تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة طه

{ طه } * { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } * { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } * { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى } * { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } * { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } * { وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } * { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } * { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } * { إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى } * { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ } * { إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } * { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } * { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } * { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } * { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ } * { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } * { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } * { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ } * { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } * { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ } * { وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً أُخْرَىٰ } * { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } * { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } * { قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } * { وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي } * { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي } * { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } * { وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي } * { هَارُونَ أَخِي } * { ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } * { وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } * { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً } * { وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } * { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } * { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } * { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } * { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ } * { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } * { إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ } * { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }

عدل

الثرى: التراب الندي ويثنّى ثريان، ويقال ثريت التربة بللتها، وثريت الأرض تثرى ثريفهي ترية ابتل ترابها بعد الجدوبة، وأثرت فهي مثرية كثر ترابها، وأرض ثرى ذات ثرى. وقال ابن الأعرابي: يقال فلانقريب الثرى بعيد النبط للذي يعد ولا يفي، ويقال: إني لأرى ثرى الغضب في وجه فلانا أي أثره، ويقال الثرىبيني وبين فلان إذا انقطع ما بينكما. وقال جرير:

فلا تنبشوا بيني وبينكم الثرى     فإن الذي بيني وبينكم مثري

آنس: وجد، تقول العرب: هل آنست فلان أي وجدته. وقيل: أحس وهو قريب من وجد. قال الحارثبن حلزة:

آنست نبأة وروعها القناص     عصراً وقد دنا الإمساء

القبس جذوة من النارتكون على رأس عود أو قصبة أو نحوه فعل بمعنى مفعول كالقبض والنفض، ويقال: قبست منه ناراً أقبس فأقبسني أعطانيمنه قبساً، ومنه المقبسة لما يقتبس فيه من شقفة وغيرها، واقتبست منه ناراً. وعلماً أي استفدته. وقال المبرد: أقبست الرجلعلم وقبسته ناراً. وقال الكسائي: أقبسته ناراً وعلماً وقبسته أيضاً فيهما. الخلع والنعل معروفان وهو إزالتها من الرجل. وقيل: النعلما هو وقاية للرجل من الأرض كان من جلد أو حديد أو خشب أو غيره. طوى: اسم موضع. السعي المشيبسرعة، وقد يطلق على العمل. ردى يردى ردى هلك، وأرداه أهلكه. قال دريد بن الصمة:

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا     فقلت أعبد الله ذلكم الردى

توكأ على الشيء تحامل عليه في المشي والوقوف، ومنه الاتكاء. توكأتواتكأت بمعنى. وتقدمت هذه المادة في سورة يوسف في قوله

{ متكأ }

وشرحت هنا لاختلاف الوزنين وإن كان الأصل واحداً. هشعلى الغنم يهش بضم الهاء خبط أوراق الشجر لتسقط، وهش إلى الرجل يهش بالكسر قاله ثعلب إذا بش وأظهر الفرحبه، والأصل في هذهالمادة الرخاوة يقال: رجل هش. الغنم معروف وهو اسم جنس مؤنث. المأربة بضم الراء وفتحها وكسرها الحاجةوتجمع على مآرب، والإربة أيضاً الحاجة. الحية الحنش ينطلق على الذكر والأنثى والصغير والكبير، وتقدمت مادته وكررت هنا لخصوصية المدلول.وقولهم حواء للذي يصيد الحيات من باب قوة فالمادتان مختلفتان كسبط وسبطر. الأزر: الظهر قاله الخليل، وأبو عبيد وآزره قواه،والأزر أيضاً القوة. وقال الشاعر:

بمحنية قد آزر الضال نبتها     مجر جيوش غانمين وخيب

القذف الرميوالإلقاء. الساحل شاطىء البحر وهو جانبه الخالي من الماء، سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقشره فهو فاعل بمعنى مفعول.وقال أبو تمام:

هو البحر من أي النواحي أتيته     فلجته المعروف والجود ساحله

{بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِٱلرَّحِيمِ طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ * إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلاْرْضَ * وَٱلسَّمَـٰوٰتِٱلْعُلَى * ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ *وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسّرَّ وَأَخْفَى * ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ }. هذه السورةمكية بلا خلاف، كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله عليّ. وقال الضحاك: صلّى عليه السلامهو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن، فقالت قريش: ما أنزل عليه إلاّ ليشقى. وقال مقاتل: قال أبو جهلوالنضر والمطعم: إنك لتشقى بترك دينناً فنزلت. ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسانالرسول أي بلغته وكان فيما علل به قوله

{ لِتُبَشّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً }

أكد ذلك بقوله {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ * إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ } والتذكرة هي البشارة والنذارة، وإن ماادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو: يس وألروما أشبههما، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة. وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة: معنى {طه} يا رجل. فقيل بالنبطية. وقيل بالحبشية. وقيل بالعبرانية. وقيل لغة يمنية في عك. وقيل في عكل. وقال الكلبي: لوقلت في عك يا رجل لم يجب حتى تقول {طه }. وقال السدّي معنى {طه } يا فلان. وأنشد الطبريفي معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم:

دعوت بطه في القتال فلم يجب     فخفت عليه أن يكون موائلاً

وقول الآخر:

إن السفاهة طه من خلائقكملا بارك الله في القوم الملاعين    

وقيل هو اسم من أسماءالرسول. وقيل: من أسماء الله. وقال الزمخشري: ولعل عكاً تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوافي يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفي في البيت المستشهد به:

إن السفاهة طه في خلائقكملا قدس الله أخلاق الملاعين    

انتهى. وكان قد قدم أنه يقال إن طاها في لغةعك في معنى يا رجل، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء وهذالا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه. وقيل:طا فعل أمر وأصله طأ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفاً وها مفعول وهو ضمير الأرض، أي طأ الأرض بقدميك ولا تراوحإذ كان يراوح حتى تورمت قدماه. وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره {طه }. قيل: وأصلهطأ فحذفت الهمزة بناء على قلبها في يطأ على حد لا هناك المرتع بُني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجريالوصل مجرى الوقف، أو أصله طأ وأبدلت همزته هاء فقيل {طه }. وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد: طاوي. وقرأطلحة ما نزل عليك بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنياً للمفعول {ٱلْقُرْءانَ } بالرفع. وقرأ الجمهور {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ} ومعنى {لِتَشْقَىٰ } لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله

{ لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ }

والشقاءيجيء في معنى التعب ومنه المثل: أتعب من رائض مهر. وأشقى من رائض مهر. قال الزمخشري: أي ما عليك إلاّأن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعطة الحسنة انتهى.وقيل: أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول. و{لِتَشْقَىٰ } و{تَذْكِرَةٌ } علة لقوله{مَا أَنَزَلْنَا } وتعدى في {لِتَشْقَىٰ } باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير {مَا أَنَزَلْنَا } هو لله، وضمير {لِتَشْقَىٰ }للرسول ، ولما اتحد الفاعل في {أَنزَلْنَا } و{تَذْكِرَةٌ } إذ هو مصدر ذكر، والمذكر هو اللهوهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافاً والجمهور يشترطونه. وقال الزمخشري: فإن قلت:أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله

{ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـٰلُكُمْ }

قلت: بلى ولكنها نصبة طارئةكالنصبة في

{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ }

وأما النصبة في {تَذْكِرَةٌ } فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسةالتي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى. وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقاً عليه بل في ذلك خلاف.أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله؟ وقال ابن عطية: {إِلاَّ تَذْكِرَةً} يصح أن ينصب على البدل من موضع {لِتَشْقَىٰ } ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى.وقد ردّ الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال: فإن قلت: هل يجوز أن يكون {تَذْكِرَةٌ } بدلاً من محل {لِتَشْقَىٰ}؟ قلت: لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلاّ فيه بمعنى لكن انتهى. ويعني باختلاف الجنسين أننصب {تَذْكِرَةٌ } نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في {لِتَشْقَىٰ } بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقولأنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى {إِنَّا أَنزَلْنَا } إليك {ٱلْقُرْءانَ} لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة و{مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ} هذا المتعب الشاق {إِلا } ليكون {تَذْكِرَةٌ } وعلى هذا الوجه يجوز أن كيون {تَذْكِرَةٌ } حالاً ومفعولاً له{لّمَن يَخْشَىٰ } لمن يؤول أمره إلى الخشية انتهى. وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ وكون {إِلاَّ تَذْكِرَةً } بدلمن محل {لِتَشْقَىٰ } هو قول الزجاج. وقال النحاس: هذا وجه بعيد وأنكره أبو عليّ من قبل أن التذكرة ليستبشقاء. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون {تَذْكِرَةٌ } بدلاً من {ٱلْقُرْءانَ } ويكون {ٱلْقُرْءانَ } هو {ٱلتَّذْكِرَةِ } وأجاز هووأبو البقاء أن يكون مصدراً أي لكن ذكرنا به {تَذْكِرَةٌ }. قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولاً لهلأنزلنا المذكور لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو {لِتَشْقَىٰ } ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى. والخشية باعثة علىالإيمان والعمل الصالح. وانتصاب {تَنْزِيلاً } على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل {تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق }. وقال الزمخشري:في نصب {تَنْزِيلاً } وجوه أن يكون بدلاً من {تَذْكِرَةٌ } إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً له، لأنالشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمراً، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى {مَا أَنَزَلْنَا } {إِلاَّ تَذْكِرَةً } أنزلناهتذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله {تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ } تنزيل اللهوهو معنى حسن وإعراب بين انتهى. والأحسن ما قدمناه أولاً من أنه منصوب بنزل مضمرة. وما ذكره الزمخشري من نصبهعلى غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل {تَذْكِرَةٌ } و{تَنْزِيلاً } حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس،وأيضاً فمدلول {تَذْكِرَةٌ } ليس مدلول {تَنْزِيلاً } ولا {تَنْزِيلاً } بعض {تَذْكِرَةٌ } فإن كان بدلاً فيكون بدل اشتمالعلى مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها. وأما قوله: لأن معنى ماأنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة، وأما نصبه على المدح فبعيد،وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولاً بيخشى وقولهفيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة. وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعاً على إضمارهو، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه، ومنالظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف. وفي قوله {مّمَّنْ خَلَق } تفخيم وتعظيم لشأنالقرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله{مّمَّنْ خَلَق } التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن فيالكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلىضمير الواحد المعظم نفسه، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين.وقال الزمخشري ويجوز أن يكون {أَنزَلْنَا } حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى. وهذا تجويز بعيدبل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه. و{ٱلْعُلَى } جمع العليا ووصف {ٱلسَّمَـٰوَاتِ } بالعُلَى دليل على عظمقدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى، والظاهر رفع {ٱلرَّحْمَـٰنُ } على خبر مبتدأمحذوف تقديره هو {ٱلرَّحْمَـٰنُ }. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير المستتر في {خُلِقَ } انتهى. وأرىأن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه، و{ٱلرَّحْمَـٰنُ } لا يمكن أن يحل محل الضمير لأنالضمير عائد على من الموصولة و{خُلِقَ } صلة، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط. وأجاز الزمخشري أنيكون رفع {ٱلرَّحْمَـٰنُ } على الابتداء قال يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق. وروى جناح بن حبيش عن بعضهمأنه قرأ الرحمن بالكسر. قال الزمخشري: صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الاسماء النواقص التي لا تتمإلاّ بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلاّ الذي والتي فيجوز نعتهما، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون {ٱلرَّحْمَـٰنُ} صفة لمن فالأحسن أن يكون {ٱلرَّحْمَـٰنُ } بدلاً من من، وقد جرى {ٱلرَّحْمَـٰنُ } في القرآن مجرى العلم فيولايته العوامل. وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو {عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } وعلى قراءة الرفع إن كان بدلاً كما ذهبإليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر، فكيون {ٱلرَّحْمَـٰنُ} والجملة خبرين عن هو المضمر. وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف. وما روي عن ابن عباسمن الوقف على قوله {عَلَى ٱلْعَرْشِ } ثم يقرأ {ٱسْتَوَىٰ * لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } على أن يكون فاعلاًلاستوى لا يصح إن شاء الله. ولما ذكر تعالى أنه اخترع السموات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنهتعالى {لَهُ } ملك جميع {مَا } حوت {ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } أي تحت الأرضالسابعة قاله ابن عباس ومحمد بن كعب. وعن السدّي: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة. وقيل: {مَا * تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ} ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيداً لقوله {وَمَا فِى ٱلاْرْضِ } إلاّ إن كان المراد بفي الأرضما هو عليها فلا يكون توكيداً. وقيل: المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير{لَهُ } علم {مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ }. ولما ذكر تعالى أولاً إنشاء السموات والأرض وذكر أن جميع ذلك ومافيهما ملكه ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله: {وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ } للرسول ظاهرأو المراد أمته، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلاّ بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسرلأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر، أي إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر والسر مقابل للجهر كما قال

{ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ }

والظاهر أن {أُخْفِىَ } أفعل تفضيل أي {وَأَخْفَى } من السر. قال ابن عباس: {ٱلسّرَّ} ما تسره إلى غيرك، والأخفى ما تخفيه في نفسك وقاله الفراء. وعن ابن عباس أيضاً {ٱلسّرَّ } ما أسرهفي نفسه، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه. وعن قتادة: قريب من هذا. وقال مجاهد: {ٱلسّرَّ} ما تخفيه من الناس {وَأَخْفَى } منه الوسوسة. وقال ابن زيد {ٱلسّرَّ } سر الخلائق {وَأَخْفَى } منه سرهتعالى وأنكر ذلك الطبري. وقيل: {ٱلسّرَّ } العزيمة {وَأَخْفَى } منه ما لم يخطر على القلب، وذهب بعض السلف إلىأن قوله {وَأَخْفَى } هو فعل ماض لا أفعل تفضيل أي {يَعْلَمْ } أسرار العباد {وَأَخْفَى } عنهم ما يعلمههو كقوله

{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ }

وقوله

{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }

.قال ابن عطية: وهو ضعيف. وقال الزمخشري: وليس بذلك قال: فإن قلت: كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه إنتجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله

{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ }

وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هولغرض آخر انتهى. والجلالة مبتدأ و{لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الخبر و{لَهُ ٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ } خبر ثان، ويجوز أنيكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى؟ فقيل: هو {ٱللَّهِ } و{ٱلْحُسْنَىٰ } تأنيث الأحسنوصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غايةالحسن من التقديس والتعظيم والربوبية، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلاّ منه، وذكروا أن هذه {ٱلاْسْمَاء } هي التي قالفيها رسول الله : إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة . وذكرها الترمذي مسندة.{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاِهْلِهِ * نَاراً فَقَالَ لاِهْلِهِ ٱمْكُثُواْ إِنّى ءانَسْتُ نَاراً لَّعَلّى اتِيكُمْمّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يٰمُوسَىٰ * إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِٱلْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِى* إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَهَوَاهُ فَتَرْدَىٰ * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُأُخْرَىٰ * قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَـٰهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلاْولَىٰ *وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء ءايَةً أُخْرَىٰ * لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَـٰتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ * ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَإِنَّهُ طَغَىٰ }. ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباءالنبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، كما قال تعالى

{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ }

فقال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي. وقيل:{هَلُ } بمعنى قد أي قد {ءاتَاكَ }، والظاهر خلاف هذا لأن السورة مكية. والظاهر أنه لم يكن أطلعه علىقصة موسى قبل هذا. وقيل: إنه استفهام معناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى، ونحن الآن قاصونقصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه عليه السلام لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيباً في الرجوع من مدين إلىمصر لزيارة والدته وأخته فأذن له، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره، فخرج بأهله وماله وكان في فصلالشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته حامل فلا يدري أليلاً تضع أم نهاراً، فسار في البرية لايعرف طرقها، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد، وأخذ امرأته الطلق فقدح زندهفلم يور. قيل: كان رجلاً غيوراً يصحب الرفقة ليلاً ويفارقهم نهار لئلا ترى امرأته، فأضل الطريق. قال وهب: ولدله ابن في الطريق ولما صلد زنده {رَأَى نَاراً }. والظاهر أن {إِذْ } ظرف للحديث لأنه حدث. وأجاز الزمخشريأن تكون ظرفاً لمضمر أي {نَارًا } كان كيت وكيت، وأن تكون مفعولاً لأذكر {ٱمْكُثُواْ } أي أقيموا في مكانكم،وخاطب امرأته وولديه والخادم. وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية {لاِهْلِهِ ٱمْكُثُواْ } بضم الهاء وكذا في القصص والجمهوربكسرها {إِنّى آنَسْتُ } أي أحسست، والنار على بعد لا تحس إلاّ بالبصر فلذلك فسره بعضهم برأيت، والإيناس أعم منالرؤية لأنك تقول {آنَسْتُ } من فلان خيراً. وقال الزمخشري: الإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العينلأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم. وقيل: هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناسفكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهماعلى الرجاء والطمع، وقال: لعل ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى. والظاهر أنهرأى نوراً حقيقة. وقال الماوردي: كانت عند موسى {نَارًا } وكانت عند الله نوراً. قيل: وخيِّل له أنه نار.قيل: ولا يجوز هذا لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الانبياء عليهم الصلاة والسلام. ولفظة على ههنا على بابهامن الاستعلاء، ومعناه إن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوامشرفين عليها ومنه قول الأعشى:

ويات على النار الندى والمحلق    

وقال ابن الأنباري: على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء،وذكر الزجاج أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء، وانتصب {هُدًى } علىأنه مفعول به على تقدير محذوف أي ذا {هُدًى } أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجدالهدى هدى الطريق. وقيل: {هُدًى } في الدين قاله مجاهد وقتادة وهو بعيد، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريقفقد وجد الهدى على الإطلاق. والضمير في {أَتَاهَا } عائد على النار أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراءيانعة عناب قاله ابن عباس. وقيل: سمرة قاله عبد الله. وقيل: عوسج قاله وهب. وقيل: عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبيوكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته، فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة، ووقف متحيراً وسمعمن السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و{نُودِىَ } وهو تكليم الله إياه. وقرأ الجمهور: {إِنّى } بكسر الهمزة علىإضمار القول عند البصريين، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين. و{أَنَاْ } مبتدأ أو فصلأو توكيد لضمير النصب، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: وأني بفتحالهمزة والظاهر أن التقدير بأني {أَنَاْ رَبُّكَ }. وقال ابن عطية: على معنى لأجل {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ }و{نُودِىَ } قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو عليّ:

ناديت باسم ربيعة بن مكدم     إن المنوّه باسمه الموثوق

انتهى. وعلمه بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقاً منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة،وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلاّ بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال: لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجزقالوا: ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري لأنه ينافي في التكليف، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظمالحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع. وقيل: كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما.وفي الترمذي عن النبيّ قال: كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت . قال: هذا حديث غريب، والكمة القلنسوة الصغيرة وكونهما من جلد حمارميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدّي ومقاتل والكلبي والضحاك. وقيل: كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما البيانبركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربته وروى أنه خلق نعليه وألقاهما من وراء الوادي. و{ٱلْمُقَدَّسِ } المطهر و{طُوًى } اسمعلم عليه فيكون بدلاً أو عطف بيان. وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيصبكسر الطاء منوناً. وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منوناً. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون. وقرأ أبو زيد عنأبي عمرو بكسرها غير منون. وقرأ عيس بن عمر والضحاك طاوى أذهب فمن نون فعلى تأويل المكان، ومن لم ينونوضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولاً عن فعل نحو زفر وقثم، أو أعجمياً أو على معنى البقعة، ومن كسر ولمينون فمنع الصرف باعتبار البقعة. وقال الحسن: {طُوًى } بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزنالثناء وبمعناه وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره، فكذلك الطوى على هذه القراءة. وقال قطرب {طُوًى } منالليل أي ساعة أي قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل، فلحق الوادي تقديس محدد أي {إِنَّكَ *إِذْ نَادَاهُ } ليلاً. قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناكبنون العظمة. وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية {وَأَنَا } والألف عطفاً على {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } لأنهمكسروا ذلك أيضاً، والجمهور {وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه. وقرأ أُبَيّ وأني بفتح الهمزة وياء المتكلم{ٱخْتَرْتُكَ } بتاء عطفاً على {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } ومفعول {ٱخْتَرْتُكَ } الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك.والظاهر أن {لِمَا يُوحَى } من صلة استمع وما بمعنى الذي. وقال الزمخشري وغيره: {لَّمّاً * يُوحِى } للذييوحى أو للوحي، فعلق اللام باستمع أو باخترتك انتهى. ولا يجوز التعليق باخترتك لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختارإعادة الضمير مع الثاني، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني. وقال أبو الفضل الجوهري:لما قيل لموسى صلوات الله على نبينا وعليه استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه علىشماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفاً. وقال وهب: أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاءبالسمع وحضور العقل والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع لما يحب الله وحذف الفاعل في {يُوحَى } للعلم به ويحسنهكونه فاصلة، فلو كان مبنياً للفاعل لم يكن فاصلة والموحى قوله {إِنّى أَنَا ٱللَّهُ } إلى آخره معناه وحّدني كقولهتعالى {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } إلى آخر الجمل جاء ذلك تبييناً وتفسيراً للإبهام في قوله {لِمَا يُوحَى}. وقال المفسرون {فَٱعْبُدْنِى } هنا وحدني كقوله تعالى

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }

معناه ليوحدون، والأولى أنيكون {فَٱعْبُدْنِى } لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلقفبدأ بالضلالة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي ليذكرني فإن ذكريأن اعبدو يصلي لي أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، ويحتمل أنتضاف إلى المفعول أي لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق، أو لأن تذكرني خاصة لا تشو به بذكرغيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر، أو لتكون لي ذاكراً غير ناسٍفعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على ابل منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به كما قال

{ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ }

أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله

{ إنا الصلاةَ كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً }

واللامعلى هذا القول مثلها في قوله

{ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ }

وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قولهعليه الصلاة والسلام: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها . قال الزمخشري: وكان حق العبادة أن يقاللذكرها كما قال رسول الله : إذا ذكرها . ومن يتمحل له يقول: إذا ذكر الصلاة فقد ذكرالله، أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة انتهى. وفيالحديث بعد قوله: فليصلها إذا ذكرها قوله إذ لا كفارة لها إلاّ ذلك ثم قرأ {يُوحَى إِنَّنِى أَنَا }. وقرأالسلمي والنخعي وأبو رجاء: للذكري بلام التعريف وألف التأنيث، فالذكرى بمعنى التذكرة أي لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها.وقرأت فرقة لِذِكْرَى بألف التأنيث بغير لام التعريف. وقرأت فرقة: للذكر. ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكرالحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء فقال {إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاءذلك إما ثواباً وإما عقاباً. وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثيروعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب: خفيتالشيء أي أظهرته. وقال الشاعر:

خفاهن من إيقانهن كأنما     خفاهن ودق من عشي مجلب

وقال آخر:

فإن تدفنوا الداء لا نخفه     وإن توقدوا الحرب لا نقعد

ولام {لِتُجْزَىٰ } على هذه القراءةمتعلقة بأخفيها أي أظهرها {لِتُجْزَىٰ } كل نفس. وقرأ الجمهور {أُخْفِيهَا } بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر، والهمزةهنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك: أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة. وقال أبوعلي: هذا من باب السلب ومعناه، أزيل عنها خفاءها وهو سترها، واللام على قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح متعلقة بآتيةكأنه قال {إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } لنجزي انتهى، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا {أَكَادُ أُخْفِيهَا } جملة اعتراضية، فإنجعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذمعموله. وقيل: {أُخْفِيهَا } بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر. قال أبو عبيدة:خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و{أَكَادُ } منأفعال المقاربة لكنها مجاز هنا، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهلالوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال {أَكَادُ أُخْفِيهَا } حتى لا تظهر ألبتة، ولكن لا بد منظهورها. وقالت فرقة {أَكَادُ } بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم. قال أبو مسلم: ومنأمثالهم لا أفعل ذلك: ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله. وقالت فرقة: خبر كاد محذوف تقديره {أَكَادُ } أتىبها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي:

هممت ولم أفعل وكذت وليتني     تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل. وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس. وقالت فرقة: معناه {أَكَادُأُخْفِيهَا } من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس. ولما رأى بعضهم قلقهذا القول قال معنى من نفسي: من تلقائي ومن عندي. وقالت فرقة {أَكَادُ } زائدة لا دخول لها في المعنىبل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها، وروي هذا المعنى عن ابن جبير، واستدلوا على زيادة كادبقوله تعالى {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } وبقول الشاعر وهو زيد الخيل:

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه     فما إن يكاد قرنه يتنفس

وبقول الآخر:

وأن لا ألوم النفس مما أصابني     وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح

ولا حجة في شيء من هذا. وقال الزمخشري: {أَكَادُ أُخْفِيهَا } فلا أقول هي آتية لفرط إرادتيإخفاءها، ولو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل: معناه {أَكَادُ أُخْفِيهَا }من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح. والذي غزهم منه أن في مصحفأبي {أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي وفي بعض المصاحف {أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى. ورويت هذهالزيادة أىضاً عن أُبَيّ ذكر ذلك ابن خالويه. وفي مصحف عبد الله {أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي فكيف يعلمها مخلوق.وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ فيكتمان الشيء قال: كذت أخفيه من نفسي، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره. وقال الشاعر:

أيام تصحبني هند وأخبرهاما كدت أكتمه عني من الخبر    

وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة، ورجل تصدقبصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، والضمير في {أُخْفِيهَا } عائد على {ٱلسَّاعَةَ } و{ٱلسَّاعَةَ } يومالقيامة بلا خلاف، والسعي هنا العمل. والظاهر أن الضمير في {عَنْهَا } و{بِهَا } عائد على الساعة. وقيل: على الصلاة.وقيل {عَنْهَا } عن الصلاة و{بِهَا } أي بالساعة، وأبعد جداً من ذهب إلى أن الضمير في {عَنْهَا } يعودعلى ما تقدم من كلمة {لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى }. والظاهر أن الخطاب في {فَلا } لموسى عليهالسلام، ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة، فينبغي أن يكون لفظاً وللسامع غيره ممنيمكن وقوع ذلك منه، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبيّ لفظاً ولأمته معنى. وقالالزمخشري: فإن قلت: العبارة أنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق؟قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني:أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا.المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب كأنه قيل: فكن شديدالشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه {هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ }يجوز أن يكون منصوباً على جواز النهي وأن يكون مرفوعاً أي فأنت تردى. وقرأ يحيـى فَتِردى بكسر التاء. {وَمَاتِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } هو تقرير مضمنه التنبيه، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هيوإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة، ويتقرر في نفسه المباينة البعيدةبين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة و{مَا } استفهام مبتدأ و{تِلْكَ } خبره و{يَمِينِكَ } في موضعالحال كقوله

{ وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا }

والعامل اسم الإشارة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون {تِلْكَ } أسماً موصولاً صلته بيمينك،ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهباً للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون، قالوا: يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولاًحيث يتقدر بالموصول كأنه قيل: وما التي بيمينك؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفاً كأنه قيل: وما التي استقرتبيمينك؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم. {قَالَ هِىَ عَصَاىَ}. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصَيّ بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم. وقرأ الحسن عَصَايِ بكسر الياء وهيمروية عن ابن أبي إسحاق أيضاً وأبي عمرو معاً، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين. وعن أبي إسحاق والجحدري عَصَايْ بسكون الياء.{قَالَ هِىَ } أي أتحامل عليها في المشي والوقوف، وهذا زيادة في الجواب كما جاء «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر». وحكمة زيادة موسىعليه السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر:

وأملي عتاباً يستطاب فليتني     أطلت ذنوباً كي يطول عتابه

وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع، وتضمنت هذه الزيادةتفصيلاً في قوله {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ } وإجمالاً في قوله {وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَىٰ }. وقيل: {قَالَهِىَ } جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال {هِىَ عَصَاىَ } قال له تعالى فما تصنع بها؟ قال: {قَالَهِىَ } الآية. وقيل: سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله {وَمَا تِلْكَ } وبقوله {بِيَمِينِكَ } عما يملكه، فأجابهعن {وَمَا تِلْكَ }؟ بقوله {هِىَ عَصَاىَ } وعن قوله {بِيَمِينِكَ } بقوله {قَالَ هِىَ عَصَاىَ } إلى آخره انتهى.وفي التحقيق ليس قوله {بِيَمِينِكَ } بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله {قَالَ هِىَ } ثم ثنى بمصلحةرعيته في قوله {وَأَهُشُّ }. وقرأ الجمهور {*وَأَهُهُّ} بضم الهاء والشين المعجمة، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازيوابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق. قال أبو الفضل: ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهشهشاشة إذا مال، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما، يقال منه: هش الورق والكلأوالنبات إذا جف ولأن انتهى. وقرأ الحسن وعكرمة: وأَهُسُّ بضم الهاء والسين غير معجمة، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساسغير معجمة في الصفات. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأَهُسُّ بضم الهمزة من أهس رباعياً وذكر صاحب اللوامحعن عكرمة ومجاهد وأَهُهُّ بضم الهاء وتخفيف الشين قال: ولا أعرف وجهه إلاّ أن يكون بمعنى العامة لكن فرّ منقراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي. فيكون كتخفيف ظلت ونحوه. وذكر الزمخشري عن النخعيأنه قرأ {عَلَيْهَا وَأَهُشُّ } بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعياً قال: وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كانيتكسر لهشاشته. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه اللهتعالى فقال ما هي إلاّ عصا لا تنفع إلاّ منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذيفهمه من فحوى كلام ربه، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثميريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعةومأربة. كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى. وقرأت فرقة {غَنَمِى } بسكون النون وفرقة عليّغنمي بإيقاع الفعل على الغنم. والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلبكسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب، وإذا كان في البرية ركزهاوعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهرعدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذارفعها نضب. وكانت تقيه الهوامّ ويردّ بها غنمه وإن بعد واو هذه العصا أخذها من بيت عصي الأنبياء التي كانتعند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع، وقيل: اثنتا عشرة بذراع موسى عليهالسلام وعامل المآرب وإن كان جمعاً معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعياً للفواصل وهيجائز في غير الفواصل. وكان أجود وأحسن في الفواصل. وقرأ الزهري وشيبة: مارب بغير همز كذا قال الأهوازي فيكتاب الإقناع في القراءات ويعني والله أعلم بغير هم محقق، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين. {قَالَ أَلْقِهَا }الظاهر أن القائل هو الله تعالى، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى {أَلْقَـٰهَا }اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر:

فألقت عصاها واستقر بها النوى    

وإذا هي التي للمفاجأة، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرةوالذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله

{ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ }

وبين كونها ثعباناً لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعباناً أو شبهت بالجانوهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها. قيل: كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فماًوبين لحييها أربعون ذراعاً. وعن ابن عباس: انقلبت ثعباناً تبتلع الصخر والشجر والمجن عنقاً وعيناها تتقدان، فلما رأى هذاالأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول. ومعنى {تَسْعَىٰ} تنتقل وتمشي بسرعة، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها فيذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوّة ومشاق الرسالة، ثم أمره تعالى بالإقدام علىأخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبراً ولم يعقب. وقيل: إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدممنها. وقيل: لما قال له الله {لاَ تَخَفْ } بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمهاوأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْسَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلاْولَىٰ } فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ماأمر به، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة، يقال: سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيهافنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل: سير الأولين. وقال الشاعر:

فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها     فأول راض سيرة من يسيرها

واختلفوا في إعراب {سِيَرتَهَا } فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل

{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ }

يعني إلى {سِيَرتَهَا } قال: ويجوز أن يكون بدلاً من مفعول {سَنُعِيدُهَا }. وقال هذا الثاني أبوالبقاء قال: بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها. وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب على الظرف أي {سَنُعِيدُهَا } في طريقتها الأولىأي في حال ما كانت عصا انتهى. و{سِيَرتَهَا } وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلاّبواسطة، في ولا يجوز الحذف إلاّ في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون مفعولاً منعاده بمعنى عاد إليه. ومنه بيت زهير:

وعادك أن تلاقيها عداء    

فيتعدى إلى مفعولين انتهى. وهذا هو الوجه الأول الذيذكره الحوفي. قال: ووجه ثالث حسن وهو أن يكون {سَنُعِيدُهَا } مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها، بمعنى أنها أنشئت أولما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولاً ونصب {سِيَرتَهَا } بفعل مضمر أيتسير {سِيَرتَهَا ٱلاْولَىٰ } يعني {سَنُعِيدُهَا } سائرة {سِيَرتَهَا ٱلاْولَىٰ } حيث كنت تتوكأ عليها، ولك فيها المآرب التي عرفتهاانتهى. والجناح حقيقة في الطائر والملك، ثم توسع فيه فأطلق على اليد وعلى العضد وعلى جنب الرجل. وقيل لمجنبتيالعسكر جناحان على سبيل الاستعارة، وسمي جناح الطائر لأنه يجنح به عند الطيران، ولما كان المرغوب من ظلمة أو غيرهاإذا ضم يده إلى جناحه فتر رغبة وربط جأشه أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ليقوى جأشه ولتظهر لههذه الآية العظيمة في اليد. والمراد إلى جنبك تحت العضد. ولهذا قال {تُخْرِجُ } فلو لم يكن دخول لم يكنخروج كما قال في الآية الأخرى

{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ }

وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج علىالضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير {وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ } تنضم وأخرجها {تُخْرِجُ } فحذف من الأول وأبقى مقابله،ومن الثاني وأبقى مقابله وهو {*اضمم} لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى. {جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِسُوء } قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس، وكان آدم اللون وانتصب {بَيْضَاء } على الحال والسوء الرداءة والقبحفي كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة، وكما كنوا عن جذيمة وكان أبرص بالأبرص والبرصأبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه. وقوله {مِنْ غَيْرِ سُوء } متعلق ببيضاء كأنهقال ابيضت {مِنْ غَيْرِ سُوء }. وقال الحوفي: {مِنْ غَيْرِ سُوء } في موضع النعت لبيضاء، والعامل فيه الاستقرار انتهى.ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس لأنه لو اقتصر على قوله {بَيْضَاء } لأوهم أن ذلك من برص أو بهق.وانتصب {ءايَةً } على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد. وأجاز الزمخشري أن يكون منصوباًعلى إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغلأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه،وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون {ءايَةً } بدلاً من {بَيْضَاء } وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضميرفي {بَيْضَاء } أي تبيض {ءايَةً }. وقيل منصوب بمحذوف تقديره جعلناها {ءايَةً } أو آتيناك {ءايَةً }. واللامفي {لِنُرِيَكَ } قال الحوفي متعلقة باضمم، ويجوز أن تتعلق بتخرج. وقال أبو البقاء: تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناهاأو آتيناك، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه {ءايَةً } أي دللنا بها {لِنُرِيَكَ }. وقال الزمخشري: {لِنُرِيَكَ } أيخذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض {ٱلْكُبْرَىٰ ٱذْهَبْ } أو {لِنُرِيَكَ } بهما {ٱلْكُبْرَىٰ} من {ءايَـٰتِنَا } أو {لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَـٰتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } فعلنا ذلك، وتهنى أنه جاز أن يكون مفعول {لِنُرِيَكَ }الثاني {ٱلْكُبْرَىٰ } أو يكون {مِنْ ءايَـٰتِنَا } في موضع المفعول الثاني. وتكون {ٱلْكُبْرَىٰ } صفة لآياتنا على حد

{ ٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ }

و{مَأَرِبُ أُخْرَىٰ } بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطيةوأبو البقاء. والذي نختاره أن يكون {مِنْ ءايَـٰتِنَا } في موضع المفعول الثاني، و{ٱلْكُبْرَىٰ } صفة لآياتنا لأنه يلزم منذلك أن تكون إياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه {ٱلْكُبْرَىٰ }. وإذاجعلت {ٱلْكُبْرَىٰ } مفعولاً لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل، وأيضاً إذا جعلت {ٱلْكُبْرَىٰ } مفعولاً فلايمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أنيخص أحدهما لأن كلاً منهما فيها معنى التفضيل. ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصالأنه ذكر عقيب اليد {لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَـٰتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } لأنه جعل {ٱلْكُبْرَىٰ } مفعولاً ثانياً {لِنُرِيَكَ } وجعل ذلك راجعاًإلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلاّ تغييراللون، وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر، ثم عادتعصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مراراً فكانت أعظم من اليد. وملا أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسهوفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولاً من عنده تعالى وعللك حكمة الذهاب إليه بقوله {إِنَّهُ طَغَىٰ }وخص فرعون وإن كان مبعوثاً إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدعّي الإلهية وقومه تباعه. قال وهب بن منبه: قال اللهلموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي، وإن معك يدي ونصري، وألبسك جنة من سلطانيتستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقيوأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان عليّ وسقطمن عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. وقل له قولاً ليناً فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفسإلاّ بعلمي في كلام طويل. قال: فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام. وقيل: أكثر فجاءه ملك فقال انفذ ما أمركربك. {قَالَ رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَيَسّرْ لِى أَمْرِى * وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى * يَفْقَهُواْ قَوْلِي *وَٱجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هَـٰرُونَ أَخِى * ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَمَرَّةً أُخْرَىٰ * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِى ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِيَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى }. لما أمره تعالى بالذهاب إلى فرعون عرف أنه كلفأمراً عظيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلاّ ذو جأش رابط وصدر فسيح، فسأل ربه ورغب في أنيشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر، وأن يسهل عليه أمره للذي هو خلافة اللهفي أرضه وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط. وقال ابن جريج:معناه وسع لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك. وقال الكرماني وسع قلبي ولينه لفهم خطابك وأداء رسالتك. والقيامبما كلفتنيه من أعبائها، والعقدة استعارة لثقل كان في لسانه خلقة. وقال مجاهد: كانت من الجمرة التي أدخلها فاهوكانت آسية قد ألقى الله محبته في قلبها وسألت فرعون أن لا يذبحه، فبيناهي ترقصه يوماً أخذه فرعون في حجرهفأخذ خصلة من لحيته. وقيل: لطمه. وقيل: ضربه بقضيب كان في يده فغضب فرعون فدعاء بالسياف فقالت: إنما هو صبيلا يفرق بين الياقوت والجمر. فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فأخذهاووضعها في فيه فاحترق لسانه انتهى وإحراق النار وتأثيرها في لسانه لا في يده دليل على فساد قول القائلين بالطبيعة.وعن ابن عباس كانت في لسانه رثت. وقيل: حدثت العقدة بعد المناجاة حتى لا يكلم أحد بعدها. وقال قطرب: كانتفيه مسكة عن الكلام. وقال ابن عيسى: العقدة كالتمتمة والفأفأة. وطلب موسى من حل العقدة قدر ما يفقه قوله، قيل:وبقي بعضها لقوله وأخي هارون هو أفصح مني لسان وقوله ولا يكاد يبين. وقيل: زالت لقوله {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ* مُوسَىٰ } وهو قول الحسن، قيل: وهو ضعيف لأنه لم يقل واحلل العقدة بل قال {عُقْدَةَ } فإذا حلعقدة فقد آتاه الله سؤله. وقيل في قوله ولا يكاد يبين أن معناه لا يأتي ببيان وحجة، وإنما قال ذلكفرعون تمويهاً وقد خاطبه وقومه وكانوا يفهمون عنه فكيف يمكن نفي البيان أو مقاربته؟. وقال الزمخشري: فإن قلت: ليفي قوله {ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَيَسّرْ لِى أَمْرِى } ما جدواه والكلام بدون مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولاًفقال {ٱشْرَحْ لِى } {وَيَسّرْ لِى } فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بين ورفع الإبهام فذكرهما فكان آكد لطلبالشرح والتيسير لصدره، وأمره من أن يقول اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الشارح لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقيالإجمال والتفصيل. وقال أيضاً: وفي تنكير العقدة وإن لم يقل {وَٱحْلُلْ عُقْدَةً } {لّسَانِى } أنه طلب حل بعضها إرادةأن يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة، و{مّن لّسَانِى } صفة للعقدة كأنه قيل {عُقْدَةً مّن } عقد{لّسَانِى } انتهى. ويظهر أن {مّن لّسَانِى } متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي. وأجاز أبو البقاءالوجهين والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه. وقيل: من الوزر وهو الملجأ يلتجىءإليه الإنسان. وقال الشاعر:

من السباع الضواري دونه وزر     والناس شرهم ما دونه وزر كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع

فالملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه فيأموره. وقال الأصمعي: هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة، والقياس أزير وكذا قال الزمخشري: قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزةإلى الواو ووجه قلبها أن فعيلاً جاء في معنى مفاعل مجيأ صالحاً كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلبفي أخيه قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز. ونظراً إلى يوازر وأخواته وإلى الموازرة انتهى ولا حاجة إلىادعاء قلب الهمزة واواً لأن لنا اشتقاقاً واضحاً وهو الوزر، وأما قلبها في يؤازر فلأجل ضمة ما قبل الواو وهوأيضاً إبدال غير لازم، وجوزوا أن يكون {لّى وَزِيراً } مفعولين لاجعل و{هَـٰرُونَ } بدل أو عطف بيان، وأن يكون{وَزِيراً } و{هَـٰرُونَ } مفعولية، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و{أَخِى } بدل من {هَـٰرُونَ } في هذين الوجهين.قال الزمخشري: وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى. ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أنيكون الأول دونه في الشهرة، والأمر هنا بالعكس. وجوزوا أن يكون {وَزِيراً مّنْ أَهْلِى } هما المفعولان و{لِى } مثلقوله

{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }

يعنون أنه به يتم المعنى. و{هَـٰرُونَ } على ما تقدم. وجوزوا أن ينتصب{هَـٰرُونَ } بفعل محذوف أي اضم إليّ هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف. وقرأالحسن وزيد بن عليّ وابن عامر {ٱشْدُدْ } بفتح الهمزة {وَأَشْرِكْهُ } بضمها فعلاً مضارعاً مجزوماً على جواب الأمر وعطفعليه {وَأَشْرِكْهُ }. وقال صاحب اللوامح عن الحسن أنه قرأ أشدِّد به مضارع شدّد للتكثير، والتكرير أي كلما حزنني أمرشددت {بِهِ أَزْرِى }. وقرأ الجمهور {ٱشْدُدْ } {وَأَشْرِكْهُ } على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوة،وكان الأمر في قراءة ابن عامر لا يريد به النبوة بل يريد تدبيره ومساعدته لأنه ليس لموسى أن يشرك فيالنبوة أحداً. وفي مصحف عبد الله أخي وأشدد. وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل {أَخِى} مرفوعاً على الابتداء {وَٱشْدُدْ * بِهِ } خبره ويوقف على {هَـٰرُونَ } انتهى. وهو خلاف الظاهر فلا يصار إليهلغير حاجة، وكان هارون أكبر من موسى بأربعة أعوام، وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سبباً تلزم منهالعبادة والاجتهاد في أمر الله والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير. {كَىْ نُسَبّحَكَ } ننزهكعما لا يليق بك {وَنَذْكُرَكَ } بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص،ومحل ذلك القلب والذكر والثناء على الله بصفات الكمال ومحله اللسان، فلذلك قدم ما محله القلب على ما محله اللسان.و{كَثِيراً } نعت لمصدر محذوف أو منصوب على الحال، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } عالماً بأحوالنا. والسؤل فعل بمعنى المسؤل كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول، والمعنى أعطيت طلبتك وماسألته من شرح الصدر وتيسر الأمر وحل العقدة، وجعل أخيك وزيراً وذلك من المنة عليه. ثم ذكره تعالى تقديممنته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوي بصيرته و{مَرَّةٍ } معناه منة و{أُخْرَىٰ } تأنيث آخر بمعنى غير أيمنة غير هذه المنة، وليست {أُخْرَىٰ } هنا بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى، وتخيل ذلك بعضهم فقال: سماها {أُخْرَىٰ }وهي أولى لأنها {أُخْرَىٰ } في الذكر والأخرى لفظ مشترك يكون تأنيث الآخر بفتح الخاء وتأنيث الآخر بمعنى آخره فهذهيلحظ فيها معنى التأخر. والمعنى أني قد حفظتك وأنت طفل رضيع فكيف لا أحفظك وقد أهلتك للرسالة. وفي قوله {مَرَّةًأُخْرَىٰ } إجمال يفسره قوله {إِذَا * أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّكَ }. قال الجمهور: هي وحي إلهام كقوله

{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ }

. وقيل: وحي إعلام إما بإراءة ذلك في منام، وإما ببعث ملك إليها لا على جهة النبوّة كما بعثإلى مريم وهذا و الظاهر لظاهر قوله {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ } ولظاهر آية القصص

{ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعلوه من ٱلْمُرْسَلِينَ }

ويبعد ما صدر به الزمخشري قوله: من يرد يده إما أن يكون على لسان نبي في وقتهاكقوله

{ وَإِذَا * أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيّينَ }

لأنه لم ينقل أنه كان في زمن فرعون، وكان في زمن الحواريين زكرياويحيـى. وفي قوله {مَا يُوحَىٰ } إبهام وإجمال كقوله

{ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }

{ فَغَشِيَهُمْ مّنَ ٱلْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ }

وفيه تهويل وقد فسر هنا بقوله {أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِى ٱلتَّابُوتِ }. قال الزمخشري: و{ءانٍ } هي المفسرة لأنالوحي بمعنى القول. وقال ابن عطية: و{ءانٍ } في قوله {أَنِ ٱقْذِفِيهِ } بدل من ما يعني أنّ {ءانٍ }مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب. والوجهان سائغان والظاهر أن {ٱلتَّابُوتِ } كان من خشب. وقيل: من بردى شجرمؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعاً. وقيل: قطناً محلوجاً وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في {أَلِيمٌ } وهواسم للبحر العذب. وقيل: اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله

{ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ فِي ٱلْيَمّ }

ولم يغرقوا في النيل.والظاهر أن الضمير في {فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمّ } عائد على موسى، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا {ٱلتَّابُوتِ} إنما ذكر {ٱلتَّابُوتِ } على سبيل الوعاء والفضلة. وقال ابن عطية: والضمير الأول في {*قذفيه} عائد على موسى وفيالثاني عائد على {فِى ٱلتَّابُوتِ } ويجوز أن يعود على موسى. وقال الزمخشري: والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضهاإليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلكالملقى إلى الساحل قلت: ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافرعليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى.ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحاً، وقدنص النحويون على هذا فعوده على {ٱلتَّابُوتِ } في قوله {فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ } راجح، والجواب أنه إذاكان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرحج، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا علىأبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله

{ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }

عائد على خنزير لا على لحم لكونهأقرب مذكور، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير. و{فَلْيُلْقِهِ } أمرمعناه الخبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها، ومنه قول النب:ي : «قوموا فلأصللكم». أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله {يَأْخُذْهُ}. وقال الزمخشري: لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا يخطىء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليهسلك في ذلك سبل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل {فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ} انتهى. وقال الترمذي: إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به، فكأن البحر مأمورممتثل للأمر. وقال الفراء: {فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمّ } أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم، والظاهر أن البحر ألقاهبالساحل فالتقطه منه. وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليهوامرأته معه ففتح قرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابناً فأباح لها ذلك. وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعةالتي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء. فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعد والذي لله ولموسى هوفرعون، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته

{ قُصّيهِ }

وهي لا تدري أين استقر. {وَأَلْقَيْتُعَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى }. قيل: محبة آسية وفرعون، وكان فرعون قد أحبه حباً شديداً حتى لا يتمالك أن يصبر عنه.قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال عطية: جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه منرآه. وقال قتادة: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلاّ أحبه. وقال ابن عطية: وأقوى الأقوال أنه القبول. وقالالزمخشري: {مِنّي } لا يخلوا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلقبمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبكفرعون وكل من أبصرك. وقرأ الجمهور {وَلِتُصْنَعَ } بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتُرَبَّي ويحسن إليك.وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به. قال قريباً منه قتادة. وقال النحاس: يقال صنعت الفرسإذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك {وَلِتُصْنَعَ } أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك.وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء. قال ثعلب: معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني. وقرأ شيبة وأبو جعفر فيرواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام. {إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف بهويعرض للمراضع فيأبى، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره، فبصرتبه في طوافها فقالت

{ أَنَاْ * أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ * لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـٰصِحُونَ }

فتعلقوا بها وقالوا: أنتعرفين هذا الصبيّ؟ فقالت: لا، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها،فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها: كوني معنى في القصر، فقالت: ماكنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذاالرضاع والنسب من الملكة، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أنيلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراهوليهبه فأعجبه وقرّبه، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة. والعامل في {إِذَا } قالابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ. وقال الزمخشري العامل في {إِذْ تَمْشِى } {*ألقيت} أو تصنع، ويجوز أن يكونبدلاً من {أُخْرَىٰ إِذْ أَوْحَيْنَا } فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقتوتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولهاوأنت في آخرها انتهى. وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كلواحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول،إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضهاالمشي بخلاف السنة. وقال الحوفي: {إِذْ } متعلقة بتصنع، ولك أن تنصب {إِذْ } بفعل مضمر تقديره واذكر. وقرأالجمهور {كَى تَقَرَّ } بفتح التاء والقاف. وقرأت فرقة بكسر القاف، وتقدم أنهما لغتان في قوله

{ وَقَرّى عَيْناً }

. وقرأجناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول. و{قَتَلْتَ نَفْساً } هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهوابن اثنتي عشرة سنة، واغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال

{ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَٱغْفِرْ لِى }

ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلببسبب خوف أو فوات مقصود، والغمّ بلغة قريش القتل، وقيل: من غم التابوت. وقيل: من غم البحر، والظاهر أنه منغم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين. والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوزوبدور في حجزة وبدرة أي {*فتناك} ضروباً من الفتن، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان. وعن ابن عباس خلصناك منمحنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطياً وآجرنفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى. وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلملها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين. وقال وهب: ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمانمراحل وفي الكلام حذف والتقدير {ٱلْغَمّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُوناً } فخرجت خائفاً إلى {أَهْلِ مَدْيَنَ } فلبثت سنين وكان عمره حينذهب إلى مدين اثني عشر عاماً وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب، ثم ثمانية عشر عاماً بعد بنائه بامرأتهبنت شعيب، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها. {ثُمَّجِئْتَ } إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك. {عَلَىٰ قَدَرٍ } أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخرعنه. وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون. وقال الشاعر:

نال الخلافة أو جاءت على قدركما أتى ربه موسى على قدر    

{وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى } أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان،وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال: اصطنع فلان فلاناً اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضافإليه فيقال هذا صنيع فلان. وقال الزمخشري: هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال منيراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلاً لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلاً فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى.ومعنى {لِنَفْسِى } أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك.

{ ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } * { ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } * { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } * { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } * { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } * { فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } * { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } * { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ } * { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } * { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } * { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } * { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } * { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } * { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ } * { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ } * { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى } * { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } * { فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ } * { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } * { فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } * { قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ } * { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ }

عدل

الونى: الفتور، يقال: ونى يني وهو فعل لازم، وإذا عُدِيَّ فبعن وبفي وزعمبعض البغداديين أنه يأتي فعلاً ناقصاً من أخوات ما زال وبمعناها، واختاره ابن مالك وأنشد:

لا يني الخب شيمة الحب     ما دام فلا تحسبنه ذا ارعواء

وقالوا: امرأة آناءة أي فاترة عن النهوض، أبدلوا من واوهاهمزة على غير قياس. قال الشاعر:

فمـا أنـا بالواني ولا الضرع الغمر    

شت الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق، وأمر شتّ متفرّق،وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى، ومعناه متفرقة، وشتان اسم فاعل سحت: لغة الحجاز وأسحت لغةنجد وتميم، وأصله استقصاء الحلق للشعر. وقال الفرزدق وهو تميمي:

وعض زمان يا ابن مروان لم يك     من المال إلا مسحت أو محلق

ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب. الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب. الصف: موضع المجمع قاله أبو عبيدة،وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى، وقد يكون مصدراً ويقال جاؤوا صفاًأي مصطفين. التخييل: إبداء أمر لا حقيقة له، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر:

ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي    

{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـئَايَـٰتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى * ٱذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَإِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ * قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْأَن يَطْغَىٰ * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَوَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَـٰكَ بِـئَايَةٍ مّن رَّبّكَ وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ }. أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون فلمادعا ربه وطلب منه أشياء كان فيها أن يشرك أخاه هارون فذكر الله أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه،فأمره هنا وأخاه بالذهاب و{أَخُوكَ } معطوف على الضمير المستكن في

{ ٱذْهَبْ أَنتَ * وَرَبُّكَ }

في سورة المائدة وقولبعض النحاة، أن {وَرَبُّكَ } مرفوع على إضمار فعل، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا. وروي أن الله أوحىإلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: سمع بمقدمه. وقيل: ألهم ذلك وظاهر {بِآيَـٰتِي } الجمع. فقيل: هي العصا،واليد، وعقدة لسانه. وقيل: اليد، والعصا. وقد يطلق الجمع على المثنى وهما اللتان تقدم ذكرهما ولذلك لما قال: فائت بآيةألقى العصا ونزع اليد، وقال: فذانك برهانان. وقيل العصا مشتملة على آيات انقلابها حيواناً، ثم في أول الأمر كانت صغيرةثم عظمت حتى صارت ثعباناً، ثم إدخال موسى يده في فمها فلا تضرّه. وقيل: ما أعطي من معجزة ووحي.{وَلاَ } أي لا تضعفا ولا تقصرا. وقيل: تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، ويجوز أن يراد بالذكرتبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديراً أن يطلق عليه اسم الذكر.وقرأ ابن وثاب: ولا تِنَيَا بكسر التاء اتّباعاً لحركة النون. وفي مصحف عبد الله ولا تهنا أي ولا تلنا منقولهم هين لين، ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني. فقيل: {ذِكْرِى ٱذْهَبَاإِلَىٰ فِرْعَوْنَ } أي بالرسالة وأبعد من ذهب إلى أنهما أمرا بالذهاب أولاً إلى الناس وثانياً إلى فرعون، فكرر الأمربالذهاب لاختلاف المتعلق، ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله {إِنَّهُ طَغَىٰ } أي تجاوز الحد في الفسادودعواه الربوبية والإلٰهية من دون الله. والقول اللين هو مثل ما في النازعات

{ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبّكَ فَتَخْشَىٰ }

وهذا من ليف الكلام إذ أبرز ذلك في صورة الاستفهام والمشورة والعرض لما فيه من الفوزالعظيم. وقيل: عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكحإلى حين موته. وقيل: لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول لما له من حق تربية موسى. وقيل: كنياهوهو ذو الكنى الأربع أبو مرة، وأبو مصعب، وأبو الوليد، وأبو العباس. وقيل: القول اللين لا إلٰه إلا الله وحدهلا شريك له، ولِينها خفتها على اللسان. وقال الحسن: هو قولهما إن لك ربًّا وإن لك معاداً وإن بين يديكجنة وناراً فآمن بالله يدخلك الجنة يقك عذاب النار. وقيل: أمرهما تعالى أن يقدما المواعيد على الوعيد كما قال الشاعر:

أقدم بالوعد قبل الوعيد     لينهى القبائل جهالها

وقيل: حين عرض عليه موسىوهارون عليهما السلام ما عرضا شاور آسية فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد هذا فشاور هامان وكان لا يبت أمراًدون رأيه، فقال له: كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكاً فتصير مملوكاً ورباً فتصير مربوباً فامتنع من قبول ماعرض عليه موسى، والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله تعالى أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمرمباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه، وفائدة إرسالهما مع علمه تعالى أنه لا يؤمن إقامة الحجةعليه وإزالة المعذرة كما قال تعالى:

{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ }

الآية. وقيل: القول اللين ما حكاهالله هنا وهو {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ * إِلَىٰ * قَوْلُهُ *وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } وقال أبومعاذ: {قَوْلاً لَّيّناً } وقال الفراء لعل هنا بمعنى كي أي كي يتذكر أو يخشى كما تقول: اعمل لعلك تأخذأجرك، أي كي تأخذ أجرك. وقيل: لعل هنا استفهام أي هل يتذكر أو يخشى، والصحيح أنها على بابها من الترجِّيوذلك بالنسبة إلى البشر وفي قوله {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } دلالة على أنه لم يكن شاكاً في الله. وقيل:{يَتَذَكَّرُ } حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخرَّ ساجداً لله راغباً أن لا يخجله ثم ركب فأخذالنيل يتبع حافر فرسه فرجاً أن يتذكر حلم الله وكرمه وأن يحذر من عذاب الله. وقال الزمخشري: أي {يَتَذَكَّرُ }ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذغان للحق {أَوْ يَخْشَىٰ } أن يكون الأمر كما يصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة.فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط تسبق الخيل انتهى. وقال الشاعر:

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا     كما تقدم فارط الوراد

وفي الحديث: أنا فرطكم على الحوض . أي متقدمكم وسابقكم،والمعنى إننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرأ يحيـى وأبو نوفل وابن محيصن في روايته {أَن يَفْرُطَ }مبنياً للمفعول أي يسبق في العقوبة ويسرع بها، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة خافا أن يحملهحامل على المعاجلة بالعذاب من شيطان، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية، أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبطالمتمرّدين الذين قال الله فيهم

{ قَالَ ٱلْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ }

{ وَقَالَ ٱلْمَلاَ مِن قَوْمِهِ }

. وقرأت فرقة والزعفرانيعن ابن محيصن {يَفْرُطَ } بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية {أَوْ أَن يَطْغَىٰ } في التخطي إلىأن يقول فيك ما لا ينبغي تجرئة عليك وقسوة قلبه، وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب منحسن الأدب والتجافي عن التفوه بالعظيمة. والمعية هنا بالنصرة والعون أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما. وقال ابن عباس {أَسْمِعْ }جوابه لكما {وَأَرَىٰ } ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم {فَأْتِيَاهُ } كرر الأمر بالإتيان {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} وخاطباه بقولهما {رَبَّكَ } تحقيراً له وإعلاماً أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدَّعي الربوبية. وأُمرا بدعوته إلى أنيبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرةفي كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء. وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعىإليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل. ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا {قَدْ جِئْنَـٰكَ بِـئَايَةٍمّن رَّبّكَ } وتكرر أيضاً قولهما {مِن رَبّكَ } على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور، والآية التي أحالا عليها هيالعصا واليد، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما. وقال الزمخشري: {قَدْجِئْنَـٰكَ بِـئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } جارية من الجملة الأولى وهي {إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالةلا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضعتثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك

{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ }

{ فَأْتِ بآية إن كنت من الصادقين }

{ أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ }

انتهى. وقيل: الآية اليد. وقيل:العصا، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك. والظاهر أن قوله {وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } فصل للكلام، فالسلامبمعنى التحية رغباً به عنه وجرياً على العادة في التسليم عند الفراغ من القول، فسلما على متبعي الهدى وفي هذاتوبيخ له. وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم. وقيل: هو مدرج متصل بقوله {إِنَّا قَدْ أُوحِىَإِلَيْنَا } فيكون إذ ذاك خبراً بسلامة المهتدين من العذاب. وقيل {عَلَىَّ } بمعنى اللام أي والسلامة {لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ *ٱلْهُدَىٰ }. وقال الزمخشري: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين انتهى.وهو تفسير غريب. وقد يقال: السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰمَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } وبنيْ {أُوحِىَ } لما لم يسم فاعله، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربماصدر منه في حق الموحى ما لا يليق به، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان. وقال ابن عباسهذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب. وفي الكلام حذف تقديره فأتيافرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه قال {فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ } خاطبهما معاً وأفرد بالنداء موسى.قال ابن عطية: إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات. وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه، ويحتملأن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى،ويدل عليه قوله

{ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ }

انتهى. واستبد موسى عليهالسلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعونفيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولابوجه مجاز. قال الزمخشري: ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصافوكان طالباً للحق انتهى. والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسانفي خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً. وقال الشاعر:

وله في كل شيء خلقة     وكذلك الله ما شاء فعل

وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك {*خلقة} منالمنفعة المنوطة به المطابقة له {خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه، فأعطى العين الهيئة التي تطابقالإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعةغير ناب عنه. قال القشيري: والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء، وعلى هذا مفعول{أَعْطَىٰ } الأول {كُلّ شَىْء } والثاني {خَلَقَهُ } وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدّي وهو أن المعنى{أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء } مخلوقه من جنسه أي كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة. فلم يزاوج منهما غير جنسهثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة. وقال الحسن وقتادة{أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء } صلاحه وهداه لما يصلحه. وقيل {كُلّ شَىْء } هو المفعول الثاني لأعطى و{خَلَقَهُ } المفعولالأول أي {أَعْطَىٰ } خليقته {كُلّ شَىْء } يحتاجون إليه ويرتفقون به. وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خَلَقَهُبفتح اللام فعلاً ماضياً في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء، ومفعول {أَعْطَىٰ } الثاني حذف اقتصاراً أي {كُلَّ شَىءخَلْقَهُ } لم يخله من عطائه وإنعامه {ثُمَّ هَدَىٰ } أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه. وقيل:حذف اختصاراً لدلالة المعنى عليه، أي {أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } ما يحتاج إليه وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته.{قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلاْولَىٰ } لما أجابه موسى بجواب مسكت، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلىسؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون، وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابهبه، والحيدة والمغالطة. قيل: سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأممالسالفة، ولم يكن عنده عليه السلام علم بالتوراة إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال {عِلْمُهَا عِندَ رَبّى }. وقيل:مراده من السؤال عنها لم عبدت الأصنام ولم تعبد الله إن كان الحق ما وصفت؟ وقيل: مراده ما لها لاتبعث ولا تحاسب ولا تُجَازَى فقال {عِلْمُهَا عِندَ رَبّى } فأجابه بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله بهلا يعلمه إلاّ هو. وقال النقاش: إنما سأل لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون

{ يٰقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ ٱلاْحْزَابِ }

الآية فرد علم ذلك إلى الله لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة. وقيل لما قال {إِنَّا قَدْأُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } قال فرعون {فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلاْولَىٰ } فإنها كذبت ثم إنهمما عذبوا. وقيل: لما قرر أمر المبدأ والدلالة القاطعة على إثبات الصانع قال فرعون: إن كان ما ذكرت في غايةالظهور فما بال القرون الأولى نسوه وتركوه، فلو كانت الدلالة واضحة وجب على القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها.فعارض الحجة النقلية، ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم فتعنت وقال: ماتقول في سوالف القرون وتمادي كثرتهم وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم، فأجاب بأن كل كائن محيط بهعلمه وهو مثبت عنده {فِى كِتَـٰبِ } ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل،أي {لاَّ يَضِلُّ } كما تضل أنت {وَلاَ يَنسَى } كما تنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة قاله الزمخشري.والظاهر عود الضمير في {عِلْمُهَا } إلى {ٱلْقُرُونِ ٱلاْولَىٰ } أي مكتوب عند ربي في اللوح المحفوظ لا يجوز عليهأن يخطىء شيئاً أو ينساه، يقال: ضللت الشيء إذا أخطجته ف مكانه، وضللته لغتان فلم يهتد إليه كقولك: ضللت الطريقوالمنزل ولا يقال أضللته إلاّ إذا ضاع منك كالدابة إذا انفلتت وشبهها قاله الفراء. وقال الزجاج: ضللته أضله إذا جعلتهفي مكان ولم تدر أين هو، وأضللته والكتاب هنا اللوح المحفوظ. وقيل {فِى كِتَـٰبِ } فيما كتبته الملائكة من أحوالالبشر. وقيل: الضمير في {عِلْمُهَا } عائد على القيامة لأنه سأله عن بعث الأمم. وقال السدّي {لاَّ يَضِلُّ } لايغفل. وقال ابن عيسى {لاَّ يَضِلُّ } لا يذهب عليه تقول العرب ضل منزله بغير ألف. وفي الحيوان أضل بعيرهبالألف. وقيل: التقدير {لاَّ يَضِلُّ رَبّى } الكتاب {وَلاَ يَنسَى } ما فيه قاله مقاتل. وقال القفال {لاَّ يَضِلُّ }عن معرفة الأشياء فيحيط بكل المعلومات {وَلاَ يَنسَى } إشارة إلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد على حاله لا يتغير.وقال الحسن: لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه. وقال مجاهد: معنى الجملتين واحد وهو إشارة إلى أنه لا يعرضفي علمه ما يغيره. وقال ابن جرير: لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه،وقال أبو عبد الله الرازي: علم الله صفة قائمة به ولا تكون حاصلة في الكتاب لأن ذلك لا يعقل، فالمعنىأن بقاء تلك المعلومات في علمه كبقاء المكتوبات في الكتاب، فالغرض التوكيد بأن أسرارها معلومة له لا يزول شيء منها،ويتأكد هذا بقوله {لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى } أو المعنى أنه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده يظهر للملائكةمزيادة لهم في الاستدلال على أنه عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة انتهى. وفيه بعض تلخيص. وقرأ الحسنوقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي لا يُضِلُّ بضم الياء أي {لاَّ يَضِلُّ } الله ذلك الكتابفيضيع {وَلاَ يَنسَى } ما أثبته فيه. وقرأ السلمي لا يُضِلُّ ربِيَ ولا يُنْسَى مبنيتين للمفعول، والظاهر أن الجملتين استئنافوإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه. وقيل: هما في موضع وصف لقوله {فِى كِتَـٰبِ } والضمير العائد على الموصوفمحذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه. والظاهر أن الضمير في {وَلاَ يَنسَى } عائد على الله. وقيل: يحتمل أنيعود على {كِتَابٌ } أي لا يدع شيئاً فالنسيان استعارة كما قال

{ إِلاَّ أَحْصَاهَا }

فأسند الإحصاء إليه من حيثالحصر فيه، وعن ابن عباس لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.{ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ * مِهَـٰداً * وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَـٰتٍشَتَّىٰ * كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لأيَـٰتٍ لاِوْلِى * لاِوْلِى ٱلنُّهَىٰ * مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْتَارَةً أُخْرَىٰ * وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍمّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُضُحًى * فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ * قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍوَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ * فَتَنَـٰزَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ * قَالُواْ إِنْ هَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْبِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ * فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ }. ولما ذكر موسىدلالته على ربوبية الله تعالى وثم كلامه عند قوله

{ وَلاَ يَنسَى }

ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالىووحدانيته، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام اللهتعالى لقوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا } وقوله {كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ } وقوله {وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ } فيكون قوله {فَأَخْرَجْنَا } و{أَرَيْنَـٰهُ }التفاتاً من الضمير الغائب في {*أعل} وسلك إلى ضمير المتكلم لمعظم نفسه، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهبإلى أن الذي نعت لقوله {إِنَّهُ رَبّى } فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهماالحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله {فَأَخْرَجْنَا } {وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ }. وقال ابنعطية: يحتمل أن يكون {فَأَخْرَجْنَا } من كلام موسى حكاية عن الله تعالى على تقدير يقول عز وجل {فَأَخْرَجْنَا }ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله {وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } ثم وصل الله كلام موسى بإخباره لمحمد والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات. وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلىوعاصم وحمزة والكسائي {مِهَـٰداً } بفتح الميم وإسكان الهاء، وباقي السبعة مهاداً وكذا في الزخرف فقال المفضل: مصدران مهد مهداًومهاداً. وقال أبو عبيد: مهاد اسم، ومهد الفعل يعني المصدر. وقال آخر {مِهَـٰداً } مفرد ومهاد جمعه، ومعنى ذلك أنهتعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم، ونهج لكم فيها طرقاً لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم. والضميرفي {بِهِ } عائد على الماء أي بسببه. {أَزْوٰجاً } أي أصنافاً وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا }

{ أَمَّنْ خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا }

{ وَهُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء }

وفي هذا الالتفات تخصيص أيضاً بأنانحن نقدر على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة أحد والأجود أن يكون {شَتَّىٰ } في موضع نصب نعتاً لقوله{أَزْوٰجاً } لأنها المحدث عنها. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سُمِّيَ به النابت كما سُمِّيَبالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع، يعني أنها {شَتَّىٰ } مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.قالوا: من نعمته عز وجل أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عنحاجتهم ولا يقدرون على أكله {كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ } أمر إباحة معمول لحال محذوفة أي {فَأَخْرَجْنَا } قائلين أي آذنينفي الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها، عُدِيّ هنا {وَٱرْعَوْا } ورعى يكون لازماً ومتعدياً تقول: رعت الدابةرعياً، ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها قاله الزجاج. وأشار بقوله {إِنَّ فِى ذَلِكَ } للآيات السابقة من جعلالأرض مهداً وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات. وقالوا {ٱلنُّهَىٰ } جمع نهية وهو العقل سُمِّيَ بذلك لأنه ينهى عنالقبائح، وأجاز أبو علي أن يكون مصدراً كالهدي. والضمير في {مِنْهَا } يعود على الأرض، وأراد خلق أصلهم آدم. وقيل:ينطلق الملك إلى تربة المكان الذي يدفن فيه من يخلق فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معاً قاله عطاءالخراساني. وقيل: من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيهاً على ما تولدت منها الأخلاط المتولد منها الإنسان فهومن باب مجاز المجاز {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي بالدفن بها أو بالتمزيق عليها {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً } بالبعث {تَارَةً }مرة {أُخْرَىٰ } يؤلف أجزاءهم المتفرقة ويردّهم كما كانوا أحياء. وقوله {أُخْرَىٰ } أي إخراجة أخرى لأن معنى قوله {مِنْهَاخَلَقْنَـٰكُمْ } أخرجناكم. {وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا كُلَّهَا } هذا إخبار من الله تعالى لمحمد ، وهذايدل على أن قوله {فَأَخْرَجْنَا } إنما هو خطاب له عليه السلام {وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ } هي المنقولة من رأى البصرية،ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و{ءايَـٰتِنَا } ليس عاماً إذ لم يره تعالى جميع الآيات، وإنما المعنى آياتنا التيرآها، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد. وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاءالتوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة. وقيل: المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا. وقيل:يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبي صادق لا فرقبين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به {فَكَذَّبَ * بِهَا } جميعاً {وَأَبَىٰ } أن يقبل شيئاً منها انتهى.وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد. وقيل: {أَرَيْنَـٰهُ } هنا من رؤيةالقلب لا من رؤية العين، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا {كُلَّهَافَكَذَّبَ } هي الآيات التسع. قيل: ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السموات والأرضفيكون من رؤية العين. وقال ابن عطية وأُبيّ: يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب، ومتعلق التكذيب محذوففالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير {فَكَذَّبَ } موسى {وَأَبَىٰ } أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته.قيل: ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات الله وقال: من سحر، ولهذا {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَيٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ } ويبعد هذا القول قوله

