تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل

كتاب
تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل
  ► ويكي مصدر:إسلام التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوراج والمعتزلة ◄  


حقيقة العلم ومعناه - أقسام العلوم - أقسام العلم المحدث - العلم الضروري - العلم النظري - مدارك العلوم - الاستدلال - الدليل والاستدلال - أقسام المعلومات - الموجودات - أقسام المحدثات - الأعراض - إثبات الأعراض - إثبات حدث العالم - إثبات الصانع - المحدث ليس فاعلا لنفسه - لا يجوز أن يكون صانع المحدثات مشبها لها - لا يجوز أن يكون فاعل المحدثات محدثا - صانع العالم واحد - صانع العالم حي - الصانع عالم - الصانع سميع بصير متكلم - أنه مريد - الرضا والغضب وأنهما من الإرادة - لا يجوز عليه الشهوة - لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما مريدا - القديم لا يجوز عليه العدم - صنع الله للعالم ليس لغرض - القديم لم يفعل العالم لعلة - علة الفعل الصادر عن الفاعل الحكيم - الكلام على القائلين بفعل الطباع - الكلام على المنجمين - الكلام على أهل التثنية - تباين الأصلين وامتزاجهما - الرد على الديصانية - الرد على جميع الثنوية - إلزام جميع الثنوية - نقض آخر لجميع الثنوية - الكلام على المجوس - نقض المجوس - الكلام على النصارى في قولهم إن الله جوهر - الكلام عليهم في الأقانيم - مسألة في الأقانيم (الجوهر الجامع للأقانيم أهو هي أم غيرها) - مسألة على الملكية (الجوهر أهو موافق للأقانيم أو مخالف لها) - اختلافهم في معنى الأقانيم - مسألة في الأقانيم (لم اختص كل أقنوم) - الكلام في معنى الاتحاد - قول النصارى إن الاتحاد فعل - الاتحاد (كيف اتحدت الكلمة بالمسيح دون الأب والروح) - مسألة على الملكية (كيف ولدت مريم الابن دون الأب وروح القدس) - مسألة على الملكية (مريم أهي إنسان كلي أم إنسان جزئي) - مسألة على جميعهم (أبقي الاتحاد حال وقوع القتل والصلب) - مسألة على جميعهم في الاتحاد (لم قلتم اتحدت كلمة الله بالمسيح دون موسى وإبراهيم وغيرهما) - الكلام على البراهمة - علة لهم (زعمهم الرسول من جنس المرسل) - دليل لهم (زعمهم استحالة تلقي الرسالة) - دليل لمنكري الرسالة - دليل لهم (زعمهم أن كل مدع للرسالة يخبر عن الله بإباحة ما تحظره العقول) - دليل (زعمهم أن إرسال الرسل سفه) - دليل (زعمهم قبح السعي بين الصفا والمروة) - علة لهم (زعمهم كفاية العقول) - الكلام على اليهود في إثبات نبوة محمد على من أنكرها وطعن فيها من المجوس والصابئة والنصارى - سؤال على الاستدلال (بطلان عدم نقل إنكار الصحابة إلينا) - سؤال آخر (إنكار اليهود والنصارى) - الرد على منكري إعجاز القرآن (تقدم النبي في البلاغة والفصاحة) - التحدي (كتاب إقليدس) - المعارضة (زعمهم أن خوف السيف يمنع إظهار المعارضة) - حفظ المعارضة (نسيان معارضة القرآن) - المعارضة والإعجاز (إعراضهم عن النظر في فائدة مقابلته) - المعارضة والسيف - المعارضة والشبهة - صفة الإعجاز في القرآن - كيفية الإعجاز في القرآن - التحدي بالحروف المنظومة لا بالكلام القائم بالله - الحفظ والإعجاز - الإعجاز في التوراة والإنجيل - لزوم حجة القرآن عند غير العرب - معارضة مسيلمة للقرآن - العلم بالتحدي - إبطال دعوى المعارضة - وجوه الإعجاز - الكلام على اليهود في الأخبار - الكلام على منكر نسخ شريعة موسى من جهة السمع - الكلام على محيل النسخ من جهة العقل - الكلام على العيسوية منهم الذين يزعمون أن محمدا وعيسى بعثا إلى قومهما ولم يبعثا بنسخ شريعة موسى - الكلام على المجسمة - الصفات - الأحوال - شبهة لهم في نفي العلم - معنى الصفة وهل هي الوصف أم معنى سواه - الاسم ومما اشتقاقه وهل هو المسمى أو غيره - فصل في الأسماء - نفي خلق القرآن - بيان آراء المعتزلة - أبواب في الصفات - أن لله وجها ويدين - تفصيل صفات الذات من صفات الأفعال - البقاء من صفات ذاته - جواز رؤية الله بالأبصار - أن الله مريد لجميع المخلوقات - الاستطاعة - إبطال التولد - خلق الأفعال - شبه ونقضها - آيات من القرآن يحتج بها القدرية في أن العباد يخلقون أفعالهم - وجوب تسميتهم قدرية - أن الله قضى المعاصي وقدرها قبيحة على ما خلقها - الأرزاق - الأسعار - الآجال - الهدي والإضلال - اللطف - التعديل والتجوير - معنى الدين - الإيمان والإسلام والأسماء والأحكام - معنى الإيمان - معنى الإسلام - معنى الكفر - تسمية الفاسق الملي مؤمنا - الوعد والوعيد - الخصوص والعموم - الشفاعة - الإمامة وأحكام الأخبار - معنى الخبر - أقسام الأخبار - إثبات التواتر واستحالة الكذب على أهله - صفات أهل التواتر - خبر الواحد - إبطال النص وتصحيح الاختيار - حكم الاختيار - العدد الذي تنعقد به الإمامة - صفة الإمام الذي يلزم العقد له - ما أقيم الإمام لأجله - ما يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته - إمامة أبي بكر - إمامة عمر - صحة العهد من أبي بكر إلى عمر ومن كل إمام عدل إلى من يصلح لهذا الأمر - إمامة عثمان وصحة فعل عمر في الشورى - صحة عقد عبد الرحمن لعثمان بن عفان - مقتل عثمان مظلوما - ما تعلقوا به على عثمان والجواب - إمامة علي والرد على الواقف فيها
بسم الله الرحمن الرحيم

الله المعين،،،

الحمد لله قامع الأباطيل ومدحض الأضاليل وهادي من اختصه برحمته إلى سواء السبيل ومضل الناكب عن النهج المستقيم والحايد عن واضحات الحجج ونيرات البراهين. أحمده حمد معترف بأنه لا شبه له يساويه ولا ضد ينازعه ويناويه وأنه مالك الخلق ومنشئه ومعيده ومبديه ومفقره ومغنيه وراحمه ومبتليه، لا مالك فوقه يزجره ولا قاهر ينهاه ويأمره وأن الخلق جميعا في قبضته ومتقلبون بمشيئته ومتصرفون بين حدوده ومراسمه ولا معقب لحكمه ولا راد لأمره ولا اعتراض لمخلوق في قضائه وقدره. وأرغب إليه في الصلاة على خيرته من خلقه محمد خاتم النبين وإمام المتقين كما أوضح السبيل وأنار الدليل وعلى إخوانه من المرسلين وأهل بيته الطاهرين وأصحابه المنتخبين ومن بعدهم من التابعين. وأسأله التوفيق لإصابة ما به أمرنا والاقتداء بالسلف الصالح من أمة نبينا وصرفنا عن الميل إلى الحايد عن ديننا والطاعن على ملتنا. أما بعد فقد عرفت إيثار سيدنا الأمير أطال الله في دوام العز بقاءه وأدام بالتمسك بالتقوى ولزوم الطريقة المثلى نعماءه ومن بإرشاده وهداه وجعل له من وافر عقله وحزمه واعظا ومن علو همته وسؤدده زاجرا ورقيبا ومن استكانته لربه تعالى والخنوع لطاعته سامعا ومطيعا حتى يلحقه اعتقاد فعل الخير وإيثاره بأهل النجاة والسلامة ويبلغه بما يتيحه له من ذلك ويوفقه لأقصى منازل أهل الزلفة والكرامة لعمل كتاب جامع مختصر مشتمل على ما يحتاج إليه في الكشف عن معنى العلم وأقسامه وطرقه ومراتبه وضروب المعلومات وحقائق الموجودات وذكر الأدلة على حدث العالم وإثبات محدثه وأنه مخالف لخلقه وعلى ما يجب كونه عليه من وحدانيته وكونه حيا عالما قادرا في أزله وما جرى مجرى ذلك من صفات ذاته وأنه عادل حكيم فيما أنشأه من مخترعاته من غير حاجة منه إليها ولا محرك وداع وخاطر وعلل دعته إلى إيجادها تعالى عن ذلك وجواز إرساله رسلا إلى خلقه وسفراء بينه وبين عباده وأنه قد فعل ذلك وقطع العذر في إيجاب تصديقهم بما أبانهم به من الآيات ودل به على صدقهم من المعجزات وجمل من الكلام على سائر أهل الملل المخالفين لملة الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وأهل التثنية وأصحاب الطبائع والمنجمين. ونعقب ذلك بذكر أبواب الخلاف بين أهل الحق وأهل التجسيم والتشبيه وأهل القدر والاعتزال والرافضة والخوارج وذكر جمل من مناقب الصحابة وفضائل الأئمة الأربعة وإثبات إمامتهم ووجه التأويل فيما شجر بينهم ووجوب موالاتهم. ولن آلو جهدا فيما يميل إليه سيدنا الأمير حرس الله مهجته وأعلى كعبه من الاختصار وتحرير المعاني والأدلة والألفاظ وسلوك طريق العون على تأمل ما أودعه هذا الكتاب وإزالة الشكوك فيه والارتياب. وأنا بحول الله وقوته أسارع إلى امتثال ما رسمه وأقف عنده وإلى الله جل ذكره أرغب في حسن التوفيق والإمداد بالتأييد والتسديد.

باب الكلام في حقيقة العلم ومعناه

فإن قال قائل: ما حد العلم عندكم؛ قلنا: حده أنه معرفة المعلوم على ما هو به والدليل على ذلك أن هذا الحد يحصره على معناه ولا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه شيئا هو منه والحد إذا أحاط بالمحدود على هذه السبيل وجب أن يكون حدا ثابتا صحيحا فكل ما حد به العلم وغيره وكانت حاله في حصر المحدود وتمييزه من غيره وإحاطته به حال ما حددنا به العلم وجب الاعتراف بصحته وقد ثبت أن كل علم تعلق بمعلوما فإنه معرفة له وكل معرفة لمعلوم فإنها علم به فوجب توثيق الحد الذي حددنا به العلم وجعلنا تفسيرا لمعنى وصفه بأنه علم. فإن قال قائل: فلم رغبتم عن القول بأنه معرفة الشيء على ما هو به إلى القول بأنه معرفة المعلوم على ما هو به؛ قيل: لما قام من الدليل على أن المعلوم يكون شيئا وما ليس بشيء ولأن المعدوم معلوم وليس بشيء ولا موجود فلو قلنا حده أنه معرفة الشيء على ما هو به لخرج العلم بما ليس بشيء من المعلومات المعدومات عن أن يكون علما وذلك مفسد له فوجب صحة ما قلناه وبالله التوفيق.

باب الكلام في أقسام العلوم

فإن قال قائل: فعلى كم وجه تنقسم العلوم؛ قيل له: على وجهين فعلم قديم وهو علم الله عز وجل وليس بعلم ضرورة ولا استدلال وعلم محدث وهو كل ما يعلم به المخلوقون من الملائكة والجن والإنس وغيرهم من الحيوان.

باب في أقسام العلم المحدث

فإن قال قائل: فعلى كم وجه تنقسم علوم المخلوقين؛ قيل له: على قسمين فقسم منها علم ضرورة والثاني منها علم نظر واستدلال. وهذه الثلاثة العلوم التي وصفناها غير مختلفة فيما له يكون الشيء علما من كونها معرفة للمعلوم على ما هو به وقد تقدم القول في إيضاح ذلك.

باب العلم الضروري

فإن قيل: فما معنى وصفكم للضروري منها بأنه ضروري على مواضعة المتكلمين؛ قيل له: معنى ذلك أنه علم يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه معه الخروج عنه ولا الانفكاك منه ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الارتياب به وحقيقة وصفه بذلك في اللغة أنه مما أكره العالم به على وجوده لأن الاضطرار في اللغة هو الحمل والإكراه وهو الإلجاء وكل هذه الألفاظ بمعنى واحد فلا فرق عندهم بين قول القائل اضطره السلطان إلى تسليم ماله وبيع عقاره وبين قوله أكرهه على ذلك وحمله عليه وألجأه إليه فالواجب بما وصفناه أن يكون ما قلنا هو معنى وصف العلم وغيره بأنه ضرورة. وقد يوصف العلم وغيره من الأجناس بأنه ضرورة على معنى أن العالم به محتاج إليه لأن الضرورة في اللغة تكون بمعنى الحاجة يدل على ذلك قولهم فلان مضطر إلى تكفف الناس وسؤالهم يعنون أنه محتاج إلى ذلك ومنه قوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } وقوله { إلا ما اضطررتم إليه } وهو الذي يريده المسلمون بقولهم إن المضطر إلى أكل الميتة قد أبيح له أكلها يعنون به المحتاج إلى ذلك فكل محتاج إلى علم أو غيره من الأجناس فهو مضطر إلى ما احتاج إليه.

باب العلم النظري

فإن قيل: فما معنى تسميتكم للضرب الآخر منها علم نظر واستدلال؛ قيل له: مرادنا بذلك أنه علم يقع بعقب استدلال وتفكر في حال المنظور فيه أو تذكر نظر فيه فكل ما احتاج من العلوم إلى تقدم الفكر والروية وتأمل حال المعلوم فهو الموصوف بقولنا علم نظري وقد يجعل مكان هذه الألفاظ لام نقل العلم النظري هو ما بني على علم الحس والضرورة أو على ما بني العلم بصحته عليهما ومعنى قولنا في هذا العلم إنه كسبي أنه مما وجد بالعالم وله عليه قدرة محدثة وكذلك شيء شركه في ذلك أعني العلم في وجود القدرة المحدثة عليه فهو كسب لمن وجد به.

باب الكلام في مدارك العلوم

فإن قال قائل: فمن كم وجه يقع العلم بالمعلوم إذا كان ضرورة؛ قيل له: من ستة طرق فمنها الحواس الخمس وهي حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس وقصدنا بذكر الحاسة ها هنا الإدراك الموجود بالحواس لا الأجسام المؤتلفة على الصورة التي ما حصل عليها من الأجسام سميناه عينا وأنفا وأذنا وفما ويدا. فكل علم حصل عند إدراك حاسة من هذه الحواس فهو علم ضرورة يلزم النفس لزوما لا يمكن معه الشك في المدرك ولا الارتياب به وكل حاسة من هذه الحواس تختص في وقتنا هذا على عادة جارية بإدراك جنس أو أجناس فحاسة الرؤية تدرك بها اليوم الألوان والأكوان والأجسام وحاسة السمع يدرك بها الكلام والأصوات وحاسة الشم تدرك بها الأراييح وحاسة الذوق تدرك بها الطعوم وحاسة اللمس وكل عضو فيه حياة تدرك بها الحرارة والبرودة واللين والخشونة والرخاوة والصلابة على قول من زعم أن الخشونة والرخاوة واللين والصلابة معان زائدة توجد بالجواهر كالحرارة والبرودة. والضرب السادس منها ضرورة تخترع في النفس ابتداء من غير أن تكون موجودة ببعض هذه الحواس كعلم الإنسان بنفسه وما يجده فيها من الصحة والسقم واللذة والألم والغم والفرح والقدرة والعجز والإرادة والكراهة والإدراك والعمى وغير ذلك مما يحدث في النفس مما يدركه الحي إذا وجد به ومنه أيضا العلم الواقع بقصد المتكلم إلى ما يقصد ومن يقصده بخطابه دون غيره وأنه قاصد إلى اكتساب ما يوجد به من ضروب مقدوراته من الكلام وغيره ومنه أيضا العلم بأن الأجسام متى كانت موجودة فلا بد من أن تكون مجتمعة متماسة الأبعاض أو مفترقة متباينة وأن الخبر عن وجود الشيء وأنه على بعض الأوصاف لا بد أن يكون صدقا أو كذبا وأن الخبرين المتضاد مخبرهما لا يجوز أن يكونا جميعا صدقا أو كذبا وما جرى مجرى ذلك من الأمور المنقسمة في العقل إلى أمرين لا واسطة بينهما. ومنه أيضا العلم بخجل الخجل ووجل الوجل والعلم بالشجاعة والجبن والبر والعقوق والتحية والاستهزاء والواقع عند مشاهدة الإمارات ومنه أيضا العلم المخترع في النفس بما تواتر الخبر عن كونه واستفاض عن وجوده نحو العلم الواقع عند إخبار المخبرين عن الصين وخراسان وفارس وكرمان وعن ظهور موسى وعيسى ومحمد جميع النبيين والخبر عن الوقائع والفتن والممالك والدول وغير ذلك من الأمور الحاصل الخبر عنها من قوم قطع العذر نقلهم ووجب العلم عند خبرهم. فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات التي وصفناها توجد مخترعة في النفس وجدت هذه الحواس وما يوجد بها من الإدراكات أو لم توجد سوى العلم الواقع عند الخبر المتواتر والعلم بخجل الخجل ووجل الوجل وقصد القاصد إلى من يقصده وما يقصده بكلامه فإنه وما جرى مجراه في وقتنا هذا مضمن بوجود الإدراك للخبر عن المعلوم بمشاهدة الإمارات التي عند مشاهدتها يقع العلم بما ذكرناه وقد يصح أن يخترع الله العلم بوجود المخبر عنه من غير سماع خبر عنه في الزمن الذي يصح فيه خرق العادات وإظهار المعجزات وخروج الأمور عما هي في العادة عليه وتسميتهم الإدراكات الموجودة بالحواس لمسا وذوقا وشما إنما جرت عليها على سبيل المجاز والاتساع لما بينه وبينها من التعلق على طريقتهم في التجوز بإجراء اسم الشيء على ما قاربه وناسبه وتعلق به ضربا من التعلق والإدراك في الحقيقة شيء غير اللمس واتصاف سائر الحواس بالمحسوسات وأماكنها وغيره من ضروب الاتصال.

باب الكلام في الاستدلال

فإن قال قائل: فعلى كم وجه ينقسم الاستدلال؛ قيل له: على وجوه يكثر تعدادها فمنها أن ينقسم الشيء في العقل على قسمين أو أقسام يستحيل أن تجتمع كلها في الصحة والفساد فيبطل الدليل أحد القسمين فيقضي العقل على صحة ضده وكذلك إن أفسد الدليل سائر الأقسام صحح العقل الباقي منها لا محالة نظير ذلك علمنا باستحالة خروج الشيء عن القدم والحدث فمتى قام الدليل على حدثه بطل قدمه ولو قام على قدمه لأفسد حدثه. ومنها أن يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة ما فيجب القضاء على أن من وصف بتلك الصفة في الغائب فحكمه في أنه مستحق لها لتلك العلة حكم مستحقها في الشاهد لأنه يستحيل قيام دليل على مستحق الوصف بتلك الصفة مع عدم ما يوجبها وذلك كعلمنا أن الجسم إنما كان جسما لتأليفه وأن العالم إنما كان عالما لوجود علمه فوجب القضاء بإثبات علم كل من وصف بأنه عالم وتأليف كل من وصف بأنه جسم أو مجتمع لأن الحكم العقلي المستحق لعلة لا يجوز أن يستحق مع عدمها ولا لوجود شيء يخالفها لأن ذلك يخرجها عن أن تكون علة للحكم. ومن ذلك أن يستدل بصحة الشيء على صحة مثله وما هو في معناه وباستحالته على استحالة مثله وما كان بمعناه كاستدلالنا على إثبات قدرة القديم سبحانه على خلق جوهر ولون مثل الذي خلقه وإحياء ميت مثل الذي أحياه وخلق الحياة فيه مرة أخرى بعد أن أماته وعلى استحالة خلق شيء من جنس السواد والحركات لا في مكان في الماضي كما استحال ذلك في جنسهما الموجود في وقتنا هذا. وقد يستدل بتوقيف أهل اللغة لنا على أنه لا نار إلا حارة ملتهبة ولا إنسان إلا ما كانت له هذه البنية على أن كل من خبرنا من الصادقين بأنه رأى نارا أو إنسانا وهو من أهل لغتنا يقصد إلى إفهامنا أنه ما شاهد إلا مثل ما سمي بحضرتنا نارا أو إنسانا لا نحمل بعض ذلك على بعض لكن بموجب الاسم وموضوع اللغة ووجوب استعمال الكلام على ما استعملوه ووضعه حيث وضعوه. وقد يستدل بالمعجزة على صدق من ظهرت على يده لأنها تجري مجرى الشهادة له ويستدل على صدق المخبر الذي أخبر عنه النبي لا يكذب وكذلك يستدل بخبر من خبر عن صدقه صاحب المعجزة على صدق من أخبر عنه أنه لا يكذب. وقد يستدل أيضا على بعض القضايا العقلية وعلى الأحكام الشرعية بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس الشرعي المنتزع من الأصول المنطوق بها وما جرى مجرى القياس على العلة من ضرب الاجتهاد الذي يسوغ الحكم بمثله من الشرع على مذهب القايسين فكل هذه الأدلة السمعية جارية في الكشف عن صحة القياس مجرى ما قدمنا ذكره من الأحكام العقلية وإن كان فرعا لأدلة العقول وقضاياها وفيما أومأنا إليه من وجوه الاستدلال كفاية وتنبيه على ما أضربنا عن ذكره.

باب آخر في معنى الدليل والاستدلال

فإن قال قائل: فما معنى الدليل عندكم؛ قيل له: هو المرشد إلى معرفة الغائب عن الحواس وما لا يعرف باضطرار وهو الذي ينصب من الأمارات ويورد من الإيماء والإشارات مما يمكن التوصل به إلى معرفة ما غاب عن الضرورة والحس ومنه سمي دليل القوم دليلا وصمت العرب أثر اللصوص دليلا عليهم لما أمكن معرفة مكانهم من جهته ومنه وسمت الأميال والعلامات المنصوبة والنجوم الهادية أدلة لما أمكن أن يتعرف بها ما يلتمس علمه. وإنما سمي ناصب الآيات والأمارات التي يمكن التوصل بها إلى معرفة المعلوم دليلا مجازا واتساعا لما بينه وبين الدليل الذي هو الأمارات والتأثيرات من التعلق وإنما الدليل في الحقيقة هو ما قدمنا ذكره من الأسباب المتوصل بها إلى معرفة الغائب عن الضرورة والحواس من الأمارات والعلامات والأحوال التي يمكن بها معرفة المستنبطات وهذا الدليل وصفنا حاله هو الدلالة وهو المستدل به وهو الحجة. وأما الاستدلال والنظر فهو تقسيم المستدل وفكره في المستدل عليه وتأمله له وقد يسمى ذلك أيضا دليلا ودلالة مجازا واتساعا لما بينهما من التعلق وقد تسمى العبارة المسموعة التي تنبىء عن استدلال القلب ونظره وتأمله نظرا واستدلالا مجازا واتساعا لدلالتها عليه وقد ذكرنا صورة الاستدلال بتغير الأجسام على إثبات صانعها وتقصينا طرفا من الكلام في الأبواب التي قدمنا ذكرها في كتاب كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجحد والعناد بما نستغني به عن الترداد.

باب الكلام في أقسام المعلومات

جميع المعلومات على ضربين معدوم وموجود فالموجود هو الشيء الثابت الكائن لأن معنى الشيء عندنا أنه موجود يدل على ذلك قول أهل اللغة شيء إثبات وقولهم ليس بشيء نفي يبين ذلك أن القائل يقول ما أخذت من زيد شيئا ولا سمعت منه شيئا ولا رأيت شيئا نفي للمذكور وقولهم أخذت شيئا وسمعت شيئا ورأيت شيئا إثبات للمذكور ورجوع إلى كائن موجود فوجب أن يكون كل موجود شيئا وكل شيء موجودا. والمعدوم منتف ليس بشيء فمنه معلوم معدوم لم يوجد قط يصح أن يوجد وهو المحال الممتنع الذي ليس بشيء وهو القول المتناقض نحو اجتماع الضدين وكون الجسم في مكانين وما جرى مجرى ذلك مما لم يوجد قط ولا يوجد أبدا ومنه معدوم لم يوجد قط ولا يوجد أبدا وهو مما يصح ويمكن أن يوجد نحو ما علم الله أنه لا يكون من مقدوراته وأخبر أنه لا يكون من نحو رده أهل المعاد إلى الدنيا وخلق مثل العالم وأمثال ذلك مما علم وأخبر أنه لا يفعله وإن كان مما يصح فعله له ومعلوم معدوم في وقتنا هذا وسيوجد فيما بعد نحو الحشر والنشر والجزاء والثواب والعقاب وقيام الساعة وأمثال ذلك مما أخبر تعالى أنه سيفعله وعلم أنه سيوجد ومعلوم آخر هو معدوم في وقتنا هذا وقد كان موجودا قبل ذلك نحو ما كان وتقضى من أحوالنا وتصرفنا من كلامنا وقيامنا وقعودنا الذي كان في أمس يومنا وتقضى ومضى ومعلوم آخر معدوم هو مقدور ويمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون ولا يدرى هل يكون أم لا يكون نحو ما يقدر الله تعالى عليه مما لا نعلم أيفعله أم لا يفعله نحو تحريك الساكن من الأجسام وتسكين المتحرك منها وأمثال ذلك.

باب الكلام في الموجودات

والموجودات كلها على ضربين قديم ولم يزل ومحدث لوجوده أول. فالقديم هو المتقدم في الوجود على غيره وقد يكون لم يزل وقد يكون مستفتح الوجود دليل ذلك قولهم بناء قديم يعنون أنه الموجود قبل الحادث بعده وقد يكون المتقدم بوجوده على ما حدث بعده متقدما إلى غاية وهو المحدث المؤقت الموجود. وقد يكون متقدما إلى غير غاية وهو القديم جل ذكره وصفات ذاته لأنه لو كان متقدما إلى غاية يؤقت بها فقال إنه قبل العالم بعام أو مائة ألف عام لأفاد توقيت وجوده أنه معدوم قبل ذلك الوقت والله يتعالى عن ذلك والمحدث هو الموجود من عدم يدل على ذلك قولهم حدث بفلان حادث من مرض أو صداع إذا وجد به بعد أن لم يكن وحدث به حدث الموت وأحدث فلان في هذه العرصة بناء أي فعل ما لم يكن قبل.

باب أقسام المحدثات

والمحدثات كلها تنقسم ثلاثة أقسام فجسم مؤلف وجوهر منفرد وعرض موجود بالأجسام والجواهر. فالجسم هو المؤلف يدل على ذلك قولهم رجل جسيم وزيد أجسم من عمرو إذا كثر ذهابه في الجهات وليس يعنون بالمبالغة في قولهم أجسم وجسيم إلا كثرة الأجزاء المنضمة والتأليف لأنهم لا يقولون أجسم فيمن كثرت علومه وقدره وسائر تصرفه وصفاته غير الاجتماع حتى إذا كثر الاجتماع فيه يتزايد أجزائه قيل أجسم ورجل جسيم فدل بذلك على أن قولهم جسم مفيد للتأليف. والجوهر هو الذي يقبل من كل جنس من أجناس الأعراض عرضا واحدا لأنه متى كان كذلك كان جوهرا. ومتى خرج عن ذلك خرج عن أن يكون جوهرا. والدليل على إثباته علمنا بأن الفيل أكبر من الذرة فلو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر ولو كان كذلك لم يكن أحدهما أكبر من الآخر كما أمه ليس بأكثر مقادير منه.

باب الكلام في الأعراض

والأعراض هي التي لا يصح بقاؤها وهي التي تعرض في الجواهر والأجسام وتبطل في ثاني حال وجودها والدليل على أن هذا فائدة وصفها بأنها أعراض قوله تعالى: { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } فسمى الأموال أعراضا إذ كان آخرها إلى الزوال والبطلان وقول أهل اللغة عرض بفلان عارض من حمى أو جنون إذا لم يدم به ذلك ومنه أيضا قول الله تعالى إخبارا عن الكفار في اعتقادهم فيما أظلهم من العذاب أنه عارض لما اعتقدوا أنه مما لا دوام له { هذا عارض ممطرنا }.

باب الكلام في إثبات الأعراض

والدليل على إثبات الأعراض تحرك الجسم بعد سكونه وسكونه بعد حركته ولا بد أن يكون ذلك كذلك لنفسه أو لعله فلو كان متحركا لنفسه ما جاز سكونه وفي صحة سكونه بعد تحركه دليل على أنه متحرك لعلة هي الحركة. وهذا الدليل هو الدليل على إثبات الألوان والطعوم والأراييح والتأليف والحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز وغير ذلك من ضروبها. ويدل على ذلك أن الجسم لا يخلو من أن يكون متحركا لنفسه أو لمعنى ويستحيل أن يكون متحركا لنفسه لأن ذلك لو كان كذلك لوجب أن لا يوجد من جنسه في ذلك الوقت إلا ما كان متحركا ألا ترى أن السواد إذا كان سوادا لنفسه لم يجز أن يوجد من جنسه ما ليس بسواد وفي العلم بأنه قد يوجد من جنس الجواهر والأجسام المتحركة ما ليس بمتحرك دليل على أن المتحرك فيها ليس بمتحرك لنفسه وأنه للحركة كان متحركا. ومما يدل على ذلك علمنا بأن الإنسان تارة يقدر على التحرك ويعجز عنه أخرى وقد ثبت أنه لا بد لقدرته من تعلق بمقدور وكذلك القديم تعالى يقدر عند الموحدين وعند من أثبته من الملحدين النافين للأعراض على تحريك الجسم تارة وعلى تسكينه أخرى فلا يخلو أن يكون مقدور القدرة على تحريك الجسم هو إحداث الجسم وإيجاده أو إحداث معنى فيه أو إعدامه أو إعدام معنى منه أو لا لنفسه أو لمعنى تعلق بنفسه. ويستحيل أن تكون القدرة على ذلك لا تعلق لها بمقدور كما يستحيل وجود علم لا تعلق له بمعلوم وذكر لا تعلق له بمذكور. ويستحيل أن يكون مقدور القدرة هو إيجاد الجسم وإحداثه لأنه إنما يتحرك في الثاني من حال وجوده مع استحالة حدوثه وتجدده في ذلك الوقت ولأن ذلك إن كان كذلك فقد صح وثبت حدوث الجسم وهذا هو الذي نبتغيه بإثبات الأعراض. وإن قيل يستحيل أن يكون مقدور القدرة إعدام معنى من الجسم لأن ذلك المعنى لا يخلو أن يكون جسما أو عرضا فإن كان جسما أقروا بجواز عدم الجسم وصح بذلك حدوثه لاستحالة عدم القديم عندنا وعندهم وذلك ما أردناه وإن كان عرضا فقد أقروا بوجود الأعراض وعدمها بعد الوجود وهذا ما رمنا إثباته ولأن عدم معنى من الجسم ليس بشيء يحدث ولا يكتسب فمحال تعلق القدرة بما ليس بمعنى يحدث ويكتسب فبطل هذا القول. ولأن الجسم لو تحرك في جهة بعينها وإلى محاذاة بعينها لعدم معنى منه مع صحة تحركه مع عدم ذلك المعنى إلى غير تلك الجهة والمحاذاة لم يكن بأن يتحرك إلى الجهة والمحاذاة التي تحرك إليها أولى من تحركه إلى غيرها وفي العلم بكونه أولى بالتحرك إلى ما تحرك إليه وأحق به في ذلك الوقت دليل على بطلان هذا القول. ولأن الجسم أيضا لو تحرك لعدم معنى منه لم يكن هو بالتحرك أولى من غيره من الأجسام لأن ذلك المعنى الذي عدم منه ليس هو فيه ولا في غيره فيجب لذلك تحرك كل ما ليس فيه ذلك المعنى وفي العلم ببطلان هذا دليل على فساد هذا القول. ويستحيل أيضا أن يكون مقدور القدرة على تحريك الجسم ما ليس هو نفس الجسم ولا معنى سواه لأن ما ليس هو نفسه ولا معنى غيره ليس بشيء يصح أن يكون حادثا أو مكتسبا فبطل أيضا هذا الوجه وصح بذلك أن قدرة القادر على تحريك الجسم قدرة على فعل معنى فيه أو اكتسابه وهذا هو معنى قولنا إن المتحرك كان متحركا بالفاعل. ويدل على أن قدرة الإنسان على المتحرك لا يجوز أن تكون قدرة على نفسه علمنا وهم باستحالة كون الإنسان فاعلا للأجسام وأنه لو صح ذلك وأن يقدر على نفسه لصح أن يقدر على مثله ومما يدل أيضا على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك متحركا لا لنفسه ولا لعلة أن ذلك لو كان كذلك لصار قولنا فيه إنه متحرك لقبا لا فائدة تحته ولجرى مجرى تسميتنا زيدا زيدا وذلك باطل ولأن ذلك لو كان كذلك لم يكن هو بالتحرك أولى من غيره ولخرج قولنا متحرك عن أن يكون له مثبتا ومخبرا عنه وإن كان إثباتا وخبرا لأنه غير راجع إلى نفس الجسم ولا إلى معنى سواه وذلك باطل باتفاق وهذا يحيل أن يكون شيء من الأوصاف مستحقا لا لنفس ولا لعلة وفي بعض ما أومأنا إليه دليل على إثبات الأعراض.

باب الكلام في إثبات حدث العالم

جميع العالم العلوي والسفلي لا يخرج عن هذين الجنسين أعني الجواهر والأعراض وهو محدث بأسره والدليل على حدثه ما قدمناه من إثبات الأعراض. والأعراض حوادث والدليل على حدوثها بطلان الحركة عند مجيء السكون لأنها لو لم تبطل عند مجيء السكون لكانا موجودين في الجسم معا ولوجب لذلك أن يكون متحركا ساكنا معا وذلك مما يعلم فساده ضرورة. والدليل على حدوث الأجسام أنها لم تسبق الحوادث ولم توجد قبلها وما لم يسبق المحدث محدث كهو إذ كان لا يخلو أن يكون موجودا معه أو بعده وكلا الأمرين يوجب حدوثه. والدليل على أن الجسم لا يجوز أن يسبق الحوادث أنا نعلم باضطرار أنه متى كان موجودا فلا يخلو أن يكون متماس الأبعاض مجتمعا أو متباينا مفترقا لأنه ليس بين أن تكون أجزاؤه متماسة أو متباينة منزلة ثالثة فوجب ألا يصح أن يسبق الحوادث وما لم يسبق الحوادث فواجب كونه محدثا إذ كان لا بد أن يكون إنما وجد مع وجودها أو بعدها فأي الأمرين ثبت وجب به القضاء على حدوث الأجسام.

باب الكلام في إثبات الصانع

ولا بد لهذا العالم المحدث المصور من محدث مصور والدليل على ذلك أن الكتابة لا بد لها من كاتب ولا بد للصورة من مصور وللبناء من بان وأنا لا نشك في جهل من خبرنا بكتابة حصلت لا من كاتب وصياغة لا من صائغ فوجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها إذ كانت ألطف وأعجب صنعا من سائر ما يتعذر وجوده لا من صانع من الحركات والتصويرات. ويدل على ذلك علمنا بتقدم بعض الحوادث على بعض وتأخر بعضها عن بعض مع العلم بتجانسها ولا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدما لنفسه وجنسه لأنه لو تقدم لنفسه لوجب تقدم كل ما هو من جنسه وكذلك لو تأخر المتأخر منها لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم أولى منه بالتأخر وفي العلم بأن المتقدم من المتماثلات لم يكن بالتقدم أولى منه بالتأخر دليل على أن له مقدما قدمه وجعله في الوجود مقصورا على مشيئته. ويدل على ذلك أيضا علمنا بصحة قبول كل جسم من أجسام العالم لغير ما حصل عليه من التركيب وصحة كون المربع منها مدورا وكون المدور مربعا وكون ما هو بصورة بعض الحيوان بصورة غيره وانتقال كل جسم عن شكله إلى غيره من الأشكال فلا يجوز أن يكون ما اختص منها بشكل معين مخصوص إنما اختص به لنفسه أو لصحة قبوله له لأن ذلك لو كان كذلك لوجب قبوله لكل شكل يصح قبوله له في وقت واحد حتى يجتمع فيه جميع الأشكال المتضادة وفي فساد ذلك دليل على بطلان هذا القول ووجوب العلم بأن كل ذي شكل منها إنما حصل كذلك بمؤلف ألفه وقاصد قصد كونه كذلك.

باب في أن المحدث ليس فاعلا لنفسه

والدليل على أنه ليس بفاعل لنفسه أن منه الموات والأعراض التي لا يصح أن تحيا والفاعل لا يكون إلا حيا قادرا ولأن الحي منه كان مواتا في بدء أمره وجاهلا بنفسه وكيفية تركيبه ولن يجوز أن يصنع المحكمات إلا حي عالم قادر وليس يجوز أن يكون كل شيء منه فعل غيره لأن المخلوق لا يفعل في غيره شيئا وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله وأيضا فإنه لو صح أن يفعل المحدث غيره وما هو مثل له لصح أن يفعل نفسه إذ كانت بمعنى ما هو فعل له ومن جنسه ولما استحال ذلك بما قدمنا أولا صح أن لجميع العالم خالقا غيره ليس منه.

باب في أنه لا يجوز أن يكون صانع المحدثات مشبها لها

ولا يجوز أن يكون صانع المحدثات مشبها لها لأنه لو أشبهها لكان لا يخلو أن يشبهها في الجنس أو في الصورة ولو أشبهها في الجنس لكان محدثا كهي ولكانت قديمة كما أنه قديم لأن المشتبهين هما ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه ودليل ذلك أن السوادين المشتبهين يسدان في المنظر مسدا واحدا وكذلك البياضان والتأليفان ولو أشبهها في الصورة والتأليف لم يكن شيئا واحد ولوجب أن يكون له مصور جامع لأن الصورة لا تقع إلا من مصور لما قدمناه من قبل ولوجب أن يكون من جنس الجواهر المتماسة وأن يكون محدثا كهي وذلك محال.

باب في أنه لا يجوز أن يكون فاعل المحدثات محدثا

ولا يجوز أن يكون فاعل المحدثات محدثا بل يجب أن يكون قديما والدليل على ذلك أنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث لأن غيره من الحوادث إنما احتاج إلى محدث من حيث كان محدثا وكذلك القول في محدثه إن كان محدثا في وجوب حاجته إلى محدث آخر وذلك محال لأنه كان يستحيل وجود شيء من الحوادث إذا كان وجوده مشروطا بوجود لا غاية له من الحوادث شيئا قبل شيء وهذا هو الدليل على إبطال قول من زعم من أهل الدهر أن الحوادث لا أول لوجودها.

باب الكلام في أن صانع العالم واحد

وليس يجوز أن يكون صانع العالم اثنين ولا أكثر من ذلك والدليل على ذلك أن الاثنين يصح أن يختلفا ويوجد أحدهما ضد مراد الآخر فلو اختلفا وأراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته لوجب أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما لأنه محال أن يتم ما يريدان جميعا لتضاد مراديهما فوجب أن لا يتما أو يتم مراد أحدهما فيلحق من لم يتم مراده العجز أو لا يتم مرادهما فيلحقهما العجز والعجز من سمات الحدث والقديم الإله لا يجوز أن يكون عاجزا.

باب في أن صانع العالم حي

فإن قال قائل: فما الدليل على أن صانع الأشياء حي؛ قيل له: الدليل على ذلك أنه فاعل عالم قادر والفاعل العالم القادر لا يكون إلا حيا. يبين ذلك أنه لو جاز أن تظهر الأفعال المحكمات ممن ليس بحي ولا عالم ولا قادر لم ندر لعل ما يظهر من الناس من الكتابة والصياغة وسائر التصرف يظهر منهم وهم موتى جماد عجزه ولم نذر لعل السائل لنا عن هذا السؤال المناظر لنا على تصحيح مذهبه وإبطال قولنا ميت أو موات وهذا تجاهل من راكبه وجحد لما نحن إلى إثباته مضطرون فوجب أن يكون الصانع عالما قادرا حيا.

باب في أن الصانع عالم

فإن قال قائل: وما الدليل على صحة ما تذهبون إليه في أنه عالم؛ قيل له: يدل على ذلك وجود الأفعال المحكمات منه لأن الأفعال المحكمات لا تقع منا على ترتيب ونظام كالصياغة والتجارة والكتابة والنساجة إلا من عالم وأفعال الله تعالى أدق وأحكم فكانت أولى بأن تدل على أنه حي عالم.

باب في أن الصانع سميع بصير متكلم

فإن قال قائل: فما الدليل على أنه سميع بصير متكلم؛ قيل له: الدليل على ذلك أنه قد ثبت أنه حي بما وصفناه والحي يصح أن يكون متكلما سميعا بصيرا ومتى عري من هذه الأوصاف مع صحة وصفه بها فلا بد من أن يكون موصوفا بأضدادها من الخرس والسكوت والعمى والصمم وكل هذه الأمور آفات قد اتفق على أنها تدل على حدث الموصوف بها فلم يجز وصف القديم بشيء منها فوجب أن يكون سميعا بصيرا متكلما.

باب في أنه مريد

فإن قال قائل: فما الدليل على أنه مريد؛ قيل له: وجود الأفعال منه وتقدم بعضها على بعض في الوجود وتأخر بعضها عن بعض في الوجود فلولا أنه قصد إلى إيجاد ما أوجد منها لما وجد ولا تقدم من ذلك ما تقدم ولا تأخر منه ما تأخر مع صحة تقدمه بدلا من تأخره وتأخره بدلا من تقدمه.

باب في الرضا والغضب وأنهما من الإرادة

فإن قال قائل: فهل تقولون إنه تعالى غضبان راض وإنه موصوف بذلك؛ قيل له: أجل وغضبه على من غضب عليه ورضاه عمن رضي عنه هما إرادته لإثابة المرضي عنه وعقوبة المغضوب عليه لا غير ذلك. فإن قال قائل: فما الدليل على أن غضب الباري جل وعز ورضاه ورحمته وسخطه هو إرادته لإثابة المرضي عنه ولمنفعة من رضي عنه وعقاب من غضب عليه وإيلامه وضرره قيل له: الدليل على ذلك أن الغضب والرضا إما أن يكونا إرادة للنفع والضر أو يكون الغضب تغير الطبع ونفور النفس والرضى السكون بعد تغير الطبع ولا يجوز أن يكون الباري جل وعز ذا طبع يتغير وينفر ويسكن ولا ممن يألم ويرق من حيث ثبت قدمه وغناه عن اللذة وامتناع تألمه بشيء ينفر عنه ويتألم لإدراكه إذ ليست هذه الأشياء من جنسه وشكله أو مضادة له أو منافرة لصفاته لما قام من الدليل على أنه ليس بذي جنس ولا نوع ولا شكل ولا ملتذ ولا متألم ولا منتفع ولا مستضر فثبت بذلك أن رضاه وغضبه وسخطه إنما هي إرادته وقصده إلى نفع من المعلوم أنه ينفعه وضرر من سبق علمه وخبره أنه يضره لا غير ذلك وكذلك الحب والبغض والولاية والعداوة هو نفس الإرادة للنفع والأضرار فقط.

مسألة في أنه لا يجوز عليه الشهوة

فإن قال قائل: فهل تجوز عليه الشهوة؛ قيل له: إن أراد السائل بوصفه بالشهوة الإرادة لأفعاله فذلك صحيح في المعنى غير أنه قد أخطأ وخالف الأمة في وصفه القديم بالشهوة إذ لم يكن ذلك من أوصافه وأسمائه وإن أراد بوصفه بالشهوة توقان النفس وميل الطبع إلى المنافع واللذات فذلك محال ممتنع عليه لما قد مر من قبل.

باب في أنه لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما مريدا

فإن قال قائل: ولم زعمتم أن الصانع لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما مريدا كما أنه اليوم موصوف بذلك؛ قيل له: لأنه لو كان فيما لم يزل غير حي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ولا مريد لكان لم يزل ميتا عاجزا أخرس ساكتا فتعالى عن ذلك. ولو كان لم يزل موصوفا بالموت الذي يضاد الحياة والعلم والقدرة لكان إنما يوصف بذلك لنفسه أو لعلة قديمة ولو كان لنفسه كذلك لاستحال أن يحيا ما دامت نفسه كائنة وكذلك لو كان على ما ذكرالسائل لعلة قديمة لاستحال أن يحيا اليوم لاستحالة عدم موته القديم لأن القديم لا يجوز عدمه وإذا استحال ذلك استحال أن يفعل ويوجد منه ما يدل على أنه اليوم حي قادر وفي صحة ذلك منه ووجوده دليل على أنه لم يزل حيا وكذلك لو كان لم يزل حيا وهو غير متكلم ولا سميع ولا بصير ولا مريد ولا عالم ولا قادر لوجب أن يوصف بأضداد هذه الصفات في أزله من الخرس والسكوت والصمم والعمى والاستكراه والسهو والجهل والعجز فتعالى عن ذلك أجمع. ولو كان لم يزل موصوفا بهذه الأوصاف لنفسه أو لمعنى قديم لاستحال خروجه عنها ووصفه بضدها لاستحالة عدم القديم ولوجب أن يكون في وقتنا هذا غير حي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير وذلك خلاف إجماع المسلمين.

باب في أن القديم لا يجوز عليه العدم

فإن قال قائل: ولم قلتم إن القديم لا يجوز أن يعدم؛ قيل له: لأجل أنه لو عدم لصح وجوده بعد عدمه على سبيل الحدوث كما أنه قد صح له الوجود من قبل فلو حدث لكان محدثا لنفسه قديما لنفسه إذ لنفسه كان قديما ونفسه قد وجدت لما حدثت وهي تلك النفس بعينها ومحال أن يكون القديم قديما لنفسه محدثا لنفسه كما يستحيل أن يكون السواد سوادا لنفسه بياضا لنفسه. ويدل على ذلك أيضا أنه لو جاز عدم القديم بعد وجوده لوجب أن تكون ذاته مما يصح عليها العدم تارة والوجود أخرى ولو كانت كذلك لجرت مجرى سائر الذوات المحدثات التي يجوز عليها العدم تارة والوجود أخرى ولو كانت كذلك لاحتاجت إلى موجد يوجدها كما أن الحوادث التي هذه سبيلها لا تكون بالوجود أولى منها بالعدم إلا عند قصد قاصد وإرادة مريد تكون موجودة بإرادته ومتعلقة بمشيئته. فلما لم يجز تعلق القديم بمحدث لم يجز عليه العدم بعد وجوده.

باب في أن صنع الله للعالم ليس لغرض

فإن قال قائل: فهل تقولون إن صانع العالم صنعه بعد أن لم يصنعه لداع دعاه إلى فعله ومحرك حركه وباعث بعثه وغرض أزعجه وخاطر اقتضى وجود الحوادث منه أم صنعه لا لشيء مما سألت عنه؛ قيل: إنه تعالى صنع العالم لا لشيء مما سألت عنه فإن قيل وما الدليل على ذلك قيل الدليل عليه أن الدواعي المزعجات والخواطر والأغراض إنما تكون وتجوز على ذي الحاجة الذي يصح منه اجتلاب المنافع ودفع المضار وذلك أمر لا يجوز إلا على من جازت عليه الآلام واللذات وميل الطبع والنفور وكل ذلك دليل على حدث من وصف به وحاجته إليه وهو منتف عن القديم تعالى وكذلك الأسباب المزعجة المحركة الباعثة على الأفعال إنما تحرك الغافل وتنبه الجاهل وتخطر للخائف والراجي الذي يخاف الاستضرار بترك الأفعال ويرجو بإيقاعها الصلاح والانتفاع والله يتعالى عن ذلك لأنه عالم بما يكون قبل أن يكون وبما تؤول إليه عواقب الأمور ويعلم السر وأخفى ولا يجوز على من هذه صفته خطور الأمر بباله كالذي لم يكن عالما به ولا أن تبعثه الدواعي والبواعث على أفعاله وذلك إنا إذا قلنا لفاعلنا ما الذي دعاك إلى الفعل وحركك على إيقاعه وما الغرض في دون غيره وفي فعله دون تركه والانصراف عنه فإنما نأله ليخبرنا أقصد بذلك اجتلاب منفعة أو دفع مضرة أم لا فإن قال فعله لا لاجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة مع علمه بوقوعه وجب القضاء على تسفيهه لأنه ممن يحتاج إلى جر المنافع ودفع المضار وهو مأمور بذلك وإيقاعه الفعل عاريا من القصد إلى ذلك والتصدي له سفه وخلاف لما وجب عليه والقديم تعالى ليس بذي حاجة ولا ممن يلزمه الانقياد والطاعة فلم يجز أن يقاس على فاعلنا.

مسألة في أن القديم لم يفعل العالم لعلة

فإن قال قائل: فهل تقولون إن القديم فعل العالم لعلة أوجبت حدوثه منه؛ قيل له: لا لأن العلل لا تجوز عليه لأنها مقصورة على جر المنافع ودفع المضار ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان تعالى فاعلا للعالم لعلة أوجبته لم تخل تلك العلة من أن تكون قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته وألا يكون بين العلة القديمة وبين وجود العالم إلا مقدار زمان الإيجاد وذلك يوجب حدوث القديم لأن ما لم يكن قبل المحدث إلا بزمان أو أزمنه محدودة وجب حدوثه لأن فائدة توقيت وجود الشيء هو أنه كان معدوما قبل تلك الحال فلما لم يجز حدوث القديم لم يجز أن يكون العالم محدثا لعلة قديمة وإن كانت تلك العلة محدثة فلا يخلو محدثها أن يكون أحدثها لعلة أو لا لعلة فإن كانت محدثة لعلة وعلتها أيضا محدثة وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى وكذلك أبدا إلى غير غاية وذلك يحيل وجود العالم جملة لتعلقه بما يستحيل فعله وخروجه إلى الوجود وإن كانت العلة والخاطر والداعي والباعث والمحرك محدثة لا لعلة وكانت بالوجود لما وجدت من فاعلها أولى منها بالعدم لا لعلة. وكان فاعلها حكيما غير سفيه جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة وكان حكيما غير سفيه ولم يكن خروجه عن السفه بإحداث محدث واحد لا لعلة أولى من خروجه عنه بإحداث جميع الحوادث لا لعلة وهذا يبطل ما توهموه إبطالا ظاهرا.

مسألة في علة الفعل الصادر عن الفاعل الحكيم

فإن قال قائل: فهل وجدتم فاعلا حكيما يفعل الفعل لا لعلة مع العلم والذكر؛ قيل له: لا إذا صح أن يوقعه على وجه يصح انتفاعه به أو دفع الضر عنه فإن قال فيجب حمل أمر القديم في فعله على حال فاعلنا قيل له: لا يجب ذلك لافتراقهما في علة جواز النفع والضرر عليهما وقد مر ذلك بما يغني عن رده. ويقال لهم: لو لم يصح القضاء إلا بما شوهد ووجد لوجب إحالة ما تذهبون إليه من إثبات حوادث لا أول لها وإحالة القضاء على قدم الجسم وأنه لا أول لوجوده وإحالة قول من قال منكم بأن الهيولي والطينة قد كانت خلت من الكمية والصورة والكيفية وجميع الأعراض وإحالة قول من قال إن الطبائع الأربع قد كانت غير مركبة في الأجسام وقول من قال إن النور والظلام قد كانا في القدم خالصين غير ممتزجين لأن ذلك أجمع مما لم ير ولم يشاهد ولوجب على من نشأ في بلاد الزنج ولم يشاهد فيها إنسانا إلا أسود ولا ماء إلا عذبا ولا زرعا إلا أخضر أن يقضى على أنه لا إنسان ولا ماء ولا زرع إلا على صفة ما وجد وشاهد حتى ينفي وجود الروم والصقالبة وماء البحار والأحمر والأصفر من النبات فلما لم يجب ذلك أجمع وكان القضاء بذلك قضاء بالجهل بطل التعلق بمجرد الشاهد والوجود وزال جميع ما يسألون عنه من هذا الجنس.

