تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة المرسلات

{ وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } * { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } * { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } * { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } * { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } * { عُذْراً أَوْ نُذْراً } * { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } * { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } * { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ } * { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ } * { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } * { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } * { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ } * { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } * { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } * { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } * { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً } * { أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } * { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } * { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } * { لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ } * { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ } * { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } * { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } * { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } * { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } * { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } فرجت الشيء: فتحته فانفرج، قال الراجز:

الفـارجـو بــاب الأميـر المـبهم    

كفت: ضم وجمع،ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: اكفتوا صبيانكم . ومنه قيل ليقبع الغرقد: كفت وكفته، والكفات اسم لما يكفت، كالضمام والجماع؛ يقال:هذا الباب جماع الأبواب، وقال الصمصامة بن الطرماح:

فأنت اليوم فوق الأرض حي     وأنت غدا تضمك في كفات

وقال أبو عبيدة: الكفات: الوعاء. شمخ: ارتفع. الشرر: ما تطاير من النار متبدّداً في كل جهة،واحده شرارة، ولغة تميم: شرار بالألف واحده شرارة. القصر: الدار الكبيرة المشيدة، والقصر: قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونهيستعد به للشتاء، واحده قصرة؛ والقصر، بفتح الصاد: أعناق الإبل والنخل والناس، واحده قصرة؛ وبكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة،كحلقة من الحديد وحلق، والله تعالى أعلم. {وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ عُرْفاً * فَٱلْعَـٰصِفَـٰتِ عَصْفاً * وٱلنَّـٰشِرٰتِ نَشْراً * فَٱلْفَـٰرِقَـٰتِ فَرْقاً *فَٱلْمُلْقِيَـٰتِ ذِكْراً * أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَـٰلَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً *وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَٱلظَّـٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْعَذَاباً أَلِيماً * وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ عُرْفاً * فَٱلْعَـٰصِفَـٰتِ عَصْفاً * وٱلنَّـٰشِرٰتِ نَشْراً * فَٱلْفَـٰرِقَـٰتِ فَرْقاً * فَٱلْمُلْقِيَـٰتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْنُذْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوٰقِعٌ * فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا ٱلسَّمَاء فُرِجَتْ * وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا ٱلرُّسُلُأُقّتَتْ * لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }.هذه السورة مكية. وحكي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ}. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين، فهذا وعد منه صادق، فأقسم علىوقوعه في هذه فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوٰقِعٌ }. ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها، وقع الخلاففي تعيين تلك الموصوفات. فقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو صالح ومقاتل والفرّاء: {وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ }: الملائكة، أرسلت بالعرف ضد النكروهو الوحي، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار. وقال ابن عباس وجماعة: الأنبياء، ومعنى عرفاً: إفضالاً من الله تعالى على عباده،ومنه قول الشاعر:

لا يـذهب العـرف بيـن الله والنـاس    

وانتصابه على أنه مفعول له، أي أرسلن للإحسان والمعروف، أو متتابعةتشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل. وتقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين، وهمعليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، وانتصابه على الحال. وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة: الرّياح. وقالالحسن: السحاب. وقرأ الجمهور: {عُرْفاً } بسكون الراء، وعيسى: بضمها. {فَٱلْعَـٰصِفَـٰتِ }، قال ابن مسعود: الشديدات الهبوب. وقيل: الملائكةتعصف بأرواح الكفار، أي تزعجها بشدّة، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرّياح تحققاً في امتثال أمره. وقيل: هي الآياتالمهلكة، كالزلازل والصواعق والخسوف. {وٱلنَّـٰشِرٰتِ }، قال السدّي وأبو صالح ومقاتل: الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال. وقال الربيع: الملائكة تنشرالناس من قبورهم. وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة: الرّياح تنشر رحمة الله ومطره. وقال أبو صالح: الأمطار تحيـي الأرضبالنبات. وقال الضحاك: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب، أي ذات النشر.{فَٱلْفَـٰرِقَـٰتِ }، قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك: الملائكة تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام. وقال قتادةوالحسن وابن كيسان: آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام. وقال مجاهد أيضاً: الرّياح تفرق بين السحاب فتبدّده. وقيل: الرسل، حكاهالزجاج. وقيل: السحاب الماطر تشبيهاً بالناقة الفاروق، وهي الحامل التي تجزع حين تضع. وقيل: العقول تفرق بين الحق والباطل، والصحيحوالفاسد. {فَٱلْمُلْقِيَـٰتِ ذِكْراً }، قال ابن عباس وقتادة والجمهور: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.وقال قطرب: الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم. وقال الرّبيع: آيات القرآن ألقيت على النبي .واختار الزمخشري من الأقوال أن تكون {وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ } إلى آخر الأوصاف: إما للملائكة، وإما للرّياح. فللملائكة تكون عذراً للمحققين،أو نذراً للمبطلين؛ وللرّياح يكون المعنى: فألقين ذكراً، إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمةالله في الغيث ويشكرونها، وإما إنذاراً للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سبباًفي حصوله إذا شكرت النعمة فيهن، أو كفرت، قاله الزمخشري. والذي أراه أن المقسم به شيئان، ولذلك جاء العطف بالواوفي {وٱلنَّـٰشِرٰتِ }، والعطف بالواو يشعر بالتغاير، بل هو موضوعه في لسان العرب. وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات،فيدل على أنها راجعة إلى العاديات، وهي الخيل؛ وكقوله:

يا لهف زيابة للحارث فالصا     بح فالغانم فالآيب

فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث. فإذا تقرر هذا، فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح، فهي مرسلاته تعالى،ويدل عليه عطف الصفة بالفاء، كما قلنا، وأن العصف من صفات الريح في عدّة مواضع من القرآن. والقسم الثاني فيهترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة، ويكون {فَٱلْفَـٰرِقَـٰتِ }، {فَٱلْمُلْقِيَـٰتِ } من صفاتهم، كما قلنا في عطفالصفات وإلقاؤهم الذكر، وهو ما أنزل الله، يصح إسناده إليهم. وقرأ الجمهور: {فَٱلْمُلْقِيَـٰتِ } اسم فاعل خفيف، أي نطرقه إليهم؛وابن عباس: مشدد من التلقية، وهي أيضاً إيصال الكلام إلى المخاطب. يقال: لقيته الذكر فتلقاه. وقرأ أيضاً ابن عباس، فيماذكره المهدوي: بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول، أي تلقته من قبل الله تعالى. وقرأ إبراهيم التيمي والنحويان وحفص:{عُذْراً أَوْ نُذْراً } بسكون الذالين؛ وزيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن: بخلاف؛ والأعشى،عن أبي بكر: بضمهما؛ وأبو جعفر أيضاً وشيبة وزيد بن علي والحرميان وابن عامر وأبو بكر: بسكونها في عذراً وضمهافي نذراً، فالسكون على أنهما مصدران مفردان، أو مصدران جمعان. فعذراً جمع عذير بمعنى المعذرة، ونذراً جمع نذير بمعنى الإنذار.وانتصابهما على البدل من {ذِكْراً }، كأنه قيل: فالملقيات عذراً أو نذراً، أو على المفعول من أجله، أو على أنهمامصدران في موضع الحال، أي عاذرين أو منذرين. ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه. وقيل: يصح انتصاب{عُذْراً أَوْ * نَذِيراً } على المفعول به بالمصدر الذي هو {ذِكْراً }، أي فالملقيات، أي فذكروا عذراً، وفيه بعدلأن المصدر هنا لا يراد به العمل، إنما يراد به الحقيقة لقوله: {أَءلْقِىَ * عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ }. والإعذار هي بقيامالحجة على الخلق، والإنذار هو بالعذاب والنقمة. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ }: أي من الجزاء بالثواب والعقاب، {لَوَاقِعٌ }: وما موصولة، وإنكانت قد كتبت موصولة بأن. وهذه الجملة هي المقسم عليها. وقرأ الجمهور: {أَوْ نُذْراً } بواو التفصيل؛ وإبراهيم التيمي: ونذراًبواو العطف. {فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ }: أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء، أو عبر عن إلحاق ذواتها بالطمس،وهو انتثارها وانكدارها، أو أذهب نورها ثم انتثرت ممحوقة النور. {وَإِذَا ٱلسَّمَاء فُرِجَتْ }: أي صار فيها فروج بانفطار. وقرأعمرو بن ميمون: طمست، فرجت، بشد الميم والراء؛ والجمهور: بخفهما. {وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ }: أي فرقتها الرياح، وذلك بعد التسييروقبل كونها هباء. وقرأ الجمهور: {أُقّتَتْ } بالهمز وشد القاف؛ وبتخفيف القاف والهمز النخعي والحسن وعيسى وخالد. وقرأ أبو الأشهبوعمرو بن عبيد وعيسى أيضاً وأبو عمرو: بالواو وشد القاف. قال عيسى: وهي لغة سفلى مضر. وعبد الله والحسن وأبوجعفر: بواو واحدة وخف القاف؛ والحسن أيضاً: وقتت بواوين على وزن فوعلت، والمعنى: جعل لها وقت منتظر فحان وجاء، أوبلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة، والواو في هذا كله أصل والهمزة بدل. قال الزمخشري: ومعنى توقيت الرسل:تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره: إذا كان كذا وكذاوقع ما توعدون. {لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ }: تعظيم لذلك اليوم، وتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة. والتأجيل من الأجل،أي ليوم عظيم أخرت، {لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ }: أي بين الخلائق. {وَيْلٌ }: تقدم الكلام فيه في أول ثاني حزب منسورة البقرة، يومئذ: يوم إذ طمست النجوم وكان ما بعدها. وقرأ الجمهور: {نُهْلِكِ ٱلاْوَّلِينَ } بضم النون، وقتادة: بفتحها. قالالزمخشري: من هلكه بمعنى أهلكه. قال العجاج:

ومهمـه هـالك مــن تـعـرجـا    

وخرج بعضهم هالك من تعرجاً على أن هالكاً هومن اللازم، ومن موصول، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولهاً موصولاً. وقرأ الجمهور: {نُتْبِعُهُمُ }بضم العين على الاستئناف، وهو وعد لأهل مكة. ويقوي الاستئناف قراءة عبد الله: ثم سنتبعهم، بسين الاستقبال؛ والأعرج والعباس عنأبي عمرو: بإسكانها؛ فاحتمل أن يكون معطوفاً على {نُهْلِكِ }، واحتمل أن يكون سكن تخفيفاً، كما سكن {وَمَا يُشْعِرُكُمْ }،فهو استئناف. فعلى الاستئناف يكون الأولين الأمم التي تقدمت قريشاً أجمعاً، ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم. وعلى التشريكيكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن كان معهم، والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة رسول الله. والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال، ولذلك جاء {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ }، فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذابوهي الإجرام. ولما ذكر إفناء الأولين والآخرين، ذكر ووقف على أصل الخلقة التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث، {مّنمَّاء مَّهِينٍ }: أي ضعيف هو مني الرجل والمرأة، {فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ }: وهو الرحم، {إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ }: أيعند الله تعالى، وهو وقت الولادة. وقرأ عليّ بن أبي طالب: فقدرنا بشد الدال من التقدير، كما قال: {مِن نُّطْفَةٍخَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ }؛ وباقي السبعة: بخفها من القدرة؟ وانتصب {أَحْيَاء وَأَمْوٰتاً } بفعل يدل عليه ما قبله، أي يكفت أحياءعلى ظهرها، وأمواتاً في بطنها. واستدل بهذا من قال: إن النباش يقطع، لأن بطن الأرض حرز للكفن، فإذا نبش وأخذمنه فهو سارق. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: نكفتكم أحياء وأمواتاً، فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علمأنها كفات الإنس. انتهى. و{رَوَاسِىَ }: جبالاً ثابتات، {شَـٰمِخَـٰتٍ }: مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه: ارتفع، شبه المعنى بالجرم. {وَأَسْقَيْنَـٰكُم }:جعلناه سقياً لمزراعكم ومنافعكم. {ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ ظِلّ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ * لاَّظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ * كَأَنَّهُ * أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ * وَللَّهِ ٱلاسْمَاءٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ* وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِممّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء وَأَنْعَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }. يقال للمكذبين: {ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ }:أي من العذاب. {ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ ظِلّ }: أمر، قراءة الجمهور تكراراً أو بيان للمنطلق إليه. وقرأ رويس عن يعقوب: بفتحاللام على معنى الخبر، كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا، إذ لا يمكنهم التأخير،إذ صاروا مضطرين إلى الانطلاق؛ {ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ}، قال عطاء: هو دخان جهنم. وروي أنه يعلو من ثلاثة مواضع، يظن الكفار أنه مغن من النار، فيهرعون إليهفيجدونه على أسوإ وصف. وقال ابن عباس: يقال ذلك لعبدة الصليب. فالمؤمنون في ظل الله عز وجل، وهم في ظلمعبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب، والشعب: ما تفرق من جسم واحد. {لاَّ ظَلِيلٍ }: نفي لمحاسن الظل، {وَلاَ يُغْنِى}: أي ولا يغني عنهم من حر اللهب شيئاً. {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ }: الضمير في إنها لجهنم. وقرأ الجمهور: {بِشَرَرٍ}، وعيسى: بشرار بألف بين الراءين، وابن عباس وابن مقسم كذلك، إلا أنه كسر الشين، فاحتمل أن يكون جمع شرر،أي بشرار من العذاب، وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها، أي بشرار من الناس، كما تقول: قوم شرار جمع شرغير أفعل التفضيل، وقوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل؛ ويؤنث هذا فيقال للمؤنث شرة وخيره بخلافهما، إذا كانا للتفضيل،فلهما أحكام مذكورة في النحو. وقرأ الجمهور: {كَٱلْقَصْرِ }؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحسن وابن مقسم: بفتح القاف والصاد؛وابن جبير أيضاً والحسن أيضاً: كالقصر، بكسر القاف وفتح الصاد؛ وبعض القراء: بفتح القاف وكسر الصاد؛ وابن مسعود: بضمهما، كأنهمقصور من القصور، كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور، قال الراجز:

فيهـا عنـابيـل أسـود ونمـر    

وتقدم شرح أكثر هذهالقراآت في المفردات. وقرأ الجمهور، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: {*جمالات} بكسر الجيم وبالألف والتاء، جمع جمالجمع الجمع وهي الإبل، كقولهم: رجالات قريش؛ وابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء: بخلاف عنهم كذلك، إلا أنهمضموا الجيم، وهي جمال السفن، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى، ثم جمع على جمل وجمال، ثم جمعجمال ثانياً جمع صحة فقالوا: جمالات. وقيل: الجمالات: قلوص الجسور. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي، وهارونعنه: جمالة بكسر الجيم، لحقت جمالاً التاء لتأنيث الجمع، كحجر وحجارة. وقرأ ابن عباس والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو نحريةوابن أبي عبلة ورويس: كذلك، إلا أنهم ضموا الجيم. قال ابن عباس وابن جبير: الجمالات: قلوص السفن، وهي حباله العظام،إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام. وقال ابن عباس أيضاً: الجمالات: قطع النحاس الكبار، وكان اشتقاقهذه من اسم الجملة. وقرأ الحسن: صفر، بضم الفاء؛ والجمهور: بإسكانها، شبه الشرر أولاً بالقصر، وهو الحصن من جهة العظمومن جهة الطول في الهواء؛ وثانياً بالجمال لبيان التشبيه. ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان، وهي القصور؟ قال الشاعر:

فوقفت فيها ناقتي فكأنها     فدن لأقصى حاجة المتلوم

ومن قرأ بضم الجيم، فالتشبيه منجهة العظم والطول. والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر، قاله الجمهور: وقيل: صفر سود، وقيل: سود تضرب إلى الصفرة. وقال عمرانبن حطان الرقاشي:

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم     بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

وقرأ الأعمشوالأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية: {لّلْمُكَذّبِينَ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ }، بفتح الميم؛ والجمهور: برفعها.قال ابن عطية: لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء، وهي في موضع رفع. وقال صاحب اللوامح: قالعيسى: هي لغة سفلى مضر، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد، فهوفي موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. انتهى. والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليهاالبناء بوجه، وإنما هذا مذهب كوفي. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف، فيصير هذا إشارة إلىما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم، ورميها بالشررفي يوم لا ينطقون، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول، كما كانت { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } . انتهى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون ظرفاً، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر. وقال الزمخشري:ونصبه الأعمش، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، وهنا نفي نطقهم. وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا فيمواضع من هذا اليوم، وذلك باعتبار طول اليوم، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت، أو نفينطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق. وقرأ القراء كلهم فيما أعلم: {وَلاَ يُؤْذَنُ } مبنياًللمفعول. وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ: ولا يأذن، مبنياً للفاعل، أي الله تعالى، {فَيَعْتَذِرُونَ }: عطفعلى {وَلاَ يُؤْذَنُ } داخل في حيز نفي الإذن، أي فلا إذن فاعتذار، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب.وقال ابن عطية: ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، والوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوسالآي وقال: والوجهان جائزان، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لايكون متسبباً بل صريح عطف، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكونمعناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب، وجعلدليله ذلك، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره. {هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَـٰكُمْ} للكفار، {وَٱلاْوَّلِينَ }: قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين، أي جمعناكم للفصلبين السعداء والأشقياء. {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ }: أي في هذا اليوم، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون بهدين الله وأولياءه، {فَكِيدُونِ } اليوم، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ. ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزراً من أحوال الكفارفي الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين،فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين. وقرأ الجمهور: {فِى ظِلَـٰلٍ } جمع ظل؛ والأعمش: في ظلل جمع ظلة. {كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ }:خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول، ويدل عليه {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }. {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ }: خطاب للكفار في الدنيا،{قَلِيلاً }: أي زماناً قليلاً، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم. {وَإذَاقِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ }: من قال إنها مكية، قال هي في قريش؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية، قال هيفي المنافقين. وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، قالوا لرسول الله : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحنيإنها مسبة، فأبى وقال: لا خير في دين لا صلاة فيه . ومعنى اركعوا: اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه. وقيل:الركوع هنا عبارة عن الصلاة؛ وخص من أفعالها الركوع، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود. وجاه في هذه السورةبعد كل جملة قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوالالآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة. والضمير في{بَعْدِهِ } عائد على القرآن، والمعنى أنه قد تضمن من الإعجاز والبلاغة والإخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه مالم يتضمنه كتاب إلهي، فإذا كانوا مكذبين به، فبأي حديث بعده يصدقون به؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أنكذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن. وقرأ الجمهور: {يُؤْمِنُونَ } بياء الغيبة؛ ويعقوب وابن عامر في رواية: بتاء الخطاب.