقيل: العرش موضع التدبير، وما دونه موضع التفصيل، وما دون السموات موضع التعريف. وقالالسدي: الأمر: الوحي. وقال مقاتل: القضاء. وقال غيرهما: أمر الدنيا. قال الزجاج: تقول عرجت في السلم أعرج، وعرج الرجل يعرجإذا صار أعرج. وقرأ ابن أبي عبلة: {يَعْرُجُ } مبنياً للمفعول؛ والجمهور: مبنياً للفاعل. قال أبو عبد الله الرازي: وفيهذا لطيفة، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك؛ وذكر هنا عالم الأرواحوالأمر بقوله: {يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ }، والروح من عالم الأمر، كما قال:

{ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى }

وأشار إلىدوامه بلفظ يوهم الزمان. والمراد دوام النفاد، كما يقال في العرف: طال زمان فلان، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة.فأشار إلى عظمة الملك بالمكان، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه، والزمان بحكمه وأمره. انتهى. وهو كلامليس جارياً على فهم العرب. وقرأ الجمهور: {مّمَّا تَعُدُّونَ }، بتاء الخطاب. وقرأ السلمي، وابن وثاب، والأعمش، والحسن: بياء الغيبة،بخلاف عن الحسن. وقرأ جناح بن حبيش: ثم تعرج الملائكة، بزيادة الملائكة، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.{ذٰلِكَ }: أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير، {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ }: والغيب الآخرة، {وَٱلشَّهَـٰدَةِ }: الدنيا، أو الغيب: ما غابعن المخلوقين، والشهادة: ما شوهد من الأشياء، قولان. وقرأ زيد بن علي: {عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }: بخفض الأوصافالثلاثة؛ وأبو زيد النحوي: بخفض {ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }. وقرأ الجمهور: برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك، أو الأول خبر والاثنانوصفان، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر، وهو فاعل بيعرج، أي ثم يعرج إليه ذلك، أي الأمر المدبر،ويكون عالم وما بعده بدلاً من الضمير في إليه. وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر، والعزيز الرحيمبالخفض بدل من الضمير في إليه. وقرأ الجمهور: خلقه، بفتح اللام، فعلاً ماضياً صفة لكل أو لشيء. وقرأ العربيان، وابنكثير: بسكون اللام، والظاهر أنه بدل اشتمال، والمبدل منه كل، أي أحسن خلق كل شيء، فالضمير في خلقه عائد علىكل. وقيل: الضمير في خلقه عائد على الله، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة، كقوله:

{ صِبْغَةَ ٱللَّهِ }

وهو قول سيبويه، أي خلقه خلقاً. ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو أكثر من إضافتهإلى المفعول، وبأنه أبلغ في الامتنان، لأنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء }، كأن أبلغ من: أحسن خلق كل شيء،لأنه قد يحسن الخلق، وهو المجاز له، ولا يكون الشيء في نفسه حسناً. فإذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء }، اقتضىأن كل شيء خلقه حسن، بمعنى: أنه وضع كل شيء في موضعه. انتهى. وقيل: في هذا الوجه، وهو عودالضمير في خلقه على الله، يكون بدلاً من كل شيء، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة. ومعنى {أَحْسَنُ }:حسن، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة. فالمخلوقات كلها حسنة، وإن تفاوتت في الحسن،وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها. ولهذا قال ابن عباس: ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة. وعلى قراءة منسكن لام خلقه، قال مجاهد: أعطى كل جنس شكله، والمعنى: خلق كل شيء على شكله الذي خصه به. وقال الفراء:ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه، كأنه أعلمهم ذلك، فيكون كقوله:

{ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ }

وقرأ الجمهور:بدأ بالهمز؛ والزهري: بالألف بدلاً من الهمزة، وليس بقياس أن يقول في هدأ: هدا، بإبدال الهمزة ألفاً، بل قياس هذهالهمزة التسهيل بين بين؛ على أن الأخفش حكى في قرأت: قريت ونظائره. وقيل: وهي لغية؛ والأنصار تقول في بدأ: بدى،بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وهي لغة لطي. يقولون في فعل هذا نحو بقى: بقأ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهريعلى هذه اللغة أصله بدى، ثم صار بدأ، أو على لغة الأنصار. وقال ابن رواحة