باب الكلام على القائلين بفعل الطباع

فإن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون صانع العالم طبيعة من الطبائع وجب حدوث العالم عن وجودها؛ قيل له: أنكرنا ذلك لأن هذه الطبيعة لا تخلو أن تكون معنى موجودا أو معدوما ليس بشيء. فإن كانت معدومة ليست بشيء لم يجز أن تفعل شيئا أو أن يكون عنها شيء أو ينسب إليها شيء لأنه لو جاز ذلك جاز وجود الحوادث من كل معدوم وعن كل معدوم لأن ما يقع عليه هذا الاسم فليس بذات ولا يختص ببعض الأحكام والصفات فلو كان منه ما يحدث الأفعال أو تجب عنه لصح ذلك من كل معدوم وذلك باطل باتفاق. وإن كانت الطبيعة التي نسب إليها السائل حدوث العلم وعلقه بها معنى موجودا لم تخل تلك الطبيعة الموجبة عندهم لحدوث العالم من أن تكون قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة وجب أن تكون الحوادث الكائنة عنها قديمة لأن الطبيعة لم تزل موجودة ولا مانع من وجود الحوادث الموجبة عنها فيجب وجودها مع الطبيعة في القدم كما يجب اعتماد الحجر مع وجود طبعه وإحراق النار وانحلال الطبع والإسكار مع وجود طبع النار والسقمونيا والشراب إذا لم يمنع من ذلك مانع فكذلك يجب وجود العالم في القدم وإن كان محدثا مع وجود الطبع الكائن عنه عندهم. إذا لم يمنع من ذلك مانع وفي إطباقنا وإياهم على استحالة قدم الحوادث دليل على أنها لا يجوز أن تكون حادثة عن طبيعة قديمة. فإن قالوا: هذا يلزمكم في قولكم إن صانع العالم لم يزل قادرا على إيجاده لأن قدرته على الإيجاد قديمة؛ قلنا: لا يجب ذلك من وجهين: أحدهما أننا نحن لا نزعم أن القديم سبحانه قادر بقدرة في الأزل على أن تكون الأفعال مع القدرة وإنما تقول إنه قادر على أن يستأنف الأفعال وعلى أن يحدثها في زمان قد كانت قبله معدومة ومحال أن تكون قدرة على ما لم يكن معدوما قبل وجوده فلم يجب قدم الأفعال لقدم القدرة عليها، والأمر الآخر أننا نحن لا نزعم أن قدرة القديم سبحانه علة للأفعال ولا موجبة لها حسب ما تقولونه أنتم في إيجاب الطبع لحدث عنه وكونه علة له ووجوب كونه عنه ولا نحيل أن توجد قدرة القديم في الأزل وهو غير فاعل بها وإن كانت على صفة ما يصح أن يفعل بها وكان هو تعالى على صفة من يصح أن يفعل بها وكان المعدوم المقدور مما يصح أن يخرج إلى الوجود ولا مانع يمنع من خروجه لأن قدرته ليست بعلة ولا سبب لمقدوره ولا موجبة له وأنتم تزعمون أن الطبع الكائن عنه العالم وكل طبع كان منه أمر من الأمور موجب لما يحدث عنه ومقتض له إذا لم يمنع من ذلك مانع فبان الفرق بين قولنا وقولكم. وكذلك الجواب إن ألزموا هذا الإلزام في إرادة الله تعالى للأفعال وإن كانت قديمة عندنا لأنها على قولنا إرادة لكون الفعل على التراخي ولأنها ليست علة لوجود المراد. فإن قالوا إن هذا الطبع القديم هو شيء حي عالم قادر ليس بموجب للفعل ولا علة له بل يفعل بالقدرة والاختيار أقروا بالحق وصانع العالم الذي نثبته وإن خالفونا في تسميته طبعا وكان هذا عندنا محظورا بالشرع. وإن كان الطبع المحدث للعالم محدثا فلا يخلو أن يكون حادثا عن طبع أولا عن طبع فإن كان حادثا عن طبع أوجبه وجب أيضا أن تكون تلك الطبيعة كائنة حادثة عن طبيعة أخرى أوجبتها وكذلك القول في طبع الطبع أبدا إلى غير غاية وهذا يحيل وجود العالم لأنه متعلق بوجود ما لا غاية له وقد ثبت استحالة خروج ما لا غاية له إلى الوجود كما ثبتت استحالة اجتماع الحركة عن المكان والسكون في المحل الواحد معا فكما تجب استحالة وجود العالم وحدوثه لو علق باجتماع الحركة عن المكان والسكون فيه أيضا معا فلذلك أيضا تجب استحالة وجوده وحدوثه إذا علق بوجود طبائع هي حوادث لا غاية لها وفي صحة وجود العالم وحدوثه دليل على فساد هذا القول. وإن كانت الطبيعة الموجبة لحدوث العالم حادثة لا عن طبيعة أوجبتها جاز أيضا حدوث العالم لا عن طبيعة أوجبته وحدوث الإسكار والإحراق والتبريد والتسخين وسائر الحوادث لا عن طبيعة كما أنه لو جاز حدوث محدث واحد لا من محدث لجاز حدوث سائر الحوادث لا من محدث وهذا يبطل قولهم بإثبات طبيعة حدث العالم عنها. وعلى أن هذه الطبيعة إن كانت محدثة فلا تخلو أن يكون أحدثها محدث أولا فإن كانت حادثة عن محدث فلا تخلو أن يكون أحدثها محدثها بطبع أو بغير طبع فإن كان أحدثها بطبع وكان طبعه أيضا محدثا وجب أن يكون لطبعه محدث ولمحدثه طبع محدث له محدث أبدا إلى غير غاية وذلك محال وإن كان محدث الطبيعة أحدثها بغير طبع جاز حدوث العالم أيضا من محدث ليس بذي طبع وبطل إثبات الطبع وإن كان محدث الطبيعة التي حدث العالم عنها قديما وكان طبعه قديما وجب قدم الطبيعة وقدم العالم الكائن عنها على ما بيناه من قبل هذا وهذا ظاهر في أنه لا يجوز أن يكون العالم حادثا عن طبع من الطبائع. أما قول من قال إن العالم بأسره مركب من الطبائع الأربع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فإنه باطل من وجوه أحدها أن هذه الطبائع أعراض محدثة متضادة على الأجسام لأنه محال اجتماع الحرارة مع البرودة في محل واحد فيجب حدوث الحرارة بعد بطلان البرودة وكذلك الرطوبة بعد اليبوسة فهذه الطبائع جارية مجرى الحركة والسكون والسواد والبياض وسائر الأعراض المتضادة فيجب حدثها واستحالة كونها قديمه أو بعضا لكلية حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة قديمة أزلية لأن المحدث لا يجوز أن يكون بعضا للقديم كما لا يجوز أن تكون جزئيات الحركة والسكون منفصلات عن كليات قديمة فوجب القضاء على حدوث هذه الطبائع وأنها حادثة من غير طبائع فكذلك جائز حدث سائر العالم عن غير طبيعة. وعلى أنا قد بينا أن هذه الأجناس أعراض وبينا أن الأعراض لا يجوز أن تفعل شيئا لأن الفاعل لا يكون إلا حيا عالما قادرا قاصدا إذا كان فعله محكما فلم يجز أن تكون هذه الطبائع فاعله للعالم. ومما يدل على أستحالة قدم هذه الطبائع أنها لو كانت قديمة وكان العالم حادثا عنها لوجب قدمه مع قدمها على ما بيناه من قبل إذ لا مانع يمنع من كونه معها. فإن قالوا كذلك نقول قيل لهم: فإذا كان الطبع قديما أزليا وكان الكائن عنه قديما أزليا فلم كان أحدهما بأن يكون موجبا للآخر وسببا له أولى من أن يكون المسبب سببا وعلة فلا يجدون في ذلك متعلقا. وإن قالوا العالم محدث التركيب والتصوير عن اجتماع هذه الطبائع واختلاطها دون وجود ذواتها قيل لهم: فخبرونا عن اختلاط هذه الطبائع وامتزاجها أهو هي أم معنى سواها فإن قالوا هو هي قيل لهم: فهي قديمة الأعيان فيجب قدم تركيب العالم وتصويره لقدم الاختلاط وإن قالوا معنى سواها قيل أقديم هو أم محدث فإن قالوا قديم قيل لهم: فيجب قدم التصوير والتركيب لقدم الاختلاط الموجب لذلك وإن قالوا محدث قيل لهم: أفمن طبع حدث أو من غير طبع فإن قالوا من طبع غير الطبائع الأربع أقروا بطبع خامس وتركوا قولهم وإن قالوا بغير طبع قيل لهم: فما أنكرتم من جواز حدوث تركيب العالم وسائر الأشكال بغير طبع فلا يجدون من ذلك مخرجا. ويقال لهم: كيف اجتمعت هذه الطبائع الأربع وتركبت في الأجسام وهي لم تزل متنافرة متباينة حيز كل واحد في القدم غير حيز صاحبه وطبع كل شيء منها البعد عن صاحبه والنفور عنه وهل يجوز أن يجتمع شيئان أحدهما ثقيل يهوى وينزل بطبعه والآخر خفيف متصاعد بطبعه من غير جامع يجمعهما وقامع يقمعهما على الاجتماع لأن ما هذا سبيله متى لم يقهر على الاجتماع لم يزدد من الاجتماع والتقارب إلا بعدا فإن قالوا ها هنا صانع أو طبيعة قهرت هذه الطبائع على الاختلاط والاجتماع بعد التنافر والتباعد والتضاد تركوا قولهم وأثبتوا طبعا خامسا وصانعا غيرها وإن أجازوا ذلك بغير صانع ألزموا اجتماع الخفيف والثقيل والمنحدر والمتصاعد بغير سبب ولا جامع بل بسجيتهما وسوم أنفسهما ولا فصل في ذلك. وأما اعتلالهم بأنهم لم يجدوا جسما يخلو من هذه الطبائع الأربع فوجب أن تكون الأجسام مركبة منها فإنه يوجب عليهم أن تكون الأجسام مركبة من النور والظلام والألوان والطعوم والراوئح والحركات والسكنات وسائر ما لا تنفك منه الأجسام وفي بطلان ذلك دليل على بطلان ما قالوا ومما يدل أيضا على فساد ما يذهبون إليه من إثبات فعل الطبائع أنه لو كان الإسكار والإحراق والتبريد والتسخين والشبع والري وغير ذلك من الأمور الحادثة واقعة عن طبيعة من الطبائع لكان ذلك الطبع لا يخلو من أن يكون هو نفس الجسم المطبوع أو معنى سواه فإن كان هو نفس الجسم وجب أن يكون تناول سائر الأجسام يوجب حدوث الإسكار والشبع والري ومجاورة كل جسم يوجب التبريد والتسخين لقيام الدليل على أن الأجسام كلها من جنس واحد وقد علم أن الشيء إذا أوجب أمرا ما وأثر تأثيرا ما وجب أن يكون ما هو مثله وما جانسه موجبا لمثل حكمه وتأثيره كالسوادين الموجودين بالمحل والحركتين في الجهة الواحدة وما جرى مجراها من الأجناس وفي العلم باختلاف ما يحدث عند تناول هذه الأجسام دليل على أنه لا يجوز أن يكون الموجب لشيء منه بعض الأجسام الذي هو مجانس لسائرها وأن الشبع والري والإسكار لو وجبت عن تناول الطعام والشراب لوجب حدوث ذلك عند تناول الحصى والتراب والفث والحنظل وأن يحدث الري والإسكار عند شرب الخل والبلسان وسائر المائعات والجامدات أيضا لأنها من جنس الطعام والشراب. وإن كان ذلك الطبع الذي يومئون إليه عرضا من الأعراض فسد إثباته فاعلا من وجوه. أحدها أن الأعراض لا يجوز أن تكون فاعلة كما لا يجوز أن تفعل الأفعال الألوان والأكوان وغيرهما من أجناس الأعراض وكما لا يجوز أن يصنع دقائق المحكمات من الصياغة والنساجة والكتابة شيء من الأعراض ولا الميت ولا الجماد. وعلى أنه لو جاز وقوع هذه الأفعال من الشبع والري والإسكار والصحة والإسقام من الأعراض لجاز وقوعها من الموات ولو جاز ذلك لجاز أن نفعل نحن جميع ذلك لأننا قادرون عالمون مريدون فوقوع هذه الأفعال من الحي العالم القادر أقرب في عقل كل عاقل من وقوعها من الأعراض والموات وفي تعذر ذلك علينا دليل على أنه أشد تعذرا على من قصر عن صفتنا. ولأن هذه الأمور لو كانت حادثة عن طبائع هي أعراض موجودة بهذه الأجسام المطبوعة نحو النار والطعام والشراب لم تخل تلك الأعراض من أن تكون موجودة بالأجسام عن طبيعة أو غير طبيعة فإن كانت موجودة بها عن طبيعة أخرى وجب تعلق ذلك بما لا غاية له كما بيناه من قبل وإن كانت موجودة عن غير طبيعة جاز أن تحتمل أيضا الأجسام وجود الإسكار والشبع والري عن غير طبيعة توجب ذلك وهذا يبطل إثبات الطباع إبطالا ظاهرا. ويقال لهم أيضا: خبرونا عن هذه الطبائع من أي أجناس الأعراض هي ومن أي قبيل هي فلا يجدون إلى ذكر شيء سبيلا. ومما يدل على فساد فعل الطباع أيضا أنه لو جاز وقوع بعض الحوادث من الشبع والري والصحة والسقم واللذة والألم من طبع ليس بحي ولا قادر ولا قاصد لجاز وقوع الإرادة والنظر والكتابة ودقائق الصياغة والنجارة من طبع وعن طبع ليس بحي ولا قادر ولا عالم كما أنه لو جاز استغناء بعض الحوادث عن محدث لجاز غنى سائرها عن ذلك فلما كان جهة تعلق الإرادة بفاعل حي قادر هي كونها فعلا حادثا دون كونها إرادة ثبت أن سائر الحوادث المشاركة للإرادة في وصف الحدوث محتاجة إلى ما تحتاج إليه الإرادة من فاعل حي قادر ومما يدل أيضا على إبطال قولهم بفعل الطبائع علمنا بوجوب وجود كل معلول بعلة كلما وجدت وتكررت وكلما وجد مثلها ووجوب كثرة المسببات عند كثرة أسبابها على قول من أثبت السبب والمسبب. ألا ترى إلى وجوب كون العالم عالما بالشيء والمريد مريدا له كلما تكررت له الإرادة والعلم له وجد به أمثالها في كل وقت زمان ولم يجز أن توجد به علة الحكم في بعض الأماكن والأزمان ولا يوجد الحكم وكذلك يجب عند القائلين بتولد الألم عن الضرب وذهاب الجسم عند الدفعة أن يكثرا عند كثرة أسبابهما ويشتدا عند كثرة الضرب والاعتماد والدفع. وكذلك يجب لو كان الإسكار والشبع والري ونماء الزرع حادثا عن طبع الشراب والطعام والسقي والتسميد وحمى الشمس لوجب أن تزداد هذه الأمور ما كانت الأجسام محتملة لها عند وجود أمثال ما أوجب ذلك وتناوله فكان يجب أن يزيد الزرع وينمي وإن بلغ حد النهاية في مستقر العادة إذا أديم سقيه وأكثر تسميده وإظهاره للشمس حتى يزيد أبدا وينمي وأن توجب له هذه الأمور الزيادة في غير إبان الزرع وحينه كما توجب ذلك في وقت عادة خروجه وفي علمنا أن السقي والتسميد يعود بتلفه إذا بلغ مقدارا ما وأنه لا يوجب له في ذلك غير حين نمائه دليل على سقوط ما قالوه وكذلك فلو أن الإنسان أكل وشرب فوق شبعه لم يحدث له أبدا من الشبع والري ما يحدث عند الحاجة إلى تناول الطعام والشراب بل يصير ذلك ضررا وألما وإذا كان هذا هكذا وجب بطلان ما قالوه وفسد أن تكون الطبائع التي في هذه الأشياء بزعمهم موجبة لهذه الأمور لا على أحد إيجاب العلة للحكم ولا على سبيل ما تولد عن سبب يوجبه على مذهب أصحاب التولد. وقد ثبت أيضا بما قدمناه أنه لا يجوز أن تكون الأعراض فاعلة للأفعال فبطل ما يثبتونه من فعل الطبائع أو إيجابها لهذه الحوادث. فأما ما يهذون به كثيرا من أنهم يعلمون حسا واضطرارا أن الإحراق والإسكار الحادثين واقعان عن حرارة النار وشدة الشراب فإنه جهل عظيم وذلك أن الذي نشاهده ونحسه إنما هو تغير حال الجسم عند تناول الشراب ومجاورة النار وكونه سكران ومحترقا ومتغيرا عما كان عليه فقط فأما العلم بأن هذه الحالة الحادثة المتجددة من فعل من هي فإنه غير مشاهد بل مدرك بدقيق الفحص والبحث. فمن قائل إنه من قديم مخترع قادر وهو الحق الذي نذهب إليه ومن قائل يقول إنه من فعل الإنسان الذي جاور النار وتناول الشراب ومتولد عن فعله الذي هو سبب الإحراق والإسكار ومن قائل يقول إنه فعل الطبع في الجسم ولا أدري أهو نفس الجسم المطبوع أم معنى فيه ومن قائل يقول إن الطبع عرض من الأعراض. فكيف يدرك حقيقة ما قد اختلف فيه هذا الضرب من الاختلاف بالمشاهدة ودرك الحواس ولو جاز لزاعم أن يزعم أنه يعلم صحة فعل الطبع في الجسم لما حدث من هذه الأمور اضطروا لجاز لنا أن ندعي أنا نعلم كذب مدعي ذلك اضطرارا وأنه هو مضطر إلى ذلك وهذا مما لا حيلة لهم في الخلاص منه وقد ثبت أن ما يعلم بالضرورة ودرك الحواس لا يجوز أن يجتمع على جحده وإنكاره قوم بهم تثبت الحجة وينقطع العذر كما لا يجوز مثل ذلك في جحد وجودنا السماء فوقنا والأرض تحتنا وسماع كلام السائل لنا في هذا الباب وفي جحد أكثر العالم والأمم لفعل الطباع والعلم بهذه الطبائع أصلا دليل على جهل مدعي هذه الدعوى. وعلى أن كثيرا من المتكلمين ينكر العلم بوجود حوادث هي إحراق وإسكار من جهة الإضطرار فكيف يعلم حدوثها من محدث بعينه وعن شيء بعينه اضطرار وكثير من الناس يجهلون وجود هذه الأعراض وأعيانها فكيف يضطرون مع ذلك إلى العلم بفاعلها وعلى أن سائر المتكلمين وأهل التحصيل قد أطبقوا على أن حدوث الشيء وكونه عن عدم لا يعلم اضطرارا فكيف يعلم ممن حدث وعن أي شيء حدث اضطرارا والعلم بحدث الشيء وما حدث عنه فرع للعلم بأنه محدث فإذا لم يعلمه محدثا اضطرارا ولم يشاهده معدوما قبل وجوده وموجودا بعد عدمه فكيف يضطر إلى العلم بمحدثه لولا الغفلة والذهاب عن التحصيل. ويقال لهم في هذا أيضا: لو قال لكم قائل من المعتزلة القائلين بالتولد إنني أعلم حدوث الألم وذهاب السهم والحجر متولدين عن الرمي والدفع والاعتماد وكذلك الكسر والقطع وتأليف الأجسام عند حركات البنائين واعتمادهم وإنني أشاهده وأحسه اضطرارا هل كان في دعواه ذلك إلا بمنزلتكم في إدعاء فعل الطباع لأنه يقول وجدت هذه الأمور تحدث عند الرمي والاعتماد والضرب والرجم والصكة وأحس ذلك فيتعلق في ذلك بمثل ما به تعلقتم فإن سوغوه ذلك صاروا إلى إثبات التولد وتركوا القول بفعل الطباع وإن امتنعوا منه لم يجدوا إلى الفصل سبيلا. وتعارض المعتزلة في القول بتولد هذه الأمور عن الصكة والضرب والرمية بقول المثبتين للطباع فلا يجدون في ذلك فص4. وإن قال أصحاب الطبائع قد توجد هذه الحركات والاعتمادات أحيانا غير متولدة لما ادعته المعتزلة فبطل أن تكون متولدة في حال من الأحوال. يقال لهم: وكذلك قد يوجد تناول الشراب ومجاورة النار أحيانا مع عدم الإحراق والإسكار فبطل أن يكون الإحراق واجبا عن فعل الطباع. فإن قالوا إنما تفعل طباع الأغذية والأدوية مع عدم المانع لها قيل وكذلك إنما تتولد هذه الأسباب مع عدم الموانع من مسبباتها ولا فصل في ذلك. فأما قول كثير من هؤلاء إن للفلك طبيعة خامسة ليست بحرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة فإنه أيضا قول باطل لا حجة عليه فيقال لهم: لم قلتم ذلك وما دليلكم عليه فإن قالوا لأنا وجدنا الفلك يتحرك حركة دورية أبدا سرمدا ولا يصح أن يتحرك في جهات العالم الست ولا أن يقف ويسكن بدلا من الحركة فوجب أن تكون له طبيعة خامسة لأن الدال على طبائع الأجسام حركاتها في جهة العلو والسفل فيقال لهم: لم قلتم هذا وما الحجة فيه وما يدريكم أن الفلك لا يجوز أن يسكن يوما ما ولا أن يتحرك حركة مستقيمة في إحدى الجهات الست وإن كنتم لم تجدوا ذلك قط فإن قالوا لأن ذلك لو جاز لجاز أن يتحرك الماء والأرض سوم أنفسهما إلى فوق وأن تتحرك النار سوم نفسها إلى أسفل قيل لهم: ما أنكرتم من جواز ذلك إن كان ها هنا متحرك يتحرك سوم نفسه بغير متحرك يحركه وما في وجودكم لتعذر هذا اليوم ما يدل على استحالته. ثم يقال لهم: ما الدليل أولا على أن ها هنا متحركا يتحرك سوم نفسه بغير محرك يحركه ويخترع فيه الحركة أو من غير أن يكون قادرا على تحريك نفسه ومختارا لذلك فلا يجدون إلى تصحيح ذلك سبيلا. ثم يقال لهم: فيجب على اعتلالكم هذا استواء طبع الهواء والنار والماء والأرض لأن النار والهواء يتحركان أبدا صعدا سوم أنفسهما ولا يتحركان في غير هذه الجهة فيجب استواء طبعهما لاستواء حركتيهما إن كان اختلاف الحركات دالا على اختلاف الطباع وكذلك يجب اتفاق طبع الماء والأرض لاتفاق حركتيهما إلى جهة السفل وهذا ترك لقولهم إن الماء رطب والأرض يابسة والهواء رطب والنار يابسة فإن قالوا الأرض أقرب حركة من المركز من الماء فوجب اختلاف طبعيهما قيل لهم: فوجب مخالفة طبع الصفحة التي نحن عليها من الأرض لطبع الصفحة التي تلي المركز لأن ذلك أقرب حركة إلى المركز وكذلك القول في تركيب الصفحات وهذا ترك قولهم. ويقال لهم: ويجب على اعتلالكم هذا أن تقضوا على اتفاق طبع كلية الماء والأرض والنار والهواء لأن من طبع كليات هذه الأشياء الوقوف في عالمها الذي هو موضع مركزها وأن لا تتحرك عنه فإن صاروا إلى ذلك تركوا قولهم وإن قالوا اتفاق كليات هذه الأشياء في السكون في مراكزها ومواضع كلياتها لا يدل على اتفاق طبعها قيل لهم: وكذلك اختلاف حركات جزيئاتها الموجودة في عالمنا لا يدل على اختلاف طباعها ولا فصل في ذلك. ويقال لهم أيضا: يجب على موضوعكم هذا أن يكون طبع جزئيات هذه الأشياء مخالفا لكلياتها وأن تكون طباعها خلاف طباع كلياتها وذلك أن من شأن هذه الجزئيات الموجودة في عالمنا الحركة ومن شأن كلياتها السكون والوقوف فيجب لذلك اختلاف طباع الجزئيات والكليات فإن مروا على ذلك تركوا قولهم وإن أبوه قيل له: فما أنكرتم أيضا من اتفاق طبع الفلك والنار والهواء والماء والأرض وإن اختلفت حركات هذه الأمور فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا.

باب الكلام على المنجمين

إن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون صانع هذا العالم ومصوره ومدبره ونافعه وضاره ومبتليه الأفلاك السبعة التي هي الطوالع الشمس والقمر وزحل والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد؛ قيل له: أنكرنا ذلك لعلمنا بحدوث هذه النجوم وأنها جارية مجرى سائر أجسام العالم وذلك أنه قد جاز عليها من الحد والنهاية والتأليف والحركة والسكون والانتقال من حال إلى حال ما يجوز على سائر أجسام العالم فلو جاز أن تكون قديمة مع ما وصفنا لجاز قدم سائر الأجسام. والدليل على حدوث هذه الأفلاك علمنا بأن الشمس تكون في برج الحمل ثم تنتقل إلى برج الثور ثم إلى غيرها من البروج وقد علمنا أنها لا تجوز أن تكون كائنة في برج الحمل ومتحركة إليه لعينها ونفسها لأن ذلك لو كان كذلك لم تعلم نفسها إلا وهي كائنة في برج الحمل ولوجب أن تكون لم تزل كائنة فيه لعينها ولا تزال كذلك وأن يستحيل خروجها عنه وانتقالها منه إذ كانت كائنة فيه لعينها كما أنها إذا كانت قديمة لعينها وجوهرا لعينها استحال خروجها من القدم والجوهرية وفي علمنا لخروجها من كل برج إلى غيره وأن كونها فيه مضاد لكونها في غيره دليل أنه لا يجوز أن يكون كونها في هذه البروج قديما لأن ذلك لو كان كذلك لوجب أن تكون في برج الحمل في حال كونها في برج الثور ولم تكن بأن تكون في أحد المكانين بأولى من أن تكون في الآخر إذا كان كونها فيهما قديما لم يزل موجودا ولا يزال كذلك موجودا وإذا لم يجز ذلك ثبت حدوث حركات هذه الأفلاك وأكوانها وثبت بذلك حدوثها لأنها عندنا وعندهم لم توجد قط منفكة من هذه الأكوان وما لم يسبق الحوادث فواجب كونه محدثا وقد أفسدنا من قبل قول من زعم أن الحوادث لا أول لها بما يغني عن رده فوجب القضاء على حدوث هذه الأجسام وقد قام الدليل على أن الجسم المحدث لا يصح أن يفعل في غيره وأنه لا توجد أفعاله إلا في نفسه فلم يجز أن تكون هذه الآثار الأرضية من فعل الأفلاك إذ ليست هذه الأفعال موجودة بذواتها. وعلى أن هذه الأفلاك إذا ثبت حدثها بما وصفناه فلا تخلو من أن يكون لها محدث مدبر أو لا محدث لها ولا مدبر فإن لم يكن لها محدث جاز وقوع الآثار الأرضية والعلوية وسائر الحوادث من غير محدث هو فلك أو غيره وإن كان لها محدث فلا يخلو أن يكون أحدثها بالطبع أو بالقدرة والاختيار فإن كان أحدثها بالطبع وجب أن تكون قديمة لقدم الطبع الذي وجبت عنه على ما بيناه وخرجت عن أن تكون محدثة وقد بينا فساد ذلك من قبل وجاز أن تكون سائر الحوادث والتأثيرات حادثة بطبع ذلك الصانع المحدث لهذه الأفلاك دون طباع هذه الكواكب فتكون كل الحوادث واقعة بطبع ذلك الفاعل وإن كان أحدثها بالقدرة والاختيار فلا يخلو أن يكون قادرا على ألا تكون الحوادث التي يوجبون وجودها عند كون الشمس في برج الثور ومقابلتها لما قابلته أو غير قادر على ذلك فإن كان غير قادر عليه وجب ممانعة هذه الأفلاك له وغلبتها إياه وذلك يقتضي نقصه وحدوثه وإن كان صانعها قادرا على المنع من وجود هذه التأثيرات مع وجود الأفلاك ومقابلتها وتربيعها وتسديسها وثبوت طبائعها ويقدر على إيجاد غيرها من الحوادث بطل أن تكون لهذه الكواكب أفعال وتأثير وطباع توجب حدوث ما يحدث في عالمنا وثبت أن ذلك أجمع فعل فاعل قادر مختار يحدثه إذا شاء ويتركه إذا شاء. ومما يدل أيضا على أنه لا يجوز أن تكون هذه التأثيرات والحوادث الأرضية والسماوية من فعل هذه الكواكب أنها لو كانت من فعلها لم تخل من أن تكون فعلت هذه الأمور وهي قادرة عليها أو غير قادرة على ذلك فإن كانت غير قادرة على ذلك استحال وقوع الأفعال منها كما يستحيل وقوع القصد والاختيار وحل الأشكال وعمل الهندسة ودقائق الكتابة والنساجة والزرع والمساحة عندهم وعندنا ممن ليس بقادر وذلك لأن الفعل إنما تعلق بفاعل حي قادر من حيث كان فعلا فإذا جاز وقوع بعض الأفعال من غير قادر خرج جميعها عن الحاجة إلى التعلق بقادر وفي بطلان ذلك دليل على أنها لا تجوز أن تكون غير قادرة. وإن كانت قادرة على ما كان منها ومختارة له فلا يخلو كل واحدة منها قديمة كانت أو محدثة من أن يكون قادرا على ممانعة الآخر من فعله والاستبداد بوجود مراده دون مراد مخالفه أو لا يكون فيها قادرا على ذلك أو يكون بعضها قادرا على هذا وبعضه غير قادر عليه ويساق معهم دليل التمانع بعينه فإنه مفسد لقولهم وموجب لحدوث سائر هذه الأفلاك وفيه ترك تدينهم بقدمها. فأما من قال من المنجمين إن هذه الكواكب محدثة وأنها حية قادرة قاصدة فإنه جوز تمانعها ولحوق العجز بها فإنهم لا سبيل لهم إلى العلم بكونها قادرة مختارة وما معهم فيه سوى الدعوى فيقال لهم: لم قلتم إن هذه الأفلاك حية قادرة؟ فإن قالوا: لظهور ما ظهر من سيرها وقطعها البروج وكونها فيها على ترتيب ونظام وفي الأوقات المعلومة؛ قيل لهم: وما الدليل على أن هذه الحركات من فعلها وأنها قادرة عليها مع علمنا وإياكم بأنه قد يتحرك الحي والميت والقادر ومن ليس بقادر فما في ظهور الحركات منها ما يدل على أنها قادرة وما أنكرتم أن يكون صانعها خالقا للسير وقطع البروج فيها. فإن قالوا الذي به نعلم أن ما يظهر من حركات الناس وتصرفهم فعل لهم به نعلم أن سير هذه الكواكب وكونها في البروج فعل لها. يقال لهم: لم قلتم ذلك وما أنكرتم أن يكون علم الإنسان بأن نفسه فاعلة لقيامه وقعوده وضروب تصرفه المتعلق بقدرته هو وجوده لنفسه قادرة على ذلك ومختارة له وعلى خلاف صفته إذا دفع وسحب واضطر إلى حركة مثل حركة الحمى والفالج وأن يكون علمه بأن غيره من الناس المتصرفين في الصياغة والكتابة مختارون لذلك وقاصدون إليه وقادرون عليه يقع اضطرارا من وجه يلزم النفس العلم به لأننا قد نضطر إلى علم كون المريد منا مريدا والقاصد قاصدا وأنه بالصفة التي إذا كنا نحن عليها سمينا قادرين عند أحوال تظهر منهم ليست بأسباب لكونهم قادرين ولا دالة على ذلك ولكنا نضطر عند مشاهدتها والعلم بها إلى كونهم قاصدين وأنهم بصفة القادرين على سبيل وضع العادة ومستقرها كما نضطر إلى خجل الخجل ووجل الوجل وشجاعة الشجاع أو جبن الجبان عند أمور تظهر منهم ليست بأسباب الشجاعة والجبن ولا دالة عليها ولكن العادة جارية بحصول العلم الضروري بأحوالهم عند حصولها وإذا كان ذلك كذلك ولم نكن مضطرين إلى العلم بأن النجوم مختارة قادرة حية ولا عالمين بذلك من جهة الاستدلال لفقد الدليل عليه ثبت أنه لا سبيل لهم إلى العلم بأنها حية قادرة. وعلى أنه لو قال قائل إن ما يظهر من حركات النجوم وسيرها ودوران الفلك على نمط واحد وسجية واحدة غير مختلفة يدل على أنها مجبولة على ذلك ومضطرة إليه ومطبوعة عليه على قول أصحاب الطباع لكان ذلك أقرب لأن المطبوع المجبول على الفعل من شأنه أن يكون ما يضطر إليه على سجية واحدة وليس كذلك المتصرف باختياره لأنه يفعل الشيء وضده وخلافه فتأثيرات هذه النجوم لما تؤثره على سنن واحد يجري مجرى تأثير النار والثلج للتسخين والتبريد على سجية واحدة وتأثير الطعام والشراب وما جرى مجرى ذلك فما ظهر من حركاتها أقرب إلى أن يدل على قول أصحاب الطباع. فأما استدلال من استدل منهم على حياة الفلك الأعظم وهذه الأفلاك التي دونه لعظم أجرامها وضيائها وإشراقها وعلو شأنها فإنه من وساوس النفوس وذلك أن عظم الجسم وعلو مكانه وشدة إشراقه وضيائه لا يدل على كونه حيا وكذلك ظلمة الجسم ولطافته وصغر شأنه لا يدل على المنع من كونه حيا لأنه قد يكون المضيء العظيم غير حي والخسيس المظلم اللطيف من الأجسام حيا دراكا كالذر والبق وما جرى مجرى ذلك فلا تعلق في هذا. وأما تعلقهم في إثبات تأثيرات هذه الكواكب بحمي الزمان عند قرب الشمس وبرده عند بعدها عن عالمنا وكون الاعتدال في زمن الخريف والربيع عند توسطها فإن ذلك أجمع لا يدل على أن ما يحدث في عالمنا من هذه الأمور من فعلها كما لا يدل حدوث التبريد والتسخين في الأجسام عند مجاورة الثلج والنار على أن ذلك من فعلها وكل شيء نقضنا به على القائلين بفعل الطباع بهذا الاستدلال فهو بعينه ناقض لتعلق المنجمين به. ومما يدل على ذلك أيضا أن هذه الحوادث الأرضية لا تخلو أن تكون واجبة من ذوات الأفلاك أو عن أكوانها في هذه البروج فإن كانت كائنة موجبة عن ذواتها وجب أن تكون سائر الأجسام موجبة لمثل ما توجبه هذه الأفلاك من هذه الآثار لقيام الدليل على تجانس الأجسام وتماثل جرم المشتري وزحل والشمس والقمر فكان يجب أن يكون تأثير كل شيء منها كتأثير غيره سواء وكذلك سائر أجسام العالم. وعلى أنه لا بد أن تكون ها هنا جهة من قبلها يصح العلم بأن ذوات هذه الأجرام وأنفسها توجب حدوث هذه الآثار وفي تعذر ذلك عليهم دليل على فساد هذه الدعوى. وإن كانت هذه الحوادث إنما تحدث عن أكوان هذه الأجسام في تلك البروج فيجب أن يكون كون القمر والمشتري في برج الحمل موجبا لما يوجبه كون الشمس فيه لأن كون كل جرم نيرا كان أو غير نير رطبا كان أو يابسا في المكان من جنس كون غيره فيه ألا ترى أن كون الزئبق والبلسان في القدح والمكان المعين من جنس كون الماء فيه وكذلك كون الجمرة في المكان من جنس كون قطعة الثلج فيه وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون كون كل كوكب في برج من هذه البروج موجبا لمثل ما أوجبه كون غيره فيه لأن الشيئين المتماثلين يجب أن يكون تأثيرهما والموجب عنهما واحدا ألا ترى أنه لما كان كون القمر في برج الحمل من جنس كون الشمس فيه وجب أن يصير كل واحد من الكونين في تلك المحاذاة وذلك البرج بعينه فكذلك يجب أن يكون سائر موجبات الكونين واحدا وكذلك السوادان المتماثلان يجب أن يكون تأثيرهما في المحل والمنظر تأثيرا واحدا ولا يجوز أن يكون أحدهما مسودا والآخر مبيضا. وكذلك الحرارتان والبرودتان لا يجوز أن تكون إحداهما مسخنة والأخرى مبردة. فإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون تأثير الشمس إذا كانت في برج الحمل هو تأثير المريخ وزحل إذا كانا فيه وأن يكون كوننا نحن في ذلك البرج لو وجدنا فيه أو بعض الحجارة موجبا من التأثير مثل الموجب عن كون الشمس فيه وإن لم يصح وجود نجم من هذه الطوالع في مكان الآخر وفلكه وجب أن يؤثر كون الشمس في البرج والدقيقة في الدرجة إذا كانت مقارنة لزحل أو مقابلة لبعض الطوالع ما تؤثره إذا لم تكن تلك في المقابلة والمقارنة وفي إجماعهم على بطلان ذلك دليل على أن هذه التأثيرات لا يجوز أن تكون واجبة عن ذوات هذه الأفلاك ولا عن ذوات أكوانها في البروج ولا كائنة عنها على سبيل الطبع ولا على وجه القدرة والاختيار فلا معنى إذا لنسبة هذه الآثار إلى الأفلاك. فإن قال قائل منهم: ما أنكرتم أن يكون تعلق هذه الآثار بالأفلاك ونسبتها إليها على حسب تعلق الحكم بالعلة ونسبته إليها وذلك ككون العالم عالما والقادر قادرا والمتحرك متحركا والواجب عن العلم والقدرة والحركة لا على سبيل الفعل ولا على سبيل الطبع قيل له: لا يجب ما قلته من وجوه. أحدها أن الحكم عندنا الذي زعمت أنه موجب عن العلة ليس هو شيئا غير العلة بل كون العالم عالما والمتحرك متحركا ليس بمعنى أكثر من وجود الحركة والعلم فقط فيجب على هذا ألا تكون هذه الحوادث الكائنة في الأرض معنى سوى ذوات الكواكب أو كونها في تلك البروج وهذا جهل لا يصير أحد إليه. والوجه الآخر أن الحكم الواجب عن العلة لا يصح أن ينفصل عن العلة ولا عن الذات التي توجد بها العلة فلذلك لم يجز أن تكون الحركة موجبة لكون غير من وجدت به متحركا وكذلك العلم والإرادة وسائر ما يوجب حكما لا يجوز أنه يوجب حكما في غير محله فيجب إذا كان ذلك كذلك ألا توجب أنفس هذه الأفلاك وكونها في البروج شيئا من التأثيرات إلا في أنفسها ومواضع أكوانها وفي العلم بانفصال هذه الأفعال عن ذوات البروج ومحل أكوانها دليل على فساد تشبيههم ما ادعوه بالعلة والحكم. فإن قالوا أفليس الفعل والعدل والتفضل يوجب كون الفاعل فاعلا والعادل عادلا وإن لم يوجد ذلك في محله لأن الفعل والعدل من الله تعالى منفصل من ذاته تعالى قيل لهم: ليس للفاعل بكونه فاعلا وعادلا حكم أكثر من وجود الفعل والعدل منه وليس يتغير حكم نفسه بوجود الفعل كما يتغير حكم من ليس بعالم ولا مريد بوجود العلم والإرادة فسقط ما سألتم عنه. فإن قال منهم قائل ما أنكرتم أن يكون تعلق هذه الحوادث بالأفلاك على حسب تعلق الفعل المتولد بما ولده من الأسباب قيل أنكرنا ذلك لأمور أحدها أن التولد عندنا باطل غير ثابت في أفعال الخلق ولا في أفعال الخالق تعالى فلا معنى لتشبيه الأمور به. والوجه الآخر أن هذه الحوادث لا تخلو أن تكون متولدة عن ذوات الأفلاك وجواهرها أو عن أكوانها في البروج فإن كانت متولدة عن ذواتها فقد ثبت عند كل أحد ممن ينفي التولد ومن يثبته أن ذوات الأجسام لا تولد شيئا وعلى أنه لو جاز توليدها لهذه التأثيرات لوجب توليد الشمس لمثل ما يولده القمر وتوليد الصخور الصلاب وسائر الأجسام لما تولده ذوات هذه الأفلاك لأنها كلها من جنس واحد وهذا باطل عندنا وعندهم. وإن كانت هذه الحوادث متولدة عن أكوان هذه الأفلاك في البروج وجب أن يكون كون الشمس في برج الحمل مولدا لما يولده كون المشتري والقمر فيه وذلك باطل عندهم. وإنما وجب ذلك لما قلناه من وجوب تجانس هذه الأكوان في المكان الواحد مع تغاير الكائنين فيه وفي بطلان هذا دليل على فساد ما ظنوه من ذلك ويجب إن لم يصح كون الشمس سائرة في برج القمر وكائنة في الدقائق التي يكون فيها القمر أن يكون كون الشمس في تلك الدقيقة من فلكها ومن البروج مؤثرا لذلك الحادث متى وجد سواء كان في مقابلة الكائن فيه شيء أو لم يكن وسواء ربع الكواكب أو سدسه لأن الكوكبين في ذلك المكان لا شك من جنس واحد فبطل بذلك ما قالوه. وعلى أن الفاعل في غيره على سبيل التولد لا يفعل فيه إلا بأن يماسه أو يماس ما ماسه ومحال عند أصحاب التولد أن يخترع فيه الفعل اختراعا بغير مماسة له ولا مماسة لما ماسه فيجب إذا كان كذلك ألا يصح فعل هذه الأفلاك فينا وتأثيراتها في أنفسنا وعالمنا إلا بأن تماسنا أو تماس ما ماسنا لأنه لو جاز أن تفعل فينا بالتولد على غير هذه السبيل لجاز وصح أن نفعل نحن أيضا فيها تأثيرات وحوادث من غير أن نماسها أو نماس ما ماسها وفي تعذر ذلك واستحالته دليل على استحالة فعل هذه الكواكب فينا على هذه السبيل وإذا بطل ذلك صح أنه لا فعل ولا تأثير لهذه الكواكب والأفلاك بحال بتة. فأما من أقر منهم بالإسلام وأذعن لحدوثها وأنها متعلقة بمحدث أحدثها وزعم أن الله تعالى جعلها دلالة على ما يحدث في العالم في أوقاته فإنه أيضا خبط وتخليط لأن الدليل المتعلق بمدلوله لا بد أن تكون جهة تعلقه به معروفة معلومة كجهة تعلق الكاتب بالكتابة وبكون صانعها عالما ودلالة الحوادث على حدوث ما لا يسبقها ولا يفنك منها ودلالة المعجزات على صدق صاحبها وأمثال ذلك مما قد عرف جهة تعلق الدليل فيه بمدلوله ولا وجه من قبله يعلم لدلالة كون هذه الأفلاك في البروج وسيرها وحركاتها على حدوث ما يحدث من الأمطار والنماء والنقصان وغلاء الأسعار وسفك الدماء وسكون الهيج والفساد وعلى ما يستسر الناس بعلمه وما ينطوون عليه. وقد أخبر الله تعالى عن كذب مدعى علم ذلك وأنه تعالى المستبد بعلم ما كان ويكون فقال: { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم }. فجعل ذلك من دليل النبوة وما لا يطلع عليه إلا من أوحي به إليه وقال: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت } وقال: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول }. وفي نظائر هذه الآيات ما يدل على أن علم ما يكون لا يدركه إلا علام الغيوب أو من أطلعه على ذلك فكيف يدرك ذلك بقطع الأفلاك وسير النجوم وكيف يجتمع في قلب مؤمن تصديق الرسل وتصحيح الآيات مع اعتقاد تصحيح أحكام المنجمين واعتقاد كون سير الأفلاك أدلة على علم ما كان ويكون وقد روي عن النبي قال « من صدق كاهنا أو عرافا وفي بعضها أو منجما فقد كفر بما أنزل على قلب محمد » أمثال لهذه الرواية يطول ذكرها.

باب الكلام على أهل التثنية

القائلين بأن العالم من أصلين أحدهما نور والآخر ظلام لم يزالا متباينين ثم امتزج منهما جزآن وأن النور خير حكيم بطبعه وأن الظلام شرير سفيه بطبعه. فإن قال قائل منهم: لم أنكرتم أن يكون العالم من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلام؛ قيل له: لسنا ننكر أن يكون من جملة العالم ما هو نور ومنه ما هو ظلام غير أنهما لا يجوز عندنا أن يكونا من أشخاص العالم وأجسامه القائمة بأنفسها ولا أن يكونا قديمين ولا فاعلين بالطبع ولا بالاختيار ولا أن تكون الأجسام من النور والظلام في شيء. فإن قيل ولم أنكرتم أولا أن يكون النور والظلام المختلفان في الجنس أجساما قيل له: أنكرنا ذلك لقيام الدليل على أن الأجسام كلها من جنس واحد من حيث كان كل واحد منها يسد مسد الآخر وينوب منابه ويجوز عليه من الوصف مثل ما جاز عليه من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والزيادة والنقصان وغير ذلك من الأوصاف وليس معنى المثلين المتشابهين أكثر من ذلك فلو كان بعض الأجسام نورا مع اشتباهها وتماثلها لكانت كلها نورا وكذلك لو كان منها ما هو ظلام لكانت كلها ظلاما كما أنه لو كان منها ما هو حركة أو سكون أو امتزاج أو تباين أو إرادة أو علم لكانت كلها كذلك مع تماثلها وفي فساد هذا دليل على أن الأجسام كلها جنس واحد مشتبه غير متضاد ولا مختلف ليس منها نور ولا ظلام ولا اجتماع ولا افتراق ولا حركة ولا سكون ولا ظهور ولا كمون وبان بذلك أن النور والظلام هما السواد والبياض اللذان يوجدان بالأجسام وأنهما من جملة الأعراض وبعض العالم وليس بكل العالم ولا مريدين ولا قائمين بأنفسهما. فأما ما يدل على أنهما ليسا بقديمين فهو ما قدمناه من الدلالة على تضادهما وجواز كون الشخص مرة مضيئا نيرا ومرة أسود مظلما وأنه لا يجوز أن يكون ضياء الجسم ونوره موجودا به في حال وجود سواده وظلامه كما لا يجوز أن تكون حركته موجودة في حال سكونه فوجب أنهما يحدثان ويتجددان على الأجسام ويبطل النور في حال وجود الظلام كما تبطل الحركة عند مجيء السكون. وقد قام الدليل أيضا على أنه لا يجوز عليهما ولا على غيرهما من الأعراض الظهور والكمون لأن الظهور خروج إلى مكان والكمون انتقال عنه وكون في غيره من الأماكن واستتار ببعض الأجسام والحركة والسكون والاستتار والظهور من صفات الأجسام دون الأعراض لما قدمناه من قبل في باب إثبات الأعراض. وأما ما يدل على أن النور والظلام وغيرهما من الأعراض لا يجوز أن يكونا فاعلين بالطباع ولا بالاختيار لخير ولا شر ولا نفع ولا ضر فهو أن الدلالة قد قامت على أن الفاعل لا يكون إلا حيا قادرا مختارا وأن هذه الصفات مستحقة لمعان توجد بالموصوف وسندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله. وقد اتفقنا على استحالة قبول الأعراض للأعراض فبطل أن تكون فاعلة ولو جاز وقوع بعض الأفعال من الأعراض ومن الموات وبفعل الطباع لجاز وقوع القصد والاختيار والعلم والنظر ونساجة الديباج بالتصاوير ودقائق المحكمات من الأعراض والموات وبفعل الطباع فإن مروا على ذلك تركوا قولهم وإن أبوه لم يجدوا من ذلك فضلا. ويقال لأهل التثنية لم زعمتم بأن العالم بأسره من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلام فإن قالوا لأننا وجدنا جميع الأجسام لا تنفك من أن تكون من ذوات الظل أو ليست من ذوات الظل كالنار والنور النيرين وغير ذلك من الأجسام التي لا ظل لها وما كان من هذا القبيل فهو من أشخاص النور وما كان من الأول فهو من أشخاص الظلام ووجدناها أيضا لا تخلو أن تكون ستارة مناعة من إدراك ما وراءها كالحديد والصخر والحيطان الغلاظ المانعة من إدراك المرئيات والمسموعات أو ليست كذلك نحو الهواء والماء الصافي والقوارير وكل ما يصف ما وراءه ولا يمنع من إدراك ما وراءه من المرئيات والمسموعات وما كان كذلك فهو من أشخاص النور والضرب الأول من أشخاص الظلام. ولأننا أيضا وجدناه لا ينفك من شخصين إما خفيف صاف شأنه الارتفاع والتصاعد واللحوق بعالمه والشوق إلى معدنه وموضع مركزه أو ثقيل مظلم شأنه الهبوط والانحدار وخرق الخفيف والاعتماد على ما تحته كالحديد والصخر والأرض وغير ذلك من الأجسام الثقيلة المعتمدة على ما تحتها والموهنة لحاملها ككارة الحمال وسائر الأجسام الواقفة بالحبس والاعتماد وما كان من هذا الضرب فهو من أشخاص الظلام والأول الخفيف من أشخاص النور فوجب أن يكون سائر أجسام العالم لا تنفك من نور وظلام. فيقال لهم: ولم قلتم إن سائر الأجسام لا تنفك من ذلك ألأنكم لم تجدوا خلافة ولم زعمتم أن القضاء على غائب الأمور وما نأى من العالم عنا بمجرد الشاهد والوجود ثابت صحيح وأن الشيء على مثله وكل ما انفصل عنه فلا يجدون في ذلك سوى الدعوى. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون في أجسام العالم ما طبعه الوقوف كالهواء وما جرى مجراه فيكون لا منحدرا ولا متصاعدا وما أنكرتم إن دل اختلاف حركة جزئيات النور والظلام في هذا العالم لطلب المركز والشوق إلى كليهما على اختلاف جنسيهما أن يدل وقوف كلية الظلام والنور في عالمها وموضع مركزهما على تماثلهما وتجانسهما واتفاق طباعهما فإن مروا على ذلك تركوا قولهم وإن أبوه نقضوا استدلالهم على اختلاف جنس النور والظلام وطباعهما باختلاف حركات جزئياتهما. ثم يقال لهم في جواب الدلالة الثالثة التي هي عمادهم ومفزعهم: ما أنكرتم على اعتلالكم من أن يكون العالم بأسره من طبائع أربع حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة على ما قاله الأطباء وأصحاب الطبائع فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن راموا فصلا لم يجدوه. وإن هم قالوا إن سائر الأجسام المركبة من الطبائع الأربع لا يخلو أن تكون ذوات ظل أو ليست بذوات ظل فوجب أنها من نور وظلام قيل لهم: وجميع الأجسام التي لا تنفك من أن تكون ذوات ظل أو ليست بذوات ظل لا تخلو ولا تنفك من الطبائع فوجب أن يكون النور والظلام مركبا من الطبائع الأربع ولا فصل في ذلك. وكذلك يعارض أصحاب الطبائع إذا استدلوا بالشاهد والوجود فيلزمون قول الثنوية ثم يؤخذ الفريقان بأن تكون الأجسام من أجناس كثيرة وما لا غاية له من نحو الحركات والسكون والروائح والطعوم والألوان واللين والخشونة والحياة والموت وغير ذلك مما لا تنفك منه أجسام العالم فإن ركبوه تركوا قولهم وإن أبوه نقضوا استدلالهم ولم يجدوا من المعارضة فصلا. ويقال لمن زعم منهم أن الأصول ثلاثة نور خالص وظلام خالص وأصل ثالث معدل بينهما ليس بنور ولا ظلام لم قلتم ذلك فإن قالوا لما ثبت من تضاد النور والظلام وتنافيهما فلا بد من أصل ثالث معدل بينهما. يقال لهم: فهل يخلو ذلك الأصل من أن يكون من جنسهما أو من جنس أحدهما أو مخالفا لهما جميعا فإذا قالوا لا قيل لهم: فإن كان من جنسهما وجب أن يكون نورا ظلاما وألا يعدل بينهما وذلك محال وإن كان من جنس أحدهما فكيف يعدل بينهما وهو ضد للآخر وكيف لم يحتج إلى معدل وكيف لم يستغن الأصل الذي هو من جنسه عن معدل مثله وإن كان مخالفا لهما احتاج إلى معدل بينه وبينهما كحاجتهما لموضع اختلافهما وتضادهما ولا جواب عن ذلك.

