تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة المؤمنون

{ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } * { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } * { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ } * { ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ } * { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } * { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } * { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } * { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } * { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ } * { قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } * { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } * { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ } * { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } * { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } * { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } * { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } * { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } * { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } * { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } * { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } * { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } * { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } * { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ } * { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } * { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } * { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } * { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } * { فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } * { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } * { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } * { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } * { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ } * { فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } * { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ } * { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } * { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } * { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } * { لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } * { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } * { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } * { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ } * { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } * { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } * { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } * { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } * { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } * { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }

السلالة: فعالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه. وقال أمية:

خلق البرية من سلالة منتن     وإلى السلالة كلها ستعود

والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهرأبيه. قال الشاعر:

فجاءت به عصب الأديم غضنفرا     سلالة فرج كان غير حصين

وهو بناء يدلعلى القلة كالقلامة والنحاتة. سيناء وسينون: اسمان لبقعة، وجمهور العرب على فتح سين سيناء فالألف فيه للتأنيث كصحراء فيمتنع الصرفللتأنيث اللازم، وكنانة تكسر السين فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم أيضاً عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث، وعندالبصريين يمتنع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث، لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق كعلباء ودرحاء.قيل: وهو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. الدهن: عصارة الزيتون واللوز وما أشبههما مما فيه دسم، والدهن: بفتح الدالمسح الشيء بالدهن. هيهات: اسم فعل يفيد الاستبعاد فمعناها بعد، وفيها لغات كثيرة ذكرناها في كتاب التكميل لشرح التسهيل، ويأتيمنها ما قرىء به إن شاء الله. الغثاء: الزبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا ينتفع به قالهأبو عبيد. وقال الأخفش: الغثاء والجفاء واحد، وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد. وقال الزجاج: البالي من ورق الشجرإذا جرى السيل خالط زبده انتهى. وتشدد ثاؤه وتخفف، ويجمع غلى أغثاء شذوذاً، وروى بيت امرىء القيس: من السيل والغثاءبالتخفيف والتشديد بالجمع. تترى واحداً بعد واحد. قال الأصمعي: وبينهما مهلة. وقال غيره: المواترة التتابع بغير مهلة، وتاؤه مبدلة منواو على غير قياس، إذ أصله الوتر كتاء تولج وتيقور الأصل وولج وويقور لأنه من الولوج والوقار، وجمهور العرب علىعدم تنوينه فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم وكنانة تنونه، وينبغي أن تكون الألف فيه للإلحاق كهي في علقي المنون، وكتبه بالياءيدل على ذلك، ومن زعم أن التنوين فيه كصبراً ونصراً فهو مخطىء لأنه يكون وزنه فعلاً ولا يحفظ فيه الإعرابفي الراء، فتقول تتر في الرفع وتتر في الجر لكن ألف الإلحاق في المصدر نادر، ولا يلزم وجود النظير. وقيل:تترى اسم جمع كأسرى وشتى. المعين: الميم فيه زائدة ووزنه مفعول كمخيط، وهو المشاهد جريه بالعين تقول: عانه أدركه بعينهكقولك: كبده ضرب كبده، وأدخله الخليل في باب ع ي ن. وقيل: الميم أصلية من باب معن الشيء معانة كثرفوزنه فعيل، وأجاز الفراء الوجهين. وقال جرير:

إن الذين غدوا بلبك غادروا     وشلاً بعينك ما يزال معينا

الغمرة: الجهالة زجل غمرغافل لم يجرب الأمور وأصله الستر، ومنه الغمر للحقد لأنه يغطي القلب، والغمر للماءالكثير لأنه يغطي الأرض، والغمرة الماء الذي يغمر القامة، والغمرات الشدائد ورجل غامر إذا كان يلقي نفسه في المهالك، ودخلفي غمار الناس أي في زحمتهم. الجؤار: مثل الخوار جأر الثور يجأر صاح، وجأر الرجل إلى الله تضرع بالدعاء قالهالجوهري. وقال الشاعر:

يــراوح مــن صلـوات المليـــــك فطوراً سجوداً وطوراً جؤاراً    

وقيل: الجؤار الصراخ باستغاثة قال:جأر ساعات النيام لربه. السامر: مفرد بمعنى الجمع، يقال: قوم سامر وسمر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر، وهو مايقع على الشجر من ضوء القمر وكانوا يجلسون للحديث في ضوء القمر، والسمير الرفيق بالليل في السهر ويقال له السمارأيضاً، ويقال لا أفعله ما أسمر ابنا سمير، والسمير الدهر وابناه الليل والنهار. نكب عن الطريق ونكب بالتشديد: إذا عدلعنه. اللجاج في الشيء: التمادي عليه. {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـوٰةِ فَـٰعِلُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْفَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لاِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْعَلَىٰ صَلَوٰتِهِمْ يُحَـٰفِظُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْوٰرِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍمّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَـٰماًفَكَسَوْنَا ٱلْعِظَـٰمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـٰهُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ }. هذه السورة مكية بلا خلاف، وفي الصحيح للحاكم عنه أنه قال: لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد {أَفْلَحَٱلْمُؤْمِنُونَ } إلى عشر آيات. ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله

{ ُ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱرْكَعُواْ }

الآية وفيها

{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } إخباراً بحصولما كانوا رجوه من الفلاح. وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } بضم الهمزة وكسراللام مبنياً للمفعول، ومعناه ادخلوا في الفلاح فاحتمل أن يكون من فلح لازماً أو يكون أفلح يأتي متعدياً ولازماً. وقرأطلحة أيضاً بفتح الهمزة واللام وضم الحاء. قال عيسى بن عمر: سمعت طلحة بن مصرف يقرأ قد أفلحوا المؤمنون، فقلتله: أتلحن؟ قال: نعم، كما لحن أصحابي انتهى. يعني أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي وليس بلحن لأنه علىلغة أكلوني البراغيث. وقال الزمخشري: أو على الإبهام والتفسير. وقال ابن عطية: وهي قراءة مردودة، وفي كتاب ابن خالويه مكتوباًبواو بعد الحاء، وفي اللوامح وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل نحو

{ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَـٰطِلَ }

. وقال الزمخشري: وعنه أي عن طلحة {أَفْلَحَ } بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله:

فلو أن الأطباء كان حولي    

انتهى. وليس بجيد لأن الواو في {أَفْلَحَ } حذفت لالتقاء الساكنين وهنا حذفت للضرورةفليست مثلها. قال الزمخشري: قد تقتضيه لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذهالبشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه انتهى. والخشوع لغة الخضوع والتذلل، وللمفسرينفيه هنا أقوال: قال عمرو بن دينار: هو السكون وحسن الهيئة. توقال مجاهد: غض البصر وخفض الجناح. وقال مسلم بنيسار وقتادة: تنكيس الرأس. وقال الحسن: الخوف. وقال الضحاك: وضع اليمين على الشمال. وعن عليّ: ترك الالتفات في الصلاة. وعنأبي الدرداء: إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام. وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي رافعاً بصرهإلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده، ومن الخشوع أن تستعمل الآداب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسدهوثيابه والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك والاختصار وتقليب الحصى. وفي التحرير: اختلف في الخشوع، هل هومن فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين، والصحيح الأول ومحله القلب، وهو أول علم يرفع من الناس قالهعبادة بن الصامت. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له،فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته فهي صلاته، وأما المصلى له فغني متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.{ٱللَّغْوَ } ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل، وما توجب المروءة اطراحه يعني أن بهم منالجد ما يشغلهم عن الهزل لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشافينعلى الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف انتهى. وإذا تقدم معمول اسم الفاعل جاز أن يقوي تعديته باللام كالفعل، وكذلكإذا تأخر لكنه مع التقديم أكثر فلذلك جاء {لِلزَّكَـوٰةِ } باللام ولو جاء منصوباً لكان عربياً والزكاة إن أريد بهاالتزكية صح نسبة الفعل إليها إذ كل ما يصدر يصح أن يقال فيه فعل، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرجمن المال للفقير فيكون على حذف أي لأداء الزكاة {فَـٰعِلُونَ } إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكى أو يضمنفاعلون معنى مؤدون، وبه شرحه التبريزي. وقيل {لِلزَّكَـوٰةِ } للعمل الصالح كقوله

{ خَيْراً مّنْهُ زَكَـوٰةً }

أي عملاً صالحاً قالهأبو مسلم. وقيل: الزكاة هنا النماء والزيادة، واللام لام العلة ومعمول {فَـٰعِلُونَ } محذوف التقدير {وَٱلَّذِينَ هُم } لأجل تحصيلالنماء والزيادة {فَـٰعِلُونَ } الخير. وقيل: المصروف لا يسمى زكاة حتى يحصل بيد الفقير. وقيل: لا تسمى العين المخرجة زكاة،فكان التغيير بالفعل عن إخراجه أولى منه بالأداء، وفيه رد على بعض زنادقة الأعاجم الأجانب عن ذوق العربية في قوله:ألا قال مؤدُّون، قال في التحرير والتحبير: وهذا كما قيل لا عقل ولا نقل، والكتاب العزيز نزل بأفصح اللغات وأصحهابلا خلاف. وقد قال أمية بن أبي الصلت:

المطعمون الطعام في السنة الأز     مة والفاعلون للزكوات

ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا طعن فيه علماء العربية، بل جميعهم يحتجون به ويستشهدون انتهى.وقال الزمخشري: وحمل البيت على هذا أصح لأنها فيه مجموعة يعني على أن الزكاة يراد بها العين وهو على حذفمضاف، أي لأداء الزكوات، وعلل ذلك بجمعها يعني أنها إذا أريد بها العين صح جمعها، وإذا أريد بها التزكية لمتجمع لأن التزكية مصدر، والمصادر لا تجمع وهذا غير مسلم بل قد جاء منها مجموعاً ألفاظ كالعلوم والحلوم والأشغال، وأماإذا اختلفت فالأكثرون على جواز جمعها وهنا اختلفت بحسب متعلقاتها فإخراج النقد غير إخراج الحيوان وغير إخراج النبات والزكاة فيقول أمية مما جاء جمعاً من المصادر، فلا يتعدى حمله على المخرج لجمعه. وحفظ لا يتعدى بعلى. فقيل: علىبمعنى من أي إلا من أزواجهم كما استعملت من بمعنى على في قوله

{ وَنَصَرْنَـٰهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ }

أي على القومقاله الفراء، وتبعه ابن مالك وغيره والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن {حَـٰفِظُونَ } معنى ممسكون أو قاصرون، وكلاهمايتعدى بعلى كقوله

