تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الواقعة

{ إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } * { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } * { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } * { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } * { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } * { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } * { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } * { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } * { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } * { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } * { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } * { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } * { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } * { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } * { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } * { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } * { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } * { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } * { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } * { وَحُورٌ عِينٌ } * { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } * { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } * { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } * { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } * { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } * { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } * { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } * { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } * { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } * { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } * { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } * { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } * { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } * { عُرُباً أَتْرَاباً } * { لاًّصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } * { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } رجت الأرض: زلزلت وحركت تحريكاً شديداً بحيث تنهدم الأبنية وتخر الجبال. بست الجبال:فتتت، وقيل: سيرت، من قولهم: بس الغنم: ساقها، ويقال: رجت الأرض وبست الجبال لازمين. المشأمة: من الشؤم، أو من اليدالشؤمى، وهي الشمال. الثلاثة: الجماعة، كثرت أو قلت. وقال الزمخشري: الأمّة من الناس الكثيرة، وقال الشاعر:

وجاءت إليهم ثلاثة خندفية     بجيش كتيار من السيل مزبد

الموضونة: المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض، كحلق الدرع.قال الأعشى:

ومن نسج داود موضونة     تسير مع الحي عيراً فعيرا

ومنه: وضين الناقة،وهو خزامها، لأنه موضون: أي مفتول. قال الراجز:

إليك تغدو قلقاً وضينها     معترضاً في بطنها جنينها مخالفـاً ديـن النصـارى دينـها

الإبريق: إفعيل من البريق، وهو إناء للشرب له خرطوم. قيل: وأذن، وهو منأواني الخمر عند العرب، قال الشاعر:

كأن إبريقهم ظبي على شرف     مقدّم فسبا الكتان ملثوم

وقالعدي بن زيد:

وندعو إلى الصباح فجاءت     قينة في يمينها إبريق

صدعالقوم بالخمر: لحقهم الصداع في رؤوسهم منها. وقيل: صدعوا: فرقوا. السدر: تقدّم الكلام عليه في سورة سبأ. المخضود: المقطوع شوكه.قال أمية بن أبي الصلت:

إن الحدائق في الجنان ظليلة     فيها الكواعب سدرها مخضود

الطلح: شجر الموز، وقيل: شجر من العضاة كثير الشوك. المسكوب: المصبوب. العروب: المتحببة إلى زوجها. الترب: اللذة، وهو من يولدهو وآخر في وقت واحد، سميا بذلك لمسهما التراب في وقت واحد، والله تعالى أعلم. {إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ *لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ ٱلاْرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً *وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَـٰثَةً * فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـئَمَةِ مَا أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـئَمَةِ * وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ * أُوْلَـئِكَٱلْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مّنَ ٱلاْوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مّنَ ٱلاْخِرِينَ * عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَامُتَقَـٰبِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰنٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ * لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَـٰكِهَةٍمّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَـٰلِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ *لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلَـٰماً سَلَـٰماً * وَأَصْحَـٰبُ ٱلْيَمِينِ مَا أَصْحَـٰبُ ٱلْيَمِينِ * فِى سِدْرٍمَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَـٰكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍمَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَـٰهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَـٰهُنَّ أَبْكَـٰراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لاِصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مّنَ ٱلاْوَّلِينَ * وَثُلَّةٌمّنَ ٱلاْخِرِينَ }. هذه السورة مكية، ومناسبتها لما قبلها تضمن العذاب للمجرمين، والنعيم للمؤمنين. وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين وجنتيبعض بقوله: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } ، فانقسم العالم بذلك إلى كافر ومؤمن مفضول ومؤمن فاضل؛ وهكذا جاء ابتداء هذه السورةمن كونهم أصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة، وسباق وهم المقربون، وأصحاب اليمين والمكذبون المختتم بهم آخر هذه السورة. وقال ابنعباس: الواقعة من أسماء القيامة، كالصاخة والطامّة والآزفة، وهذه الأسماء تقتضي عظم شأنها، ومعنى {وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ }: أي وقعت التيلا بد من وقوعها، كما تقول: حدثت الحادثة، وكانت الكائنة؛ ووقوع الأمر نزوله، يقال: وقع ما كنت أتوقعه: أي نزلما كنت أترقب نزوله. وقال الضحاك: {ٱلْوَاقِعَةُ }: الصيحة، وهي النفخة في الصور. وقيل: {ٱلْوَاقِعَةُ }: صخرة بيت المقدس تقعيوم القيامة. والعامل في إذا الفعل بعدها على ما قررناه في كتب النحو، فهو في موضع خفض بإضافة إذا إليهااحتاج إلى تقدير عامل، إذ الظاهر أنه ليس ثم جواب ملفوظ به يعمل بها. فقال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصبإذا؟ قلت: بليس، كقولك: يوم الجمعة ليس لي شغل، أو بمحذوف يعني: إذا وقعت، كان كيت وكيت، أو بإضمار أذكر.انتهى. أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئاً من صناعة الإعراب إلى مثل هذا، لأن ليسفي النفي كما، وما لا تعمل، فكذلك ليس، وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان. والقول بأنها فعل هوعلى سبيل المجاز، لأن حد الفعل لا ينطبق عليها. والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث، فإذاقلت: يوم الجمعة أقوم، فالقيام واقع في يوم الجمعة، وليس لا حدث لها، فكيف يكون لها عمل في الظرف؟ والمثالالذي شبه به، وهو يوم القيامة، ليس لي شغل، لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس، بل هو منصوببالعامل في خبر ليس، وهو الجار والمجرور، فهو من تقديم معمول الخبر على ليس، وتقديم ذلك مبني على جواز تقديمالخبر الذي لليس عليها، وهو مختلف فيه، ولم يسمع من لسان العرب: قائماً ليس زيد. وليس إنما تدل على نفيالحكم الخبري عن الخبري عن المحكوم عليه فقط، فهي كما، ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع، جعلها ناس فعلاً، وهيفي الحقيقة حرف نفي كما النافية. ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله: يوم الجمعة، أنه سلبها الدلالة على الشرطالذي هو غالب فيها، ولو كانت شرطاً، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس، لزمت الفاء، إلا إن حذفت في شعر، إذورد ذلك، فنقول: إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته. ولا يجوز لست بغير فاء، إلا إن اضطر إلى ذلك.