مسألة في تباين الأصلين وامتزاجهما

ويقال لهم: خبرونا عن الأصلين ألأنفسهما تباينا في الأزل أم لمعنى هو تباين فإن قالوا لأنفسهما قيل لهم: فيجب أن يكونا متباينين في حال امتزاجهما لوجود أنفسهما في حال تباينهما حتى يكونا متباينين ممتزجين وما أنكرتم أن يكونا أيضا ممتزجين لأنفسهما فإن قالوا هو كذلك قيل لهم: فامتزاجهما إذا هو تباينهما لأن الامتزاج والتباين هو هما فإن قالوا أجل قيل لهم: فإذا كانت الدنيا لأجل امتزاجهما ولم تكن لأجل تباينهما فيجب أن تكون الآن دنيا وألا تكون دنيا لأن التباين هو الامتزاج ويجب أن تكون لأنفسهما كانت الدنيا ولأنفسهما لم تكن وهذا يوجب أن يكون مآله وجد الشيء وكان هو بعينه ما له عدم ولم يكن فإن جاز ذلك جاز أن يكون ماله تحرك الجسم وخرج عن مكانه هو ما لأجله سكن واستقر فيه وماله يكون الشيء قديما له يكون حادثا مستفتحا وذلك باطل باتفاق. وإن قالوا تباين الأصلين معنى ثالث لا يقال هو هما أقروا بقدم أصل ثالث هو تباين ونور وظلام وتركوا التثنية. وقيل لهم: أيضا خبرونا عن التباين أبطل لما جاء الامتزاج أم لا فإن قالوا بطل قيل لهم: فإذا جاز عدم القديم الذي هو التباين وبطلانه لعلة ما فلم لا يجوز بطلان النور والظلام القديمين وعدمهما لعلة ما وسبب يقتضي ذلك فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن أبوه لم يجدوا فصلا. وإن قالوا بل التباين باق موجود في حالة وجود الامتزاج قيل لهم: فيجب أن يكونا متباينين ممتزجين وأن تكون اليوم دنيا وألا تكون دنيا لوجود الامتزاج والتباين اللذين كانت لأحدهما ولم تكن للآخر وهذا جهل. وإن قالوا إن تباين الأصلين محدث وامتزاجهما محدث قيل لهم: فهل ينفك الأصلان من التباين والامتزاج فإن قالوا نعم تركوا قولهم بتباين الأصلين في القدم وإن قالوا لا قيل لهم: فيجب القضاء على حدوث النور والظلام إذا كانا لا ينفكان من حادثين ولا يخلوان منهما وكنا قد بينا أن ما لم ينفك من المحدث ولم يسبقه فهو محدث. وإن قالوا. لا غاية لتباين الأصلين وامتزاجهما وإن كانا حادثين ولا تباين إلا وقبله امتزاج ولا امتزاج وقبله تباين أبدا لا أول لذلك ولا غاية قيل لهم: فمحال على قولكم هذا أن الدنيا لم تكن في الأزل لأن الامتزاج على قولكم هذا لا أول له ولا شيء منه إلا وقد كان قبله مثله وتباين يخالفه إلى غير غاية. ثم يقال لهم: ولمن قال بذلك من أهل الدهر إن قولكم لا أول للحوادث يقتضي قدمها وأنها لم تكن عن عدم وقولكم فيها إنها حوادث نقض لذلك لأن القول حوادث هو جمع حادث والحادث حقيقته أنه ما وجد عن عدم فحقيقة الجمع الذي يقع عليه الاسم أنه موجود عن عدم. ومن المحال أن يدخل في جمع الحوادث ما لا أول لوجوده فمحال إذا قولكم إن ما وقع عليه قولكم حوادث لا أول له أو منه ما لا أول له ولا جواب لهم عن ذلك.

مسألة في الرد على الديصانية

ويقال للديصانية منهم لم زعمتم أن الظلام موات فعال للشر بطبعه دون النور؟ فإن قالوا لأنهما لما كانا خلافين بأنفسهما وكان النور حيا بذاته استحال أن يكون الظلام حيا بذاته؛ يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون الظلام محدثا لأنه لما ثبت من قولكم إن النور قديم لذاته استحال أن يكون الظلام قديما بذاته ونفسه ولا جواب لهم عن ذلك.

مسألة في الرد على جميع الثنوية

ويقال لجميعهم: إذا جاز أن يصير ما لم يزل متباينا ممتزجا فلم لا يجوز أن يصير ما لم يزل نورا ظلاما وما لم يزل ظلاما نورا فلا يجدون له مدفعا.

مسألة في إلزام جميع الثنوية

ويقال لجميعهم أيضا: خبرونا عن قائل قال أنا ظلام هل يخلو أن يكون من أشخاص النور أو من أشخاص الظلام؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فمن أيهما هو؟ فإن قالوا: من أشخاص النور؛ قيل لهم: فقد كذب النور إذا في قوله أنا ظلام لأنه ليس بظلام وهذا نقض قولكم، وإن قالوا: من أشخاص الظلام قيل لهم: فقد صدق في قوله أنا ظلام ووجد الصدق والكذب من جوهر واحد وإن جاز ذلك جاز وقوع الخير والشر والعدل والجور والتبريد والتسخين من جوهر واحد وهذا ترك دينهم فإن قال منهم قائل قد وقع الصدق والكذب من جوهر الظلام وهما شران قيل لهم: ما أنكرتم من أن يقع منه الجور والعدل والإيلام والإلذاد ويكون شرا كله فإن قالوا لا يجوز أن يكون من العدل والإلذاذ شر قيل لهم: ولا يجوز أن يكون من الصدق شر. ويقال لهم أيضا: اعملوا على أن الصدق والكذب الواقعين من الظلام شر أليس أحدهما خبرا عن الشيء على ما هو به والآخر خبر عنه على خلاف ما هو به فما أنكرتم أن يقع العدل والجور من جوهر واحد مع اختلافهما. وإن قال من الديصانية قائل إن الظلام ليس بصادق في قوله أنا ظلام لأنه غير عالم بقوله وما كان منه والصدق مقرون بالقصد إليه والعلم به قيل له: لم قلت ذلك ثم يقال أفليس هو مع ما وصفت خبرا عن الشيء على ما هو به وقد يوجد أيضا من الظلام الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به فما أنكرت من جواز وقوع العدل والجور جميعا من الظلام ولا فصل في ذلك.

مسألة في نقض آخر لجميع الثنوية

ويسألون أيضا عمن خبأ شيئا في موضع ونسيه وذهب عنه ذكره فيقال لهم: أليس قد صار الناسي ذاكرا ووقع الذكر والنسيان مع تضادهما واختلافهما من جوهر واحد فلم لا يجوز أيضا وقوع العدل والجور من جوهر واحد فإن قالوا الواضع للشيء لم ينسه وإنما غلبت عليه أجزاء الظلام وذكره باق قائم. يقال لهم: فالناسي إذا للشيء بغلبة أجزاء الظلام عليه ذاكر له في حال نسيانه لأن ذكره عندكم موجود في هذه الحال وهذا دفع الحس والاضطرار لأن الإنسان يجد نفسه عند غلبة النسيان عليه غير ذاكر لما نسيه أصلا ولا عالما بموضعه وهذا يدل على أن الذاكر قد يصير ناسيا بعد الذكر وهو الذاكر نفسه وإن جاز ذلك جاز أن يصير المسخن مببردا والمبرد مسخنا وهذا نقض قولهم.

باب الكلام على المجوس

القائلين بأن حدوث الشيطان من شكة شكها شخص من أشخاص النور في صلاته والقائلين بأنه حدث من فكر الله تعالى والقائلين بأنه حدث من عقوبة عاقب الله بها سبحانه وتعالى.

إن قال منهم قائل لم أنكرتم أن يحدث فعل من الله هو الشيطان أو غيره من فكرة فكرها أو شكة شكها أو عقوبة عاقب بها قيل له: لقيام الدليل على استحالة الفكر والشك على القديم كما يستحيل عليه الجهل والموت والغفلة والنوم وغير ذلك من الآفات الدالة على نقص من جازت عليه وحدوثه ولأنه لو كان سبحانه في أوله مفكرا مرتابا شاكا لاستحال أن يعلم وأن تقع منه الأفعال المحكمة الدالة على العلم والقصد وذلك باطل بما قدمناه. فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون قد خلا في القدم من الفكر والشك والعلم والجهل قيل لهم: لو جاز ذلك عليه مع صحة وجود العلم له وجوازه عليه لجاز خلوه تعالى في القدم من الحياة والموت والقدرة والعجز وذلك باطل من قولنا وقولكم ففسد ما قلتموه. فأما حدوث الفعل عن عقوبة فإنه أيضا باطل لأن العقوبة التي ذكرتم لو كانت ثابتة لكانت فعلا وعرضا من الأعراض ومحال وقوع شخص الشيطان أو غيره من العرض على سبيل الابتداء للفعل والتوليد كما يستحيل حدوث سائر الأشخاص من الأعراض على هذه السبيل.

مسألة في نقض المجوس

ثم يقال لهم: خبرونا عن الشك أو التفكر أو العقوبة التي حدث منها الشيطان أمحدث ذلك أم قديم فإن قالوا بقدم هذه الأمور ألزموا إحالة كون الباري عالما وأوجب عليهم قدم الجهل. ثم قيل لهم: فإن كان الشك والفكر والعقوبة التي عنها كان الشيطان قديمة فما أنكرتم أن يكون الشيطان قديما لقدم ما كان عنه فإن مروا على ذلك تركوا قولهم بحدوثه ولا خلاص لهم من ذلك وإن قالوا إن الشك محدث وكذلك العقوبة والفكر عند القائل بكل واحد منهما قيل لهم: أفمن محدث حدث الشك أم لا من محدث فإن قالوا لا من محدث قيل لهم: فما يؤمنكم أن يكون سائر الأفعال والحوادث كائنة لا من محدث وفي ذلك التعطيل وإبطال الصانع. وإن قالوا من محدث حدثت هذه الأمور قيل لهم: فمن محدثها فإن قالوا الشيطان تجاهلوا وقيل لهم: فقد كان الشيطان قبل الفكر والشك اللذين كان عنهما فكيف يكون الشيء قبل أصله وسببه الذي عنه كان ووجد. وإن قالوا الله أحدث الشك والفكرة قيل لهم: فخبرونا عن الشك والفكرة أشر هما أم خير فإن قالوا خير قيل لهم: فكيف كان عنهما الشيطان الذي هو شر وما أنكرتم إن جاز ذلك أن يفكر الشيطان الذي هو شر فكرا هو شر يتولد عنه ويقع الخير إن جاز ذلك وقوع التبريد عن النار والتسخين عن الثلج وهذا نقض قولهم وإن قالوا بأن الشك شر لأنه ولد الشيطان الذي هو شر. قيل لهم: فقد فعل الله الخير الشك الذي هو شر من الشر وهو أصل الشيطان وإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن يفعل سائر الشرور وجميع الأشخاص الضارة من السباع والعقارب والحيات والهموم والأحزان وسائر الشرور وما الفصل في ذلك ولا فصل فيه. وكذلك السؤال على أصحاب الفكر والعقاب. ويقال للقائلين بأن الشيطان حدث عن عقوبة من خلق العاصي المستوجب للعقاب فإذا قالوا الله قيل لهم: أفليس من كان منه العصيان شرا كالذي كان منه فإذا قالوا أجل قيل لهم: أفليس قد خلق الله شريرا عصاه ابتداء وكان عندكم بذلك حكيما فلم لا يجوز على هذا أن يبتدىء خلق الشيطان الذي كان منه الشر ويكون بذلك خيرا حكيما فإن راموا فصلا لم يجدوه وإن مروا على ذلك تركوا قولهم وقيل لهم: فما أنكرتم أن يخلق الله سائر الشرور ويكون بذلك حكيما.

مسألة أخرى في نقض المجوس

وكذلك يسألون فيقال لهم: خبرونا عن الشيطان أمحدث هو عندكم أم قديم فإن قالوا قديم تركوا قولهم وإن قالوا محدث قيل لهم: أفمن محدث حدث أم لا من محدث فإن قالوا لا من محدث قيل لهم: فما أنكرتم من وقوع الحوادث لا من محدث وإن قالوا من محدث قيل لهم: ومن محدثه فإن قالوا الله سبحانه ولا بد من ذلك قيل لهم: فما أنكرتم أن يحدث الباري سبحانه سائر الشرور ويكون بذلك حكيما غير سفيه ولا فصل في هذا. ويعارض من قال إن الشيطان حدث من شكة شكها بعض أشخاص النور بقول من قال حدث عن فكرة ويعارض أهل الفكر بأصحاب الشك ويعارض الفريقان بقول أصحاب العقاب.

مسألة في نقض المجوس أيضا

ويقال لهم: إذا جاز قدم النور الذي هو الباري فما أنكرتم من قدم الشيطان الذي هو ظلام فإن تعاطوا إقامة الدليل على حدث الظلام بشيء أريناهم به وبما هو أقوى منه حدث النور وبينا بذلك أن الله تعالى ليس بنور ولا ظلام.

مسألة أخرى عليهم

ويقال لهم: خبرونا عمن سمعناه يقول أنا من خلق الشيطان من الذي خلقه، فإن قالوا: النور خلقه، قيل لهم: فقد خلق النور من كذب وأضاف خلق نفسه إلى غير خالقه وإن جاز ذلك جاز أن يخلق الظالم الجائر وجاز أن يخلق سائر الشرور وإن قالوا الشيطان هو الذي خلق هذا القائل قيل لهم: فقد صدق هذا الناطق فإن جاز أن يخلق الشيطان خيرا صادقا عليه فما أنكرتم أن يخلق سائر الخير وجميع فاعليه حتى يكون منه الخير والشر وهذا ترك دينكم.

مسألة أخرى عليهم

ويقال لهم: هل يجوز أن يخلق الله شريرا كذابا يعصيه ويشتمه ويفتري عليه؟ فإن قالوا نعم تركوا قولهم وقيل لهم: فما أنكرتم أن يكون خالقا لجميع الشرور وإن قالوا لا قيل لهم: فخبرونا عن رجل كان مجوسيا دائنا بقولكم ثم تهود وانتقل عن المجوسية وأكفر أهلها من خلق من هو فإن قالوا من خلق الشيطان قيل فقد فعل الشيطان خيرا معتقدا للخير برهة من الدهر وإن جاز ذلك جاز أن يخلق جميع الخير وإن قالوا من خلق الرحمن قيل لهم: فقد خلق الرحمن الشرير الذي تهود وتزندق وكذب عليه وإن جاز ذلك جاز أن يفعل سائر الشرور. وإن قالوا الذي تزندق وتهود غير الذي كان مجوسيا قيل لهم: فعلى هذا ما انتقل أحد قط عن حق اعتقده والمعتقد للمجوسية على ما هو عليه وإن صار إلى التدين باليهودية والزندقة لم يفارق ما اعتقده قط ولا برىء منه وهذا جحد الضرورة والحس لأن الإنسان يجد من نفسه اعتقادا لغير ما كان معتقدا له وذمه لما كان عليه بعد مدحه له فلا معنى لمناظرة من انتهى إلى هذا الحد.

باب الكلام على النصارى في قولهم إن الله تعالى جوهر

يقال لهم: لم قلتم إن الله سبحانه جوهر وما دليلكم على ذلك؟ فإن قالوا: الدليل على ذلك أننا وجدنا الأشياء كلها في الشاهد والوجود لا تخلو من أن تكون جواهر وأعراضا وقد اتفقنا على أن القديم ليس بعرض فوجب أن يكون جوهرا. أو قالوا: الدليل على ذلك أنا وجدنا الأشياء كلها لا تخرج عن قسمين إما قائم بنفسه أو قائم بغيره والقائم بغيره هو العرض والقائم بنفسه هو الجوهر فلما فسد من قولنا وقولكم أن يكون قائما بغيره وأن يكون عرضا ثبت أنه قائم بنفسه وأنه جوهر من الجواهر. أو قالوا: الدليل على ذلك أنا وجدنا الأشياء كلها على ضربين فضرب منها يصح منه الأفعال وهو الجوهر وضرب تتعذر وتمتنع منه الأفعال وهو العرض فلما ثبت أن القديم فاعل وممن تأتي منه الأفعال ثبت أنه جوهر. أو قالوا: الدليل على ذلك أنا وجدنا الأشياء على ضربين شريف وهو الجوهر القائم بنفسه المستغني في الوجود عن غيره وخسيس قائم بغيره ومحتاج إليه وهو العرض فلما لم يجز أن يكون القديم من قبيل الخسيس ثبت أنه شريف وأنه قائم بنفسه. فيقال لهم: لم زعمتم أولا أنكم إذا لم تجدوا الأشياء في الشاهد إلا على ما وصفتم وجب القضاء على الغائب بمجرد الشاهد وأن الموجود في الغائب لا ينفك من أصناف الموجودات في الشاهد وما حجتكم على ذلك فإن الخلاف في جهة استدلالكم أعظم والغلط والخطأ فيه أفحش. ثم يقال لهم: فأنتم أيضا لم تجدوا حادثا إلا وقبله حادث ولا شيئا إلا عن شيء ولا جسما إلا وبعده جسم وفوقه جسم وتحته جسم ومن عن يمينه وشماله وتجاهه وخلفه جسم ولا وجدتم فاعلا اخترع الأجسام وأحدث الأفعال بغير أدوات وآلات وجوارح وعلاج فاقضوا بذلك على قدم العالم ونفي النهاية عنه وأن الحوادث لا أول لها وأن الأجسام لا كل لها ولا غاية وألا إنسان إلا من نطفة إلا من إنسان ولا طائر إلا من بيضة ولا بيضة إلا من طائر أبدا إلى غير نهاية وهذا لحوق بأهل الدهر. وكذلك فاقضوا على أنه لا فاعل لأجسام العالم وأن الفاعل لأغراضه يفعلها بآلات وأدوات وأوجبوا على من نشأ في بلد الزنج فلم يجد بها ماء إلا عذبا ولا إنسانا إلا أسود ولا زرعا إلا أخضر أن يقضي على أنه لا ماء إلا عذب ولا إنسان إلا كما وجد وشاهد حتى يوجبوا القضاء بالجهل الذي يعلم بطلانه اضطرارا، فإن مروا على ذلك أجمع لحقوا بأهل الدهر والجهالات وإن امتنعوا منه نقضوا استدلالهم. ثم يقال لهم: أفليس قد اتفقنا على أنه لا موجود معلوم في الشاهد والمعقول إلا محدث موجود عن عدم، فإذا قالوا أجل قيل لهم: فيجب أن يكون صانع العالم جل ذكره موجودا محدثا قياسا على الشاهد، فإن مروا على ذلك تركوا مذهبهم وإن أبوه نقضوا دليلهم. ثم يقال لهم: فهل وجدتم جوهرا في الشاهد إلا متحيزا قابلا للأعراض من جنس هذه الجواهر المعقولة؟ فإذا قالوا بلى قيل لهم: فيجب عليكم إذا كان القديم تعالى جوهرا أن يكون كالجواهر المعقولة ومن جنسها وقابلا للأعراض كقبولها، فإن مروا على ذلك تركوا دينهم، وإن أبوه قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون القديم سبحانه موجودا ليس بجوهر ولا عرض ولا كالموجودات في الشاهد كما أنه ليس كالجواهر ولا فصل في ذلك أبدا. ثم يقال لهم على سائر أدلتهم التي قدمنا ذكرها: ما أنكرتم أن يكون القديم حاملا للأعراض بمثل كل دليل ذكرتموه وذلك أنا وجدنا الأشياء كلها على ضربين فضرب فعال شريف قائم بنفسه ليس بعرض وهو الحامل للأعراض وضرب آخر ليس قائما بنفسه ولا فعالا ولا شريفا وهو العرض فلما ثبت أن القديم فعال قائم بنفسه شريف ليس بخسيس ثبت أنه حامل للأعراض ذو حيز وشغل فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن أبوه أبطلوا استدلالهم إبطالا ظاهرا. ثم يقال لهم: إنكم قد أخطأتم في قسمة الأشياء المعقولة الموجودة لأن منها الفعال الشريف القائم بنفسه الذي هو الجسم المؤلف وليس بشيء واحد ومنها الشريف القائم بنفسه الذي هو الجوهر الذي ليس بمؤلف فما أنكرتم أن يكون الباري سبحانه جسما، فإن قالوا لأننا لم نعقل جسما إلا متغايرا مؤتلفا مصورا وهذه الأمور من صفات الحدث والباري سبحانه لا يجوز عليه ذلك فبطل أن يكون جسما. يقال لهم أيضا: فما أنكرتم من استحالة كونه جوهرا لأننا لم نعقل جوهرا إلا شاغلا متحيزا قابلا للحوادث من جنس هذه الجواهر وهذه الأمور دالة على حدث من جازت عليه فلما لم يجز أن يكون القديم سبحانه محدثا لم يجز أن يكون جوهرا. فإن قالوا: الجواهر ضربان شريف وخسيس، فالخسيس هو القابل منها للأعراض الذي يتميز ويشغل المكان، والشريف هو ما لا يجوز ذلك عليه منها فوجب أن يكون غير متميز ولا قابل للأعراض؛ قيل لهم: ما أنكرتم أيضا أن تكون الأجسام على ضربين جسم خسيس وهو المتميز القابل لصورة والتأليف والحوادث وضرب شريف لا يقبل شيئا من ذلك ولا يجوز عليه والقديم سبحانه شريف فوجب أنه جسم ليس بذي صورة ولا مكان ولا قابلا للأعراض. ولا جواب لهم عن شيء من ذلك.

الكلام عليهم في الأقانيم

يقال لهم: لم زعمتم أن الباري سبحانه ثلاثة أقانيم دون أن تقولوا إنه أربعة وعشرة وأكثر من ذلك؟ فإن قالوا: من قبل أنه قد ثبت أن الباري سبحانه موجود جوهر وثبت أنه حي وأنه عالم فوجب أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم منها الجوهر الموجود ومنها العلم والحياة لأن الحي العالم لا يكون حيا عالما حتى يكون ذا حياة وعلم فوجب أن الأقانيم ثلاثة؛ فيقال لهم: ما أنكرتم من أن تكون الأقانيم أربعة لأننا نقول إن القديم موجود حي عالم قادر والقادر لا بد له من قدرة فوجب أن تكون الأقانيم أربعة؟ فإن قالوا: القدرة هي الحياة فهما أقنوم واحد؛ قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون العلم هو الحياة فوجب أن يكون الباري سبحانه أقنومين؟ فإن قالوا: قد ينقص العلم ويزيد ويوجد ويعدم والحياة باقية بحالها فوجب أن يكون العلم ليس من معنى الحياة في شيء؛ قيل لهم: فكذلك قد تنقص القدرة وتزيد وتعدم جملة ثم توجد والحياة بحالها فوجب أن تكون القدرة غير الحياة وبخلاف معناه. فإن قالوا: قد يبطل العلم جملة في حالة النوم والغشي والإنسان حي؛ قيل لهم: وكذلك قد تبطل القدرة جملة حتى لا يقدر الإنسان على تحريك يده أو لسانه أو إيماء بعض جوارحه وهو حي في تلك الحال فوجب أن تكون القدرة غير الحياة وأن الأقانيم أربعة. فإن قالوا دخول حرف المبالغة في صفة العالم في قولنا عالم وأعلم منه واستحالة المبالغة في صفة الحي والتفضيل بين الحيين دليل على أن العلم ليس من الحياة في شيء؛ قيل لهم: فقولوا لأجل هذا بعينه إن القدرة غير الحياة لأننا قد نبالغ في صفة القادر ونقول قادر وأقدر منه ولا نقول حي وأحيا منه فوجب أن تكون القدرة غير الحياة. وكذلك يقال لهم: ما أنكرتم أن تكون الأقانيم خمسة وعشرة لأننا نقول إن الباري موجود حي عالم قادر ونقول إنه مريد وباق وسميع وبصير ومتكلم والباقي السميع البصير المتكلم المريد لا يكون كذلك إلا لوجود بقاء وإرادة وسمع وبصر وكلام؟ فإن قالوا: البقاء هو هو؛ قيل لهم: والحياة والعلم هما هو، فقولوا إنه أقنوم واحد. فإن قالوا: الكلام والإرادة فعل من أفعال المتكلم المريد؛ قيل لهم: وكذلك العلم فعل من أفعال العالم فقولوا إنه أقنومان. فإن قالوا: قد يعلم بالعلم من لم يفعله؛ قيل لهم: وقد يريد بالإرادة ويتكلم بالكلام من لا يفعله. وكذلك إن قالوا: سمع الباري سبحانه وبصره هو نفس علمه فوجب أنهما ليس بأقنومين غير العلم؛ قيل لهم: وكذلك علم الباري سبحانه هو حياته فوجب أن يكون أقنومين. ولا جواب لهم عن شيء من ذلك. فإن قال منهم قائل: الأقنومية إنما ثبت للباري بصفة ترجع إلى نفسه لا تعلق لها بغيره وهي كونه موجودا وجوهرا يرجع إلى نفسه وكونه حيا يرجع إليه ولا تعلق له بغيره وكونه عالما بنفسه صفة يرجع بها إلى نفسه وإنما له أقنوم بكونه عالما بنفسه لا بغيره؛ قيل لهم: وكذلك هو قديم بنفسه وليس كل موجود جوهرا قديما بنفسه فوجب أن يكون كونه قديما أقنوما رابعا، وكذلك كونه باقيا صفة هو شيء موجود بنفسه وجوهر بنفسه فيجب أن يكون كونه شيئا موجودا أقنوما وكونه جوهرا أقنوما لأنه ليس كل موجود جوهرا يرجع إلى نفسه لا تعلق له بغيره وليس كل موجود باقيا فيجب أن يكون كونه باقيا أقنوما خامسا. ولا جواب لهم عن ذلك، وفيه ترك التثليث.

مسألة عليهم في الأقانيم (الجوهر الجامع للأقانيم أهو هي أم غيرها)

يقال لهم: خبروني عن الجوهر العام الجامع للأقانيم الذي هذه الأقانيم له أقانيم أهو عندكم الأقانيم أم غيرها؟ فإن قالت اليعقوبية والنسطورية: ليس الجوهر بغير الأقانيم؛ قيل: أفليس الجوهر غير مختلف من حيث كان جوهرا ومن حيث لم يكن معدودا ومن حيث لم تكن له خواص متباينة المعنى؟ فإن قالوا: أجل وهو قولهم، قيل لهم: أفليس الأقانيم مختلفة من حيث هي خواص متباينة المعنى ومن حيث هي معدودة ومن حيث هي أقانيم ومن حيث أن الابن منها تدرع واتحد بجسد المسيح عليه السلام دون الروح؟ فإن قالوا: نعم ولا بد من ذلك، قيل لهم: فإذا كان الجوهر هو الأقانيم والأقانيم مختلفة معدودة متباينة في الاختصاص ومنها المتحد وهي نفس الجوهر فنفس الجوهر إذا مختلفة معدودة متباينة متحدة بناسوت المسيح عليه السلام فيجب أن يكون نفس الجوهر الذي ليس بمعدود ولا مختلف ولا متحد ولا متباين المعنى هو نفس المختلف المعدود المتباين المعنى المتحد، وهذا جهل ممن صار إليه وليس ذلك من قولهم في الجوهر ولا خلاص لهم منه. فإن قالت الملكية منهم وهم الروم: إن الجوهر غير الأقانيم؛ قيل لهم: فإذا كان الجوهر إلها والأقانيم الثلاثة آلهة وهي غيره فالآلهة إذا أربعة: جوهر وثلاثة أقانيم غيره، وهذا يبطل قولكم بالتثليث. وإن قالوا: الآلهة ثلاثة أقانيم والرابع جوهر ليس بإله غير الثلاثة؛ قيل لهم: فلا فرق إذا بين قول الأقانيم ثلاثة ولا جوهر هناك يجمعها وتكون له وبين قول إن هناك ثلاثة أقانيم وجوهرا جامعا لها، فيجب أن يكون وجود الرابع كعدمه وإثباته كنفيه؛ وهذا جهل ممن صار إليه. ويقال لهم: إن جاز أن يكون الرابع من الثلاثة ثلاثة فقط فما أنكرتم أن يكون الروح والعلم مع الإله الموجود واحدا فقط وأن يكون أقنوما واحد ولا يكون الثاني والثالث شيئا يزيد على الواحد كما لم يكن الرابع شيئا يزيد على الثالث فتكون الثلاثة الأقانيم هي جوهر واحد كما كانت الأربعة التي منها الجوهر ثلاثة؟ ولا جواب عن ذلك. وكذلك يقال لهم وللنسطورية واليعقوبية في قولهم إن الأب إله وإن الابن إله وإن الروح إله وإن الآلهة مع ذلك واحد: إنه 1 إذا كان كل واحد منهم إلها فهم ثلاثة آلهة ولا معنى لقولهم إله واحد، وهم قد جعلوا الإلهية لكل واحد منهم.

مسألة أخرى على الملكية (الجوهر أهو موافق للأقانيم أو مخالف لها)

يقال لهم: خبرونا عن الجوهر الذي هو عندكم غير الأقانيم أهو مع ذلك مخالف لها أو موافق لها؟ فإن قالوا: إنه موافق لها؛ قيل لهم: فيجب أن يكون أقانيم مثلها وأن يكون الجوهر ابنا من حيث وافق الابن وأن يكون روحا من حيث وافق الروح وأن يكون أقنوما وخاصا لجوهر آخر خامس كما أن الأقانيم خواص لجوهر ويجب أيضا أن تكون نفسه متباينة المعنى مختلفة من حيث أشبهت أقانيم مختلفة المعاني وأن يكون ابن نفسه وروح نفسه لأنه مثل ابنه وروحه وبمعناهما - وهذا جهل عظيم وترك لقولهم إن صاروا إليه. وإن قالوا: ليس الجوهر موافقا للأقانيم من كل جهة وإنما يوافقها بالجوهرية لأن جوهرها من جوهره وإنما يخالفها في القنومية؛ قيل لهم: فالجهة التي وافقها بها وهي الجوهرية هي الجهة التي خالفها بها وهي القنومية، فإن قالوا نعم جعلوا معنى الجوهرية هو معنى القنومية، وقيل لهم: فما أنكرتم أن يكون الجوهر أقنوما لجوهر آخر ولنفسه؟ وذلك ترك قولهم. فإن قالوا: جهة الاختلاف بينهما وهي القنومية غير جهة الاتفاق التي هي الجوهرية؛ قيل لهم: فيجب أن يكون هناك خلاف ثابت بين الجوهر والأقانيم في القنومية وأن يكون ذلك الخلاف لا يعدو أن يكون جوهرا أو عرضا وإلا وجب أن يوافقها بنفسه في الجوهرية ويخالفها بنفسه في القنومية، وإن جاز ذلك جاز أن يكون وفاق الشيئين هو خلافهما وأن يكون قدمه هو حدوثه وأن يكون قديما محدثا لنفسه - وفي فساد ذلك دليل على بطلان ما قالوا. فإن قال منهم قائل: أفليس قد قلتم أنتم في صفات الباري سبحانه إنها ليست بموافقة له ولا مخالفة له فما أنكرتم أيضا أن يكون الجوهر غير موافق للأقانيم ولا مخالفا لها؛ قيل لهم: إنما سألناكم عن هذا لأجل قولكم إن الجوهر غير الأقانيم ونحن فلا نقول إن الله سبحانه غير صفاته فلا يلزم ما قلتم. وعلى أننا لو قلنا إن الله تعالى مخالف لصفاته في معناها بمعنى أنه يجوز عليها ما يستحيل عليه وأنه لا يسد مسدها ولا ينوب منابها لم يدخل علينا مثل ما لزمكم من كون المتفق بنفسه مختلفا بنفسه وكون جهة الاتفاق هي جهة الاختلاف لأننا لا نزعم أن الله سبحانه موافق لصفاته في جهة من الجهات، وأنتم تزعمون أن الجوهر موافق للأقانيم بالجوهرية فإنه موافق لها بنفسه ومخالف لها أيضا في القنومية بنفسه، فشتان بين قولنا وقولكم. وإن قالوا: لا نقول إنه موافق لها ولا مخالف لها؛ قيل لهم: فلا بد أن يسد مسدها فيوافقها أو لا يسد مسدها فيخالفها، وهذا المعنى بنفسه هو الذي نعنيه بالاتفاق والاختلاف فلا معنى للمراوغة. وإن قالوا: أليس لا يقال إن يد الإنسان من الإنسان مخالفة له ولا موافقة له وكذلك الواحد من العشرة والبيت من القصيدة والآية من السورة فما أنكرتم من مثل ذلك في الجوهر والأقانيم؟ قيل لهم: إنما لم يجز إطلاق الخلاف والوفاق فيما ذكرتم لأن قولنا إنسان واقع على الجملة التي منها اليد وكذلك العشرة والواحد منها والبيت من القصيدة والآية من السورة ومن المحال أن يكون الشيء مثل نفسه أو غيره أو خلاف نفسه، وقولنا جوهر ليس بواقع عندكم على الجوهر والأقانيم التي هي خواصه ولا من أسماء الجمل، فسقط ما سألتم عنه.

ذكر اختلافهم في معنى الأقانيم

زعم قوم منهم أن معنى الأقانيم التي هي الخواص أنها صفات للجوهر؛ فيقال لهم: إذا استحال أن تكون أقانيم وخواص لأنفسها وإنما تكون صفات وأقانيم لشيء آخر هو غيرها ولا يقال إنه هي، فهذا يوجب إثبات أربعة معان منها جوهر وثلاث خواص له، وهذا ترك التثليث. وإن قالوا: هي خواص لأنفسها وأقانيم لأنفسها؛ قيل لهم: فيجب أن يكون الابن ابن نفسه والروح روح نفسه والصفة صفة نفسها - وهذا جهل عظيم - ويجب بطلان ما هي خواص له ونفيه وألا يكون هناك مخصوصا بهذه الخواص - وهذا إبطال للجوهر. وزعم قوم منهم أن معنى الأقانيم والخواص أنها أشخاص؛ فيقال لهم: أهي شخاص لأنفسها أم لجوهر يجمعها؟ فإن قالوا لأنفسها، تركوا قولهم؛ وإن قالوا لجوهر جامع لها، أبطلوا التثليث. وقال بعضهم: معنى الأقانيم أنها خواص فقط؛ فيقال لهم: أهي خواص لأنفسها أم لجوهر جامع لها هي خواص له؟ ويكلمون في ذلك بما كلمنا به من زعم أنها أشخاص وصفات، ولا جواب لهم عن ذلك.

مسألة أخرى عليهم في الأقانيم (لم اختص كل أقنوم)

ويقال لهم: إذا كانت الأقانيم جوهرا واحدا وكان الأب جوهره جوهر الابن وجوهر الروح من جوهرهما، فلم كان الابن والروح بأن يكونا ابنا وروحا خاصين للأب أولى من أن يكون كل واحد منهما أبا، وأن يكون الأب خاصا لهما إذا كان الروح والابن جوهرين لأنفسهما وكان جوهرهما من جوهر الأب وكان الأب جوهرا لنفسه وكان قديما لنفسه وكانا أيضا قديمين لأنفسهما ولم يكن الأب قبل الأقانيم والخواص ولا أسبق في الوجود ولا الخواص أسبق منه، فما الذي جعله بأن يكون أبا لهما أولى من أن يكون كل واحد منهما أبا لما جعلتموه أبا له وأن يكون الأب خاصا؟ فلا يجدون إلى تصحيح تحكمهم سبيلا.

الكلام عليهم في معنى الاتحاد

وقد اختلفت عباراتهم عن معنى الاتحاد فقال منهم معنى الاتحاد أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح عليه السلام. وقالت طائفة أخرى وهم اليعاقبة وكثير منهم: إن الاتحاد هو اختلاط وامتزاج. وزعمت اليعقوبية أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد. وزعم كثير منهم أعني اليعقوبية والنسطورية أن اتحاد الكلمة بالناسوت اختلاط وامتزاج كاختلاط الماء وامتزاجه بالخمر واللبن إذا صب فيهما ومزج بهما. وزعم قوم منهم أن معنى اتحاد الكلمة بالناسوت الذي هو الجسد هو اتحادها له هيكلا ومحلا وتدبيرها الأشياء عليه وظهورها فيه دون غيره. واختلفوا في معنى ظهور الكلمة في الهيكل وادراعها له وإظهار التدبير عليه، فقال أكثرهم: معنى ذلك أنها حلته ومازجته واختلطت به اختلاط الخمر واللبن بالماء عند امتزاجهما. وقال قوم منهم: إن ظهور الكلمة في الجسد واتحادها به ليس على معنى المزاج والاختلاط ولكن على سبيل ظهور صورة الإنسان في المرآة والأجسام الصقيلة النقية عند مقابلتها من غير حلول صورة الإنسان في المرآة وكظهور نقش الخاتم وكل طابع في الشمع والطين وكل ذي قابل للطبع من الأجسام من غير حلول نقس الخاتم والرسم في الشمع والطين والتراب. وقال بعضهم: أقول إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح عليه السلام على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة ولا مخالطة كما أقول إن الله سبحانه حال في السماء وليس بمماس لها ولا مخالط وكما أقول إن العقل جوهر حال في النفس وهو مع ذلك غير مخالط للنفس ولا مماس لها. وزعمت الروم وهي الملكية أن معنى اتحاد الكلمة بالجسد أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة وصارت الكلمة وما اتحدت به واحدا وكان هذا الواحد بالاتحاد اثنين قبل ذلك. هذا جملة المشهور عنهم في معنى الاتحاد. فأما من زعم منهم أن معنى الاتحاد هو ظهور الابن في الجسد وادراعه له على سبيل ظهور الوجه في المرآة والنقش في المطبوع من غير حلول الوجه في المرآة وانتقال النقش إلى الشمع فلا معنى له لأن الوجه ليس يظهر في المرآة ولا صورة مثله ولا ينتقل إليها ولا يوجد على صفحتها ولا ممازجا لها وإنما يدرك الإنسان وجه نفسه عند مقابلة الأجسام الصافية الصقيلة بإدراك يحدث له بجري العادة عند مقابلة الأجسام بانعكاس الشعاع على ما يذهب إليه بعض المتكلمين فيظن عند إدراكه لنفسه ومقابلة الجسم الصقيل أن في المرآة صورة هي وجه أو مثل وجه وليس كذلك، وقد بينا هذا في غير موضع بما يغني الناظر فيه، وإذا ثبت أنه لا شيء يظهر في المرآة ولا يختص بها بطل بناء الاتحاد عليه. وأما تشبيههم ذلك بظهور نقش الطبع في الشمع والطين فإنه باطل وتخليط من قائله، وذلك أن الظاهر في الشمع شيء مثل نقش الخاتم وهو غيره لأن الحروف الموجودة بالشمع هي بعض له وجزء من أجزائه وما في الطابع من الحروف هو بعض الطابع ومن جملته وهما غيران يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر، فظنهم أن نفس النقش الذي في الشمع هو نفس الطابع جهل وتخليط، فيجب على هذا إن لم تكن الكلمة هي نفسها الظاهرة في جسد المسيح أن يكون الظاهر فيه غيرها وهو شيء مثلها وأن يكون لله سبحانه ابنان وكلمتان، أحدهما لا يحل الأجسام ولا يتخذها هيكلا ومكانا والآخر حال في جسد المسيح، وهذا قول بأربعة أقانيم وترك القول بالتثليث. وأما من قال إن الاتحاد إنما هو حلول الكلمة في المتحد به واختلاطها به وممازجتها له، فإنه يقال له: إذا جاز على الكلمة الحلول في الجسد المخلوق وممازجتها له واختلاطها به وهي مع ذلك قديمة فما أنكرتم من اجتماعها مع الجسد ومماستها له، وإذا جاز على القديم سبحانه المماسة والمجاورة والمخالطة للمحدث والممازجة له فلم لا يجوز عليه مقابلة المحدث ومحاذاته ولم لا يجوز عليه الظهور والكمون والحركة والبعد والقرب والشغل والتفريغ والتصوير والتركيب؛ فإن راموا في ذلك فصلا لم يجدوه، وإن مروا على ذلك قيل لهم: فإذا جاز أن يكون ما هذه صفته قديما وقد كان في القدم غير مماس ولا ممازج ولا مخالط فما أنكرتم أن يكون سائر الأجسام المماسة المختلطة المتحركة الساكنة قديمة وما الذي جعل الكلمة التي هذه صفتها بالقدم أولى منها بالحدث وما الذي جعل الأجسام بالحدوث أولى من الكلمة. ويقال لليعقوبية: إذا جاز أن ينقلب ما ليس بلحم ولا دم لنفسه وما هو مخالف للدم واللحم لنفسه لحما ودما بالاتحاد فلم لا يجوز أن تنقلب الكلمة التي تخالف المحدثات لنفسها وليست بمحدثة لنفسها محدثة بالاتحاد فيصير القديم لنفسه بالاتحاد محدثا عند اتحاده كما صار لحما ودما عند اتحاده، ولم لا يصير المحدث لنفسه قبل اتحاد القديم به قديما عند اتحاد القديم به فيخرج عن أن يكون لحما ودما عند اتحاده في المتحد به فتصير الطبيعتان واحدة ويصير ما ليس بلحم ودم لحما ودما وما هو لحم ودم غير لحم ولا دم - فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا. وأما قول من قال إن الاتحاد هو حلول الكلمة في الناسوت من غير مماسة وأنه كحلول الباري سبحانه في السماء وكحلوله على العرش من غير مماسة لهما، فإنه باطل غير معقول وذلك أن الباري سبحانه ليس في السماء ولا هو مستو على عرشه بمعنى حلوله على العرش لأنه لو كان حالا في أحدهما ومستويا على الآخر بمعنى الحلول لوجب أن يكون مماسا لهما لا محالة. وأما قولهم إن العقل جوهر حال في النفس مماس لها، فإنه باطل لأن الجوهر لا يحل في العرض وإنما يحل في الجسم على معنى المماسة له والاعتماد عليه واتخاذه مكانا يعتمده ويحيط به من جهاته كحلول الماء في الجب والدهن في القارورة؛ وإذا لم يعقل الحلول إلا مماسة وملاصقة وكانت المجاورة والاجتماع من صفات الأجسام وكانت كلمة الله غير جسم لم يجز عليها الاتحاد والحلول في الأماكن. وأما قول الروم إن الاتحاد هو أن يصير الكثير قليلا والاثنان واحدا، فإنه قول جميعهم لأنهم كلهم يزعمون أن الاتحاد أن يصير الكثير قليلا والروم توافق اليعاقبة والنسطورية في أن الاتحاد لا يكون إلا بامتزاج واختلاط، فيقال لهم: إذا لم يجز أن يحصل الاتحاد وأن يصير الاثنان واحدا إلا بالاختلاط والامتزاج وكنا قد بينا أن ذلك مماسة وملاصقة وأنه بمنزلة الحركة والسكون والظهور والكمون وأن هذه الأمور أجمع تختص بالأجسام ولا تجوز إلا عليهما، لم يصح الاتحاد على الكلمة القديمة ولا أن يصير الاثنان واحدا أبدا لأنه معلق بمحال لا يصح وهو مماسة ما ليس بجسم وذلك ممتنع محال. ويقال للروم: إذا جاز أن يتحد قديم بمحدث فيصيران واحدا وقد كانا اثنين قبل الاتحاد فما أنكرتم أن يتحد محدث بمحدث إذا خالطه ومازجه فيصيران بذلك واحدا، وما أنكرتم أن يصير الرطلان والقدحان اللذان أحدهما خمر والآخر ماء إذا اختلطا وامتزجا رطلا واحدا وقدحا واحدا، وما أنكرتم أيضا من أن يصير العرضان إذا وجدا في محل واحد عرضا واحدا جنسا واحدا وإن كان أحدهما حركة والآخر سوادا، وما أنكرتم من أن تتكثر القلة فتصير الطينة الواحدة والشيء الواحد الذي لا بعض له ولا نصف ولا تأليف فيه ولا صورة له مائة ألف شيء وذا أبعاض وأبعاد وأقطار وصور متغايرة وأشكال مختلفة على حد ما يقوله بعض الفلاسفة؛ فإن مروا على هذا أجمع تركوا قولهم وتجاهلوا، وإن أبوه لم يجدوا فصلا. ويقال للروم أيضا: إذا كان من دينكم مخالفة النسطورية واليعاقبة في قولهم إن الكلمة اتحدت بإنسان واحد جزئي دون غيره وكنتم تزعمون أن الابن إنما اتحد بالإنسان الكلي وهو الجوهر الجامع لسائر أشخاص الناس لكي يخلص الجوهر الجامع لسائر الناس من المعصية وهو إذا اتحد بالإنسان الكلي صار معه واحدا، فيجب أن يصير الجوهر الكلي جزئيا وأقنوما واحدا لأن الابن أحد الأقانيم وليس هو كل الأقانيم والخواص فهو من حيث القنومة شخص واحد جزئي فإذا صار عند الاتحاد بالإنسان الكلي الذي هو الجوهر الجامع لكل الناس شيئا واحدا وجب أن يكون كليا جزئيا لأنه كلي من حيث كان جوهرا جامعا لسائر الناس وجزئي من حيث كان خاصا وقنوما للجوهر العام فيجب أن يكون كليا جزئيا - وهذا غاية الإحالة.

فصل في قول النصارى إن الاتحاد فعل

وقد أطبقت النصارى على أن الاتحاد فعل من الأفعال صار به المتحد متحدا والمسيح مسيحا. فيقال لهم: خبرونا عن الاتحاد بالإنسان المتحدة به الكلمة إذا كان فعلا فهل له عندكم فاعل أم لا؟ فإن قالوا: لا فاعل له؛ قيل لهم: فما أنكرتم من أن يكون سائر الأفعال والحوادث لا فاعل لها - وليس ذلك من قولهم. وإن قالوا: الاتحاد فعل لفاعل فعله وكان به متحدا؛ قيل لهم: فمن فاعله أهو الجوهر الجامع للأقانيم دون الأقانيم أم الأقانيم الثلاثة دونه أم هو والثلاثة الأقانيم أم الفاعل له واحد من الأقانيم؟ فإن قالوا: هو الجوهر العام الجامع للأقانيم؛ قيل: فيجب أن يكون الجوهر هو المتحد بالجسد والإنسان الكلي أو الجزئي على ما تختارونه لأن المتحد عندكم هو من فعل الاتحاد دون من لم يفعله، ويجب أيضا أن يكون هو الإله المستحق للعبادة لأنه هو الفعال لها. وكذلك إن قالوا: الجوهر والأقانيم فعلوا الاتحاد؛ قيل لهم: فيجب أن يكون هو والثلاثة الأقانيم متحدين بالإنسان، ولا معنى لقولكم إن الابن وحده هو المتحد دون الأب والروح ودون الجوهر العام الجامع للأقانيم؛ وهذا نقض قولكم إن الاتحاد للابن فقط. وكذلك إن قالوا: إنما فعل الاتحاد الأقانيم الثلاثة دون الجوهر؛ قيل لهم: فيجب أن يكون الروح أيضا متحدا وألا يكون الابن وحده من خواص الجوهر متحدا. وإن قالوا: فاعل الاتحاد إنما هو الابن وحده ولانفراده بفعل الاتحاد كان متحدا دون الروح؛ قيل لهم: فإذا جاز أن ينفرد الابن بفعل حادث هو الاتحاد دون الروح والأب ودون الجوهر العام، فلم لا يجوز أن ينفرد الروح بفعل حادث وحوادث أخر وأن ينفرد كل أقنوم من الأقانيم بعوالم وأفعال لا يفعلها الآخر وينفرد الجوهر الجامع بفعل غير فعلها، وإذا كان ذلك كذلك جاز أن تتمانع وتختلف. ويقال لهم: إذا كانت الأقانيم تفعل كما أن الجوهر الجامع لها يفعل فلم صار بأن يكون جامعا لها وأن تكون خواص له أولى من أن يكون هو خاصا لها وهي جامعة له فيكون أقنوما من أقانيمها؛ فلا يجدون لذلك مدفعا.

مسألة في الاتحاد (كيف اتحدت الكلمة بالمسيح دون الأب والروح)

ويقال لهم: كيف اتحدت الكلمة التي هي الابن بجسد المسيح دون الأب والروح مع قولكم بأنه غير مباين لهما ولا منفصل عنهما، وإن جاز ذلك فما أنكرتم من أن يكون الماء الممازج للخمر المختلط به مشروبا دون الخمر أو الخمر مشروبا دون الماء وإن كانا غير منفصلين ولا متباينين؛ وإذا استحال هذا عندكم وجب أن يكون شارب الخمر الممتزج بالماء شاربا للخمر والماء إذا كانا غير منفصلين ولا متباينين، فما أنكرتم من أن يجب إذا كان الابن متحدا وهو غير منفصل من الروح والأب ولا مباين لهما أن يكون الأب والروح متحدين به كما أن الابن متحد به. فإن قالوا: إن الكلمة إنما اتحدت بالإنسان الكلي في الجزئي الذي ولدته مريم عليهما السلام؛ قيل لهم: فيجب أيضا أن يكون الأب والروح متحدين بالكلي في الجزئي الذي ولدته مريم، لأننا لسنا نقصد بهذا السؤال الكلام في الإنسان الذي اتحدت به الكلمة وهل هو جزئي أو كلي أو اتحاد بالكلي في الجزئي الذي ولدته مريم، وإنما الكلام في كيف يمكن أن يكون الابن متحدا بما اتحد به كلي أو جزئي دون الأب والروح وهو غير مباين لهما ولا منفصل عنهما؟ فأجيبوا عن هذا إن كنتم قادرين. ثم يقال لهم: إن كانت الكلمة اتحدت بالإنسان الكلي فلا يخلو أن تكون اتحدت به في مكان أو لا في مكان، فإن كانت اتحدت به لا في مكان فليس بينها وبين الجسد المولود المأخوذ من مريم إلا ما بينه وبين سائر أجسام الناس وسائر الأجساد، ولا مزية لمريم ولا للجسد المأخوذ منها إذا لم يكن للابن اتحاد به ولا بغيره، ويجب أن يكون القتل والصلب جاريين على الجسد فقط لا على الابن ولا على المسيح لأن الجسد الذي لا اتحاد للابن به ليس بمسيح، فكيف يكون المسيح مقتولا مصلوبا؛ وإن كان اتحاد الابن بالكلي اتحادا به في مكان ما هو الجسد المأخوذ من مريم أو غيره من الأجسام، فيجب أن يكون الكلي محصورا في ذلك المكان الجزئي وأن يكون الجزئي حاويا محيطا بالكلي ومكانا له وإن كان جزءا منه؛ وهذا عكس ما في العقل وقلبه، لأن ذلك لو جاز لجاز اشتمال العدد القليل على العدد الكثير وزيادته عليه ولجاز أن يكون الصغير من الأجسام محيطا بالعظيم وحاويا له، وإذا علمنا بأوائل العقول فساد ذلك علمنا أيضا استحالة اتحاد الابن بالكلي إن كان ها هنا كلي في مكان صغير جزئي.