{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ }

وتكلف الزمخشري هنا وجوهاً. فقال {عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ } في موضع الحال أي الأوّالينعلى أزواجهم أو قوّامين عليهن من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلاناً، ونظيره كان زياد علىالبصرة أي والياً عليها. ومنه قولهم: فلان تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشاً أو تعلق على بمحذوف يدل عليهغير ملومين، كأنه قيل: يلامون {إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ } أي يلامون على كل مباشر إلاّ على أما أطلق لهم {فَإِنَّهُمْغَيْرُ مَلُومِينَ } عليه أو يجعله صلة لحافظين من قولك احفظ عليّ عنان فرسي على تضمينه معنى النفي، كما ضمنقولهم: نشدتك الله إلاّ فعلت بمعنى ما طلبت منك إلاّ فعلك انتهى. يعني أن يكون حافظون صورته صورة المثبت وهومنفي من حيث المعنى، أي والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم، فيكون استثناء مفرغاً متعلقاً فيه على بماقبله كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت، ومعناه النفي أي ما طلبت منك. وهذه التي ذكرها وجوه متكلفة ظاهرفيها العجمة. وقوله {وَمَا مَلَكَتْ } أريد بما النوع كقوله

{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ }

وقال الزمخشري: أريدمن جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث انتهى. وقوله وهم الإناث ليس بجيد لأن لفظ هم مختصبالذكور، فكان ينبغي أن يقول وهو الإناث على لفظ ما أوهن الإناث على معنى ما، وهذا الاستثناء حد يجب الوقوفعنده، والتسرّي خاص بالرجال ولا يجوز للنساء بإجماع، فلو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فاعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عندفقهاء الأمصار. وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يبقيان على نكاحهما وفي قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْأَيْمَـٰنُهُمْ } دلالة على تعميم وطء ما ملك باليمين وهو مختص بالإناث بإجماع، فكأنه قيل {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ }من النساء. وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف، ويخص أيضاً في الآية بتحريموطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر، ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والاستمناء ومعنى وراءذلك وراء هذا الحد الذي حد من الأزواج ومملوكات النساء، وانتصابه على أنه مفعول بابتغى أي خلاف ذلك. وقيل: لايكون وراء هنا إلاّ على حذف تقدير ما وراء ذلك. والجمهور على تحريم الاستمناء ويسمى الخضخضة وجلد عميرة يكنونعن الذكر بعميرة، وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالقصد والحجامة، وسألحرملة بن عبد العزيز مالكاً عن ذلك فتلا هذه الآية وكان جرى في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتحمحمد بن عليّ بن مطيع القشيري ابن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بما استدل مالك من قوله

{ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ }

فقلت له: إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر بذلك في أشعارها،وكان ذلك كثيراً فيها بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات، ولم يكونوا ينكرون ذلك. وأما جلد عميرة فلم يكن معهوداًفيها ولا ذكره أحد منهم في أشعارهم فيما علمناه فليس بمندرج في قوله {وَرَاء ذٰلِكَ } ألا ترى أن محلما أبيح وهو نساؤهم بنكاح أو تسر فالذي وراء ذلك هو من جنس ما أحل لهم وهو النساء، فلا يحللهم شيء منهن إلاّ بنكاح أو تسر، والظاهر أن نكاح المتعة لا يندرج تحت قوله {فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ }لأنها ينطلق عليها اسم زوج. وسأل الزهري القاسم بن محمد عن المتعة فقال: هي محرمة في كتاب الله وتلا {وَٱلَّذِينَهُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ } الآية ولا يظهر التحريم في هذه الآية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية لأمانتهمبالإفراد وباقي السبعة بالجمع، والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد، فيدخل فيذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان قبل، ويحتمل الخصوص في أمانات الناس. والأمانة: هي الشيء المؤتمن عليهومراعاتها القيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى، والأمانة أيضاً المصدر وقال تعالى

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلامَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا }

والمؤدى هو العين المؤتمن عليه أو القول إن كان المؤتمن عليه لا المصدر. وقرأ الأخوان على صلاتهم بالتوحيد،وباقي السبعة بالجمع. والخشوع والمحافظة متغايران بدأ أولاً بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية، وثنى بالمحافظة وهي تأديتهافي وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيئاتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت. قالالزمخشري: ووحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على إعدادها وهي الصلوات الخمسوالوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجةوغيرها من النوافل. {أُوْلَـٰئِكَ } أي الجامعون لهذه الأوصاف {هُمُ ٱلْوٰرِثُونَ } الأحقاء أن يسموا ورّاثاً دون من عداهم،ثم ترجم الوارثين بقوله {ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ } فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر، ومعنى الإرث ما مرفي سورة مريم انتهى. وتقدم الكلام في {ٱلْفِرْدَوْسِ } في آخر الكهف. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ } الآية لما ذكرتعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحةالنشأة الآخرة. وقال ابن عطية: هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة، وإن تباينت في المعانيانتهى. وقد بيّنا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات. {ٱلإِنسَـٰنَ } هنا. قال قتادة وغيره ورواه عنسلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين {ثُمَّ جَعَلْنَا } عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرةالأمر وأن المعنى لا يصلح إلاّ له ونظيره

{ حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ }

أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله.وعن ابن عباس أيضاً أن {ٱلإِنسَـٰنَ } ابن آدم و{سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ } صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس،والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة منأبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين. وقال الزمخشري: خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفةانتهى. فجعل الإنسان جنساً باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و{مِنْ } الأولى لابتداء الغاية و{مِنْ } الثانية قالالزمخشري للبيان كقوله

{ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ }

انتهى. ولا تكون للبيان إلاّ على تقدير أن تكون السلالة هي الطين، أما إذاقلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية. والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم. والمكين المتمكن وصف القرار بهلتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريقسائر لكونه يسار فيه، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة. وقرأ الجمهور عظاماً و{ٱلعِظَامِ } الجمع فيهما. وقرأ ابن عامروأبو بكر عن عاصم وأبان والفضل والحسن وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني. وقرأ أبورجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضاً بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس. وقال الزمخشري: وضع الواحد موضعالجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى. وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلاّ في الضرورة وأنشدوا:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا    

ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة{ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد، هو نفخ الروح فيه. وقال ابنعباس أيضاً: خروجه إلى الدنيا. وقالت فرقة: نبات شعره. وقال مجاهد: كمال شبابه. وقال ابن عباس أيضاً تصرفه في أمورالدنيا. قال ابن عطية: وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك، وأولرتبة من كونه آخرنفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى. ملخصاً وهو قريب مما رواه العوفي عن ابنعباس، ويدل عليه قوله بعد ذلك {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيّتُونَ }. وقال الزمخشري ما ملخصه: {خَلْقاً ءاخَرَ }مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً ناطقاً سميعاً بصيراً، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائبلا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، وقد احتج أبو حنيفة بقوله {خَلْقاً ءاخَرَ } على أن غاصب بيضة أفرخت عندهيضمن البيضة ولا يرد الفرخ. وقال {أَنشَأْنَا } جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاءً له. قيل: وفي هذا ردعلى النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط، وقد بيّن تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفةفي زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم، وتبارك فعل ماض لا يتصرف. ومعناه تعالى وتقدس و{أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ } أفعل التفضيلوالخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة؟ فمن قال محضة أعرب {أَحْسَنُ } صفة، ومنقال غير محضة أعربه بدلاً. وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين، ومعنى {ٱلْخَـٰلِقِينَ } المقدرين وهو وصف يطلقعلى غيرالله تعالى كما قال زهير:

ولأنت تفري ما خلقت وبعــــض القوم يخلق ثم لا يفري    

قال الأعلم: هذا مثل ضربه يعني زهيراً، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع.والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه. وقال ابن عطية: معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاًخلقه وأنشد بيت زهير. قال: ولا تُنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع. وقالابن جريج: قال {ٱلْخَـٰلِقِينَ } لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه، أي {أَحْسَنُٱلْخَـٰلِقِينَ } خلقاً أي المقدرين تقديراً. وروي أن عمر لما سمع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ } إلى آخره قال {فَتَبَارَكَ ٱللَّهُأَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ } فنزلت. وروي أن قائل ذلك معاذ. وقيل: عبد الله بن أبي سرح، وكانت سبب ارتداده ثم أسلموحَسُنَ إسلامه. وقرأ زيد بن عليّ وابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون بالألف يريد حدوث الصفة، فيقال أنت مائتعن قليل وميت ولا يقال مائت للذي قد مات. قال الفراء: إنما يقال في الاستقبال فقط وكذا قال ابن مالك،وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع، يعني إنه لا يقال لمنمات مائت. وقال الزمخشري: والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيدمائت الآن ومائت غداً كقولك: يموت ونحوها ضيق وضائق في قوله

{ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ }

انتهى. والإشارة بقوله بعد ذلكإلى هذا التطوير والإنشاء {خَلْقاً ءاخَرَ } أي وانقضاء مدّة حياتكم. {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تُبْعَثُونَ } ونبه تعالىعلى عظيم قدرته بالاختراع أولاً، ثم بالإعدام ثم بالإيجاد، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر لأنالمقصود ذكر الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة في القبر من جنس الإعادة ومعنى {تُبْعَثُونَ } للجزاء فإن قلت: الموت مقطوعبه عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعاً به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيءالسمع به فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن؟ فالجواب: أنهبولغ في تأكيد ذلك تنبيهاً للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه، فإن مآله إليه فكأنه أكدتجملته ثلاث مرار لهذا المعنى، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيهافنبه بذكر الموت مؤكداً مبالغاً فيه ليقصر، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء، ولم تؤكد جملة البعث إلاّبأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكاراً وإنه حتم لا بد منكيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان، وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله {لَمَيّتُونَ } ولم تدخل في {تُبْعَثُونَ }فأجبت: بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالباً فلا تجامع يوم القيامة، لأن أعمال {تُبْعَثُونَ } في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبالفتنافي الحال، وإنما قلت غالباً لأنه قد جاءت قليلاً مع الظرف المستقبل كقوله تعالى

{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ }

على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة. {وَلَقَدْخَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَـٰفِلِينَ * وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلاْرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـٰتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوٰكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُمِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلاْنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُكَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }. لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمهو{سَبْعَ طَرَائِقَ } السموات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض، طارق النعل جعله على نعل، وطارق بين ثوبين لبسأحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجاج كقوله

{ طِبَاقاً }

. وقيل: لأنها طرائق الملائكة في العروج. وقيل: لأنها طرائق فيالكواكب في مسيرها. وقيل: لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى. قال ابن عطية: ويجوز أن تكون الطرائق بمعنىالمبسوطات من طرقت الشيء. {وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَـٰفِلِينَ } نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقهتعالى فهو حافظ السموات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء {يُقَدّرُ } بتقديرمنا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم {فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلاْرْضِ } أي جعلنا مقره في الأرض. وعنابن عباس: أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل. وفي قوله {فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلاْرْضِ } دليلعلى أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادرعلى إذهابه. قال الزمخشري: {عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب بهوطريق من طرقه انتهى. و{ذَهَابٍ } مصدر ذهب، والباء في {بِهِ } للتعدية مرادفة للهمزة كقوله

{ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ }

أيلأذهب سمعهم. وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله

{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ }

وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلاّ وهو منالسماء. قال ابن عطية: ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلاّ فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط،وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزلمن السماء انتهى. وقيل: ما نزل من السماء أصله من البحر، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماءحتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقياً على حاله ما انتفع به منملوحته. ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـٰتٍ } وخص هذه الأنواعالثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع، ووصف النخل والعنب بقوله {لَكُمْ فِيهَا } إلى آخره لأنثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطباً ويابساً رطباً وعنباً وتمراً وزبيباً، والزيتون بأن دهنه صالحللاستصباح والاصطباغ جميعاً، ويحتمل أن يكون قوله {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يغتلها،ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه. كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منهاترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري. وقال الطبري: وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما، والضمير في {وَلَكُمْ فِيهَا }عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب. وعطف {وَشَجَرَةً } على جنات وهيشجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام. وقال الجمهور {سَيْنَاء } اسم الجبل كما تقول: جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص.وقال مجاهد: معنى {*سينا} مبارك. وقال قتادة: معناه الحسن والقولان عن ابن عباس. وقيل الحسن بالحبشة. وقيل: بالنبطية. وقال معمرعن فرقة: معناه ذو شجر. وقيل: {طُورِ سَيْنَاء } اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده قاله مجاهد أيضاً.وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين وهي لغة لبني كنانة. وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح وهي لغةسائر العرب. وقرأ سيني مقصوراً وبفتح السين والأصح أن {سَيْنَاء } اسم بقعة وأنه لىس مشتقاً من السناء لاختلاف المادتينعلى تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء. وقرأ الجمهور {تُنبِتُ }بفتح التاء وضم الباء والباء في {بِٱلدُّهْنِ } على هذا باء الحال أي {تُنبِتُ } مصحوبة {بِٱلدُّهْنِ } أي ومعهاالدهن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء، فقيل {بِٱلدُّهْنِ } مفعول والباء زائدةالتقدير تنبت الدهن. وقيل: المفعول محذوف أي {تُنبِتُ } جناها و{بِٱلدُّهْنِ } في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبتجناها ومعه الدهن. وقيل: أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير:

قطينـا بهـا حتى إذا أنبت البقـل    

بلفظ أنبت. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز بضم التاء وفتح الباء مبنياً للمفعول و{بِٱلدُّهْنِ }حال. وقرأ زر بن حبيش بضم التاء وكسر الباء الدهن بالنصب. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان بالألف، ومارووا من قراءة عبد الله يخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه، ولأنالرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور والصبغ الغمس والائتدام. وقال مقاتل: الصبغ الزيتون والدهن الزيت جعل تعالى في هذه الشجرةتأدماً ودهناً. وقال الكرماني: القياس أن يكون الصبغ غير الدهن لأن المعطوف غير المعطوف عليه. وقرأ الأعمش وصبغاً بالنصب. وقرأعامر بن عبد الله وصباغ بالألف، فالنصب عطف على موضع {بِٱلدُّهْنِ } كان في موضع الحال أو في موضع المفعول،والصباغ كالدبغ والدباغ وفي كتاب ابن عطية. وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعاً {لّلاكِلِيِنَ } كأنه يريد تفسير الصبغ.ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه السلام، ثم ذكر ما فيهامن الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله

{ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ }

قيل: وهي أول شجرة يثبت بعد الطوفان {وَإِنَّلَكُمْ فِى ٱلاْنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا } تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُ }من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل، وأدرج باقي المنافع في قوله{وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُ كَثِيرَةٌ } ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائنالبر كما أن {ٱلْفُلْكِ } سفائن البحر. قال ذو الرمة:

سفينـة بر تحت خـدي زمامهـا    

يريد صيدح ناقته. {وَلَقَدْأَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ * قَوْمٌ * ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَقَالَٱلْمَلَؤُا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لاَنزَلَ }.لما ذكر أولاً بدء الإنسان وتطوّره في تلك الأطوار، وما امتن به عليه مما جعله تعالى سبباً لحياتهم، وإدراك مقاصدهم،ذكر أمثالاً لكفار قريش من الأمم السابقة المنكرة لإرسال الله رسلاً المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله، فابتدأ قصةنوح لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولاً آدم في قوله

{ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ }

ولقصته أيضاً مناسبةبما قبلها إذ قبلها

{ وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }

فذكر قصة من صنع الفلك أولاً وأنه كان سبب نجاة من آمنوهلك من لم يكن فيه الفلك من نعمة الله، كل هذه القصص يحذر بها قريشاً نقم الله ويذكرهم نعمه.{مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ * غَيْرِى } جملة مستأنفة منبهة على أن يفرد بالعبادة من كان منفرداً بالإلهية فكأنها تعليللقوله {ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } {أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره {فَقَالَ ٱلْمَلا } أي كبراء الناسوعظماؤهم، وهم الذين هم أعصى الناس وأبعدهم لقبول الخير. {مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي مساويكم في البشرية.

{ فأنى تؤفكون له }

اختصاص بالرسالة. {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله:

{ وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَاء فِى ٱلاْرْضِ }

{وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لاَنزَلَ مَلَـٰئِكَةً } هذا يدل على أنهم كانوا مقرين بالملائكة وهذه شنشنة قريش ودأبهافي استبعاد إرسال الله البشر، والإشارة في هذا تحتمل أن تكون لنوح عليه السلام، وأن تكون إلى ما كلمهم بهمن الأمر بعبادة الله ورفض أصنامهم، وأن يكون إلى ما أتى به من أنه رسول الله وهو بشر، وأعجب بضلالهؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر. وقولهم {مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا } الظاهر أنهم كانوا مباهتين وإلاّ فنبوّة إدريس وآدملم تكن المدة بينها وبينهم متطاولة بحيث تنسى فدافعوا الحق بما أمكنهم دفاعه، ولهذا قالوا {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِجِنَّةٌ } ومعلوم عندهم أنه ليس بمجنون {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ } أي انتظروا حاله حتى يجلي أمره وعاقبة خبره. فدعاربه تعالى بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه. وقال الزمخشري: يدل ما كذبون كما تقول: هذا بذاك أي بدلذاك ومكانه، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوهفيه حين قال لهم

{ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }

انتهى. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن {قَالَ رَبّ} بضم الباء، وتقدم توجيهه في قوله

{ قَالَ رَبّ ٱحْكُم }

بضم الباء وتقدم الكلام على أكثر تفسير ألفاظ هذهالآية في سورة هود، ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين علة النهي بأنه تعالى قدحكم عليهم بالإغراق، وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم وكان الأمر له وحده وإن كان الشرط قد شمله ومنمعه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك إذ هو قدوتهم. قال مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهاركبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلاّ ملك أو نبي انتهى. ثم أمره أن يدعوه بأنهينزله {مُنزَلاً مُّبَارَكاً } قيل وقال ذلك عند الركوب في السفينة. وقيل: عند الخروج منها. وقرأ الجمهور {مُنزَلاً } بضمالميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدراً ومكاناً أي إنزالاً أو موضع إنزال. وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابنأبي عبلة وأبان: بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول {إِنَّ فِى ذَلِكَ } خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أيإن في ما جرى على هذه أمّة نوح لدلائل وعبراً {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيمأو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله

{ وَلَقَدْ تَّرَكْنَـٰهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }

. {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناًءاخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * وَقَالَ ٱلْمَلاَ مِنقَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء ٱلاْخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـٰهُمْ فِى ٱلْحَيـوٰةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ }. ذكر هذهالقصة عقيب قصة نوح، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه السلام وهو قول الأكثرين. وقال أبوسليمان الدمشقي والطبري: هم ثمود، والرسول صالح عليه السلام هلكوا بالصيحة. وفي آخر القصة {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ } ولم يأت أنقوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف، وفي هود، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح. وقال تعالى

{ وَٱذْكُرُواْ * إِذَا * جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ }

والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كأخوانه وجه، وأنفذوبعث وهنا عُدِّي بفي، جعلت الأمة موضعاً للإرسال كما قال رؤبة:

أرسلت فيهـا مصعبـاً ذا إقحـام    

وجاء بعث كذلك فيقوله

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ }

{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً }

و{ءانٍ } في {أَنِٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وجاء هنا {وَقَالَ } بالواو. وفي الأعراف وسورة هود فيقصه بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله، أي اجتمع قوله الذي هو حق، وقولهم الذي هو باطلكأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف وكأنه جواب لسؤال مقدر، أي فما كان قولهم له قالقالوا كيت وكيت {وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء ٱلاْخِرَةِ } أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها {وَأَتْرَفْنَـٰهُمْ } أي بسطنا لهم الآمالوالأرزاق ونعمناهم، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين، وكان العطف مشعراً بغلبة التكذيب والكفر، أي الحامل لهمعلى ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلتهإليهم، وأن تكون جملة حالية أي وقد {*أترفناهم} أي {لَّمَّا كَذَّبُواْ } في هذه الحال، ويؤول هذا المعنى إلى المعنىالأول أي {كَذَّبُواْ } في حال الإحسان إليهم، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي.وقوله {أَكَلَ * مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ } تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم، وأن لا مزية له عليهم، والظاهر أنما موصولة في قوله {مِمَّا تَشْرَبُونَ } وأن العائد محذوف تقديره {مِمَّا تَشْرَبُونَ } منه لوجود شرائط الحذف، وهو اتحادالمتعلق والمتعلق كقوله: مررت بالذي مررت، وحسن هذا الحذف ورجحه كون {تَشْرَبُونَ } فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله {مّمَّاتَأْكُلُونَ } وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } على حذف أي {مِمَّا تَشْرَبُونَ } منه،وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة لأن ما إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد، فإنجعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى. يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه، فيكون المحذوف ضميراًمتصلاً وشروط جواز الحذف فيه موجودة، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلاّ أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنهقال {مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ } فعداه بمن التبعيضية، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير {مِمَّا تَشْرَبُونَ } منه، فلو كان التركيبمما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح. وقال الزمخشري: حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ماقبله عليه انتهى. فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم. وقال الزمخشري{إِذَا } واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى. وليس {إِذَا} واقعاً في جزاء الشرط بل واقعاً بين {إِنَّكُمْ } والخبر و{إِنَّكُمْ } والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملةجواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة، ولو كانت {إِنَّكُمْ } والخبر جواباً للشرط للزمت الفاء في {إِنَّكُمْ } بل لوكان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلاّ عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ.واختلف المعربون في تخريج {إِنَّكُمْ } الثانية، والمقتول عن سيبويه أن {إِنَّكُمْ } بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد، وخبر{إِنَّكُمْ } الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره {إِنَّكُمْ } تبعثون {إِذَا مِتٌّمْ } وهذا الخبر المحذوف هو العاملفي {إِذَا } وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن {إِنَّكُمْ } الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار، وعلىهذا يكون {مُّخْرَجُونَ } خبر {إِنَّكُمْ } الأولى، والعامل في {إِذَا } هو هذا الخبر، وكان المبرد يأبى البدل لكونهمن غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى. وذهب الأخفش إلى أن {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مقدر بمصدر مرفوع بفعلمحذوف تقديره: يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبراً لأنكم، ويكون جواب {إِذَا } ذلك الفعلالمحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر {إِنَّكُمْ } ويكون عاملاً في {إِذَا }. وذكر الزمخشري قولالمبرد بادئاً به فقال: شيء {إِنَّكُمْ } للتوكيد، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و{مُّخْرَجُونَ } خبر عنالأول وهذا قول المبرد. قال الزمخشري: أو جعل {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مبتدأ و{إِذَا مِتٌّمْ } خبراً على معنى إخراجكم إذامتم، ثم أخبر بالجملة عن {إِنَّكُمْ } انتهى. وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه. قال: أو رفع {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ }بفعل هو جزاء الشراط كأنه قيل {إِذَا مِتٌّمْ } وقع إخراجكم انتهى. وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكونالجملة الشرطية خبراً عن {إِنَّكُمْ } ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه، وأن يكون خبر {إِنَّكُمْ } ذلك الفعلالمحذوف وهو العامل في {إِذَا } وفى قراءة عبد الله {أَيَعِدُكُمْ } {إِذَا مِتٌّمْ } بإسقاط {إِنَّكُمْ } الأولى.وقرأ الجمهور {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } بفتح التاءين وهي لغة الحجاز. وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ونسبها ابن عطيةلخالد بن إلياس. وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أبو السماك في الأولوخالفه في الثاني. وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم وأسد وعنهأيضاً، وعن خالد بن إلياس بكسرهما والتنوين. وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضاً بإسكانهما، وهذه الكلمةتلاعبت بها العرب تلاعباً كبيراً بالحذف والإبدال والتنوين وغيره، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة،فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعاً لهيهات، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكانحقها عنده أن تكون {هَيْهَاتَ } إلاّ أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه، هي مثل بيضات يعني فيأنها جمع، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد، فقال واحد: هيهات هيهة، وتحرير هذا كله مذكور في علمالنحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالباً إلاّ مكررة، وجاءت غير مكررة في قول جرير:

وهيهـات خـل بالعقيـق نواصلـه    

وقول رؤبة:

هيهـات مـن متحـرق هيهـاؤه    

و{هَيْهَاتَ } اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهراً أو مضمراً، وهنا جاء التركيب {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَلِمَا تُوعَدُونَ } لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم، وجاءت اللام للبيان أي أعنيلما توعدون كهي بعد بعد سقياً لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كماجاءت في

{ هَيْتَ لَكَ }

لبيان المهيت به. وقال الزجاج: البعد {لِمَا تُوعَدُونَ } أو بعد {لِمَا تُوعَدُونَ } وينبغيأن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية {هَيْهَاتَ } وقول الزمخشري: فمن نونه نزله منزلةالمصدر ليس بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر. وقال ابن عطية: طوراًتلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية التقديربعد الوجود {لِمَا تُوعَدُونَ } انتهى. وهذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل، وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معموله ولايجيز البصريون شيئاً من هذا. وقال ابن عطية أيضاً في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل، وخبره {لِمَاتُوعَدُونَ } أي البعد لوعدكم كما تقول: النجح لسعيك. وقال صاحب اللوامح: فأما من قال {هَيْهَاتَ } فرفع ونون احتملأن يكونا اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء وما بعدهما خبرهما من حروف الجر بمعنى البعد {لِمَا تُوعَدُونَ } والتكرار للتأكيد، ويجوزأن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } ما {تُوعَدُونَ } بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات. وهي قراءة واضحة. وقالوا {إِنْ هِىَ }هذا الضمير يفسره سياق الكلام لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ } الآية فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء، فتضمنأن لا حياة إلاّ حياتهم. وقال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصلهأن الحياة {إِلاَّ حَيَاتُنَا } الدنيا ثم وضع {هِىَ } موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبنيها، ومنه هي النفستتحمل ما حملت وهي العرب تقول: ما شاءت، والمعنى: لا حياة إلاّ هذه الحياة الدنيا لأن {ءانٍ } الثانية دخلتعلى {هِىَ } التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.{نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن انتهى، ثم أكدوا ما حصروه من أنلا حياة إلاّ حياتهم وحرموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب علىالله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } أي بمصدّقين، ولما أيس من إيمانهمورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ } أي عن زمن قليل، وما توكيدللقلة وقليل صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب. قيل: أي بعد الموت تصيرون نادمين. وقيل {عَمَّا قَلِيلٍ } أي وقتنزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع الرجوع، واللام في{لَّيُصْبِحُنَّ } لام القسم و{عَمَّا قَلِيلٍ } متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين، وجاز ذلك لأنه جار ومجرورويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها، ألا ترى أنه لو كان مفعولاً به لم يجز تقديمه لوقلت: لأضربن زيداً لم يجز زيداً لأضربن، وهذا الذي قررناه من أن {عَمَّا قَلِيلٍ } يتعلق بما بعد لام القسمهو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفاًأو مجروراً أو غيرهما، فعلى قول هو لا يكون {عَمَّا قَلِيلٍ } يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره {عَمَّاقَلِيلٍ } تنصر لأن قبله قال {رَبّ ٱنصُرْنِى }. وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذهاللام عليها مطلقاً. وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسولإلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزاً والله أعلم انتهى. {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ } قال الزمخشري: صيحة جبريل عليه السلامصاح عليهم فدمرهم {بِٱلْحَقّ } بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك: فلان يقضي بالحق إذاكان عادلاً في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان انتهى. وعن ابنعباس {ٱلصَّيْحَةَ } الرجفة. وقيل: هي نفس العذاب والموت. وقيل: العذاب المصطلم. قال الشاعر:

صاح الزمان بآل زيد صيحة     خروا لشنتها على الأذقان

وقال المفضل: {بِٱلْحَقّ } بما لا مدفع له كقوله: وجاءت سكرةالموت بالحق. وانتصب بعداً بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعداً. أي هلكوا، يقال بعد بعداً وبعداً نحو رشد رشداً ورشداً.وقال الحوفي {لّلْقَوْمِ } متعلق بعداً. وقال الزمخشري: و{لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو

{ هَيْتَ لَكَ }

و{لِمَا تُوعَدُونَ } انتهى فلا تتعلق ببعداً بل بمحذوف. {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ما تسبق منأمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعدا القوملا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين فقالوا أنؤمن لبشرمثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين، ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهماإلى ربوة ذات قرةر ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكمأمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبونأنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون. {قروناً} قال ابن عباس: هم بنوإسرائيل. وقيل: قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم {مَّا تَسْبِقُ } إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها فيالحجر {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفروشيبه وابن محيصن والشافعي {تَتْرَى } منوناً وباقي السبعة بغير تنوين، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد، وأضافالرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل، والثانيكانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم. {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } أيبعض القرون أو بعض الأمم بعضاً في الإهلاك الناشىء عن التكذيب. و{أَحَادِيثَ } جمع حديث وهو جمع شاذ، وجمع أحدوثةوهو جمع قياسي. والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثلبهم. وقال الأخفش: لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير. قيل: ويجوز أن يكون جمع حديث، والمعنىأنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم. وقال الزمخشري: الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسولالله انتهى. وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيعوأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى {أَحَادِيثَ } وقد لفظله وهو حديث، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه. {بِـئَايَـٰتِنَا } قال ابن عباس هي التسعوهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنون، ونقص من الثمرات {وَسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } قيل: هي العصا واليد، وهمااللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروجمن البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل. وقال الحسن: {بِـئَايَـٰتِنَا } أي بديننا. {وَسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } هوالمعجز، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوةدلالتها على قول موسى عليه السلام. قيل: ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها، وقدتعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها، وكونهاحارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليهاكقوله

{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ }

ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة {فَٱسْتَكْبَرُواْ } عن الإيمانبموسى وأخيه نفة. {قَوْماً عَـٰلِينَ } أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم، أو متكبرينكقوله

{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلاْرْضِ }

أي وكان من شأنهم التكبر. والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله

{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً }

ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء {لِبَشَرَيْنِ } ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموعوالمذكر والمؤنث ولا يؤنث، وقد يطابق تثنية وجمعاً و{قومهما} أي بنو إسرائيل { لَنَا عَـٰبِدُونَ } أي خاضعون متذللون، أولأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة. وقال أبو عبيد: العرب تسمي كل مندان للملك عابداً، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالفرق إذ لم يحصلالغرق عقيب التكذيب. {مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ } أي قوم موسى و{ٱلْكِتَـٰبِ } التوراة، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف فيقوله {لَعَلَّهُمْ } ولا يصح عود هذا الضمير في {لَعَلَّهُمْ } على فرعون وقومه لأن {ٱلْكِتَـٰبِ } لم يؤته موسىإلا بعد هلاك فرعون لقوله:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلاْولَىٰ }

. {لَعَلَّهُمْ } ترج بالنسبةإليهم {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } لشرائعها ومواعظها. {وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ } أي قصتهما وهي {ءايَةً } عظمى بمجموعها وهيآيات مع التفصيل، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية. والربوةهنا. قال ابن عباس وابن المسيب: الغوطة بدمشق، وصفتها أنها {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } على الكمال. وقال أبو هريرة: رملةفلسطين. وقال قتادة وكعب: بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء، وأنه يزيد علىأعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً. وقال ابن زيد ووهب: الربوة بأرض مصر، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزمعلى قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون. وقرأ الجمهور {رَبْوَةٍ } بضم الراء وهيلغة قريش، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراءبالألف، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها وبالألف {ذَاتِ قَرَارٍ }أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة، والمعنى أنها من البقاع الطيبة. وعن قتادة: ذات ثمار وماء، يعني أنها لأجلالثمار يستقر فيها ساكنوها. ونداء {ٱلرُّسُلَ } وخطابهم بمعنى نداء كلواحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمانواحد فينادون ويخاطبون فيه، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أنيوحد به ويعمل عليه. وقيل: الخطاب لرسول الله وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام {ٱلرُّسُلَ } وقيل:ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجراً: يا تجار اتقوا الربا. وقال الطبري: الخطاب لعيسى، ورويأنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسىومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي {*آويناهما} وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلامما رزقنا كما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذاً كان أو غير لذيذ. وقيل: ما يستطاب ويستلذ من المآكلوالفواكه ويشهد له {رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكونصالحاً إلاّ مسبوقاً بأكل الحلال. {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم {وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ }الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء. وقرأ الكوفيون {وَأَنْ } بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان: وأبو عمرو بالفتحوالتشديد أي ولأن، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهمفي زمانه قوله {وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ }. وقوله {فَتَقَطَّعُواْ } وجاء هنا {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ } وهو أبلغ فيالتخويف والتحذير من قوله في الأنبياء