{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * بَصَائِرَ }

وقوله

{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }

فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر.وفي قوله {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا } وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنهغالبه على ملكه لا محالة، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جداً إذ الإخراجمن الموطن مما يشق وجعله الله مساوياً للقتل في قوله

{ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَـٰرِكُمْ }

وقوله {بِسِحْرِكَ} تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملك مثله من أرضه ويغلبه على ملكهبالسحر، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضتهفقال {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ } ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قَوِيَ وكثر منعته من بني إسرائيلووقع أمره في نفوس الناس، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه، وأرضهم هي أرضمصر وخاطبه بقوله {بِسِحْرِكَ } لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرنا من قبله {فَلَنَأْتِيَنَّكَ } جواب لقسم محذوف،أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك، فطلب ضربموعد للمناظرة بالسحر. والظاهر أن {مَّوْعِدًا } هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله {قَالَ مَوْعِدُكُمْيَوْمُ ٱلزّينَةِ } ومعنى {لاَّ نُخْلِفُهُ } أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكاناً معلوماً وينبوعهقوله {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزّينَةِ }. وقال القشيري: الأظهر أنه مصدر ولذلك قال {لاَّ نُخْلِفُهُ } أي ذلك الموعد والإخلافأن يعد شيئاً ولا ينجزه. وقال الزمخشري: إن جعلته زماناً نظراً في قوله {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزّينَةِ } مطابق له لزمكشيئان أن نجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب {مَكَاناً } وإن جعلته مكاناً لقوله {مَكَاناً } لزمك أيضاً أنيقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزّينَةِ } وقراءة الحسن غير مطابقة له {مَكَاناً }جميعاً لأنه قرأ {يَوْمُ ٱلزّينَةِ } بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد. ويجعلالضمير في {نُخْلِفُهُ } و{مَكَاناً } بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: كيف طابقته قوله {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزّينَةِ } ولابد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاًلأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمانعلم المكان. وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً منطريق المعنى، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل {بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ } وعداً {لاَّ نُخْلِفُهُ } فإن قلت: فبمينتصب {مَكَاناً }؟ قلت: بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر، فإن قلت: كيف يطابقه الجواب؟ قلت: أما على قراءة الحسنفظاهر، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة. ويجوز على قراءة الحسن أن يكون {مَوْعِدُكُمْ }مبتدأ بمعنى الوقت و{ضُحًى } خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله {لاَّ نُخْلِفُهُ } وهوموصول، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم. وقوله و{ضُحًى } خبره على نية التعريف فيه، لأنهضحى ذلك اليوم بعينه، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة، وإن كانمن يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة. ولو قلت: جئت يوم الجمعة بكراًلم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه. وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلُفْهُ بجزمالفاء على أنه جواب الأمر. وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد. وقال الحوفي {مَّوْعِدًا } مفعول اجعل {مَكَاناً } طرف العاملفيه اجعل. وقال أبو علي {مَّوْعِدًا } مفعول أولا لأجعل و{مَكَاناً } مفعول ثان، ومنع أن يكون {مَكَاناً } معمولاًلقوله {مَّوْعِدًا } لأنه قد وصف. قال ابن عطية: وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أوأخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها، وقديتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل

{ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَـٰنِ }

فقوله إذ متعلق بقوله لمقت. وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أنيكون {مَكَاناً } نصباً على المفعول الثاني لنخلفه، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يحلف الموعد انتهى.وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذاوصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف، وأما إذا جمعفلا يعلم خلاف في جواز إعماله، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيرهيذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون. {وَلا أَنتَ} معطوف على الضمير المستكن في {تُخْلَفَهُ } المؤكد بقوله {نَحْنُ }. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادةوطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير {سُوًى } بضم السين منوناً في الوصل. وقرأ باقي السبعة بكسرهامنوناً في الوصل. وقرأ الحسن أيضاً (سُوى} بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنهمنعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد. وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرىالوصل أيضاً مجرى الوقف، ومعنى {*} بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعهالصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد. وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصلأيضاً مجرى الوقف، ومعنى {سُوًى } أي عدلاً ونصفة. قال أبو علي: كأنه قال قربه منكم قربه منا. وقال غيره:إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيهالرئاسة وإنما يقصد الحجة. وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها، وهذامعنى ما تقدم من قول أبي عليّ قربه منكم قربه منا. وقال الأخفش {سُوًى } مقصور إن كسرت سينه أوضممت، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل، ووسط بين الفريقين. وقال الشاعر:

وإن أبانا كان حل بأهله سوى     بين قيس قيس غيلان والفزر

قال: وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواكأي غيرك، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس. وقالت فرقة: معنى {مَكَاناً سُوًى } مستوياً من الأرض أيلا وَعر فيه، ولا جبل، ولا أكمة، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرةوما يصدر عنهما، قال ذلك واثقاً من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه. وقالتفرقة: معناه مكاناً سوى: مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولاتقطع عن الإضافة. وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يومالزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن {يَوْمُ ٱلزّينَةِ } كان عيداً لهم ويوماً مشهوداًوصادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت. وقيل: هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم. وقيل: يوم النيروز وكان رأس سنتهم.وقيل: يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة. وقيل: يوم سوق لهم. وقيل: يوم عاشوراء. وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبوعمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فايد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة، والناسنصب في كلتا القراءتين. قالصاحب اللوامح {وَأَن يُحْشَرَ } الحاشر {ٱلنَّاسُ ضُحًى } فحذف الفاعل للعلم به انتهى. وحذف الفاعلفي مثل هذا لا يجوز عند البصريين. وقال غيره {وَأَن يُحْشَرَ } القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعونذكره بلفظ الغيبة، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله {مَوْعِدُكُمْ } وجعل {يُحْشَرُ } لفرعونويجوز أن يكون {وَأَن يُحْشَرَ } في موضع رفع عطفاً على {يَوْمُ ٱلزّينَةِ } وأن يكون في موضع جر عطفاًعلى {ٱلزّينَةِ } وانتصب {ضُحًى } على الظرف وهو ارتفاع النهار، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عندارتباع النهار الأعلى، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوسالأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلمفي كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر. والظاهر أن قوله {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزّينَةِ } من كلامموسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون {فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرفاليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ولقوله {مَوْعِدُكُمْ } وهو خطاب للجميع، وأبعد من ذهبإلى أنه من كلام فرعون. {فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ } أي معرضاً عن قبول الحق أو {تَوَلَّىٰ } ذلك الأمر بنفسهأو فرجع إلى أهله لاستعداد مكايده، أو أدبر على عادة المتواعدين أن يولي كل واحد منهما صاحبه ظهره إذا افترقا.أقوال {فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي ذوي كيده وهم السحرة. وكانوا عصابة لم يخلق الله أسحر منها {ثُمَّ أَتَىٰ } للموعدالذي كانوا تواعدوه. وأتى موسى أيضاً بمن معه من بني إسرائيل قال لهم موسى {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً} وتقدم تفسير ويل في سورة البقرة، خاطبتهم خطاب محذر وندبهم إلى قول الحق إذ رأوه وأن لا يباهتوا بكذب.وعن وهب لما قال للسحرة {وَيْلَكُمْ } قالوا ما هذا بقول ساحر {فَيُسْحِتَكُم } يهلككم ويستأصلكم، وفيه دلالة على عظمالافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال، ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح طلبه {مَنِ ٱفْتَرَىٰ } على اللهالكذب. ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته {فَتَنَـٰزَعُواْ أَمْرَهُمْ } أي تجاذبوه والتنازعيقتضي الاختلاف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن جرير {فَيُسْحِتَكُم } بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعياً. وقرأباقي السبعة ورويس وابن عباعي بفتحهما من سحت ثلاثياً. وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لميكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم. وعن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه، وعنقتادة إن كان ساحراً فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر. وقال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبواأهداب القول، ثم {قَالُواْ إِنْ هَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ } فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبتهما وتثبيطاً للناسمن اتباعهما انتهى. وحكى ابن عطية قريباً من هذا القولعن فرقة قالوا: إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا {إِنْهَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ } والأظهر أن تلك قيلت علانية، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع. وقرأ أبو جعفر والحسنوشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكيوالأخوان والصاحبان من السبعة إنّ بتشديد النون {هَـٰذَانِ } بألف ونون خفيفة {لَسَاحِرٰنِ } واختلف في تخريج هذه القراءة. فقالالقدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران، وخبر {ءانٍ } الجملة من قوله {هَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ} واللام في {لَسَاحِرٰنِ } داخلة على خبر المبتدأ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا فيالشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ. وقال الزجاج: اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلتعلى المبتدأ المحذوف، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد. وقيل: هاضمير القصة وليس محذوفاً، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها {إِنْ هَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ } وضعفذلك من جهة مخالفته خط المصحف. وقيل {ءانٍ } بمعنى نعم، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و{هَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ} مبتدأ وخبر واللام في {لَسَاحِرٰنِ } على ذينك التقديرين في هذا التخريج، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبردوإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب منإجراء المثنى بالألف دائماً وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحيةحُكِي ذلك عن الكسائي، ولبني العنبر وبنى الهجيم ومراد وعذرة. وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياءينفتح ما قبلها ألفاً. وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير {ءانٍ} بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون {هَـٰذَانِ } ابن كثير، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن أن هيالمخففة من الثقيلة و{*هذان{مبتدأ و{لساحران} الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين، يزعمونأن إن نافية واللام بمعنى إلاّ. وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها، وقرأت عائشة والحسن والنخعيوالجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمر وإن هذين بتشديد نون إنّ وبالياء في هذين بدل الألف، وإعراب هذاواضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله { فَذَانِكَ بُرْهَانَـٰنِ } {إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَاتَيْنِ } بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً.وقال الزجاج: لا أجيز قراءة أبي عمر ولأنها خلاف المصحف. وقال أبو عبيد: رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليسفيها ألف، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها، وقالتجماعة منهم عائشة وأبو عمر: وهذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب. وقرأ عبد الله إن ذان إلا ساحرانقاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لابَيّ. وقال ابن مسعود: إن هذان ساحران بفتح أن وبغير لام بدل من {ٱلنَّجْوَىٰ }انتهى. وقرأت فرقة ما هذا إلاّ ساحران وقولهم {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } تبعوا فيه مقالة فرعون {أَجِئْتَنَالِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } ونسبوا السحر أيضاً لهارون لما كان مشتركاً معه في الرسالة وسالكاً طريقته، وعلقوا الحكم علىالإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصاً لهما وحطاً من قدرهما، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا مايدل على صدقهما، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك، والظاهر أن الضمير في {قَالُواْ } عائدعلى السحرة خاطب بعضهم بعضاً. وقيل: خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها. و{ٱلْمُثْلَىٰ } تأنيثالأمثل أي الفضلى الحسنى. وقيل: عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى، وحكوا أن العرب تقولفلان طريقة قومه أي سيدهم، وعن علي نحو ذلك قال: وتصرفات وجوه الناس هليهما. وقيل: هو على حذف مضاف أي{وَيَذْهَبَا } بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ } بالغوا في التنفيرعنهما بنسبتهما إلى السحر،وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها.وحكى تعالى عنهم في متابعة فرعون في قوله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ } قوله {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } وقيل: هو من كلامفرعون، والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض. وقرأ الجمهور {فَأَجْمِعُواْ } بقطع الهمزة وكسر الميم من أجمع رباعياً أياعزموا واجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا ولا يتخلف واحد منكم المسألة المجمع عليها. وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمروويعقوب في رواية وأبو حاتم بوصل الألف وفتح الميم موافقاً لقوله { فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ } وتقدم الكلام في جمعوأجمع في سورة يونس في قصة نوح عليه السلام. وتداعوا إلى الإتيان {صَفَّا } لأنه أهيب في عيون الرائين،وأظهر في التمويه وانتصب {صَفَّا } على الحال أي مصطفين أو مفعولاً به إذ هو المكان الذي يجتمعون فيه لعيدهموصلواتهم. وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه ثم ايتوا بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء تخفيفاً. قالأبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم. وقال صاحب اللوامح: وذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة فيالعامة كذلك {وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ } أي ظفر وفاز ببغيته من طلب العلوّ في أمره وسعى سعيه، واختلفوا في عددالسحرة اختلافاً مضطرباً جداً فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر عصي وحبال، وأكثر ما قيلتسعمائة ألف.

{ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ } * { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } * { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } * { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } * { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } * { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } * { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } * { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } * { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } * { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } * { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ } * { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ } * { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ } * { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } * { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ } * { يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } * { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ } * { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } * { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ } * { قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } * { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } * { فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } * { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ } * { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ } * { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } * { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِي }

عدل

{قَالُواْ يامُوسَىٰ إَمَا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ * قَالَبَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ * فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لاَتَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلاْعْلَىٰ * وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُأَتَىٰ * فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هَـٰرُونَ * قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِىعَلَّمَكُمُ ٱلسّحْرَ فَلاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً }. في الكلام حذفتقديره فجاؤوا مصطفين إلى مكان الموعد، وبيد كل واحد منهم عصا وحبل، وجاء موسى وأخوه ومعه عصاه فوقفوا و{قَالُواْ يأَبَانَا* مُوسَىٰ إَمَامًا * أَن تُلْقِىَ } وذكروا الإلقاء لأنهم علموا أن آية موسى في إلقاء العصا. قيل: خيروه ثقةمنهم بالغلب لموسى، وكانوا يعتقدون أن أحداً لا يقاومهم في السحر. وقال الزمخشري: وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معهوتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكان الله عز وجل ألهمهم ذلك وعلم موسى عليه السلاماختيار إلقائهم أولاً مع ما فيه من مقابلة الأدب بأدب حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر ويستنفذوا أقصى طرقهمومجهودهم، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية بينة للناظرينبينة للمعتبرين انتهى. وهو تكثير وخطابة وإن ما بعده ينسبك بمصدر فإما أن يكون مرفوعاً وإما أن يكون منصوباً والمعنىأنك تختار أحد الأمرين، وقدّر الزمخشري الرفع الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا فجعله خبر المبتدأ محذوف، واختار أن يكون مبتدأ والخبرمحذوف تقديره إلقاؤك أول ويدل عليه قوله {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ } فتحسن المقابلة من حيث المعنى وإنكان من حيث التركيب اللفظي لم تحصل المقابلة لأنا قدّرنا إلقاؤك أول، ومقابلة كونهم يكونون أول من يلقي لكنه يلزممن ذلك أن يكون إلقاؤهم أول فهي مقابلة معنوية. وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك لا مقابلة فيه. وقدّر الزمخشريالنصب اختر أحد الأمرين وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، وتفسير الإعراب {أَمَّا } نختار {أَن تُلْقِىَ } وتقدم نحوهذا التركيب في الأعراف. {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ } لا يكون الأمر بالإلقاء من باب تجويز السحر والأمر به لأنالغرض في ذلك الفرق بين إلقائهم والمعجزة، وتعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة إذ الأمر مقرون بشرط أي ألقوا إنكنتم محقين لقوله

{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ }

ثم قال {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } وفي الكلام حذف تقديره فألقوا فإذا.قال أبو البقاء: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان، والعامل فيه ألقواانتهى. فقوله {فَإِذَا } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا ليست هذه فاء جواب لأن فألقوا لا تجاب، وإنما هيللعطف عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف. وقوله وإذا في هذا ظرف مكان يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكانوهو مذهب المبرد وظاهر كلام سيبويه، وقوله: والعامل فيه ألقوا ليس بشيء لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذهإنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو {حِبَـٰلَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } إن لم يجعلها هي في موضع الخبر، لأنه يجوز أنيكون الخبر يخيل، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال، وهذا نظير: خرجت فإذا الأسد رابض ورابضاً فإذا رفعنارابضاً كانت إذا معمولة، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان، وإذا نصبتا كانت خبراً ولذلك تكتفي بها، وبالمرفوع بعدهاكلاماً نحو خرجت فإذا الأسد. وقال الزمخشري: يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنىالوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة، والجملةابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم، وهذا تمثيل والمعنى علىمفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى. فقوله: والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب الرياشي أن إذاالفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضاً وقوله الطالبة ناصباً لها صحيح، وقوله: وجملةتضاف إليها هذا عند أصحابنا ليس بصحيح لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ وإما معمولة لخبر المبتدأ، وإذا كانكذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض لجملة أو معمولة لبعضها، فلا تمكن الإضافة. وقوله خصتفي بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها، وقوله والجملة ابتدائية لا غيرهذا الحصر ليس بصحيح بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية تقول: خرجتفإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك سأله الاشتغال خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو، برفع زيد ونصبه، وأماقوله: والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدّر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه.فإذا قلت: خرجت فإذا السبع، فالمعنى أنه فاجني السبع وهجم ظهوره. وقرأ الحسن وعيسى عُصِيَهُم بضم العين حيث كانوهو الأصل لأن الكسر اتباع لحركة الصاد وحركة الصاد لأجل الياء. وفي كتاب اللوامح الحسن وعُصْيهم بضم العين وإسكان الصادوتخفيف الياء مع الرفع فهو أيضاً جمع كالعامّة لكنه على فعل. وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروحوالوليدان وابن ذكوان تخيل بالتاء مبنياً للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي و{أَنَّهَا تَسْعَىٰ } بدل اشتمال من ذلك الضمير. وقرأأبو السماك تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيها أيضاً ضمير ما ذكر و{وَإِنَّهَا * تَسْعَىٰ } بدل اشتمال أيضاً منذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى. وقال ابن عطية: إنها مفعول من أجله. وقال أبو القاسم بن حبارة الهذليالأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيهفاعل، و{أَنَّهَا تَسْعَىٰ } في موضع نصب على المفعول به. ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن والثقفي يعني عيسى،ومن بني تخيل للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله للمحنة والابتلاء وروى الحسن بن أيمن عن أبي حيوة نخيل بالنونوكسر الياء، فالمخيل لهم ذلك هو الله والضمير في {إِلَيْهِ } الظاهر أنه يعود على موسى لقوله قبل {قَالَ بَلْأَلْقُواْ } ولقوله بعد {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } وقيل: يعود على فرعون، والظاهر من القصص أن الحبال والعصيكانت تتحرك وتنتقل الانتقال الذي يشبه انتقال من قامت به الحياة، ولذلك ذكر السعي وهو وصف من يمشي من الحيوان،فروى أنهم جعلوا في الحبال زئبقاً وألقوها في الشمس فأصاب الزئبق حرارة الشمس فتحرك فتحركت العصي والحبال معه. وقيل: حفرواالأرض وجعلوا تحتها ناراً وكانت العصي والحبال مملوءة بزئبق، فلما أصابتها حرارة الأرض تحركت وكان هذا من باب الدّك. وقيل:إنها لم تتحرك وكان ذلك من سحر العيون وقد صرح تعالى بهذا فقالوا

{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ }

فكان الناظر يخيلإليه أنها تنتقل. وتقدم شرح أوجس. وقال الزمخشري: كان ذلك لطبع الجبلة البشرية وأنه لا يكاد يمكن الخلو منمثله وهو قول الحسن. وقيل: كان خوفه على الناس أن يفتتنوا لهول ما رأى قبل أن يلقي عصاه وهو قولمقاتل، والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن و{خِيفَةً } أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون خوفه بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب. {إِنَّكَ أَنتَ ٱلاْعْلَىٰ} تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف، وبالأعلوية الدالة على التفضيل {وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ} لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة. قال الزمخشري: وقوله {مَا فِى يَمِينِكَ} ولم يقل عصاك جائز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرمالذي في يمينك فإنه بقدرة الله يتلقفها على حدته وكثرتها وصغره وعظمها، وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفلبهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها، فألقه تتلقفهابإذن الله وتمحقها انتهى. وهو تكثير وخطابه لا طائل في ذلك. وفي ذوله {تَلْقَفْ } جمل على معنى مالا على لفظها إذ أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة، ولو حمل على اللفظ لكان بالياء. وقرأ الجمهور تَلَقَّف بفتحاللام وتشديد القاف مجزوماً على جواب الأمر. وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى.وقرأ أبو جعفر وحفص وعصمة عن عاصم {تَلْقَفْ } بإسكان اللام والفاء وتخفيف القاف وعن قنبل أنه كان يشدد منتلقّف يريد يتلقف. وقرأ الجمهور {كَيْدَ } بالرّفع على أن {مَا } موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف، ويحتمل أنتكون {مَا } مصدرية أي أن صنعتم كيد، ومعنى {صَنَعُواْ } هنا زوّروا وافتعلوا كقوله

{ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }

. وقرأمجاهد وحميد وزيد بن عليّ {كَيْدَ * سَـٰحِرٌ } بالنصب مفعولاً لصنعوا وما مهيئة. وقرأ أبو بحرية والأعمش وطلحة وابنأبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة والكسائي سِحْر بكسر السين وإسكان الحاءبمعنى ذي سحر أو ذوي سحر، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته، أو بين الكيد لأنهيكون سحراً وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو. وقرأ الجمهور ساحر اسم فاعل منسحر، وأفرد ساحر من حيث أن فعل الجميع نوع واحد من السحر، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحدلعدم اختلاف أنواعه. وقال الزمخشري: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيلأن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله {وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ } أي هذا الجنس انتهى. وعرف في قوله{وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ } لأنه عاد على ساحر النكرة قبله كقوله

{ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ }

. وقال الزمخشري: إنما نكر يعني أولاً من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج:

في سعي دنيـا طـال ما قـد مدت    

وفي حديث عمر رضي الله عنه: لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرةالمراد تنكير الأمر كأنه قال: إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي انتهى. وقول العجاج. في سعيدنيا، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى، ولا يستعمل تأنيثه إلاّ بالألف واللام أو بالإضافة وأما قول عمر فيحتملأن يكون من تحريف الرواة. ومعنى {وَلاَ يُفْلِحُ } لا يظفر ببغيته {حَيْثُ أَتَىٰ } أي حيث توجه وسلك.وقالت فرقة معناه أن الساحر بقتل حيث تقف وهذا جزاء من عدم الفلاح. وقرأت فرقة أين أتى وبعد هذا جملمحذوفة، والتقدير فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أنذلك معجز ليس في طوق البشر {فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً } وجاء التركيب {فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ } ولم يأت فسجدوا كأنه جاءهمأمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين.وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر منالإعجاز، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضاً كقوله

{ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى }

وأزواجاً من نبات إذا كان شتى صفة لقولهأزواجاً ولا فرق بين قام زيد وعمرو وقام عمرو وزيداً إذا لوأ ولا تقتضي ترتيباً على أنه يحتمل أن يكونالقولان من قائلين نطقت طائفة بقولهم رب موسى وهارون، وطائفة بقولهم: رب هارون وموسى ولما اشتركوا في المعنى صح نسبةكل من القولين إلى الجميع. وقيل: قدم {هَـٰرُونَ } هنا لأنه كان أكبر سناً من {مُوسَىٰ }. وقيل لأن فرعونكان ربَّى موسى فبدؤوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربي موسى فيقول أنا ربيته. وقالوا: رب هارون وموسى ولم يكتفوابقولهم برب العالمين للنص على أنهم آمنوا {بِرَبّ } هذين وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين. وتقدم الخلاففي قراءة {أَمِنتُمْ } وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف. وتفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له،وآمن يوصل بالباء إذا كان بالله وباللام لغيره في الأكثر نحو

{ فَمَا ءامَنَ لِمُوسَىٰ }

{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ }

{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }

{ فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ }

واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى وأن يعود على الرب،وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم، ولما كان الجذع مقراً للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عُدِّيَ الفعلبفي التي للوعاء. وقيل في بمعنى على. وقيل: نقر فرعون الخشب وصلبهم في داخله فصار ظرفاً لهم حقيقة حتى يموتوافيه جوعاً وعطشاً ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر:

وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة     فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا

وفرعون أول من صلب، وأقسم فرعون على ذلك وهو فعل نفسه وعلى فعل غيره، وهو {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا }أي أيـي وأي من آمنتم به. وقيل: أيـي وأي موسى، وقال ذلك على سبيل الاستهزاء لأن موسى لم يكن منأهل التعذيب وإلى هذا القول ذهب الزمخشري قال: بدليل قوله {لَهُ قَبْلَ } واللام مع الإيمان في كتاب الله لغيرالله كقوله

{ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }

وفيه نفاحة باقتداره وقهره وما ألفه وضَرِيَ به من تعذيب الناس بأنواع العذاب،وتوضيع لموسى عليه السلام واستضعاف مع الهزء به انتهى. وهو قول الطبري قال: يريد نفسه وموسى عليه السلام، والقول الأولأذهب مع مخرقة فرعون {وَلَتَعْلَمُنَّ } هنا معلق {فِرْعَوْنَ أَشَدَّ } جملة استفهامية من مبتدإ وخبر في موضع نصب لقوله{وَلَتَعْلَمُنَّ } سدّت مسد المفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كان {*لتعلمنّ} معدى تعدية عرف، ويجوز على الوجه أنيكون {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا } مفعولاً {*لتعلمن} وهو مبني على رأي سيبويه و{فِرْعَوْنَ أَشَدَّ } خبر مبتدأ محذوف، و{أَيُّنَا } موصولةوالجملة بعدها صلة والتقدير و{*لتعلمنّ} من هو {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ }. {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ } أي لن نختاراتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك {عَلَىٰ مَا جَاءنَا مِنَ ٱلْبَيّنَـٰتِ } وهي المعجزة التي أتتنا وعلمنا صحتها. وفيقولهم هذا توهين له واستصغار لما هددهم به وعدم اكتراث بقوله. وفي نسبة المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهمولغيرهم لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر فكانوا على جلية منالعلم بالمعجز، وغيرهم يقلدهم في ذلك وأيضاً فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها فكانت بينات واضحة في حقهم.والواو في {وَٱلَّذِى فَطَرَنَا } واو عطف على {مَا جَاءنَا } أي وعلى {ٱلَّذِى * فَطَرَنَا } لما لاحت لهمحجة الله في المعجزة بدؤوا بها ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة وهو الله تعالى وذكروا وصف الاختراع وهوقولهم {ٱلَّذِى * فَطَرَنَا } تبينناً لعجز فرعون وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته وهو عاجز عن صرف ذبابة فضلاً عناختراعها. وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف، ولا يكون {لَن نُّؤْثِرَكَ } جواباً لأنه لا يجاب في النفي بلن إلاّ فيشاذ من الشعر و{مَا } موصولة بمعنى الذي وصلته {أَنتَ قَاضٍ } والعائد محذوف أي ما أنت قاضيه. قيل: ولايجوز أن تكون {مَا } مصدرية لأن المصدرية توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر انتهى. وهذا ليس مجمعاً عليه بلقد ذهب ذاهبون من النحاة إلى أن {مَا } المصدرية توصل بالجملة الاسمية. وانتصب {هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةَ } على الظرف ومامهيئة ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك كائن في {هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } لا في الآخرة، بل في الآخرةلنا النعيم ولك العذاب. وقرأ الجمهور {تَقْضِى } مبنياً للفاعل خطاباً لفرعون. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة تُقْضَىمبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع اتسع في الظرف فاجْرِي مجرى المفعول به، ثم بُني الفعل لذلك ورفع به كما تقول:صم يوم الجمعة وولد له ستون عاماً. ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهموصلبهم، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه ويدل على ذلك قوله

{ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ }

وقيل: أنفذ فيهم وعيدهوصلبهم على الجذوع وإكراهه إياهم على السحر. قيل: حملهم على معارضة موسى. وقيل: كان يأخذ ولدان الناس ويجربهم على ذلكفأشارت السحرة إلى ذلك قاله الحسن {وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } ردّ على قوله {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } أي وثوابالله وما أعده لمن آمن به، روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائماً ففعل فوجده ويحرسه عصاه، فقالوا: ما هذابسحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويظهر من قولهم أئن لنا لأجراً عدم الإكراه. {إِنَّهُمَن يَأْتِ * إِلَىَّ مِنْ * تَزَكَّىٰ } قيل هو حكاية لهم عظة لفرعون. وقيل: خبر من الله لا علىوجه الحكاية تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة موعظة وتحذيراً، والمجرم هنا الكافر لذكر مقابله {وَمَنيَأْتِهِ مُؤْمِناً } ولقوله {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } أي يعذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهزعليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه فهو لا يحيا حياة طيبة بخلاف المؤمن الذي يدخل النار فهم يقاربون الموتولا يجهز عليهم فهذا فرق بين المؤمن والكافر. وفي الحديث إنهم يماتون إماتة وهذا هو معناه لأنه لا يموت فيالآخرة و{تَزَكَّىٰ } تطهَّر من دنس الكفر. وقيل: قال لا إله إلا الله. {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِبِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى ٱلْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ فَأَتْبَعَهُمْ }. هذا استئناف إخبار عن شيءمن أمر موسى عليه السلام وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان، حدث فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أنفرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقَويَ أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فأقام موسى على وعدهحتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقملإلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب، فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرىفلما كملت الآيات أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرج بني إسرائيل في الليل سارياً والسَري مسير الليل.ويحتمل أنْ {ءانٍ } تكون مفسرة وأن تكون الناصبة للمضارع و{بِعِبَادِى } إضافة تشريف لقوله

{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى }

والظاهر أن الإيحاء إليه بذلك وبأن يضرب البحر كان متقدماً بمصر على وقت اتباع فرعون موسى وقومه بجنوده. وقيل: كانالوحي بالضرب حين قارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائةألف إنسان، فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم، واتصل الخبر فرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحى الله إلىموسى أن يقصد البحر فجزع بنو إسرائيل، ورأوا أن العدو من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله، فلمارآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم وكان مقصدهم إلى موضع ينقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة. قيل: وكان فيخيل فرعون سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان. وقيل: أكثر من هذا فضرب موسى عليه السلام البحر فانفرقاثنتي عشرة فرقة طرقاً واسعة بينها حيطان الماء واقفة، ويدل عليه فكان كل فرق كالطود العظيم. وقيل: بل هو طريقواحد لقوله {فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى ٱلْبَحْرِ يَبَساً } انتهى. وقد يراد بقوله {طَرِيقاً } الجنس فدخل موسى عليهالسلام بعد أن بعث الله ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست ودخل بنو إسرائيل، ووصل فرعون إلى المدخل وبنوإسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر فقال لهم: إنما انفلق من هيبتي وتقدمغرق فرعون وقومه في سورة يونس. والظاهر أن لفظة اضرب هنا على حقيقتها من مس العصا بقوّة، وتحامل على العصاويوضحه في آية أخرى

{ أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ }

فالمعنى أن اضرب بعصاك البحر لينفلق لهم فيصير طريقاً فتعدىإلى الطريق بدخول هذا المعنى لما كان الطريق متسبباً عن الضرب جعل كأنه المضروب. وقال الزمخشري: {فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً} فاجعل لهم من قولهم: ضرب له في ماله سهماً، وضرب اللبن عمله انتهى. وفي الحديث: اضربوا لي معكم بسهم .ولما لم يذكر المضروب حقيقة وهو البحر، ولو كان صرّح بالمضروب حقيقة لكان التركيب طريقاً فيه، فكان يعود على البحرالمضروب و{يَبَساً } مصدر وصف به الطريق وصفه بما آل إليه إذ كان حالة الضرب لم يتصف باليبس بل مرتعليه الصبا فجففته كما روي، ويقال: يبس يبساً ويبساً كالعدم والعدم ومن كونه مصدراً وصف به المؤنث قالوا: شاة يبسوناقة يبس إذا جف لبنها. وقرأ الحسن يَبْساً بسكون الباء. قال صاحب اللوامح: قد يكون مصدراً كالعامة وقد يكون بالإسكانالمصدر وبالفتح الاسم كالنفض. وقال الزمخشري: لا يخلو اليبس من أن يكون مخففاً عن اليبس أو صفة على فعل أوجمع يابس كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيداً لقوله ومعاً جياعاً جعله لفرط جوعه كجماعة جياع انتهى. وقرأ أبو حيوة:يابساً اسم فاعل. وقرأ الجمهور: لا تخاف وهي جملة في موضع الحال من الضمير {فَٱضْرِب } وقيل في موضعالصفة للطريق، وحذف العائد أي لا تخاف فيه. وقرأ الأعمش: وحمزة وابن أبي ليلى {لاَ تَخَفْ } بالجزم على جوابالأمر أو على نهي مستأنف قاله الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش، دَرْكاً بسكون الراء والجمهور بفتحها، والدرك والدرك اسمانمن الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك {وَلاَ تَخْشَىٰ } أنت ولا قومك غرقاً وعطفه على قراءة الجمهورلا تخاف ظاهر، وأما على قراءة الجزم فخرج على أن الألف جيء بها لأجل أواخر الآي فاصلة نحو قوله

{ فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ }

وعلى أنه إخبار مستأنف أي وأنت {لا } وعلى أنه مجزوم بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال:ألم يأتيك وهي لغة قليلة. وقال الشاعر:

إذا العجوز غضبت فطلق     ولا ترضاها ولا تملق

وقرأ الجمهور: {تَخْشَىٰ فَأَتْبَعَهُمْ } بسكون التاء، وأتبع قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد كقوله

{ فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ }

وقد يتعدى إلى اثنين كقوله: وأتبعناهم ذرياتهم فتكون التاء زائدة أي جنوده، أو تكون للحال والمفعول الثاني محذوفأي رؤساؤه وحشمه. وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن فاتَّبعَعهم بتشديد التاء وكذا عن الحسن في جميع ما في القرآنإلا

{ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثاقب }

والباء في بجنوده في موضع الحال كما تقول: اخرج زيد بسلاحه أو الباء للتعدي لمفعول ثانبحرف جر، إذ لا يتعدى اتبع بنفسه إلا إلى حرف واحد. وقرأ الجمهور {بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ ٱلْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ} على وزن فعل مجرد من الزيادة. وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بتضعيف العين فالفاعل فيالقراءة الأولى {مَا } وفي الثانية الفاعل الله أي فغشاهم الله. قال الزمخشري: أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسببلهلاكهم. وقال {مَا غَشِيَهُمْ } من باب الاختصار ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أي {غَشِيَهُمْ }ما لا يعلم كَنَهَهُ إلاّ الله. وقال ابن عطية: {مَا غَشِيَهُمْ } إبهام أهول من النص على قدر ما، وهوكقوله

{ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }

والظاهر أن الضمير في {غَشِيَهُمْ } في الموضعين عائد على فرعون وقومه، وقيلالأول على فرعون وقومه، والثاني على موسى وقومه: وفي الكلام حذف على هذا القول تقديره فنجا موسى وقومه، وغرّق فرعونوقومه. وقال الزجاج: وقرىء وجنوده عطفاً على فرعون. {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } أي من أول مرة إلى هذه النهايةويعني الضلال في الدين. وقيل: أضلهم في البحر لأنهم غرقوا فيه، واحتج به القاضي على مذهبه فقال: لو كان الضلالمن خلق الله لما جاز أن يقال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } بل وجب أن يقال: الله أضلهم لأن الله تعالىذمه بذلك فكيف يكون خالقاً للكفر لأن من ذم غيره بفعل شيء لا بد أن يكون المذموم فاعلاً لذلك الفعلوإلاّ استحق الذام الذم انتهى. وهو على طريقة الاعتزال {وَمَا هَدَىٰ } أي ما هداهم إلى الدين، أو ما نجامن الغرق، أو ما هتدى في نفسه لأن {هُدًى } قد يأتي بمعنى اهتدى. {هَدَىٰ يٰبَنِى إِسْرٰءيلَ قَدْ أَنجَيْنَـٰكُمْمّنْ عَدُوّكُمْ } ذكرهم تعالى بأنواع نعمه وبدأ بإزالة ما كانوا فيه من الضرر من الإذلال والخراج والذبح وهي آكدأن تكون مقدمة على المنفعة الدنيوية لأن إزالة الضرر أعظم في النعمة من إيصال تلك المنفعة، ثم أعقب ذلك بذكرالمنفعة الدينية وهو قوله {وَوَاعَدْنَـٰكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلاْيْمَنَ } إذ أنزل على نبيهم موسى كتاباً فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم،ثم يذكر المنفعة الدنيوية وهو قوله

{ وَأنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ }

والظاهر أن الخطاب لمن نجامع موسى بعد إغراق فرعون.وقيل: لمعاصري الرسول اعتراضاً في أثناء قصة موسى توبيخاً لهم إذ لم يصبر سلفهم على أداءشكر نعم الله فهو على حذف مضاف، أي أنجينا آباءكم من تعذيب آل فرعون. وخاطب الجميع بواعدناكم وإن كان الموعودونهم السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لسماع كلام الله، لأن سماع أولئك السبعين تعود منفعته على جميعهم إذ تطمئنقلوبهم وتسكن وتقدم الكلام في {جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلاْيْمَنِ } في سورة مريم، وعلى {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } في سورةالبقرة. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة: قد أنجيتكم وواعدتكم ما رزقتكم بتاء الضمير، وباقي السبعة بنون العظمة وحميد نجَّيناكم بتشديد الجيممن غير ألف قبلها وبنون العظمة وتقدم خلاف أبي عمرو وفي واعد في البقرة. والطيبات هنا الحلال اللذيذ لأنهجمع الوصفين. وقرىء {ٱلاْيْمَـٰنَ } قال الزمخشري بالجر على الجوار نحو جحر ضب خرب انتهى. وهذا من الشذوذ والقلة بحيثينبغي أن لا تخرّج القراءة عليه، والصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن وأما لكونه على يمين من يستقبلالجبل، ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم وهو أن يتعدوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والنعم عن القيام بشكرها،وأن ينفقوها في المعاصي ويمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيها. وقرأ زيد بن علي ولا تَطْغُوا فيه بضم الغين.. وعنابن عباس {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه يعني بغير حق. وعن الضحاك ومقاتل: لاتجاوزوا حدَّ الإباحة. وعن الكلبي: لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي. وقرأ الجمهور {فَيَحِلَّ } بكسر الحاء{وَمَن يَحْلِلْ } بكسر اللام أي فيجب ويلحق. وقرأ الكسائي بضم الحاء ولام يحلُل أي ينزل وهي قراءة قتادة وأبيحيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتيبة في يحلل فضم، وفي الإقناع لأبي علي الأهوازي ما نصه ابن غزوان عن طلحةلا يحلن عليكم {غَضَبِى } بلام ونون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء أي: لا تتعرضوا للطغيان فيه فيحل عليكم غضبيمن باب لا أرينك هنا وفي كتاب اللوامح قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش فَيُحَّلُ بضمالياء وكسر الحاء من الإحلال فهو متعد من حل بنفسه، والفاعل فيه مقدر ترك لشهرته وتقديره فيحل به طغيانكم {غَضَبِى} عليكم ودل على ذلك {وَلاَ تَطْغَوْاْ } فيصير {غَضَبِى } في موضع نصب مفعول به. وقد يجوز أن يسندالفعل إلى {غَضَبِى } فيصير في موضع رفع بفعله، وقد حذف منه المفعول للدليل عليه وهو العذاب أو نحوه انتهى.{فَقَدْ هَوَىٰ } كنى به عن الهلاك، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك يقال هوى الرجل أي سقط، ويشبه الذييقع في ورطة بعد أن بنجوة منها بالساقط، أو {هَوَىٰ } في جهنم وفي سخط الله وغضب الله عقوباته، ولذلكوصف بالنزول. ولما حذر تعالى من الطغيان فيما رزق وحذر من حلول غضبه فتح باب الرجاء للتائبين وأتى بصيغةالمبالغة وهي قوله {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } قال ابن عباس من الشرك {وَامَنَ } أي وحد الله {وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً} أدى الفرائض {ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } لزم الهداية وأدامها إلى الموافاة على الإسلام. وقيل: معناه لم يشك في إيمانه. وقيل:ثم استقام. قال ابن عطية: والذي تقوى في معنى {ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالفالحق في شيء من الأشياء، فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل. وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثباتعلى الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح، ونحوه:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ }

وكلمة التراخي دلتعلى تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمر، وأعني أن منزلة الاستقامة على الخبر مباينة لمنزلةالخبر نفسه لأنها أعلى منه وأفضل. {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ * قَالَ هُمْ أُوْلاء عَلَىٰ أَثَرِىوَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ * فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَأَسِفاً قَالَ يٰقَوْمِ * قَوْمٌ * أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌمّن رَّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى * قَالُواْ }. لما نهض موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيثكان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل، رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده مبادراً إلىأمر الله وحرصاً على القرب منه وشوقاً إلى مناجاته، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى: تسيرون إلى جانبالطور فلما انتهى موسى عليه السلام وناجى ربه، زاده في الأجل عشراً وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسىأنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا {وَمَا } استفهام أي أي شيء عجل بك عنهم. قال الزمخشري: وكانقد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وينجز ما وعد به بناءعلى اجتهاده، وظن أن ذلك أقرب إلى رضا الله، وزال عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظراً إلىدواعي الحكمة وعلماً بالمصالح المتعلقة بكل وقت، فالمراد بالقوم النقباء انتهى. والظاهر أن قوله عز وجل {عَن قَومِكَ }يريد به جميع بني إسرائيل كما قد بيّنا قبل لا السبعين. وقال الزمخشري: وليس يقول من جوز أن يراد جميعقومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح ما يأباه قوله {هُمْ أُوْلاء عَلَىٰ أَثَرِى } انتهى. {وَمَا أَعْجَلَكَ} سؤال عن سبب العجلة وأجاب بقوله {هُمْ أُوْلاء عَلَىٰ أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ } لأن قوله {وَمَا أَعْجَلَكَ} تضمن تأخر قومه عنه، فأجاب مشيراً إليهم لقربهم منه إنهم على أثره جائين للموعد، وذلك على ما كان عهدإليهم أن يجيئوا للموعد. ثم ذكر السبب الذي حمله على العجلة وهو ما تضمنه قوله {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ }من طلبه رضا الله تعالى في السبق إلى ما وعده ربه ومعنى {إِلَيْكَ } إلى مكان وعدك و{لِتَرْضَىٰ } أيليدوم رضاك ويستمر، لأنه تعالى كان عنه راضياً. وقال الزمخشري: فإن قلت: {مَا * أَعْجَلَكَ } سؤال عن سببالعجلة، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وينجز موعدك وقوله {هُمْ أُوْلاءعَلَىٰ أَثَرِى } كما ترى غير منطبق عليه. قلت: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين أحدهما إنكار العجلةفي نفسها، والثاني السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفسما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد مني إلاّ تقدم يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به،وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ } ولقائل أن يقول: حارَ لِما وَرَد عليه من التهيب لعتاب الله فأذهله ذلك عن الجوابالمنطبق المترتب على حدود الكلام انتهى. وفيه سوء أدب على الأنبياء عليهم السلام. وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيهأولائي بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية {أُوْلاء } بالقصر. وقرأت فرقة أولاي بياء مفتوحة. وقرأ عيسى ويعقوب وعبدالوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء. وحكى الكسائي أثْرِي بضم الهمزة وسكون الثاء وتروىعن عيسى. وقرأ الجمهور {أُوْلاء } بالمد والهمز على {أَثَرِى } بفتح الهمز والثاء و{عَلَىٰ أَثَرِى } يحتمل أن يكونخبراً بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال. قال: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ }أي اختبرناهم بما فعل السامري أو ألقيناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف {مِن بَعْدِكَ } أيمن بعد فراقك لهم. وقال الزمخشري: أراد بالقوم المفتونين الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادةالعجل إلاّ اثنا عشر ألفاً فإن قلت: فيي القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوا أربعين مع أيامها، وقالواقد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه {إِنَّاقَدْ * فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ }؟ قلت: قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته،وافترض السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه. وأخذ في تدبير ذلك فكان بدء الفتنة موجوداً انتهى. وقرأ الجمهور:{وَأَضَلَّهُمُ } فعلاً ماضياً. وقرأ أبو معاذ وفرقة وأضَلُهم برفع اللام مبتدأ والسامري خبره وكان أشدهم ضلالاً لأنه ضال فينفسه مضل غيره. وفي القراءة الشهري أسند الضلال إلى السامري لأنه كان السبب في ضلالهم، وأسند الفتنة إليه تعالى لأنههو الذي خلقها في قلوبهم. و{ٱلسَّامِرِىُّ } قيل اسمه موسى بن ظفر. وقيل: منجا وهو ابن خالة موسى أوابن عمه أو عظيم من بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة، أو علج من كرمان، أو من باجرما أو مناليهود أو من القبط آمن بموسى وخرج معه، وكان جاره أو من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بنياسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر أقوال وتقوم في الأعراف كيفية اتخاذ العجل وقبل ذلك في البقرة فأغنى عن إعادتهاهنا. {فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ } وذلك بعدما استوفى الأربعين وانتصب {غَضْبَـٰنَ أَسِفًا } على الحال، والأسف أشد الغضب.وقيل: الحزن وغضبه من حيث له قدرة على تغيير منكرهم، وأسفه وهو حزنه من حيث علم أنه موضع عقوبة لايد له بمدفعها ولا بد منها. قال ابن عطية: والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على مندونه فهو غضب، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن، وتأمل ذلك فهو مطرد، ثم أخذ موسى عليه السلاميوبخهم على إضلالهم والوعد الحسن ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرضوالمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله أهل طاعته. وقال الزمخشري: وعدهم الله بعدما استوفى الأربعين أن يعطيهمالتوراة التي فيها هدى ونور، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل. وقال الحسن: الوعد الحسن الجنة. وقيل: أن يسمعهم كلامهوالعهد الزمان، يريد مفارقته لهم يقال طال عهدي بكذا أي طال زماني بسبب مفارقتك، وعدوه أن يقيموا على أمره وماتركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعد بعبادتهم العجل انتهى. وانتصب {وَعْداً } على المصدر والمفعول الثاني ليعدكم محذوف أوأطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني وفي قوله {أَفَطَالَ } إلى آخره توقيف على أعذار لم تكنولا تصح لهم وهو طول العهد حتى يتبين لهم خلف في الموعد وإرادة حلول غضب الله، وذلك كله لم يكنولكنهم عملوا عمل من لم يتدبر. وسُمِّي العذاب غضباً من حيث هو ناشىء عن الغضب فإن جعل بمعنى الإرادة فصفةذات أو عن ظهور النقمة والعذاب فصفة فعل. {مَّوْعِدِى } مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي أوجدتموني أخلفت ماوعدتكم من قول العرب. فلان أخلف وعد فلان إذا وجد وقع فيه الخلف قاله المفضل، وأن يضاف إلى المفعول وكانواوعدوه أن يتمسكوا بدين الله وسنة موسى عليه السلام ولا يخالفوا أمر الله أبداً فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل. وقرأالأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنت بِمُلْكِنا بضم الميم. وقرأ زيد بن عليّ ونافع وعاصم وأبو جعفر وشيبةوابن سعدان بفتحها وباقي السبعة بكسرها. وقرأ عمر رضي الله عنه بِمَلَكِنا بفتح الميم واللام وحقيقته بسلطاننا، فالملك والملك بمنزلةالنقض والنقض. والظاهر أنها لغات والمعنى واحد وفرق أبو عليّ وغيره بين معانيها فمعنى الضم أنه لم يكن لنا ملكفنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدّى إليه ما فعل السامري، فليس المعنى أن لهم ملكاً وإنما هذا كقول ذيالرّمة:

لا يشتكي سقط منها وقد رقصت     بها المفاوز حتى ظهرها حدب

أي لا يكون منهاسقطة فتشتكي، وفتح الميم مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وقفنا له، بل غلبتنا أنفسنناوكسر الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدر فيهذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي {*يملكنا} الصواب. وقال الزمخشري؛ أي {قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ } بأن ملكناأمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده. وقرأ الأخوانوأبو عمرو وابن محيصن بفتح الحاء والميم وأبو رجاء بضم الحاء وكسر الميم. وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميدويعقوب غير روح كذلك إلا أنهم شدّدوا الميم، والأوزار الأثقال أطلق على ما كانوا استعاروا من لقيط برسم التزين أوزاراًلثقلها، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك فسميت أوزاراً لما حصلت الأوزار التي هي الآثام بسببها. والقوم هنا القبط. وقيل:أمرهم بالاستعارة موسى. وقيل: أمر الله موسى بذلك. وقيل: هو ما ألقاه البحر مما كان على الذين غرقوا. وقيل: الأوزارالتي هي الآثام من جهة أنهم لم يردوها إلى أصحابها، ومعنى أنهم حملوا الآثام وقذفوها على ظهورهم كما جاؤهم يحملونأوزارهم على ظهورهم. وقيل معنى {*فقذفناهم} أي الحليّ على أنفسنا وأولادنا. وقيل {ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا } في النار أي ذلك الحلي،وكان أشار عليهم بذلك السامري فحفرت حفرة وسجرت فيها النار وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك فيالنار. وقذف السامري ما معه. ومعنى {فَكَذَلِكَ } أي مثل قذفنا إياها {أَلْقَى ٱلسَّامِرِىُّ } ما كان معه. وظاهر هذهالألفاظ أن العجل لم يصنعه السامري. وقال الزمخشري: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِىُّ } أراهم أنه يلقي حلياً في يده مثلما ألقوا وإنما ألقى التربة التي أخدها من موطىء حيزوم فرس جبريل عليه السلام، أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذاخالطت مواتاً صار حيواناً فأخرج لهم السامري من الحفرة عجلاً خلقه الله من الحلي التي سبكتها النار تخور كخور العجاجيل.والمراد بقوله {إِنَّا قَدْ * فَتَنَّا قَوْمَكَ } هو خلق العجل للامتحان أي امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلالوأوقعهم فيه حين قال لهم {هَـٰذَا إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ } انتهى. وقيل: معنى {جَسَداً } شخصاً. وقيل: لا يتغذى،وتقدم الكلام على قوله {لَّهُ خُوَارٌ } في الأعراف. والضمير في {فَقَالُواْ } لبني إسرائيل أي ضلوا حين قال كبارهملصغارهم و{هَـٰذَا } إشارة إلى العجل. وقيل: الضمير في {فَقَالُواْ } عائد على السامري أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً لجرمه.وقيل: عليه وعلى تابعيه. وقرأ الأعمش فنَسِيْ بسكون الياء، والظاهر أن الضمير في {فَنَسِىَ } عائد على السامري أي {فَنَسِىَ} إسلامه وإيمانه قاله ابن عباس، أو فترك ما كان عليه من الدين قاله مكحول، وهو كقول ابن عباس أو{فَنَسِىَ } أن العجل {لاَ يَرْجِعُونَ * إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ * ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } و{فَنَسِىَ } الاستدلال علىحدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء وعلى هذه الأقوال يكون {فَنَسِىَ } إخباراً منالله عن السامري. وقيل: الضمير عائد على موسى عليه السلام أي {فَنَسِىَ } موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكمأو {فَنَسِىَ } الطريق إلى ربه، وكلا هذين القولين عن ابن عباس. أو {فَنَسِىَ } موسى إلهه عندكم وخالفه فيطريق آخر قاله قتادة، وعلى هذه الأقوال يكون من كلام السامري. ثم بيَّن تعالى فساد اعتقادهم بأن الألوهية لاتصلح لمن سلبت عنه هذه الصفات فقال: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا * لاَ يَرْجِعُونَ * إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاًوَلاَ نَفْعاً } وهذا كقول إبراهيم ليه

{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ }

والرؤية هنا بمعنى العلم، ولذلكجاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء

{ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ }

بأن الثقيلة وبرفع يرجع قرأ الجمهور.وقرأ أبو حيوة {أَن لا * يُرْجَعُ } بنصب العين قاله ابن خالويه وفي الكامل ووافقه على ذلك وعلى نصب{وَلاَ يَمْلِكُ } الزعفراني وابن صبيح وأبان والشافعي محمد بن إدريس الإمام المطلبي جعلوها أن الناصبة للمضارع وتكون الرؤية من الإبصار.

{ قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ } * { قَالَ يٰهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ } * { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } * { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } * { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ } * { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } * { قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً } * { إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } * { كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } * { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وِزْراً } * { خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حِمْلاً } * { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } * { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } * { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } * { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } * { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } * { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } * { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } * { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } * { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } * { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } * { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } * { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } * { فَتَعَالَىٰ ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } * { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } * { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ } * { فَقُلْنَا يٰآدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } * { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ } * { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } * { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } * { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } * { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } * { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } * { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } * { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } * { قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } * { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } * { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } * { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } * { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } * { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } * { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ } * { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } * { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } * { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ }

عدل

اللحية معروفة وتجمع على لِحَى بكسر اللام وضمها. نسف ينسف بكسر سين المضارعوضمها نسفاً فرّق وذرى. وقال ابن الأعرابيي: قلع من الأصل. الزرقة: لون معروف، يقال: زرقت عينه وازرَّقت وازراقت، القاع قالابن الأعرابي: الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وقال الجوهري: المستوي من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب:

ليكونن بالبطاح قريش     فقعة القاع في أكف الإماء

والجمع أقوع وأقواع وقيعان. وحكى مكي أن القاع فياللغة المكان المنكشف. وقال بعض أهل اللغة: القاع مستنقع الماء. الصفصف: المستوى الأملس. وقيل: الذي لا نبات فيه، وهو مضاعفكالسبسب. الأمت: التل. والعوج: التعوج في الفجاج قاله ابن الأعرابي. الهمس: الصوت الخفي قاله أبو عبيدة. وقيل: وطء الأقدام. قالالشاعر:

وهـن يمشيـن بنـا هميساً    

ويقال للأسد الهموس لخفاء وطئه، ويقال همس الطعام مضغه. عنا يعنو: ذل وخضع، وأعناه غيرهأذلة. وقال أمية بن أبي الصلت:

مليك على عرش السماء مهيمن     لعزته تعنو الوجوه وتسجد

الهضم: النقص تقول العرب: هضمت لك حقي أي حططت منه، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وفي الصحاح: رجل هضيمومتهضم مظلوم وتهضمه واهتضمه ظلمه. وقال المتوكل الليثي:

إن الأذلة واللئام لمعشر     مولاهم المنهضم المظلوم

عرى يُعَرَّى لم يكن على جلده شيء يقيه. قال الشاعر:

وإن يعرين إن كسى الجواري     فتنبو العين عن كرم عجاف

ضحى يضحي: برز للشمس. قال عمرو بن أبي ربيعة:

رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت     فيضحي وأما بالعشي فيحضر

الضنك: الضيق والشدّة: ضنك عيشة يضنك ضناكة وضنكاً، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدهابه. زهرة: بفتح الهاء وسكونها نحو نهر ونهر ما يروق من النور، وسراج زاهر له بريق، والأنجم الزهر المضيئة، وأزهرالشجر بدا زهره وهو النور. {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَـٰرُونُ مِن قَبْلُ يٰقَوْمِ * قَوْمٌ *إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى * قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ * قَالَ يَـاءادَمُ * هَـٰرُونَ مَا* مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ * أَن لا * رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَتَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَـٰمِرِيُّ* قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى * قَالَ فَٱذْهَبْفَإِنَّ لَكَ فِى ٱلْحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِى }. أشفقهارون على نفسه وعليهم وبذل لهم النصيحة، وبيَّن أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كانمأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أخيه موسى عليه السلام

{ ٱخْلُفْنِى فِى قَوْمِى }

الآية ولايمكنه أن يخالف أمر الله وأمر أخيه. وروي أن الله أوحى إلى يوشع إني مهلك من قومك أربعين ألفاً فقال:يا رب فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم تغضبوا لغضبي، والمضاف إليه المقطوع عنه من قبل قدره الزمخشري من قبلأن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه قبلأن ينطق السامري بادر هارون عليه السلام بقوله {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ }. وقال ابن عطية: أخبرعز وجل أن هارون قد كان قال لهم في أول حال العجل إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري، وإنماربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع {فَٱتَّبِعُونِى } إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه {وَأَطِيعُواْ أَمْرِى }فيما ذكرته لكم انتهى. والضمير في {بِهِ } عائد على العجل، زجرهم أولاً هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله {إِنَّمَافُتِنتُمْ } ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر وصف الرحمة تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكيراً لتخليصهم من فرعونزمان لم يوجد العجل، ثم أمرهم باتباعه تنبيهاً على أنه نبيّ يجب أن يتبع ويطاع أمره. وقرأ الحسن وعيسىوأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر{إِنَّ رَبَّكُمُ * ٱلرَّحْمَـٰنُ } فهو من عطف جملة على جملة، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن. وقرأت فرقة أنماوأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقاً. ولما وعظهم هارونونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و{قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ } على عبادته مقيمين ملازمين له، وغيوا ذلك برجوعموسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن {لَنْ } لا تقتضيالتأييد خلافاً للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكونالشيء محتملاً فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية. وقيل قوله {قَالَ يَـاءادَمُ * هَـٰرُونَ }كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفينعلى عبادة العجل {قَالَ يَـاءادَمُ * هَـٰرُونَ } وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوماً وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمالالأربعين، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا و{لا } زائدة كهي في قوله

{ مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُ }

. وقال عليّ بن عيسى دخلت {لا } هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني، وما حملكعلى أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين {أفعصيت أمري} يريد قوله

{ ٱخْلُفْنِى }

الآية. وقال الزمخشري: ما منعك أنتتبعني في الغضب لله وشدّة الزجر على الكفر والمعاصي، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كماكنت أباشره أنا لو كنت شاهداً، أو مالك لم تلحقني. وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كانقوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله {إِنّىخَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } إذ كان لا يتبعه إلاّ المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كماقالوا {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ } ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد، فيجيء اعتذاره أن الأمرتفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقاً بينهم وإنما لاينت جهدي. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بِلَحْيَتِي بفتحاللام وهي لغة أهل الحجاز. وكان موسى عليه السلام شديد الغضب لله ولدينه، ولما رأى قومه عبدوا عجلاً من دونالله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضاً على شعر رأسه، وكان كثير الشعروعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم، وخشيت عتابكعلى اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها. وتقدّم الكلام على {ٱبْنَ أُمَّ } قراءة وإعراباً وغير ذلك. وقرأ أبو جعفرولم يُرْقِبْ بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب. ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلالوهو السامري وتقدّم الكلام في الخطب في سورة يوسف. وقال ابن عطية {مَا خَطْبُكُمَا } كما تقول ما شأنك وماأمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهاراً لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال: ما تحسك وما شؤمك، وما هذا الخطبالذي جاء من قبلك انتهى. وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال

{ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ }

وهوقول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهاراً ولا شيئاً مما ذكر. وقال الزمخشري: خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه،فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك، فمعناه ما طلبك له انتهى. ومنه خطبة النكاح وهو طلبه. وقيل: هو مشتقمن الخطاب كأنه قال له: ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت {قَالَ بَصُرْتُبِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ }. قال أبو عبيدة: علمت ما لم يعلموا. وقال الزجاج: بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذانظر. وقيل: بصر به وأبصره بمعنى واحد. وقرأ الأعمش وأبو السماك: بَصِرْتُ بكسر الصاد بما لم تَبْصَروا بفتح الصاد. وقرأعمرو بن عبيد بُصُرْتُ بضم الباء وضم الصاد بما لم تُبْصَروا بضم التاء وفتح الصاد مبنياً للمفعول فيهما. وقرأ الجمهور{بَصُرْتُ } بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنت تبصروا بتاءالخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة {يَبْصُرُواْ } بياء الغيبة. وقرأ الجمهور {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } بالضاد المعجمة فيهما أيأخذت بكفي مع الأصابع. وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما، وهو الأخذ بأطراف الأصابع. وقرأ الحسنبخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباقمع تشديد التاء. وقال المفسرون {ٱلرَّسُولَ } هنا جبريل عليه السلام، وتقديره من {أَثَرِ } فرس {ٱلرَّسُولَ } وكذا قرأعبد الله، والأثر التراب الذي تحت حافره {فَنَبَذْتُهَا } أي ألقيتها على الحليّ الذي تصور منه العجل فكان منها مارأيت. وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر، وعن عليّ رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصرهدون الناس. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم سماه {ٱلرَّسُولَ } دون جبريل وروح القدس؟ قلت: حين حل ميعاد الذهابإلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إن لهذا لشأناً فقبضالقبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعلهلم يعرف أنه جبريل انتهى. وهو قول عليّ مع زيادة. وقال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذاالذي ذكره المفسرون، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به،فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامريباللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي عرفتأن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من دينك {فَنَبَذْتُهَا }أي طرحتها. فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كمايقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير، وتسميته رسولاً مع جحده وكفره،فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله

{ يأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }

فإن لم يئمنوا بالإنزالقيل: وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلاّ أن فيه مخالفة المفسرين. قيل: ويبعد ما قالوه أن جبريل ليسمعهوداً باسم رسول، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر، ولأن ما قالوهلا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته منبين الناس يبعد جداً، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحماًودماً؟ وكيف عرف جبريل يتردّد إلى نبيّ وقد عرف نبوّته وصحت عنده فحاول الإضلال؟ ويكف اطلع كافر على تراب هذاشأنه؟ فلقائل أن يقول: لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات، فيصير ذلك قادحاً فيما أتوابه من الخوارق انتهى. ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني. {وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى } أيكما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي رسولاً وإرباً حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيلإلا في حد أو وحي، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأنلا يواكلوا ولا يناكحوا، وجعل له أن يقول مدة حياته {لاَ مِسَاسَ } أي لا مماسة ولا إذابة. وقال الزمخشري:عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً، وحرم عليهم ملاقاتهومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة حمّ الماسّوالممسوس فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصبح {لاَ مِسَاسَ } ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى. وكون الحمىتأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية، وعبر بالمماسة عنالمخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البريةوهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحداً يقول {لاَ مِسَاسَ } أي لا تمسني ولاأمسك. وقيل: ابتلي بعذاب قيل له {لاَ مِسَاسَ } بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله:

فأصبح ذلك كالسامري     إذ قال موسى له لا مساسا

ومنه قول رؤبة:

حتى تقول الأزد لا مساسا    

وقيل: أراد موسى قتلهفمنعه الله من قتله لأنه كان شيخاً. قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذينخلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم. وقرأ الجمهور {لاَمِسَاسَ } بفتح السين والميم المكسورة و{مِسَاسَ } مصدر ماس كقتال من قاتل، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس، وهونفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسرالسين. فقال صاحب اللوامح: هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةمعارف ولا تدخل عليها إلا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكونمنك مساس، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى. وظاهر هذا أن مساس اسم فعل. وقال الزمخشري {لاَمِسَاسَ } بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء:

إن وردن الماء فلا عباب     وإن فقدنه فلا إباب

وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب. وقال ابن عطية {لاَ مِسَاسَ }هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه، والشبه صحح من حيث هي معدولات، وفارقهفي أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر. ومن هذا قول الشاعر:

تميم كرهط السامري وقوله     ألا لا يريد السامري مساس

انتهى. فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدرالذي هو المسة، كفجار معدولاً عن الفجرة {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً } أي في يوم القيامة. وقرأ الجمهور {لَّن تُخْلَفَهُ }بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك الله في الآخرة على الشرك والفساد بعدماعاقبك في الدنيا. وقال الزمخشري: وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً. قال الأعشى:

أثوى وقصر ليله ليزوّدا     فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أيلن تستطيع الروغان عنه. والحيدة فتزول عن موعد العذاب. وقرأ أبو نهيك: لن تَخْلُفُه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاءمنقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه. وفي اللوامح أبو نهيك لن يَخْلُفه بفتح الياء وضم اللاموهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد {لاَ مِسَاسَ} بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة. وقال سهل: يعنيأبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهباً انتهى. وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أيلا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئاً. وقال ابن جني لن يصادفه مخالفاً. وقال الزمخشري: لن يخلفه الله. حكىقوله عز وكل كما مر في

{ لاِهَبَ لَكِ }

انتهى. ثم وبخ موسى عليه السلام السامري بما أراد أنيفعل بالعجل الذي اتخذه إلهاً من الاستطالة عليه بتغيير هيئته، فواجهه بقوله {وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ } وخاطبه وحده إذ كانهو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ } وأقسم {لَّنُحَرّقَنَّهُ } وهو أعظم فساد الصورة {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُفِى ٱلْيَمّ } حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريلوهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه السامري من الحليّالذي كان أصله للقبط. وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيهاً على أن ما كان به قيام الحياة آلإلى العدم. وألقى في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها الله في البحر بحيث لا ينتفع بهاكما قذف الله أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه. وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر {ظَلْتَ } بظاءمفتوحة ولام ساكنة. وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلكإلا أنهم كسروا الظاء، وعن ابن يعمر ضمها وعن أُبَيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل، فأما حذف اللام فقد ذكرهسيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست، وذكر ابن الأنباري همتوأصله هممت ولا يكون ذلك إلاّ إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أظله ظللت. وذكر بعض من عاصرناه أنذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل. وقد أمعنّا الكلام على هذهالمسألة في شرح التسهيل من تأليفنا، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديراًثم حذف اللام، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما، ونقلت ضمةاللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر. وقرأ الجمهور {لَّنُحَرّقَنَّهُ } مشدداً مضارع حرَّق مشدداً.وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففاً من أحرق رباعياً. وقرأ عليّ وابن عباس وحميد وأبو جعفر فيرواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار. وأما القراءة الثالثة فمعناهالنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها. وذكر أبو عليّ أن التشديد قد يكون مبالغة في حرقإذا برد بالمبرد. وفي مصحف أُبَيّ وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صارلحماً ودماً ذا روح، ويترتب الإحراق بالنار على هذا، وأما إذا كان جماداً مصوغاً من الحليّ فيترتب برده لا إحراقهإلا إن عنى به إذابته. وقال السّدي: أمر موسى بذبح العجل فذبح وسالمنه الدم ثم أحرق ونسف رماده. وقيل:بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها. وقرأ الجمهور {لَنَنسِفَنَّهُ } بكسر السين. وقرت فرقة منهم عيسى بضم السين.وقرأ ابن مقسم: لِنُنَسِّفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين. والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمرالعجل، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيلوأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة، فكان لموسى عليه السلام نهضتان. وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعينفي المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل، وأن الله أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيلحول العجل، فحينئذ علمهم موسى انتهى. ولما فرغ من إبطال ما عمله السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال {إِنَّمَاإِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ } وقرأ الجمهور {وٰسِعُ } فانتصب علماً على التمييز المنقول من الفاعل، وتقدم نظيره في الأنعام. وقرأ مجاهدوقتادة وسَّع بفتح السين مشددة. قال الزمخشري: وجهه أن {وٰسِعُ } متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء. وأما {عِلْمًا} فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية، لأنالمميز فاعل في المعنى كما تقول: خاف زيد عمراً خوّفت زيداً عمراً، فترد بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً. وقال ابنعطية {وٰسِعُ } بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات انتهى. {كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَوَقَدْ اتَيْنَـٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً * مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وِزْراً * خَـٰلِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَٱلْقِيَـٰمَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَـٰفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَّحْنُأَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً * وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً *فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ٱلاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِفَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَابَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَنيَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً * وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَـٰهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْيَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَـٰلَىٰ ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلرَّبّ زِدْنِى عِلْماً }. ذلك إشارة إلى نبأ موسى وبني إسرائيل وفرعون أي كقصنا هذا النبأ الغريب نقص عليكمن أنباء الأمم السابقة، وهذا فيه ذكر نعمة عظيمة وهي الإعلام بأخبار الأمم السالفة ليتسلى بذلك ويعلم أن ما صدرمن الأمم لرسلهم وما قاست الرسل منهم، والظاهر أن الذكر هنا القرآن امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصصوالأخبار الدال ذلك على معجزات أوتيها. وقال مقاتل: {ذِكْراً } بياناً. وقال أبو سهل: شرفاً وذكراً في الناس. {مَّنْأَعْرَضَ عَنْهُ } أي عن القرآن بكونه لم يؤمن به ولم يتبع ما فيه. وقرأ الجمهور {يَحْمِلُ } مضارع حملمخففاً مبنياً للفاعل. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع: يُحَمِّل مشدد الميم مبنياً للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحملهطوعاً و{وِزْراً } مفعول ثان و{وِزْراً } ثقلاً باهظاً يؤده حمله وهو ثقل العذاب. وقال مجاهد: إثماً. وقال الثوري شركاًوالظاهر أنه عبَّر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال {خَـٰلِدِينَ فِيهِ } أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين، والضميرفي {لَهُمْ } حملاً على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل، والمخصوص بالذم محذوف أيوزرهم و{لَهُمْ } للبيان كهي في

{ هَيْتَ لَكَ }

لا متعلقة بساء {وَسَاء } هنا هي التي جرت مجرى بئسلا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى. ويوم ننفخ بدل من يوم القيامة. وقرأ الجمهور {يُنفَخُ } مبنياًللمفعول {وَنَحْشُرُ } بالنن مبنياً للفاعل بنون العظمة. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد: ننفخ بنون العظمة لنحشر أسند النفخإلى الآمر به، والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة و{ٱلصُّورِ } تقدم الكلام فيه في الأنعام.وقرىء يَنْفُخُ ويَحْخشرُ بالياء فيهما مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة {فِى ٱلصُّورِ } على وزن درر والحسن:يُحْشَرُ، بالياء مبنياً للمفعول، ويَحْشُرُ مبنياً للفاعل، وبالياء أي ويحشر الله. والظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون، والزرقة أبغض ألوانالعيون إلى العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين.وقال الشاعر:

وما كنت أخشى أن تكون وفاته     بكفي سبنتي أزرق العين مطرق

وقد ذكر في آيةأخرى أنهم يحشرون سود الوجوه، فالمعنى تشويه الصورة من سواد الوجه وزرقة العين وأيضاً فالعرب تتشاءم بالزرقة. قال الشاعر:

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبرألا كل عليسى من اللؤم أزرق    

وقيل: المعنى عمياً لأن العين إذا ذهب نورها أزرقناظرها، وبهذا التأويل يقع الجمع بين قوله {زُرْقاً } في هذه الآية و

{ عُمْيًا }

في الآية الأخرى. وقيل: زرق ألوانأبدانهم، وذلك غاية في التشويه إذ يجيئن كلون الرماد وفي كلام العرب يسمى هذا اللون أزرق، ولا تزرق الجلود إلامن مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها. وقيل: {زُرْقاً } عطاشاً والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض، ومنه قولهم سنان أزرقوقوله:

فلمـا وردن المـاء زرقـاً جمامـه    

أي ابيض، وذكرت الآيتان لابن عباس فقال ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها زرقاً وحالة يكونونعمياً. {يَتَخَـٰفَتُونَ } يتسارّون لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوا فيها {إِن لَّبِثْتُمْ} أي في دار الدنيا أو في البرزح أو بين النفختين في الصور ثلاثة أقوال: ووصف ما لبثوا فيه بالقصرلأنها لما يعاينون من الشدائد كانت لهم في الدنيا أيام سرور، وأيام السرور قصار أو لذهابها عنهم وتقضيها، والذاهب وإنطالت مدته قصير بالانتهاء، أو لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلىلبثهم في الآخرة و{إِذْ } معمولة لأعلم. و{أَمْثَـٰلَهُمْ } أعدلهم. و{طَرِيقَةً } منصوبة على التمييز. {إِلاَّ يَوْماً } إشارة لقصرمدة لبثهم. و{إِلاَّ عَشْراً } يحتمل عشر ليال أو عشرة أيام، لأن المذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يأتيبالتاء. حكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمساً، ومنه ما جاء في الحديث ثم أتبعه بست من شوال،يريد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة رأس آية ذكر أولاً منتهى أقل العدد وهو العشر، وذكر أعدلهمطريقة أقل العدد، وهو اليوم الواحد ودل ظاهر قوله {إِلاَّ يَوْماً } على أن المراد بقولهم {عَشْراً } عشرة أيام.وضمير الغائب في {وَيَسْـئَلُونَكَ } عائد على قريش منكري البعث أو على المؤمنين سألوا عن ذلك، أو على رجلمن ثقيف وجماعة من قومه أقوال ثلاثة. والكاف خطاب للرّسول ، والظاهر وجود السؤال ويبعد قول منقال إنه لم يكن سؤال بل المعنى أن يسألوك {عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ } فضمن معنى الشرط، فلذلك أجيب بالفاء ورويأن الله يرسل على الجبال ريحاً فيدككها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هوالنسف، والظاهر عود الضمير في {فَيَذَرُهَا } على الجبال أي بعد النسف تبقى {قَاعاً } أي مستوياً من الأرض معتدلاً.وقيل فيذر مقارها ومراكزها. وقيل: يعود على الأرض وإن لم يجر لها ذكر لدلالة الجبال عليها. وقال ابن عباس{عِوَجَا } ميلاً {وَلاَ * مِنَ } أثراً مثل الشراك. وعنه أيضاً {عِوَجَا } وادياً {وَلا أَمْتاً } رابية. وعنهأيضاً الأمت الارتفاع. وقال قتادة {عِوَجَا } صدعاً {وَلا أَمْتاً } أكمة. وقيل: الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: غلظ مكانفي الفضاء والجبل ويرق في مكان حكاه الصولي. وقيل: كان الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء، والعوج فيالأرض مختص بالأرض. وقال الزمخشري: فإن قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا: العِوَج بالكسر في المعاني، والعَوَج بالفتحفي الأعيان والأرض، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواءوالملاسة ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية علىعينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أن لم يبق فيها اعوجاج قط ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أنيعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك بذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسيفنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإرداك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلكالاعوجاج لما لم يدرك إلاّ بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسرة. الأمت النتوّ اليسير، يقال: مدّ حبلهحتى ما فيه أمت انتهى. {يَوْمَئِذٍ } أي يوم إذ ينسف الله البجال {يَتَّبِعُونَ } أي الخلائق {ٱلدَّاعِىَ }داعي الله إلى المحشر نحو قوله

{ مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ }

وهو إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو الناس فيقبلونمن كل جهة يضع الصور في فيه، ويقول: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرّقة هلم إلى العرض على الرحمن.وقال محمد بن كعب: يجمعون في ظلمة قد طويت السماء وانتثرت النجوم فينادي مناد فيموتون موته. وقال عليّ بن عيسى{ٱلدَّاعِىَ } هنا الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله فيعوجون على الصراط يميناً وشمالاً ويميلون عنهميلاً عظيماً، فيومئذ لا ينفعهم اتباعه، والظاهر أن الضمير في {لَهُ } عائد على {ٱلدَّاعِىَ } نفى عنه العوج أي{لاَ عِوَجَ } لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف. وقال الزمخشري: أي لا يعوج لهمدعوّ بل يستوون إليه انتهى. وقيل {لاَ عِوَجَ لَهُ } في موضع وصف لمنعوت محذوف أي اتباعاً {لاَ عِوَجَ لَهُ} فيكون الضمير في {لَهُ } عائداً على ذلك المصدر المحذوف. وقال ابن عطية يحتمل أن يريد به الإخبار أيلا شك فيه، ولا يخالف وجوده خبره ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه، والمشي نحو صوته والخشوع التطامنوالتواضع وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء. والاستسرار للرحمن أي لهيبة الرحمن وهو مطلع قدرته. وقيل هو على حذف مضافأي وخشع أهل الأصوات والهمس الصوت الخفي الخافت، ويحتمل أن يريد بالهمس المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر، ويحتمل أن يريدصوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة. وقال الزمخشري: {إِلاَّ هَمْساً } وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة. وقيل: هومن همس الإبل وهو صوت إخفافها إذا مشت، أي لا يسمع إلا خَفْقُ الأقدام ونقلها إلى المحشر انتهى. وعن ابنعباس وعكرمة وابن جبير: الهمس الإقدام، واختاره الفراء والزجاج وعن ابن عباس أيضاً وتحريك الشفاه بغير نطق، وعن مجاهد الكلامالخفي ويؤيد قراءة أُبَيّ فلا ينطقون {إِلاَّ هَمْساً } وعن أبي عبيدة الصوت الخفي يومئذ بدل من {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ }أو يكون التقدير يوم إذ {يَتَّبِعُونَ } ويكون منصوباً بلا تنفع و{مِنْ } مفعول بقوله {لاَّ تَنفَعُ } و{لَهُ }معناه لأجله وكذا في ورضي له أي لأجله، ويكون من للمشفوع له أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أيإلاّ شفاعة من أذن له أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير، أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز، ورفععلى لغة تميم، ويكون {مِنْ } في هذه الأوجه للشافع والقول المرضي عن ابن عباس لا إله إلا الله.والظاهر أن الضمير في {أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي. وقيل: يعود على الملائكة. وقيل:على الناس لا بقيد الحشر والاتباع، وتقدم تفسير هذه الجملة في آية الكرسي في البقرة، والضمير في {بِهِ } عائدعلى {مَا } أي {وَلاَ يُحِيطُونَ } بمعلوماته {عِلْمًا } والظاهر عموم {ٱلْوجُوهَ } أي وجوه الخلائق، وخص {ٱلْوجُوهَ }لأن آثار الذل إنما تظهر في أول {ٱلْوجُوهَ }. وقال طلق بن حبيب: المراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة،فإن كان روى أن هذا يكون يوم القيامة فتكون الآية إخباراً عنه، واستقام المعنى وإن كان أراد في الدنيا فليسذلك بملائم للآيات التي قبلها وبعدها. وقال الزمخشري: المراد بالوجود وجوه العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوءالحساب صارت وجوههم عانية أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العناة وهم الأسارى ونحوه

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }

{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ }

و{ٱلْقَيُّومُ } تقدم الكلام عليه في البقرة. {وَقَدْ خَابَ } أي لم ينجح ولاظفر بمطلوبه، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم، فخيبة المشرك دائماً وخيبة المؤمن العاصيمقيدة بوقت في العقوبة إن عوقب. ولما خص الزمخشري الوجوه بوجوه العصاة قال في قوله {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أنه اعتراض كقولك: خابوا وخسروا حتى تكون الجملة دخلت بين العصاة وبين من يعمل من الصالحات، فهذا عنده قسيم{وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ }. وأما ابن عطية فجعل قوله {وَمَن يَعْمَلْ * إِلَىٰ * هَضْماً } معادلاً لقوله {وَقَدْ خَابَ مَنْحَمَلَ ظُلْماً } لأنه جعل {وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ } عامة في وجوه الخلائق. و{مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ } بيسير في الشرع لأن {مِنْ} للتبعيض والظلم مجاوزة الحد في عظم سيئاته، والهضم نقص من حسناته قاله ابن عباس. وقال قتادة: الظلم أن يزادمن ذنب غيره. وقال ابن زيد: الظلم أن لا يجزى بعمله. وقيل: الظلم أن يأخذ من صاحبه فوق حقه، والهضمأن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له كصفة المطفقين يسترجحون لأنفسهم إذا اكتالوا ويخسرون هذا كالوا انتهى. والظلم والهضممتقاربان. قال الماوردي: والفرق أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه. وقرأ الجمهور {فَلاَ يَخَافُ } على الخبرأي فهو لا يخاف. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد فلا يَخَفْ علي النهي {وَكَذٰلِكَ } عطف على كذلك نقصأي ومثل ذلك الإنزال أو كما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة الوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة مكررين فيهآيات الوعيد ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة، والذكر يطلق على الطاعة والعبادة. وقيل: كما قدرناهذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرها و{أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا } وتوعدنا فيه بأنواع {مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ} بحسب توقع الشر وترجيهم {يَتَّقُونَ } الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم، وما حذرهم من أليم عقابه هذاتأويل فرقة في قوله {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } وقالت فرقة: معناه أو يكسبهم شرفاً ويبقي عليهم إيمانهم ذكراً فيالغابرين. وقيل: المعنى كما رغبنا أهل الإيمان بالوعد حذرنا أهل الشرك بالوعيد {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ } كالطوفان والصيحة والرجفةوالمسخ، ولم يذكر الوعد لأن الآية سيقت مساق التهديد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي ليكونوا على رجاء من أن يوقع فيقلوبهم الاتقاء أو يتقون أن ينزل بهم ما نزل بمن تقدّمهم أي {يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي عظة وفكراً واعتباراً.وقال قتادة ورعاً. وقيل: أنزل القرآن ليصيروا محترزين عمالاً ينبغي {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } يدعوهم إلى الطاعات، وأسند ترجيالتقوى إليهم وترجي إحداث الذكر للقرآن لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يسندالقرآن وأسند إحداث الذكر إلى القرآن لأنه أمر حدث بعد أن لم يكن والظاهر أن أو هنا لأحد الشيئين. قيل:{أَوْ } كهي في جالس أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما. وقرأ الحسن {أَوْ يُحْدِثُ } ساكنة الثاء.وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام، أو نحدث بالنون وجزم الثاء، وذلك حمل وصل علىوقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالاً لحركته نحو قول جرير:

أو نهر تيري فلا تعرفكم العرب    

ولما كان فيما سبقتعظيم القرآن في قوله

{ وَقَدْ اتَيْنَـٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً }

{وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَـٰهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } ذكر عظمة منزله تعالى ثمذكر هاتين الصفتين وهي صفة {ٱلْمَلِكُ } التي تضمنت القهر، والسلطنة والحق وهي الصفة الثابتة له إذ كل من يدعيإلهاً دونه باطل لا سيما الإله الذي صاغوه من الحلي ومضمحل ملكه ومستعار، وتقدّم أيضاً صفة سلطانه يوم القيامة وعظمقدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم، فناسب تعاليه ووصفه بالصفتين المذكورتين، ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد طالباًمنه التأني في تحفظ القرآن {وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي تأن حتى يفرغ الملقىإليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته وإلقاء، كقوله تعالى

{ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }

وقيل: معناه لاتبلغ ما كان منه مجملاً حتى يأتيك البيان. وقيل: سبب الآية أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليهوسلم أن زوجها لطمها، فقال لها بينكما القصاص ثم نزلت

{ ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء }

ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبتفي الحكم بالقرآن. وقيل: كان إذا نزل عليه الوحي أمر بكتبه للحين، فأمر أن يتأتى حتى يفسر له المعاني ويتقررعنده. وقال الماوردي: معناه ولا تسأل قبل أن يأتيك الوحي إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عنكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه، وفشت المقالة بين اليهود قد غلب محمد فنزلت {وَلاَ تَعْجَلْبِٱلْقُرْءانِ } أي بنزوله. وقال أبو مسلم {وَلاَ تَعْجَلْ } بقراءته في نفسك أو في تأديته إلى غيرك أو فياعتقاد ظاهره أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره احتمالات. {مِن قَبْلُ إِنَّ * يَقْضِى * إِلَيْكَ وَحْيُهُ }أي تمامه أو بيانه احتمالات، فالمراد إذاً أن لا ينصب نفسه ولا غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانهأو هما جميعاً، لأنه يجب التوقف في المعنى لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما منالمخصصات، وهذه العجلة لعله فعلها باجتهاد عليه السلام انتهى. وفيه بعض تلخيص. وقرأ الجمهور: {يُقْضَىٰ إِلَيْكَ } مبنياً للمفعول{وَحْيُهُ } مرفوع به. وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة ويعقوب وسلام والزعفراني وابن مقسم نقضي بنون العظمة مفتوحالياء وحيه بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من يقضي. قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لايرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفاً انتهى. {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } قال مقاتل أيقرآناً. وقيل: فهماً. وقيل: حفظاً وهذا القول متضمن للتواضع لله والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتنيمآرب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً. وقيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة فيشيء إلاّ في طلب العلم. {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ * مِن رَّبِّهِ *قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْقُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ * فَقُلْنَا يٰـئَادَمُ * أَن لاَّ * هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَيُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ * أَن لا * تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَاوَلاَ * وَلاَ تَضْحَىٰ * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَـٰنُ قَالَ يـئَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ * فَأَكَلاَمِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِوَهَدَىٰ * قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ* وَمَنْ }. تقدّمن قصة آدم في البقرة والأعراف والحجر والكهف، ثم ذكر ههنا لما تقدّم

{ كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ }

كان من هذا الإنباء قصة آدم ليتحفظ بنوه من وسوسة الشيطان ويتنبهوا على غوائله،ومن أطاع الشيطان منهم ذكر بما جرى لأبيه آدم معه وأنه أوضحت له عداوته، ومع ذلك نسي ما عهد إليهربه وأيضاً لما أمر بأن يقول

{ رَّبّ زِدْنِى عِلْماً }

كان من ذلك ذكر قصة آدم وذكر شيء من أحوالهفيها لم يتقدّم ذكرها، فكان في ذلك مزيد علم له عليه السلام، والعهد عند الجمهور الوصية. والظاهر أن المضاف إليهالمحذوف بعد قوله {مِن قَبْلُ } تقديره {مِن قَبْلُ } هؤلاء الذين صرف لهم من الوعيد في القرآن لعلهم يتقون،وهم الناقضو عهد الله والتاركو الإيمان. وقال الحسن: {مِن قَبْلُ } الرسول والقرآن. وقيل: {مِن قَبْلُ } أن يأكل منالشجرة. وقال الطبري: المعنى أن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس، فقدما فعل ذلكأبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف وذلك أن كون آدم مثالاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وآدم عليه السلامإنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضته عليه السلام، وإنما الظاهر في هذه الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلقله بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه إنما هو لما عهد إلى محمد أن لا يعجلبالقرآن مثل له بنبيّ قبله عهد إليه {فَنَسِىَ } فعرف ليكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلىالله عليه وسلم. وقال الزمخشري: يقال في أموامر الملوك ووصاياهم: تقدم الملك إلى فلان وأوغر عليه وعزم عليه وعهدإليه، عطف الله سبحانه وتعالى قصة آدم على قوله

{ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

والمعنى وأقسم قسماً لقدأمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها وذلك {مِن قَبْلُ } وجودهم{مِن قَبْلُ } أن نتوعدهم فخالف إلى ما نُهي عنه وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لايلتفتون كأنه يقول: إن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه انتهى. والظاهر أن النسيان هنا الترك إنترك ما وصي به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكروأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان انتهى.وقاله غيره. وقال ابن عطية: ونسيان الذهول لا يمكن هنا لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب انتهى. وقرأ اليماني والأعمش فَنُسِّيَبضم النون وتشديد السين أي نسّاه الشيطان، والعزم التصميم والمضي. قال الزمخشري: أي على ترك الأكل وأن يتصلب فيذلك تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل له، والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه {لَهُ عَزْماً } وأن يكون نقيضالعدم كأنه قال وعد منا {لَهُ عَزْماً } انتهى. وقيل {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } على المعصية وهذا يتخرج علىقول من قال إنه فعل نسياناً. وقيل: حفظاً لما أمر به. وقيل: صبراً عن أكل الشجرة. وقيل {عَزْماً } فيالاحتياط في كيفية الاجتهاد. وتقدم الكلام على نظير قوله {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ }و {أَبَىٰ } جملة مستأنفة مبينة أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع، والظاهر حذف متعلق {أَبَىٰ} وأنه يقدر هنا ما صرح به في الآية الأخرى

{ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِينَ }

وقال الزمخشري {أَبَىٰ }جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال: لمَ لمْ يسجد؟ والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله{ٱسْجُدُواْ } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط انتهى. و {هَـٰذَا } إشارة إلى إبليس و {عَدُوٌّ }يطلق على الواحد والمثنى والمجموع، عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجته ليحذراه فلن يغنيَ الحذر عن القدر، وسبب العداوةفيما قيل إنّ إبليس كان حسوداً فلما رأى آثار نعم الله على آدم حسده وعاداه. وقيل: العداوة حصلت من تنافيأصليهما إذ إبليس من النار وآدم من الماء والتراب {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } النهي له والمراد غيره أي لا يقع منكماطاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة، وأسند الإخراج إليه وإن كان المخرج هو الله تعالى لماكان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج {فَتَشْقَىٰ } يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهيوأن يكون مرفوعاً على تقدير فأنت تشقى. وأسند الشقاء إليه وحده بعد اشتراكه مع زوجه في الإخراج من حيث كانهو المخاطب أولاً والمقصود بالكلام ولأن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، وفي سعادته سعادتها فاختصر الكلام بإسناده إليه دونهامع المحافظة على الفاصلة. وقيل: أراد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك راجع إلى الرجل. وعن ابن جبير: أهبطله ثور أحمر يحرث عليه فيأكل بكد يمينه وعرق جبينه. وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا }بكسر همزة وإنك. وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك، والفتح عطف على المصدر المنسبك من ن لا تجوع،أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك، وجاز عطف {إِنَّكَ } على أن لاشتراكهما في المصدر، ولو باشرتها إن المكسورةلم يجز ذلك وإن كا على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن، وهو أن لا تجوع لكنه يجوزفي العطف ما لا يجوز في المباشرة، ولما كان الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي هي ضرورية للإنسان اقتصرعليها لكونها كافية له. وفي الجنة ضروب من أنواع النعيم والراحة ما هذه بالنسبة إليها كالعدم فمنها الأمن من الموتالذي هو مكدر لكل لذة، والنظر إلى وجه الله سبحانه ورضاه تعالى عن أهلها، وأن لا سقم ولا حزن ولاألم ولا كبر ولا هرم ولا غل ولا غضب ولا حدث ولا مقاذير ولا تكليف ولا حزن ولا خوف ولاملل، وذكرت هذه الأربعة بلفظ النفي لأثبات أضدادها وهو الشبع والري والكسوة والسكن، وكانت نقائضها بلفظ النفي وهو الجوع والعُريوالظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها. قال ابنعطية: وكان عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ والعُري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العُري نفسه البرد فيؤذي والحريفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن يقرن النسب. ومنه قول امرىء القيس:

كأني لم أركب جواداً للذة     ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبأ الرق الروي ولم أقل

وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرىء القيس كافطاني للنسب، وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطنالكاعب انتهى. وقيل: هذا الجواب على قدر السؤال لما أمر الله آدم بسكنى الجنة قال: إلۤهي ألي فيها ماآكل؟ ألي فيها ما ألبس؟ ألي فيها ما أشرب؟ ألي فيها ما أستظل به؟ وقيل: هي مقابلة معنوية، فالجوع خلوالباطن، والتعري خلو الظاهر، والظمأ إحراق الباطن، والضحو إحراق الظاهر فقابل الخلو بالخول والإحراق بالإحراق. وقيل: جمع امرؤ القيس فيبيتيه بين ركوب الخيل للذة والنزهة، وبين تبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما، وجمع بين سباء الرق وبين قوله لخيله كريلما فيهما من الشجاعة ولما عيب على أبي الطيب قوله:

وقفت وما في الموت شك لواقف     كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال هَزْمَى كليمة

فقال: إن كنت أخطأت فقد أخطأامرؤ القيس. وتقدم الكلام في {فَوَسْوَسَ } والخلاف في كيفيتها في الأعراف، وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام، فالتعديبإلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدّي بلام الجر، قيل معناه: لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكنللاستماع، ثم عرض عليه ما يلقى بقوله {هَلْ أَدُلُّكَ } على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنضح. ويؤثر قبول من يخاطبهكقول موسى

{ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ }

وهو عرض فيه مناصحة، وكان آدم قد رغبه الله تعالى في دوامالراحة وانتظام المعيشة بقوله {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة بقوله: {هَلْ أَدُلُّكَ } فجاءه إبليس منالجهة التي رغبه الله فيها. وفي الأعراف

{ مَا نَهَـٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ }

. وهنا {هَلْ أَدُلُّكَ } والجمع بينهماأن قوله {هَلْ أَدُلُّكَ } يكون سابقاً على قوله {مَا نَهَـٰكُمَا } لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليهانتقل إلى الإخبار والحصر. ومعنى {عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ } أي الشجرة التي مَن أكل منها خلد وحصل له ملكلا يخلق، وهذا يدل لقراءة الحسن بن عليّ وابن عباس إلا أن تكونا ملكين بكسر اللام {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْلَهُمَا * سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } تقدم الكلام على نحو هذه الآية في الأعراف {وَعَصَىٰ *ءادَمَ * رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } قال الزمخشري عن ابن عباس: لا شبهة فيأن آدم صلوات الله عليه لم يمتثل ما رسم الله له وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصىخرج فعله من أن يكون رشداً وخيراً فكان غياً لا محالة لأن الغيَّ خلاف الرشد. ولكن قوله {وَعَصَىٰ ءادَمُ رَبَّهُفَغَوَىٰ } بهذا الإطلاق وهذا التصريح، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلاتوالفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبيّ المعصوم حبيب اللهالذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم منالسيئات والصغائر فضلاً عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر، وعن بعضهم {فَغَوَىٰ } فسئم من كثرة الأكل، وهذا وإنصح على لغة من يقلب الياء المسكور ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيىء تفسيرخبيث انتهى. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه السلام إلاّإذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى أو قول نبيه عليه السلام، فإما أن يبتدىء ذلك من قبل نفسه فليس بجائزلنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبيّ المقدم الذي اجتباه الله وتاب عليهوغفر له. قال القرطبي: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات الله كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزولإلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلاّ في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسولعليه السلام، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس: من وصف شيئاً من ذات الله مثل قوله تعالى