مسألة على الملكية (كيف ولدت مريم الابن دون الأب وروح القدس)

يقال لهم: خبرونا كيف ولدت مريم الابن دون الأب وروح القدس وهو غير مباين لهما ولا منفصل عنهما فيكون المتحد بالجسد حملا في بطن مريم والأب والروح والجوهر الجامع للأقانيم لا في بطن مريم وهما مع ذلك غير متباينين ولا منفصلين مما هو حال في الجسد في بطن مريم فما لا ينفصل ولا يتميز من الذات كيف يكون منه مولود ومنه غير مولد ومنه غير متحد لولا الجهل والعجز.

مسألة أخرى على الملكية (مريم أهي إنسان كلي أم إنسان جزئي)

يقال لهم: خبرونا عن مريم أهي إنسان كلي أم إنسان جزئي؟ فإن قالوا: إنها كلي، تجاهلوا وقيل لهم: فما أنكرتم أن يكون كل ذكر وأنثى من الناس إنسانا كليا؟ فإن قالوا هو كذلك تركوا قولهم، وقيل لهم: فأي هو الإنسان الجزئي وكل جزئي تشيرون إليه على قولكم هذا فهو كلي، فلا يجدون إلى إثبات الجزئي سبيلا؛ وفي هذا هدم مذهبهم. وإن قالوا: مريم عليها السلام إنسان جزئي؛ قيل لهم: فالإنسان الذي ولدته أليس هو الذي اتحد الابن بولادته؟ وإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فخبرونا عن الإنسان الذي ولدته مريم أكلي هو أم جزئي؟ فإن قالوا: جزئي تركوا قولهم بأن الابن متحد بالإنسان الكلي الذي أراد خلاصه، وصاروا إلى قول النسطورية واليعاقبة. وإن قالوا: الإنسان المأخوذ من مريم هو ابن مريم، فإذا قالوا أجل؛ قيل لهم: فهو كلي وأمه التي هي مريم إنسان جزئي، فيجب على قولكم أن يكون الإنسان الكلي ابن الإنسان الجزئي، وهذا طريف جدا لأننا لو فرضنا عندهم عدم مريم لم يعدم الإنسان الكلي ولو فرضنا عدم الإنسان الكلي لم تكن مريم ولا غيرها من جزئيات الإنسان. وكيف يكون الكلي ابن ما لا يجب أن يعدم بعدمه ويرتفع بارتفاعه ويكون الجزئي حاويا للكلي. ويقال لهم: أنتم تقولون إن الجوهر الكلي وكل ما تقولون إنه كلي لا تصح ولادته ولا أن يحويه مكان دون مكان، والمولود من مريم كان في بطنها وكان مكانه منها حاويا له فكيف يكون كليا؟ فإن جاز أن يكون الكلي ابن الجزئي فلم لا يجوز أن تكون مريم ابنة عيسى المولود منها وأن يكون آدم ونوح ابني مريم التي هي ابنة لهما - هذا تجاهل عظيم لا يبلغه صاحب تحصيل.

مسألة على جميعهم (أبقي الاتحاد حال وقوع القتل والصلب)

ويقال لهم: خبرونا عن اتحاد الابن بالجسد أكان باقيا موجودا في حال وقوع القتل والصلب به أم لا؟ فإن قالوا: كان باقيا موجودا؛ قيل لهم: فالذي مات مسيح من طبيعتين لاهوت وهو الابن وناسوت وهو الجسد، فيجب أن يكون ابن الله القديم قد مات كما قتل وصلب لأن جواز القتل والصلب عليه كجواز الموت، وإذا صار الابن عند القتل ميتا لم يجز أن يكون في تلك الحال إلها لأن الإله لا يكون ميتا ولا ناقصا ولا ممن يجوز عليه الموت، ولو جاز ذلك عليه لجاز موت الأب والروح - وهذا ترك قولهم. وإن قالوا: الاتحاد بطل عند القتل والصلب؛ قيل لهم: فيجب انتفاض الاتحاد عند القتل والصلب، وهذا ترك قولهم، ويجب أيضا ألا يكون المقتول مسيحا لأن الجسد عند انتفاض الاتحاد ومفارقة المتحد به ليس بمسيح، وإنما يكون الجسد وما اتحد به مسيحا مع ثبوت الاتحاد ووجوده فإذا بطل كان المقتول المصلوب الواقع عليه الموت إنسانا، ولا معنى لقولكم إن المسيح قتل وصلب.

مسألة أخرى على جميعهم في الاتحاد (لم قلتم اتحدت كلمة الله بالمسيح دون موسى وإبراهيم وغيرهما)

يقال لهم: لم قلتم إن كلمة الله اتحدت بجسد المسيح دون جسد موسى وإبراهيم وغيرهما من النبيين؟ فإن قالوا: لأجل ما ظهر عل يد عيسى من فعل الآيات واختراع المعجزات التي لا يقدر البشر على مثلها، من نحو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجعل القليل كثيرا وقلب الماء خمرا والمشي على الماء وصعود السماء وإبراء الزمن وإقامة المقعد وغير ذلك من عجيب الآيات فوجب أن يكون إلها وأن الكلمة متحدة به؛ يقال لهم: لم زعمتم أن عيسى فاعل لما وصفتم من الآيات ومخترع لها وما أنكرتم أن يكون غير قادر على قليل من ذلك ولا كثير وأن يكون الله تعالى هو الذي فعل جميع ما ظهر على يده من ذلك وتكون حاله فيه حال سائر الأنبياء فيما ظهر عليهم من الآيات. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكوم موسى عليه السلام إلها وأن تكون الكلمة متحدة به لما فعله من الآيات البديعة نحو قلب العصا حية ذات فم وعينين وخروق ولم تكن من قبل حية ولا فيها رسم عينين ولا فم ونحو فلق البحر وإخراج يده بيضاء وغير ذلك وما أتى به من الجراد والقمل والضفادع والدم وغير ذلك مما لا يقدر عليه البشر؟ فإن قالوا: موسى لم يكن مخترعا لشيء من ذلك وإنما كان يدعو ويرغب إلى الله تعالى في أن يظهر على يديه ذلك؛ يقال لهم: فما أنكرتم أن تكون هذه حال عيسى وأنه كان يرغب إلى خالقه وربه ومالكه في أن يظهر الأيات على يده، وقد نطق الإنجيل بذلك لأن في الإنجيل أن عيسى عليه السلام بكى فقال: "رب إن كان في مشيئتك أن تصرف هذه الكأس عن أحد فاصرفها عني"، وأنه أراد أن يحيي كهلا فقال: "يا أبي أدعوك كما كنت أدعوك فتستجيب لي وإنما أدعوك من أجل هؤلاء ليعلموا" وقال: "يا أبي أنا أحمدك" وقال وهو على الخشبة وقت الصلب بزعمهم: "إلهي، إلهي، لم تركتني"؛ وهذا فوق دعاء موسى وتضرعه وابتهاله فوجب أنه عبد مربوب ومحدث مخلوق كموسى وغيره من الرسل عليه السلام. وإن قالوا عيسى كان يدعو ويرغب بهذا الدعاء عل سبيل التعليم للأتباع والتلاميذ، وإلا فقد يخترع الآيات اختراعا ويأمر أن يكون فيكون؛ قيل لهم: فما أنكرتم من أن يكون دعاء موسى ورغبته إنما وقع على سبيل التعليم وإلا فقد كان يخترع فلق البحر وإخراج اليد بيضاء وقلب العصا ثعبانا وتظليلهم بالغمام واختراع المن والسلوى ويأمر بأن يكون ذلك فيكون - فلا يجدون إلى ذلك مدفعا. فإن قالوا: قولنا مسيح اسم لمعنيين لاهوت هو إله وناسوت هو إنسان مخلوق فما كان من تضرع ودعاء فإنما وقع من الإنسان الذي هو الناسوت وما كان من إحداث آية وإظهار معجزة فهو واقع من الإله دون الإنسان؛ يقال لهم: فما أنكرتم من أن يكون موسى أيضا اسما لمعنيين إله وإنسان، فما كان من دعاء ورغبة فإنه واقع من الناسوت وما كان من اختراع آية أو إبداع معجزة فإنه من اللاهوت دون الناسوت - ولا فصل في ذلك. فإن قالوا: كل واحد من هؤلاء الأنبياء قد أقر بلسانه بأنه مخلوق وعبد مربوب مألوه مرسل من عند الله عز وجل والمسيح لم يقر بذلك؛ قيل لهم: وكذلك المسيح قد اعترف بأنه نبي مرسل وعبد مخلوق لأن الإنجيل ينطق بأنه قال إني عبد الله، وأرسلت معلما، وقال: فكما بعثني أبي فكذلك أبعثكم، عمدوا الناس وغسلوهم باسم الأب والابن والروح القدس، قال في الإنجيل: إن النبي لا يكرم في مدينته، في نظائر هذه الإقرارات عنه كثيرة بأنه نبي وعبد مرسل ومألوه مدبر، فوجب أنه ليس بإله. فإن قالوا: هذه الإقرارات واقعة من ناسوت المسيح دون لاهوته؛ قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون كل إقرار سمع من نبي بأنه خلق وعبد ونبي فإنه إقرار ناسوته دون لاهوته، فهل تجدون في ذلك فصلا. وإن قالوا: إنما قلنا إن المسيح إله لأن الله قال في الكتب إنه إله وسماه بذلك فقال: العذراء البتول تحمل وتلد ابنا يدعى أو يسمى إلها؛ يقال لهم: فقد قلتم: قال الله لموسى: إني قد جعلتك إلها لهارون وجعلتك إله فرعون، على معنى أنك مدبر له وآمر له وواجب عليه طاعتك فقد كانت هذه لغة. ثم يقال لهم: لم يخبر الله تعالى بأنه هو سماه أو يسميه إلها وإنما قال يدعى اسمه إلها فيمكن أن يكون أراد أن قوما يغلون في تعظيمه ويدعونه بذلك ويتجاوزون به الحد ويكذبون في ذلك ويفترون، فمن أين لكم ما سمي به من ذلك واجب صحيح - فلا يجدون إلى ذلك سبيلا. وإن هم قالوا: إنما قلنا إن عيسى إله وإن الكلمة اتحدت به لأنه ولد لا من فحل وليس كذلك من ذكرتموه من الرسل؛ فيقال لهم: فيجب على قياسكم أن يكون آدم عليه السلام إلها لأنه وجد لا من ذكر ولا أنثى، فهو أبعد عن صفة المحدث لأنه لم يحل بطن مريم ولا غيرها، ولا كان من معدن ولد ولا موضع حمل، وكذلك يجب أن تكون حواء ربا لأنها خلقت من ضلع آدم من غير ذكر ولا أنثى، فهو أبعد. وكذلك المطالبة عليهم في وجوب كون الملائكة آلهة لأنهم لا من ذكر ولا أنثى ولا على وجه التبني. فإن قالوا: إنما وجب القضاء على ربوبيته لأنه قال في الإنجيل وهو الصادق المصدوق في قوله أنا وأبي واحد ومن رآني فقد رأى أبي؛ يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون معنى ذلك أن من أطاعني فقد أطاع أبي أي مرسلي ومعلمي الحكمة ومن عصاني فقد عصاه فيكون معنى أبي أي إنه معلمي ومرسلي، وقوله فمن رآني فقد رآه معناه فكأنه قد رآه وسمع كلامه وأمره ونهيه - لأنه لو كان هو وأبوه واحدا لوجب أن تكون الولادة والحمل والقتل والصلب والأكل والشرب والحركة الجارية عليه كل ذلك جاريا على الأب وإذا كان هو المتحد بالجسد أن يكون الأب متحدا به، فهذا كله ترك لقولهم إن ركبوه. فإن قالوا: إنما وجبت إلهية المسيح لأنه قال وهو الصادق في قوله أنا قبل إبراهيم وهو إنسان من ولد إبراهيم فعلمنا بذلك أنه قبل إبراهيم بلاهوته وابنه بناسوته؛ يقال لهم: فما أنكرتم أن يكون المراد بقوله أنا قبل إبراهيم أن كثيرا من ديني وشرعي كان متعبدا به مشروعا قبل إبراهيم على لسان بعض الرسل أو ما أنكرتم أن يكون أراد بقوله أنا قبل إبراهيم أي مكتوب عند الله وأنا معروف قبل إبراهيم عند قوم من الملائكة أو أنا مبعوث إلى المحشر قبل إبراهيم، إذ لا يجوز إثبات الربوبية بجسد أكل الطعام ومشى في الأسواق. والقول بأن اللاهوت اتحد به قول بعيد لا يحتمل التأويل. وفي سفر الأمثال وقد قال سليمان عليه السلام في كتابه: أنا قبل الدنيا وكنت مع الله سبحانه حيث مد الأرض وكنت صبيا ألعب بين يدي الله تعالى؛ ولم يجب أن يكون سليمان قبل الدنيا أو مع الله سبحانه حيث مد الأرض بلاهوته وأن يكون ابنا لداود بناسوته. فإن قالوا أراد أن إسمي عند الله قبل خلق الدنيا وفي علمه وعنده حيث مد الأرض والعلم بإرسالي وتمليكي أو غير ذلك من التأويلات؛ قيل لهم مثله فيما احتجوا به - ولا جواب عنه.

باب الكلام على البراهمة

وقد افترقت البراهمة على قولين فمنهم من جحد الرسل وزعم أنه لا يجوز في حكمة الله سبحانه وصفته أن يبعث رسولا إلى خلقه وأنه لا وجه من ناحيته يصح تلقي الرسالة عن الخالق سبحانه. وقال الفريق الآخر إن الله تعالى ما أرسل رسولا سوى آدم عليه السلام وكذبوا كل مدع للنبوة سواه. وقال قوم منهم بل ما بعث الله تعالى غير إبراهيم وحده وأنكروا نبوة من سواه. وهذا جملة قولهم. فيقال لمن أحال من الله سبحانه إنفاذ رسله إلى خلقه لم قلت ذلك وما دليلك عليه فإن قال لعلمه سبحانه بأن الرسول من جنس المرسل إليه وأن جوهرهما واحد وأن تفضيل أحد المتماثلين المتساويين على مثله ونوعه ومن هو بصفتة حيف ومحاباة وميل وخروج عن الحكمة وذلك غير جائز على الحكيم. يقال لهم: لم قلتم إن تفضيل الله سبحانه بعض الجنس على بعض ورفع بعضهم إذا كان محاباة للمتفضل عليه وجب أن يكون ظلما وخروجا عن الحكمة وما أنكرتم أن يكون لله سبحانه أن يختص بفضله من يشاء من خلقه وله التسوية بين سائرهم فإن ذلك أجمع عدل منه وصواب من تدبيره. فإن قالوا لأن تفضيل أحد المتجانسين على الآخر في الشاهد سفه منا فوجب القضاء بذلك على القديم تعالى قيل لهم: ولم قلتم إن ذلك سفه وما أنكرتم من أنه جائز لنا وصواب في حكمتنا أن نحبو بعض عبيدنا وأصدقائنا والمتصرفين معنا كتصرف غيره بأكثر مما مما نحبو به غيره ونفضله بعطاء وتشريف لا يستحقه أكثر مما نحبو به غيره فلم قلتم إن هذا سفه وقبيح من فعلنا. ويقال لهم: نحن نمنعكم أشد المنع من أن يكون في العقل بمجرده طريق لقبح فعل أو لحسنة أو حظره أو إباحته أو إيجابه ونقول إن هذه الأحكام بأسرها لا تثبت للأفعال إلا بالشرع دون قضية العقل وسنتكلم على هذا الباب وما يتصل به في باب التعديل والتجوير من كتابنا هذا إن شاء الله فإن قالوا لو حسن من الله ما قلتم لحسن من الله أن يشكر ويثنى على من لم يعمل شيئا أو من قل فعل البر منه بأكثر مما يشكر ويثني على العامل الزاهد المجتهد قيل لهم: لم قلتم ذلك. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون الفرق بينهما أن الشكر والثناء على المرء بما لم يكن منه كذب والكذب مستحيل على الله تعالى إذ كان الصدق من صفات نفسه ولغير ذلك كما يستحيل عليه الجهل والعجز والتفضل على من لم يعمل أو على من عمل أقل من عمل غيره بأكثر من التفضل على العامل إنعام وإحسان وليس ذلك بقبيح ولا من الكذب بسبيل فبطل ما قلتم. ثم يقال لهم: ما أنكرتم على من قال من مثبتي نبوة الرسل إن الله تعالى ليس يفضل أحد الشخصين على الآخر المجانس له ابتداء ولا لأجل جنسه ولكن لأجل أنه مستحق للتفضيل بالرسالة وغيرها بعمله والإخلاص في الاجتهاد كما أن الله تعالى يفضل المنيب وقابل الحجج العقلية عندكم على من لم يقبلها لا لجنسه ولا لابتدائه بذلك ولا لغير علة ولكن لأنه مستحق للتعظيم والشكر والثناء عندكم لما كان من بره وطاعته فيكون التفضيل بالرسالة إذا أراد الله سبحانه إرسال بعض عباده إلى باقيهم مستحقا لأنه أفضلهم وأكثرهم عملا فلا يجدون لذلك مدفعا. ويقال لهم أيضا: ما أنكرتم من أنه لا يجوز في عدل القديم سبحانه وحكمته على موضوع دليلكم أن يخلق في بعض عباده الجهل وفي بعضهم العلم وفي بعضهم العمى والبكم والخرس والزمانة وفي بعضهم القوة والتمكين وصحة الآلة وكمال العقل والنحيزة الطبيعية لأن ذلك تفضيل بعض الجنس على بعض. فإن قالوا عطيته العلم والحياة وكمال العقل والحواس لبعضهم ومنعه لغيرهم مصلحة للمعطى والممنوع وسبيل لهم إلى نفع عظيم هو سبحانه أعلم به قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون إرساله بعض الخلق وجعله راعيا وجعل باقيهم رعية مصلحة للراعي والرعية وللرسول والمرسل إليه ولطفا لهم في النظر في حجج العقول التي أمرهم بالرجوع إليها والعمل على موجبها. ويقال لهم: إن بنيتم الأمر على قبح ذلك في الشاهد بزعمكم فيجب أن تقضوا على أن الفاعل للعالم لا يفعله إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة وداع دعاه إلى الفعل وبعثه عليه وأنه تعالى جسم مؤلف ذو حيز وقبول للأعراض وفي مكان دون مكان لأنكم لم تعقلوا فاعلا في الشاهد إلا كذلك فإن مروا على هذا أبطلوا الحدوث والمحدث وسيقت عليهم مطالبات الدهرية وإن أبوه نقضوا استدلالهم بمجرد الشاهد والوجود.

علة أخرى لهم (زعمهم الرسول من جنس المرسل)

فإن قالوا الدليل على أنه لا يجوز أن يرسل الله تعالى رسولا إلى خلقه أنا وجدنا الرسول في الشاهد والمعقول من جنس المرسل فلما لم يجز أن يكون القديم من جنس المخلوقات بذاته ثبت أنه لا يجوز أن يرسل رسولا إلى خلقه؛ فيقال لهم: فيجب على اعتلالكم هذا ألا يكون الله سبحانه محتجا على الخلق بعقولهم ولا آمرا لهم بما وضعه فيها عندكم من وجوب فعل الحسن وترك القبيح واستعمال النظر وفعل التوحيد لله والمعرفة به والشكر لنعمه لأن المحتج الآمر في الشاهد من جنس المأمور المحتج عليه فإن مروا على ذلك تركوا التوحيد ولحقوا بأهل التعطيل وإن أبوه وراموا فصلا نقضوا استدلالهم. ويقال لهم: فيجب على موضوعكم ألا يكون القديم سبحانه شيئا ولا فاعلا ولا عالما حيا قادرا لأن ذلك يوجب أن يكون من جنس الأشياء المعقولة لأن الشيء في الشاهد والوجود لا ينفك من أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا والحي العالم القادر لا يكون إلا جسما وجواهر مجتمعة والفاعل منا لا يفعل إلا في نفسه أو في غيره بسبب يحدثه في نفسه فإن لم يجب هذا أجمع سقط ما تعلقتم به.

دليل آخر لهم (زعمهم استحالة تلقي الرسالة)

واستدلوا أيضا على منع إرسال الرسل بأن قالوا لم نجد وجها من قبله يصح تلقي الرسالة عن الخالق جل ذكره وذلك أنه ليس ممن يدرك بالأبصار ويشاهد بالحواس فيتولى مخاطبة الرسول بنفسه من حيث يراه ويعلمه مخاطبا له حسب الرائيين أحدهما للآخر وإنما يدعي الرسول العلم بالرسالة من جهة صوت يسمعه أو كتاب يقع إليه أو سماع شخص ماثل بين يذكر أنه بعض ملائكة ربه قالوا وذلك كالذي ادعاه موسى بن عمران من أن الله تعالى كلمه وتولى خطابه بلا واسطة ولا ترجمان قالوا ولم يدع مع ذلك رؤية ربه سبحانه وإنما أخبر عن صوت سمعه فيما يدريه لعل صاحب ذلك الصوت ومكلمه بعض الملائكة أو الجن أو مستتر عنه من الإنس ولا له إلى أن يعلم أن متولي خطابه هو الله رب العالمين مع علمه بأن في العالم أرواحا ناطقة بمثل ما سمعه ومن جنسه وعلى صفته. وكذلك زعموا أن قول الرسول إن الذي أدى إليه الرسالة عن ربه ملك مقرب قول لا سبيل له إلى العلم به ولعل الذي خاطبه عفريت من العفاريت أو بعض السحرة والمخيلين فأما التعويل على كتاب يظن أنه من عند ربه فهو أبعد الأمور من أن يعلم أن ذلك الكتاب ليس من عمل البشر ونظمهم ولو أنه أيضا سقط عليه من نحو السماء لم يدر لعله مما طرحه عفريت من العفاريت أو مما أرسل مع الريح أو حملته فألقته إليه. وإذا كان ذلك كذلك فلا سبيل إذا للرسول إلى تلقي الرسالة عن الخالق تعالى وفي فساد الطريق إلى ذلك فساد القول بنبوة الرسل عليهم السلام. فيقال لهم: ما أنكرتم من سقوط ما تعلقتم به وذلك أن موسى عليه السلام وكل من تولى الله خطابه بلا واسطة ولا ترجمان يعلم أن خالق العالم هو المتولي لخطابه من أربعة أوجه أحدها أن كلام الله سبحانه الذي يخاطب به من يشاء من خلقه ليس من جنس كلام الآدميين ولا مشبها لكلام المخلوقين بل هو مخالف لسائر الأجناس والأصوات وأبنية اللغات وإن كان مسموعا بحاسة السمع لما قام عندنا من الدليل على قدمه واستحالة خلقه وأنه صفة من صفات ذات المتكلم به وسنوضح ذلك بما يوضح الحق في باب القول في الصفات إن شاء الله تعالى. وإذا كان ذلك كذلك علم من تولى الله خطابه أن المتكلم له بما سمعه هو القديم الذي ليس كمثله شيء وأنه الذي ينبغي أن يكون ما سمعه كلاما له دون سائر الخلق. والوجه الآخر أنه لو كان ما سمعه الرسول أو الملك من جنس كلام الآدميين لكان الله سبحانه قادرا على أن يضطره إلى العلم بأنه هو المكلم له وأن الكلام الذي سمعه كلام له بأن يضطره أولا إلى العلم بذاته ووجوده ثم يضطره إلى العلم بأن الكلام كلامه وأن مراده به إن كان بصيغة ما يحتمل وجوها من الكلام كذا وكذا وسقط عن الرسول تكليف معرفته وفرض العلم بوجوده إذا كان قد اضطره إلى العلم به ويكلفه تحمل الرسالة وأداءها إلى من شاء من خلقه ولعل في ملائكته من هذه سبيل علمه به وبكلامه ومراده له إن لم يمنع من ذلك سمع أو توقيف ولا سمع نعرفه في ذلك يمنع منه وإذا كان ذلك كذلك بطل سؤالكم أنه لا سبيل للرسول إلى العلم بتلقي الرسالة عن الخالق. وما أنكرتم أيضا من أن يصح علم الرسول بأن الله سبحانه هو المتولي لكلامه مع بقاء المحنة عليه وإلزام الله سبحانه إياه معرفته من وجهين أحدهما أن يجعل الخطاب له خبرا عن غيب استسره موسى عليه السلام واعتقده في نفسه ولم يطلع عليه أحدا من الخلق ويخبره عما أحبه قلبه وانطوى عليه ضميره أخبارا متصلة تخرج بكثرتها عن حد ما يمكن إصابة الظان والمخمن فيه لأن المعلوم بمستقر العادة أن الحادس يصيب في الخبر والاثنين والثلاثة ولا يصيب في المائة والمائتين والألف والألفين حتى لا يغلط في واحد منها وإذا كان ذلك كذلك كان الله تعالى متى أراد إعلام من يتولى خطابه أنه المتولي لكلامه ضمن خطابه الإخبار عن الغيوب وما أسرته النفوس فيعلم المخاطب عند ذلك أن المتولي لكلامه هو علام الغيوب لتقدم علمه بأن الإخبار عن ذلك والإصابة له في جميعه متعذر على المخلوقين وأن المنفرد بهذا هو الله رب العالمين وهذا طريق للعلم بصحة الرسالة عن الله واضح لا إشكال فيه. وقد يمكن أن يعلم الله سبحانه الرسول أنه المتولي لخطابه بأن يقول أنا الله الذي لا إله إلا أنا وآية ذلك أني أقلب الجماد حيوانا وأخرج يدك بيضاء وأفلق البحر وأخرج الحيوان من الصخر فيعلم الرسول أن المتولي لخطابه هو محدث الآيات ومبدع المعجزات لتقدم علمه بأن الخلق لا قدرة لهم على ذلك. وليس يجوز أن يحمل الله الرسالة لبعض أنبيائه وهو مع ذلك ممن لم يتقدم علمه بأن أحدا من المخلوقين لا يستطيع الإخبار عن الغيوب والإصابة فيها ولا يقدر على إبداع الأجسام وإحياء الموات وخرق العادات بل لا يرسل إلا أكمل الخلق علما به ومعرفة له وإذا كان ذلك كذلك سقط ما توهمتم وكذلك أيضا إنما يتبين الرسول من البشر أن المنزل عليه بالرسالة ملك من عند ربه بأن يكون الخطاب الذي أداه إليه متضمنا لإخباره عن الغيوب أو بأن يظهر معه من الآيات مثل الذي ظهر على أيدي الرسول عند الأداء إلى أمثالهم من ولد آدم فيعلم عند ذلك أن من ظهرت هذه الأمور على يده فليس بساحر ولا شيطان ولا متمثل من الأرواح وكل هذا يبطل ما توهموه فأما الكتاب الساقط على يد الرسول فلا بد من أن يكون معه آية تظهر على يد ملك سواء يؤديه أو بأن ينطق الله الكتاب ويحييه حتى يؤدي عن نفسه ويخبر بمتضمنه ويخرق العادة بما يظهر منه فلا تعلق لهم في ذلك.

دليل آخر لمنكري الرسالة

واستدلوا على إبطال الرسالة بأن قالوا وجدنا المدعين للرسالة يزعمون أنه لا طريق إلى العلم بصدقهم إلا وجود محالات ممتنع في العقل وجودها من نحو فلق البحر وخلق ناقة من صخرة وقلب العصا حية وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والمشي على الماء وإنطاق الذئب والحصا وما جرى مجرى ذلك من ادعائهم جعل القليل كثيرا والقليل لا يتكثر كما أن الكثير لا يتقلل ويتوحد وإذا كان كذلك بطل ما يدعونه فيقال لهم: ما الذي أردتم بقولكم إن هذه الأمور مستحيلة ممتنعة أعنيتم بذلك أنها مستحيلة في العادة أو في قدرة الصانع تعالى فإن قالوا في قدرة الصانع ألحدوا وتركوا دينهم وقيل لهم: ما الدليل على إحالة ذلك وإن قالوا لأننا لم نجد أحدا فعله ولا يقدر عليه ولا رأينا ذلك قط ولا جرى مثل ما تدعون قيل لهم: فيجب أن تحيلوا أيضا أن يخلق الله تعالى الأجسام وألا يوجد آدم إلا من ذكر وأنثى وألا يخلق دجاجة إلا من بيضة أو بيضة إلا من دجاجة أو نطفة إلا من إنسان أو إنسانا إلا من نطقة لأن ذلك أجمع لم يوجد قط ولم يشاهد فإن مروا على ذلك لحقوا بأهل الدهر وإن أبوه نقضوا اعتلالهم. وإن قالوا عنينا أن هذه الأمور مستحيلة في العادة قيل لهم: فما أنكرتم أن ينقض الله سبحانه العادات ويظهر المعجزات على أيدي رسله لما أراده من حسن النظر لهم ولمن علم أنه يؤمن بهم ويعمل من العبادات ما يكون وصلة وذريعة إلى إجزال ثوابهم كما جاز وحسن منه أن يحتج عليهم بعقولهم فلا يجدون إلى دفع ذلك من حيث اعتلوا متعلقا. فأما ما قالوه من استحالة كون الكثير قليلا والقليل كثيرا فإنه صحيح على ما ادعوه وإنما معنى قول المسلمين وكل ذي ملة إن الرسول القليل من الطعام والشراب كثيرا هو أن الله سبحانه يخلق عند دعاء النبي يده في الطعام والشراب أمثال ذلك الطعام والشراب ويخترع أضعافه لا أن كل جزء فيه يصير جزئين أو أكثر من ذلك لأن الكثير لا يتوجد كما أن الواحد لا يتكثر وكذلك يعدم عند دعائه عليه السلام بعض الموجودات ويبقى بعضها وإن كان التأويل في ذلك على ما وصفنا سقط ما توهموه.

دليل آخر لهم (زعمهم أن كل مدع للرسالة يخبر عن الله بإباحة ما تحظره العقول)

وإن قالوا الدليل على كذب مدعي الرسالة على على ربه أنا وجدنا كل مدع لذلك يخبر عن سبحانه بإباحة ما تحظره العقول من إيلام الحيوان وذبحه وسلخه وتسخيره وغير ذلك مما يجري مجراه والحكيم لا يجوز أن يبيح ما تحظره العقول ولا أن يبعث من يتكذب عليه في إطلاق ذلك وإباحته فدل ما وصفناه على أنهم ليسوا من عند الله سبحانه فيقال لهم: أول ما في هذا أن الذي ذكرتموه إنما فيه أن يكون مبيح هذه الأمور ومدعي الإباحة على الله سبحانه كاذبا في ادعاء الرسالة وأن الله تعالى لا يجوز أن يرسله وليس فيه ما يدل على أنه لا يجوز أن يرسل غير من ذكرتم ولا من يبيح محظورا في العقل ولا يحظر مباحا فيه فليس الكلام معكم في نبوة قوم بأعيانهم فإن الكلام في ذلك جار بين أهل الملل والمجوزين لإرسال الله تعالى الرسل وأنتم تحيلون أن يرسل الله رسولا أصلا فلا معنى للكلام في تعيين رسالة فلان دون فلان فإنه خروج عن الكلام وعجز وانتقال من باب إلى باب. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون جميع ما ادعيتم حظره في العقل غير محظور فيه ولا مباح أيضا وأن الحظر والإباحة إنما هما ورود القول المبين عن مالك الأعيان بإباحة ما أباحه وحظر ما حظره فلم قلتم إن في العقل إباحة وحظرا. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون العقل قاضيا على أن لخالق الأعيان ومالك الذوات أن يتلفها ويؤلمها وأن يبيح ذلك فيها وأن يبتدئها باللذات بدلا من الآلام وبالآلآم بدلا من اللذات لأنه لا مالك فوقه ولا زاجر يجدد له فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا. فإن قالوا فما الدليل على أن الله سبحانه ابتدأ الحيوان بالآلام من غير عوض ولا جرم قيل لهم: الدليل على ذلك اتفاقنا وسائر أهل التوحيد وأهل الملل على أن لله تعالى متفضل على الحيوان بالنعم واللذات التي يبتدئهم بها وأنه مستوجب للحمد والشكر على ذلك وإذا كان هذا هكذا وكان للمتفضل فعل التفضل وله تركه على وجه ما كان له فعله وأن هذا هو الفرق بين التفضل وبين المستحق الواجب الذي يجب الظلم بتركه ثبت أن لله سبحانه أن يترك فعل اللذة في الحيوان على وجه ما كان له فعلها فإذا ثبت ذلك وكان الدليل قد قام على أن الحيوان المحتمل للذات والآلام المتضادة لا يجوز أن ينفك منها بأسرها كما لا يجوز أن تنفك الأجسام من سائر المتضادات ثبت أن الله سبحانه إذا ترك فعل اللذة في الحيوان حسن منه ذلك وكان عدلا وصوابا في الحكمة ولن يترك الله اللذة إلا بما يضادها من الألم وذلك يوجب أن يكون فعل الألم بغير جرم ولا لعوض عدلا من الله سبحانه وإن كان مثله ظلما وجورا منا إذا كلفنا تركه وأمرنا من هو أملك بالحيوان منا بترك إيلامه. فإن قالوا أو قال إخوانهم من المعتزلة ما أنكرتم أن يكون لله سبحانه ترك التفضل من اللذة بفعل الموت النافي للألم واللذات وليس له ذلك بفعل الألم وقيل لهم: أنكرنا ذلك لأجل ما اتفقنا عليه من أنه متفضل بفعل اللذة في الجسم مع وجود الحياة لا مع عدمها فيجب أن يكون له ترك فعل اللذة على الوجه الذي كان له فعلها وله فعلها مع الحياة فيجب أن يكون له تركها مع الحياة ولن يترك اللذة مع وجود الحياة إلا بفعل الألم وإذا كان ذلك كذلك سقط ما سألتم عنه وبطل ما تعلقتم به وثبت أن لمالك الأعيان أن يبيح خلقه ما يشاء منها من إتلاف بعض الحيوان وإيلامه وأنه لا اعتراض لمخلوق في حكمه. ويقال لهم: لو سلم لكم أن ذبح الحيوان وإيلامه محظور في العقل ما لم يبح ذلك فيها مالكها لم يجب لأجل هذا أن يكون ذبحها محظورا مع إطلاق المالك. فإن قالوا المحظور في العقل محظورا أبدا وكيف تصرفت به الحال قيل لهم: لم قلتم ذلك. ثم يقال لهم: ما أنكرتم من أن ذلك كان محظورا بشريطة عدم إذن مالكه فيه وإطلاقه وحظره في العقل بهذا الشرط لا ينقلب أبدا. ثم يقال لهم: أليس الأكل والشرب والاصطلاء بالنار والتبرد بالثلج قبيحا مع الشبع والري التامين اللذين يخاف الضرر فيما يتناول بعدهما وكذلك الاصطلاء بالنار مع الحمى والتبرد بالثلج مع شدة البرد محظور مع الغنى عنه فإذا قالوا أجل ولا بد لهم من ذلك قيل لهم: فيجب أن يكون ذلك أجمع محظورا مع حصول الحاجة إليه وشدة لهب الجوع والظمأ والحر والقر وخوف الضرر بتركه فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن أبوه وأباحوا هذه الأمور وأوجبوها أيضا عند الحاجة إليها قيل لهم: فقد صار المحظور في العقل مباحا وانقلبت قضايا العقول وهذا ما تكرهون. وإن قالوا كل شيء مما سألتم عنه مباح بشرط الحاجة إليه ومحظور بشرط الغنى فيه وخوف الضرر بتناوله وفعله قيل لهم: مثل ذلك في إيلام الحيوان. وكذلك يسألون عمن هدده الملحدون بالقتل إن لم يلحد بربه ويشتمه ويسيء الثناء عليه وخاف نزول القتل به إن لم يفعل كلمة الكفر وشتم رب العالمين ورجاء البقاء والحياة إن فعله ما الذي يجب عليه فإن قالوا يجب عليه فعل شتم رب العالمين وسوء الثناء عليه. يقال لهم: فقد صار المحظور في العقل مباحا وكذلك إن قالوا يلزمه ألا يكفر وإن أدى ذلك إلى تلف نفسه قيل لهم: فقد صار قتل نفسه وإلقاؤها في التهلكة مباحا بعد أن كان محظورا وهذا ما كرهتم المصير إليه. ويقال لهم: إن قالوا فعل كلمة الكفر أولى فما أنكرتم أن يكون الكف عن ذلك مع القتل أولى لأنه يكف عن شتم ربه وليس هو القاتل لنفسه. فإن قالوا فالكف عما قلتم أولى قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون إظهار كلمة الكفر أولى إذا لم يشرح بالكفر صدرا لحفظ نفسه وعلمه بأن الله سبحانه عالم باعتقاده وأنه مخلص في وحدانيته وأنه لا يستضر سبحانه بإظهار ما يظهره وأنه هو يستضر بترك إظهاره ويطرق إلى قتل نفسه وتعدي الحق في إتلاف ملك ربه وفعل المحظور عليه فعله ولا جواب لهم عن ذلك. فإن هم قالوا إن إلقاء النفس في التهلكة محظور في العقل إذا لم يؤد إلى الكفر بصانعها وجحد نعمه وإن أدى إلى ذلك كان مباحا أو قالوا إن الكفر بالصانع محظور في العقل إذا لم يؤد إلى تلف النفس فإن أدى إليه كان مباحا من غير أن ينقلب المباح في العقل محظورا قيل لهم: وكذلك إتلاف الحيوان وإيلامه محظور في العقل إن لم يبحه مالكه فإن أباحه لم يكن محظورا في العقل من غير إتلافه نفسه بقضية العقول أو كان مشروطا بما كان شرطا له.

دليل آخر (زعمهم أن إرسال الرسل سفه)

فإن قالوا الدليل على أنه لا يجوز في حكمة الله سبحانه إرسال الرسل أن إرساله الرسل إلى من يعلم أنه يكفر به ويشتمه ويرد قوله ويستوجب بذلك العقاب الأليم سفه وخلاف الصواب فلما لم يجز السفه على الله سبحانه لم يجز أن يرسل الرسل إلى من حاله ما وصفنا فيقال لهم: أول ما في هذا أنه يجب جواز إرسال الله تعالى الرسل إلى من يعلم قبوله منهم وانتفاعه بهم لأن هذه العلة عنهم زائلة. ثم يقال لهم: فيجب على اعتلالكم ألا يخلق الله سبحانه من يعلم أنه يكفر به ويجحد نعمه ويلحد في صفاته ولا ينتفع بوجود نفسه وألا يحتج بالعقول وما وضعه من الأدلة فيها على أحد علم أنه يجحدها ولا يستعملها ولا ينيب إلى ما وضح في عقله حسنه ولا يحذر مما حذر منه فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن أبوه نقضوا اعتلالهم. وإن قالوا إنما خلق من يعلم أنه يكفر واحتج عليه بعقله مع العلم بأنه لا يقبل ما كلفه بعقله تعريضا منه للقبول وحسن الانتفاع به إذا كان منهم قيل لهم: فما أنكرتم أيضا أن يكلف على ألسنة الرسل من علم أنه يكفر ولا ينتفع إذا قصد بذلك تعريضه لنفع لا يصل إليه إلا بالتكليف السمعي وإن علم أنه يخالف ولا يقبل فإن قالوا علمه بأنه لا يقبل يمنع من حسن النظر له بإنفاذ الرسل إليه قيل لهم: وكذلك علمه بأنه لا يقبل حجج العقول ولا ينظر ولا يختار إلا الإلحاد وفعل الظلم والعدوان يمنع من حسن النظر له بإقامة حجة العقل عليه وتكليف المصير إليها ولا جواب لهم عن ذلك.

دليل آخر لهم (زعمهم قبح السعي بين الصفا والمروة)

فإن قالوا الدليل على فساد الرسالة قبح السعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت وتقبيل الحجر والجوع والعطش في أيام الصيام والمنع من فعل الملاذ التي تصلح الأجسام وأنه لا فرق بين البيت الحرام وبين غيره وبين الصفا والمروة وبين غيرها من البقاع وبين عرفة وبين غيرها فثبت أن ذلك أجمع ليس من أوامر الحكيم سبحانه. يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون ذلك أجمع حكمة إذا علم الله سبحانه أن فعله والتعبد به صلاح لكثير من خلقه وداع لهم إلى فعل توحيده والثناء عليه بصفاته وما هو أهله وغير ذلك مما ينالون به جزيل ثوابه وأن يكون ذلك بمنزلة حسن ركوب البحر وقطع المهمة القفر في طلب الرفد والربح وبمنزلة عدو الإنسان بجهده وطاقته في الحزن والوعر من الأرض خوفا من السبع وممن يريد قتله وسفك دمه ظلما وأخذ ماله وقبح ذلك منه إذا لم يفعله لاجتلاب منفعة ولا دفع مضرة. وأما قولكم إنه لا فرق بين الصفا والمروة والسعي بينهما وبين غيرهما ولا بين البيت الحرام وبين غيره فهو كما وصفتم ولو شاء الله أن يتعبد بالسعي في كل بقعة والتوجه إلى كل جهة لساغ ذلك منه إذا عرض به لثوابه ولم يكن ذلك ناقضا لحكمته. ويقال لهم: وكذلك لم تجدوا حكيما بنى أحسن البنيان وصور أكمل الصور وأشرفها ثم نقضها وهدم صورها وقبحها وذهب ببهجتها وشوه خلقها فإن قالوا إذا كان في ذلك مصلحة المخلوق جاز تغيير خلقه وقلب صفته ومحو محاسنه قيل لهم: وكذلك إذا كان صوم النهار وقيام الليل وتقبيل الحجر والطواف والسعي ورمي الجمار يعود بصلاح المكلف حسن تكليفه وكان ذلك أحسن في العقل إن كان فيه حسن من إتلاف نفس المكلف وإبطال حياته وهدم صورته ومحو محاسنه وإبطال عقله وحواسه ولا جواب لهم عن ذلك.

علة أخرى لهم (زعمهم كفاية العقول)