{ فَٱعْبُدُونِ }

لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح، والأمم الذينمن بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التامفي قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا {فَتَقَطَّعُواْ } بالفاء إيذاناً بأنالتقطيع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته. وجاء في الأنبياء بالواو فاحتملمعنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله، وأنه هوالذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق. ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآلأمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالاً لقريش، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله {فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ} وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله ، فقائل هو شاعر، وقائل ساحر، وقائلبه جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال

{ أَتَوْاصَوْابِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَـٰغُونَ }

. قال الكلبي {فِى غَمْرَتِهِمْ} في جهالتهم. وقال ابن بحر: في حيرتهم. وقال ابن سلام: في غفلتهم. وقيل: في ضلالتهم {حَتَّىٰ حِينٍ } حتىينزل بهم الموت. وقيل: حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: هي منسوخة بآية السيف.وقرأ الجمهور {فِى غَمْرَتِهِمْ } وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة،وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام. وقال الزمخشري: الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هممغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال الشاعر:

كـأني ضـارب في غمـرة لعب    

سلي رسول الله بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى. ثموقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم، وبيّن تعالى أنذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.وقرأ ابن وثاب {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } بكسر الهمزة. وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء، وما في {إِنَّمَا } إمابمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها، وخبر إن هي الجملة من قوله{نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرٰتِ } والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره: نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفهاستطالة الكلام مع أمن اللبس. وتقدم نظيره في قوله {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ } وقال هشام بن معونة: الضرر الرابط هوالظاهر وهو {فِى ٱلْخَيْرٰتِ } وكان المعنى {نُسَارِعُ لَهُمْ } فيه ثم أظهر فقال {فِى ٱلْخَيْرٰتِ } فلا حذف علىهذا التقدير، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد اللهكنية لزيد، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها وممابعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو {نُسَارِعُ } على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفعالفعل، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات. وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائيفيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف، ويجوز الوقف على {وَبَنِينَ } كما تقول حسبت إنما يقوم زيد، وحسبتأنك منطلق، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى، وإن كان في مايقدر مفرداً لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر. وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسرالراء فإن كان فاعل {نُسَارِعُ } ضمير يعود على ما بمعنى الذي، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارعخبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع، هو أي إمدادنا. وعن ابن أبي بكرةالمذكور بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول. وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } إضراب عن قوله{أَيَحْسَبُونَ } أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخيروفيه تهديد ووعيد. {إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ * وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمبِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ * أُوْلَـئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَهُمْلَهَا سَـٰبِقُونَ * وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍمّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَـٰلٌ مّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَـٰمِلُونَ * حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ * ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ *يَجْـئَرُونَ * لاَ تَجْـئَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ ءايَـتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ تَنكِصُونَ *مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـٰمِراً تَهْجُرُونَ }. لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم،والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب {رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } وهو قولالكلبي ومقاتل و{مّنْ خَشْيَةِ } متعلق بمشفقون قاله الحوفي. وقال ابن عطية: و{مِنْ } في {مّنْ خَشْيَةِ } هي لبيانجنس الإشفاق، والإشفاق إنما هو من عذاب الله، والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر.وفي كل شيء له آية. ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي الأصنام، إذ لكفار قريش أنتقول: نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق. وقيل: ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلكداخل في قوله {وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدمعليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه. وقرأ الجمهور {يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات {وَّقُلُوبُهُمْوَجِلَةٌ } أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل مايتوقعون من لقاء الجزاء. قال ابن عباس وابن جبير: هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال: والذين يفعلون منأنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيانأي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله : هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر، وهو علىذلك يخاف الله قال: لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل . قيل: وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح. وقال الحسن: المؤمنيجمع إحساناً وشفقة، والمنافق يجمع إساءة وأمناً. وقرأ الأعمش {أَنَّهُمْ } بالكسر. وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفاتفي نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز، والثانية على تحصيل الإيمان بالله، والثالثة على تركالرياء في الطاعة، والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقينانتهى. {أُوْلَـئِكَ يُسَـٰرِعُونَ } جملة في موضع خبر أن. قال ابن زيد {الخَيْرَاتِ } المخافتة والإيمان والكف عن الشرك.قال الزمخشري: {يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ } يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، والثاني أنهم يتعجلونفي الدنيا المنافع، ووجوه الإكرام كما قال

{ فَـاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلاْخِرَةِ }

{ وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين }

لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمةلأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى. وقرأ الحر النحوي: يسرعون مضارع أسرع، يقال أسرعت إلى الشيء وسرعتإليه بمعنى واحد، وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم. قال الزجاج {يُسَـٰرِعُونَ } أبلغ من يسرعون انتهى. وجهة المبالغة أنالمفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه. {وَهُمْلَهَا سَـٰبِقُونَ } الظاهر أن الضمير في {لَهَا } عائد على {الخَيْرَاتِ }أي سابقون إليها تقول: سبقت لكذا وسبقت إلىكذا، ومفعول {سَـٰبِقُونَ } محذوف أي سابقون الناس، وتكون الجملة تأكيداً للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله {يُسَـٰرِعُونَ } وثبوتهبقوله {سَـٰبِقُونَ } وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله. وقال الزمخشري {لَهَا سَـٰبِقُونَ } أي فاعلونالسبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها انتهى. وهذان القولان عندي واحد. قال أيضاً أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرةحيث عجلت لهم في الدنيا انتهى. ولا يدل لفظ {لَهَا سَـٰبِقُونَ } على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدلعلى تقدم السابق على المسبوق، فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح. وقال أيضاً: ويجوز أن كون {لَهَاسَـٰبِقُونَ } خبراً بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى. وهذا مروي عن ابن عباس. قال: المعنىسبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى. والظاهر القول الأول وباقيها متعسفوتحميل للفظ غير ظاهره. وقيل: الضمير في {لَهَا } عائد على لجنة. وقيل: على الأمم. {وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّوُسْعَهَا } تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقّ } أي كتاب فيه إحصاءأعمال الخلق يشير إلى الصحف الت يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن. {بَلْ قُلُوبُهُمْ }أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء {مّنْ هَـٰذَا } أي من هذا العمل الذي وصف بهالمؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن، والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الذين بجملته أوإلى محمد أقوال خمسة {وَلَهُمْ أَعْمَـٰلٌ } من دون ذلك„ أي من دون الغمرة والضلال المحيطبهم، فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق، وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنىقتادة وأبو العالية، وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه. وقيل: الإشارة بذلك إلى قوله {مّنْ هَـٰذَا} وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق، أو القرآن ونحوه. وقال الحسن ومجاهد: إنما أخبر بقوله {وَلَهُمْ أَعْمَـٰلٌ }عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد. وعن ابن عباس {أَعْمَـٰلٌ } سيئة دون الشرك. وقال الزمخشري{وَلَهُمْ أَعْمَـٰلٌ } متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهمالله بالعذاب و{حَتَّىٰ } هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية انتهى. وقيل الضمير في قوله {بَلِ }يعود إلى المؤمنين المشفقين {هُمْ فِى غَمْرَةٍ } من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قيل {وَهُمْ } مع ذلك الخوفوالوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة {ولهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ماهم عليه، ويريد بالأعمال الأول الفرائض، وبالثاني النوافل. {حتى إذا أخذنا مترفيهم} رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم.قال أبو عبد الله الرازي: وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من ردهإلى ما بعده خصوصاً وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر، وأنيوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردهوفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل: فما المراد بقوله {مّنْ هَـٰذَا }؟ قلنا: إشارة إلى إشفاقهمووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى. وتقدم قول الزمخشري في {حَتَّىٰ } أنها التي يبتدأ بعدها الكلام، وأنها غايةلما قبلها، وقد ردّ ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب. وقال الحوفي {حَتَّىٰ } غاية وهي عاطفة، {إِذَا} ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط {إِذَا } الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في{إِذَا } والتقدير جأروا، فيكون جأد العامل في {إِذَا } الأولى، والعامل في الثانية {أَخَذْنَا } انتهى وهو كلام مخبطليس أهلاً أن يرد. وقال ابن عطية و{حَتَّىٰ } حرف ابتداء لا غير، و{إِذَا } الثانية التي هي جوابيمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى. وقال مكي: أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر{لَهَا عَـٰمِلُونَ } إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم {بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ } يضجون ويستغيثون، والمترفون المنعمون والرؤساءوالعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد. وقيل: العذاب قتلهم يومبدر. وقيل: عذاب الآخرة، والظاهر أن الضمير في {إِذَا هُمْ } عائد على {مُتْرَفِيهِمْ } إذ هم المحدث عنهم صاحواحين نزل بهم العذاب. وقيل: يعود على الباقين بعد المعذبين. قال ابن جريج: المعذبون قتلى بدر، والذين {يَجْـئَرُونَ } أهلمكة لأنهم ناحوا واستغاثوا. {لاَ تَجْـئَرُواْ ٱلْيَوْمَ } أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازاًأي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة. وقالقتادة {يَجْـئَرُونَ } يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم. وقال الربيع بن أنس: تجأرون تجزعون، عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه{إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا، فالجوار غير نافعلكم ولا مجد. {قَدْ كَانَتْ ءايَـتِى } هي آيات القرآن {تَنكِصُونَ } ترجعون استعارة للإعراض عن الحق. وقرأ عليبن أبي طالب {تَنكِصُونَ } بضم الكاف والضمير في {بِهِ } عائد على المصدر الدال عليه {تَنكِصُونَ } أي بالنكوصوالتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب، وضمن {مُسْتَكْبِرِينَ } معنى مكذبين فعُدِّي بالباء أو تكونالباء للسبب، أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو. والجمهور على أن الضمير في {بِهِ } عائد على الحرم والمسجدوإن لم يجر له ذكر، وسوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلاّ أنهم ولاته والقائمونبه، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله ويحسنه أن في قوله {تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ }دلالة على التالي وهو الرسول عليه السلام، وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين. وقيل تتعلق بسامراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعنفيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب من أتى به.وقرأ الجمهور {سَـٰمِراً } وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمر وسمراً بضمالسين وشد الميم مفتوحة جمع سامر، وابن عباس أيضاً وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك، وبزيادة ألف بينالميم والراء جمع سامر أيضاً وهما جمعان مقيسان في مثل سامر. وقرأ الجمهور {تَهْجُرُونَ } بفتح التاء وضم الجيم.وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات. قال ابن عباس {تَهْجُرُونَ } الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر. وقالابن زيد وأبو حاتم: من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول. وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافعوحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش. قال ابن عباس: إشارة إلى السبللصحابة وغيرهم. وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضاً وزيد بن عليّ وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضاً وأبو حيوة كذلكإلاّ أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضيالهجر وهو الفحش. وقال ابن جني: لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى أنكم إن كنتم سمراً بالليلفكأنكم تهجرون في الهاجرة على الاقتضاح لكان وجهاً. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَاءهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ ٱلاْوَّلِينَ *أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُمْ بِٱلْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَـٰرِهُونَ * وَلَوِٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَـٰهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْخَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرزِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ عَنِٱلصّرٰطِ لَنَـٰكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَـٰهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْلِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }. ذكر تعالىتوبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق والقول القرآن الذي أتى به محمد ، أي أفلم يتفكروا فيماجاء به عن الله فيعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته فيصدقوا به وبمن جاء به، وبخهم ووقفهم على تدبرهوأنهم بمكابرتهم ونظرهم الفاسد قال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر، وهو أعظم الدلائل الباقية على غابر الدهر قرعهم أولاً بتركالانتفاع بالقرآن ثم ثانياً بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين، أي إرسال الرسل ليس بدعاً ولا مستغرباً بل جاءت الرسلالأمم قبلهم، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن واستئصال من كذب آباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان، وروي: لا تسبوامضر، ولا ربيعة، ولا الحارث بن كعب، ولا أسد بن خزيمة، ولا تميم بن مرة ولا قساً وذكر أنهم كانوامسلمين وأن تبعاً كان مسلماً وكان على شرطه سليمان بن داود وبخهم ثالثاً بأنهم يعرفون محمداً وصحة نسبة وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش، وكفى بخطبة أبي طالب حينتزوج خديجة وأنها احتوت على صفات له طرقت آذان قريش فلم تنكر منها شيئاً أي قدسبقت معرفتهم له جملة وتفصيلاً، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه. ثم وبخهم رابعاً بأنهم نسبوه إلى الجن وقدعلموا أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غيرخاف على من له مسكة من عقل، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سبباً لانقيادهمإلى الحق لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتاً وأوصافاً وبراءته منالجنون هاد لمن وفقه الله للهداية، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشؤوا عليه من اتباعالباطل، ولما لم يجدوا له مدفعاً لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.{بَلْ جَاءهُمْ بِٱلْحَقّ } أي بالقرآن المشتمل على التوحيد وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا. {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّكَـٰرِهُونَ } يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكباراً من توبيخ قومه أنيقولوا: صبأ وترك دين آبائه {وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ } قرأ ابن وثاب {وَلَوِ ٱتَّبَعَ } بضم الواو والظاهر أنه{ٱلْحَقّ } الذي ذكر قبل في قولهم {بَلْ جَاءهُمْ بِٱلْحَقّ } أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلاموالتوحيد متبعاً أهواءهم لانقلب شراً وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه. وقال أيضاً: دلبهذا على عظم شأن الحق، فلو {أَتَّبِعُ * أَهْوَاءهُمْ } لانقلب باطلاً ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى لهبعده قوام. وقيل: لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذل حقاًلم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي، وكان في ذلك فساد السموات والأرض. وقيل: كانوا يرونالحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لم يصح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قرر في دليلالتمانع في قوله تعالى