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }

فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله سبحانهبنفسه. {ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ } أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته {وَهَدَىٰ } أي هداه للنبوة أو إلىكيفية التوبة، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم. والضمير في {ٱهْبِطَا } ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعلهبوطهما عقوبتهما و {جَمِيعاً } حال منهما. وقال ابن عطية: ثم أخبرهما بقوله {جَمِيعاً } أن إبليس والحية مهبطان معهما،وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى. ولا يدل قوله {جَمِيعاً } أن إبليس والحية يهبطان معهمالأن {جَمِيعاً } حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين، والضمير في {بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ضمير جمع. قيل: يريد إبليس وبنيهوآدم وبنيه. وقيل: أراد آدم وذريته، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء. وقيل: آدم وإبليس والحية. وقال أبومسلم الأصبهاني: الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله {ٱهْبِطَا } ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرةصح قوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى }. وقال الزمخشري: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذينمنهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم، فقيل {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } على لفظ الجماعة، ونظيره إسنادهم الفعلإلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى. و {هُدًى } شريعة الله. وعن ابن عباس ضمن الله لمن اتبع القرآنأن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا

{ فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ }

والمعنىأن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهىعن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه. وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالةووقاه سوء الحساب. وقال أبو عبد الله الرازي: وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره الله تعالى اتباعالأدلة واتباعها لا يتكامل إلاّ بأن يستدل بها، وبأن يعمل بها، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضلولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة. وقيل {لاَّ يَضِلُّ * وَلاَ يَشْقَىٰ } في الدنيا. فإن قيل:المنعم بهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا. قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصلبسبب آخر فلا بأس انتهى. ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره، والذكر يقععلى القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية. وضنك: مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، والمعنى النكد الشاق من العيشوالمنازل ومواطن الحرب نحوها. ومنه قول عنترة:

إن المنية لو تمثل مثلت     مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وعن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وقالالحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين، ولا يموتون فيهاولا يحيون، وقال عطاء: المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب. وقال ابن جبير: يسلب القناعة حتى لايشبع. وقال أبو سعيد الخدري والسدّي: هو عذاب القبر، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليهوسلم. وقال الجوهري: المعيشة الضنك في الدنيا، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيببأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكاً وقالت فرقة {ضَنكاً } بأكل الحرام. ويستدل علىأن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ } وقوله:

{ وَلَعَذَابُ ٱلاْخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ }

فكأنه ذكر نوعاًمن العذاب، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال: ومعنى ذلك أن مع الدين التسليموالقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشاً طيباً كما قال تعالى

{ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً }

والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليهالشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى. وقرأ الحسن ضنكي بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالةبناؤه صفة على فعلى من الضنك. وقرأ الجمهور {ضَنكاً } بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب. وقرأ الجمهور {وَنَحْشُرُهُ } بالنون،وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفاً، ويجوز أن يكون جرماً بالعطف على موضع {فَإِنَّ لَهُمَعِيشَةً ضَنكاً } لأنه جواب الشرط، وكأنه قيل {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } تكن له معيشة ضنك {وَنَحْشُرُهُ } ومثله

{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ }

في قراءة من سكن ويذرهم. وقرأت فرقة ويحشره بالياء. وقرىء ويحشره بسكونالهاء على لفظ الوقف قاله الزمخشري. ونقل ابن خالويه هذه القراءة عن أبان بن تغلب والأحسن تخريجه على لغة بنيكلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء. وقرىء

{ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ }

والظاهر أن قوله {أَعْمَىٰ } المراد به عمى البصركما قال

{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا }

وقيل: أعمى البصيرة. قال ابن عطية: ولو كان هذا لم يحسالكافر بذلك لأنه مات أعمى البصيرة ويحشر كذلك. وقال مجاهد والضحاك ومقاتل وأبو صالح وروي عن ابن عباس: {أَعْمَىٰ }عن حجته لا حجة له يهتدي بها. وعن ابن عباس يحشر بصيراً ثم إذا استوى إلى المحشر {أَعْمَىٰ }. وقيل:{أَعْمَىٰ } عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. وقيل {أَعْمَىٰ }عن كل شيء إلاّ عن جهنم. وقال الجبائي: المراد من حشره {أَعْمَىٰ } لا يهتدي إلى شيء. وقال إبراهيم بنعرفة: كل ما ذكره الله عز وجل في كتابه فذمه فإنما يريد عَمَى القلب قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصارولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وقال مجاهد: معنى {لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ } أي لا حجة لي وقد كنتعالماً بحجتي بصيراً بها أحاج عن نفسي في الدنيا انتهى. سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشرأعمى لأنه جهله، وظن أنه لا ذنب له فقال له جل ذكره {كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ايَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ }أي مثل ذلك أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر، ولم تتبصر وتركتها وعميتعنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك قاله الزمخشري. والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول،ومعنى {تُنْسَىٰ } تترك في العذاب {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى } أي مثل ذلك الجزاء {نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ } أي من جاوزالحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد أي من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه {وَأَبْقَىٰ } أيمنه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع. وقال الزمخشري: والحشر على العمى الذي لا يزوال أبداً أشد من ضيق العيشالمنقضي، أو أراد ولتركنا إياه في العمى {أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } من تركه لآياتنا. {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْمّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـٰكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلنُّهَىٰ * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌمُّسَمًّى * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِلَعَلَّكَ }. قرأ الجمهور {يَهْدِ } الياء. وقرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي بالنون، وبخهم تعالى وذكرهم العبر بمنتقدم من القرون، ويعني بالإهلاك الإهلاك الناشىء عن تكذيب الرسل وترك الإيمان بالله واتباع رسله، والفاعل ليهد ضمير عائد علىالله تعالى، ويؤيد هذا التخريج قراءة نهد بالنون ومعناه نبين وقاله الزجاج. وقيل: الفاعل مقدر تقديره الهدى والآراء والنظر والاعتبار.وقال ابن عطية: وهذا أحسن ما يقدر به عندي انتهى. وهو قول المبرد وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل وهولا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال الفاعل مضمر تقديره {يَهْدِ } هو أي الهدى. وقال أبو البقاء: الفاعل مادل عليه {أَهْلَكْنَا } والجملة مفسرة له. قال الحوفي {كَمْ أَهْلَكْنَا } قد دل على هلاك القرون، فالتقدير أفلم نبينلهم هلاك من {أَهْلَكْنَا } {مّنَ ٱلْقُرُونِ } ومحو آثارهم فيتعظوا بذلك. وقال الزمخشري: فاعل {لَّمْ يَهْدِنِى } الجملةبعده يريد ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلاْخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِىٱلْعَـٰلَمِينَ } أي تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكون الجملة فاعلاً هومذهب كوفي، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله

{ تَّرَكْنَا * عَلَيْهِ فِى ٱلاْخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِى ٱلْعَـٰلَمِينَ }

فإن تركناعليه معناه معنى القول فحكيت به الجملة كأنه قيل وقلنا عليه، وأطلقنا عليه هذا اللفظ والجملة تحكي بمعنى القول كماتحكى بلفظه، وأحسن التخاريج الأول وهو أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله كأنه قال {أَفَلَمْ } يبين الله ومفعوليبين محذوف، أي العبر بإهلاك القرون السابقة ثم قال {كَمْ أَهْلَكْنَا } أي كثيراً أهلكنا، فكم مفعوله بأهلكنا والجملة كأنهامفسرة للمفعول المحذوف ليهد. وقال الحوفي: قال بعضهم هي في موضع رفع فاعل {يَهْدِ } وأنكر هذا على قائلهلأن كم استفهام لا يعمل فيها ما قبلها انتهى. وليست كم هنا استفهاماً بل هي خبرية. وقال أبو البقاء:{يَهْدِ لَهُمْ } في فاعله وجهان أحدهما ضمير اسم الله تعالى أي ألم يبين الله لهم وعلق {يَهْدِ } هناإذ كانت بمعنى يعلم كما علقت في قوله تعالى

{ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ }

انتهى. و{كَمْ } هناخبرية والخبرية لا تعلق العامل عنها، وإنما تعلق عنه الاستفهامية. وقرأ ابن السميفع: يُمَسُّون بالتشديد مبنياً للمفعول لأن المثنى يخلقخطوة بخطوة وحركة بحركة وسكوناً بسكون، فناسب البناء للمفعول والضمير في {يَمْشُونَ } عائد على ما عاد عليه لهم وهمالكفار الموبخون يريد قريشاً، والعرب يتقلبون في بلاد عاد وثمود والطوائف التي كانت قريش تمر عليها إلى الشام وغيره، ويعاينونآثار هلاكهم و{يَمْشُونَ فِى مَسَـٰكِنِهِمْ } جملة في موضع الحال من ضمير {لَهُمْ } والعامل {*يهذ} أي ألم نبين للمشركينفي حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار. وقيل: حال من مفعول {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا } أي أهلكناهم غارين آمنينمتصرّفين في مساكنهم لم يمنعهم عن التمتع والتصرف مانع من مرض ولا غيره، فجاءهم الإهلاك بغتة على حين غفلة منهمبه. {إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في ذلك التبيين بإهلاك القرون الماضية {لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى } أي العقول السليمة. ثمبين تعالى الوجه الذي لأجله لا يترك العذاب معجلاً على من كفر بمحمد والكلمة السابقة هيالمعدة بتأخير جزائهم في الآخرة قال تعالى:

{ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ }

تقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداًوثموداً لازماً هؤلاء الكفرة، واللزام إما مصدر لازم وصف به وإما فعال بمعنى مفعل أي ملزم كأنه آلة للزوم، ولفظلزومه كما قالوا لزاز خصم. وقال أبو عبد الله الرازي: لا شبهة أن الكلمة إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه فياللوح المحفوظ أن أمة محمد وإن كذبوا يؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصالانتهى. والأجل أجل حياتهم أو أجل إهلاكهم في الدنيا أو عذاب يوم القيامة، أقوال: فعلى الأول يكون العذاب مايلقى في قبره وما بعده. وعلى الثاني: قتلهم بالسيف يوم بدر. وعلى الثالث: هو عذاب جهنم. وفي صحيح البخاري أن يوم بدر هو اللزام وهو البطشة الكبرى والظاهر عطف {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } على كلمة وأخر المعطوف عن المعطوف عليه، وفصلبينهما بجواب {لَوْلاَ } لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي، وأجاز الزمخشري أن يكون {وَأَجَلٌ } معطوفاً على الضمير المستكن في كانقال أي {لَكَانَ } الأخذ العاجل {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمىدون الأخذ العاجل انتهى. ثم أمره تعالى بالصبر على ما يقول مشركو قريش، وهم الذين عاد الضمير عليهم في{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } وكانوا يقولون أشياء قبيحة مما نص الله عنهم في كتابه، فأمره تعالى بالصبر على أذاهم والاحتماللما يصدر من سوء أخلاقهم، وأمره بالتسبيح والحمد لله و{إِنَّ رَبَّكَ } في موضع الحال، أي وأنت حامد لربك. والظاهرأنه أمر بالتسبيح مقروناً بالحمد، وإما أن يراد اللفظ أي قل سبحان الله والحمد لله، أو أريد المعنى وهو التوزيهوالتبرئة من السوء والثناء الجميل عليه. وقال أبو مسلم: لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله فيهذه الأوقات. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه صبره أولاً {عَلَىٰمَا يَقُولُونَ } من التكذيب ومن إظهار الكفر والشرك الذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه عن قولهم حتى يكون مظهراًلذلك وداعياً، ولذلك ما جمع كل الأوقات أو يراد المجاز فيكون المراد الصلاة فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبهاصلاة العصر {وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ } المغرب والعتمة {وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } الظهر وحده. قال ابن عطية: ويحتمل اللفظ أن يرادقول سبحان الله وبحمده من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس، فقد قال عليه السلام: من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه انتهى. وقال الزمخشري: {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان فيالنصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمد {أَمَّنْ هُوَ } {وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } مختصاً لها بصلاتك، وذلك أنأفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوّ الرجل والخلو بالرب. وقال تعالى:

{ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ }

وقال:

{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ }

الآيتين. ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق وللبدنأتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله وقد تناول التسبيح في {أَمَّنْ هُوَ } صلاة العتمة {وَفِى* ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله

{ حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوٰتِ وٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ }

عند بعض المفسرين انتهى. وجاء هنا {وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } وفي هود

{ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ }

فقيل: جاءعلى حد قوله:

ومهمهين قذفين مرتين. ظهراهما مثل ظهور الترسين.    

جاءت التثنية على الأصل والجمع لا من اللبسإذ النهار ليس له إلاّ طرفان. وقيل: هو على حقيقة الجمع الفجر الطرف الأول، والظهر والعصر من الطرف الثاني، والطرفالثالث المغرب والعشاء. وقيل: النهار له أربعة أطراف عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند زوال الشمس، وعند وقوفها للزوال. وقيل:الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقتالمغرب. وقيل: يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف فيتكرر بتكرره. وقيل: المراد بالأطراف الساعات لأن الطرف آخر الشيء. وقرأ الجمهور:{وَأَطْرَافَ } بنصب الفاء وهو معطوف على {وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ }. وقيل: معطوف على {قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ } وقرأ الحسنوعيسى بن عمر {وَأَطْرَافَ } بخفض الفاء عطفاً على {ءانَاء }. {لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } أي تثاب على هذه الأعمالبالثواب الذي تراه وأبرز ذلك في صورة الرجاء والطمع لا على القطع. وقيل: لعل من الله واجبة. وقرأ أبو حيوةوطلحة والكسائي وأبو بكر وأبان وعصمة وأبو عمارة عن حفص وأبو زيد عن المفضل وأبو عبيد ومحمد بن عيسى الأصبهانيتُرْضَى بضم التاء أي يرضيك ربك. ولما أمره تعالى بالصبر وبالتسبيح جاء النهي عن مد البصر إلى ما متعبه الكفرة يقال: مد البصر إلى ما متع به الكفار، يقال: مد نظره إليه إذا أدام النظر إليه، والفكرة فيجملته وتفصيله. قيل: والمعنى على هذا ولا تعجب يا محمد مما متعناهم به من مال وبنين ومنازل ومراكب وملابس ومطاعم،فإنما ذلك كله كالزهرة التي لا بقاء لها ولا دوام، وإنها عما قليل تفنى وتزول. والخطاب وإن كان في الظاهرللرسول فالمراد أمته هو كان أبعد شيء عن النظر في زينة الدنياوأعلق بما عند الله من كل أحد، وهو القائل في الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله وكان شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها {وَلاَ تَمُدَّنَّ } أبلغ من لا تنظر لأن مد البصريقتضي الإدامة والاستحسان بخلاف النظر، فإنه قد لا يكون ذلك معه والعين لا تمدّ فهو على حذف مضاف أي {لاَتَمُدَّنَّ } نظر {عَيْنَيْكَ } والنظر غير الممدد معفو عنه. وذلك مثل من فاجأ الشيء ثم غض بصره. والنظر إلىالزخارف مركوز في الطبائع فمن رأى منها شيئاً أحب إدمان النظر إليه، وقد شدّد المتقون في غض البصر عن أبنيةالظلمة وعدد الفسقة مركوباً وملبوساً وغيرهما لأنهم إنما اتخذوها لعيون النظارة حتى يفتخروا بها، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمغرى لهمعلى اتخاذها. وانتصب {أَزْوٰجاً } على أنه مفعول به، والمعنى أصنافاً من الكفرة و{مِنْهُمْ } في موضع الصفة لأزواجاً أيأصنافاً وأقواماً من الكفرة. كما قال:

{ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوٰجٌ } . وأجاز الزمخشري أن ينتصب {أَزْوٰجاً } عن الحالمن ضمير {بِهِ } و{مَتَّعْنَا } مفعوله منهم كأنه قيل إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم، وناساً منهم. و{زَهْرَةَ} منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا على تضمينه معنى أعطينا أو بدل من محل الجار والمجرور، أو بدلمن {أَزْوٰجاً } على تقدير ذوي زهرة، أو جعلهم {زَهْرَةَ } على المبالغة أو منصوب بفعل محذوف يدل عليه {مَتَّعْنَا} أي جعلنا لهم {زَهْرَةَ } أو حال من الهاء، أو ما على تقدير حذف التنوين من {زَهْرَةَ } لالتقاءالساكنين وخبر {ٱلْحَيَوٰةَ } على البدل من {مَا } وكل هذه الأعاريب منقول والأخير اختاره مكي، وردّ كونه بدلاً منمحل {مَا } لأن فيه الفصل بالبدل بين الصلاة وهي {مَتَّعْنَا } ومعمولها وهو {لِنَفْتِنَهُمْ } فالبدل وهو {زَهْرَةَ }.وقرأ الجمهور {زَهْرَةَ } بسكون الهاء. وقرأ الحسن وأبو البر هشيم وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسىوالزهري بفتحها. وقرأ الأصمعي عن نافع لِنُفْتِنَهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه، والزهرة والزهرة بمعنى واحدكالجهرة والجهرة. وأجاز الزمخشري في {زَهْرَةَ } المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر نحو كافر وكفرة، وصفهم بأنهم زاهر وهذهالدنيا الصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشففي الثياب، ومعنى {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه.{وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ * وَٱتَّقَىٰ } أي ما ذخر لهم من المواهب في الآخرة {خَيْرٌ } مما متع به هؤلاءفي الدنيا {وَأَبْقَىٰ } أي أدوم. وقيل: ما رزقهم وإن كان قليلاً خير مما رزقوا وإن كان كثير الحلية ذلكوحرمية هذا. وقيل: ما رزقت من النبوة والإسلام. وقيل: ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم. وقيل: القناعة. وقيل:ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا. ولما أمره تعالى بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة ونهاه عن مد بصرهإلى ما متع به الكفار أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإسلام، وأمره بالاصطبارعلى مداومتها ومشاقها وأن لا يشتغل عنها، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه وأن لا يسعى في تحصيلالرزق ويدأب في ذلك، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة ويدخل في خطابه عليه السلام أمته. وقرأ الجمهور {نَرْزُقُكَ }بضم القاف. وقرأت فرقة: منهم وابن وثاب بإدغام القاف في الكاف وجاء ذلك عن يعقوب. قال صاحب اللوامح: وإنما امتنعأبو عمرو من إدغام مثله بعد إدغامه {نَرْزُقُكُمْ } ونحوها لحلول الكاف منه طرفاً وهو حرف وقف، فلو حرك وقفاًلكان وقوفه على حركة وكان خروجاً عن كلامهم. ولو أشار إلى الفتح لكان الفتح أخف من أن يتبعض بل خروجبعضه كخروج كله، ولو سكن لأجحف بحرف. ولعل من أدغم ذهب مذهب من يقول جعفر وعامر وتفعل فيشدد وقفاً أوأدغم على شرط أن لا يقف بحال فيصير الطرف كالحشو انتهى. و{ٱلْعَـٰقِبَةَ } أي الحميدة أو حسن العاقبة لأهلالتقوى {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِـئَايَةٍ مّن رَّبّهِ } هذه عادتهم في اقتراح الآيات كأنهم جعلوا ما ظهر من الآيات ليسبآيات، فاقترحوا هم ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بقوله {أَوَ لَمْ * تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاْولَىٰ} أي القرآن الذي سبق التبشيرية وبإيحائي من الرسل به في الكتب الإلهية السابقة المنزّلة على الرسل، والقرآن أعظم الآياتفي الإعجاز وهي الآية الباقية إلى يوم القيامة. وفي هذا الاستفهام توبيخ لهم. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص {تَأْتِهِم }بالتاء على لفظ بينة. وقرأ باقي السبعة وأبو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وخلف وأبو عبيدةوابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي يأتهم بالياء لمجاز تأنيث الآية والفصل. وقرأ الجمهور بإضافة {بَيّنَةً } إلى {مَا} وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو بالتنوين و{مَا } بدل. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون ما نفياًوأريد بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصل مما لم يكن في غيره من الكتب. وقرأت فرقة بنصب {بَيّنَةً }والتنوين و{مَا } فاعل بتأتهم و{بَيّنَةً } نصب على الحال، فمن قرأ يأتهم بالياء فعلى لفظ {مَا } ومن قرأبالتاء راعى المعنى لأنه أشياء مختلفة وعلوم من مضى وما شاء الله. وقرأ الجمهور {فِى ٱلصُّحُفِ } بضم الحاء،وفرقة منهم ابن عباس بإسكانها والضمير في ضمن قبله يعود على البينة لأنها في معنى البرهان، والدليل قاله الزمخشري والظاهرعوده على الرسول لقوله: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } ولذلك قدره بعضهم قبل إرساله محمداً إليهموالذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة. وقيل {نَّذِلَّ } في الدنيا و{*نخزَى} في الآخرة. وقيل: الذل الهوان والخزي الافتضاح. وقرأالجمهور {أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } مبنياً للفاعل، وابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمريوداود والفزاري وأبو حاتم ويعقوب مبنياً للمفعول. {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } أي منتظر منا ومنكم عاقبة أمره، وفيذلك تهديد لهم ووعيد وأفرد الخبر وهو {مُّتَرَبّصٌ } حملاً على لفظ {كُلٌّ } كقوله { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } والتربص التأني والانتظار للفرح و{مِنْ أَصْحَـٰبِ } مبتدأ وخبر علق عنه {فستعلمون} وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنىالذي فتكون مفعولة بفستعلمون و{أَصْحَـٰبُ } خبر مبتدأ محذوف تقديره الذي هم أصحاب، وهذا جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزونحذف مثل هذا الضمير مطلقاً سواء كان في الصلة طول أم لم يكن وسواء كان الموصول أياً أم غيره.وقرأ الجمهور {ٱلسَّوِيّ } على وزن فعيل أي المستوي. وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير السواء أي الوسط. وقرأ الجحدريوابن يعمر السوأى على وزن فعلى أنث لتأنيث {ٱلصّرٰطِ } وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسواء من السوأى على ضدالاهتداء قوبل به {وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ } على الضد ومعناه {فَسَتَعْلَمُونَ } أيها الكفار من على الضلال ومن على الهدى، ويؤيدذلك قراءة ابن عباس الصراط السوء وقد روي عنهما أنهما قرآ السوأى على وزن فعلى، فاحتمل أن يكون أصله السوويإذ روي ذلك عنهما فخفف الهمزة بإبدالها واواً وأدغم، واحتمل أن يكون فعلى من السواء أبدلت ياؤه واواً وأدغمت الواووفي الواو، وكان القياس أنه لما بني فعلى من السواءان يكون السويا فتجتمع واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون فتقلب الواوياء وتدغم في الياء، فكان يكون التركيب السيا. وقرىء السُوَيّ بضم السين وفتح الواو وشد الياء تصغير السوء. قاله الزمخشري،وليس بجيد إذ لو كان تصغير سوء لثبتت همزته في التصغير، فكنت تقول سؤيـي والأجود أن يكون تصغير سواء كماقالوا في عطاء عطي. ومن قرأ السوأى أو السوء كان في ذلك مقابلة لقوله {وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ } وعلى قراءة الجمهورلم تراع المقابلة في الاستفهام.