وأما تقديره: إذا وقعت كان كيت وكيت، فيدل على أن إذا عنده شرطية، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها. وأماقوله: بإضمار اذكر، فإنه سلبها الظرفية، وجعلها مفعولاً بها منصوبة باذكر. و{كَاذِبَةٌ }: ظاهره أنه اسم فاعل من كذب،وهو صفة لمحذوف، فقدره الزمخشري: نفس كاذبة، أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله، وتكذب في تكذيب الغيب،لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، لقوله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ } { وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ } ،واللام مثلها في قوله: { يَقُولُ يٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } ، إذ ليس لها نفس تكذبها وتقول لها: لم تكذبي، كما لهااليوم نفوس كثيرة يقلن لها: لم تكذبي، أو هي من قولهم: كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم، إذا شجعته علىمباشرته، وقالت له: إنك تطيقه وما فوقه، فتعرض له ولا تبال على معنى: أنها وقعة لا تطاق بشدة وفظاعة، وأنلا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور، وتزين له احتمالها وإطاقتها، لأنهم يومئذ أضعف من ذلكوأذل. ألا ترى إلى قوله تعالى: { كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ } ؟ والفراش مثل في الضعف. انتهى، وهو تكثير وإسهاب. وقدره ابن عطيةحال كاذبة، قال: ويحتمل الكلام على هذا معنيين: أحدهما كاذبة، أي مكذوب فيما أخبر به عنها، فسماها كاذبة لهذا، كماتقول: هذه قصة كاذبة، أي مكذوب فيها. والثاني: حال كاذبة، أي لا يمضي وقوعها، كما تقول: فلان إذا حمل لميكذب. وقال قتادة والحسن المعنى: ليس لها تكذيب ولا رد ولا منثوية، فكاذبة على هذا مصدر، كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين.والجملة من قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } على ما قدّره الزمخشري من أن إذا معمولة لليس يكون ابتداء السورة، إلاإن اعتقد أنها جواب لإذا، أو منصوبة باذكر، فلا يكون ابتداء كلام. وقال ابن عطية: في موضع الحال، والذي يظهرلي أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه. وقرأ الجمهور: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } برفعهما، على تقدير هي؛ وزيد بن عليوالحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره بنصبهما. قال ابن خالوية: قال الكسائي: لولاأن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به، ونصبهما على الحال. قال ابن عطية: بعد الحال التي هي {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ }،ولك أن تتابع الأحوال، كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ. والقراءة الأولى أشهر وأبدع معنى، وذلك أن موقع الحال منالكلام موقع ما لو لم يذكر لاستغنى عنه، وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما يهتم به. انتهى. وهذاالذي قاله سبقه إليه أبو الفضل الرازي. قال في كتاب اللوامح: وذو الحال الواقعة والعامل وقعت، ويجوز أن يكون {لَيْسَلِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } حال أخرى من الواقعة بتقدير: إذا وقعت صادقة الواقعة، فهذه ثلاثة أحوال من ذي حال، وجازت أحوالمختلفة عن واحد، كما جازت عنه نعوت متضادة وأخبار كثيرة عن مبتدأ واحد. وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً، كان العاملفي {إِذَا وَقَعَتِ } محذوفاً يدل عليه الفحوى بتقدير يحاسبون ونحوه. انتهى. وتعداد الأحوال والأخبار فيه خلاف وتفصيل ذكر فيالنحو، فليس ذلك مما أجمع عليه النحاة. قال الجمهور: القيامة تنفظر له السماء والأرض والجبال، وتنهد له هذه البنيةبرفع طائفة من الأجرام وبخفض أخرى، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب. وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الصيحة تخفض قوتهالتسمع الأدنى، وترفعها لتسمع الأقصى. وقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة: القيامة تخفض أقواماً إلى النار، وترفع أقواماًإلى الجنة؛ وأخذ الزمخشري هذه الأقوال على عادته وكساها بعض ألفاظ رائعة، فقال: ترفع أقواماً وتضع آخرين، أما وصفاً لهابالشدة، لأن الواقعات العظام كذلك يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس؛ وأما أن الأشقياء يحطون إلى الدركات، والسعداء يحطونإلى الدرجات؛ وأما أنها تزلزل الأشياء عن مقارها لتخفض بعضاً وترفع بعضاً، حيث تسقط السماء كسفاً، وتنتثر الكواكب وتنكدر، وتسيرالجبال فتمر في الجو مر السحاب. انتهى. {إِذَا رُجَّتِ }، قال ابن عباس: زلزلت وحركت بجذب. وقال أيضاً هووعكرمة ومجاهد: {*بست}: فتتت، وقيل: سيرت. وقرأ زيد بن علي: {إِذَا رُجَّتِ }، و{*بست} مبنياً للفاعل، {وَإِذَا * رُجَّتِ }بدل من {إِذَا وَقَعَتِ }، وجواب الشرط عندي ملفوظ به، وهو قوله: {فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ }، والمعنى إذا كان كذا وكذا،فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به، أي إن سعادتهم وعظم رتبتهم عند الله تظهر في ذلك الوقتالشديد الصعب على العالم. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة، أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأنهعند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض. انتهى. ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً، بل بأحدهما، لأنهلا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد. وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي: {إِذْ * رُجَّتِ } في موضعرفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو {إِذَا وَقَعَتِ }، وليست واحدة منهما شرطية، بل جعلت بمعنى وقت، وما بعدإذا أحوال ثلاثة، والمعنى: وقت وقوع الواقعة صادقة الوقوع، خافضة قوم، رافعة آخرين وقت رج الأرض. وهكذا ادعى ابن مالكأن إذا تكون مبتدأ، واستدل بهذا. وقد ذكرنا في شرح التسهيل ما تبقى به إذا على مدلولها من الشرط، وتقدمشرح الهباء في سورة الفرقان. {مُّنبَثّاً }: منتشراً. منبتاً بنقطتين بدل الثاء المثلثة، قراءة الجمهور، أي منقطعاً. {وَكُنتُمْ }:خطاب للعالم، {أَزْوَاجاً ثَلَـٰثَةً }: أصنافاً ثلاثة، وهذه رتب للناس يوم القيامة. {فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ }، قال الحسن والربيع: هم الميامينعلى أنفسهم. وقيل: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم. وقيل: أصحاب المنزلة السنية، كما تقول: هو مني باليمين. وقيل: المأخوذ بهم ذاتاليمين، أو ميمنة آدم المذكورة في حدث الإسراء في الاسودة. {وَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـئَمَةِ }: هم من قابل أصحاب الميمنة في هذهالأقوال، فأصحاب مبتدأ، ما مبتدأ ثان استفهام في معنى التعظيم، وأصحاب الميمنة خبر عن ما، وما بعدها خبر عن أصحاب،وربط الجملة بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم، وما تعجب من حال الفريقين فيالسعادة والشقاوة، والمعنى: أي شيء هم. {وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ }: جوزوا أن يكون مبتدأ وخبراً، نحو قولهم: أنت أنت، وقوله:أنا أبو النجم، وشعري شعري، أي الذين انتهوا في السبق، أي الطاعات، وبرعوا فيها وعرفت حالهم. وأن يكون السابقون تأكيداًلفظياً، والخبر فيما بعد ذلك؛ وأن يكون السابقون مبتدأ والخبر فيما بعده، وتقف على قوله: {وَٱلسَّـٰبِقُونَ }، وأن يكون متعلقالسبق الأول مخالفاً للسبق الثاني. والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة، فعلى هذا جوزوا أن يكون السابقون خبراً لقوله: {وَٱلسَّـٰبِقُونَ}، وأن يكون صفة والخبر فيما بعده. والوجه الأول، قال ابن عطية: ومذهب سيبويه أنه يعني السابقون خبر الابتداء، يعنيخبر والسابقون، وهذا كما تقول: الناس الناس، وأنت أنت، وهذا على تفخيم الأمر وتعظيمه. انتهى. ويرجح هذا القول أنه ذكرأصحاب الميمنة متعجباً منهم في سعادتهم، وأصحاب المشأمة متعجباً منهم في شقاوتهم، فناسب أن يذكر السابقون مثبتاً حالهم معظماً، وذلكبالإخبار أنهم نهاية في العظمة والسعادة، والسابقون عموم في السبق إلى أعمال الطاعات، وإلى ترك المعاصي. وقال عثمان بن أبيسودة: السابقون إلى المساجد. وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال كعب: هم أهل القرآن. وفي الحديث: سئل عن السابقين فقال هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم . {أُوْلَـٰئِكَ }: إشارة إلىالسابقين المقربين الذين علت منازلهم وقربت درجاتهم في الجنة من العرش. وقرأ الجمهور: {فِي جَنَّـٰتِ }، جمعاً؛ وطلحة: في جناتمفرداً. وقسم السابقين المقربين إلى {ثُلَّةٌ مّنَ ٱلاْوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مّنَ ٱلاْخِرِينَ }. وقال الحسن: السابقون من الأمم، والسابقون منهذه الأمة. وقالت عائشة: الفرقتان في كل أمة نبي، في صدرها ثلة، وفي آخرها قليل. وقيل: هما الأنبياء عليهم الصلاةوالسلام، كانوا في صدر الدنيا، وفي آخرها أقل. وفي الحديث: الفرقتان في أمتي، فسابق في أول الأمة ثلة، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ، وارتفع ثلة على إضمارهم. وقرأ الجمهور: {عَلَىٰ سُرُرٍ } بضم الراء؛ وزيد ابن علي وأبوالسمال: بفتحها، وهي لغة لبعض بني تميم وكلب، يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف، نحو سرير، وتقدم ذلك في والصافات.{مَّوْضُونَةٍ }، قال ابن عباس: مرمولة بالذهب. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. {مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا }: أي على السرر، ومتكئين: حالمن الضمير المستكن في {عَلَىٰ سُرُرٍ }، {مُّتَقَـٰبِلِينَ }: ينظر بعضهم إلى بعض، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء بطائنهممن غل إخواناً. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰنٌ مُّخَلَّدُونَ }: وصفوا بالخلد، وإن كان من في الجنة مخلداً، ليدل على أنهم يبقوندائماً في سن الولدان، لا يكبرون ولا يتحولون عن شكل الوصافة. وقال مجاهد: لا يموتون. وقال الفراء: مقرطون بالخلدات، وهيضروب من الأقراط. {وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ }، قال: من خمر سائلة جارية معينة. {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا }، قال الأكثرون: لايلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا. وقرأت على أستاذنا العلامة أبي جعفر بن الزبير، رحمه الله تعالى، قولعلقمة في صفة الخمر:

تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها     ولا يخالطها في الرأس تدويم

فقال: هذه صفة أهل الجنة. وقيل: لا يفرقون عنها بمعنى: لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب، كما تفرق أهلخمر الدنيا بأنواع من التفريق، كما جاء: فتصدع السحاب عن المدينة: أي فتفرق. وقرأ مجاهد: لا يصدعون، بفتح الياء وشدالصاد، أصله يتصدعون، أدغم التاء في الصاد: أي لا يتفرقون، كقوله: { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } . والجمهور؛ بضم الياء وخفة الصاد؛ والجمهور:بجر {وَفَـٰكِهَةٍ }؛ ولحم وزيد بن علي: برفعهما، أي ولهم؛ والجمهور: {وَلاَ يُنزِفُونَ } مبنياً للمفعول. قال مجاهد وقتادة وجبيروالضحاك: لا تذهب عقولهم سكراً؛ وابن أبي إسحاق: بفتح الياء وكسر الزاي، نزف البئر: استفرغ ماءها، فالمعنى: لا تفرغ خمرهم.وابن أبي إسحاق أيضاً وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى: بضم الياء وكسر الزاي: أي لا يفنى لهم شراب،{مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ }: يأخذون خيره وأفضله، {مّمَّا يَشْتَهُونَ }: أي يتمنون. وقرأ الجمهور: {وَحُورٌ عِينٌ } برفعهما؛ وخرج عليّعلى أن يكون معطوفاً على {وِلْدٰنٌ }، أو على الضمير المستكن في {مُتَّكِئِينَ }، أو على مبتدأ محذوف هو وخبرهتقديره: لهم هذا كله، {وَحُورٌ عِينٌ }، أو على حذف خبر فقط: أي ولهم حور، أو فيهما حور. وقرأ السلميوالحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة والكسائي: بجرهما؛ والنخعي: وحير عين، بقلب الواو ياءوجرهما، والجر عطف على المجرور، أي يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا وحور عين. وقيل: هو على معنى: وينعمون بهذا كلهوبحور عين. وقال الزمخشري: عطفاً على {جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ }، كأنه قال: هم في جنات وفاكهة ولحم وحور. انتهى، وهذا فيهبعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي. وقرأ أبي وعبد الله: وحوراً عيناً بنصبهما، قالوا: على معنى ويعطونهذا كله وحوراً عيناً. وقرأ قتادة: وحور عين بالرفع مضافاً إلى عين؛ وابن مقسم: بالنصب مضافاً إلى عين؛ وعكرمة: وحوراءعيناء على التوحيد اسم جنس، وبفتح الهمزة فيهما؛ فاحتمل أن يكون مجروراً عطفاً على المجرور السابق؛ واحتمل أن يكون منصوباً؛كقراءةأبي وعبد الله وحوراً عيناً. ووصف اللؤلؤ بالمكنون، لأنه أصفى وأبعد من التغير. وفي الحديث: صفاؤهنّ كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي . وقال تعالى: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } ، وقال الشاعر، يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال، فشبهها بالدرة المكنونة في صدفتهافقال:

قامت ترأى بين سجفي كلة     كالشمس يوم طلوعها بالأسعد أو درّة صدفية غواصها

{جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }: روي أن المنازل والقسم فيالجنة على قدر الأعمال، ونفس دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بعمل عامل، وفيه النص الصحيح الصريح: لا يدخلأحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني بفضل منه ورحمة». {لَغْواً }:سقط القول وفحشه، {وَلاَ تَأْثِيماً }: ما يؤثم أحداً والظاهر أن {إِلاَّ قِيلاً سَلَـٰماً سَلَـٰماً } استثناء منقطع، لأنه لميندرج في اللغو ولا التأثيم، ويبعد قول من قال استثناء متصل. وسلاماً، قال الزجاج: هو مصدر نصبه {قِيلاً }، أييقول بعضهم لبعض {سَلَـٰماً سَلَـٰماً }. وقيل: نصب بفعل محذوف، وهو معمول قيلاً، أي قيلاً أسلموا سلاماً. وقيل: {سَلاَماً }بدل من {قِيلاً }. وقيل: نعت لقيلا بالمصدر، كأنه قيل: إلا قيلاً سالماً من هذه العيوب. {فِى سِدْرٍ }: فيالجنة شجر على خلقه، له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح. {مَّخْضُودٍ }: عار من الشوك. وقال مجاهد: المخضود: الموقرالذي تثني أغصانه كثرة حمله، من خضد الغصن إذا أثناه. وقرأ الجمهور: {وَطَلْحٍ }بالحاء؛ وعليّ وجعفر بن محمد وعبد الله:بالعين، قرأها على المنبر. وقال عليّ وابن عباس وعطاء ومجاهد: الطلح: الموز. وقال الحسن: ليس بالموز، ولكنه شجر ظله باردرطب. وقيل: شجر أم غيلان، وله نوّار كثير طيب الرائحة. وقال السدّي: شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلىمن العسل. والمنضود: الذي نضد من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق تظهر. {وَظِلّ مَّمْدُودٍ }: لا يتقلص. بل منبسطلا ينسخه شيء. قال مجاهد: هذا الظل من سدرها وطلحها. {وَمَاء مَّسْكُوبٍ }، قال سفيان وغيره: جار في أخاديد. وقيل:منساب لا يتعب فيه بساقية ولا رشاء. {لاَّ مَقْطُوعَةٍ }: أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات، كفاكهةالدنيا، {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ }: أي لا يمنع من تناولها بوجه، ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا. وقرىء: وفاكهة كثيرة برفعهما،أي وهناك فاكهة، وفرش: جمع فراش. وقرأ الجمهور: بضم الراء؛ وأبو حيوة: بسكونها مرفوعة، نضدت حتى ارتفعت، أو رفعت علىالأسرة. والظاهر أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه والنوم. وقال أبو عبيدة وغيره: المراد بالفرش النساء، لأن المرأة يكنىعنها بالفراش، ورفعهن في الأقدار والمنازل. والضمير في {أَنشَأْنَـٰهُنَّ } عائد على الفرش في قول أبي عبيدة، إذ هنّ النساءعنده، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها،أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة. والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق، ويكون ذلك مخصوصاًبالحور اللاتي لسن من نسل آدم، ويحتمل أن يريد إنشاء الإعادة، فيكون ذلك لبنات آدم. {فَجَعَلْنَـٰهُنَّ أَبْكَـٰراً * عُرُباً }:والعرب، قال ابن عباس: العروب المتحببة إلى زوجها، وقاله الحسن، وعبر ابن عباس أيضاً عنهن بالعواشق، ومنه قول لبيد:

وفي الخدور عروب غير فاحشة     ريا الروادف يغشى دونها البصر

وقال ابن زيد: العروب: المحسنةللكلام. وقرأ حمزة، وناس منهم شجاع وعباس والأصمعي، عن أبي عمرو، وناس منهم خارجة وكردم وأبو خليد عن نافع، وناسمنهم أبو بكر وحماد وأبان عن عاصم: بسكون الراء، وهي لغة تميم؛ وباقي السبعة: بضمها. {أَتْرَاباً } في الشكل والقد،وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {أَنشَأْنَـٰهُنَّ } عائد على الحور العين المذكورة قبل، لأن تلك قصة قد انقطعت،وهي قصة السابقين، وهذه قصة أصحاب اليمين. واللام في {أَصْحَـٰبُ } متعلقة بأنشأناهن. {ثُلَّةٌ مّنَ ٱلاْوَّلِينَ }: أي من الأممالماضية، {وَثُلَّةٌ مّنَ ٱلاْخِرِينَ }: أي من أمّة محمد ، ولا تنافي بين قوله: {وَثُلَّةٌ مّنَ ٱلاْخِرِينَ} وقوله قبل: {وَقَلِيلٌ مّنَ ٱلاْخِرِينَ }، لأن قوله: {مّنَ ٱلاْخِرِينَ } هو في السابقين، وقوله {وَثُلَّةٌ مّنَ ٱلاْخِرِينَ }هو في أصحاب اليمين.