تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الملك

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } * { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } * { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } * { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } * { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ } * { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } * { قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } * { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } * { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } * { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } * { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } * { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } * { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } * { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } * { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } * { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } * { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } * { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } * { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } * { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } * { قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } {تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ * ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَوَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ * ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ * سَمَـٰوَاتٍ * طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ* وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَٱلْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْخَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّفِى ضَلَـٰلٍ كَبِيرٍ * وَقَالُواْ }. هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ضرب للكفار بتينك المرأتين المحتوملهما بالشقاوة، وإن كانتا تحت نبيين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم، وهما محتوم لهما بالجنة، وإن كان قوماهما كافرين. كان ذلكتصرّفاً في ملكه على ما سبق قضاؤه، فقال: {تَبَـٰرَكَ }: أي تعالى وتعاظم، {ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ }: وهو كناية عنالإحاطة والقهر، وكثيراً ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله: { فَسُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } ،وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك، والملك هنا هو على الإطلاق لايبيد ولا يختل. وعن ابن عباس: ملك الملوك لقوله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ } ، وناسب الملك ذكر وصف القدرةوالحياة ما يصح بوجوده الإحساس. ومعنى {خَلَقَ ٱلْمَوْتَ }: إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون، وسمىعلم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة، استعارة من فعل المختبر. وفي الحديث أنه فسر {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }: أيأحسن عقلاً وأشدّكم خوفاً وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً، وإن كان أقلكم تطوعاً. وعن ابن عباس والحسن والثوري: أزهدكم فيالدنيا. وقيل: كنى بالموت عن الدنيا، إذ هو واقع فيها، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها، فكأنه قال:هو الذي خلق الدنيا والآخرة، وصفهما بالمصدرين، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس. وليبلوكم متعلق بخلق. {وَإِيَّـٰكُمْ * أَحْسَنُ عَمَلاً} مبتدأ وخبر، فقدر الحوفي قبلها فعلاً تكون الجملة في موضع معموله، وهو معلق عنها تقديره: فينظر، وقدّر ابن عطيةفينظر أو فيعلم. وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين تعلق قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بفعل البلوى؟ قلت: منحيث أنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملاً، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانتهذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملاً. فإن قلت: أيسمى هذا تعليقاً؟ قلت: لا،إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعاً، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنهلا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّراً بحرف الاستفهام وغير مصدّر به؟ ولو كان تعليقاًلافترقت الحالتان، كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق، وعلمت زيداً منطلقاً. انتهى. وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقاً، فيقولونفي الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول، وجاءت بعده جملة استفهامية، أو بلام الابتداء، أو بحرف نفي، كانت الجملةمعلقاً عنها الفعل، وكانت في موضع نصب، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وقدتقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى: { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ، وانتصب {طِبَاقاً } علىالوصف السبع، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقاً لقولهم: النعل خصفها طبقاً على طبق، وصف به على سبيل المبالغة،أو على حذف مضاف، أي ذا طباق؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب، والمعنى: بعضها فوقبعض. وما ذكر من مواد هذه السموات. فالأولى من موج مكفوف، والثانية من درّة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعةمن نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح، وقد كان بعض منينتمي إلى الصلاح، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه، يخبر أنه يشاهد السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا. {مِن تَفَـٰوُتٍ}، قال ابن عباس: من تفرّق. وقال السدّي: من عيب. وقال عطاء بن يسار: من عدم استواء. وقال ثعلب: أصلهمن الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً من الخلل. وقيل: من اضطراب. وقيل: من اعوجاج. وقيل: من تناقض. وقيل: مناختلاف. وقيل: من عدم التناسب والتفاوت، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص. قال بعض الأدباء:

تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى     بهن اختلافاً بل أتين على قدر

وقرأ الجمهور: {مِن تَفَـٰوُتٍ }، بألف مصدر تفاوت؛وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش: بشدّ الواو، مصدر تفوّت. وحكى أبو زيد عن العربي: تفاوتاً بضم الواووفتحها وكسرها، والفتح والكسر شاذان. والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور، بل كلجار على الإتقان. وقيل: المراد في {خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } السموات فقط، والظاهر أن قوله تعالى: {مَّا تَرَىٰ } استئناف أنهلا يدرك في خلقه تعالى تفاوت، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله: {طِبَاقاً }، أصلها ما ترى فيهن منتفاوت، فوضع مكان الضمير قوله: {خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن،وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب. انتهى. والخطاب في ترى لكل مخاطب، أو للرسول صلى اللهعليه وسلم. ولما أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب فقال: {فَٱرْجِعِ }، ففيالفاء معنى التسبب، والمعنى: أن العيان يطابق الخبر. و{*الفطور}، قال مجاهد: الشقوق، فطر ناب البعير: شق اللحم وظهر، قال الشاعر:

بنى لكم بلا عمد سماء     وسوّاها فما فيها فطور

وقال أبو عبيدة: صدوع، وأنشدقول عبيد بن مسعود:

شققت القلب ثم رددت فيه     هواك فليط فالتأم الفطور

وقالالسدي: خروق. وقال قتادة: خلل، ومنه التفطير والانفطار. وقال ابن عباس: وهن وهذه تفاسير متقاربة، والجملة من قوله: {ٱلْبَصَرَ هَلْتَرَىٰ مِن فُطُورٍ } في موضع نصب بفعل معلق محذوف، أي فانظر هل ترى، أو ضمن معنى {فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ }معنى فانظر ببصرك هل ترى؟ فيكون معلقاً. {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ }: أي ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد، بليراد بها التكرار، كأنه قال: كرة بعد كرة، أي كرات كثيرة، كقوله: لبيك، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض،وأريد بالتنثية التكثير، كما أريد بما هو أصل لها التكثير، وهو مفرد عطف على مفرد، نحو قوله:

لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم     بيتاً وأبعدهم عن منزل الزام

يريد: لوعدت قبور كثيرة. وقال ابن عطية وغيره:{كَرَّتَيْنِ } معناه مرتين ونصبها على المصدر. وقيل: أمر برجع البصر إلى السماء مرتين، غلط في الأولى، فيستدرك بالثانية. وقيل:الأولى ليرى حسنها واستواءها، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها. وقرأ الجمهور: {يَنقَلِبَ } جزماً على جواب الأمر؛ والخوارزمي عنالكسائي: يرفع الباء، أي فينقلب على حذف الفاء، أو على أنه موضع حال مقدرة، أي إن رجعت البصر وكررت النظرلتطلب فطور شقوق أو خللاً أو عيباً، رجع إليك مبعداً عما طلبته لانتفاء ذلك عنها، وهو كالّ من كثرة النظر،وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد، لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين. والحسير: الكال، قال الشاعر:

لهن الوجى لم كر عوناً على النوى     ولا زال منها ظالع وحسير

يقال: حسر بعيره يحسر حسوراً: أيكلّ وانقطع فهو حسير ومحسور، قال الشاعر يصف ناقة:

فشطرهـا نظـر العينيـن محسـور    

أي: ونحرها، وقد جمع حسير بمعنى أعياوكل، قال الشاعر:

بهـا جيـف الحسـرى فـأما عظـامها    

البيت. {ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا }: هي التي نشاهدها، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة،{بِمَصَـٰبِيحَ }: أي بنجوم مضيئة كالمصابيح، ومصابيح مطلق الأعلام، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح. {وَجَعَلْنَـٰهَارُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ }: أي جعلنا منها، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله: {وَجَعَلْنَـٰهَا} على السماء. والظاهر عوده على مصابيح. ونسب الرجم إليها، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها، والكواكب قارّ فيملكه على حاله. فالشهاب كقبس يؤخذ من النار، والنار باقية لا تنقص. والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع، وأن الرجمهو حقيقة يرمون بالشهب، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات. وقيل: معنى رجوماً: ظنوناً لشياطين الإنس، وهم المنجمون ينسبونإلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهونبها على الملوك وضعفاء العقول، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء. وقد وقفنا على أشياء من كذبهمفي تلك الموالد، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال. وقال قتادة: خلقالله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وليهتدي بها في البر والبحر؛ فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلفوأذهب حظه من الآخرة. والضمير في لهم عائد على الشياطين. وقرأ الجمهور: {عَذَابَ جَهَنَّمَ } برفع الباء؛ والضحاك والأعرجوأسيد بن أسيد المزني والحسن في رواية هارون عنه: بالنصب عطفاً على {عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }، أي وأعتدنا للذين كفروا عذابجهنم. {إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا }: أي طرحوا، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به، ومثله حصب جهنم، {سَمِعُواْ لَهَا}: أي لجهنم، {شَهِيقًا }: أي صوتاً منكراً كصوت الحمار، تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها. ويحتمل أن يكون علىحذف مضاف، أي سمعوا لأهلها، كما قال تعالى: { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } . {وَهِىَ تَفُورُ }: تغلي بهم غلي المرجل.{تَكَادُ تَمَيَّزُ }: أي ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها، ويقال: فلان يتميز من الغيظ إذا وصفوه بالإفراط في الغضب.وقرأ الجمهور: {تَمَيَّزُ } بتاء واحدة خفيفة، والبزي يشدّدها، وطلحة: بتاءين، وأبو عمرو: بإدغام الدال في التاء، والضحاك: تمايز علىوزن تفاعل، وأصله تتمايز بتاءين؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة: تميز من ماز من الغيظ على الكفرة، جعلت كالمغتاظةعليهم لشدة غليانها بهم، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر:

