تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الكوثر


بسم الله الرحمن الرحيم

{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } * { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } * { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }

انحر: أمر من النحر، وهو ضرب النحر للإبل بما يفيت الروح منمحدود.

الأبتر: الذي لا عقب له، والبتر: القطع، بترت الشيء: قطعته، وبتر بالكسر فهو أبتر: انقطع ذنبه. وخطب زياد خطبتهالبتراء، لأنه لم يحمد فيها الله تعالى، ولا صلى على رسوله ، ورجل أباتر، بضم الهمزة: الذي يقطع رحمه، ومنه قول الشاعر:

لئيم بدت في أنفه خنزوانة     على قطع ذي القربى أجذ أباتر

والبترية: قوم من الزيديةنسبوا إلى المغيرة بن سعد ولقبه الأبتر، والله تعالى أعلم. {إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ * فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ * إِنَّشَانِئَكَ هُوَ ٱلاْبْتَرُ }. هذه السورة مكية في المشهور، وقول الجمهور: مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة. ولما ذكرفيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة، قابل في هذه السورة البخل بـ {إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ }،والسهو في الصلاة بقوله: {فَصْلٌ }، والرياء بقوله: {لِرَبّكِ }، ومنع الزكاة بقوله: {وَٱنْحَرْ }، أراد به التصدّق بلحم الأضاحي،فقابل أربعاً بأربع. ونزلت في العاصي بن وائل، كان يسمي الرسول بالأبتر، وكان يقول: دعوه إنماهو رجل أبتر لا عقب له، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه. وقرأ الجمهور: {أَعْطَيْنَـٰكَ } بالعين؛ والحسن وطلحةوابن محيصن والزعفراني: أنطيناك بالنون، وهي قراءة مروية عن رسول الله . قال التبريزي: هي لغة للعربالعاربة من أولي قريش. ومن كلامه : اليد العلياء المنطية واليد السفلى المنطاة . ومن كلامه أيضاً، عليهالصلاة والسلام: وأنطوا النيحة . وقال الأعشى:

جيادك خير جياد الملوك     تصان الحلال وتنطى السعيرا

قال أبوالفضل الرازي وأبو زكريا التبرزي: أبدل من العين نوناً؛ فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن،وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرّف من كل واحدة، فلايقول الأصل العين، ثم أبدلت النون منها. وذكر في التحرير: في الكوثر ستة وعشرين قولاً، والصحيح هو ما فسرهبه رسول الله ، فقال: هو نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم، واقتطعنامنه، قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم انتهى. قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها. وقال ابنعباس: الكوثر: الخير الكثير. وقيل لابن جبير: إن ناساً يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. وقالالحسن: الكوثر: القرآن. وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب: كثرة الأصحاب والأتباع. وقال هلال بن يساف: هو التوحيد.وقال جعفر الصادق: نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه. وقال عكرمة: النبوّة. وقال الحسن بن الفضل: تيسيرالقرآن وتخفيف الشرائع. وقال ابن كيسان: الإيثار. وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها.والكوثر فوعل من الكثرة، وهو المفرط الكثرة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر. وقالالشاعر:

وأنت كثير يا ابن مروان طيب     وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

{فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ }: الظاهر أنفصل أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل. والنحر: نحر الهدى والنسك والضحايا، قاله الجمهور؛ ولم يكن في ذلك الوقت جهادفأمر بهذين. قال أنس: كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة، فأمر أن يصلي وينحر، وقاله قتادة. وقال ابن جبير: نزلتوقت صلح الحديبية. قيل له: صل وانحر الهدى، فعلى هذا الآية من المدني. وفي قوله: {لِرَبّكِ }، تنذير بالكفار حيثكانت صلاتهم مكاء وتصدية، ونحرهم للأصنام. وعن علي، رضي الله تعالىعنه: صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك فيالصلاة. وقيل: ارفع يديك في استفتاح صلاتك عند نحرك. وعن عطية وعكرمة: هي صلاة الفجر بجمع، والنحر بمنى. وقال الضحاك:استو بين السجدتين جالساً حتى يبد ونحرك. وقال أبو الأحوص: استقبل القبلة بنحرك. {إِنَّ شَانِئَكَ }: أي مبغضك، تقدمأنه العاصي بن وائل. وقيل: أبو جهل. وقال ابن عباس: لما مات إبراهيم ابن رسول الله خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلاْبْتَرُ }. وقال شمر بن عطية:هو عقبة بن أبي معيط. وقال قتادة: الأبتر هنا يراد به الحقير الذليل. وقرأ الجمهور: {شَانِئَكَ } بالألف؛ وابن عباس:شينك بغير ألف. فقيل: مقصور من شاني، كما قالوا: برر وبر في بارر وبار. ويجوز أن يكون بناء على فعل،وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهبالبصريين. وقد قالوا: حذر أموراً ومزقون عرضي، فلا يستوحش من كونه مضافاً للمفعول، وهو مبتدأ، والأحسن الأعرف في المعنى أنيكون فصلاً، أي هو المنفرد بالبتر المخصوص به، لا رسول الله . فجميع المؤمنين أولاده، وذكره مرفوععلى المنائر والمنابر، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر. يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكره صلى اللهعليه وسلم، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف وعلى آله وشرف وكرم.