: باسم الإله وبه بدينا     ولو عبدنا غيره شقينا {

وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَـٰنِ }:هو آدم، عليه الصلاة والسلام. {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ }: أي ذريته. نسل من الشيء: انفصل منه. {ثُمَّ سَوَّاهُ }: قومهوأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب، لا يعلم حقيقته إلا هو، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلقإلى خالق تعالى. {وَجَعَلَ لَكُمُ }: التفات، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب، وتعديد للنعم، وهي شاملةلآدم؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته. والظاهر أن {وَقَالُواْ }، الضمير لجمع، وقيل: القائل أبيّ بن خلف،وأسند إلى الجمع لرضاهم به، والناصب للظرف محذوف يدل عليه {*أئنا} وما بعدها تقديره انبعث. {أَءذَا ضَلَلْنَا }، ومن قرأإذا بغير استفهام، فجواب إذا محذوف، أي: إذا ضللنا في الأرض نبعث، ويكون إخباراً منهم على طريق الاستهزاء. وكذلك منقرأ: إنا على الخبر، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر. وقرأ الجمهور: بفتح اللام، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة، وهي اللغةالشهيرة الفصحية، وهي لغة نجد. قال مجاهد: هلكنا، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك، وأصله من:ضل الماء في اللبن، إذا ذهب. وقال قطرب: ضللنا: غبنا في الأرض، وأنشد قول النابغة الذبياني

: فآب مضلوه بعين جلية     وغودر بالجولان حزم ونائل

وقرأ يحيـى بن يعمر،وابن محيصن، وأبو رجاء، وطلحة، وابن وثاب: بكسر اللام، والمضارع بفتحها، وهي لغة أبي العالية. وقرأ أبو حيوة: ضللنا، بالضادالمنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة، ورويت عن علي. وقرأ علي، وابن عباس، والحسن، والأعمش، وأبان ين سعيد بن العاص: صللنا،بالصاد المهملة وفتح اللام، ومعناه: أنتنا. وعن الحسن: صللنا، بكسر اللام، يقال: صل يصل، بفتح العين في الماضي وكسرها فيالمضارع؛ وصل يصل: بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع؛ وأصل يصل، بالهمزة على وزن أفعل. قال الشاعر

: تلجلج مضغة فيها أبيض     أصلت فهي تحت الكشح داء

وقال الفراء:معناه صرنا بين الصلة، وهي الأرض اليابسة الصلبة. وقال النحاس: لا نعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال: أصل اللحم وصل،وأخم وخم إذ أنتن، وحكاه غيره. {بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كَـٰفِرُونَ }: جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه. ثم أمرهتعالى أن يخبرهم بجملة الحال غبر مفصلة، من قبض أرواحهم، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث. و{مَـٰلِكَ * ٱلْمَوْتُ }:اسمه عزرائيل، ومعناه عبد الله. وقرأ الجمهور: {تُرْجَعُونَ }، مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي: مبنياً للفاعل. {وَلَوْ تَرَى }:الظاهر أنه خطاب للرسول، وقيل: له ولأمته، أي: يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. وقال أبو العباس: المعنىيا محمد قل للمجرم. {وَلَوْ تَرَى }: رأى أن الجملة معطوفة على {يَتَوَفَّـٰكُم }، داخلة تحت {قُلْ }، فلذلك لميجعله خطاباً للرسول. والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، والجوابمحذوف، أي لرأيت أسوأ حال يرى. ولو تعليق في الماضي، وإذ ظرف للماضي، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعاً أتى بهما تنزيلاًمنزلة الماضي. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله، وفيه وجهان: أحدهما: أن يراد به التمني، كأن قيل: وليتكترى، والتمني له، كما كان الترجي له في: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل اللهله، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون لو امتناعية، وقد جوابها،وهو: لرأيت أمراً فظيعاً. ويجوز أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليهأساء إليك، فلا يريد به مخاطباً بعينه، وكأنك قلت: إن أكرم وإن أحسن إليه. انتهى. والتمني بلو في هذا الموضعبعيد، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره، وهي عبارة سيبويه، وقوله قدحذف جوابها وتقديره: وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها، والصحيح أنها إذا أشربت معنىالتمني، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه. قال الشاعر

: فلو نبش المقابر عن كليب     فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعشمين لقر عينا