وإن قالوا الدليل على منع إرسال الرسل والغنى عنهم أن الله سبحانه أكمل العقول وحسن فيها الحسن وقبح فيها القبيح وجعلها دلالة على مراشد الخلق ومصالحهم ومنع بها من التظالم وجعلها دلالة وذريعة إلى علم كل ما يحتاج إليه. وليس يجوز أن يأتي الرسل بغير ما وضع في العقل فدل ذلك على الغنى عنهم وعدم حاجة الخلق إليهم. فيقال لهم: ما أنكرتم من أنه لا سبيل من ناحية العقل إلى إيجاب شيء ولا إلى حظره ولا إلى إباحته وأن ذلك لا يثبت في أحكام الأشياء إلا من جهة السمع وأن التعريض للثواب لا يقع بالأفعال الواقعة مع فقد السمع لأنها لا تكون مع فقده طاعة لله سبحانه ولا قربة إليه ولا يثاب صاحبها وإذا كان ذلك كذلك فلا بد من سمع يأتي على لسان رسول بفعل قرر السمع وجوبه فعلم أن العلم بالقرب وحصول الثواب عليها لا يجوز أن يثبت عقلا فقد بطل قولكم إن جميع ما يحتاج إليه العباد من المراشد والمصالح مدرك من ناحية العقول فدلوا على صحة ما تدعونه من إيجاب العقل لشيء من الأفعال وحظر شيء منها وإباحته حتى يسلم لكم ما بنيتم عليه. فإن قالوا أو قال إخوانهم من المعتزلة الدليل على ذلك علمنا بوجوب النظر عند قرع الخواطر لقلوبنا وتخويف بعضها من الضرر بترك النظر ونعلم أيضا وجوب شكر المنعم وترك الكفر به ووجوب معرفة الله وحسن العدل والإنصاف وقبح الظلم والعدوان فوجب تقرير الفرائض من ناحية العقول. يقال لهم: أما قولكم إنكم تعلمون وجوب النظر اضطرارا عند اختلاج الخواطر على القلوب فإنه باطل لأن ذلك لو كان كذلك لاشترك في علمه جميع العاقلين ولم يسع جحده من قوم بهم ثبتت الحجة ونضطر إلى صدق نقلهم فيما أخبروا به عن مشاهدة واضطرار. وفي علمنا بخلاف ذلك من أنفسنا وعلمنا أن كثيرا من الدهرية وأهل الملل ينكر حسن النظر جملة وقول كثير من الثنوية إنه باطل وإنه سفه وشر وإنه من تدبير الظلام لأنه يورث العداوة والأحقاد ويخرج إلى الهرج والفساد واستحلال الدماء والأموال دليل على أن العلم بوجوبه أبعد عن أن يكون اضطرارا. وكيف يعلم وجوبه اضطرارا من لا يعلم حسنه اضطرارا أو يعتقد وجوب تركه وقبحه هذا غاية البهت ممن صار إليه من لبراهمة والمعتزلة. ويقال لهم في قولهم إنا نعلم وجوب شكر المنعم وترك الكفر به اضطرارا: ما الفرق بينكم وبين من قال إنكم تعلمون بطلان ذلك اضطرارا فلا يجدون لذلك مدفعا. وكذلك يقال لهم: لو علمتم حسن إلذاذ غيركم لكم إذا قصد نفعكم وقبح إيلامه لكم إذا قصد الاضرار بكم لوجب أن نعلم من حسن ذلك أو قبحه ما علمتم من غير سمع وتوقيف على حسن ذلك وقبحه اللهم إلا أن يعنوا بالحسن ميل الطباع إلى فعل اللذات ونفورها عن فعل الآلام فهذا لعمري معلوم حسا ولكن ليس ميل الطباع إلى الشيء يقتضي شكر فاعله ولا نفورها عنه يقتضي قبحه وذمه على سبيل ما تدعونه فبطل ما تعلقتم به. وإن قالوا لو كان العلم بوجوب هذه الأمور وقبح القبيح الذي ذكرناه منها وحسن الحسن لا يعلم إلا من طريق السمع لم يعلم قبح ذلك ولا حسنه إلا من علم السمع وعرفه فلما كنا نعلم ذلك ويعلمه كثير من أهل الملل قبل العلم بصحة السمع وبلوغه إلينا ثبت أن العلم بما وصفنا ليس بموقوف على ورود السمع. يقال لهم: ما أنكرتم ألا يعلم ذلك إلا من علم السمع وعرف وجوبه وأن يكون من اعتقد قبح القبيح وحسن الحسن من غير علم بما له كان حسنا وقبيحا فإنه معتقد للشيء على ما هو به وإن لم يكن اعتقاده ذلك علما بل هو ظن وتقليد وعلى سبيل المتابعة لأهل الشرائع كما أن المعتقد للشيء على ما هو به من غير جهة الاضطرار والاستدلال غير عالم به وإن كان معتقدا له على ما هو به وكما أن المعتقد لكون الوصف والحكم ثابتا للشيء مع الجهل بعلته التي كان لها غير عالم به في الحقيقة وهذا يبطل تعلقهم. فإن قال من الفريقين قائل أعني البراهمة والمعتزلة لو كان قبح هذه الأمور وحسنها غير معلوم بالعقل بل بالسمع لوجب أن يكون العلم بقدم القديم وحدوث المحدث وحقيقة الجوهر والعرض والعلم بكل معلوم غير مدرك من ناحية العقل بل بحجة السمع فلما لم يجز ذلك بطل ما قلتم قيل لهم: لم قلتم هذا فلا يجدون في ذلك سوى الدعوى. ثم يقال لهم: ما الفصل بينكم وبين من زعم أنه لو جاز أو وجب أن يعلم بعض المعلومات اضطرارا لا استدلالا لجاز أو وجب أن يعلم سائر المعلومات اضطرارا لا استدلالا وكذلك لو جاز أن يعلم بعض المعلومات نظرا واستدلالا لا اضطرارا لوجب أن يعلم سائر المعلومات نظرا واستدلالا وكان يجب أن يكون العلم بسائر المشاهدات والمحسوسات علما واقعا عن نظر واستدلال وهذا جهل من راكبه. وكذلك يقال لهم: لو جاز أو وجب العلم ببعض هذه الأمور من ناحية الخبر كالعلم بالصين وخراسان والسير والممالك لجاز أن يكون سائر الأمور معلومة خبرا وإذا جاز أو وجب أن يعلم بعض الأمور بغير خبر استحال العلم بشيء من جهة الخبر أصلا فإن لم يجب هذا أجمع لم يجب إذا علم بعض الأمور عقلا أن يعلم سائرها من هذه الجهة ولا إذا علم بعض الأمور اضطرارا وجب العلم بسائرها من هذه الطريقة. ويخص حشو أصحاب هذه المقالة من أتباع المجوس البراهمة وهم المعتزلة إن استدلوا بهذه الدلالة بأن يقال لهم: لو كان ما قلتموه صحيحا لوجب إذا كان العلم بوجوب بعض الواجبات وحسن بعض المحسنات وقبح بعض المقبحات لا يدرك وينال إلا سمعا نحو وجوب الصلاة وتقديرها والزكوات ونصابها وحسن إيجاب الدية على العاقلة وتقبيل الحجر والسعي بين الصفا والمروة وقبح شرب الخمر والوطء بغير عقد ولا ملك يمين وقبح ترك الصلوات وما جرى مجرى ذلك مما لا سبيل إلى علم وجوبه وقبحه وحسنه من ناحية العقل أن يكون العلم بوجوب النظر عند الخاطر ووجوب المعرفة وحسن العدل والإنصاف وقبح الظلم والعدوان ووجوب شكر المنعم وترك الكفر به مدركا كالعلم بسائره من جهة السمع دون العقل فإن مروا على ذلك تركوا قولهم وأن أبوه أبطلوا استدلالهم. وإن قال الفريقان ومن تابعهم الدليل على أن قضايا العقول تحسن وتقبح علمنا بأن من أمكنه التوصل إلى غرضه بالصدق والكذب وجب عليه أن يتوصل إليه بالصدق دون الكذب وأنه لا يقع منه إلا ذلك وليس يترك إلى الغرض في هذه الأمور بالكذب إلى الصدق إلا لحسن الصدق وقبح الكذب فوجب قضاء العقل على حسن الحسن وقبح القبيح فيقال لهم: ما أنكرتم من أنه إن كان القاصد إلى التوصل إلى غرضه ممن لا يعتقد تفضيل الصدق على الكذب ولا هو بين قوم يعتقدون ذلك ولا يرون في الكذب عارا ولا في الصدق مدحا ولا تعظيما ولا يفرقون في التفضيل بين الكذب والصدق وبين الكذب والصدق ولا يدينون بذلك أنه مخير في التوصل إلى غرضه بين الصدق والكذب كما أن المعتقد للتوصل إلى غرضه بكل واحد من الدرهمين اللذين معه على وجه واحد وبالكلام والسكوت على حد غير مختلف وبحركة يمينه وشماله والدفع بهما من غير مزية تحصل في الدفع بإحداهما مخير بين إنفاق أي الدرهمين شاء وبين السكوت والكلام والتحريك باليمين والشمال إذ استوت هذه الحال عنده في ذلك واعتدلت في نفسه وإذا كان ذلك كذلك سقط ما اعتللتم به. فإن قالوا بعد هذا يجب على هذا الإنسان أن يختار الصدق على الكذب لحسنه قيل لهم: ذلك جهل من الكلام وعدول عن النظر وذلك أنهم جعلوا وجوب التوصل إلى الغرض بفعل الصدق دون الكذب دلالة على حسن الصدق فلما أبطلنا ذلك عليهم رجعوا يجعلون الدلالة على وجوب فعل الصدق دون الكذب حسنه وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت حسن الصدق ولا وجوب فعله وذلك أنا إذا لم نعلم وجوب فعل الصدق إلا إذا علمنا حسنه ولم نعلم حسنه إلا إذا علمنا وجوبه لم يكن لنا طريق إلى العلم بوجوبه ولا بحسنه كما أن قائلا لو قال إني لا أعلم أن زيدا في الدار حتى أعلم أن عمرا فيها ولا أعلم أن عمرا فيها حتى أعلم أن زيدا فيها لم يجز أن يعلم ان زيدا في الدار ولا عمرا لأنه قد جعل شرط علمه بالشيء شرطا لما هو شرط له وذلك ما يحيل وقوع كل واحد من المشروطين وإذا كان ذلك كذلك ثبت بهذه الجملة أن العلم بوجوب الأفعال وحظرها وإباحتها غير مدرك بقضايا العقول وثبت أنه لا بد من سمع يكشف عما ينال به الثواب والعقاب ويحظر الله تعالى به الجهل بوجوده وترك النظر فيما يؤدي إلى معرفته على من كلفه ذلك من خلقه وهذا أعظم الأمور وأجسمها خطرا وهذا غير مدرك علمه من جهة العقول فبطل قول البراهمة إن العقل يستغنى به في إدراك جميع المراشد والمصالح. ثم يقال لهم: خبرونا من أين عرفت العقلاء الأغذية من الأدوية والسموم القاتلة الوحية منها وغير الوحية وإنما هجموا على العالم بغتة وليس في دلائل عقولهم ما يعرفون به الأغذية والأدوية والسموم القاتلة ولا في مشاهداتهم وسائر حواسهم ما يدل على ذلك أو يحس به معرفة ما يحتاج إليه من هذا الباب ولا هو مما يعرف باضطرار. فإن قالوا إنما أدرك الناس ذلك قديما وعرفوه بالامتحان والتجربة على أجسامهم وأجسام أمثالهم من نسل آدم عليه السلام قيل لهم: فهذا مخرج للقديم سبحانه عن الحكمة لأنه قد كان قادرا عندكم وعندنا أن يعرفهم السمومات ويوقفهم على الاغتذاء بما فيه صلاح أجسامهم والأدوية التي عند تناولها تزول أمراضهم وأسقامهم فيغنيهم ذلك عن إتلاف أنفسهم وأمثالهم وذهاب كثير منهم بالامتحان وطول التجربة وليس بحكيم عندكم من قدر أن يوقف أولاده وضعفته ومن يحب مصلحته على تجنب ما فيه هلكته وتناول ما فيه سلامته وبقاء مهجته فلم يفعل وأحالهم على التجربة والامتحان الذي فيه عطب البعض منهم والبوار وهذا ما لا حيلة لهم فيه. فإن قالوا إنما أدرك علم ذلك بالامتحان على أجسام غير الناس من الحيوان نحو الذئاب والكلاب وأجناس الطير وغيرهم من الحيوان قيل لهم: فالمسألة بحالها لأن إتلاف جميع الحيوان عندكم قبيح فإذا أباحكم الله إتلاف بعضه بالتجربة والمحنة وهو قادر على توقيفكم على ما يغني عن إتلاف الحيوان فقد سفه على أوضاعكم وخرج على زعمكم عن الحكمة ولا فرق بين الناس في ذلك وبين كل حيوان يلذ ويألم. ويقال لهم: ما أنكرتم من أن لا يحصل أيضا لبني آدم علم ما يحتاجون إليه في هذا الباب بالتجربة على أجسام الحيوان سوى الإنسان وذلك أن الحيوان مختلف الطباع والأغذية والأدوية وأن منه ما يعالج مرضه بما لو عولج به الإنسان لتلف ومنه ما يغتذي بما لو اغتذى به الإنسان أو أكل يسيره لتلف كالوعل الذي يأكل الحيات والظبي الذي يرعى الحنظل والوحش الذي لا يعمل في جسده شيء من خشاش الأرض وكالنعم الذي يقتات التبن والقت والسمك التي ترعى الطين وغيره ولو أكل الإنسان بعض هذه الأشياء لأدى إلى تلفه فمن أين لابن آدم بالحيوان الذي طبعه في التسوية مثل طبعه وغذاؤه مثل غذائه ودواؤه مثل دوائه مع اختلاف طبائعه وتباين تركيبه وشهواته ونفوره فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا. ثم يقال لهم: أليس قد تجرب الحشيشة على جسم بعض الحيوان فتولد حمى في كبده أو ورما في طحاله أو تقطعا في أمعائه وغير ذلك من الأدواء التي يعظم شأنها ويخاف التلف بها فلا يعلم ما ولدت تلك الحشيشة والثمرة لأنه ليس بناطق يذكر ما يجده ويخبر بسببه فما يؤمننا أن يتناول من ذلك شيئا فيولد مرضا مثل الذي ولده في جسم الحيوان فلا يقدرون على دفع ذلك بحجة. وكذلك يقال لهم: أليس من السموم ما يقتل لوقته وساعته ومنه ليومه ومنه ما يقتل بعد شهر وحول فإن قالوا نعم قيل لهم: فما الذي يؤمننا من أن يكون تلف ذلك الحيوان بعد يوم أو شهر أو سنة من تأثير تلك الثمرة وعمل تلك الحشيشة وإننا لا نأمن أن يكون ما جربناه عليه قاتلا بعد سنة فما الأمان لنا عند أكله من الاستضرار والتلف بعده بوقت أو أوقات فلا يجدون سبيلا إلى الخلاص من ذلك. وهذا يدل على بطلان ما تعلقوا به فوجب أن يكون العلم بهذا الشأن الجسيم والخطب العظيم غير منال ولا مدرك من جهة العقل وأن الناس محتاجون في علم ذلك إلى سمع وتوقيف وأن الواجب على أصولهم أن يكون العلم بأصل الطب موقفا عليه ومأخوذا من جهة الرسل عليهم السلام وإن قيس على ذلك واحتذي عليه وعلى هذا أكثر الأمة وكثير ممن خالفهم من أهل الملل. ومما يدل على صحة إرسال الله تعالى الرسل وجوازه هو أنه إذا لم يكن في إرسالهم إفساد التكليف ولا إبطال المحنة ولا إيجاب قلب بعض الأدلة ولا إخراج القديم عن قدمه ولا قلب لبعض الحقائق ولا إلحاق صفة النقص بالمرسل جل ذكره وكان في إرساله تعريض لخلق من المكلفين لثواب جزيل ونفع عظيم صح ذلك في حكمته وكان عدلا من فعله سبحانه. ومما يدل على جواز إرسال الله الرسل وأنه قد فعل ذلك علمنا بأن اليهود والنصارى والمسلمين قد أطبقوا على نقل أعلام موسى وعيسى ومحمد وعليهم وأن الكذب مستحيل جوازه على مثلهم من ناحية التراسل والتكاتب المواطأة على ذلك لأن تمام ذلك وانتظامه من مثلهم محال متعذر في العادة ومحال أيضا جوازه على مثلهم بأن يجتمعوا جميعا في بقعة واحدة من حيث يشاهد بعضهم بعضا ويتوافقوا على الكذب ونقله وإذاعته لأن اجتماع مثلهم في بقعة واحدة متعذر في مستقر العادة ولو أمكن أيضا اجتماعهم لتعذر في مستقر العادة تواطؤهم على الكذب ونقله واستتار ذلك منهم وانكتامه عليهم لأن العادة موضوعة على خلاف ذلك ويستحيل أيضا وقوع الكذب من جماعة من ذكرنا من نقله أعلام الرسل باتفاق وقوعه لأن العادة لم تجر باتفاق وقوع الكذب في مائة ألف إنسان عن مخبر واحد لداع واحد ودواع متفرقة وإن جاز ذلك من الواحد والاثنين والنفر اليسير وليس يمكن وقوع الكذب من هذه الجماعات إلا على هذه الوجوه فإذا امتنعت فسد جواز الكذب عليهم وفي فساد ذلك إيجاب صدقهم فيما نقلوه وصحة ما إليه ذهبنا ولو أمكن وقوع الكذب من جميع ما ذكرناه من نقلة أعلام الرسل على بعض هذه الوجوه أو غيرها لداع واحد أو دواع متباينة لأمكن وقوعه من نقلة الأمصار والبلدان والممالك والسير ولم نأمن ألا تكون في العالم بلدة تدعى خراسان والنهروان والبردان ولجاز جحد ما نأى وقرب منا من البلدان وفي بطلان ذلك دليل على صحة إثبات نبوة الرسل عليهم السلام. وسنقول في الكلام في الأخبار وأقسامها ونصف التواتر منها والآحاد وما يعلم صحة مخبره باضطرار وما يعلم بنظر واستدلال وأحوال المخبرين عنه عند انتهائنا إلى الكلام في الإمامة والرد على اليهود قولا بينا إن شاء الله تعالى. ومتى ثبت صحة نقله أعلام الرسل من المسلمين وغيرهم من أهل الملل علم بذلك ثبوت نبوتهم لأن الله سبحانه لا يظهر المعجزات ويخرق العادات على الذي يدعى النبوة مع العلم بدعواهم عليه إلا للدلالة على صدقهم والشهادة بثبوت نبوتهم. فأما المثبتون من البراهمة لنبوة آدم الجاحدون لمن بعده من الرسل والمثبتون لنبوة إبراهيم الجاحدون لمن بعده من الرسل فقد أقروا بجواز إرسال الرسل وأنه قد وجد ونقل وإن خالفوا في نبوة قوم بأعيانهم وليس ذلك من قول محيل الرسالة جملة في شيء فيقال لهم: ما الدليل على إثبات نبوة آدم وإبراهيم عليهما السلام فإن قالوا ظهور الأعلام على أيديهما قيل لهم: وما الدليل على صحة هذه الأعلام ونحن لم نشاهدها ولا عاصرنا أصحابها فإن قالوا لنقل من يستحيل عليه الكذب لها عورضوا بمثل ذلك في نقل أعلام موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام والكلام مع هؤلاء كالكلام مع اليهود وسنذكر منه ما ينبىء عن الحق إن شاء الله تعالى.

باب الكلام على اليهود في إثبات نبوة محمد على من أنكرها وطعن فيها من المجوس والصابئة والنصارى

فإن قال قائل: قد دللتم على جواز إرسال الله الرسل عليهم السلام، فما الدليل على إثبات نبوة نبيكم مع خلاف من يخالفكم فيها من النصارى واليهود وغيرهم من أهل الأديان؟ قيل له: الدليل على ذلك ما ظهر على يده الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والحجج النيرة الخارقة للعادة والخارجة عما عليه العادة وتركيب الطبيعة، والله سبحانه لا يظهر المعجزات ولا ينقض العادات إلا للدلالة على صدق صاحبها وكشف قناعه وإيجاب الإقرار بنبوته والخضوع لطاعته والانقياد لأوامره ونواهيه. فإن قالوا: وما هذه المعجزات الدالة على صدقه؟ قيل: أمور كثيرة، منها القرآن المرسوم في مصاحفنا الذي أتى به وتحدى العرب بالإتيان بمثله، ومنها حنين الجذع وكلام الذئب وجعل قليل الطعام كثيرا وانشقاق القمر وتسبيح الحصى في يده وكلام الذراع له، في غير هذه الآيات مما يجري مجراها؛ وقد علم أن مجيء مثلها من الخلق ممتنع متعذر وأنه من مقدورات الخالق سبحانه. فإن قالوا: وما الطريق إلى العلم بصحة هذه الآيات وظهورها على يديه؟ قيل لهم: السبيل إلى ذلك من طريقين، أحدهما الاضطرار والآخر النظر والاستدلال. فأما العلم بظهور القرآن على يده ومجيئه من جهته وأنه تحدى العرب أن تأتي بمثله فواقع لنا ولكل من خالفنا باضطرار من حيث لا يمكن جحده ولا الارتياب به كما أن العلم بظهور النبي والمدينة ودعوته إلى نفسه واقع من جهة الاضطرار لأن المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئة والثنوية والزنادقة وكل منحرف عن الملة يقرون بأن القرآن المتلو في محاريبنا المرسوم في مصاحفنا من قبل النبي ومن جهته ظهر من غير اختلاف بينهم في ذلك. فلو حمل حامل نفسه على ذلك لجحد الضرورة وسقطت مطالبته، كما لو ادعى مدع أن التوراة والإنجيل ليس هما من جملة ما ظهر من قبل موسى وعيسى عليهما السلام لكان معاندا وجاحدا للضرورة، بل لو جحد جاحد ما دون هذا فزعم أن قِفا نبك ليست من شعر امرىء القيس، ودع هريرة إن الركب مرتحل ليس من نظم الأعشى، ونزل إلى جحد خطب الحجاج وزياد ورسائل ابن المقفع وإنكار كون الكتاب لسيبويه، لوجب عناده وسقط كلامه؛ وقد علم أن ظهور الخبر بمجيء القرآن من جهة النبي وحاله أشهر فوجب أن يكون ما تواتر الخبر عنه على هذه السبيل والعلم به اضطرارا لا يمكن جحده ولا الشك فيه ولا يحتاج به في إثباته إلى استعمال الرؤية والنظر في الأدلة. فأما سبيل العلم بكلام الذراع وتسبيح الحصى وحنين الجذع وجعل قليل الطعام كثيرا وأشباه ذلك من أعلامه عليه السلام فهو نظر واستدلال لا اضطرار. فإن قال قائل: وما الدليل على صحة ظهور هذه الأمور على يده مع علمكم بخلاف من يخالف فيها وإقراركم بأنكم غير مضطرين إلى العلم بصحتها؟ قيل له: الدليل على ذلك أنا نعلم ضرورة وجميع أهل الآثار ونقلة الأخبار ومعرفة السير أن هذه الأعلام قد نقلت للنبي جميع أعصار المسلمين وأن الأمة لم تخل قط في زمن من الأزمان من ناقلة لهذه الأعلام وما جرى مجراها وأنها قد أذيعت في الصدر الأول ورويت من حيث يسمع رواتها من شاهد النبي وأن الناقلين لها وإن قصر عددهم عن عدد أهل التواتر وكانوا آحادا فإن كل واحد منهم أضاف ما نقله للنبي هذه الأعلام إلى مشهد مشهود وموقف معروف وغزاة قد حضر أهلها وبقعة أكثر السامعين لخبره قد شهدها ومجتمع قد عرفوه وحضروه فقال كان في الغزاة الفلانية كذا وكذا وكلم الذراع رسول الله مسجده يوم مجتمع أصحابه وجعل قليل الطعام كثيرا يوم أولم في قصة كذا وكذا وفي بقعة كذا وكذا، وكذا كل شيء من ذلك إلى مشهد قد حضره السامعون لنقلهم ومشهد قد شهدوه؛ فلم ينكروا ذلك ولا أحد منهم عليه ولا ردوا نقلهم ولا ظهر منهم تهمة للنقلة ولا شك في أمرهم لا عند سماعهم وطرقه لأسماعهم ولا بعد ذلك. وقد علم بمستقر العادة إمساك العدد الكثير والجم الغفير عن إنكار كذب يدعى عليهم ويضاف إلى سماعهم ومشاهدتهم وعلمهم مع ما هم عليه من نزاهة الأنفس وكبر الهمم وعظم الخطر وجلالة القدر والتدين بتحريم الكذب والنفور عنه والذم له والتبجح بالصدق وشدة تمسكهم به، فلو كانوا عالمين بكذب ما ادعاه النقلة عليهم لسارع جميعهم أو الجمهور منهم وقت سماع الكذب عليهم وإضافة ما لا أصل له إليهم وبعد ذلك الوقت إلى إنكاره وتبكيت ناقليه وتكذيبه وذمه وإعلام الناس كذبه، كما أنه لو ادعى في وقتنا هذا مدع أن من أعلام محمد العصا حية وفلق البحر وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الآيات التي ليست له لم يلبث أن نسارع إلى تكذيبه ورد قوله وإعلام الناس بطلان ما أتى به، ولقلنا له أو أكثرنا لسنا محتاجين في إثبات نبوة نبينا وضع هذا الكذب الذي لا أصل له. وكذلك لو ادعى مدع بحضرة كافة أهل بغداد أو الجانب الشرقي منها أو الغربي أو في محلة من محالها أنهم رأوا ما لم يروا وسمعوا ما لم يسمعوا وشهدوا ما لم يعاينوه لم يلبثوا أن يردوا قوله ويشهدوا بكذبه ويعلموا الناس بطلان ما ادعاه عليهم؛ هذا ثابت في مستقر العادة كما أنه ثابت فيه أن اجتماع مثل عدد من ذكرنا على نقل كذب وكتمان ما شوهد ممتنع مع استمرار السلامة في النقل والكتمان من غير ذكر سبب دعاهم إلى ذلك وجمعهم عليه وظهور الحديث به وانطلاق الألسن بذكره ولهج النفوس بحفظه، وكما يستحيل في موضوع العادة على نقلة السير والوقائع والبلدان الكذب فيما نقلوه. وإذا كان ذلك كذلك دل إمساك الصحابة رضوان الله عليهم عن تكذيب ما نقل من هذه الأعلام وادعي فيه مشاهدتهم وحضورهم وسماعهم على صدق ما أضيف إليهم وادعي عليهم وقام إمساكهم عن إنكار ذلك مقام نقلهم لمثل ما نقله الآحاد وشهادتهم من جهة النطق به وقولهم قد صدقوا فيما نقلوه وقد شاهدنا منه مثل الذي شاهدوا؛ وهذه دلالة ظاهرة وحجة قاهرة على صحة نقل هذه الأعلام وصدق رواتها وإن قصروا عن التواتر. فإن قال قائل: أليس قد يجوز عندكم إمساك المخالفين عن القول والمذهب الظاهر فيهم مع خلافهم عليه واعتقادهم لفساده، فإن لم يدل إمساكهم على توثيقهم له واعتقادهم إياه فما أنكرتم أيضا من مثل ذلك في الإمساك عما يدعي على الجماعات الكثيرة حضوره ومشاهدته إذا أمسكوا عن إنكار ذلك في أنه غير دال على توثيقهم للخبر واعتقاد صحته؟ قيل له: لا يجب ما قلته من وجوه: أحدها أن كثيرا من المسلمين يحيل ظهور المذهب بين الجماعات التي تعتقد فساده وخطأ الدائن به والذاهب إليه من غير إنكار منها له وردها على قائله ويجعل السكوت على القول الظاهر فيها إجماعا على تصويبه وبمنزلة النطق بتصديقه وتصحيحه ولا يفرقون بين أن يكون ذلك القول الظاهر بين العلماء والأئمة مع السكت من فروع الدين أو من أصوله التي يقع في مثلها التأثيم والتفسيق فهذا الاعتراض زائل عن هؤلاء. والجواب الآخر أن العادة في ذلك مختلفة وللسكوت على المذهب المستخرج بالقياس والدليل علل تقتضي السكت عنه ليست في القول المدعى على الناس حضوره ومشاهدته. والأصل في ذلك أن العادة لم تجر بإمساك الجماعات عن إنكار كذب يدعى عليهم كما لم تجر بنقل الجماعة الكذب وكتمان ما شوهد وسمع لما بيناه من قبل ولما جعلهم الله عليه من تفرق الدواعي والأغراض وليس كذلك العادة في المذهب المقول من ناحية الرأي والقياس لأنه قد يكون المعتقد لصحته عددا قليلا يجوز إمساك مثلهم عن إظهار مذهبهم وقد يكون الأكثر منهم عددا في مهلة النظر والروية وممن لم تنكشف له صحة قول في ذلك المذهب وقد يكون القول الظاهر مما يسوغ أن يعتقد فيه أكثر الساكتين أن كل مجتهد فيه مصيب نحو مسائل فروع الدين وما يتعلق بالأحكام والحلال والحرام، وقد يسكت العالم ببطلان القول لاعتقاده العزم على إنكاره بعد ذلك الوقت وأنه أولى أصوب؛ وليس يمكن في العادة سكوت عدد مثل أهل جانبي بغداد على إنكار كذب يدعى فيه مشاهدتهم وحضورهم ولا اليسير منهم أيضا لعلة من هذه العلل كما لا يجوز في العادة عليهم نقل الكذب وكتمان ما رؤي وشوهد لعلة من العلل وإذا كان ذلك كذلك بطل هذا الاعتراض.

سؤال آخر على هذا الاستدلال (بطلان عدم نقل إنكار الصحابة إلينا)

فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون الصحابة أو كثير منهم قد أنكروا مشاهدة ما ادعاه الناقلون عليهم وسماعه وإن لم ينقل ذلك إلينا؟ قيل لهم: هذا باطل من قبل أن إنكار هذه الأعلام مما يجب توفر الدواعي على نقله وضبطه ومعرفة عين المعترض فيه ولفظه حتى يشتهر ذلك ويظهر وينتشر وينقل نقل مثله ويجرى مجرى الخبر الذي هو اعتراض عليه وإنكار هذا واجب في مستقر العادة ووضعها كما أن عيسى وموسى لو عورضا في نقل أعلامهما لوجب أن ننقل المعارضة كنقل الأمر المعارض ولحل في الظهور والشهرة محله وكذلك إنكار نقل الأعلام يجب أن يظهر كظهور نقل الأعلام وإلا وجب بطلانه والعلم بفساده.

سؤال آخر على ما قدمناه (إنكار اليهود والنصارى)

فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون ما نقله الآحاد كذبا وإن سلمت الجماعات نقلهم بدلالة إنكار اليهود والنصارى والمجوس الذين عاصروا محمدا لها وقولهم قد رأيناه وعاصرناه فما ظهر على يده مما نقله الآحاد من متبعيه شيء ولو كان ذلك صحيحا لم يتهيأ لهم جحده وإنكاره فدل ذلك على بطلانه؟ يقال لهم: هذا باطل من وجهين أحدهما أن نقول لو دل على إنكار من ذكرتم على كذب نقل الآحاد مع إمساك الجماعات عن رده لدل ذلك أيضا على كذب النقل ولو شهدت الجماعات بصحته بدلا من سكتها عليه إذ لا فرق بين إمساكها عن إنكاره وإنكار ما ادعي عليها وبين تصويبها له على ما بيناه ولو كان ذلك كذلك لدل على إنكار البراهمة والمجوس وأهل التثنية والإلحاد والتنجيم والطبائعيين لأعلام موسى وعيسى وقول من شاهدهما وعاصرهما من هذه الفرق إنا قد شاهدنا هذين الرجلين وعاصرناهما فلم نر مما ادعي لهما من هذه الأمور التي هي فلق البحر وإخراج اليد بيضاء وإحياء ميت وإبراء أكمه وأبرص وزمن ومن مشي على الماء وغير ذلك على بطلان ما ادعي ونقل لهما فلما لم يكن هذا عندنا وعندهم كذلك لم يكن في إنكار الفرق لما قام الدليل على صحته وثبوته دليل على بطلانه وكذب ناقليه فإن قالوا ليس ينكر أحد ممن ذكرتم ظهور هذه الأمور على يدي موسى وعيسى وإنما ينكرون كونها معجزا ويدعون أنها حيل وتخييل ومخاريق فبطل ما قلبتم به الاعتراض علينا قيل لهم: ليس الأمر على ما ظننتم لأن أكثر من ذكرناه بل الكل منهم يجحد هذه الأمور أصلا وإن تعاطى المتحذلق منهم أحيانا تسليمه جدلا والطعن فيه بادعائه أنه من ضروب السحر والحيل وغير ذلك فلا معنى لإنكارهم لذلك. وشيء آخر يبطل ما سألتم عنه وهو أنا لا ننكر تكذب الواحد والاثنين وجحد ما شاهدوه وطيه وكتمانه من المسلمين وغيرهم من سائر الملل وإذا كان ذلك كذلك وكنا نعلم أنه لم يحضر مع النبي هذه المشاهد والغزوات من اليهود والنصارى والمجوس عدد ينقطع بهم العذر ولا يجوز عليهم الكذب وطي ما شوهد بل لا نعلم أيضا أنه حضر في أكثرها أحد منهم لما كان من إبعاده إياهم وإخراجهم عن تلك الديار وتحيزهم إلى حيث يمكنهم قتال ونصب راية حرب معه من الحصون والنواحي كخيبر وغيرها لم يجب أن يكون إنكار من أنكر ذلك من اليهود والنصارى حجة في إبطاله لأنهم إما ألا يكون حضر معه في أكثرها أحد منهم أصلا أو أن يكون حضر منهم الواحد والاثنان والخمسة أو العدد الذي يجوز عليهم الكذب وعلى مثلهم افتعاله والكتمان لما سمع وشوهد وإذا كان ذلك كذلك بطل هذا الاعتراض بطلانا ظاهرا. فأما العلم بظهور القرآن على يده ومجيئه من جهته فضرورة لا إشكال فيها ولا جدال. فإن قال قائل: فما وجه دلالة ظهور القرآن على يده مما يدل على صدقه؟ قيل له: وجه ذلك من طريقين أحدهما نظمه وبراعته والثاني ما انطوى عليه من أخبار الغيوب وعلمها فأما وجه الدلالة من جهة نظمه فهو أنا نعلم أنه العرب بأن تأتي بمثله في براعته وفصاحته وحسن تأليفه ونظمه وجزالته ورصانته وإيجازه واختصاره واشتمال اللفظ اليسير منه على المعاني الكثيرة ودعاهم إلى ذلك وطالبهم به في أيام المواسم وغيرها مجتمعين ومتفرقين فقال لهم في نص التلاوة { قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } يقول مواليا معينا وقال: { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } وقال: { فأتوا بسورة من مثله } مبالغة في تقريعهم بالعجز عنه مع أن اللسان الذي نزل به لسانهم ومع العلم بما هم عليه من عزة الأنفس وعظم الأنفة وشدة الحمية والحرص على تكذيبه وتشتيت جمعه وتفريق الناس من حوله والتوفر على إكذابه وما عره وغض منه وخروجهم إلى ما خرجوا إليه معه من الحرب والمسايفة وحمل الأنفس على إراقة الدماء والخروج عن الديار ومفارقة الأوطان. فلو كانوا مع ذلك قادرين على معارضته أو معارضة سورة منه لسارعوا إلى ذلك ولكان أهون عليهم وأخف من نصب الحرب معه والجلاء عن الأوطان وتحمل الأهوال والصبر على القتل وألم الجراح واحتمال الذل والعار لأنه قد كان من تكذيبه من وجهين أحدهما قوله لن تأتوا بمثله والآخر قوله إن أتيتم فلجتم وكنت مبطلا وكنتم المحقين هذا مع تلاوته عليهم في نص التنزيل قوله { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون }. ولو عرفوه بذلك أو بصحبة أهل الكتب ونقلة السير ومداخلة أهل الأخبار ومجالسة أهل هذا الشأن لم يلبثوا أن يقولوا له هذا كذب لأنك ما زلت معروفا بصحبة أهل الكتب ومجالستهم وقصدهم إلى مواضعهم ومواطنهم ومجاراتهم والأخذ عنهم والاستفادة منهم. وفي صدفهم عن هذا أجمع وعن تكلف معارضة سورة منه أو إيراد ما قل وكثر من ذلك مع علمهم بخروج نظم القرآن عن سائر أوزان كلامهم ونظومهم أعظم دليل على صدقه ظهور القرآن منه وهو نشأ معهم وبين أظهرهم ولم يعرفوه بقصد أهل الكتاب ومجالسة غير من لقوه وعرفوه والاقتباس منه ولا انفرد بمداخلة فصيح منهم ومتقدم في البراعة واللسن عليهم آية عظيمة وأمر خارق للعادة لأن مثل ذلك لا يكتسب بتعلم وتدقيق ذكاء وفطنة ولطيف حس وحيلة. ولا فرق بين ذلك وبين أن يبيت غير عالم بلغة الزنج والترك وغيرهما من اللغات ثم يصبح أفصح الناس بكل لغة منها وأجرأهم فيها مع العلم بأنه لم يأخذ ذلك عن أهلها لأن خلق العلم فيه بذلك وإقدراه عليه في يسير الوقت خرق للعادة وخارج عما عليه بناء الطبيعة وكذلك تعلم هذه اللغات واكتساب معرفتها والتمكن من علمها وتحصيلها في يسير الوقت الذي لا يكتسب في مثله العلم بعظيم ما جاء به آية عظيمة وخرق للعادة. فإنزال هذا الكلام عليه واضطراره إلى إجراء لسانه أو خلق لطبيعة يتمكن بها من إدراك هذا النظم ورصفه وبيانه من أظهر الآيات وأبين الدلالات لأن التمكن من تعلم ذلك بكل لطيفة في يسير الوقت مما لم تجر العادة بمثله نقض لها والله سبحانه لا يظهر الآيات إلا لما ذكرنا من القصد إلى الدلالة على صدق الرسل عليهم السلام.

مسألة في الرد على منكري إعجاز القرآن (تقدم النبي في البلاغة والفصاحة)

فإن قالت اليهود والنصارى: ما أنكرتم أن يكون ما أتى به النبي جنس كلامهم غير أنه كان أفصح وأوجز وأحسن نظما وأن يكون ذلك إنما تأتى له بتقدمه في البلاغة عليهم وحسن فصاحته ولسنه وبرعهم بذلك وزاد فيه على جميعهم؟ قيل لهم: إن قدر ما يقتضيه التقدم والحذق في الصناعة قدر معروف لا يخرق العادة مثله ولا يعجز أهل الصناعة والمتقدمون فيها عنه مع التحدي والتقريع بالعجز والقصور لأن العادة جارية بجمع الدواعي والهمم على بلوغ منزلة الحاذق المتقدم في الصناعة وما أتى به النبي القرآن قد خرج عن حد ما يكتسب بالحذق وعجز القوم عن معارضته ومقابلته مع إيثارهم لذلك واجتماع هممهم له وتوفر دواعيهم عليه وعلمهم بجعله حجة له ودلالة على صدقه فخرج بذلك عن نمط ما سألتم عنه. وعلى أن الآية في القرآن أنه منزل بلسان العرب وكلامهم ومنظوم على وزن يفارق سائر أوزان كلامهم ولو كان من بعض النظوم التي يعرفونها لعلموا أنه شعر أو خطابة أو رجز أو طويل أو مزدوج غير أن ناظمه قد برع وتقدم فيه وليس يخرج الحذق في الصنعة إلى أن يؤتي بغير جنسها وما ليس منها في شيء وما لا يعرفه أهلها وإذا كان ذلك كذلك وكنا نعلم أن قريشا أفصح العرب وأعرفها باللسان وأقدرها على سائر أوزان الكلام وأنها قد دهشت وطاشت عقولها فيما أتى به فقالت مرة إنه سحر وقالت تارة إنه { معلم مجنون } وقالت أخرى { أساطير الأولين اكتتبها } وقالت تارة أخرى: "شعر" وقالت تارة: سلمان 2 يلقنه ويلقي إليه، حتى قال تعالى: { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } علم بذلك أن ما أتى به ليس من جنس الحذق والتقدم في الصناعة في شيء وعلى أن الله سبحانه إذا أباح له هذا التقدم والحذق وجمع له أسبابه ووفر دواعيه وهمته على تحصيله وعلم مع ذلك أنه سيدعيه آية له وحجة على صدقه جمع همم من تحداه على فعل مثله ولا أتاحه لهم ولا مكنهم منه صار ذلك آية من فعله وخرقا للعادة وجرى مجرى سائر الآيات. ولو علم الله سبحانه أنه كاذب فيما يدعيه لوفر الدواعي والهمم وجمعها على معارضته وخلق اللطائف التي يتوصل بها إلى بلوغ منزلته لكي يبطل حجته ويزيل شبهته ومتى لم يفعل ذلك كان ناقضا للعادة بصرف الهمم عن فعل ذلك وجمع الدواعي عليه ومنع اللطائف والأسباب الممكنة منه والله تعالى لا ينقض العادات إلا للدلالة على الصدق.

مسألة في التحدي (كتاب إقليدس)

فإن قال قائل: وكذلك يقولون إن صاحب كتاب إقليدس والمجسطي والقائل قفا نبك لو تحدوا بمثل ما أتوا به وجعلوه دلالة على صدقهم وأنهم رسل الله سبحانه فلم يعارضوا وجب أن يكون ذلك آية لهم؛ قيل له: أجل، إلا أن الله سبحانه إذا علم أن المدعي لذلك كاذب فلا بد أن يجمع الهمم ويوفر الدواعي على معارضة ما تحدى القوم به فلا يلبثون عند احتجاجهم به أن يأتيهم الناس بأمثاله وما هو أبلغ منه في معناه لكي ينقض كون ما ادعوه معجزا.

مسألة في المعارضة (زعمهم أن خوف السيف يمنع إظهار المعارضة)

فإن قالوا: ما أنكرتم أن تكون العرب قد عارضته وأن يكون خوف سيفكم يمنع من إظهار معارضته؛ قيل لهم: لو كان الأمر على ما ادعيتموه لجاز نقله وذكره وذكر المعارض والمتولي له ولوجب بمستقر العادة أن يغلب إظهاره على طيه وكتمانه حتى يكون العلم به كالعلم بالقرآن الذي هو عروضه وإن منع الخوف من النص عليه والتبيين من كل واحد لذكره لأنه كان لا بد من تحدثهم بينهم إذا خلوا وجالسوا من يأمنون سيفه على وجه يجب أن يضطر إليه كما يجب أن تعلم الأسباب الحاملة على الكتمان والكذب الواقعين من السلطان لغرض في الحمل على ذلك مع الخوف منه وكما يجب في مستقر العادة تحدث الناس بعيوب سلطانهم وجبابرتهم ومذموم الخصال التي فيهم وإن لم ينقل ذلك نقلا ظاهرا ويقع تفصيله والنص عليه والبيان له من كل رجل بعينه وإذا كنا لا نعلم وجود المعارضة للقرآن كعلمنا لظهوره من جهة النبي سقوط ما قالوا وأيضا فلو كان الخوف من السيف مانعا من نقلهم المعارضة لمنع ذلك أيضا من دعوى المعارضة فإذا لم يمنع الخوف من قولكم قد عورض وإن كان تصريحا بالقدح في القرآن والتكذيب له مع عروة من حجة أو شبهة فكيف يمنعكم الخوف من إظهار ما ادعيتم. ويقال لمن سأل عن هذا من اليهود والنصارى لو كان ما قلتموه صحيحا لجاز لمدع أن يدعي أن موسى وعيسى عليهما السلام قد عورضا في قلب العصا حية وفلق البحر وإحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص وأن الخوف من أسيافكم يمنع من قتل ذلك وأن الخوف من سيوف المسلمين اليوم يمنع من نقله الآن لأن مكذب موسى وعيسى عند المسلمين بمنزلة مكذب محمد لم يجب هذا لم يجب ما قلتم.

مسألة في حفظ المعارضة (نسيان معارضة القرآن)

فإن قال قائل: ما أنكرتم أن تكون المعارضة قد وقعت ونسيت وذهب ذكرها وضبطها عن كل فرقة لأن الله صرف دواعي الناس وهممهم عن حفظها والتوفر على نقلها؛ قيل لهم: هذا أيضا غير جائز لأنه بمنزلة ابتداء إظهار المعجزات على أيدي الكذابين لأنه لا فرق بين خرق العادة بقلب العصا حية وفلق البحر وغير ذلك وبين خرقه العادة في صرف دواعي الناس عن نقل الأمر العظيم والخطب الجسيم وما قد جرت العادة بحفظه وانطلاق الألسن عليه وإلهاج الأنفس بذكره وغلبة إشهاره وإظهاره على طيه وكتمانه لأن ذلك أجمع خرق للعادة ولأنه أيضا إفساد الأدلة وسد العلم بإثبات النبوة لأنه لو جاز ذلك لم نأمن أن يكون جميع الرسل قد عورضوا في آياتهم وصرف الله سبحانه دواعي الناس عن نقل المعارضة وحفظها فلا يكون لنا مع ذلك سبيل إلى العلم بصدق واحد نقل المعارضة وحفظها فلا يكون لنا مع ذلك سبيل إلى العلم بصدق واحد منهم وقيام حجة على أمته لأننا إذ لم نأمن كون المعارضة وإن جهلناها لموضع ترك النقل لها لم نأمن أن يكونوا كذبه غير صادقين وذلك يضاد اعتقاد نبوتهم وهذا كلام ليس لبعض أهل الملل على بعض وإنما هو للطاعن على سائر النبوات وجوابه ما كرناه من أنه إفساد للأعلام وإيجاب لعجز القديم سبحانه عن الأدلة على صدق الصادق والتفرقة بينه وبين الكاذب.

مسألة في المعارضة والإعجاز (إعراضهم عن النظر في فائدة مقابلته)

فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون القوم إنما تركوا معارضة القرآن لإعراضهم عن النظر في أن مقابلته بمثله موجب لتكذيب من أتى به؛ قيل لهم: فهذا مما لا نظهر فيه ولا تأمل لأنه لا شبهة على أحد كمل عقله في أن من قال له قائل إنك لن تقوم ولن تقدر على القيام كاذب إذا قام وقدر على القيام والأطفال المنتقصون يعلمون هذا فضلا عن قريش في وفارة عقولهم وجودة قرائحهم ونحائزهم وصحة آدابهم وما وصفهم الله تعالى به من أنهم قوم خصمون والتماسهم من الرسول غير التي أتى بها حتى قال تعالى: { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } يعني التي سألوها ومع قولهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقوله { أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه }. ومع ما ذكره عن اليهود في قوله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } مع ما عليه أهل الإلحاد والتعطيل من الاحتجاج والعناد فكيف جهل هؤلاء أجمع ولم ينبه بعضهم بعضا عليه لولا جهل السائل عن هذا. ويقال للسائل عن هذا من اليهود والنصارى فما أنكرتم ألا يكون إضراب السحرة والأطباء عن معارضة موسى وعيسى في آياتهما لعجزهم عن ذلك وإنما صدفوا عنه لذهابهم في النظر في أن معارضتهما تؤدي إلى تكذيبهما ولا جواب عن ذلك أبدا.

مسألة في المعارضة والسيف

فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون الصارف للقوم عن معارضته اعتقادهم أن السيف أنجع في أمره وأحسم لمادة شبهته لا للعجز عن ذلك؛ قيل له: لو كان في قدرة القوم التكلم بمثل القرآن لأتوا به مع نصب الحرب كما أنهم كانوا يأتون مع ذلك بالشعر والرجز والخطابة والرسائل وكل ما هو من طباعهم وفي ترك ذلك دليل على بطلان ما قلتم.

مسألة في المعارضة والشبهة

فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون المانع لهم من معارضته هو خوفهم من دخول الشبهة على أوليائه وقوله لهم إنه ليس بعروض لما أتيت به؛ قيل لهم: هذا باطل لأن اللسان لسانهم واللغة لغتهم وهي طباع لهم ولا شبهة عليهم في معرفة ما هو بوزن كلامهم ولا مجال ولا مسرح للشك في هذا الباب. ثم يقال لهم: فبإزاء الخوف من ذلك الرجاء لوضوح بطلان ما أتى به لهم ووقوفهم عليه فكيف لم يبعثهم هذا على معارضته ويقال لهم: في هذه المسألة والتي قبلها ما أنكرتم أن يكون هذا هو الصارف لقوم موسى وعيسى عن معارضة ما ادعوه آية لهما فكل شيء أجابونا به فهو جوابنا.

مسألة في صفة الإعجاز في القرآن

فإن قال قائل: فإذا قدر العباد عندكم على مثل الكلمة والكلمتين والحرف والحرفين فما أنكرتم أن يقدروا على مثل جميعه وألا يكون في ذلك إعجاز؛ يقال له: لو وجب ما قلته لوجب إذا قدر الناس على مثل ما سألت عنه أن يكونوا كلهم شعراء وخطباء وأصحاب نظم ورسائل لقدرتهم على الكلمة والاثنتين وهذا جهل ممن صار إليه وليس يجب إذا تعذر على الإنسان نظم الكثير أن يتعذر عليه نظم اليسير كما لا يجب إذا تعذر عليه شرب ماء البحار والأنهار أن يتعذر عليه شرب الجرعة والجرعتين وإذا تعذر عليه الصعود إلى السماء وحمل الجبال أن يتعذر عليه قطع الذراع إلى فوق والذراعين وحمل الرطل والرطلين وإذا كان حمل الجبال والصعود إلى السماء آية لمن ظهر على يده وجب أن يكون نظم القرآن آية لمن أتى به وإن لم يكن نظم ما دون سورة منه آية لأحد.

مسألة في كيفية الإعجاز في القرآن

فإن قالوا: كيف يكون القرآن معجزا وهو غير خارج عن حروف المعجم التي يتكلم بها الخلق من أهل الفصاحة والعي واللكنة؛ قيل لهم: ليس الإعجاز في نفس الحروف وإنما هو في نظمها وإحكام رصفها وكونها على وزن ما أتى به النبي نظمها أكثر من وجودها متقدمة ومتأخرة ومترتبة في الوجود وليس لها نظم سواها وهو كتتابع الحركات إلى السماء ووجود بعضها قبل بعض ووجود بعضها بعد بعض ولو كان ما سألتم عنه يبطل مزية القرآن وموضع الأعجوبة في نظمه لوجب إبطال فضيلة الشاعر المفلق والخطيب المصقع والمرسل الفصيح المقتدر حتى لا يكون على أحد تكلم باللسان العربي وإن كان أعيا من باقل فضل لسحبان وائل وهذا أيضا جهل ممن صار إليه فبطل ما تعلقتم به.

مسألة في التحدي بالحروف المنظومة لا بالكلام القائم بالله

فإن قال قائل من اليهود والنصارى والمعتزلة: كيف لا يجوز التحدي بمثل القرآن وهو عندكم قديم لا مثل له من كلام الآدميين ولا يجانس كلام المخلوقين؛ قيل له: لم يتحد النبي الكلام القائم بالله سبحانه وإنما تحداهم بمثل الحروف المنظومة التي هي عبارة عنه في براعتها وفصاحتها واختصارها وكثرة معانيها وإذا كان ذلك كذلك بطل ما سألتم عنه. على أنه يصح من الله تعالى ومن رسوله يتحدى بمثل الكلام القديم إذا ادعى ملحد أو معاند أنه مثل كلام الآدميين ومن جنس كلام المخلوقين بأن يقال له إيت بمثله إن كان له مثل على ما تدعيه كما قال تعالى: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } و { فإن كان لكم كيد فكيدون } و { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } فطالبهم بذلك على مذهب التحدي والتقريع إن كان للباطل برهان وللقديم سبحانه شريك أو كيد يكاد به وإذا كان ذلك كذلك سقط تعجبهم من ذلك وثبت أنه لا تعلق لأحد فيه.

مسألة في الحفظ والإعجاز

فإن قال قائل: لو كان القرآن معجزا لوجب إذا حفظه بعض الناس وتلاه على أهل بلده وادعاه آية له أن يكون دلالة على صدقه؛ قيل له: لا يجب ما قلته من وجهين أحدهما أن القرآن لا يكون معجزا عند من سمعه إلا بعد فحصه وبحثه وتفتيشه وعلمه بأنه لا أحد سبق الذي أتى به إليه وأنه من جهته نجم ومن قبله ظهر ومتى لم يعلم ذلك لم يعلمه معجزا له وحافظ القرآن إذا ادعاه آية لم يلبث سامع دعواه مع أدنى بحث حتى يعلم أنه ظاهر لغيره فسقط احتجاجه به. والوجه الآخر أن الله تعالى إذا علم ذلك من حال من حفظه أنساه إياه وذهب بحفظه من قلبه أو خلق لسامعه القدرة على حفظه من أوله إلى آخره حتى يقول لمن أتى به هذا أمر حفظناه وعرفناه ولعلك عني أخذته فسقط التعلق بهذا.

مسألة في الإعجاز في التوراة والإنجيل

فإن قالوا: ما أنكرتم أن تكون التوراة والإنجيل معجزا؛ قيل لهم: أنكرنا ذلك لعدم العلة التي لها كان القرآن معجزا وهي عجز العرب عن معارضة مورده مع حرصهم على تكذيبه وما عره وغض منه وإيثارهم لقتله وبلوغ كل غاية في مكارهه وفض الجمع من حوله فلو تحدى موسى وعيسى عليهما السلام أعداءهما بمثل التوراة والإنجيل وغيرهم من أهل الأهواء والملحدين فعجزوا عند التحدي عن ذلك لوجب أن يكون ما أتيا به من ذلك معجزا وإذا لم يكن ذلك كذلك لم يجب ما قلتموه.

مسألة في لزوم حجة القرآن عند غير العرب

فإن قالوا: كيف لزمت حجة القرآن الهند والترك وهم لا يعرفون أن ما أتى به معجز؛ قيل لهم: من حيث إنهم إذا فتشوا علموا أن العرب الذين بعث فيهم النبي أفصح الناس وأقدرهم على نظم الكلام العربي وأنهم النهاية في هذا الباب وأنهم مع ذلك أحرص الناس على تكذيبه نشأ معهم وأنهم يعرفون دخيلته وأهل مجالسته في ظعنه وإقامته وأنه ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه وأنه مع ذلك كله أجمع تحداهم بمثله أو بسورة من مثله مجتمعين أو مفترقين فعجزوا عن ذلك أجمع كما أن حجة موسى وعيسى عليهما السلام قائمة على من ليس بساحر ولا طبيب لعلمه بأنهما تحديا أطب الناس وأعظمهم سحرا بمثل ما أتيا به فعجزوا عن ذلك مع الحرص على تكذيبهما والإتيان بمثل ما أتيا به.

مسألة في معارضة مسيلمة للقرآن

فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون مسيلمة قد عارض القرآن وقابله بقوله "يا ضفدع بنت ضفدعين نقي فكم تنقين لا الماء تغيرين ولا الشارب تمنعين" وقوله "والزارعات زرعا فالحاصدات حصدا والطاحنات طحنا" وأمثال ذلك من الكلام الركيك السخيف؛ قيل له: هذا الكلام دال على جهل مورده وضعف عقله ورأيه وما يوجب السخرية منه والهزء به، وليس هو مع ذلك خارجا عن وزن ركيك السجع وسخيفه وما زاد على ذلك قليلا خرج إلى وزن الشعر كقول بعضهم في شعره:

وقرا معلنا ليصدع قلبي ** والهوى يصدع الفؤاد السقيما

أرأيت الذي يكذب بالدين ** فذاك الذي يدع اليتيما

وعلى أن هذا الكلام لو كان معجزا لتعلقت العرب وأهل الردة به ولعرف أتباع النبي عروض له ولوقع لهم العلم اليقين بأنه قد قوبل؛ وفي عدم ذلك دليل على جهل مدعى ذلك وعلى أن مسيلمة لم يدع هذا الكلام معجزا ولا تحدى العرب بمثله فعجزوا عنه، بل كان في نفسه ونفس كل سامع له أخف وأسخف وأذل من أن يتعلق به، ولذلك لا نجد له نبأ ولا أحدا من العرب تعلق به.

مسألة في العلم بالتحدي

فإن قال قائل من أهل الملل وغيرهم: من أين يعلم أن النبي تحدى العرب أن تأتي بمثله وطالبهم بذلك؟ قيل لهم: يعلم ذلك اضطرارا من دينه وقوله كما نعلم وجوده وظهوره وكما نعلم وجود القرآن نفسه اضطرارا هذا على أنه في نص التلاوة نحو قوله { فأتوا بسورة من مثله } و { قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } وهذا غاية التحدي والتقريع وقد وصل قوله { فأتوا بسورة من مثله } بقوله { وادعوا شهداءكم من دون الله } فلا متعلق لأحد في هذا الباب. ويقلب السؤال على من سأل عنه من اليهود والنصارى والمجوس المدعين لنبوة زرادشت فيقال لهم: من أين علمتم أن موسى وعيسى وزرادشت تحدوا قومهم بمثل شيء مما أتوا به وما أنكرتم أن يكون ذلك قد ظهر من غير احتجاج منهم ولا تحد إلى مثله فكل شيء تعلقوا به فهو جوابنا عما سألوا عنه.

مسألة في إبطال دعوى المعارضة

فإن قالوا: كيف تبطلون حجة من أتى بكلام منظوم وزعم أنه مثل القرآن وعروضه؛ قيل له: لعلمنا بأنه ليس بمثل له ولا من جنس نظمه فإن قدر على ذلك قادر فليأت به لنريه أنه خلاف له ونعلم ذلك بعجز العرب أيضا عن معارضة القرآن مع العلم بأنهم أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء وأشعر وأخطب من على وجه الأرض ممن تكلم بلسانهم بعدهم فتعلم بذلك تعذر معارضته على من بعدهم وعلى أن من الناس من يزعم أن الله سبحانه إنما أعجز العرب أيضا عن معارضته وقت التحدي بالإتيان بمثله لكي يخرق بذلك العادة لصاحبه ويدل على صدقه وقد يجوز أن يقدرهم بعد موت النبي مثله. ومنهم أيضا من يقول قد كانت العرب قادرة قبل التحدي على الإتيان بمثله وإنما أعجزهم الله سبحانه عن ذلك وقت تحدي الرسول عادتهم ليدل على صدقه ولعمري إن ذلك لو كان كذلك لكان آية عظيمة وخرقا للعادة كما أن نبيا لو تحدى قومه بتحريك أيديهم والخروج عن أماكنهم إلى أقرب المواضع إليها فمنعوا القدرة على ذلك وقد اعتادوا الاقتدار عليه ثم أقدروا عليه ثانية بعد تقضي تحديه لكان خرق العادة بإيجاد القدرة على ذلك وإعدامها على خلاف المتعالم المألوف آية عظيمة وحجة بينة فإذا كان ذلك كذلك سقط ما سألوا عنه.

مسألة في وجوه الإعجاز

فإن قال قائل: فهل في القرآن وجه من وجوه الإعجاز غير ما ذكرتموه من بديع نظمه وعجيب رصفه وتأليفه؛ قيل له: أجل فيه وجهان آخران من وجوه الإعجاز. أحدهما ما انطوى عليه من أخبار الغيوب التي يعلم كل عاقل عجز الخلق عن معرفتها والتوصل إلى إدراكها نحو قوله { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون } فدخلوه كما وعدهم وأخبرهم ومن ذلك قوله تعالى: { سيهزم الجمع ويولون الدبر } فكان ذلك كما أخبر وقوله { ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } وقد أظهره الله وأعلى دعوته وأذل الملوك المحاولة لأبطاله التي كانت حول صاحب الدعوة إليه وقوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم }. وكان من ذلك ما وعدهم الله تعالى واستخلف الأربعة الأئمة الخلفاء الراشدين. وقوله لليهود { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } فأخبر أنهم إن تمنوا الموت ماتوا وأنهم لن يتمنوه فلم يتمنوه على ما أخبر به علما منهم بصدقه وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا لا محالة. وكذلك امتنع النصارى عن مباهلته عند دعائه لهم إليها ومطالبته بها في قوله تعالى: { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } فامتنعوا عن المباهلة خوفا من النكال وأليم العقاب وأن ينزل بهم ما توعدهم به وليس ذلك إلا لعلمهم بصدقه وثبوت نبوته ومن أخبار الغيوب قوله تعالى: { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون } فغلبت الروم فارس في بضع السنين كما أخبر تعالى في نظائر هذا مما يكثر تتبعه واتفاق الصواب في هذا أجمع على سبيل التخمين والظن ممتنع متعذر فدل ذلك على أنه من أخبار علام الغيوب سبحانه. والوجه الآخر ما عليه القرآن من قصص الأولين وسير الماضين وأحاديث المتقدمين وذكر ما شجر بينهم وكان في أعصارهم مما لا يجوز حصول علمه إلا لمن كثر لقاؤه لأهل السير ودرسه لها وعنايته بها ومجالسته لأهلها وكان ممن يتلوا الكتب ويستخرجها مع العلم بأن النبي يكن يتلو كتابا ولا يخطه بيمينه وأنه لم يكن ممن يعرف بدراسة الكتب ومجالسة أهل السير والأخذ عنهم ولا لقي إلا من لقوه ولا عرف إلا من عرفوه وأنهم يعرفون دأبه وديدنه ومنشأه وتصرفه في حال إقامته بينهم وظعنه عنهم فدل ذلك على أن المخبر له عن هذه الأمور هو الله سبحانه علام الغيوب. فهذا وجه الإعجاز في القرآن.

