تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الضحى


بسم الله الرحمن الرحيم

{ وَٱلضُّحَىٰ } * { وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } * { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } * { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } * { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } * { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } * { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } * { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ } * { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } * { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } * { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }

سجا الليل: أدبر، وقيل: أقبل، ومنه:

يا حبذا القمراء والليل الساج     وطرق مثل ملاء النساج

وبحر ساج: ساكن، قال الأعشى:

وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم     وبحرك ساج لا يوارى الدعامصا

وطرف ساج: غيره مضطرب بالنظر. وقال الفراء: سجا الليل: أظلم وركد.وقال ابن الأعرابي: سجا الليل: اشتد ظلامه. {وَٱلضُّحَىٰ * وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلاْولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا ٱلسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ }.هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها

{ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلاْتْقَى }

، وكان سيد الأتقين رسول الله ، ذكرتعالى هنا نعمه عليه. وقرأ الجمهور {مَا وَدَّعَكَ } بتشديد الدال؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحريةوابن أبي عبلة: بخفها، أي ما تركك. واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر، وعن اسم فاعلهما بتارك،وعن اسم مفعولهما بمتروك، وعن مصدرهما بالترك، وقد سمع ودع ووذر. قال أبو الأسود:

ليت شعري عن خليلي ما الذي     غاله في الحب حتى ودعه

وقال آخر:

وثم ودعنا آل عمرو وعامر     فرائس أطراف المثقفة السمر

والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. {وَمَا قَلَىٰ}: ما أبغضك، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصاراً في {قَلَىٰ }، وفي{فَاوَىٰ } وفي {فَهَدَىٰ }، وفي {فَأَغْنَىٰ }، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول . قالابن عباس وغيره: أبطأ الوحي مرة على الرسول وهو بمكة، حتى شق ذلك عليه، فقالت أمجميل، امرأة أبي لهب: يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك؟ فنزلت. وقال زيد بن أسلم: إنما احتبس عنه جبريلعليه السلام لجرو كلب كان في بيته. {وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلاْولَىٰ }: يريد الدارين، قاله ابن إسحاق وغيره.ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها، وعده تعالى بالنصر والظفر، قاله ابن عطية اهتمالاً. وقال الزمخشري: فإن قلت:كيف اتصل قوله: {وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلاْولَىٰ } بما قبله؟ قلت: لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أنالله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، ولا نعمة أجل منه، أخبره أن حالهفي الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفعدرجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته. {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ }، قال الجمهور: ذلك في الآخرة. وقال ابن عباس: رضاه أنلا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال أيضاً: رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه منالنعم والخدم. وقيل: في الدنيا بفتح مكة وغيره، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر، ولماادخر له من الثواب. واللام في {وَلَلاْخِرَةُ } لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، وكذا في {وَلَسَوْفَ } على إضمار مبتدأ،أي ولأنت سوف يعطيك. ولما وعده هذا الموعود الجليل، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته. {أَلَمْ يَجِدْكَ }: يعلمك،{يَتِيماً }: توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابنثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته. وقيل لجعفر الصادق: لم يتم النبي من أبويه؟فقال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق. قال الزمخشري: ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة، وأن المعنى: ألم يجدكواحداً في قريش عديم النظير فآواك، انتهى. وقرأ الجمهور: {فَاوَىٰ } رباعياً؛ وأبو الأشهب العقيلي: فأوى ثلاثياً، بمعنى رحم. تقول:أويت لفلان: أي رحمته، ومنه قول الشاعر:

أراني ولا كفران لله أنه     لنفسي قد طالبت غير منيل

{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ }: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك. قالابن عباس: هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب. وقيل: ضلاله منحليمة مرضعته. وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوزنسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور: {وَوَجَدَكَ }،أي وجد رهطك، {ضَالاًّ }، فهداه بك. ثم أقول: على حذف مضاف، نحو: {وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ }. وقرأ الجمهور: {عَائِلاً }:أي فقيراً. قال جرير:

الله نزل في الكتاب فريضة     لابن السبيل وللفقير العائل

كرر لاختلاف اللفظ. وقرأ اليماني: عيّلاً، كسيّدٍ، بتشديد الياء المكسورة، ومنه قول أجيحة بن الحلاج:

وما يدري الفقير متى غناه     وما يدري الغني متى يعيل

عال: افتقر، وأعال: كثر عياله. قال مقاتل: {فَأَغْنَىٰ} رضاك بما أعطاك من الرزق. وقيل: أغناك بالقناعة والصبر. وقيل: بالكفاف. ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث، وصاه بثلاثكأنها مقابلة لها. {فَلاَ تَقْهَرْ }، قال مجاهد: لا تحتقر. وقال ابن سلام: لا تستزله. وقال سفيان: لا تظلمه بتضييعماله. وقال الفراء: لا تمنعه حقه، والقهر هو التسليط بما يؤذي. وقرأ الجمهور: {تَقْهَرْ } بالقاف؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي:بالكاف بدل القاف، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور. {وَأَمَّا ٱلسَّائِلَ }: ظاهره المستعطي، {فَلاَ تَنْهَرْ }: أي تزجره، لكن أعطهأو رده رداً جميلاً. وقال قتادة: لا تغلظ عليه، وهذه في مقابلة {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ }؛ فالسائل، كما قلنا: المستعطي،وقاله الفراء وجماعة. وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما: السائل هنا: السائل عن العلم والدين، لا سائل المال، فيكون بإزاء {وَوَجَدَكَضَالاًّ فَهَدَىٰ }. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ }، قال مجاهد والكلبي: معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به. وقالمحمد بن إسحاق: هي النبوة. وقال آخرون: هي عموم في جميع النعم. وقال الزمخشري: التحديث بالنعم: شكرها وإشاعتها، يريد ماذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك، انتهى. ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة، أمرهبثلاثة: فذكر اليتيم أولاً وهي البداية، ثم ذكر السائل ثانياً وهو العائل، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية،فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف،وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عز وجل في القول والفعل والعقيدة، فكان ذكر الامتنانبذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف، فهما مقصدان في الخطاب.