في كلب يشتد في جريه     يكاد أن يخرج من إهابه

وقولهم: غضب فلان، فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا أفرط فيالغضب. ويجوز أن يراد من غيظ الزبانية. {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ }: أي فريق من الكفار، {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا }: سؤالتوبيخ وتقريع، وهو مما يزيدهم عذاباً إلى عذابهم، وخزنتها: مالك وأعوانها، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }: ينذركم بهذا اليوم، {قَالُواْ بَلَىٰ}: اعتراف بمجيء النذر إليهم. قال الزمخشري: اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأنه عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهمفيما وقعوا فيه، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة، وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم، خلاف ما اختارالله وأمر به وأوعد على ضده. انتهى، وهو على طريق المعتزلة. والظاهر أن قوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ كَبِيرٍ}، من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذراً إليهم، أنكروا أولاً أن الله نزل شيئاً، واستجهلوا ثانياً من أخبر بأنهتعالى أرسل إليهم الرسل، وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة. ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخباراً لهم وتقريعاًبما كانوا عليه في الدنيا. أرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه، أوسموا عقاب الضلال ضلالاً لما كان ناشئاً عن الضلال.وقال الزمخشري: أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله. انتهى. فإن كان الخطاب في{إِنْ أَنتُمْ } للرسل، فقد يراد به الجنس، ولذلك جاء الخطاب بالجمع. {وَقَالُواْ }: أي للخزنة حين حاوروهم، {لَوْ كُنَّانَسْمَعُ } سماع طالب للحق، {أَوْ نَعْقِلُ }. عقل متأمل له، لم نستوجب الخلود في النار. {فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ }: أيبتكذيب الرسل، {فَسُحْقًا }: أي فبعداً لهم، وهو دعاء عليهم، والسحق: البعد، وانتصابه على المصدر: أي سحقهم الله سحقاً، قالالشاعر:

يجول بأطراف البلاد مغربا     وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

والفعل منه ثلاثي. وقالالزجاج: أي أسحقهم الله سحقاً، أي باعدهم بعداً. وقال أبو علي الفارسي: القياس إسحاقاً، فجاء المصدر على الحذف، كما قيل:

وإن أهـلك فـذلك كـان قـدري    

أي تقديري. انتهى، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر لأن فعله قد جاء ثلاثياً، كما أنشد:

وتسحقـه ريـح الصبـا كـل مسحـق    

وقرأ الجمهور: بسكون الحاء؛ وعلي وأبو جعفر والكسائي، بخلاف عن أبي الحرث عنه: بضمها. قالابن عطية: {فَسُحْقًا }: نصباً على جهة الدعاء عليهم، وجاز ذلك فيه، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذاالقول فيهم مستقر أولاً، ووجوده لم يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به، كما تقول:سحقاً لزيد وبعداً، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، وإن وقع وثبت، فالوجه فيه الرفع، كما قال تعالى: { وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ } ، و { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } ، وغير هذا من الأمثلة. انتهى. {يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }: أي الذي أخبروا به من أمر المعادوأحواله، أو غائبين عن أعين الناس، أي في خلواتهم، كقوله: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه. {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ }: خطابلجميع الخلق. قال ابن عباس: وسببه أن بعض المشركين قال لبعض: أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد. {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْخَلَقَ }: الهمزة للاستفهام ولا للنفي، والظاهر أن من مفعول، والمعنى: أينتفي علمه بمن خلق، وهو الذي لطف علمه ودقوأحاط بخفيات الأمور وجلياتها؟ وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعلاً والمفعول محذوف، كأنه قال: ألا يعلم الخالق سركم وجهركم؟وهو استفهام معناه الإنكار، أي كيف لا يعلم ما تكلم به من خلق الأشياء وأوجدها من العدم الصرف وحاله أنهاللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن؟ {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ ذَلُولاً }: منةمنه تعالى بذلك، والذلول فعول للمبالغة، من ذلك تقول: دابة ذلول: بينة الذل، ورجل ذليل: بين الذل. وقال ابن عطية:والذلول فعول بمعنى مفعول، أي مذلولة، فهي كركوب وحلوب. انتهى. وليس بمعنى مفعول لأن فعله قاصر، وإنما تعدى بالهمزة كقوله: { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } ، وأما بالتضعيف لقوله: { وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ } ، وقوله: أي مذلولة يظهر أنه خطأ. {فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا }:أمر بالتصرف فيها والاكتساب؛ ومناكبها، قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب: أطرافها، وهي الجبال. وقال الفراء والكلبي ومنذر بنسعيد: جوانبها، ومنكبا الرجل: جانباه. وقال الحسن والسدي: طرفها وفجاجها. قال الزمخشري: والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجازوته الغاية،لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا جعلها فيالذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل. انتهى. وقال الزجاج: سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل. {وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ}: أي البعث، فسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم. وقوله عز وجل: {مَّن فِى ٱلسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلاْرْضَفَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ * أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى ٱلسَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَـٰصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ * أَوَ لَمْ * يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَــٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ * مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ * أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَـٰفِرُونَ إِلاَّ فِىغُرُورٍ * أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِأَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلاْبْصَـٰرَ وَٱلاْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ* قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قُلْ إِنَّمَاٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِى كُنتُم بِهِتَدَّعُونَ * قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَـٰفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَٱلرَّحْمَـٰنُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْبِمَاء مَّعِينٍ }. قرأ نافع وأبو عمرو والبزي: {أَءمِنتُمْ } بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهماألفاً، وقنبل: بإبدال الأولى واواً لضمة ما قبلها، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما. {مَّن فِىٱلسَّمَاء }: هذا مجاز، وقد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة، ومجازه أن ملكوته في السماءلأن في السماء هو صلة من، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه، وهو استقر، أي من في السماء هو،أي ملكوته، فهو على حذف مضاف، وملكوته في كل شيء. لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيهواللوح المحفوظ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم، إذ كانوا مشبهة، فيكون المعنى: أأمنتممن تزعمون أنه في السماء؟ وهو المتعالي عن المكان. وقيل: من على حذف مضاف، أي خالق من في السماء. وقيل:من هم الملائكة. وقيل: جبريل، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره. وقيل: من بمعنى على، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان،وفي التحرير: الاجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار، لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرشلا يقول بأنه في السماء. {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلاْرْضَ } وهو ذهابها سفلاً، {فَإِذَا هِىَ تَمُورُ }: أي تذهب أوتتموج، كما يذهب التراب في الريح. وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار، وقالحسان بن ثابت:

فأنذر مثلها نصحاً قريشا     من الرحمن إن قبلت نذيرا

وأثبت ورشياء نذيري ونكيري، وحذفها باقي السبعة. ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب، نبههم على الاعتبار بالطيروما أحكم من خلقها، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك، وناسب ذلك الاعتبار بالطير، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب،وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به، ففيه إذكار قريش بهذه القصة، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهمبحاصب ترمي به الطير، كما فعل بأصحاب الفيل. {صَافَّـٰتٍ }: باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة، {وَيَقْبِضْنَ }: ويضممن الأجنحةإلى جوانبهن، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى. وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قولهتعالى: { فَٱلْمُغِيرٰتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ } ، عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى: فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن، ومثل هذا العطففصيح، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح، نحو قوله:

بات يغشيها بغضب باتر     يقصد في أسوقها وجائر

أي: قاصد في أسوقها وجائر. وقال الزمخشري: {صَافَّـٰتٍ }: باسطات أجنحتهن في الجوعند طيرانها، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً، {وَيَقْبِضْنَ }: ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن. فإن قلت: لم قيل {وَيَقْبِضْنَ}، ولم يقل: وقابضات؟ قلت: أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحةمد الأطراف وبسطها. وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعلعلى معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السابح. انتهى. وملخصه أن الغالب هو البسط،فكأنه هو الثابت، فعبر عنه بالاسم. والقبض متجدد، فعبر عنه بالفعل بـ {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ }: أي بقدرته. قالالزمخشري: وبما دبر لهن من القوادم والخوافي، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو {إِنَّهُ بِكُلّشَىْء بَصِيرٌ }: يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب. انتهى، وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة. ونحن نقول: إن أثقلالأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهىما ينزل كان، وليس ذلك معذوقاً بشكل، لا من ثقل ولا خفة. وقرأ الجمهور: ما يمسكهن مخففاً. والزهري مشدداً. وقرأالجمهور: {مِن }، بإدغام ميم أم في ميم من، إذ الأصل أم من، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذيبعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء، وهذا خبر، والمعنى: من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه؛ وكذلك منهو رازقكم أن أمسك رزقه، والمعنى: لا أحد ينصركم ولا يرزقكم. وقرأ طلحة: أمن بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة.قال صاحب اللوامح: ومعناه: أهذا الذي هو جند لكم ينصركم، أم الذي يرزقكم؟ فلفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التقريع والتوبيخ. انتهى.{بَل لَّجُّواْ }: تمادوا، {فِى عُتُوّ }: في تكبر وعناد، {وَنُفُورٍ }: شراد عن الحق لثقله عليهم. وقيل: هذا إشارةإلى أصنامهم. {أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ }، قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة، وأن الكفار يمشون فيهاعلى وجوههم، والمؤمنون يمشون على استقامة. وقيل للنبي : كيف يمشى الكافر على وجهه؟ فقال: إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه . فالمشي على قول قتادة حقيقة. وقيل: هو مجاز،ضرب مثلاً للكافر والمؤمن في الدنيا. فقيل: عام، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك، نزلت فيهما. وقال ابن عباس أيضاً:نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: في أبي جهل وحمزة، والمعنى أن الكافر في اضطرابه وتعسفه فيعقيدته وتشابه الأمر عليه، كالماضي في انخفاض وارتفاع، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه. وأما المؤمن، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان،وكونه قد وضح له الحق، كالماشي صحيح البصر مستوياً لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها، فآلة نظرهصحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه. و{مُكِبّاً }: حال من أكب، وهو لا يتعدى، وكب متعد، قال تعالى: { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ } ، والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة، ومطاوع كب انكب، تقول: كببته فانكب. وقال الزمخشري: ولا شيء منبناء افعل مطوعاً، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه، وكم من نصفي كتاب سيبويه عمى بصره وبصيرته حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلطفيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه. وأهدي: افعل تفضيل من الهدى في الظاهر، وهو نظير: العسل أحلى أمالخل؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سوياً على صراط مستقيم أهدى.وانتصب {قَلِيلاً } على أنه نعت لمصدر محذوف، وما زائدة، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة، أي تشكرون شكراً قليلاً. وقالابن عطية: ظاهر أنهم يشكرون قليلاً، وما عسى أن يكون للكافرين شكر، وهو قليل غير نافع. وأما أن يريد بهنفي الشكر جملة فعبر بالقلة، كما تقول العرب: هذه أرض قلّ ما تنبت كذا، وهي لا تنبته ألبتة. انتهى. وتقدمنظير قوله والرد عليه في ذلك. {ذَرَأَكُمْ }: بثكم، والحشر: البعث، والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة، أي متىإنجاز هذا الوعد؟. {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً }: أي رأوا العذاب وهو الموعود به، {زُلْفَةً }: أي قرباً، أي ذاقرب. وقال الحسن: عياناً. وقال ابن زيد: حاضراً. وقيل: التقدير مكاناً ذا زلفة، فانتصب على الظرف. {سَيّئَـٰتُ }: أي ساءترؤيته وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل. وأخلص الجمهور كسرة السين، وأشمها الضم أبو جعفروالحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي. {وَقِيلَ } لهم، أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم.وقرأ الجمهور: {تَدْعُونَ } بشد الدال مفتوحة، فقيل: من الدعوى. قال الحسن: تدعون أنه لا جنة ولا نار. وقيل: تطلبونوتستعجلون، وهو من الدعاء، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلامويعقوب: تدعون بسكون الدال، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع. روي أنالكفار كانوا يدعون على الرسول وأصحابه بالهلاك. وقيل: كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه، فأمرأن يقول: {إِنْ أَهْلَكَنِىَ ٱللَّهُ } كما تريدون، {أَوْ رَحِمَنَا } بالنصر عليكم، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم؟ولما قال: {أَوْ رَحِمَنَا } قال: {هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ }، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى.وقرأ الجمهور: {فَسَتَعْلَمُونَ } بتاء الخطاب، والكسائي: بياء الغيبة نظراً إلى قوله: { فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَـٰفِرِينَ } . ولما ذكر العذاب،وهو مطلق، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء، وهو عذاب مخصوص. والغور مشروح في الكهف، والمعين في قدأفلح، وجواب {إِنْ أَهْلَكَنِىَ }: {فَمَن يُجِيرُ }، وجواب {إِنْ أَصْبَحَ }: {فَمَن يَأْتِيكُمْ }، وتليت هذه الآية عند بعضالمستهزئين فقال: تجيء به الفوس والمعاويل، فذهب ماء عينيه.