باب الكلام على اليهود في الأخبار

وقد افترقت اليهود في الأصل على فرقتين، فزعمت الشمعنية منهم أن نسخ الشرائع وإرسال نبي بعد موسى عليه السلام لنسخ شريعته جائز من طريق العقل وأنهم إنما منعوا نسخ شريعتهم على يد نبي بعد نبيهم من جهة توقيف الله جل اسمه في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام أنه لا ينسخها ولا يبعث نبي بتبديلها بألفاظ سنذكر بعضها. وزعمت العناية منهم أن نسخ الشرائع محال من جهة العقل وأن السمع أيضا قد ورد بتأكيد ما في العقل من ذلك. وأجمعوا إلا فريقا منهم على أن نسخ الشيء قبل امتثاله ووقت فعله بداء ودلالة على الجهل إلا فريقا منهم فإنهم أجازوا نسخ العبادة بما هو أغلظ منها وأشق على سبيل العقوبة للمكلف. وقالت السامرية منهم بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون وأنكرت بنبوة غيرهم من الرسل الذين بعدهم كسليمان وحزقيل واليسع وغيرهم. وقال الباقون منهم بنبوة كل من ظهرت الأعلام على يده بعد موسى وأن محمدا وعيسى عليهما السلام ليسا نبيين وأن الذي أظهراه إما أن يكون لا أصل له أو يكون من الحيل والمخاريق وأن عيسى الذي هو المسيح الذي أخبروا بنبوته لم يأت بعد وأنه سيأتي وأنه نبي صادق. وزعمت العيسوية منهم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني أن محمدا وعيسى عليهما السلام نبيان صادقان وأنهما أرسلا إلى قومهما ولم يرسلا بتبديل شريعة موسى. فيقال لهم جميعا: ما الدليل على إثبات نبوة موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: ما ظهر على يده من الأعلام المعجزة كفلق البحر وإخراج اليد البيضاء وغير ذلك من أعلامه؛ قيل لهم: وما الدليل على صحة هذه الأعلام وثبوتها مع علمكم بخلاف من يخالف فيها من البراهمة والمجوس والملحدين وأهل التنجيم وغيرهم من الجاحدين؟ فإن قالوا: الدليل على ذلك نقل اليهود خلفا عن سلف وهم قوم بهم تقوم الحجة لما هم عليه من كثرة العدد وتفرق الدواعي والهمم وتباين الأوطان وتباعد الديار واختلاف المذاهب والكذب ممتنع على مثلهم أن موسى عليه السلام أتى بهذه الأعلام التي ذكرناها فوجب العلم بصحتها؛ يقال لهم: أليس قد أنكر جميع من قدمنا ذكره من المجوس والبراهمة وغيرهم صحة ما نقله أسلافكم وأخلافكم فكيف يكون النقل موجبا للعلم مع إنكار من أنكره وطعن من طعن فيه؛ فإن قالوا: إذا استوى أول الخبر وطرفاه من آخره ووسطه ثبتت صحته ووجب العلم بصدق نقلته وإن خالف في ذلك مخالفون؛ يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون محمد وأن يكون ما أثبته المسلمون من أعلامه صحيحا بنقل من نقل ذلك من المسلمين وذلك أن المسلمين في وقتنا هذا قوم ببعضهم يثبت التواتر وتقوم الحجة وقد نقلوا خلفا عن سلف مع كثرة عددهم وتنافر طباعهم وتباين أغراضهم ودواعيهم واختلاف آرائهم ومذاهبهم وتفرق أوطانهم وامتناع جواز الكذب على مثلهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى بالأعلام الباهرة والبراهين اللائحة، فمنها ما قد أطبقوا جميعا وسائر أهل الملل على نقله والعلم به كالقرآن ومنها ما أخبرت الحجة من المسلمين أنها أخذته عن حجة والحجة عن مثلها حتى ينتهي ذلك إلى قوم نقلوه بحضرة جماعة الصحابة وأضافوه إلى مشاهدتهم وعلموا تصديقهم لما ادعي عليهم وإقرارهم بصحته كالذي نقل من أعلام موسى وادعي فيه مشاهدة من سلف ممن عاصره فوجب القضاء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وإن قالوا: سلف المسلمين الذين أخذ النقل عنهم كانوا قلة ونفرا يجوز على مثلهم الكذب وإن كان خلفهم اليوم بخلاف هذه الصفة فلذلك لم يجب العلم بصدقهم؛ قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون السلف الذين نقلوا في الأصل أعلام موسى عليه السلام قلة ونفرا يجوز على مثلهم الكذب فلذلك لم يجب ثبوتها وعلم البراهمة والمجوس بصحتها؟ فإن قالوا: قد أخبرت اليهود وهم اليوم حجة أنهم أخذوا هذا النقل عن قوم هم حجة كَهُم وعَمَّن نقل بحضرة الحجة وادعى حضورهم لإخراج اليد بيضاء ومشاهدتهم لذلك فأمسكوا عن إنكاره؛ قيل لهم: فكذلك المسلمون وهم اليوم حجة بل بعضهم يخبرون أنهم أخذوا نقلهم عن حجة كهم وممن نقل بحضرة الحجة فلم ينكر ما نقله مع ادعائه حضورهم. فإن قالوا: لو كان ذلك كما يدعون لعلمنا صدقهم فيما نقلوه ضرورة؛ قيل لهم: أول ما في هذا تجويزكم الكذب على عدد المسلمين اليوم في قولهم إنما أخذوا ذلك عن حجة وإن جاز الكذب عليهم في هذه الدعوى جاز عليهم في جميع ما يدعونه وينقلونه وجاز أيضا على أمثالهم من اليهود والنصارى والمجوس ونقلة البلدان وفي ذلك التعطيل للأخبار والعلم بشيء من جهتها أصلا وتجويز أن تكون اليهود اليوم كاذبة في قولها إن النقل أخذته عن حجة كهي وذلك ما لا خلاص منه. ويقال لهم: لو كان ما تنقله اليهود اليوم وتدعيه صحيحا ومأخوذا عن مثلها من سلف هم حجة لعلم الملحدون والبراهمة وأهل التثنية والمجوس وأصحاب الطبائع والفلاسفة والمنجمون صحة نقلهم اضطرارا، فلما لم يكن ذلك كذلك وكان سائر من ذكرناهم يجحد نقلهم بطل أن يكون صحيحا. فإن قالوا: هم يعلمون ذلك ضرورة ولكنهم يجحدون ما يعلمون؛ قيل لهم: وكذلك أنتم وسائر النصارى عالمون بصحة نقل المسلمين لأعلام نبيهم غير أنكم تجحدون ذلك على علم منكم لصحته. فإن قالوا نجد أنفسنا بخلاف ما تدعون؛ قيل لهم: وكذلك تزعم البراهمة والمجوس والفلاسفة وأهل الإلحاد أنهم يجدون أنفسهم غير عالمين بصحة نقلكم، فلم يجب تصديقكم - ولا جواب لهم عن ذلك. وإن هم قالوا: ليس نعلم صدق السلف الذين نقلوا أعلام موسى واضطرارا وإنما نعلم ذلك من أمرهم استدلالا لسكوت من سكت عن إنكار ما نقلوه مع ادعاء حضورهم ومشاهدتهم ومن صد عن النظر في ذلك جهل الحق فيما نقلوه؛ قيل لهم: مثل ذلك في العلم بصحة كثير من أعلام النبي معلومة بمثل هذا الاستدلال وأنهم إنما جهلوا لتركهم النظر فيما يدل على صحته. فإن قالوا: إنما وجب صحة نقل أعلام موسى والانقياد له لإطباق أهل الأديان المختلفة عليه كاليهود والنصارى والمسلمين وهذه العلة مفقودة من خبركم؛ قيل لهم: لم وجب ذلك دون أن يجب بطلانه وتكذيبه لاجتماع أهل الأديان المختلفة على تكذيبه ورده كالبراهمة والمجوس والفلاسفة وضروب الدهرية فإن كان إطباق المختلفين في دياناتهم على تكذيب المخبر لا يدل على كذبه فما أنكرتم أن يكون إطباق المختلفين في دياناتهم على تصديق المخبرين لا يدل على صدقهم. ثم يقال لهم: فما أنكرتم من وجوب ثبوت خبر المسلمين وصدقهم لإطباقهم وإطباق العيسوية منكم على تصديقهم وهم أهل دينين مختلفين وملتين متباينتين فإن قالوا العيسوية إنما أخذوا نقل أعلام محمد وأنتم في الأصل فرقة واحدة؛ قيل لهم: وكذلك المسلمون والنصارى إنما أخذوا نقل أعلام موسى عليه السلام عن أسلافكم وعنكم وأنتم في الأصل فرقة واحدة فلا تجب الحجة بنقلكم. ثم يقال لهم: فيجب على موضوع اعتلالكم تصحيح آيات المسيح عليه السلام لإطباقنا والنصارى والعيسوية على صحتها؛ فإن أجابوا إلى ذلك تركوا دينهم، وإن أبوه تركوا اعتلالهم. فإن قالوا: قد ضمت النصارى إلى نقلهم أعلام المسيح ما تحبله العقول من التثليث؛ قيل لهم: إن النصارى لم تنقل التثليث فيفسد نقلها وإنما تأولته واستدلت عليه عند أنفسها وضربت للحلول والاتحاد والأقانيم والجوهر الأمثال وغلطت وأخطأت في اجتهادها وتأويلها وذلك لا يوجب غلطها في نقلها أن المسيح أبرأ الأكمه والأبرص ومشى على الماء ونحو ذلك، فبطل ما قلتم. ويقال لهم: فيجب تصحيح أعلام المسيح صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقلنا ونقل العيسوية ونقل الموحدة من النصارى من رؤوس الأروسية الذين يقولون إن عيسى ابن الله على جهة الاختصاص والإكرام - ولا يجدون لذلك مدفعا. ثم يقال لهم: فيجب أيضا أن يكون نقل اليهود لأعلام موسى كذبا باطلا لأنهم قد ضموا إلى نقل ذلك ما تحيله العقول من قولهم بالتشبيه والتجسيم وأن الله تعالى جسم ذو صورة ومتناه محدود أبيض الرأس واللحية وأنه مهموم محزون بما عليه العباد من الظلم والفساد في الأرض وأنه تعالى عن قولهم ندم على الطوفان وتغريق العالم وقال لن أعود إلى إغراق الأرض أبدا وتخطوا في الجهل إلى حد لن تبلغه النصارى في التثليث والاتحاد. وإن قالوا ليس كل اليهود يقولون ذلك؛ قيل لهم: ولا كل النصارى يقولون بالتثليث وإثبات البنوة 3 على حد ما تذهب إليه الملكية واليعاقبة والنسطورية، ونحن إنما نحتج بقول الموحدة منهم. فإن قالوا: ليس في النصارى إلا قائل بالتثليث الذي تحيله العقول؛ قيل لهم: ولا في اليهود إلا قائل بالتشبيه والتجسيم الذي تحيله العقول - ولا جواب عن ذلك. ثم يقال لهم: خبرونا عن نقلكم أعلام موسى عليه السلام هل كانت الحجة قائمة به قبل وجود النصارى والمسلمين وإطباقهم معكم على النقل مع خلاف البراهمة لكم وسائر من ذكرناه؟ فإن قالوا: لا، تركوا دينهم وأوجبوا سقوط فرض شريعة موسى عن كل برهمي ومجوسي وملحد وفلسفي وأنه لا حجة عليها قبل نقل المسلمين والنصارى لأعلام موسى - وليس ذلك من قولهم. وإن قالوا: قد كانت الحجة لازمة بنقل اليهود وحدهم مع خلاف من خالفهم مع كثرة عددهم واختلاف دياناتهم؛ قيل لهم: فما أنكرتم من قيام الحجة بنقل المسلمين لأعلام نبيهم خلاف من خالفهم من أهل الملل - فلا يجدون بدا من ترك ما تعلقوا به. ثم يقال لهم: هل يخلو نقل المسلمين والنصارى لأعلام موسى عليه السلام من أن يكون مأخوذا في الأصل عنكم أو عن عيسى ومحمد اللذين لم يأخذا عنكم وإنما أخذا عن الله تعالى، فإن كانوا إنما أخذوا ذلك عنكم وأنتم في الأصل طبقة واحدة والحجة بقول الطبقة الواحدة غير ثابتة، وإن كانوا أخذوا ذلك عن عيسى ومحمد اللذين لم يأخذا عنكم فقد أخذوا عن الله سبحانه وهذا إقرار منكم بنبوتهما. فإن قالوا إنما وجب صحة نقل اليهود لأنهم في دار ذلة وممن تؤخذ منهم الجزية وليس كذلك المسلمون لأنهم ليسوا في دار ذلة ولا ممن يؤدي الجزية؛ فيقال لهم: فلا يجب على قولكم إثبات صحة خبر نقلة البلدان والسير لأنه ليس بوارد عن أهل ذلة وممن يؤدي جزية ويجب لهذه العلة صحة نقل النصارى لأعلام عيسى عليه السلام لأنهم في دار ذلة وممن يؤدي الجزية - فلا يجدون من ذلك بدا أو يتركوا اعتلالهم. ويقال لهم: فيجب سقوط فرض اعتقاد نبوة موسى عليه السلام وصحة ما جاء به قبل أن يحصوا في دار ذلة وتؤخذ منهم الجزية، فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن أبوه أبطلوا هذا الشرط في صحة الأخبار. ويقال لهم: فيجب صحة أعلام المسيح لإطباقهم والعيسوية ونحن معهم على نقلها لأن الفريقين يؤدون جزية وهي في دار ذلة، وكذلك يجب صحة نقل المسلمين لأعلام محمد العيسوية على نقلها وهم أهل ذلة وممن يؤدي الجزية؛ فإن قالوا عنكم أخذوا هذا النقل وأنتم في الأصل فرقة واحدة، قيل لهم: وكذلك المسلمون والنصارى ومحمد وعيسى عليهما السلام إنما أخذوا النقل لأعلام موسى عنكم وأنتم في الأصل طبقة واحدة ونقل الفرقة عندكم لا تقوم به الحجة فبطل نقلكم. فإن قالوا: قد شهدتم وشهدت النصارى لنا بصحة أعلام موسى وذلك كالبينة على دعوانا ولم نشهد لكم بصحة أعلام نبيكم؛ قيل لهم: وشهاداتنا وشهادة النصارى هي شهادة على شهادتكم وأنتم في الأصل فرقة واحدة وكثرة الشهادات على شهادة واحدة من واحد أو فرقة واحدة ليست بحجة ولا بينة. ثم يقال لهم: وكذلك قد شهدنا نحن والعيسوية بصحة أعلام عيسى عليه السلام فيجب إثباتها عندكم؛ فإن قالوا شهادتهم على ذلك شهادة على شهادتكم وهي شهادة واحدة في الأصل، قيل لهم مثل ذلك فيما تعلقوا به. فإن قالوا: إنما وجب القول بثبوت أعلام موسى عليه السلام لأن الناقلة لها لم يحملوا على نقلهم بالسيف ونقلة أعلام محمد عليه السلام محمولون على النقل بالسيف؛ قيل لهم: ولم زعمتم أنا محمولون على النقل للأعلام بالسيف وما دليلكم على ذلك وما أنكرتم أن تكون هذه الدعوى كذبا لأننا لم نحمل أحدا أسلم وأقر بالشهادتين على نقل أعلام نبينا عليه السلام ولو اعترض معترض جمهور الأمة لم نجد عندها من نقل هذه الأعلام شيئا ولا معرفة بكثير منها وإنما نطالبهم بالدخول في الدين بعد قيام الحجة فقط. ثم يقال لهم: أليس موسى عليه السلام كان من دينه وشريعته أن يقتل من ارتد عن دينه وفارق ملته بعد الدخول فيها؛ فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فما أنكرتم أن تكونوا محمولين على نقل أعلام موسى عليه السلام بالسيف وأن يكون أسلافكم الذين كانت منهم المنة والرئاسة إنما دخلوا في دين موسى رغبة وحبا لأسباب الدنيا والترأس فيها وضمن لهم ذلك فلما دخلوا في الدين لم يمكنهم الخروج منه خوفا من القتل فصاروا محمولين على النقل؟ فإن قالوا: لم يكن أسلافنا يحملون الناس على الدخول في الدين وإن حملوهم على المقام عليه بعد الدخول فيه فلم يكونوا لذلك محمولين؛ قيل لهم: وكذلك نحن لا نقتل من دخل في ديننا إذا لم ينقل أعلام نبينا ولا نقتل أيضا من أدى الجزية وأقام على دينه ولم يدخل في ديننا إذا لم ينقل أعلام نبينا أو كان من أهل العهد والصلح، فلم يجز أن يكونوا محمولين على نقل أعلام نبينا عليه السلام. ويقال لهم أيضا: فيجب صحة نقل أعلام محمد بنقل العيسوية وهم أمة عظيمة لأنها لم تحمل على ذلك بالسيف، وكذلك يجب صحة نقل أعلام المسيح عليه السلام لنقلهم ونقل العيسوية لها وهم غير محمولين على النقل بالسيف. فإن قالوا: النصارى محمولة على النقل بالسيف؛ قيل لهم: وكذلك أنتم محمولون، وقيل لهم: فالعيسوية غير محمولة على نقل أعلام المسيح فيجب إثبات أعلامه بنقلهم. ويقال للنصارى إن قالوا لنا أنتم محمولون على نقلكم بالسيف: ما أنكرتم أن تكونوا أيضا محمولين على نقلكم بالسيف؟ فإن قالوا النصارى مفترقون في البلاد والمهامة وبطون الأودية ورؤوس الجبال والصوامع وأطراف السند والهند فكيف يكونون محمولين على النقل بالسيف ولا أحد في هذه البقاع يحملهم؟ قيل لهم: ولليهود وكذلك المسلمون منتشرون في البراري والقفار والبحار والرباطات وأطراف البلاد وفي دار مملكتكم وتحت غلبتكم بقسطنطينية وعمورية ورومية وفي قلاعكم ومطاميركم وفي أسركم منهم خلق عظيم لا يحصي عددهم إلا الله تعالى كلهم ينقلون أعلام النبي بدينه، فكيف يكون من ذكرناه محمولا على تصديق محمد أعلامه. فإن قالوا: جميع من ذكرتم إنما أخذوا النقل في الأصل عن قوم محمولين عليه؛ قيل لهم: وكذلك جميع من ذكرتموه من النصارى واليهود في سائر الأقطار إنما أخذوا النقل عن قوم محمولين عليه في الأصل أو عمن حمل عليه وألجىء إليه بالسيف - ولا جواب لهم عن ذلك. ثم يقال لهم: خبرونا عن الحامل للمسلمين على النقل أهم الحاملون لأنفسهم أم غيرهم ممن باين ملتهم وكذب نبيهم حملهم على نقل أعلامه بالسيف؟ فإن قالوا غيرهم حملهم مع تكذيبهم لنبيهم تجاهلوا وتركوا قولهم وما توجبه قضية العقل والعادة؛ وإن قالوا هم الحاملون لأنفسهم على نقل أعلام نبيهم قيل لهم: فكيف يحمل الحامل نفسه على الشيء إلا من حيث لو آثروا ترك النقل لصاروا إليه ووقع منهم فهذا يعود إلى أنهم نقلوا ذلك مختارين للنقل. وإن قالوا: إنما صاروا محمولين على النقل بأن حمل بعضهم بعضا؛ يقال لهم: فلا بد أن تكون فيهم فرقة غير محمولة هي الحاملة لغيرها. فإذا قالوا هو كذلك؛ قيل لهم: فما أنكرتم أن تكون أعلام محمد ثابتة بنقل تلك الطبقة التي هي غير محمولة أصلا وهذا يبطل تعلقهم بالحمل. وإن قالوا: هذه الفرقة التي ليست بمحمولة يقصر عددها عن عدة من يوجب خبره العلم؛ قيل لهم: وكذلك الأصل في الذين نقلوا أعلام موسى وأخذتم النقل عنهم فرقة يقصر عددها عن عدة من يوجب خبره العلم. فإن قالوا: قد أخبرت اليهود اليوم وهم أهل تواتر أن سلفهم كخلفهم فوجب صدقهم في ذلك؛ قيل لهم: فما بال البراهمة والمجوس وأهل الإلحاد والتنجيم والفلاسفة لا يعلمون ذلك ويجحدونه وينكرونه؟ فإن قالوا: هم يعلمون ذلك ولكنهم يكابرون، قيل لهم: فكذلك المسلمون قد أخبروا اليوم وهم أهل تواتر أنهم أخذوا النقل عن سلف كخلفهم ومن آحاد نقلوا بحضرة من هو كخلفهم وادعوا حضورهم وسلموا نقلهم فوجب صدقهم وأنتم وكل واحد تعلمون ذلك ولكنكم تجحدون وتعاندون - ولا جواب عن ذلك. فإن قالوا: ليس تنكر البراهمة والمجوس والفلاسفة والملحدة ظهور هذه الأمور على يد موسى وإنما يدعون أنها حيل ومخاريق؛ قيل لهم: ليس كذلك كما تقولون لأنهم جميعا ينكرون فلق البحر وخروج اليد بيضاء ونبع الماء من الصخرة جملة وإنما يستضعفون بعض من يسلمون له ذلك جدلا طمعا في انتهاز فرصته وإظهار عجزه من كل وجه. وقيل لهم: وكذلك أنتم لا تنكرون إذا خلوتم بأنفسكم أن يكون محمد أتى بهذه المعجزات الخارقة للعادة وإنما تظنون أنها حيل ومخاريق. فإن قالوا لسنا نقول ذلك قيل لهم: وكذلك البراهمة والمجوس وأهل الإلحاد لا يقرون بوجود شيء مما تدعونه لموسى عليه السلام - ولا جواب عن ذلك. وقد زعم كثير من اليهود أن من شرط الخبر الموجب للعلم القاطع للعذر أن تكون الناقلة لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد ولا يجوز على مثلهم التكاتب والتراسل وأن تتغاير آباؤهم وتختلف أنسابهم وتتفرق دواعيهم وهممهم وأغراضهم وأن تختلف مللهم ودياناتهم وألا يحملوا على نقلهم بالسيف ولا يضموا إلى خبرهم ما تحيله العقول وأن يكونوا في دار ذلة وممن تؤخذ منهم الجزية – قالوا: وكل هذه الشرائط موجودة في نقل اليهود دون المسلمين والنصارى والمجوس، لأن المسلمين محمولون على نقلهم بالسيف والمجوس يقولون بقدم اثنين وعبادة النور وهو شخص محدود والنصارى يقولون بالتثليث وكل هذا تحيله العقول وتدفعه، فوجب القضاء بصحة أعلام موسى عليه السلام دون أعلام محمد وعيسى وزرادشت. وقد تكلمنا عليهم في الحمل على نقل الأعلام بما يغني عن رده وكذلك قد قدمنا القول في اشتراطهم كون النقلة في دار ذلة وممن تؤخذ منهم الجزية وفي ضم ما تحيله العقول إلى النقل في توثيق الخبر بإطباق أهل الملل المختلفة عليه وبينا أنه لا تعلق لهم في شيء مما ذكروه. فأما تغاير الآباء واختلاف الأنساب وتباعد الأوطان والديار فإنه لا معنى له ولا لاشتراطه لأنه لو نقل إلينا خبرا عن مشاهدة أهل بلدة واحدة وبنو أب واحد وأهل نسب واحد وأهل دين واحد وهم أهل تواتر لوجب العلم بصدقهم وصحة نقلهم، وكذلك لو كانت حرفتهم واحدة. وأما اشتراطهم ألا يضموا إلى خبرهم ما تحيله العقول فإنه باطل لأن أهل التواتر لا يجوز وقوع الكذب منهم، ونقل ما تحيله العقول كذب لا محالة، ولو جاز عليهم ذلك لبطل العلم بخبرهم؛ والنصارى لم تنقل التثليث ولكن تأولته على ما بيناه من قبل. فإن قالوا: فقد نقلنا ونقلت النصارى أن المسيح قتل وصلب فيجب القطع بصحة خبرنا؛ قيل لهم: قد قال بعض الأمة وأكثر الناس إن النقل مأخوذ عن أربعة من الحواريين لوقى ومتى ومرقش ويوحنا، والأربعة يجوز عليهم الكذب، وقال بعضهم إنكم صدقتم وصدق أسلافكم في أن شخصا قتل وصلب ولكنكم توهمتم أنه المسيح لأن المقتول تحول عن صفته هذا وتقع الشبهة في أمره والخبر لا يكون موجبا للعلم حتى تكون الناقلة قد اضطرت إلى ما أخبرت عنه وزالت الشبهة فيه وإذا كان ذلك كذلك بطل ما سألتم عنه. وكذلك الجواب عن المطالبة بصحة أعلام زرادشت، إما أن نقول إنها في الأصل مأخوذة عن آحاد لأن العلم بصدقهم غير واقع لنا أو نقول إنه نبي صادق ظهرت على يده الأعلام ودعا إلى نبوة نوح وإبراهيم، وإنما كذبت المجوس عليه في إضافة ما أضافته إليه من القول بالتثنية وقدم النور والظلام وحدوث الشيطان من فكرة وشكّة شكها بعض أشخاص النور، وهو بمنزلة كذب النصارى على المسيح عليه السلام من دعائه إلى اعتقاد التثليث والاتحاد والاختلاط وأن مريم ولدت مسيحا بلاهوته دون ناسوته وغير ذلك من جهالاتهم ولا سؤال لهم علينا في شيء من ذلك. وسنقول في تفصيل الأخبار وذكر التواتر فيها وصفة أهله وما يجب كونهم عليه وحال أخبار الآحاد وما يستدل به على صحة الصحيح منها وبطلان الباطل والوقف فيما عري من الدليل وغير ذلك من أحكام الأخبار في باب القول في الإمامة إن شاء الله تعالى.

باب الكلام على منكر نسخ شريعة موسى عليه السلام من جهة السمع دون العقل

يقال لمن زعم ذلك منهم: ما الخبر الموجب لمنع نسخ شريعة موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: هو ما تنقله اليهود خلفا عن سلف عمن شاهد موسى عليه السلام منهم أنه قال وهذه الشريعة مؤبدة عليكم ولازمة لكم ما بلغت السماوات لا نسخ لها ولا تبديل ونحو هذا من اللفظ وأنه أمر بتكذيب كل من دعى إلى نسخ شريعته وتبديلها فوجب منع النسخ بما ذكرناه من الخبر؛ فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون هذا القول الذي نقلتموه عن موسى عليه السلام صحيحا ولكن لم زعمتم أن مراده به نفي النسخ على كل حال ولزوم العمل بشريعته وإن ظهرت الأعلام على يد من يدعو إلى نسخها وتبديلها. وما أنكرتم أن يكون إنما أراد بقوله إن شريعته لازمة لكم ما دامت السماوات والأرض ما لم تظهر المعجزات على يد داع يدعو إلى خلافها وتبديلها لأنه قد قيد في العقل وجوب تصديق من ظهرت الأعلام على يده والمصير إلى حكم قوله وسقوط العمل بما أخبر بنسخه وإزالته كما أنه قد قيد في عقولنا وجوب سقوط فرض العمل بالشريعة مع الموت والعدم والعجز عندكم فوجب أن يكون معنى قوله الشريعة لازمة لكم ما دامت السماوات والأرض وما كنتم أحياء موجودين وما لم تموتوا أو تعدموا أو تعجزوا وإن لم يكن ذلك في سياق اللفظ لأجل أنه مقيد في العقل. وكذلك ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله إنها مؤبدة لازمة لكم ما لم يبعث الله نبيا تظهر الأعلام على يده يدعو إلى نسخها وتبديلها فإن قالوا لولا أن اليهود قد نقلت وهي اليوم أهل تواتر عن مثلهم عمن شاهد موسى عليه السلام أنه أكد هذا النفي للنسخ وقرنه بما يدل على أنه أراد عموم الأزمان على جميع الأحوال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وأزال بما كان من توقيفه على ذلك وتأكيده وظهور الأسباب التي اضطروا عندها إلى أنه أراد أن الله تعالى لا يبعث أبدا نبيا بنسخها لأجرنا من التأويل ما قلتموه وسألتم عنه. ولكن الضرورة التي نقلتها إلينا أهل الحجة أمنت مما ذكرتموه فوجب حمل الخبر على العموم. يقال لهم: هذه الدعوى كذب لأنه لو كان الذي أخبركم عن هذه الضرورة الواقعة بقصد موسى عن سلفكم أهل تواتر وكذلك من قبلهم إلى القوم الذين شاهدوا موسى وهم أهل تواتر قد اضطروا إلى ما أخبروا عنه لوجبت لنا الضرورة بأن موسى صلى الله عليه وسلم قد وقف على ذلك وأراده وثبت أنه من دينه لأننا قد سمعنا الخبر كما سمعتم وعرفناه كما عرفتم فلو كان من التوقيف والتأكيد ما وصفتم وقد نقله أهل الحجة لعلمنا ذلك ضرورة كما علمنا وجود موسى عليه السلام ضرورة لما نقل وجوده ومشاهدته قوم هم حجة إلى مثلهم إلى من سمعناه وكذلك سبيل وجوب العلم بكل أمر تواتر الخبر عنه واستوى فيه طرفا الخبر ووسطه وفي رجوعنا إلى أنفسنا ووجودنا إياها غير عالمة بذلك في جملة ولا في تفصيل فضلا عن أن تكون مضطرة دليل على كذبهم في هذه الدعوى. فإن قالوا لو لم تكن هذه الضرورة صحيحة ثابتة لكانت اليهود اليوم كاذبة في قولهم إنهم مضطرون إلى العلم بصحة هذه الضرورة التي أخبرهم بحصولها سلفهم وكذلك أيضا سلفهم قد كذبوا وسلف سلفهم في دعواهم العلم بهذه الضرورة وكذبوا في نقلها وفي الإخبار عنها ولو جاز ذلك عليهم لجاز أن يكون كل ما نقلوه كذبا ولجاز مثل ذلك على سائر الأمم وعلى نقلة البلدان والأمصار وهذا يبطل التواتر رأسا. يقال لهم: ولو كانت هذه الضرورة التي تدعونها صحيحة ثابتة وقد سمع المسلمون بنقلها كما سمعتم لوجب أن يكونوا مضطرين إلى العلم بصحتها وأن تكون حالهم في العلم بذلك كحالهم ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون المسلمون مع كثرة عددهم وامتناع التراسل والتشاعر عليهم قد كذبوا في قولهم إنا غير عالمين بذلك ولا مضطرين إليه لأنهم عندكم مضطرون إليه ولو جاز عليهم الكذب على انفسهم في جحد ما هم إلى العلم به مضطرون لجاز عليهم الكذب على غيرهم ولجاز أن يكونوا كذبة في سائر ما نقلوه ولجاز مثل الجائز عليهم على سائر الأمم من أهل الملل ونقلة البلدان وهذا يبطل التواتر جملة فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن أبوه أبطلوا دعواهم. ومما يدل على كذب هذه الدعوى أننا لا نعلم ضرورة أن موسى قال هذا القول جملة أعني ما ادعوه عليه من قوله هذه الشريعة لكم لازمة ما دامت السماوات والأرض فضلا عن أن يعلم مراده به لأن العلم بمراده بالقول هو فرع للعلم بوجود القول ونحن فلا نعلم أنه قال هذا القول جملة فكيف يدعى علينا العلم بمراده ضرورة. ويقال لهم: قد زعم أكثر اليهود ومن يعتمد عليه في المناظرة والمدافعة أن الذي نقل عن موسى عليه السلام في هذا الباب هو أنه قال إن أطعتموني فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السماوات والأرض وما ذكر النسخ ولا أن الشريعة لا تنسخ ولا أنه لا نبي بعده ينسخها ولا أنها مؤبدة عليكم ولازمة لكم ما دامت السماوات ولا شيء من هذه الألفاظ وكل ما يدعونه من هذا أباطيل ومقابلات للنصارى والمسلمين وأستعارة لكلامهم وألفاظهم. وليس في قوله إن أطعتموني فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه دليل على أن الشريعة التي أمر بطاعته في العمل بها لا تنسخ لأن الإنسان قد يقول مثل هذا ثم ينسخ العمل ويديم ما ضمنه على الطاعة فيه قبل نسخه لأن القائل إذا قال إن أطعتني فيما أمرتك ودعوتك إليه ثبتت مكنتك عندي ودامت كرامتك لدي وقرب مكانك من مكاني جاز أن ينسخ الأمر بعد فعله ووجب أن يديم بعد نسخه ما ضمنه وإنما لم يثبت ملك بني إسرائيل لأنهم عصوه في أيام حياته وبعد وفاته وحرفوا وغيروا وبدلوا فزال عند ذلك ملكهم وضربت عليهم الذلة كما قال الله تعالى فكان فيهم المسخ بالعدو في السبت وغير ذلك من ضروب عصيانهم له فلا معنى لدعوى هذه الألفاظ التي لا أصل لها على موسى عليه السلام. ومما يدل أيضا على تحرصهم في هذه الألفاظ على موسى عليه السلام علمنا أنه عبراني اللسان وأن ما نقلوه عنه بصورة ما يوردونه علينا من قولهم إن الشريعة مؤبدة وإنها لا نسخ لها وإن العمل بها واجب ما دامت السماوات والأرض وأمثال ذلك وإنما ينقلون كلام موسى ويترجمونه وينقلونه من لغة إلى لغة ويفسرونه والغلط والتحريف يدخل في النقل كثيرا فلم تجب الضرورة بصحة ما نقلوه وفسروه ومن ادعى ذلك طولب بأن يذكر لفظ موسى بالعبرانية وحروف لفظه لنعرضه على أهل لغته فإنك تجد فيه من الخلاف بينهم أمرا عظيما. وإن هم قلبوا هذا وقالوا ما الذي يدل عندكم على منع نبي بعد نبيكم عليه السلام قيل لهم: الخبر الوارد عنه ما نقلته كافة الأمة من قوله لا نبي بعدي وقد نقلوا ذلك عن سلفهم والخلف عن سلف حتى يتصل ذلك بمن شاهد النبي أكد هذا القول وعراه عن كل قرينة توجب تخصيصه وقرنه بكل ما أوجب العلم بعموم مراده للنفي لسائر الأنبياء بعده ممن ينسخ شريعته وممن لا ينسخها من العرب وغيرها وفي عصره وبعد وفاته وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فإن قالوا فمثل هذه الدعوى بعينها حكينا لكم عن موسى عليه السلام فلم تقبلوها فإن كان ما قلتموه من هذا حجة لكم فهو أيضا حجة لنا فيقال لهم: الفرق بين خبرنا وخبركم الذي ادعيتم على موسى ثلاثة أمور أحدها أن ما نقمناه لكم هو لفظ الرسول مفسر ولا منقول بتفسير ونقل يمكن دخول الغلط والتحريف في مثله وليس كذلك سبيل خبركم لأنه منقول من لغة إلى لغة. والوجه الآخر إن نبينا قال « لا نبي بعدي » تلا قوله تعالى: { وخاتم النبيين } وعراه مما يوجب تصديق نبي بعده وأمر بتكذيب كل مدع لنبوة معه وبعد موته وأكد ذلك وقرنه بما تقع الضرورة عنده إلى مراده وموسى عليه السلام قرن خبره الذي تدعونه عليه بالأمر لكم بتصديق الرسل بعده وقد صدقتهم يوشع وحزقيل واليسع وداود وسليمان وصدقت العيسوية منكم بنبوة أبي عيسى الأصبهاني وأنتم تنتظرون المسيح إلى اليوم وتنتظرون رسلا تأتيكم إلى وقتنا هذا ونبينا من ذلك ووقف عليه وأكده فبان الفرق بين الأمرين. والأمر الثالث أن الله تعالى عندنا وعندكم لا يبطل الحجج بعضها ببعض ولا يقلب العلوم ولا يغير حقائق الأمور فلو كان موسى قد وقفكم على منع نسخ شريعته توقيفا اضطركم به إلى مراده ونفي وجوه سائر الاحتمال عنه لكان لا يخبر بذلك إلا عن الله سبحانه ولو أمره الله بذلك ووقفه عليه وألزمه توقيف خلقه عليه وإعلامهم إياه لم يجز أن يظهر المعجزات على يد من يدعو إلى نسخها وتبديلها وفي ثبوت نقل المسلمين للقرآن وغيره من الأعلام وثبوت الإعجاز فيما نقلوه عن نبيهم بالأدلة التي نقلناها والنقل الذي يحج مثله دليل على كذب مدعي توقيف موسى عليه السلام على ما قلتم فهذه فروق بين الدعوتين توضح صحة ما قلناه وبطلان ما ادعيتم. فإن قال منهم قائل قد كذب المسلمون في نقل أعلام محمد عليه السلام قيل لهم: وقد كذبت اليهود والنصارى أيضا في نقل أعلام موسى وكذبت نقلة الأمصار وكل طريق تثبتون به أعلام موسى فبه وبما هو أقوى منه تثبت أعلام محمد بينا ذلك فيما سلف بما يغني عن رده. فإن قال منهم قائل لسنا نعلم ضرورة ولا غير ضرورة أن محمدا إني خاتم النبيين قيل لهم: هذا الآن منكم بهت لأنكم تقرون بالقرآن وأنه من قبله ظهر وفي نص التلاوة قوله تعالى: { وخاتم النبيين } وقد نقل كافة الأمة هذا القول أعني قوله « لا نبي بعدي » نقلا متواترا لا يمكن دفعه وثبت من دينه وجوب قتل كل مدعي الرسالة بعده حتى لو سئل سائر أهل الملل والإلحاد عن ذلك لعرفوه فلا معنى للبهت وبالله التوفيق.

باب الكلام على محيل النسخ منهم من جهة العقل

يقال لمن قال ذلك منهم: لم قلتم هذا وما دليلكم عليه؟ فإن قالوا: لأن أمره بالشيء يقتضي كونه مصلحة والنهي عنه يقتضي كونه مفسدة فإذا نهانا عما أمرنا به وجب أن يكون سفيها إما في أمره بالفساد أو في نهيه عن الصلاح لأن ما نهي عنه بعد أمره به لا بد أن يكون صلاحا أو فسادا فلما لم يكن أن يكون الباري سبحانه سفيها غير حكيم لم يجز نهيه عما كان أمر به؛ يقال لهم: ما أنكرتم إن كان ما قلتموه من ذلك صحيحا على تسليم ما بنيتموه وإن كنا لا نقول به أن يكون ذلك إنما يقتضي أن يكون النهي عن نفس المأمور به قبل امتثاله على وجه أمر به يوجب ما قلتم وأن يكون ناهيا عن فعل المصلحة وألا يوجب إحالة نهيه عن نفس ما أمر به إحالة نهيه عن مثله بعد فعله لأن مثله الذي من سبيله أن يقع بعده هو غيره والنهي عن غير الشيء في غير وقته لا يكون نهيا عنه في وقته ولا جواب لهم عن ذلك. وهذا الجواب هو جوابهم على اعتلالهم في هذا الباب أن الأمر بالشيء يقتضي كونه طاعة والنهي عنه يقتضي كونه إذا فعل معصية والطاعة لا يجوز أن تكون معصية لأن مثل الشيء إذا نهي عنه بعد فعله فليس بنهي عنه فلم تصر الطاعة معصية وهو بعينه الجواب عن اعتلالهم بأن نسخ الشريعة بعد الأمر بها يوجب كون الحسن قبيحا والحكمة سفها لأن الأمر بالشيء يقتضي كونه حكمة حسنا صوابا والنهي عنه يقتضي كونه قبيحا عبثا ولا يجوز أن يكون الحسن قبيحا لأن النهي عن مثل الحسن المأمور به نهي عن غيره وليس يمتنع أن يكون مثل الصلاح في وقت فسادا في وقت آخر ومثل الطاعة في وقت معصية في وقت آخر ومثل الحسن في وقت قبيحا في غيره. ألا ترى أن الأكل والشرب والعلاج بالكي طاعة حسن صواب مصلحة عند العطش والجوع وحدوث الأمراض المقتضية للعلاج وفعل ذلك أجمع عند الشبع والري والصحة والغنى عن التداوي قبيح وسفه ومعصية لله عز وجل فليس يمتنع عند جميع العقلاء أن تكون هذه العبادات السمعية نحو الصوم والصلاة والتوجه إلى بيت المقدس وترك العمل في السبت مصلحة في وقت مفسدة في وقت طاعة وصوابا في وقت ومثلها معصية وسفها في وقت آخر وإذا كان ذلك كذلك بطل جميع ما يتعلقون به من هذه الأمور. وإن هم قالوا الدليل على منع النسخ من جهة العقل أن الأمر بالشيء يدل على أنه مراد للأمر والنهي عنه يدل على كراهته ومحال أن يكون المراد كونه لله سبحانه مكروها مع كونه له مرادا أجيبوا بمثل ما تقدم لأن المراد في وقت هو غير مثله الذي يكره في وقت آخر كما أن المراد من الأكل مع لهب الجوع غير المكروه منه مع البطنة والامتلاء والشبع التام ولا جواب عن ذلك. وإن قالوا الدليل على إحالة النسخ من جهة العقل أنه يوجب البداء لأن الأمر بالشيء يقتضي كونه مصلحة واعتقاد الأمر به كونه كذلك والنهي عنه بعد الأمر به يدل على أنه قد بدا للآمر وانكشف له أن ما كان أمر به مفسدة ليس بمصلحة على ما توهمه وذلك منتف عن الله جل ذكره كان الجواب عنه أيضا ما تقدم وذلك أن الله تعالى إنما نهى لما نسخ شريعة موسى عن مثل ما كان أمر به وأن يفعل ذلك في وقت غير وقت ذلك المفعول الأول والنهي عن مثل الشيء في وقته ليس بنهي عنه كما أن النهي عن العمل في السبت ليس بنهي عن العمل في الجمعة والأحد والأمر بالعمل في الجمعة ليس بأمر بالعمل في السبت. وأيضا فإنا نحن نجوز نسخ الشيء قبل وقت فعله وقبل امتثاله ولا يوجب ذلك البداء إذا علم الآمر به أن تبقية الأمر مشقة داعية إلى ترك المكلف كل الواجبات وأن تخفيف المحنة به بالنهي عنه مصلحة ولطف في فعل المكلف لما نفي الأمر به فيكون الأمر به مصلحة وإزالته قبل امتثاله مصلحة غير أن النهي عنه يتناوله على غير الوجه الذي يتناوله الأمر لأن الأمر بالفعل كان أمرا بأن يفعل إن بقي الأمر به والنهي عنه يرد مع زوال الأمر به وليس ذلك بنهي عنه مع بقاء الأمر به والأمر بفعله كان أمرا به مع بقائه دون إزالته وقد شرحنا هذا الكلام في أصول الفقه بما يغني الناظر فيه إن شاء الله. ويقال لهم في اعتلالهم في البداء: ما أنكرتم أن يكون الله سبحانه إذا أمات الجسم بعد حياته وأسقمه بعد صحته وآلمه بعد إلذاذه وغيره عن حالته فهذا بدا له وعلم أن ما كان فعله مفسدة ليس بمصلحة فإن قالوا الآلام والعقاب إنما توقع بهم بعد التفضل باللذات على سبيل الجزاء الانتقام وكان ذلك هو الصلاح لهم لأنه أزجر لهم عن المعصية وأدعى إلى الطاعة قيل لهم: اعملوا على أن ذلك كما ادعيتم أليس قد كان الله تعالى ابتدأهم بالتفضل باللذة فلما عصوه أبدلهم بها ألما وسقما على سبيل النقمة فهل بدا له من فعل اللذة ومثلها فإن قالوا أجل تركوا دينهم وإن قالوا لا ولكن التفضل في وقت باللذات أصلح لهم والانتقام بعد ذلك بالآلام على الإجرام أصلح لهم من اللذات قيل لهم: فما أنكرتم من مثل ذلك في الأمر لهم بالشيء في وقت النهي عن مثله فيكون كفعل الشيء في وقت وترك مثله بعده. ثم يقال لهم: ما تقولون أيضا في إيلام الأطفال والبهائم والمجانين بعد إلذاذهم ونقض بنيتهم بعد صحتها وتقطع جوارحهم بعد سلامتهم والذهاب بأسماعهم وأبصارهم أتقولون إن ذلك على سبيل الانتقام منهم فإن قالوا أجل تركوا قولهم ولحقوا بأهل التناسخ الذين يقولون إن هذه الأرواح المحبوسة في البهائم والأطفال قد غضب الله عليهم ونقلهم في الأكوان والأدوار وذلك ترك قولهم وإن قالوا ليس تغير حالات الأطفال في هذه الأمور انتقاما ولكن ذلك على سبيل المصالح فقط قيل لهم: مثله في الأمر بالشيء في وقت والنهي عن مثله بعده. وكذلك يسألون عن نقض الجماد بعد تأليفه وتربيعه بعد تسديسه وترطيبه بعد تيبيسه وتحريكه بعد تسكينه وتسويده بعد تبييضه وغير ذلك من تغير أحواله وأوصافه فيقال لهم: ألبداء من الله تعالى واستدراك علم غير ما فعله ونقض ما ألفه وفرق ما جمعه وحرك ما سكنه وأحيا ما أماته أم ليس لبداء فإن قالوا لبداء تركوا دينهم واعتلالهم وإن قالوا ليس لبداء ولكن لأن النقض في وقت مصلحة للمكلفين والتأليف مصلحة في غيره وكذلك التحريك والتسكين قيل لهم: مثله في الأمر بالشيء في وقت والنهي عن مثله في غيره ولا جواب لهم عن شيء من ذلك.

باب الكلام على العيسوية منهم الذين يزعمون أن محمدا وعيسى عليهما السلام إنما بعثا إلى قومهما ولم يبعثا بنسخ شريعة موسى عليه السلام

يقال لهم: إذا أوجبتم تصديق محمد وعيسى عليهما السلام في قولهما إنهما نبيان من عند الله فما أنكرتم من وجوب تصديقهما في قولتهما إنهما قد بعثا إلى كل أسود وأبيض وأنثى وذكر وبنسخ شريعة موسى وكل صاحب شرع قبلهما فإن كان قد كذبا في هذا القول مع ظهور المعجزات على أيديهما فما أنكرتم أن يكونا كاذبين في سائر أخبارهما وهذا يبطل النبوة جملة؛ فإن قالوا نحن لا نكذب محمدا وعيسى عليهما السلام في هذا القول لو قالاه لأنهما لو كذبا في بعض ما يخبران به عن الله سبحانه لم يكونا نبيين ولكننا نكذب النصارى والمسلمين في ادعائهم ذلك عليهما فالكذب واقع من ناحية أمتيهما ولم يقع من جهتهما؛ يقال لهم: إذا جاز الكذب على النصارى والمسلمين في هذا الخبر الذي يدعونه على محمد وعيسى عليهما السلام فلم لا يجوز عليهم الكذب في جميع ما نقلوه عنهما وفي نقلهم أعلامهما ولم لا يجوز مثل ذلك على اليهود أيضا ونقله البلدان والسير وهذا يعود إلى إبطال القول بالأخبار جملة وفي إطباقنا وإياهم على فساد ما أدى إلى ذلك دليل على فساد قولهم وصحة قول المسلمين والنصارى في هذا الباب. وكذلك أيضا يقال للخرمذانية الذين يقولون بتواتر الرسل أليس قد نقل من خالفكم من كافة المسلمين عن نبيهم أنه قال « لا نبي بعدي » وأنه أكد ذلك وقرنه بما علموا به ضرورة قصده إلى نفي كل نبي على التأبيد وعلى كل حال فإذا قالوا أجل قيل لهم: فهل هم عندكم صادقون في نقلهم ذلك أم كاذبون فإن قالوا هم صادقون أبطلوا إثبات نبوة أحد بعد محمد قالوا قد كذبوا في هذه الدعوى عليه قيل لهم: فما أنكرتم أيضا من أن تكونوا كاذبين في نقل أعلامه وما أنكرتم من جواز الكذب على اليهود والنصارى وسائر نقلة الأعلام وإن جاز هذا جاز أيضا عليكم الكذب في نقلكم أعلام كل نبي أثبتم نبوته وبطل أصل دينكم ولا جواب لهم عن شيء من ذلك.