وقال الزمخشري: وقد تجيء لو في معنى التمني، كقولك: لو تأتيني فتحدثني، كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني.فقال ابن مالك: إن أراد به الحذف، أي وددت لو تأتيني فصحيح، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح، لأنهالو كانت موضوعة له، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني. لا يقال: تمنيت ليتك تفعل، ويجوز: تمنيت لوتقوم. وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي، وبين إلا واستثنى. انتهى. {نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ }: مطرقوها، من الذل والحزن والهم والغم. وقرأ زيد بن علي: نكسوا رؤوسهم، فعلاً ماضياً ومفعولاً؛ والجمهور: اسم فاعل مضاف. {عِندَ رَبّهِمْ }: أي عند مجازاته،وهو مكان شدة الخجل، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل. {رَبَّنَا }: على إضماريقولون، وقدره الزمخشري: يستغيثون بقولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا } ما كنا نكذب؛ {وَسَمِعْنَا }: ما كنا ننكر؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك،وسمعنا تصديق رسلك، وكنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا، فارجعنا إلى الدنيا. {إِنَّا مُوقِنُونَ }: أي بالبعث. قاله النقاش؛ وقيل: مصدقونبالذي قال الرسول، قاله يحيـى بن سلام. وموقنون: مشعر بالالتباس في الحال، أي حين أبصروا وسمعوا. وقيل: موقنون: زالت الآنعنا الشكوك، ولم نكن في الدنيا نتدبر، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع. وقيل: لك الحجة، ربنا قد أبصرنا رسلكوعجائب في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا، وهذا اعتراف منهم. {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّٱلْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا إِنَّا نَسِينَـٰكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِبِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـئَايَـٰتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ *تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِأَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ * أَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِفَلَهُمْ جَنَّـٰتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَاوَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ }.

{ لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا }

أي اخترعنا الإيمان فيها، كقوله:

{ أَن لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعًا }

و

{ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }

و

{ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً }

وقال الزمخشري: على طريق الإلجاء والقسر، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقتكلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر. ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ }؟فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعني: أنالانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها. ثم قال: {إِنَّا نَسِينَـٰكُمْ } على المقابلة: أي جازيناكمجزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، قاله ابن عباس وغيره، أي تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. انتهى. وقوله:على طريق الإلجاء والقسر، هو قول المعتزلة. وقالت الإمامية: يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقبأحداً، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله هداية الكل إليها. قالوا: بل الواجب هداية المعصومين؛فأما من له ذنب، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداهاإلى الإيمان. انتهى. و{هَـٰذَا }: صفة ليومكم، ومفعول {فَذُوقُواْ } محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم {لِقَاء يَوْمِكُمْهَـٰذَا }، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله:{إِنَّا نَسِينَـٰكُمْ }، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم. {وَإِنَّمَا * يُؤْمِنُ بِـئَايَـٰتِنَا }: أثنى تعالىعلى المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى، من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عنالتذكير، وقول الهجر، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن. وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع. وروي عنابن جريج: المسجد مكان الركوع، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أنالقارىء للسجدة يركع، واستدل بقوله:

{ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }

{تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ }: أي ترتفع وتتنحى، يقال: جفا الرجل الموضع:تركه. قال عبد الله بن رواحة

: نبي تجافى جنبه عن فراشه     إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وقال الزجاج والرماني: التجافي: التنحي إلى جهة فوق. والمضاجع: أماكن الاتكاء للنوم، الواحد مضجع، أيهم منتبهون لا يعرفون نوماً. وقال الجمهور: المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبيالعالية وغيرهم. وفي الحديث، ذكر قيام الليل، ثم استشهد بالآية، يعني الرسول. وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك: تجافي الجنب: هوأن يصلي العشاء والصبح في جماعة. وقال الحسن: هو التهجد؛ وقال أيضاً: هو وعطاء: هو العتمة. وفي الترمذي، عن أنس:نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال قتادة، وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والشعاء، {يَدَّعُونَ }: حال، أو مستأنفخوفاً وطمعاً، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال. والظاهر أن الدعاء هو: الابتهال إلى الله، وقيل: الصلاة.وقرأ الجمهور: {مَّا أُخْفِىَ لَهُم }، فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول؛ وحمزة، والأعمش، ويعقوب: بسكون الياء، فعلاً مضارعاً للمتكلم؛ وابن مسعود:وما نخفي، بنون العظمة؛ والأعمش أيضاً: أخفيت. وقرأ محمد بن كعب: ما أخفي، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور: {مّنقُرَّةِ }، على الإفراد. وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعوف العقيلي: من قرات، على الجمع بالألف والتاء، وهيرواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و{مَّا أُخْفِىَ } يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون {تَعْلَمْ } متعلقة. والجملةفي موضع المفعول، إن كان {تَعْلَمْ } مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين، وتقدم تفسيره في