{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }

وقيل: كانت آراؤهم متناقضة فلو اتبع الحقأهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم. وقال قتادة {ٱلْحَقّ } هنا الله تعالى. فقال الزمخشري: معناه ولو كان اللهيتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلۤهاً ولما قدر على أن يمسك السموات والأرض. وقال ابن عطية: ومن قالإن {ٱلْحَقّ } في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة {أَتَّبِعُ} وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق،فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سموات، وأما نفسه الذي هو الصواب فلوكان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى. وقرأ الجمهور: بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونسعن أبي عمرو بياء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضاً وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاءبتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو عمرو في رواية {ءاتَيْنَـٰهُمُ } بالمد أي أعطيناهم، والجمهور {بِذِكْرِهِمْ } أي بوعظهم والبيانلهم قاله ابن عباس. وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لاتصح، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا. وقال الزمخشري: {بِذِكْرِهِمْ } أي بالكتاب الذي هو ذكرهمأي وعظهم أوصيتهم، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين.{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } هذا استفهام توبيخ أيضاً المعنى بل أتسألهم مالاً فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله، قاله ابنعطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال {أَمْ تَسْـئَلُهُمْ } على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالقخير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سرهعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل،ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلاّ إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيممع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعدظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى. وتقدمالكلام في قوله {خَرْجاً فَخَرَاجُ } في قوله تعالى

{ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً }

في الكهف قراءة ومدلولاً. وقرأ الحسنوعيسى خراجاً فخرج فكلمت بهذه القراءة ربع قراءات، وفي الحرفين {فَخَرَاجُ رَبّكَ } أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ منغيره فان. وقال الكلبي: فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة. وقيل: فرزقه ويؤيده {خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } قال الجبائي:{خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهمبعضاً انتهى. وهذا مدلول {خَيْرٌ } الذي هو أفعل التفضيل ومدلول {ٱلرَّازِقِينَ } الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل.ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول فقال {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْإِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو دين الإسلام، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكهإلاّ من كان راجياً للثواب خائفاً من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه، وأبعد من زعم أن الصراطالذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنةويسرة إلى النار. قال ابن عباس: {لَنَـٰكِبُونَ } لعادلون. وقال الحسن: تاركون له. وقال قتادة: حائرون. وقال الكلبي: معرضون، وهذهأقوال متقاربة المعنى. {وَلَوْ رَحِمْنَـٰهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ } قيل: هو الجوع. وقيل: القتل والسبي. وقيل: عذابالآخرة أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد وهذاالقول بعيد بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله {وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ } إلىآخر الآية استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولاً، وبما جرى عليهميوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذيهو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم. والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسولالله وهذا مروي عن ابن عباس وابن جريج. وسبب نزول الآية دليل على ذلك رويأنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز،فجاء أبو سفيان إلى رسول الله فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت الرحمةللعالمين؟ فقال: «بلى» فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية. والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزلوالقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله والمؤمنين وإفراطهم فيها. وقيل: المعنىلو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما ريء فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبزا بنار جهنم أبلسوا، كقوله

{ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ }

{ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }

فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذابالشديد في الآخرة، وعلى الأول كان في الدنيا. ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول:استحال انتقل من حال إلى حال، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن الإشباعبابه لشعر كقوله:

أعوذ بالله من العقراب     الشائلات عقد الأذناب

ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة،ألا ترى أن من أشبع في قوله:

ومن ذم الزمان بمنتزاح    

لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح، وأنت تقول:استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة، وتخالف {ٱسْتَكَانُواْ } و{يَتَضَرَّعُونَ } في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين. قال الزمخشري: لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة،وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. والملبس: الآيس من الشرالذي ناله. وقرأ السلمي {مُّبْلِسُونَ } بفتح اللام.

{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ ٱلأَوَّلُونَ } * { قَالُوۤاْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } * { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَـٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { قُل لِّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } * { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } * { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ } * { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } * { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } * { رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } * { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } * { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } * { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } * { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } * { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } * { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } * { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } * { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } * { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } * { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } * { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } * { قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } * { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } * { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } * { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } * { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } * { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَآدِّينَ } * { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } * { فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } * { وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } * { وَقُل رَّبِّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ }

الهمز: النخس والدفع بيد وغيرها، ومنه مهماز الرائض وهمز الناس باللسان. البرزخ: الحاجزبين المسافتين. وقيل: الحجاب بين الشيئين يمنع أحدهما أن يصلى إلى الآخر. النسب: القرابة من جهة الولادة. اللفح: إصابة النارالشيء بوهجها وإحراقها. وقال الزجاج: اللفح أشد من اللقيح تأثيراً. الكلوح: تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح كلوح الكلب والأسد.وقيل: الكلوح بسور الوجه وهو تقطيبه، وكلح الرجل كلوحاً وكلاحاً ودهر كالح وبرد كالح شديد. العبث: اللعب الخالي عن فائدة.{وَهُوَ ٱلَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلاْبْصَـٰرَ وَٱلاْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ ٱلَّذِى * ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ وَإِلَيْهِتُحْشَرُونَ * وَهُوَ ٱلَّذِى يُحىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلَـٰفُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ ٱلاْوَّلُونَ *قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَـٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُٱلاْوَّلِينَ * قُل لّمَنِ ٱلاْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُوَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَـٰهُمْ بِٱلْحَقّ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ * مَاٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَـٰنَٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }. مناسبة {وَهُوَ ٱلَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ } لما قبلهأنه لما بيَّن إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق خاطب قيل المؤمنين، والظاهر العالم بأسرهم تنبيهاًعلى أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى وتدبر ما أودعه فيها من الدلائل على وحدانيتهوباهر قدرته فهو كعادم هذه الأعضاء، وممن قال تعالى فيهم

