تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الفلق


بسم الله الرحمن الرحيم

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } * { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } * { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } * { وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ } * { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }

الفلق: فعل بمعنى مفعول، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى.وقب الليل: أظلم؛ والشمس: غابت، والعذاب: حل. قال الشاعر:

وقب العذاب عليهم فكأنهم     لحقتهم نار السموم فأحصدوا

النفث: شبه النفخ دون تفل بريق، قاله ابن عطية: وقيل: نفخ بريق معه، قاله الزمخشري. وقال صاحب اللوامح: شبه النفخ من الفم في الرقبة ولا ريق معه، فإذا كان بريق فهو التفل. قال الشاعر:

فإن أبرأ فلم أنفث عليه     وإن يفقد فحق له الفقود

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ * مِن شَرّمَا خَلَقَ * وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرّ ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ فِى ٱلْعُقَدِ * وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. ورواية كريب عن ابن عباس مدنية، في قول ابنعباس في رواية صالح وقتادة وجماعة. قيل: وهو الصحيح. وسبب نزول المعوّذتين قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله، وهو جف، والجف قشر الطلع فيه مشاطة رأسه عليه الصلاة والسلام وأسنان مشطه، ووتر معقود فيهإحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه المعوّذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد فينفسه خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام فكأنما نشط من عقال. ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها، شرح مايستعاذ منه بالله من الشرّ الذي في العالم ومراتب مخلوقاته. والفلق: الصبح، قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهدوقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد، وفي المثل: هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح، وقال الشاعر:

يا ليلة لم أنمها بت مرتقبا     أرعى النجوم إلى أن قدّر الفلق

وقال الشاعر يصف الثور الوحشي:

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق     هاديه في أخريات الليل منتصب

وقيل: الفلق: كلما يفلقه اللهتعالى، كالأرض والنبات والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك. وقال ابن عباس أيضاًوجماعة من الصحابة والتابعين: الفلق: جب في جهنم، ورواه أبو هريرة عن رسول الله وقالوا: لمااطمأن من الأرض الفلق، وجمعه فلقان. وقيل: واد في جهنم. وقال بعض الصحابة: بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميعأهل النار من شدّة حره. وقرأ الجمهور: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ }، بإضافة شر إلى ما، وما عام يدخلفيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد، كالإحراق بالنار، والإغراق بالبحر، والقتل بالسم. وقرأ عمروبن فايد: من شر بالتنوين. وقال ابن عطية: وقرأ عمرو بن عبيد، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلقالشر: من شر بالتنوين، ما خلق على النفي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، الله خالق كل شيء، ولهذهالقراءة وجه غير النفي، فلا ينبغي أن ترد، وهو أن يكون {مَا خَلَقَ } بدلاً من {شَرُّ } على تقديرمحذوف، أي من شرّ شر ما خلق، فحذف لدلالة شر الأول عليه، أطلق أولاً ثم عمّ ثانياً. والغاسق: الليل، ووقب:أظلم ودخل على الناس، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، وزمّكه الزمخشري على عادته فقال: والغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه. منقوله تعالى: { أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ إلى غسق الليل } ، ومنه: غسقت العين: امتلأت دمعاً، وغسقت الجراحة: امتلأت دماً، ووقوبه: دخول ظلامهفي كل شيء، انتهى. وقال الزجاج: هو الليل لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد، استعيذ من شره لأنه فيه تنبثالشياطين والهوام والحشرات وأهل الفتك. قال الشاعر:

يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا     إذ جئتنا طارقاً والليل قد غسقا

وقال محمد بن كعب: النهار دخل في الليل. وقال ابن شهاب: المراد بالغاسق: الشمس إذا غربت.وقال القتبي وغيره: هو القمر إذا دخل في ساهوره فخسف. وفي الحديث: نظر إلى القمر فقال: يا عائشة، نعوذ بالله من هذا، فإنه الفاسق إذا وقب . وعنه : الغاسق النجم . وقال ابن زيدعن العرب: الغاسق: الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عند ذلك. وقيل: الحية إذا لدغت، والغاسق سم نابها لأنهيسيل منه. والنفاثات: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر، يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين. وقرأ الجمهور: {ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ }؛والحسن: بضم النون، وابن عمر والحسن أيضاً وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات؛ والحسن أيضاً وأبو الربيع: النفثاتبغير ألف، نحو الخدرات. والاستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله تعالى به من الشر عند فعلهن ذلك. وسببنزول هاتين المعوذتين ينفي ما تأوله الزمخشري من قوله: ويجوز أن يراد به النساء ذات الكيادات من قوله: { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } ، تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم، وعرضهنّ محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك، انتهى.وقال ابن عطية: وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذي بذلك، وهذا الشأنفي زماننا موجود شائع في صحرا المغرب. وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقدت فيه عقد علىفصلان، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع، انتهى.وقيل: الغاسق والحاسد بالطرف، لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون منسوباً إليه، وكذا كل ما فسر به الغاسق. وكذلكالحاسد، لا يؤثر حسده إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه. أما إذا لم يظهر الحسد، فإنما يتأذى به هولا المحسود، لاغتمامه بنعمة غيره. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهار أثره،انتهى. وعم أولاً فقال: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ }، ثم خص هذه لخفاء شرها، إذ يجيء من حيث لا يعلم،وقالوا: شر العداة المراجي بكيدك من حيث لا تشعر، ونكر غاسق وحاسد وعرف النفاثات، لأن كل نفاثة شريرة، وكل غاسقلا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر. ورب حسد محمود، وهو الحسدفي الخيرات، ومنه: لا حسد إلا في اثنتين، ومنه قول أبي تمام:

ومـا حاسد في المكرمـات بحاسـد    

وقال آخر:

إن الغـلا حسن في مثلهـا الحسـد    

وقول المنظور إليه للحاسد، إذا نظر الخمس على عينيك يعني به هذه السورة، لأنها خمسآيات، وعين الحاسد في الغالب واقعة نعوذ بالله من شرها.