باب الكلام على المجسمة

إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسما؛ قيل له: لما قدمناه من قبل وهو أن حقيقة الجسم أنه مؤلف مجتمع بدليل قولهم رجل جسيم وزيد أجسم من عمرو وعلما بأنهم يقصرون هذه المبالغة على ضرب من ضروب التأليف في جهة العرض والطول ولا يوقعونها بزيادة شيء من صفات الجسم سوى التأليف فلما لم يجز أن يكون القديم مجتمعا مؤتلفا وكان شيئا واحدا ثبت أنه تعالى ليس بجسم. فإن قالوا ومن أين استحال أن يكون القديم مجتمعا مؤتلفا قيل لهم: من وجوه أحدها أن ذلك لو جاز عليه لوجب أن يكون ذا حيز وشغل في الوجود وأن يستحيل أن يماس كل بعض من أبعاضه وجزء من أجزائه غير ما ماسه من الأبعاض وأجزاء الجواهر أيضا من جهة ما هما متماسان لأن الشيء المماس لغيره لا يجوز أن يماسه ويماس غيره من جهة واحدة وليس يقع هذا التمانع من المماسة إلا للتحيز والشغل ألا ترى أن العرض الموجود بالمكان إذا لم يكن له حيز وشغل لم يمنع وجوده من وجود غيره من الأعراض في موضعه وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون سائر الأبعاض المجتمعة ذا حيز وشغل وما هذه سبيله فلا بد أن يكون حاملا للأعراض ومن جنس الجواهر والأجسام فلما لم يجزأن يكون القديم سبحانه من جنس شيء من المخلوقات لأنه لو كان كذلك لسد مسد المخلوق وناب منابه واستحق من الوصف لنفسه ما يستحقه ما هو مثله لنفسه فلما لم يجب أن يكون القديم سبحانه محدثا والمحدث قديما ثبت أنه لا يجوز أن يكون القديم سبحانه مؤتلفا مجتمعا. ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان القديم سبحانه ذا أبعاض مجتمعة لوجب أن تكون أبعاضه قائمة بأنفسها ومحتملة للصفات ولم يخل كل بعض منها من أن يكون عالما قادرا حيا أو غير حي ولا عالم ولا قادر فإن كان واحد منها فقط هو الحي العالم القادر دون سائرها وجب أن يكون ذلك البعض منه هو الإله المعبود المستوجب للشكر دون غيره وهذا يوجب أن تكون العبادة والشكر واجبين لبعض القديم دون جميعه وهذا كفر من قول الأمة كافة وإن كانت سائر أبعاضه عالمة حية قادرة وجب جواز تفرد كل شيء منها بفعل غير فعل صاحبه وأن يكون كل واحد منها إلها لما فعله دون غيره وهذا يوجب أن يكون الإله أكثر من اثنين وثلاثة على ما تذهب إليه النصارى وذلك خروج عن قول الأمة وكل أمة أيضا وعلى أن ذلك لو كان كذلك لجاز أن تتمانع هذه الأبعاض ويريد بعضها تحريك الجسم في حال ما يريد الآخر تسكينه فكانت لا تخلو عند الخلاف والتمانع من أن يتم مرادها أو لا يتم بأسره أو يتم بعضه دون بعض وذلك يوجب إلحاق العجز بسائر الأبعاض أو بعضها والحكم لها بسائر الحدث على ما بيناه في الدلالة على إثبات الواحد وليس يجوز أن يكون صانع العالم محدثا ولا شيء منه فوجب استحالة كونه مؤلفا. فإن قالوا فكذلك فجوزوا تمانع أجزاء الإنسان إذا قدر وأراد وتصرف كل شيء منها بقدرة وإرادة غير إرادة صاحبه قيل له: لا يجب ذلك ولا يجوز أيضا تمانع الحيين المحدثين المتصرفين بإرادتين وإن كانا متباينين لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يكون محل فعل المحدثين واحدا واستحالة تعدي فعل كل واحد منهما لمحل قدرته والتمانع بالفعلين لا يصح حتى يكون محلهما واحدا فلم يجب ما سألتم عنه. فإن قالوا ولم أنكرتم أن يكون الباري سبحانه جسما لا كالأجسام كما أنه عندكم شيء لا كالأشياء قيل له: لأن قولنا شيء لم يبن لجنس دون جنس ولا لإفادة التأليف فجاز وجود شيء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس بمؤلف ولم يكن ذلك نقضا لمعنى تسميته بأنه شيء وقولنا جسم موضوع في اللغة للمؤلف دون ما ليس بمؤلف كما أن قولنا إنسان ومحدث اسم لما وجد من عدم ولما له هذه الصورة دون غيرها فكما لم يجز أن نثبت القديم سبحانه محدثا لا كالمحدثات وإنسانا لا كالناس قياسا على أنه شيء لا كالأشياء لم يجز أن نثبته جسما لا كالأجسام لأنه نقض لمعنى الكلام وإخراج له عن موضوعه وفائدته. فإن قالوا فما أنكرتم من جواز تسميته جسما وإن لم يكن بحقيقة ما وضع له هذا الاسم في اللغة قيل لهم: أنكرنا ذلك لأن هذه التسمية لو ثبتت لم تثبت له إلا شرعا لأن العقل لا يقتضيها بل ينفيها إن لم يكن القديم سبحانه مؤلفا وليس في شيء من دلائل السمع من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وما يستخرج من ذلك ما يدل على وجوب هذه التسمية ولا على جوازها أيضا فبطل ما قلتموه. فإن قالوا ولم منعتم من جواز ذلك وإن لم توجبوه قيل لهم: أما العقل فلا يمنع ولا يحرم ولا يحيل إيقاع هذه التسمية عليه تعالى وإن أحال معناها في اللسان وإنما تحرم تسميته بهذا الاسم وبغيره مما ليس بأسمائه لأجل حظر السمع لذلك لأن الأمة مجمعة على حظر تسميته عاقلا وفطنا وإن كان بمعنى من يستحق هذه التسمية لأنه عالم وليس العقل والحفظ والفطنة والدراية شيئا أكثر من العلم وإجازة وصفه وتسميته بأنه نور وأنه ماكر ومستهزىء وساخر من جهة السمع وإن كان العقل يمنع من معاني هذه الأسماء فيه فدل ذلك على أن المراعي في تسميته ما ورد به الشرع والإذن دون غيره وفي الجملة فإن الكلام إنما هو في المعنى دون الاسم فلا طائل في التعلل والتعلق بالكلام في الأسماء. فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون جسما على معنى أنه قائم بنفسه أو بمعنى أنه شيء أو بمعنى أنه حامل للصفات أو بمعنى أنه غير محتاج في الوجود إلى شيء يقوم به قيل له: لا ننكر أن يكون الباري سبحانه حاصلا على جميع هذه الأحكام والأوصاف وإنما ننكر تسميتكم لمن حصلت له بأنه جسم وإن لم يكن مؤلفا فهذا عندنا خطأ في التسمية دون المعنى لأن معنى الجسم أنه المؤلف على ما بيناه ومعنى الشيء أنه الثابت الموجود وقد يكون جسما إذا كان مؤلفا ويكون جوهرا إذا كان جزءا منفردا ويكون عرضا إذا كان مما يقوم بالجوهر ومعنى القائم بنفسه هو أنه غير محتاج في الوجود إلى شيء يوجد به ومعنى ذلك أنه مما يصح له الوجود وإن لم يفعل صانعه شيئا غيره إذا كان محدثا ويصح وجوده وإن لم يوجد قائم بنفسه سواه إذا كان قديما وليس هذا من معنى قولنا جسم ومؤلف بسبيل فبطل ما قلتم فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون معنى جسم ومعنى قائم بنفسه وغير قائم بغيره ومعنى أنه حامل للصفات هو معنى أنه شيء لأنه لو لم يكن معنى جسم ومعنى قائم بنفسه وغير قائم بغيره ومعنى أنه حامل للصفات هو معنى شيء لجاز وجود شيء حامل للصفات ليس بشيء وقائم بنفسه وغير قائم بغيره وليس بجسم ولو جاز ذلك لجاز وجود جسم ليس بشيء ولا قائم بنفسه ولا حامل للصفات فلما لم يجز ذلك وجب أن يكون معنى الجسم ما قلناه. يقال لهم: لو كان هذا العكس الذي عكستموه صحيحا واجبا لوجب أن يكون معنى موجود محدث مركب حامل للأغراض معنى لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لجاز وجود شيء ليس بموجود ولا محدث ولا مؤلف ولا مركب ولا حامل للأعراض ولا قائم بنفسه ولو جاز ذلك لجاز وجود محدث قائم بنفسه مركب مؤلف حامل للصفات ليس بشيء ولا موجود فلما لم يجز ذلك ثبت أن معنى شيء غير معنى محدث مؤلف حامل للأعراض فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلتموه

مسألة

ويقال لهم: ما الدليل على أن صانع العالم جسم؟ فإن قالوا لأننا لم نجد في الشاهد والمعقول فاعلا إلا جسما فوجب القضاء بذلك على الغائب؛ قيل لهم: فيجب على موضوع استدلالكم هذا أن يكون القديم سبحانه مؤلفا محدثا مصورا ذا حيز وقبول للأعراض لأنكم لم تجدوا في الشاهد وتعقلوا فاعلا إلا كذلك، فإن مروا على ذلك تركوا قولهم وفارقوا التوحيد، وإن أبوه نقضوا استدلالهم.

باب الكلام في الصفات

فإن قال قائل: ولم قلتم إن للقديم تعالى حياة وعلما وقدرة وسمعا وبصرا وكلاما وإرادة؛ قيل له: من قبل أن الحي العالم القادر منا إنما كان حيا عالما قادرا متكلما مريدا من أجل أن له حياة وعلما وقدرة وكلاما وسمعا وبصرا وإرادة وأن هذا فائدة وصفه بأنه حي عالم قادر مريد يدل على ذلك أن الحي منا لا يجوز أن يكون حيا عالما قادرا مريدا مع عدم الحياة والعلم والقدرة ولا توجد به هذه الصفات إلا وجب بوجودها به أن يكون حيا عالما قادرا فوجب أنها علة في كونه كذلك كما وجب أن تكون علة كون الفاعل فاعلا والمريد مريدا وجود فعله وإراداته التي يجب كونه فاعلا مريدا لوجودها وغير فاعل مريد بعدمها فوجب أن يكون الباري سبحانه ذا حياة وعلم وقدرة وإرادة وكلام وسمع وبصر وأنه لو لم يكن له شيء من هذه الصفات لم يكن حيا ولا عالما ولا قادرا ولا مريدا ولا متكلما ولا سميعا ولا بصيرا يتعالى عن ذلك كما أنه لو لم يكن له إرادة وفعل لم يكن عندنا وعندهم فاعلا مريدا لأن الحكم العقلي الواجب عن علة لا يجوز حصوله لبعض من هو له مع عدم العلة الموجبة له ولا لأجل شيء يخالفها لأن ذلك يخرجها عن أن تكون علة الحكم.

دليل آخر

ومما يدل أيضا على إثبات علم الله تعالى وقدرته ما ظهر من أفعاله الدالة على كونه عالما قادرا وأنه مفارق للجاهل العاجز وقد ثبت أن الفعل الدال على كون الفاعل عالما قادرا لا بد له من تعلق بمدلول وأن مدلوله لا يجوز أن يكون نفس الفاعل ووجوده ولا صفة ترجع إلى نفسه من حيث ثبت أن معنى وصفه بأنه عالم قادر زائد على وصفه بأنه شيء موجود وأن الوصف له بأنه عالم قادر قد ينتفي عنه مع وجود نفسه وكونه شيئا موجودا فوجب اختلاف معنى هذه الأوصاف. وكذلك لا يجوز أن تكون دلالة الفعل على أن الفاعل عالم قادر دلالة على صفة ترجع إلى نفسه لأمرين أحدهما أن ذلك لو كان كذلك لوجب ألا توجد نفس العالم القادر إلا عالمة قادرة وألا ينتفي عنه هذان الوصفان إلا بانتفاء نفسه وبطلانها كما أن السواد الذي هو سواد لنفسه يجب ألا تعلم نفسه وتوجد إلا وهي سواد وألا ينتفي عنه الوصف بأنه سواد إلا بانتفاء نفسه فلم يجز لذلك أن تكون دلالة الفعل على أن الفاعل عالم قادر دلالة على صفة ترجع إلى نفسه. والأمر الآخر أن ذلك لو كان كذلك لوجب أن تكون نفس العالم علما كما أن الأسود إذا كان أسود لنفسه وجب أن تكون نفسه سوادا ولما استحال أن تكون نفس العالم القادر القديم والمحدث علما استحال أن تكون دلالة الفعل على أنه عالم دلالة على نفسه ووجوده أو على صفة ترجع إلى نفسه وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون مدلول الفعل ومتعلقه هو العلم والقدرة.

دليل آخر

ويدل على ذلك أيضا أنه إذا صح وثبت أنه ليس معنى أن العالم عالم والقادر قادر أكثر من أنه ذو علم وقدرة ومن وجود هاتين الصفتين به وأنه ليس له بكونه عالما قادرا صفتان وحالتان منفصلتان عن العلم والقدرة أو في حكم المنفصل عن ذلك وجب أن تكون دلالة الفعل على أن العالم القادر عالم قادر دلالة على علمه وقدرته كما أنه إذا ثبت أنه ليس معنى الأسود الفاعل أكثر من وجود السواد به ووقوع الفعل منه وجب أن تكون الدلالة على أنه أسود فاعل دلالة على وجود السواد به فقط ووقوع الفعل منه.

باب الكلام في الأحوال على أبي هاشم

فإن قال قائل: ما أنكرتم أن تكون دلالة الفعل على أن فاعله عالم قادر دلالة على حال له فارق بها من ليس بعالم ولا قادر؛ قيل له: أنكرنا ذلك لأن هذه الحال لا تخلو أن تكون معلومة أو غير معلومة فإن كانت غير معروفة ولا معلومة فلا سبيل إلى معرفتها والدلالة عليها والعلم بأنها لزيد دون عمرو ولأن ما ليس بمعلوم لا يصح قيام دليل عليه ولا أن يعلم اضطرارا ولا أن يعلم أنه لزيد دون عمرو لأن العلم بأن الحال حال لفلان دون فلان فرع للعلم به وكذلك العلم بأنها معلومة بالاستدلال دون الاضطرار فرع للعلم بها جملة فإذا استحال العلم بها جملة استحال العلم بأنها لفلان دون فلان وأنها معلومة باستدلال دون اضطرار وقولهم بعد هذا إن نفس من له الحال معلومة على الحال كلام متهافت محال لأنه إذا استحال أن تكون الحال معلومة استحال أن يعلم أن النفس على الحال وأن الحال حال لها دون غيرها ووجب أن يكون العلم علما بالنفس فقط دون الحال واستحال قولهم إن العلم علم بالنفس على الحال. ويدل على فساد هذا الكلام أنه لا يخلو العلم بأن النفس على الحال من أن يكون علما بالنفس فقط دون الحال أو علما بالحال فقط دون النفس أو علما بهما جميعا أو علما لا بالنفس ولا بالحال فإن كان علما لا لا بالنفس ولا بالحال فذلك محال من قولنا جميعا وإن كان علما بالنفس دون الحال فذلك محال وموجب لأن يكون العلم بالنفس أنها نفس علما بالحال وأن يكون علم كل من علم ذات من له الحال ووجوده علم اختصاصه بتلك الحال وذلك محال وإن كان العلم بأن النفس على الحال علما بالحال فقط فقد ثبت أن الحال معلومة وإن كان العلم بذلك علما بالنفس والحال فقد وجب أن يكونا معلومين جميعا وأن تكون الحال معلومة كما أن النفس معلومة وأن تكون النفس والحال في حكم معلومين لأنه قد يصح العلم بالنفس مع عدم العلم بالحال وعدم العلم بأن النفس على تلك الحال كما يصح العلم بزيد دون عمرو وهذا يبطل قولهم إن الحال غير معلومة. فإن كانت هذه الحال معلومة وجب أن تكون إما موجودة أو معدومة فإن كانت معدومة استحال أن توجب حكما وأن تتعلق بزيد دون عمرو وبالقديم دون المحدث وإن كانت موجودة وجب أن تكون شيئا وصفة متعلقة بالعالم وهذا قولنا الذي نذهب إليه وأنما يحصل الخلاف في العبارة وفي تسمية هذا الشيء علما أو حالا وليس هذا بخلاف في المعنى فوجب صحة ما نذهب إليه في إثبات الصفات. وعلى أن هذه الحال على أصل القائل بها تقتضي إثبات أحوال لا غاية لها لأنها تخلو أن تكون حالا لمن هي حال له ومختصة به لأنها حال فقط أو لأنها على حال اقتضت كونها حالا لمن هي حال له فإن كانت حالا له لأنها حال فقط وجب أن يكون كل حال حالا له وإن كانت حالا له بحصولها على حال أخرى فتلك الحال يجب أن تكون حالا للحال بحال ثالثة أبدا إلى غير غاية وذلك محال باتفاق فسقط ما قالوه وإن كانت الحال حالا له لنفسه وثبوته لم تكن نفسه بأن توجب كون الحال حالا لها أولى من سائر الأنفس ولوجب أيضا ألا توجد نفسه إلا وهي موجبة لتلك الحال وفي اتفاقنا على أن نفس من له الحال قد توجد غير موجبة لذلك دليل على أنها لا تجب إذا وجبت له نفسه. فإن قالوا الحال حال من هي حال له لا لنفسه ولا لعلة ولا لحال هو عليها ولا لأمر يجب العلم به وكذلك كل حكم موصوف فارق غيره لصفة هو عليها قيل لهم: فما أنكرتم أيضا أن يكون العالم مفارقا لمن ليس بعالم لنفسه لا لنفسه ولا لعلة ولا لحال هو عليها ولا لأمر يجب العلم به وكذلك حكم المتلون والمتحرك وكل موصوف بصفة فارق بها غيره بصفة وهذا يؤول إلى إبطال سائر الأعراض وفي فساد ذلك دليل على بطلان ما يذهبون إليه في تصحيح الأحوال وإثبات الصفات التي خبرنا عن ثبوتها. ويدل على إثبات علم الله وقدرته من نص كتابه قوله { أنزله بعلمه } وقوله { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وقوله { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } والقوة هي القدرة فأثبت لنفسه العلم والقدرة.

شبهة لهم في نفي العلم

يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون لله سبحانه علم به علم فإن قالوا لأنه لو كان له علم لوجب أن يكون عرضا حادثا وغيرا له وحالا فيه وغير متعلق بمعلومين على سبيل التفصيل وأن يكون واقعا عن ضرورة أو استدلال وأن يكون مما له ضد ينفيه لأن كل علم عقلناه ثبت لعالم به في الشاهد المعقول فهذه سبيله وإثبات علم على خلاف ما ذكرناه قول لا يعقل وخروج عن حكم الشاهد والمعقول وذلك باطل باتفاق قيل لهم: ولم زعمتم أن القضاء بخلاف الشاهد والوجود محال وأن الشاهد والوجود دليل على ما وصفتم فلا يجدون في ذلك متعلقا. ويقال لهم: ما أنكرتم على اعتلالكم من استحالة وجود إنسان لا من نطفة وطائر لا من بيضة وبيضة لا من طائر وفاعل فعل الأجسام لأن ذلك أجمع مما لم يوجد ويعقل في الشاهد وهذا لحوق بأهل الدهر. ويقال لهم: فأحيلوا حيا عالما قادرا لنفسه لأنكم لم تجدوا ذلك في الشاهد. ثم يقال لهم: فما أنكرتم على اعتلالكم ألا يصح كون صانع العالم جل ذكره عالما لأن العالم في الشاهد والمعقول وكل منا أثبتناه عالما في شاهدنا لا يكون إلا جسما محدثا متحيزا حاملا للأعراض مؤتلفا متغايرا ومتبعضا ومضطرا ومستدلا ولا بد أن يكون ذا قلب ورطوبة وأن لا يكون الله سبحانه شيئا موجودا لأن الشيء المعقول لا يخرج عن أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا فإن مروا على ذلك تجاهلوا وتركوا التوحيد وإن أبوه تركوا تعلقهم بمجرد الشاهد والوجود. فإن قالوا ليس علة كون العالم عالما ما وصفتم ولا حده ولا معنى كونه عالما أنه جسم أو ذو قلب أو مستدل أو مضطر قيل لهم: وكذلك فليس علة كون العلم علما ما وصفتم ولا حده ولا معنى كونه علما أنه محدث عرض غير العالم وحال فيه واستحالة تعلقه بمعلومين وأنه ضرورة أو استدلال لأنه قد يشركه في جميع هذه الأوصاف ما ليس بعلم لأن الحركة لا تتعلق بمعلومين وتقع اضطرارا أو اكتسابا وهي عرض محدث غير العالم وليست من العلم بسبيل فحاز لذلك إثبات علم على خلاف صفة ما ذكرتم كما جاز ذلك في الشيء والعالم. ثم يقال لهم: فإن كنتم على الشاهد تعتمدون وعليه تعولون فأوجبوا إذا كان الباري سبحانه عالما أن يكون ذا علم وهذا أوجب لأنه غير منتقض من أحد طرفيه لأن كل عالم منا فهو ذو علم وكل ذي علم فهو عالم وليس كل محدث عرضا غير العالم وحالا في قلب ومما يستحيل تعلقه بمعلومين على وجه التفصيل فهو علم فإن جاز إثبات عالم ليس بذي علم وإن كان ذلك خلاف المعقول جاز أيضا إثبات علم ليس بعرض محدث حال غير العالم وإن كان ذلك خلاف المعروف في الشاهد والوجود. وإن هم قالوا هذه الأوصاف هي شروط في كون العلم علما وليست بعلة لكونه علما ولا حدا له. قيل لهم: لم قلتم ذلك فلا يجدون إلى تصحيح ذلك سبيلا إلا بأنهم لم يجدوا علما ينفك من ذلك فيقال لهم: فما أنكرتم أيضا أن يكون جميع ما عارضناكم به في العالم من شروط كونه عالما وإن لم يكن من حده ولا معنى وصفه أنه عالم ولا من علة كونه عالما بدلالة أنا لم نجد ولم نعقل بيننا إلا كذلك. وإن قالوا فمن أين نعلم أن الصفة شرط في استحقاق صفة أخرى وهل طريق هذا إلا أنا لم نجد أحد الوصفين مستحقا إلا مع وجود الآخر وثبوته قيل له: ليس الأمر على ما ظننته. لأنه لو كان الدليل على أن الصفة شرط في استحقاق صفة أخرى ما ذكرتم لوجب أن نقضي على أن من شرط العالم الموجود القائم بنفسه أن يكون جوهرا قابلا للأعراض ذا حيز في الوجود. ثم إنا لم نجد عالما في الشاهد إلا جوهرا متحيزا في الوجود قابلا للأعراض وهذا يبطل التوحيد. وإنما المعتمد في هذا الباب هو أن يقال إنه إنما يعلم أن وجود الصفة شرط في استحقاق صفة أخرى إذا علمنا أن وجود إحدى الصفتين مع عدم الأخرى التي جعلت شرطا فيها مؤد إلى ضرب من المحال والجهالات وقلب الحقائق والدلالات وما قد دل العقل على فساده وأن الضرورة تقضي بإبطاله. وذلك كوصف المتحرك بأنه متحرك بكونه موجودا ووصف العالم بأنه عالم بكونه حيا من حيث علم أنه لو جاز أن يكون المتحرك بالحركة معلوما والعالم غير شيء.

شبهة لهم أخرى

فإن قالوا: لو كان الباري سبحانه ذا علم لم يزل به عالما لوجب أن يكون قديما لنفسه كما أن العالم به قديم لنفسه ولو كانا قديمين لأنفسهما لوجب أن يكونا مثلين مشتبهين وأن يكون العلم إلها حيا قادرا عالما قائما بنفسه وأن يكون العالم صفة غير حي ولا عالم ولا قادر ولا قائم بنفسه من حيث أشبه ما هذه صفت، فلما فسد ذلك فسد أن يكون له علم؛ فيقال لهم أولا: لم قلتم إن المشتركين في صفة واحدة من صفات النفس يجب أن يكونا مثلين فإنا لكم في ذلك مخالفون. ثم يقال لهم: ما أنكرتم إن كان ما قلتموه في ذلك صحيحا أن يكون السواد والبياض مشتبهين من حيث كانا خلافين غيرين لأنفسهما وكان وصفهما بذلك متساويا فلا يجدون لذلك مدفعا. ثم يقال لهم: ولم قلتم أيضا إن الباري سبحانه إذا كان قديما كان قديما لنفسه وكذلك علمه وما أنكرتم أن يكونا قديمين بقدم هو قدم لهما وما أنكرتم أن يكون الباري قديما بقدم والعلم قديما بنفسه. وما أنكرتم أيضا أن يكون العلم ليس بقديم ولا بمحدث على قول من قال ذلك من أصحابنا فلا يجدون لذلك مدفعا. ثم يقال لهم: إن كان ما قلتموه واجبا فما أنكرتم أن يكون الإنسان مثلا لعلمه إذ كانا محدثين لأنفسهما فإن قالوا ليس المحدث عندنا محدثا لنفسه بل هو محدث لا لنفسه ولا لعلة فلم يجب ما سألتم عنه قيل لهم: فما أنكرتم أيضا أن يكون كل قديم وصف بالقدم من صفة وموصوف فإنه قديم لا لنفسه ولا لعلة فلا يجب بذلك تماثل القديمين فإن قالوا إنما وجب أن يكون القديم قديما لنفسه لأن نفسه لا تعلم إلا قديمة قيل لهم: فقولوا لأجل هذا بعينه إن السواد والبياض شيئان غيران خلافان لونان عرضان لأنفسهما لأنهما لا يعلمان إلا كذلك وقولوا أيضا إن كل واحد منهما واحد لنفسه لأن نفسه لا تعلم إلا واحدة فإن مروا على ذلك قيل لهم: فما أنكرتم من وجوب تماثلهما إذا كانا مشتركين في هذه الأوصاف لأنفسهما ولا محيص لهم من ذلك وإن أبوه وقالوا إن هذه الأوصاف جارية على السواد والبياض لا لأنفسهما ولا لعلة وإن لم تعلم أنفسهما إلا عليهما قيل لهم: فما أنكرتم أيضا أن يكون القديم وعلمه قديمين لا لأنفسها ولا لعلة وإن لم تعلم أنفسهما إلا قديمتين ولا فصل لهم في ذلك وفيه سقوط ما عولوا عليه.

شبهة لهم أخرى

وإن هم قالوا: الدليل على أن الله سبحانه لا يجوز أن يكون عالما بعلم أنه لو كان علم لوجب أن يتعلق بالمعلومات على وجه تعلق علومنا بها ولو كان كذلك لوجب أن يكون علمه من جنس علومنا لأن العلمين إنما يجب تماثلهما لتعلقهما بمعلوم واحد على وجه واحد فلما لم يجز أن يكون علمه من جنس علومنا ثبت أنه لا علم له؛ يقال لهم: لم قلتم إن طريق العلم بتماثل العلمين المحدثين هو أن يكون متعلقهما واحدا على وجه واحد أباضطرار علمتم هذا أم بنظر واستدلال. فإن قالوا باضطرار أمسك عنهم أو قلب الكلام عليهم في منع تماثل ما هذه سبيله وادعي فيه علم الاضطرار وإن قالوا بنظر قيل لهم: وما هو فإن قالوا هو علمنا بتماثل كل علمين من علومنا إذا كان متعلقهما واحدا على وجه واحد قيل لهم: وما في هذا من الدليل وما أنكرتم أنهما لم يتماثلا لهذه العلة ولكن لأنفسهما فقط ومن حيث علم أنه لا صفة جازت على أحدهما إلا وهي جائزة على الآخر ولا صفة وجبت لأحدهما إلا وهي واجبة للآخر وليس كذلك سبيل علم القديم وعلم المحدث. ثم يقال لهم: لو كان جهة العلم بتماثل ما له تعلق بغير أن يكون متعلقهما واحدا على وجه واحد لوجب أن تكون الإرادة والقدرة المتعلقتان بالشيء الواحد المقدور والمراد على وجه الحدوث متماثلين لتعلقهما بمتعلق واحد على وجه واحد فلما بطل هذا من قولنا وقولكم بطل اعتباركم الذي إليه استندتم. ثم يقال لهم: فيجب على اعتلالكم هذا إذا كان القديم سبحانه عالما لنفسه وبنفسه أن تكون نفسه كنفس علومنا لأنها متعلقة بالمعلومات كتعلق علومنا بها فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يكون عالما بنفسه. فإن قالوا نحن لا نقول إنه عالم بالمعلومات بنفسه على أنه بنفسه يعلمها وأن المعلومات متعلقة بها وإنما نريد بذلك أنه عالم بها لا لمعنى يقارن نفسه فعبرنا عن هذا المعنى بأنه عالم بنفسه قيل لهم: وكذلك نحن لسنا نريد بقولنا إن القديم تعالى يعلم المعلومات بنفس علمه أن علمه آلة له ومتعلق بالمعلومات تعلق الحبل بالحبل والجسم بالجسم وإنما نعني بقولنا إنه يعلم المعلومات بنفس علمه أنه يعلمها لا لمعنى يقارن العلم فعبرنا عن ذلك بأنه يعلم بنفس العلم وكذلك كل شيء قلنا فيه إنه موصوف بما وصف به لنفسه إنما نعني به أنه موصوف به لا لعلة فلم يجب ما قلتم. ثم يقال لهم: إن كان معنى أن الباري عالم بنفسه أنه عالم لا لمعنى يقارن نفسه فيجب أن يكون المحدث محدثا لنفسه والشيء شيئا لنفسه لأنه محدث لا لعلة وشيء لا لعلة وكذلك يجب أن تجعلوا كل وصف يستحق لا لعلة مستحقا لنفس الموصوف به وهذا ترك قولهم بأوصاف تستحق لا للنفس ولا لعلة فإن قالوا لا يجب إذا علم الباري سبحانه المعلومات بنفسه أن تكون نفسه كنفس علومنا لأن تعلق نفسه بالمعلومات تعلق العالمين وتعلق العلم بها تعلق العلوم قيل هذه حيرة وقلة دين وإيثار للتخليط وذلك أن كون العالم عالما بالمعلومات بعلمه هو عندنا وعندكم بمعنى كونه عالما بالمعلومات بنفسه لو ثبت أنه عالم بنفسه وكونه عالما بعلمه لا يختلف ولا يتزايد فيجب أن يكون ما أوجب كونه عالما علم أو حال متساويا متماثلا لأن المعتبر في ذلك بكون العالم عالما على حد متساو وجب تماثل ما أوجب هذه الصفة المتساوية فقولكم بعد هذا إن نفس الباري سبحانه تتعلق بالمعلوم تعلق العالمين ونفس العلم تتعلق تعلق العلوم تخليط وإبهام أن كون العالم عالما بالمعلوم تارة بنفسه وتارة لمعنى يختلف فإذا لم يجز ذلك لم يكن لما قلتموه محصول ولا معنى معقول ولا جواب لهم عن ذلك.

شبهة أخرى

فإن قالوا: الدليل على أنه لا علم لله سبحانه أنه لو كان له علم لم يخل من أن يكون مثلا للقديم تعالى أو مخالفا له فإن كان مماثلا له وجب أن يكون ربا إلها عالما قادرا كهو وهذا كفر من قائله وإن كان مخالفا له وجب أن يكون غيرا له وأن يكون معه في القدم غير له وذلك باطل باتفاق فوجب أنه لا علم له؛ يقال لهم: لم قلتم إنه لا بد أن يكون علمه إذا ثبت موافقا له أو مخالفا وما أنكرتم أن يكون محالا أن يقال فيما ليس بغيرين إنهما متفقان أو مختلفان كما يستحيل أن يقال إن الباري جل اسمه مثل للأشياء كلها أو مخالف لها كلها وكما يستحيل أن يقال ذلك في الآية من السورة والبيت من القصيدة والجزء من الجملة والواحد من العشرة من حيث استحال أن يكون أحد المذكورين هو الآخر أو غيره فما الذي به تدفعون هذا. ثم يقال لهم: إن أردتم بقولكم إن علم القديم سبحانه مخالف له أنه غير له وأنه من جنس والباري سبحانه من جنس غير جنسه كم يقال ذلك في السواد والبياض فذلك محال لقيام الدليل على أن علم الله سبحانه ليس بغير له من حيث لم تجز مفارقته له بزمان أو مكان أو الوجود أو العدم وقد ثبت أن معنى الغيرين وحقيقة وصفهما بذلك أنه ما جاز افتراقهما على أحد هذه الثلاثة الأوجه وكذلك فقد دل الدليل على أن القديم سبحانه وعلمه ليسا بجنسين ولا مختلفين ولا متفقين وإن عنيتم بخلاف القديم سبحانه لعلمه بعد شبهه منه وأنه لا يسد مسده ولا ينوب منابه ولا يستحق من الوصف ما يستحق ولا يجوزعليه من الأوصاف جميع ما يجوز عليه فهذا صحيح في المعنى وإن كانت العبارة ممنوعا منها لا تجوز باتفاق أو سمع أو دليل أوجب ذلك إن قام عليه وليس الكلام في الإطلاقات والعبارات وإنما الكلام في المعاني. لأننا لو لم نعرف لغة أصلا ولم نتكلم بها لصح علمنا بالقضايا العقلية عند التأمل والنظر في الأدلة. والتعلق بذكر الخلاف وإلزام التسمية به عجز وتقصير عن الخوض فيما يجب أن يكون معلوما بالأدلة فإن قالوا فما معنى قولكم إن لله تعالى علما أتعنون بذلك أنه ملكه أو فعله أو حال فيه أو أنه عالم بنفس العلم الذي أضيف إليه قيل لهم: معنى ذلك أنه علم بالنفس التي هي علم له فقط. وليس ذلك من معنى أنها ملكه أو فعله أو حالة فيه بسبيل. وهذا كما نقول نحن وأنتم إن الإرادة إرادة له وإن الحركة حركة للمتحرك لا بمعنى أنها ملكه أو فعله أو حالة فيه لأنه قد يحصل فيه ما ليس بحركة ولا إرادة له. وكذلك فقد يريد ويتحرك بما ليس بملك له ولا فعل له ويحل فيه ما ليس بحركة له. وبالله التوفيق.

باب الكلام في معنى الصفة وهل هي الوصف أم معنى سواه

إن قال قائل: ما الصفة عندكم وما الوصف وهل هما واحد أم لا؛ قيل له: أما الصفة فهي الشيء الذي يوجد بالموصوف أو يكون له ويكسبه الوصف الذي هو النعت الذي يصدر عن الصفة. فإن كانت مما يوجد تارة ويعدم أخرى غيرت حكم الموصوف وصيرته عند وجودها على حكم لم يكن عليه عند عدمها. وذلك كالسواد والبياض والإرادة والكراهة والعلم والجهل والقدرة والعجز وما جرى مجرى ذلك مما يتغير به الموصوف إذا وجد به ويكسبه حكما لم يكن عليه. وإن كانت الصفة لازمة كان حكمها أن تكسب من وجدت به حكما يخالف حكم من ليست له تلك الصفة. وذلك نحو حياة الباري سبحانه وعلمه وقدرته وكلامه وإرادته وما عدا ذلك من صفاته الثابته الموجبة له مفارقة من ليس على هذه الصفات وإن لم يتغير القديم سبحانه بوجودها به عن حالة كان عليها. إذ كانت لم تزل موجودة ولم يكن قط سبحانه موجودا وليس بذي حياة ولا علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ثم وجدت هذه الصفات بعد أن لم تكن له. ولا يجوز أيضا أن يوجد وقتا ما وليس له هذه الصفات إذ كان العدم عليها مستحيلا. وإنما يتغير بوجود الصفات من لم تكن له من قبل ومن جاز أن يفارقه الصفات والله سبحانه يتعالى عن ذلك. وقد دللنا فيما سلف على إثبات هذه الصفات لله سبحانه وبينا أنه لا يجوز حدوثها له. لأن ذلك يوجب أن تكون من جنس صفات المخلوقين وأن تكون ذات أضداد كصفات المخلوقين وأن يكون الباري سبحانه قبل حدوثها موصوفا بما يضادها وينافيها من الأوصاف. ولو كان ذلك كذلك لوجب قدم أضدادها ولاستحال أن يكون القديم سبحانه موصوفا بها في هذه الحال وأن يوجد منه من ضروب الأفعال ما يدل على كونه عالما قادرا حيا وفي بطلان ذلك دليل على قدم هذه لصفات وأن الله سبحانه لا يجوز أن يتغير بها ويصير له حكم لم يكن قبل وجودها إذ لا أول لوجودها. وأما الوصف فهو قول الواصف لله تعالى ولغيره بأنه عالم حي قادر منعم متفضل. وهذا الوصف الذي هو كلام مسموع أو عبارة عنه غير الصفة القائمة بالله تعالى التي لوجودها به يكون عالما وقادرا ومريدا. وكذلك قولنا زيد حي عالم قادر هو وصف لزيد وخبر عن كونه على ما اقتضاه وجود الصفات به وهو قول يمكن أن يدخله الصدق والكذب. وعلم زيد وقدرته هما صفتان له موجودتان بذاته يصدر الوصف والاسم عنهما ولا يمكن دخول الصدق والكذب فيهما. فإن كان الله الواصف لنفسه بأنه حي عالم قادر قديم أزلي كان وصفه لنفسه معنى لا يقال هو علمه وحياته وقدرته ولا يقال هو غير هذه الصفات لقيام الدليل بما سنذكره في باب نفي خلق القرآن على قدم كلامه سبحانه وأنه جار مجرى سائر صفات ذاته. وقد ثبت أن الصفات القديمة لا يجوز أن تكون متغايرة من حيث لم تجز مفارقة شيء منها للآخر بزمان ولا مكان ولا بأن يوجد منها شيء مع عدم الآخر. وكان هذا معنى الغيرين وحقيقة وصفهما بذلك. فثبت بهذه الجملة أن وصف القديم سبحانه لنفسه بصفات ذاته ليس بغير لصفات الذات. وإن كان وصف الله سبحانه لنفسه وصفا بصفات أفعاله نحو قوله تعالى إني خالق ورازق وعادل ومحسن ومتفضل وما جرى مجرى ذلك كان وصفه لنفسه بهذه الصفات غير صفاته التي هي الخلق والرزق والعدل والإحسان والإنعام. لأن هذه الصفات هي أفعال الله تعالى وهي محدثات ومن صفات أفعاله. والكلام الذي هو قوله إني خالق عادل متفضل محسن من صفات ذاته. وصفات الذات غير صفات الأفعال لأنها قد كانت موجودة مع عدمها. فوجب أن يسدل ذلك على تغايرها لأنفسها. وكذلك كل غيرين إنما يتغايران لأنفسهما. وافتراقهما بالزمان والمكان والوجود والعدم إنما يدل على تغايرهما ويكون تفسيرا لوصفهما بأنهما غيران وليس من هذه المفارقات ما هو علة في كون الغيرين غيرين. وإن كان الواصف لنفسه محدثا فإن وصفه لنفسه أيضا هو قوله إني حي قادر منعم متفضل عالم. وذلك القول الذي هو الوصف هو غير صفاته التي هي من أفعاله ومن غير فعله. لأن جميع صفات الإنسان محدثة. وكلامه الذي هو وصفه لنفسه بما وصفها به محدث. وكل محدثين ليسا بجملة ولا داخلين تحت جملة فهما غيران. وقولنا وصف وكلام ليس بوصف واقع على كلام الإنسان وشيء من صفاته سوى الكلام. فيستحيل أن يكون الوصف غيرا لتلك الصفة فوجب أن يكون وصف الإنسان غير سائر صفاته التي ليست بوصف. ووجب تفصيل ذلك في وصف القديم سبحانه وصفاته على ما قلناه وبيناه من قبل. ومما يجب علمه في هذا الباب هو أن يعلم أن الوصف وإن كان غير الصفة التي هي الحركة والعلم والقدرة فإنه أيضا صفة من حيث كان كلاما للمتكلم به ونافيا لسكوته ومحصلا له عند وجوده بخلاف صفة من لا كلام له. فهو في هذا الباب جار مجرى الحركة والسواد والبياض من حيث غير حكم الموصوف به وأوجب له حكما لا يجب إلا بوجوده. فهو لذلك صفة للمتكلم به وهو أيضا وصف لغيره ودلالة على وجود شيء به إذا كان قولا صدقا ليس بكذب. فيحب لذلك أن يكون كل وصف صفة من حيث كان قولا وكلاما ومكسبا للمتكلم المخبر به حكما وإن كان مع ذلك وصفا لكونه إخبارا عما يوجد بما هو وصف له. ولا يجب أن يكون كل صفة وصفا لأن العلم والقدرة ليسا بوصفين لشيء ولا خبرين عن معنى من المعاني وإن كانا صفتين للعالم والقادر. فكل وصف صفة وليس كل صفة وصفا. وهذا جملة القول في الإخبار عن حقيقة الوصف والصفة. وقد زعمت المعتزلة القدرية وكل من اغتر بشبههم من أهل الأهواء المضلة أن الصفة ليست بمعنى أكثر من الوصف الذي هو قول القائل وإخبار المخبر عمن أخبر عنه بأنه عالم قادر. وتفخموا القول بأن الله تعالى كان في أزله بلا صفة ولا اسم من أسمائه وصفاته العليا. قالوا لأنه لا يجوز أن يكون في القدم واصفا لنفسه لاعتقادهم خلق كلامه ولا يجوز أن يكون معه في القدم واصف له مخبر عما هو عليه. فوجب أنه لا صفة لله سبحانه قبل أن يخلق خلقه وأن الخلق هم الذين يجعلون لله الأسماء والصفات لأنهم هم الخالقون لأقوالهم التي هي صفات الله سبحانه وأسماؤه. ولأنهم أيضا يزعمون أن الاسم هو التسمية وهو قول المسمى لله تعالى وأن الله سبحانه كان قبل خلق كل من كلمه وأمره ونهاه بلا اسم ولا صفة. فلما أوجد العباد خلقوا له الأسماء والصفات تعالى عن ذلك. وهذا القول خروج عما عليه كافة الأمة قبل خلق المعتزلة ووجودهم. ومع أنهم أيضا عند تضييق الكلام عليهم وتحصيله يرهبون أتباعهم ومخالفيهم من الإخبار عن حقيقة قولهم هذا ولا يطلقون أن الله تعالى كان قبل خلق عباده بلا اسم ولا صفة وأن العباد هم الذين خلقوا لله تعالى الأسماء والصفات. ويخافون تخطف الناس لهم وبسط أيديهم عليهم علما منهم بأنه مخالفة للإجماع ومما ينفر عنه الخواص والعوام.

مسألة

فإن قال منهم قائل: فما الدليل على صحة ما تذهبون إليه من أن الصفة معنى لا يقال هو الوصف الذي هو القول؛ قيل له: يدل على ذلك أمور من جهة وضع اللغة ودلالات العقول أيضا. فأما ما يدل على ذلك من جهة اللغة فهو أن أهل اللغة قد قالوا إن الصفة التي هي النعت على ضروب. فمنها خلقة لازمة كقولك أسود وأبيض وطويل وقصير وعاقل وظريف وما جرى مجرى ذلك. ومنها حرفة وصناعة كقولك كاتب وبان وحداد وبزاز وما جرى مجرى ذلك. ومنها صفة بالدين كقولك مؤمن وكافر ونحو ذلك. ومنها صفة هي نسب كقولك عربي وعجمي وقرشي وهاشمي وما جرى مجرى ذلك. ولا خلاف بينهم في أن النعوت هي الصفات التابعة للأسماء. وإذا كان ذلك كذلك وكانوا قد وقفونا على أن الصفة تكون دينا وتكون نسبا وتكون خلقة لازمة وتكون حرفة وصناعة وجب أن تكون الصفات عندهم هي هذه المعاني والأفعال التي اشتقت هذه الأسماء منها. لأن قولنا في زيد إنه أسود وأبيض ليس بخلقة له لا لازمة ولا غير لازمة. وكذلك قولنا بزاز ونجار ليس بحرفة ولا صناعة. وكذلك قولنا قرشي وهاشمي ليس بنسب للموصوف. وأهل اللغة قد وقفونا على أن النعوت والصفات هي الخلق والحرف والأديان والأنساب. فوجب أن يكون القول ليس بصفة لمن هو وصف له وإنما سمي صفة مجازا وعلى معنى أنه وصف له وإخبار عن الصفة التي اشتق الاسم منها ويسمى بذلك أيضا حقيقة على معنى أنه صفة للمتكلم المنبر به. فأما أن يكون صفة للظريف والأسود والطويل والقصير يكون بها الظريف ظريفا والطويل طويلا فمحال على ما بينا من قبل. ومما يدل على ذلك أيضا ويبينه إجماع أهل اللغة كافة على أن القائل إذا قال لفلان علم بالكتابة والصناعة وله علم بالفقه والهندسة وله عقل حسن وخلق قبيح فقد وصفه بالعلم والمعرفة وحسن الخلق وقبحه. لأن قائلا لو قال لسامع هذا الكلام من أهل اللغة بماذا وصف زيد عمرا وبأي شيء نعته لقالوا بأجمعهم وصفه بالعلم والمعرفة والطول والقصر وحسن الخلق وقبحه. فلو لم تكن هذه المعاني الموجودة بالإنسان صفات له لم يجز أن يكون موصوفا بها لأنه لا يكون موصوفا بما ليس بصفة. وفي قولهم وصفه بالعلم دليل على أن القول ليس بصفة في الحقيقة لمن أخبر عن صفته لأنه ليس هو علما يكون العالم به عالما. ومما يدل على ذلك أيضا إجماع الأمة قاطبة على أن العدل والإحسان من صفات الله تعالى وأن من قال إن العدل والإحسان ليسا من صفات الله فقد فارق ما عليه المسلمون. وهذا الإجماع أيضا يبطل قولهم إن الصفة ليست بمعنى أكثر من الوصف لأن العدل والإحسان الذي يفعله الله تعالى ليس بقول ولا وصف لواصف ومما يدل على ذلك أيضا إجماع الأمة على أن لله تعالى أسماء وصفات قبل أن يخلق خلقه. ولو كانت أسماء الله وصفاته هي أقوال عباده وتسميتهم وأوصافهم له لكان الله تعالى قبل خلقه لعباده وخلق كلامهم غير مسمى ولا موصوف ولا ذي اسم. وفي منع الأمة لذلك دليل على أن الوصف والتسمية غير الاسم والصفة التي يكون الموصوف المسمى بها مسمى موصوفا. ومما يدل على ذلك أيضا إطلاق أهل اللغة أن المصادر هي أسماء الأفعال والصفات وأنها عن الأفعال صدرت. والأفعال التي أرادوها هي الأحداث الماضية والمستقبلة والكائنة في الحال التي يعبر عنها بالقول ضرب يضرب. والمصادر إنما صدرت عن هذه الأفعال لا عن قول القائل وإخبار المخبر. ويوضح هذا أن قائلا لو قال فيمن لا حركة له ولا علم ولا قدرة ولا ضرب إنه متحرك عالم قادر ضارب لكان في هذا الوصف كاذبا. وإنما صار كاذبا لأنه لم يشتق هذه التسمية من وجود الأفعال والصفات التي تصدر هذه الأسماء عنها وتوجد منها. ولو تقدم وجودها لكانت الأوصاف حقا وصدقا. وهذا يكشف عن وجوب تقدم الأفعال والصفات التي تصدر التسميات والأوصاف عنها لوجود التسمية والوصف. فكيف يكون الصفة والاسم هما القول الذي من سبيله أن لا يجري ويستحق إلا بعد تقدم الاسم والصفة والفعل وإذا كان ذلك محالا دل ما قلناه على أن الاسم والصفة غير تسمية المسمي ووصف الواصف. وهذا واضح من جهة المعنى ومن طريق اللغة أيضا. ومما يدل على ذلك أيضا من جهة المعنى أنه لو كانت الصفة في الحقيقة ليست بمعنى أكثر من وصف الواصف وقوله إن زيدا عالما قادر حي لوجب أن يكون لزيد في الحقيقة في حالة واحدة صفتان متضادتان د. ولوجب أن يكون حيا ميتا وقادرا عاجزا وعالما جاهلا إذا قال بعض الواصفين له إنه حي وقال آخر إنه ميت وقال قائل إنه قادر عالم وقال آخر إنه عاجز جاهل. فيجب أن لا يكون العلم من صفته أولى من الجهل لأنه قد وجدت له الصفتان فيجب أن يكون زيد عالما جاهلا وحيا ميتا لوجود صفتيه اللتين هما القول. فلما لم يجز ذلك وكان العالم في الحقيقة هو من وجد به العلم ولوجوده به صار عالما بطل أن تكون الصفة هي القول وثبت أنها ما يوجد بذات الموصوف كما أن الحركة واللون هما ما وجدا بذات المتحرك والمتلون دون القول إنه متحرك متلون.

دليل لهم آخر

وقد استدلوا على أن الصفة هي نفس الوصف الذي هو القول بأن أهل العربية قالوا إن الوصف والصفة بمعنى واحد وإنهما بمنزلة الوجه والجهة والوزن والزنة والوعد والعدة فوجب أن تكون الصفة هي القول لأجل هذا الإطلاق. يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون معنى إطلاق أهل العربية أن الوصف والصفة واحد أنهما مصدران لا غير ذلك لأن الوزن والوعد والوصف مصادر. تقول وعدت وعدا ووزنت وزنا ووصفت وصفا. فهو كقولك وعدت عدة ووزنت زنة ووصفت صفة. وكان الأصل وعدت وعدة ووزنت وزنة ووصفت وصفة كقولك قعدت قعدة وجلست جلسة ومشيت مشية. فتكسر أوله إذا أردت به هيئة من الجلوس والقعود. وليس ذلك بمنزلة قولك جلست جلسة وقعدت قعدة وركبت ركبة بفتح أوله. لأنه إذا فتح أوله كان المراد به مرة واحدة من الفعل وإذا كسر أوله كان المراد به هيئة ذلك الفعل. وإنما حذفت الواو من قولك وصفت صفة ووعدت عدة من المصدر لأنها حذفت من الفعل. وذلك أنهم قالوا وعد يعد ووصف يصف ووزن يزن والأصل يوعد ويوزن ويوصف فحذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة في قولك يوصف. ومن شأنهم إذا غيروا الفعل ضربا من التغيير أن يحملوا المصدر عليه. فلذلك قالوا صفة وعدة وزنة والأصل وعدة ووزنة ووصفة على ما بيناه. فهذا مراد أهل النحو بقولهم إن الوصف والصفة واحد. ويجوز أيضا أن نقول إن أهل العربية إنما أرادوا بقولهم إن الوصف هو الصفة أن وصف زيد لعمرو بأنه عالم هو صفة زيد الواصف لعمرو. فيكون صفة للواصف لقيامه به وإيجابه حكما له وهو كونه قائلا ومخبرا به. ويكون وصفا لعمرو لكونه خبرا عن وجود صفته به وأنه على ما هو عليه. وحمل هذا القول على هذا التأويل أولى فسقط تعلقهم بهذا.

دليل لهم آخر

فإن قالوا: الدليل على أن المعاني الموجودة بالذوات من العلوم والقدر والحركات ليست بصفات في الحقيقة وأن الصفة هي قول الواصف إجماع الأمة على أن الله تعالى إذا قال إن الجسم عالم أسود متحرك فقد وصفه بهذا القول وإذا خلق فيه العلم والقدرة والسواد والحركة لم يكن واصفا له عند أحد من الأمة، فيجب أن تكون الصفة هي ما يكون الواصف بها واصفا دون ما لا يكون به كذلك؛ يقال لهم: لم قلتم إن الاشتقاق الواجب من خلق الصفة واصف وما دليلكم على ذلك وما أنكرتم من أن لا يصح من فعل الصفة اشتقاق على وجه لا واصف ولا وصف ولا موصوف ولا غير ذلك وأن يكون قولنا واصف مشتقا من الوصف دون الصفة لأنهم يقولون وصف فهو واصف ولا يقولون فعل الصفة فهو واصف. وفعل لا يجيء منه أكثر من فاعل. وهذا يبطل ما قالوه. ثم يقال لهم: ما أنكرتم من أن لا يجب ما قلتموه من وجه آخر وهو أنه قد صح وثبت من قولنا وقولكم أنه ليس الواجب أن يشتق لله تعالى من كل ما خلقه في غيره اسما. لأن ذلك يوجب أن يشتق له من فعل الإرادة في غيره مريدا ومن فعل الأذى بدم الحيض وفساد الزرع مؤذيا ومفسدا ومن فعل الهوس والجنون والطيش مهوسا ومجننا ومطيشا وليس ذلك بقول لأحد. ولا يحب أن لا يشتق له من جميع أفعاله اسم. لأن ذلك يوجب أن لا يشتق له من العدل عادل ومن الإحسان والتفضل محسنا متفضلا وذلك خلاف الإجماع. فوجب أن يشتق له من بعض ما خلق ولا يشتق له من بعض. فلا يجب إذا لم يشتق له من فعل العلم والسواد في غيره واصف أن لا يكون العلم صفة كما لا يجب إذا لم يشتق له من فعل الإرادة والأذى وفساد الزرع مريد ومؤذ ومفسد أن لا يكون ما خلقه في غيره إرادة وأذى وفسادا. ولا جواب عن ذلك وبالله التوفيق.