{ فَمَا * أُغْنِى * عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء }

فمن أنشأ هذه الحواس وأنشئت هي له وأحيا وأمات وتصرف في اختلاف الليل والنهار هو قادرعلى البعث. وخص هذه الأعضاء بالذكر لأنه يتعلق بها منافع الدين والدنيا من أعمال السمع والبصر في آيات الله والاستدلالبفكر القلب على وحدانية الله وصفاته، ولما كان خلقها من أتم النعم على العبد قال {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أيتشكرون قليلاً و{مَا } زائدة للتأكيد. ومن شكر النعمة الإقرار بالمنعم بها ونفي الند والشريك. و{ذَرَأَكُمْ } خلقكم وبثكمفيها. {وَإِلَيْهِ } أي وإلى حكمه وقضائه وجزائه {تُحْشَرُونَ } يريد البعث والجمع في الآخرة بعد التفرق في الدنيا والاضمحلال.{وَلَهُ ٱخْتِلَـٰفُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي. هو مختص به ومتوليه وله القدرة التي ذلك الاختلاف عنها. والاختلاف هنا التعاقب أييخلف هذا هذا. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من هذه تصرفات قدرته وآثار قهره فتوحدونه وتنفون عنه الشركاء والأنداد، إذ هم ليسوابقادرين على شيء من ذلك. وقرأ أبو عمرو في رواية: يعقلون بياء الغيبة على الالتفات. {بَلْ قَالُواْ } {بَلِ} إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات {بَلْ قَالُواْ } والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهمفي إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار. ولما اتخذوا من دون الله تعالىآلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط جهلهم بكونهم يقرون بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك وأنه رب العالمالعلوي وأنه مالك كل شيء وهم مع ذلك ينسبون له الولد ويتخذون له شركاء. وقرأ عبد الله والحسن والجحدريونصر بن عاصم وابن وثاب وأبو الأشهب وأبو عمرو من السبعة {سَيَقُولُونَ * ٱللَّهِ } الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعاًوكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام. وقرأ باقي السبعة {لِلَّهِ } فيها بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقةلفظاً ومعنى، والثانية جاءت على المعنى لأن قولك: من رب هذا؟ ولمن هذا؟ في معنى واحد، ولم يختلف في الأولأنه باللام. وقرأ ابن محيصن {ٱلْعَظِيمِ } برفع الميم نعتاً للرب، وتقول أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه أيوهو يمنع من يشاء ممن يشاء ولا يمنع أحد منه أحداً. ولا تعارض بين قوله {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لاينفي عنهم وبين ما حكي عنهم من قولهم. {سَيَقُولُونَ * ٱللَّهِ } لأن قوله {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لا ينفيعلمهم بذلك، وقد يقال مثل ذلك في الاحتجاج على وجه التأكيد لعلمهم، وختم كل سؤال بما يناسبه فختم ملك الأرضومن فيها حقيق أن لا يشرك به بعض خلقه ممن في الأرض ملكاً له الربوبية وختم ما بعدها بالتقوى وهيأبلغ من التذكر وفيها وعيد شديد أي أفلا تخافونه فلا تشركوا به. وختم ما بعد هذه بقوله {فَإِنّي * تُسْحَرُونَ} مبالغة في التوبيخ بعد إقرارهم والتزامهم ما يقع عليهم به في الاحتجاج وأني بمعنى كيف قرر أنهم مسحورون وسألهمعن الهيئة التي سحروا بها أي كيف تخدعون عن توحيده وطاعته، والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم منالتخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك. وقرىء بل آتيتهم بتاء المتكلم، وابنأبي إسحاق بتاء الخطاب {وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } فيما ينسبون إلى الله تعالى من اتخاذ الولد ومن الشركاء وغير ذلك مماهم فيه كاذبون. ثم نفى اتخاذ الولد وهو نفي استحالة ونفي الشريك بقوله {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ } أيوما كان معه شريك في خلق العالم واختراعهم ولا في غير ذلك مما يليق به من الصفات العلى، فنفي الولدتنبيه على من قال: الملائكة بنات الله، ونفي الشريك في الألوهية تنبيه على من قال: الأصنام آلهة، ويحتمل أن يرادبه إبطال قول النصارى والثنوية و{مِن وَلَدٍ } و{مِنْ إِلَـهٍ } نفي عام يفيد استغراق الجنس، ولهذا جاء {إِذاً لَّذَهَبَكُلُّ إِلَـٰهٍ } ولم يأت التركيب إذاً لذهب الإله. ومعنى {لَذَهَبَ } أي لا نفرد {كُلُّ إِلَـٰهٍ } بخلقه الذيخلق واستبد به وتميز ملك كل واحد عن ملك الآخر وغلب بعضهم بعضاً كحال ملوك الدنيا، وإذا لم يقع الإنفرادوالتغالب فاعلموا أنه إله واحد وإذا لم يتقدمه في اللفظ شرط ولا سؤال سائل ولا عدة قالو: فالشرط محذوف تقديره،ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ } عليه وهذا قول الفراء: زعم أنهإذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجاً لها على غير هذا في قوله

{ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً }

في سورة الإسراء: والظاهر أن ما في {بِمَا خَلَقَ } بمعنى الذي وجوز أن تكون مصدرية.{سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } تنزيه عن الولد والشريك. وقرىء عما تصفون بتاء الخطاب. وقرأ الإبنان وأبو عمرو وحفص {عَـٰلِمُ} بالجر. قال الزمخشري: صفة لله. وقال ابن عطية: اتباع للمكتوبة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبوبحرية بالرفع. قال الأخفش: الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد. قال أبو عليّ الرفع أن الكلام قد انقطع، يعنيأنه خبر مبتدأ محذوف أي هو {عَـٰلِمُ }. وقال ابن عطية: والرفع عندي أبرع. والفاء في قوله {فَتَعَـٰلَى } عاطفةفالمعنى كأنه قال {عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَتَعَـٰلَىٰ } كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته أي شجع فعظمت، ويحتمل أن يكونالمعنى فأقول تعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ } على إخبار مؤتنف. و{ٱلْغَيْبَ } ما غاب عن الناس و{ٱلشَّهَـٰدَةَ } ما شاهدوه انتهى.{قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ * رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَانَعِدُهُمْ لَقَـٰدِرُونَ * ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ * حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَاتَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْيَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوٰزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوٰزِينُهُ فأُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَخَـٰلِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ }. لما ذكر ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريكله، وكان تعالى قد أعلم نبيه أنه ينتقم منهم ولم يبين إذ ذاك في حياته أمبعد موته، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء أي إن ترني ما تعدهم واقعاً بهم في الدنيا أو في الآخرة فلاتجعلني معهم، ومعلوم أنه عليه السلام معصوم مما يكون سبباً لجعله معهم، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهاراً للعبودية وتواضعاًلله، واستغفار رسول الله إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل. وقال أبو بكر:وليتكم ولست بخيركم. قال الحسن: كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه. وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرطوقبل: الجزاء مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد. وقرأ الضحاك وأبوعمر إن الجوني ترئني بالهمز بدل الياء، وهذا كما قرىء فأما ترئن ولترؤن بالهمز وهو إبدال ضعيف، ثم أخبر تعالىأنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام ولكن تأخيره لأجل يستوفون،والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا. فقيل: يوم بدر. وقيل: فتح مكة. وقيل: هو عذاب الآخرة. ثم أمرهتعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلاّ الله و{ٱلسَّيّئَةُ } الشرك. وقال الحسن: الصفح والإغضاء. وقالعطاء والضحاك: السلام إذا أفحشوا. وحكى الماوردي: {ٱدْفَعْ } بالموعظة المنكر والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء و{ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هيأحسن. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. وقيل: هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دينوإزراء بمروءة. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } يقتصي أنها آية موادعة، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه.ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نحسات الشياطين والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به كما يهمزالرائض الدابة لتسرع، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه. وقال ابن زيد: همز الشيطانالجنون، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت. وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن. {حَتَّىٰ إِذَاجَاء أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } قال الزمخشري: {حَتَّىٰ } يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآيةفاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم،أو على قوله وإنهم لكاذبون انتهى. وقال ابن عطية: {حَتَّىٰ } في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غايةمجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى. فتوهم ابن عطية أن حتىإذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر.وقال أبو البقاء {حَتَّىٰ } غاية في معنى العطف، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لهايدل عليها ما قبلها التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم {حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } ونظير حذفهذه الجملة قول الشاعر:

فياً عجباً حتى كليب تسبني    

أي يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملةالمحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها. وقال القشيري: احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ثم قال: مصرون على الإنكار {حَتَّىٰإِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم انتهى. وجمع الضمير في {ٱرْجِعُونِ } إمامخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع تعظيماً كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع. وقال الشاعر:

فإن شئت حرمت النساء سواكم    

وقال آخر:

ألا فارحموني يا إله محمد    

وإما استغاث أولاً بربه وخاطب ملائكة العذاب وقاله ابن جريج. والظاهرأن الضمير في {أَحَدِهِمْ } راجع إلى الكفار، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك. وقال ابن عباس: من لميزك ولم يحج سأل الرجعة. فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلاً لقوله

{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا * رَزَقْنَـٰكُمْ }

آية سورة المنافقين.وقال الأوزاعي: هو مانع الزكاة، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث: إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة: نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله، وأما الكافر فيقول: ارجعون لعلي أعمل صالحاً . ومعنى {فِيمَا تَرَكْتُ } في الإيمان الذي تركته والمعنى لعلي آتى بما تركته من الإيمان وأعمل فيهصالحاً كما تقول: لعلي أبني على أس، يريد أؤس أساً وأبني عليه. وقيل: {فِى مَا * تَرَكْتُ } من المالعلى ما فسره ابن عباس: {كَلاَّ } كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد. فقيل: هي من قول الله لهم.وقيل: من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم، ومعنى {هُوَ قَائِلُهَا } لا يسكت عنهاولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث {وَمِن وَرَائِهِمْ } أيالكفار {بَرْزَخٌ } حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث. وفي هذه الجملة اقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا،وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه. وقرأ ابن عباس والحسن وابن عياض {فِىٱلصُّورِ } بفتح الواو جمع صورة، وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو، وكذا فأحسن صوركم وجمع فعلة بضم الفاء علىفعل بكسر الفاء شاذ. {فَلاَ أَنسَـٰبَ } نفي عام، فقال ابن عباس: عند النفخة الأولى يموت الناس فلا يكون بينهمنسب في ذلك الوقت وهم أموات، وهذا القول يزبل هول الحشر. وقال ابن مسعود وغيره: عند قيام الناس من القبورفلهول المطلع اشتغل كل امرىء بنفسه فانقطعت الوسائل وارتفع التفاخر والتعاون بالأنساب. وعن قتادة: ليس أحد أبغض إلى الإنسان فيذلك اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيهوصاحبته وبنيه. وقيل: {فَلاَ أَنسَـٰبَ } أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعدّ لهم من ثواب وعقاب، وإنماالتواصل بالأعمال. وقرأ عبد الله ولا يساءلون بتشديد السين أدغم التاء في السين إذ أصله {يَتَسَاءلُونَ } ولا تعارضبين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله

{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ }

لأن يوم القيامة مواطن ومواقف، ويمكنأن يكون انتفاء التساؤل عند النفخة الأولى، وأما في الثانية فيقع التساؤل. وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها فيأوائل الأعراف. وقال الزمخشري؛ {فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ } بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لامحل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف انتهى. جعل {فِى جَهَنَّمَ } بدلاً {مِنْ * خَسِرُواْ} وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به {فِى جَهَنَّمَ } أي استقروا في جهنم، وكأنهمن بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم. وأجاز أبوالبقاء أن يكون {ٱلَّذِينَ } نعتاً لأولئك، وخبر {أُوْلَـٰئِكَ } {فِى جَهَنَّمَ } والظاهر أن يكون خبراً لأولئك لا نعتاً.وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء، فإذا لفحالأشرف فما دونه ملفوح. ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه وفي الترمذي تتقلص شفته العلياحتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته قال هذا حديث حسن صحيح. وقرأ أبو حيوة وأبو بحريةوابن أبي عبلة كلحون بغير ألف. {أَلَمْ تَكُنْ ءايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَاشِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ * قَالَ * ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ *إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِىوَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ * قَـٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَادّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ* وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ *وَقُل }. يقول الله لهم على لسان من يشاء من ملائكته {أَلَمْ تَكُنْ ءايَـٰتِى } وهي القرآن، ولما سمعواهذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } من قولهم: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منكوامتلكه، والشقاوة سوء العاقبة. وقيل: الشقوة الهوى وقضاء اللذات لأن ذلك يؤدي إلى الشقوة. أطلق اسم المسبب على السبب قالهالجبائي. وقيل: ما كتب علينا في اللوح المحفوظ وسبق به علمك. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عنعاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم: شقاوتنا بوزن السعادة وهي لغة فاشية، وقتادة أيضاً والحسن في رواية خالد بن حوشب عنهكذلك إلاّ أنه بكسر الشين، وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف وهي لغة كثيرة في الحجاز. قال الفراء: أنشدنيأبو ثروان وكان فصيحاً:

علق من عنائه وشقوته     بنت ثماني عشرة من حجته

وقرأ شبل فياختياره بفتح الشين وسكون القاف. {وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } أي عن الهدى، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلكأنهم أقروا والإقرار بالذنب اعتذار، فقالوا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أي من جهنم {فَإِنْ عُدْنَا } أي إلى التكذيب واتخاذآلهة وعبادة غيرك {فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ } أي متجاوز والحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولاً ثم سومحنا فظلمنا ثانياً. وحكىالطبري حديثاً طويلاً في مقاولة تكوين بين الكفار وبين مالك خازن النار، ثم بينهم وبين ربهم جل وعز وآخرها {قَالَ* ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } قال وتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض. قال ابنعطية: واختصرت ذلك الحديث لعدم صحته، لكن معناه صحيح ومعنى {*اخسؤوا} أي ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا ازجرت،يقال: خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعدياً ولازماً. و{لا * تُكَلّمُونِ } أي في رفع العذاب أو تخفيفه. قيل:هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلاّ الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون. {إِنَّهُكَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ }. قرأ أبيّ وهارون العتكي {أَنَّهُ }بفتح الهمزة أي لأنه، والجمهور بكسرها والهاء ضمير الشأن وهو محذوف مع أن المفتوحة الهمزة والفريق هنا هم المستضعفون منالمؤمنين، وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم، ثم هيعامة فيمن جرى مجراهم قديماً وبقية الدهر. وقرأ حمزة والكسائي ونافع {سِخْرِيّاً } بضم السين وباقي السبعة بالكسر. قال الزمخشري:مصدر سخر كالسخر إلاّ أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل، كما قيل: الخصوصية في الخصوص وهما بمعنى الهزءفي قول الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه. وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء: ضم السين من السخرة والاستخدام والكسر من السخروهو الاستهزاء. ومنه قول الأعشى:

إني أتاني حديث لا أسرّ به     من علو لا كذب فيه ولا سخر

وقال يونس: إذا أريد التخديم فضم السين لا غير، وإذا أريد الهزء فالضم والكسر. قال ابن عطية.وقرأ أصحاب عبد اللهوابن أبي إسحاق والأعرج بضم السين كل ما في القرآن. وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر إلاّ التي في الزخرف فإنهماضما السين كما فعل الناس انتهى. وكان قد قال عن أبي عليّ يعني الفارسي أن قراءة كسر السين أوجه لأنهبمعنى الاستهزاء، والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى قوله {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } انتهى قول أبي عليّ ثمقال ابن عطية: ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } لماتخلص الأمر للتخديم انتهى. وليس ما ذكره من إجماع القراء على ضم السين في الزخرف صحيحاً لأن ابن محيصن وابنمسلم كسرا في الزخرف، ذكر ذلك أبو القاسم بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل. {فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } أي هزأةتهزوؤن منهم {حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى } أي بتشاغلكم بهم فتركتم ذكري أي أن تذكروني فتخافوني في أوليائي، وأسند النسيان إلىفريق المؤمنين من حيث كان سببه. وقرأ زيد بن عليّ وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع {إِنَّهُمْ هُمُ } بكسرالهمزة وباقي السبعة بالفتح، ومفعول {جَزَيْتُهُمُ } الثاني محذوف تقديره الجنة أو رضواني. وقال الزمخشري: في قراءة من قرأ {أَنَّهُمْ} بالفتح هو المفعول الثاني أي {جَزَيْتُهُمُ } فوزهم انتهى. والظاهر أنه تعليل أي {جَزَيْتُهُمُ } لأنهم، والكسر هو علىالاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الإعراب لا ضطرار المفتوحة إلىعامل. و{ٱلْفَائِزُونَ } الناجون من هلكة إلى نعمة. وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير {قَـٰلَ كَمْ } والمخاطب ملك يسألهمأو بعض أهل النار، فلذا قال عبر عن القوم. وقرأ باقي السبعة قال. والقائل الله تعالى أو المأمور بسؤالهم منالملائكة. وقال الزمخشري: قال في مصاحف أهل الكوفة و{قُلْ } في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقال ابن عطية: وفيالمصاحف قال فيهما إلاّ في مصحف الكوفة فإن فيه {قُلْ } بغير ألف، وتقدم إدغام باب لبثت في البقرة سألهمسؤال توقيف على المدة. وقرأ الجمهور {عَدَدَ سِنِينَ } على الإضافة و{كَمْ } في موضع نصب على ظرف الزمان وتمييزهاعدد. وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم عدداً بالتنوين. فقال أبو الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح {سِنِينَ } نصب على الظرفوالعدد مصدر أقيم مقام الأسم فهو نعت مقدم على المنعوت، ويجوز أن يكون معنى {لَّبِثْتُمْ } عددتم فيكون نصب عدداًعلى المصدر و{سِنِينَ } بدل منه انتهى. وكون {لَّبِثْتُمْ } بمعنى عددتم بعيد. ولما سئلوا عن المدة التي أقاموافيها في الأرض ويعني في الحياة الدنيا قاله الطبري وتبعه الزمخشري فنسوا الفرط هول العذاب حتى قالوا {يَوْماً أَوْ بَعْضَيَوْمٍ } أجابوا بقولهم {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ترددوا فيما لبثوا قاله ابن عباس. وقيل: أريد بقوله {فِىٱلاْرْضِ } في جوف التراب أمواتاً وهذا قول جمهور المتأولين. قال ابن عطية: وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث،وكانوا قولهم أنهم لا يقومون من التراب قيل لهم لما قاموا {كَمْ لَبِثْتُمْ } وقوله آخراً {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} يقتضي ما قلناه انتهى. {فَاسْأَلِ ٱلْعَادّينَ } خطاب للذي سألهم. قال مجاهد: {ٱلْعَادّينَ } الملائكة أي هم الذينيحفظون أعمال بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم. وقال قتادة: أهل الحساب، والظاهر أنهم من يتصف بهذه الصفة ملائكة أو غيرهملأن النائم والميت لا يعد فيتقدر له الزمان. وقال الزمخشري: والمعنى لا نعرف من عدد تلك السنين إلاّ أنا نستقلهونحسبه يوماً أو بعض يوم لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن يعدكم بفي فسئل من فيه أن يعدومن يقدر أن يلقي إليه فكره انتهى. وقرأ الحسن والكسائي في رواية {ٱلْعَادّينَ } بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولونكما تقول. قال ابن خالويه: ولغة أخرى العاديين يعني بياء مشددة جمع عادي يعني للقدماء. وقال الزمخشري: وقرىء العاديين أيالقدماء المعمرين فإنهم يستقصرونها فيكف بمن دونهم. وقرأ الأخوان {قُلْ إِنْ * لَّبِثْتُمْ } على الأمر، وباقي السبعة و{ءانٍ} نافية أي ما {لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي قريب ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون أي لم ترغبوافي العلم والهدى وانتصب {عَبَثاً } على الحال أي عابثين أو على أنه مفعول من أجله، والمعنى في هذا ماخلقناكم للعبث، وإنما خلقناكم للتكليف والعبادة. وقرأ الأخوان {لاَ تُرْجَعُونَ } مبنياً للفاعل، وباقي السبعة مبنياً للمفعول، والظاهر عطف {وَإِنَّكُمْ} على {إِنَّمَا } فهو داخل في الحسبان. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على {عَبَثاً } أي للعبث ولترككمغير مرجوعين انتهى. {فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ } أي تعاظم وتنزه عن الصاحبة والولد والشريك والعبث وجميع النقائص، بل هو {ٱلْمَلِكُٱلْحَقُّ } الثابت هو وصفاته العلي و{ٱلْكَرِيمِ } صفة للعرش لتنزل الخيرات منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين. وقرأ أبانبن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير {ٱلْكَرِيمِ } بالرفع صفة لرب العرش أو {ٱلْعَرْشِ }، ويكونمعطوفاً على معنى المدح. و{مِنْ } شرطية والجواب {فَإِنَّمَا } و{لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } صفة لازمة لا للاحترازمن أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } ويجوز أن تكون جملة اعتراضإذ فيها تشديد وتأكيد فتكون لا موضع لها من الإعراب كقولك: من أساء إليك لا أحق بالإساءة منه، فأسيء إليه.ومن ذهب إلى أن جواب الشرط هو {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } هروباً من دليل الخطاب من أن يكون ثمداع له برهان فلا يصح لأنه يلزم منه حذف الفاء في جواب الشرط، ولا يجوز إلاّ في الشعر وقد خرجناهعلى الصفة اللازمة أو على الاعتراض وكلاهما تخريج صحيح.وقرأ الحسن وقتادة (انه) لايفلح بفتح الهمزة، أي هو فوضع الكافرون موضعالضمير حملا على معنى من والجمهور بكسر الهمزة وخبر(حسابه) الظرف أنه استئناف وقرأ الحسن يفلح بفتح الفاء واللام وافتتح السورةبقوله { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وأورد في خاتماتها إنه لا يفلح الكافرون فانظر تفاوت بين الإفتتاح والاختتام، ثم امر رسولالله بان يدعوا بالغفران والرحمة وقرأابن محيص وقرأ الحسن وقتادة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ }بفتح الهمزة أي هو فوضع {ٱلْكَـٰفِرُونَ } موضع الضمير حملاً على معنى من، والجمهور بكسر الهمزة وخبر {حِسَابُهُ } الظرفو{أَنَّهُ } استئناف. وقرأ الحسن {يُفْلِحُ } بفتح الفاء واللام، وافتتح السورة بقوله {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وأورد في خاتمتها{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } فانظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام. ثم أمر رسوله عليه السلام بأن يدعو بالغفران والرحمة.وقرأ ابن محيصن {رَبّ } بضم الباء.