تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة القدر


بسم الله الرحمن الرحيم

{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ } * { لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } * { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } * { سَلاَمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ }

{إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ * لَيْلَةُٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ * سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِٱلْفَجْرِ }. هذه السورة مدنية في قول الأكثر. وحكى الماوردي عكسية. وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وفي الحديث: «أن أربعة عبدوا الله تعالى ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين: أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع»، فعجب الصحابة من ذلك،فقرأ: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } السورة، فسروا بذلك. ومناسبتها لما قبلها ظاهر. لما قال: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } ،فكأنه قال: اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا، {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ }، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى، وهو ضمير القرآن. قال ابن عباس وغيره: أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة، ثم نجمه علىمحمد في عشرين سنة. وقال الشعبي وغيره: إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر.وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان. وقيل المعنى: إنا أنزلنا هذه السورة في شأنليلة القدر وفضلها. ولما كانت السورة من القرآن، جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً، فليست ليلة القدر ظرفاً للنزول، بل علىنحو قول عمر رضي الله تعالى عنه: لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة: لأنا أحقر في نفسي منأن ينزل فيّ قرآن. وقال الزمخشري: عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصاً به، ومن مجيئه بضميره دون اسمهالظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وسميتليلة القدر، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وقالالزهري: معناه ليلة القدر العظيم والشرف، وعظم الشأن من قولك: رجل له قدر. وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأنهاتكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل، وترده عظيماً عند الله تعالى. وقيل: سميت بذلك لأن كل العملفيها له قدر وخطر. وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر. وقيل: لأنهينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر. وقيل: لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة،كقوله: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ، أي ضيق. وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافاً متعارضاً جداً، وبعضهم قال:رفعت، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع، وأن العشر الأخير تكون فيه، وأنها في أوتاره، كما قال عليه الصلاةوالسلام: التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة . وفي الصحيح: من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه . {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ }: تفخيم لشأنها، أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها، ثم بين له ذلك.قال سفيان بن عيينة: ما كان في القرآن {وَمَا أَدْرَاكَ }، فقد أعلمه، وما قال: وما يدريك، فإنه لم يعلمه.قيل: وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها. والظاهر أن {أَلْفِ شَهْرٍ} يراد به حقيقة العدد، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام. والحسن: في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور،والمراد: {خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } عار من ليلة القدر، وعلى هذا أكثر المفسرين. وقال أبو العالية: {خَيْرٌ مّنْ أَلْفِشَهْرٍ }: رمضان لا يكون فيها ليلة القدر. وقيل: المعنى خير من الدهر كله، لأن العرب تذكر الألف في غايةالأشياء كلها، قال تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ  ، يعني جميع الدهر. وعوتب الحسن بن عليّ على تسليمهالأمر لمعاوية فقال: إن الله تعالى أرى في المنام نبيه بني أمية ينزون على مقبرة نزوالقردة، فاهتم لذلك، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وهي خير من مدة ملوك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدرمن الزمان. قال القاسم بن الفضل الجذامي: فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً. وخرج قريباً من معناهالترمذي وقال: حديث غريب، انتهى. وقيل: آخر ملوكهم مروان الجعدي في آخر هذا القدر من الزمان، ولا يعارض هذا تملكبني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه، لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، بحيث كان فيإقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم. وذكر أيضاً في تخصيص هذه المدة أن رسول الله ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم، فأعطوا ليلةهي خير من مدة ذلك الغازي. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالىألف شهر، فأعطوا ليلة، إن أحيوها، كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. وقال أبو بكر الوراق: ملك كلمن سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة، فصار ألف شهر، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما.{تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ }: تقدم الخلاف في الروح، أهو جبريل، أم رحمة ينزل بها، أم ملك غيره، أم أشرفالملائكة، أم جند من غيرهم، أم حفظة على غيرهم من الملائكة؟ والتنزل إما إلى الأرض، وإما إلى سماء الدنيا. {بِإِذْنِرَبّهِمْ }: متعلق بتنزل {مّن كُلّ أَمْرٍ }: متعلق بتنزل ومن للسبب، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه اللهلتلك السنة إلى قابل. {وَسَلَـٰمٌ }: مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي، أي هي سلام إلى أول يومها، قاله أبوالعالية ونافع المقري والفراء، وهذا على قول من قال: إن تنزلهم التقدير: الأمور لهم. وقال أبو حاتم: من بمعنى الباء،أي بكل أمر؛ وابن عباس وعكرمة والكلبي: من كل امرىء، أي من أجل كل إنسان. وقيل: يراد بكل امرىء الملائكة،أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة. وأنكر هذا القول أبو حاتم. {سَلَـٰمٌ هِىَ }: أي هي سلام،جعلها سلاماً لكثرة السلام فيها. قيل: لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة. وقال منصور والشعبي:سلام بمعنى التحية، أي تسلم الملائكة على المؤمنين. ومن قال: تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة، جعل الكلام تاماًعند قوله: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ }. وقال: {مّن كُلّ أَمْرٍ } متعلق بقوله: {سَلَـٰمٌ هِىَ }، أي من كل أمر مخوفينبغي أن يسلم منه هي سلام. وقال مجاهد: لا يصيب أحداً فيها داء. وقال صاحب اللوامح: وقيل معناه هي سلاممن كل أمر، وأمري سالمة أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملاًفيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر. كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول، انتهى. وعنابن عباس: تم الكلام عند قوله: {سَلَـٰمٌ }، ولفظة {هِىَ } إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر، إذهذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة، انتهى. ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس، وإنما هذا منباب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى. وقرأ الجمهور: {مَطْلِعَ } بفتح اللام؛ وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابنمحيصن والكسائي وأبو عمرو: بخلاف عنه بكسرها، فقيل: هما مصدران في لغة بني تميم. وقيل: المصدر بالفتح، وموضع الطلوع بالكسرعند أهل الحجاز.