{ قُرَّةُ عَيْنٍ }

في طه وفي الحديث، قال النبي : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عينرأت ولا أذن سمعت إلى آخره. {وَلاَ * تَعْلَمُ نَفْسٌ }: نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرالله تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغالأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن: أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولاأذن سمعت. {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري: فحسم أطماع المتمنين. انتهى، وهذه نزغة اعتزالية. {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً }، قال ابن عباس وعطاء: نزلت في علي والوليد بن عقبة. تلاحماً،فقال له الوليد: أنا أذلق منك لساناً، وأحد سناناً، وأرد للكتيبة. فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق. قال الزمخشري: فنزلتعامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج، والنحاس: نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط. فعلىهذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدنية، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر. والجمع في {لاَّ يَسْتَوُونَ }،والتقسيم بعده، حمل على معنى من. وقيل: {لاَّ يَسْتَوُونَ } لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع. وقال الزجاج: ونزول الآيةفي علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد. والجمهور: {جَنَّـٰتُ } بالجمع. وقيل: سميت بذلك لماروي عن ابن عباس، قال: يأوي إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور: {نُزُلاً } بضم الزاي؛وأبو حيوة: بإسكانها. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عاماً فيما يعد للضيف. {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ }: أي بالكفر، {فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ}. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله:

{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

انتهى وهذا فيه بعد. وإنما يذهب إلى مثل {فَبَشّرْهُم } إذا كان مصرحاً به فيقول: قام مقام التبشيرالعذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئاً لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتىيحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد. و{ٱلْعَذَابِ ٱلاْدْنَىٰ }، قال أبيّ، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد: مصائب الدنيا فيالأنفس والأموال. وقال ابن مسعود، والحسن بن علي: هو القتل بالسيف، نحو يوم بدر. وقال مجاهد: القتل والجوع لقريش، وعنه:إنه عذاب القبر. وقال النخعي، ومقاتل: هو السنون التي أجاعهم الله فيها. وقال ابن عباس أيضاً: هو الحدود. وقال أبيّأيضاً: هو البطشة واللزام والدخان. و{ٱلْعَذَابَ ٱلاْكْبَرَ }، قال ابن عطية: لا خلاف أنه عذاب الآخرة. وفي التحرير وأكثرهم علىأن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل: هو القتل والسبي والأسر. وعن جعفر بن محمد: أنه خروج المهديبالسيف. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، قال ابن مسعود: لعل من بقي منهم يتوب. وقال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال مقاتل: يرجعونعن الكفر إلى الإيمان. وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله: {فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً }. وسميت إرادة الرجوع رجوعاً، كما سميتإرادة القيام قياماً في قوله تعالى:

{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى الصلاة فاغتسلوا }

انتهى. ويقابل الأدنى: الأبعد،والأكبر: الأصغر. لكن الأدنى يتضمن الأصغر، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف، إنما يصلح بما هو قريب، وهو العذاب العاجل. والأكبريتضمن الأبعد، لأنه واقع في الآخرة، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته، فحصلت المقابلة من حيث التضمن، وخرج فيكل منهما بما هو آكد في التخويف. وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل منالله إرادة، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكونلم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان، ولم يمنعللاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقدرها فحكمهاحكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدحفي اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك، وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، فلم يكن بعده دالاً علىعجزك. انتهى، وهو على مذهب المعتزلة، وقد ردّ عليهم أهل السنة، وذلك مقرر في علم الكلام. {مِمَّن ذُكّرَ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا }، بخلاف المؤمنين، إذا ذكروا بها خروا سجداً. {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا }، قال الزمخشري: ثم للاستبعاد، والمعنى:أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعدفي العقل؛ والعادة، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة، ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز، ومنه ثم في بيتالشاعر

: ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة    

يرى غمرات الموت ثم يزورهااستبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى. {مِنَ ٱلْمُرْجُومِينَ }: عام في كل منأجرم، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم؛ والإجرام هنا: هو: الكفر. وقال يزيد بن رفيع: هي في أهلالقدر، وقرأ: {إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ } إلى قوله:

{ بِقَدَرٍ }

وفي الحديث: ثلاث من كن فيه فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالماً {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ فَلاَ تَكُن فِىمِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ وَجَعَلْنَـٰهُ هُدًى * لِنَبِىّ * إِسْرٰءيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً * يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَبِأَمْرِنَا لَمَّا * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * أَوَ لَمْ * يَهْدِ لَهُمْكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ * أَوَ لَمْ * يَرَوْاْأَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَاء إِلَى ٱلاْرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـٰمُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُإِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَـٰنُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْمُّنتَظِرُونَ }. لما قرر الأصوال الثلاثة: الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة التيليست بدعاً في الرسالة، إذ قد سبق قبلك رسل. وذكر موسى عليه السلام، لقرب زمانه، وإلزاماً لمن كان على دينه؛ولم يذكر عيسى، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته، وأتباع عيسى متفقون علىنبوة موسى. و{ٱلْكِتَـٰبِ }: التوراة. وقرأ الحسن: في مرية، بضم الميم، والظاهر أن الضمير عائد على موسى، مضافاً إليهعلى طريق المفعول، والفاعل محذوف ضمير الرسول، أي من لقائك موسى، أي في ليلة الإسراء، أي شاهدته حقيقة، وهو النبيالذي أوتي التوراة، وقد وصفه الرسول فقال: آدم طوال جعد، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف. وقال المبرد: حين امتحن الزجاج بهذه المسألة. وقيل: عائد على الكتاب، فإما مضافإليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، وإما بالعكس، أي من لقاء موسى الكتابوتلقيه. وقيل: يعود على الكتاب على تقدير مضمر، أي من لقاء مثله، أي: إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى، ولقناكبمثل ما لقن من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره، ونحوه من لقائه قوله: {وَإِنَّكَلَتُلَقَّى ٱلْقُرْءانَ }. وقال الحسن: يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى، وذلك إن إخباره بأنهآتى موسى الكتاب كأنه قال: ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هومن المحنة بالناس. انتهى، وهذا قول بعيد. وأبعد من هذا، من جعله عائداً على ملك الموت الذي تقدم ذكره، والجملةاعتراضية. وقيل: عائد على الرجوع إلى الآخرة، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: {ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ }. {فَلاَ تَكُنفِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ }: أي من لقاء البعث، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها، ولكن نقلهاالمفسرون، فاتبعناهم. والضمير في {وَجَعَلْنَـٰهُ } لموسى، وهو قول قتادة. وقيل: للكتاب، جعله هادياً من الضلالة؛ وخص بني إسرائيل بالذكر،لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ }: أي من بني إسرائيل، {أَئِمَّةَ }: قادة يقتدى بهم. وقرأالجمهور: {لَمَّا صَبَرُواْ }، بفتح اللام وشد الميم. وعبد الله وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، ورويس: بكسر اللام وتخفيف الميم. {وَكَانُواْ}: يحتمل أن يكون معطوفاً على {صَبَرُواْ }، فيكون داخلاً في التعليق. ويحتمل أن يكون عطفاً على {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ }.وقرأ عبد الله أيضاً: بما صبروا، بباء الجر، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل. والفصل: يوم القيامة يعمالخلق كلهم. {أَوَ لَمْ * يَهْدِ لَهُمْ }: تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعراباً وقراءة وتفسيراً في طه، إلاأن هنا: {مِن قَبْلِهِمُ } والقوم {يَسْمَعُونَ }، وهناك: {قَبْلَهُمْ }، و

{ لاِوْلِى }

ويسمعون، والنهي من الفواصل.{أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَاء }: أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا، ثم أقامهاعليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث، وتقدّم تفسير {ٱلْجُرُزِ } في الكهف، وكل أرض جزر داخلة في هذا، فلا تخصيصلها بمكان معين. وقال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر. وقرىء: الجرز، بسكونالراء. {فَنُخْرِجُ بِهِ }: أي بالماء، وخص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشبالمنتفع به في الطب وغيره، تشريفاً للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات. وقدمت الأنعام، لأنما ينبت يأكله الأنعام أول فأول، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب. ألا ترى أن القصيل، وهو شعير يزرع،تأكله الأنعام قبل أن يسبل؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع، أولأنه غذاء الدواب، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف، وهم بنو آدم.وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية: يأكل، بالياء من أسفل. وقرأ الجمهور: {يُبْصِرُونَ }، بياء الغيبة؛ وابن مسعود: بتاءالخطاب. وجاءت الفاصلة: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ }، لأن ما سبق مرئي، وفي الآية قبله مسموع، فناسب: {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ }. ثم أخبرتعالى عن الكفرة، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب. و{ٱلْفَتْحُ }: الحكم، قاله الجمهور، وهو الذييترتب عليه قوله: {قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ } الخ، ويضعف قول الحسن ومجاهد: فتح مكة، لعدم مطابقته لما بعده، لأن منآمن يوم فتح مكة، إيمانه ينفعه، وكذا قول من قال: يوم بدر. {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }: أي لا يؤخرون عنالعذاب. ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء، وقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأن قد حصلتم فيذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في حلول العذاب، فلم تنظروا، فيوم منصوب بلا ينفع. ثم أمر بالإعراض عنهموانتظار النصر عليهم والظفر بهم. {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } للغلبة عليكم لقوله:

{ فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ }

وقيل: إنهم منتظرونالعذاب، أي هذا حكمهم، وإن كانوا لا يشعرون. وقرأ اليماني: منتظرون، بفتح الظاء، اسم مفعول؛ والجمهور: بكسرها، اسم فاعل، أيمنتظر هلاكهم، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم، يعني: إنهم هالكون لا محالة، أو: وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.