باب الكلام في الاسم ومما اشتقاقه وهل هو المسمى أو غيره

اختلف الناس في الاسم ومما اشتقاقه. فقال أهل الحق إنه مشتق من السمو. وقالت المعتزلة وغيرها من أهل الأهواء إنه مشتق من السمة وهي العلامة. والدليل على صحة ما قلناه إنه مشتق من سما يسمو وليس من وسم يسم أن العرب صغرته فقالت سمي. ولو كان من السمة لقالوا وسيم كما قالوا في تصغير عدة وزنة وعيدة ووزينة. فدل ذلك على أن المحذوف منه لام الفعل دون الفاء. وأهل العربية يعنون بلام الفعل آخر حرف من حروفه ويريدون بفاء الفعل أول حرف من حروفه. وقد أطبقوا على أن اسم قد حذف منه لأنه على حرفين السين والميم وأصله سمو على ما قلناه. والألف التي قبل السين في قولك اسم ألف وصل لا يعتد بها وإنما أدخلت في الكلام ليتوصل بها إلى النطق بالساكن. وإذا كان ذلك كذلك ثبت أن اسم على حرفين فقط السين والميم. وعلمنا بذلك أنه قد حذف منه حرف لأن أقل الأصول في الأسماء. ما كان على ثلاثة أحرف. فإذا وجدنا اسما على أقل من ذلك علما أنه قد حذف منه حرف مثل يد ودم وأب وابن وما جرى مجرى ذلك مما هو على حرفين. وإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن يكون المحذوف منه الفاء أو اللام. ولا يجوز أن يكون المحذوف منه الفاء لأن العرب قالت في تصغيره سمي كما صغرت ابنا فقالت فيه بني فردت منه اللام. ولو كان المحذوف منه الفاء لقالوا وسيم كما قالوا في تصغير عدة وزنة وجهة وعيدة ووزينه ووجيهة لأنه من الوعد والوزن والوجه. وإنما حذفت الواو من المصدر لأنها حذفت من الفعل. لأنهم قالوا يعد مكان يوعد. ومن شأنهم إذا غيروا الفعل ضربا من التغيير أن يحملوا المصدر عليه فيفعلوا فيه كما يفعلون في الفعل. وإنما حذفت الواو من الفعل المضارع إذا كان في أوله الياء لوقوعها بين ياء وكسرة. وذلك مثل قولك وعد يعد ووزن يزن والأصل يوعد ويوزن. وحمل باقي حروف المضارعة وهي التاء والنون والألف على الياء لئلا يختلف الفعل فقالوا نعد وتعد وأعد والأصل نوعد وتوعد وأوعد. فإذا صغرت عدة قلت فيه وعيدة ولم يعتد بهاء التأنيث. فإذا لم يعتد بها بقي الاسم على حرفين وهما العين والدال. وقد علمنا أنه لا يجوز تصغير الاسم الذي يكون على حرفين وإنما يصح ذلك فيه إذا كان على ثلاثة أحرف فصاعدا. فاحتجنا أن نرد المحذوف وهو الواو فقلنا في تصغيره وعيدة. وكذلك القصة في تصغير زنة وجهة. فإذا صغرت اسما قلت فيه سمي وذلك لأنك رددت المحذوف وهو الواو ثم أدخلت باء التصغير إليه ساكنة. فاجتمع ياء وواو والأول منهما ساكن فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها فصار سمي كقولك حجير وجبيل وبني. وهذا أصل مطرد في كلامهم إذا اجتمعت واو وياء والأول منها ساكن أدغم أحدهما في صاحبه فصار ياء مشددة. مثال ذلك قولهم سيد وميت. وأصله سيود وميوت لأنه فيعل من ساد يسود ومات يموت. فلما اجتمعت الياء والواو والأول منهما ساكن أدغم أحدهما في صاحبه فصار ياء مشددة. فلذلك قالوا في تصغير اسم سمي وفي تصغير ابن بني. وهذا واضح في إبطال قول من زعم أنه من وسم يسم وأن المحذوف منه فاء الفعل ودل على أنه من سما يسمو.

فصل

واختلف الناس في الاسم هل هو المسمى نفسه أو صفة توجد به أو قول غير المسمى. والذي يذهب إليه أهل الحق أن الاسم هو المسمى نفسه أو صفة متعلقة به وأنه غير التسمية. وزعمت المعتزلة مع سائر من وافقها من أهل الأهواء والبدع أن الاسم غير المسمى وأنه قول المسمى وتسميته لما سماه. والذي يدل على صحة ما قلناه أن أهل اللغة الذين هم العمدة قد صرحوا بذلك وقالوا إن الاسم هو المسمى نفسه. وبذلك كان يقول أبو عبيدة وغيره من أهل اللغة. وأنشد أبو عبيدة في ذلك قول لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

قالوا وإنما أراد باسم السلام السلام نفسه. فكيف يكون الاسم هو التسمية التي هي قول المسمي وهم قد جعلوا نفس المسمى وإن كان شخصا أو عرضا هو الاسم وليس لقول من قال إن لبيدا إنما أراد بقوله ثم اسم السلام عليكما ثم اسم الله عليكما وإن السلام اسم من أسماء الله تعالى معني. لأن السلام وإن كان اسما من أسماء الله فليس هو الذي يراد بالقول سلام عليكم وعلى زيد السلام. وإنما يراد به التحية في مثل هذا الكلام واسمها هو هي. ويدل على ذلك أيضا ويوضحه قول سيبويه في كتابه والأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء. يريد بذلك قولهم ضرب ويضرب وضارب المأخوذ من الأحداث الماضية وأحداث الحال والأحداث المستقبلة والأحداث هي الأفعال. فقد نص أن الأحداث للأسماء في قوله أخذت من لفظ أحداث الأسماء. فكيف يجوز أن تكون الأسماء هي الأقاويل والأحداث لا يجوز أن تكون للأقاويل وإنما هي أحداث لمن يصح أن يفعلها وتتعلق به إما على سبيل وجودها بذاته أو فعله لها والقول يستحيل فيه الأمران جميعا. فإن قالوا إنما أراد بقوله أحداث الأسماء أحداث أصحاب الأسماء وأحداث من له الأسماء. قيل لهم: إنما يجب صرف الكلام عن ظاهره إذا كانت دلائل العقل والسمع تمنع من استعماله على ما ورد به. ولا شيء يمنع من أن يكون سيبويه قد اعتقد أن الاسم هو نفس الشخص الذي يقع منه الأحداث على ما قاله غيره من أهل اللغة. وقد يمكن أن يقال إن سيبويه إنما عنى بقوله أخذت من لفظ أحداث الأسماء أنها أخذت من لفظ أحداث المصادر التي هي الضرب والقتل على ما ذهب إليه البصريون من أهل العربية من أن الفعل مشتق من المصدر. غير أن هذا وإن كان ممكنا فالظاهر من قوله أحداث الأسماء أنها أحداث الأشخاص لأنه لا يحسن أن يقال في الأحداث إنها أحداث المصادر. ومما يدل على أن الاسم قد يكون هو المسمى قول الله تعالى: { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان }. فأخبر أنهم يعبدون أسماء. وهم إنما عبدوا الأشخاص دون الكلام والقول الذي هو التسمية. فدل ذلك على أن الاسم الذي ذكره هو نفس المسمى. فإن قالوا إنما عني ما تعبدون إلا أصحاب الأسماء ومن له أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم. كان الجواب عنه كالجواب عن تأويلهم لإطلاق سيبويه لذلك. ولا حجة لهم فيه تمنع من استعمال الكلام على ظاهره بل الحجج توجب ذلك وتقتضيه فسقط تأويلهم. ويدل على ذلك أيضا قول الله سبحانه { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } أي مما لم يذكر الله عليه. كذلك قوله { سبح اسم ربك الأعلى } أي سبح ربك الأعلى. ولا حاجة بنا إلى حمل ذلك على أنه أريد به سبح باسم ربك لأنه قد يجوز أن يسبح باسم ربه ويجوز أن يسبح ربه الذي هو الله نفسه. وكذلك قوله سبحانه { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } لأن من له الجلال والإكرام والإنعام هو الله تعالى. وكل هذا يؤيد أن كثيرا من الأسماء هي المسماة وأن الاسم ليس من التسمية في شيء.

مسألة

فإن قال قائل: فعلى كم وجه تنقسم أسماء الله تعالى؛ قيل له: على ضربين. فضرب منها هو هو تعالى إذا كان اسما عائدا إلى نفسه ككونه موجودا وشيئا وقديما وذاتا واحدا وغيرا لما غاير وخلافا لما خالف وأمثال ذلك من الأسماء الراجعة إلى ذاته تعالى، لأن ذاته ليست بمعنى سواه أو معنى لا يقال هو هو. وقد دلت الدلالة على أنه شيء موجود قديم وذات وواحد وغير لما غايره وخلاف لما خالفه لنفسه لا لمعنى. فوجب أن تكون هذه الأسماء هي الله تعالى. والضرب الآخر اسم هو لله تعالى وهو الصفة الحاصلة له. وهي على ضربين إما أن تكون صفة ذات أو صفة فعل. فإن كانت صفة ذات كقولنا عالم الراجع إلى العلم وقادر وحي وما جرى مجرى ذلك فهي أسماء له ولا يقال هي غيره لاستحالة مفارقتها له على بعض وجوه المفارقات الموجبة للغيرية. وما كان من أسمائه راجعا إلى إثبات صفة من صفات فعله ككونه عادلا ومحسنا ومتفضلا ومحييا ومميتا فهي غيره. لأنه قد كان موجودا متقدما عليها ومع عدمها. غير أن تسميته سبحانه لنفسه ترجع إلى إثبات صفة لنفسه. وصفات ذاته غير مختلفة لا يقال هي الله ولا يقال هي غيره. لأن تسميته هي قوله وكلامه من صفات نفسه كسائر صفاته الذاتية فوجب أن يقال إنها كلام له فقط. وقد زعم قوم من أصحابنا أن جميع أسماء الله سبحانه وأسماء غيره هي المسماة غير أن منها ما يفيد ذات المسمى فقط ومنها ما يفيد صفة له. غير أن الاسم المفيد للصفة هو نفس المسمى لا معنى سواه.

مسألة

فإن قال قائل: فإذا كان الاسم هو المسمى نفسه فخبرونا أليس قد يجوز أن يكون للشيء الواحد عدة أسماء يستحقها لنفسه فكيف يكون الاسم هو المسمى والمسمى شيء واحد والأسماء التي له كثيرة؛ قيل له: الأسماء كثيرة في العدد على معنى كثرة التسميات والعبارات عنها لا على معنى أن الذات أشياء كثيرة. ألا ترى أن للسواد الواحد صفات كثيرة وهي كونه موجودا ومحدثا وسوادا وإن كانت هذه الصفات التي تختلف العبارات عن معناها لذات واحدة فكذلك قولنا في الله سبحانه إنه موجود وإنه شيء وإنه قديم وإنه غير لما غاير وخلاف لما خالف تسميات وعبارات عن أسماء الله تعالى التي هي ذاته فقط. غير أن ذاته على أحكام وتلك الأحكام هي الأسماء وهي النفس ولكنا نعبر عنها بتسميات وعبارات مختلفة. فإن قالوا فإذا سمي زيد من نايحة كونه زيدا بعشرة أسماء فهي هو. قيل لهم: أما اسم زيد فهو زيد وليس له من حيث هو زيد أكثر من اسم واحد ولكن له تسميات كثيرة متغايرة. وتأويل قول النبي « لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة » أي له تسع وتسعون تسمية هي عبارات عن كون الباري تبارك وتعالى على أوصاف شتى منها ما يستحقه لنفسه ومنها ما يستحقه لصفة تتعالق به. وأسماؤه العائدة إلى نفسه هي هو وما تعلق منها بصفة له فهي أسماء له فمنها صفات ذات ومنها صفات أفعال. وهذا هو تأويل قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } أي تسميات. وأما ما يتعلقون به من الجهل والتعويل على أنه لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال نار احترق فوه ومن قال زيد وجد زيد في فيه لأن اسم النار واسم زيد في فيه فإنه من كلام العامة وتعلق الأغبياء. لأن القول نار. والقول زيد الموجودين في الفم ليس باسم زيد واسم النار وإنما هو تسمية ودلالة على الاسم فسقط ما قالوه. ولو وجد اسم النار واسم زيد في فم الناطق لوجدت النار وزيد في فيه لأن اسم النار هو النار واسم زيد هو زيد. وكذلك الجواب عن الكتابة الدالة على النجاسة والنار إذا حصلت على الثوب قالوا فيجب أن يحترق الثوب وينجس لأن الكتابة التي هي الحروف ليست باسم ولا تسمية في الحقيقة وإنما هي أجسام من جنس المكتوب عليه. فسقط ما قالوه.

فصل آخر من الكلام في هذا الباب

إن قال قائل: فهل تزعمون أن أسماء الله مشتركة بينه وبين خلقه؛ قيل له: هذه مسألة محال لأن أسماءه هي نفسه أو صفة تتعلق بنفسه ونفسه تعالى وصفات نفسه لا يجوز أن تكون مشتركة بينه وبين خلقه. إلا أن التسمية التي تجرى عليه التي بدل بها على اسمه يجوز أن يجرى بعضها على خلقه وليدل بها على أن للخلق أسماء هي هم أو أوصاف تعلقت بهم نحو القول بأن الله حي عالم قادر سميع بصير متكلم مريد وخالق ورازق وعادل. ومنها تسميات لا يجوز أن تجرى إلا على الله سبحانه مثل قولنا الله الرحمن والإله والخالق والمبدع وما جرى مجرى ذلك مما لا يجوز إجراؤه على الخلق.

مسألة

فإن قال قائل: فما أعم الأسماء وما أخصها؛ قيل له: هذه أيضا مسألة باطلة. لأن الأسماء هي الذوات أو المعانيا المتعلقة بها. والذوات لا يجوز أن تكون عامة ولا خاصة وكذلك المعنى القائم بها. وإنما العام في الحقيقة هو القول والتسمية التي تعم أشياء كثيرة تجرى عليها على سبيل واحد. وقولهم عطا عام ونعيم عام مجاز واتساع والمراد به أن في زيد من النعيم والألم مثل الذي في غيره وليس الذي فيه في الحقيقة هو الذي في غيره فيعمهما. والقول المجرى على شيئين فصاعدا هو العام دون المعاني والذوات.

مسألة

فإن قال قائل: فما أعم التسميات؛ قيل له: قولنا معلوم ومذكور ومخبر عنه لأن هذه التسميات جارية على الموجود والمعدوم والقديم والمحدث. وأعم التسميات بعد هذه قولنا شيء لأنه يقع على كل موجود. وقال قائلون من أصحابنا وغيرهم أعم الأسماء قولك شيء وموجود وذات ونفس وعين ويريدون بالأسماء العامة التسمية المشتملة على سائر الذوات. وقولنا قديم أخص من قولنا شيء لأنه ليس كل شيء قديما. وكذلك قولنا محدث أخص من قولنا شيء لأن الشيء قد يكون قديما غير محدث. غير أن قولنا قديم أخص من قولنا محدث بالإضافة إلى القول محدث لأن القول محدث يشتمل على أكثر من عدد ما يشتمل عليه قولنا قديم. ثم إن القول عرض أخص من قولنا محدث لأن المحدث قد يكون عرضا وما ليس بعرض. والقول في العرض إنه لون أخص من القول إنه عرض لأن العرض قد يكون لونا وما ليس بلون وهو الحركة والتأليف. ثم إن القول في اللون إنه سواد أخص من القول إنه لون لأن اللون قد يكون سوادا وما ليس بسواد كالحمرة وغيرها. والقول سواد زيد وسواد السبج والقار والغراب أخص من القول سواد مطلق لأن إطلاق السواد لا يفيد الإضافة إلى محل وقولنا سواد القار يفيد ذلك وإن كانت صفة السواد لا تختلف من حيث هو سواد في حكم الإضافة والإطلاق فهذا أخص الخاص وأعم العام وما بدأنا بذكره وما بينهما خاص من وجه وعام من وجه.

فصل آخر في الأسماء

ومن الأسماء ما يفيد نفس المسمى كما ذكرنا وهي الأسماء العائدة إلى نفس المسمى كشيء وموجود. ومنها ما يفيد تمييز نفس المسمى من شيء آخر كغير وخلاف وهذا أيضا هو نفس المسمى. ومنها ما يفيد صفة للمسمى. وقد تكون تلك الصفة بنية وصورة له كفرس ورجل وإنسان وما جرى مجرى ذلك من الأسامي المفيدة للبنية والتأليف وقد تكون هيئة له كالبياض والسواد وغيرهما من الألوان وقد تكون صفات توجد بذاته ليس بهيئة ولا صورة كالحياة والعلم والإرادة والنظر وغير ذلك وقد يكون من الصفات ما هي فعل له ككاتب وضارب وقد يكون منها ما ليس بفعل له كحي وقادر ومتلون وما جرى مجرى ذلك من الأسماء. وليس في الأسماء ما يخرج عما قلناه. فإن قال قائل: فهل في الأسماء والصفات النفسية والمعنوية ما يوجب الاشتراك فيما جانسها من المسميات. قيل له: ليس في الأسماء شيء يوجب الاشتراك فيه تجانسا وتماثلا وإنما يجب تجانس الشيئين لأنفسهما. فوجب إذا كشفت الدلالة من حالهما أن كل واحد منهما يسد مسد الآخر وينوب منابه في جميع أحكامه وأوصافه أن يكونا مثلين. وليس يجب ذلك لهما لأجل اشتراكهما في شيء من الأسماء والصفات. فكذلك ما لم تجب مشابهة المحدث للقديم سبحانه إذا شاركه في كونه شيئا موجودا وفي كونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا حكيما وغير ذلك من الأسماء. ولم يجب اختلاف المحدثين إذا افترقا في هذه الأسماء والصفات. وليس الذي أوجب تجانس السوادين والجوهرين اشتراكهما في هذين الاسمين والوصفين المستحقين للنفس ولكن لأجل قيام الدليل على أن كل واحد منهما ساد مسد الآخر وناب منابه. وكذلك اشتراك الشيئين في الاسمين المشتقين من معنيين لا يوجب تشابه ما اشتقا منه. فلذلك لم يجب اشتباه صفات القديم سبحانه وصفاتنا وإن كانت توجب الاشتقاق على وجه واحد وبالله التوفيق.

باب الكلام في نفي خلق القرآن

قال أبو بكر: والذي يدل على نفي خلق القرآن من القرآن قوله تعالى: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } فلو كان القرآن مخلوقا لكان مخلوقا بقول آخر. وذلك يوجب أن لا يوجد من الله تعالى فعل أصلا إذا كان لا بد أن يوجد قبله أفعال هي أقاويل لا غاية لها. وذلك محال باتفاق منا ومنهم. دليل آخر وهو أنه لو كان القرآن مخلوقا لكان لا يخلو أن يكون جسما قائما بنفسه أو عرضا مفعولا في غيره. ويستحيل أن يكون جسما كما أنه لا يجوز أن يكون بنفسه قائما وأن يكون كلاما لا لمتكلم لأن الجسم ليس له تعلق بغيره كتعلق الصفات ولأن الأجسام كلها من جنس واحد فلو كان بعضها كلاما لخالق أو مخلوق لوجب أن تكون جميعا كلاما. وفي فساد ذلك دليل على أن الكلام لا يجوز أن يكون جسما. ويستحيل أيضا أن يكون عرضا. لأنه لو كان عرضا مفعولا لم يخل أن يكون الباري سبحانه فاعلا له في نفسه أو في غيره أو لا في مكان. ويستحيل من قولنا جميعا أن يفعله في نفسه تعالى لأنه ليس بمحل للحوادث. ويستحيل أن يفعله لا في شيء كما يستحيل فعل حركة ولون وحياة لا في شيء. ولأنه لو فعله لا في شيء لصح أن يحمل الصفات. لأن الشيء إنما جاز قيام الصفات به لاستغنائه في الوجود عن شيء يوجد به ولذلك لم يجز أن تحمل الصفات الصفات. وإذا استحال كون الكلام حاملا للصفات استحال قيامه بنفسه. ويستحيل أيضا أن يخلقه في غيره. لأن ذلك يوجب أن يكون صفة وكلاما لمن خلق فيه كما أن العلم والإرادة المخلوقين في الأجسام صفتان لمن وجدا به دون الخالق بهما. ولما لم يجز أن يكون كلام الباري صفة لغيره وكلاما لغيره لم يجز أن يكون مخلوقا في غيره. وإذا استحال أن يخلقه تعالى في نفسه أو في غيره أو قائما بنفسه استحال أن يكون خالقا له. إذ لو خلقه لم يخل من ذلك. دليل آخر وهو أنه لو كان كلام الله سبحانه مخلوقا وليس من جنس الأجسام عندنا وعندهم لوجب أن يكون عرضا. ولو كان عرضا لوجب أن يكون فانيا في الثاني من حال حدوثه وأن لا يكون الباري سبحانه في وقتنا هذا آمرا بشيء ولا ناهيا عنه ولا واعدا ولا متوعدا ولا مرعبا ولا مخبرا. وفي إجماع الأمة على أن الله تبارك وتعالى آمر لخلقه في هذا الوقت بطاعته وناه لهم عن معصيته وأنه متكلم بالأمر والنهي لخلقه دليل على أنه لا يجوز أن يكون متكلما بكلام عرض مخلوق لأن الدلالة قد دلت على استحالة بقاء الأعراض. دليل آخر وهو أن كلام الله تعالى لو كان مخلوقا لكان من جنس كلام المخلوقين وغير خارج عن حروف المعجم. ولوجب أن تكون الألف منه مثل الألف من كلامنا. وكذلك الدال والواو وغيرها من الحروف. ولوجب أن يكون الخلق قادرين على مثله وما هو من جنسه من حيث صحت قدرتهم على ضروب الكلام الذي لا تخرج جملته من حروف المعجم. وقد أكذب الله تعالى من قال ذلك حيث يقول { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } وأبطل قول من قال: { إن هذا إلا قول البشر } و { سحر يؤثر } وإنه { أساطير الأولين }. والمعتزلة تزيد على ذلك أجمع لأنهم يقولون إنهم يقدرون على ما هو أفصح وأحسن وأوجز من كلام الله وإن القدرة على الخطابة والنثر والنظم وضروب كلام البشر هي القدرة على مثل كلام الله تعالى. فيقال لهم: فما يؤمننا أن يأتي بمثله وبما هو أفصح منه بعض البشر إذا قصد ذلك وتوفرت دواعيه على التعمق في طلب العلم بنظمه. فإن قالوا يؤمننا من ذلك جهل الخلق بكيفية نظم مثله. قيل لهم: فلعلهم أو أكثرهم سيكتسبون العلم بذلك ثم يفعلونه. أو لعله سيتفق لهم فعله لأن فيهم القدرة عليه ولأنهم غير مضطرين إلى الجهل بنظمه لا من فعل الله تعالى ولا من فعل غيره. لأن الجهل قبيح والله تعالى عندكم لا يفعل القبيح. وإذا كان الجهل به من فعلهم وفيهم القدرة على اكتساب العلم به صح منهم ترك الجهل وفعل العلم. فلا يجدون لذلك مدفعا وفيه ترك الإسلام والطعن على الرسالة. دليل آخر قوله عز وجل: { ألا له الخلق والأمر تبارك الله }. ففصل بين الخلق والأمر. فلو كان القرآن مخلوقا لكان خلقا لأن الخلق هو المخلوق فيصير الكلام في تقدير القول ألا له الخلق والخلق. وذلك عي من الكلام مستهجن مستغث والله يتعالى عن التكلم والإخبار بما لا فائدة فيه. فدل ذلك على أن الأمر ليس بخلق.

فصل

فإن قالوا: فما وجه الاستدلال على نفي خلق القرآن بما قدمتموه من قوله { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } قيل لهم: وجه التعلق به هو أنه أخبر تعالى أنه يقول لما يخلقه كن. فلو كان كلامه مخلوقا لكان قائلا له كن وذلك محال باتفاق الأمة. فبطل أن يكون قوله كن مخلوقا. فإن قالوا من أين استحال أن يكون قائلا لقوله قيل لهم: لأنه لو كان قائلا له لم يخل من أن يقول له بنفسه تعالى أو لا بنفسه ولا بقول آخر أو بقول آخر أو بنفسه أعني بنفس القول. فيستحيل أن يقول له بنفسه تعالى لأن ذلك يوجب أن تكون نفسه قولا وأن يكون قائلا لكل شيء بنفسه وأن تكون نفسه لم تزل متكلمة كما أنه لو كان عالما بنفسه لوجب أن تكون نفسه لم تزل عالمة وهذا ما أبوه وكرهوه. ويستحيل أن يكون قائلا لقوله لا بنفسه ولا بقول آخر كما يستحيل أن يكون قائلا لكل شيء كلمه وقال له لا بنفسه ولا بقول. ويستحيل أن يكون قائلا له بقول آخر لأن ذلك يوجب تعلق كل قول بقول إلى غير غاية وذلك مما اتفقنا على فساده وإحالته. ويستحيل أن يكون قائلا لقوله بنفس قوله لأن ذلك يوجب أن يكون قوله مخلوقا وأن يكون كل قول هو كن من جنسه مقولا له بنفسه. وذلك محال لأنه قد يقول كن من لا يعتقد أن له كلاما أصلا إذا كان ممن ينفي الأعراض فكيف يقول لقوله بنفس قوله من لا يعتقد أن له قولا وإذا فسد ذلك استحال أن يخلق الله سبحانه كلامه وأن يقول لقوله.

مسألة

فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون قوله أن نقول له كن مجازا واتساعا وهو بمنزلة قوله { أتينا طائعين }. وقوله { جدارا يريد أن ينقض } وبمثابة قول الشاعر:

وقالت له العينان سمعا وطاعة ** وأحدرتا كالدر لما ينضد

وقول الآخر:

وتخبرني العينان ما القلب كاتم

وقول الآخر:

يشكو إلي جملي طول السرى ** صبرا جميلا فكلانا مبتلى

وقول الآخر:

فازور من وقع القنا بلبانه ** وشكا إلي بعبرة وتحمحم

وقولهم:

امتلأ الخوض وقال قطني ** مهلا رويدا قد ملأت بطني

في أمثال هذا مما ورد مجازا واتساعا؛ قيل لهم: أنكرنا ذلك لأمور. أحدهما أن هذه الأمور التي وصفت بالكلام والقول والإخبار منها جماد يستحيل أن يتكلم عندكم ومنها حيوان يعلم بدليل قاطع أنه غير ناطق فوجب صرف وصفها بالقول والإخبار والشكوى إلى المجاز. والباري سبحانه حي لا يستحيل عندنا وعندكم أن يكون قائلا متكلما فوجب أن يكون وصفه لنفسه بالقول محمولا على الحقيقة دون المجاز. ولأنه لو جاز أن يكون وصفه لنفسه بالقول مجازا ومقيسا على هذه الأمور لوجب أن يكون وصفه لنفسه بالإرادة والعلم والقدرة مجازا واتساعا وعلى معنى أنه فاعل فقط وأن الأشياء لا تتعذر عليه قياسا على هذه المجازات التي ذكرتموها. فإن لم يجب هذا لأن المجاز لا يقاس عليه لم يجب ما قلتم. وعلى أن قوله { قالتا أتينا طائعين } حقيقة عندنا فلا تعلق فيه. وإنما يستحيل تكلم الجماد بالكلام الذي يوجد بالنفس مقارنا للقصد والتمييز. ومما يدل على أنه لا يجوز أن يكون قوله { أن نقول له كن فيكون } مجازا واتساعا وعلى معنى أنه يكونه من غير أن يقول له اتفاق أهل العربية على أن العرب إذا ذكرت المصدر وأكدت به الفعل وجب أن يكون حقيقة كقولهم كلمته تكليما وضربته ضربا وأنه لذلك لم يجز أن يؤكدوا شيئا من المجاز الذي سألتم عنه فيقولوا. قال الحائط قولا وتخبرني العينان إخبارا. لأن ذلك يوجب أن تكون هذه الأوصاف حقائق فيما أجريت عليه. ولذلك صار قوله { وكلم الله موسى تكليما } حقيقة ودلالة على أنه متول لكلامه بنفسه لما أكد وصفه بكلامه له بالمصدر الذي هو قوله تكليما. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون قوله { أن نقول له كن فيكون } حقيقة لأن قولنا مصدر أول وأن نقول له مصدر ثان قد وكد به المصدر الأول. فلم يجز أن يكون مجازا وثبت أنه حقيقة.

مسألة

فإن قالوا: فما أنكرتم أن يكون قوله أن نقول له كن فيكون يراد به كل ما يخلقه إلا قوله كن من جملة مخلوقاته لأن العموم لا صيغة له عندكم؛ قيل لهم: من أصحابنا من أجراه على العموم فسقط السؤال. وعلى أنا أنكرنا ذلك لإجماع الأمة على بطلان هذا التأويل. وذلك أن الأمة بين قائلين إما قائل يقول إن الله سبحانه قائل لكل مخلوقاته على العموم كن وبين قائل يقول بأنه لا يقول لشيء مما يخلقه أصلا كن وإن قوله أن نقول له مجاز. فما سألتم عنه مدفوع بالإجماع.

مسألة

فإن قالوا: فما أنكرتم أن يكون قوله أن نقول له كن فيكون دلالة على حدث الكلام لأنه يوجب أن يكون المكون كائنا عقيب القول له كن بحق قوله فيكون، لأن الفاء موضوع في اللغة للتعقيب وقد اتفقنا على أن ما لم يسبق المحدث إلا بقدر زمان واحد أو أزمان متناهية فمحدث مخلوق؛ قيل لهم: لا يجب ما قلتم. لأن الفاء وإن كان إذا جاء للنسق أوجب الترتيب والتعقيب فإنه لا يوجب ذلك في جواب الأمر وجواب جملة تقدمت ولا في الجزاء أيضا. لأن القائل إذا قال لا تسؤني فأسؤك ليس يريد به التعقيب وإنما يقصد الإخبار عن إيقاع المجازاة فقط. وكذلك لم يوجب قوله تعالى: { ومن عاد فينتقم الله منه } التعقيب. وكذلك قوله { فيسحتكم بعذاب } لا يوجب التعقيب. فأما الفاء الداخل في جواب الأمر وجواب جملة الكلام فلا خلاف بينهم في أنه لا يوجب التعقيب. لأن القائل إذا قال لعبده إذا دخلت مكة فاشتر لي عبدا وبعيرا وثوبا فليس يريد تعقيب شراء العبد بدخوله. وكذلك قوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } لم يرد به تعقيب القيام بغسل الوجه دون غيره من الأعضاء. وكذلك قوله أن نقول له كن فيكون جواب قوله كن وهو الأمر فلم يقتض التعقيب لأن ليس هذا فاء التعقيب. ويدل على ذلك أيضا أن العرب تقول إنما جاءك زيد مع عبده أن يأمره بالفعل فيفعله. وهو لا يريد بذلك تعقيب إيقاع الفعل عقيب الأمر. لأنه قد يأمره بأن يفعل الفعل بعد حول وشهر ولا يقتضي الأمر تعقيب الأمر به معجلا لأن ذلك عصيان. وإنما المراد بقولهم فيفعل الإخبار عن طاعته. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه من كون الفاء موجبا للتعقيب في كل مكان.

مسألة

فإن قالوا: فما أنكرتم أن يكون قوله أن نقول له كن فيكون دلالة على حدث الكلام واستئنافه لأن أهل العربية قالوا إن الخفيفة إذا دخلت مع الفعل كانت معه بمنزلة المصدر، فإن كان الفعل ماضيا كان معنى المصدر ماضيا كقولك سرني أن قمت معناه سرني قيامك، وإن دخلت على فعل مضارع كان المصدر للاستقبال كقولك يعجبني أن تقوم فيكون معناه يعجبني قيامك في المستقبل، ويحسن فيه ذكر غدا ويحسن في المصدر لما مضى ذكر أمس ولا يجوز أن يكون الفعل الواقع بعد أن الخفيفة للحال، فوجب أن يكون قوله تعالى: { أن نقول له كن فيكون } دلالة على استقبال القول وحدوثه؛ يقال لهم: لعمري إن أهل العربية قد قالوا إن أن الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر. ولذلك صار قوله وأن تصوموا خير لكم بمعنى { والصيام خير لكم }. فأما ادعاؤكم أن الفعل الواقع بعد أن الخفيفة لا يصلح أن يكون فعل الحال فباطل غير مسلم. ومن قال هذا من النحاة سألناه عنه وعن الحجة عليه لأنه ليس بمحكي عن العرب حكاية اللغة وإنما هو رأي قوم من النحويين. فيقال لمن قال ذلك منهم لم قلت هذا وما دليلك عليه. فإن قال لأن الحال إنما يكون بالاسم نحو قوله جاءني زيد ضاحكا وماشيا وراكبا وضربت عمرا مشدودا. فالحال إنما يكون بأسماء الفاعلين والمفعولين. فإذا وقع الفعل موقع الاسم لم يجز أن يدخل عليه شيء من عوامل الأفعال لأن عامل الفعل لا يدخل على الاسم وأن الخفيفة من عوامل الأفعال. فيقال له ما أنكرت من أن لا يجب ما قلته لأجل أن الفعل المضارع قد وقع موقع الاسم في مواضع. منها أنه وقع موقعة في خبر الابتداء كقولك زيد يقوم فهو بمنزلة قولك زيد قائم. ومنها أنه قد وقع موقعة في الصفة كقولك مررت برجل يقوم فهو بمنزلة قولك مررت برجل قائم. ومنها أن لام الابتداء يدخل عليه كما يدخل على الاسم كقولك إن زيدا ليقوم فهو بمنزلة قولك إن زيدا لقائم. ومنه قوله تعالى: { إن ربك ليحكم بينهم } أي إنه لحاكم بينهم. فقد وقع الفعل المضارع موقع الاسم في هذه المواضع ولم يمنع ذلك من أن يدخل عليه عوامل الأفعال. ألا ترى أنك تقول زيد لن يقوم فنصبته بلن ولم يمنع وقوعه موقع الاسم من أن يدخل عليه عامل الفعل فينصبه على الأصل الذي يجب في حكم إعراب الأفعال. وهذا مبطل لاعتمادهم إبطالا ظاهرا. ومما يدل على بطلان ذلك وفساده أن الخليل بن أحمد وغيره من جلة أهل العربية قالوا إن الفعل الذي في أوله الزوائد الأربعة مضارع للاسم من الوجوه التي ذكرناها. وقالوا إنه مضارع وإن وقع بعد أن الخفيفة. وقال الخليل إن الفعل المضارع يصلح أني كون للحال ويصلح أن يكون للاستقبال. فبهذا الوجه أيضا ضارع قولك رجل الذي يصلح أن تريد به زيدا ويصلح أن تريد به عمرا. ولم يقل إن دخول أن الخفيفة عليه يخرجه عن هذه المضارعة وإنما قال إن السين وسوف يخرجانه عن الحال إلى الاستقبال. فمن ادعى أن أن الخفيفة في هذا الباب بمنزلة السين وسوف وأنها مبطلة للمضارعة كان عليه الدلالة على ذلك. لأن ذلك غير محكي عن العرب حكاية اللغة وقد أفسدنا ما احتج به القائلون بذلك من النحاة. فبطل قولهم.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }؛ قيل لهم: معناه ما يأتيهم من وعظ من النبي وتخويف { إلا استمعوه وهم يلعبون }. لأن وعظ النبي وتحذيره ذكر. قال الله تبارك وتعالى. { فذكر إنما أنت مذكر }. ويقال فلان في مجلس الذكر. وهذا أولى لأن قريشا لم تضحك وتلعب بالقرآن ولكن أفحمت عند سماعه وتشتت فيه أهواؤهم وآراؤهم. ويحتمل أن يكون أراد ما يأتيهم من نبي بعد نبي إلا استمعوا قوله ولعبوا وأعرضوا عنه. وقد سمى الله تعالى الرسول ذكرا فقال: { ذِكرا * رسولا يتلو عليكم آيات الله }. وأيضا فإن الله تعالى لم يقل ما يأتيهم من ذكر من ربهم إلا كان محدثا. وفي الآية دلالة على أن في الذكر ما ليس بمحدث لأجل نعته للذكر بالحدوث. ولو كان لا ذكر إلا محدث لم يكن لقوله من ذكر من ربهم محدث معنى. كما أنه لا معنى لقول القائل ما يأتيني من رجل ذكر إلا أكرمته ولا هاشمي شريف إلا قدمته إذا كان الرجل لا يكون إلا ذكرا والهاشمي لا يكن إلا شريفا. فوجب أن يكون نعت الذكر بالحدوث دلالة على أنه منه ما ليس بمحدث. فيجب أن يكون هو القرآن للإجماع على أن كل ماعداه من الذكر محدث. واختلافنا في كلام الله سبحانه والآية بأن تدل على قولنا أقرب.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله تعالى: { وكان أمر الله مفعولا } و { قدرا مقدورا }؛ قيل لهم: أراد تعالى عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين ومن حكم به وقدره من الأفعال. ومن ذلك قوله تعالى: { جاء أمرنا } وقوله { وما أمر فرعون برشيد } يعني شأنه وأفعاله وطرائقه. قال الشاعر:

لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ** بأخفافها مرعى تبوأ مضجعا

وقال آخر:

فقلت لها أمري إلى الله كله ** وإني إليه في الإياب لراجع

يعني شؤوني وأفعالي، ولم يرد بذلك الأمر الذي هو القول وجمع هذا أمور وجمع الأمر من القول أوامر. ولولا العجز لم يلجأوا إلى مثل هذا التمويه.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله { إنا جعلناه قرآنا عربيا }؛ قيل لهم: معنى ذلك إنا جعلنا العبارة عنه بلسان العرب وأفهمنا أحكامه والمراد به باللسان العربي وسميناه عربيا لأن الجعل قد يكون بمعنى التسمية والحكم. قال الله عز وجل: { الذين جعلوا القرآن عضين } يعني سموه كذبا وحكموا عليه بذلك ولم يرد أنهم خلقوه. وقال: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } يعني سموهم بذلك وحكموا لهم به ولم يرد أنهم خلقوهم إناثا. والجعل إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى الفعل لا محالة وإذا عدي إلى مفعولين صار بمعتى الحكم والتسمية في أكثر الاستعمال مثل قوله تعالى: { وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأويناهما } وهذا بمعنى الخلق ومثل قوله { وجعلنا الليل والنهار آيتين }. وأما الذي يعدى إلى مفعول واحد فمثل قوله { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور }. ولذلك لم يجز أن يقول قائل جعلت النجم والرجل ويقطع حتى يصله بقوله جعلت النجم هاديا ودليلا وجعلت الرجل صديقا ومتألفا. وقوله { إنا جعلناه قرآنا عربيا } متعد إلى مفعولين فصار بمعنى الحكم والتسمية.

مسألة

فإن قالوا: فيجب على كل حال أن تقولوا إن كلام الله أصوات وحروف متبعض متغاير لأنكم لم تعقلوا كلاما إلا كذلك، ويجب أن تقولوا إن الأمر منه غير النهي والخبر غير الاستخبار؛ يقال لهم: لو وجب ما قلتموه لأجل الشاهد لوجب إذا كان القديم سبحانه موجودا أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا وإذا كان بنفسه قائما أن يكون جوهرا ذا حيز في الوجود وإذا كان متكلما أن يكون الكلام موجودا به أو أسباب الكلام وإذا كان حيا عالما قادرا أن يكون ذا حياة وعلم وقدرة. لأنكم لم تعلقوا شيئا إلا كذلك ولا متكلما حيا عالما قادرا إلا كما ذكرناه. ولوجب أيضا عليكم أن لا يكون الباري سبحانه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا بنفسه لأنكم لم تجدوا نفسا واحدة تستحق هذه الأوصاف لنفسها. فكل هذا الذي تقولونه خلاف الشاهد والوجود. ثم يقال لهم: قد وهمتم علينا في قولكم إنا لم نعقل كلاما إلا حروفا وأصواتا لأننا لم نعقل قط ذلك. لأن الكلام فيما بيننا إنما هو معنى قائم بالنفس يعبر عنه بهذه الأصوات المسموعة تارة وبغيرها أخرى. ولذلك ما يختلف الناس في الفصاحة والبلاغة في العبارة عن الكلام الذي هو في النفس مع اتفاقه واختلاف العبارة عنه بالإطالة مرة والاختصار أخرى قال الله تعالى: { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول }. وقال تعالى: { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به }. ويقول العرب في نفسي كلام أريد أن أبديه لك. وقال الأخطل:

لا يعجبنك من أثير حظه ** حتى يكون مع الكلام أصيلا

إن الكلام من الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فأخبر أن الكلام في النفس يكون وإن عبر عنه باللسان. وقد قال الله تعالى: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } أراد به فبما في نفوسهم لا قولهم للنبي. فقد بطل توهمكم وزال تعلقكم. وهذا كاف في هذا الباب يتلوه الخبر الثاني من باب الكلام على المعتزلة.

باب في بيان آراء المعتزلة

وهذا الكلام الذي قدمناه على المعتزلة لأنهم جميعا يزعمون أنه لا حياة لله ولا علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر. وزعم البغداديون منهم أنه لا إرادة له تعالى. وجحد معمر شيخ من شيوخهم أن يكون لله سبحانه كلام. وزعم أن الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام كلام للشجرة التي وجد بها لم يأمر قط ولم ينه عن شيء ولا رغب في شيء ولا زجر عنه ولا كلم أحدا ولا أخبر بخبر بتة. وزعموا جميعا أنه لا وجه لله تعالى مع قوله عز وجل: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأنه لا يد له مع قوله عز وجل: { بل يداه مبسوطتان } وقوله تعالى: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }. وزعم أبو الهذيل شيخ المعتزلة والمقدم فيها أن الله سبحانه ليس بمخالف لخلقه لأن المخالف زعم ما حله الخلاف وذلك لا يجوز إلا على الأجسام. وزعم البغداديون منهم أن لله تعالى ليس بسميع ولا بصير وإنما يوصف بأنه يسمع الأصوات ويبصر الأشخاص على معنى أنه يعلم ذلك لا مزية له في هذين الوصفين على الضرير والأصم الذي لا يسمع ولا يبصر. وقالت المعتزلة بأسرها إن كلمة الله تعالى مخلوقة يخلقها في الشجرة وغيرها من الأجسام اتباعا منهم للنصارى في قولهم إن كلمة الله مخلوقة من وجه وحالة في جسد مخلوق. وقالوا بأسرهم إن كلام الله تعالى من جنس كلام البشر ومثل له وإنهم يقدرون على الإتيان بمثله وما هو أحكم منه وإن منعوا من ذلك وقتا ما لفقد العلم به أو لشر غيره. وزعم شيخ من رؤوسائهم وهو الجبائي أن الله تعالى أحبل مريم بنت عمران بخلقه الحبل فيها وكذلك هو محبل لسائر نساء العالمين استخفافا منه بالدين وتجاوزا لما قالته النصارى في رب مريم وعيسى وسائر العالمين. وزعموا بأسرهم أن الله سبحانه لا يقدر على قليل من أفعالهم ولا على كثير منها وأنه قد يقدرهم على ما لا يقدر عليه وأنهم أقدر من ربهم. وقالوا جميعا إلا رجلا منهم يعرف ببشر بن المعتمر أن الله تعالى ليس في سلطانه ولا في خزائنه شيء يقدر أن يفعله بمن يعلم أنه يموت كافرا فيؤمن عنده وأن العبد نفسه يقدر أن يؤمن وأن الله سبحانه لا يقدر أن يفعل به ما يؤمن عنده وأنه سبحانه يقدر أن يفعل بجميع الخلق ما يكفرون عند وجوده ويفسدون ويعطبون ولا يقدر على فعل ما يؤمنون عنده وإنه يقدر على استفسادهم ولا يقدر على استصلاحهم. وزعم النظام وهو شيخهم المعظم وكبيرهم المقدم أن الله سبحانه لا يوصف بالقدرة على طرح بعض الأطفال في النار ولا على قطع الثواب وإبطال العقاب وأن بعض الإنس والشياطين يقدر من طرح طفل أو مجنون في جهنم على ما لا يقدر الله عليه. لأن ذلك عنده ظلم ولو قدر عليه سبحانه على أصله لم يأمن وقوعه منه. وزعم أبو الهذيل العلاف أيضا أن لنعيم أهل الجنة وعقاب أهل النار وسائر أفعال القديم سبحانه آخرا لا يوصف الله بالقدرة إذا فعله ووقع منه على قليل الأفعال ولا على كثيرها ولا يصح حينئذ الرغبة إليه ولا الرهبة منه لأنه لا يقدر إذا ذاك على خير ولا شر ولا نفع ولا ضر. قال ويبقى أهل الجنة خمودا سكوتا لا يفيضون بكلمة ولا يتحركون بحركة ولا يلتذون بلذة ولا يقدرون ولا ربهم على شيء من ذلك. لأن الحوادث زعم كما لا بد لها من أول تنتهي إليه لم يكن قبل شيء فكذلك لا بد لها من آخر تنتهي إليه لا يكون بعده شيء. وزعم النظام أن النبي يره أحد قط ولا شاهده وإنما شوهد ظرفه الذي هو الشخص الظاهر. لأن النبي هو الروح وراء الجسم الظاهر. وزعم الجبائي أن حالفا لو حلف بالله ليعطين زيدا حقه غدا إن شاء الله ثم جاء الغد ولم يعطه مع التمكن منه كان خانثا. لأن الله تعالى قد شاء أن يدفع إليه الحق وكره مطله وأن الكفارة تلزمه خلافا للأمة وتقحما لمشاقتها. وزعموا بأسرهم أنهم يخلقون كخلق الله عز وجل ويصنعون كصنعه من الحركات والسكون والإرادات والعلوم موافقة منهم لمن جعل مع الله شريكا يخلق كخلقه. قال الله تعالى: { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم }. وقال تعالى: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون }. وقال: { هل من خالق غير الله } فنص على تكذيبهم في ادعائهم غيره. وزعم البغداديون منهم والنظام من البصريين أيضا أن القديم سبحانه قد استصلح عباده بغاية ما يقدر عليه من الصلاح وأنه ليس في خزائنه ولا في سلطانه ولا يتوهم منه صلاح يقدر عليه أكثر مما قد استصلحهم به في دينهم ودنياهم. وزعم البصريون منهم خاصة أنه تعالى قد استصلح عباده بغاية ما في قدرته من الصلاح في باب دينهم خاصة وأنه لا يقدر على صلاح لهم في باب الدين أصلح مما فعله بهم. فأوجبوا جميعا تناهي مقدوراته وأنه يقدر على صلاح لا يقدر على مثله ولا على الزيادة عليه. وزعم البصريون والبغداديون أنه يكون في سلطانه ما يكرهه ولا يريده وأنه يكون شاءه أم أباه وأنه يريد أبدا ما لا يكون ويكون ما لا يريد ردا لما اتفق عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالوا جميعا إلا من شذ منهم إن الله تعالى لا يرى في المعاد ردا للقرآن وجحدا للسنن والآثار. قال الله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }. وقال: { فإن استقر مكانه فسوف تراني } وقال النبي { ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر. وكيف بكم إذا رأيتم الله في أخبار يطول ذكرها وقالوا كلهم بتخليد كل من اقترف كبيرة ومات مصرا عليها وإن كان مسلما موحدا مصدقا لله تعالى ولرسوله ما جاء به من عنده عالما بأن ما ركبه حرام محظور فإن الله يبطل بذلك ثواب توحيده وتصديقه وصلواته وسائر طاعاته ولا يثيبه على شيء أمره بفعله ففعله بل يأخذه بالذنب الواحد الذي هو شرب جرعة من خمر أو منع خمسة دراهم من الزكاة الواجبة في ماله أو غصب عشرة دراهم على حسب اختلافهم في الوعيد ردا لقوله { إن الحسنات يذهبن السيئات } وقوله تعالى: { من جاء بالحسنة فله خير منها } وقوله تعالى: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وقوله تعالى: { إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } في نظائر لهذه الآيات. واتفقوا بأسرهم على أنه لا شفاعة للنبي أحد يستحق أقل العقاب في الآخرة وأنه إن سأل الله تعالى لم يقبل شفاعته ولم يجب مسألته. ولو تتبعت ذكر ضلالتهم وقبح مذاهبهم وشنيع ما أدخلوا في الدين وخالفوا به توقيف السنن وقول كافة المسلمين وسائر السلف الصالحين لطال بذلك الكتاب ولخرجنا بذكره عما له قصدنا ولم نأت مع الإسهاب فيه إلا على القليل منه. وإنما ذكرت طرفا من ذلك لسيدنا الأمير أطال الله بقاءه ليعرف مفارقتهم للدين وعدولهم عن السبيل وأنهم أضر فرقة على هذه الأمة وأشدها جراءة على الله عز وجل فإلى الله المشتكى وإليه نرغب في كشف البلوى ثم رجع بنا القول إلى إثبات صفات الله تعالى لذاته.

أبواب شتى في الصفات

باب في أن لله وجها ويدين

فإن قال قائل: فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين؟ قيل له: قوله تعالى لله { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقوله { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }. فأثبت لنفسه وجها ويدين. فإن قالوا فما أنكرتم أن يكون المعنى في قوله { خلقت بيدي } أنه خلقه بقدرته أو بنعمته لأن اليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة وبمعنى القدرة كما يقال لي عند فلان يد بيضاء يراد به نعمة وكما يقال هذا الشيء في يد فلان وتحت يد فلان يراد به أنه تحت قدرته وفي ملكه. ويقال رجل أيد إذا كان قادرا. وكما قال الله تعالى: { خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما } يريد عملنا بقدرتنا. وقال الشاعر:

إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين

فكذلك قوله { خلقت بيدي } يعني بقدرتي أو نعمتي. يقال لهم: هذا باطل لأن قوله { بيدي } يقتضي إثبات يدين هما صفة له. فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان. وأنتم فلا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدا فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم. وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى. ولأن القائل لا يجوز أن يقول رفعت الشيء بيدي أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يعني نعمته. وكذلك لا يجوز أن يقال لي عند فلان يدان يعني نعمتين وإنما يقال لي عنده يدان بيضاوان. لأن القول يد لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة للذات. ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس وعن أن يقول وأي فضل لآدم علي يقتضي أن أسجد له وأنا أيضا بيدك خلقتني التي هي قدرتك وبنعمتك خلقتني وفي العلم بأنه الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه دليل على فساد ما قالوه. فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة. يقال له لا يحب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك. وكما لا يجب متى كان قائما بذاته أن يكون جوهرا أو جسما لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك. وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسائر صفاته لذاته أعراضا أو أجناسا أو حوادث أو أغيارا له أو حالة فيه أو محتاجة له إلى قلب واعتلوا بالوجود.

باب

فإن قال قائل: فهل يقولون إن الله في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه، فقال: { الرحمن على العرش استوى } وقال: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض }. ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفي فمه وفي الحشوش وفي المواضع التي يُرغب عن ذكرها - تعالى الله عن ذلك - ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلق، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب اليه نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. فإن قالوا: أفليس قد قال عز وجل: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } فأخبر أنه في السماء والأرض، وقال: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وقال: { إنني معكما أسمع وأرى } وقال: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم } في نظائر لهذه الآيات؛ فما أنكرتم أن يكون في كل مكان؟ يقال لهم: قوله تعالى: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } المراد به أنه إله عند أهل الأرض وإله عند أهل السماء، كما تقول العرب فلان نبيل مطاع في المصرين، أي عند أهلهما وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة. وقوله تعالى: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [ يعني ] بالحفظ والنصر والتأييد، ولم يرد أن ذاته معهم، تعالى الله عن ذلك. وقوله تعالى: { إني معكما أسمع وأرى } محمول على هذا التأويل. وقوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } يعني أنه عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم. وهذا إنما يستعمل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال قياسا على هذا إن الله بالبردان وبمدينة السلام، وأنه تعالى مع الثور ومع الحمار، ولا أن يقال إنه مع الفساق والمجان قياسا على قوله { إن الله مع الذين اتقوا }، ووجب أن يكون التأويل على ما وصفناه. ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه، كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف أو دم مهراق

والاستيلاء هو القهر والقدرة، والله لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا. وقوله { ثم استوى } يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه. 4

باب تفصيل صفات الذات من صفات الأفعال

فإن قال قائل: ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله لأعرف ذلك؛ قيل له: صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها. وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضى وهما الإرادة على ما وصفناه وهي الرحمة والسخط والولاية والعداوة والحب والإيثار والمشيئة وإدراكه تعالى لكل جنس يدركه الخلق من الطعوم والروائح والحرارة والبرودة وغير ذلك من المدركات. وصفات فعله هي الخلق والرزق والعدل والإحسان والتفضل والإنعام والثواب والعقاب والحشر والنشر وكل صفة كان موجودا قبل فعله لها. غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم لأنه كلامه الذي هو قوله إني خالق رازق باسط وهو تعالى لم يزل متكلما بكلام غير محدث ولا مخلوق.

باب البقاء من صفات ذاته

فإن قال قائل: وما الدليل على أن البقاء من صفات ذاته؛ قلنا: من قبل أنه لم يزل باقيا إذ كان كائنا من غير حدوث والباقي منا لا يكون باقيا إلا ببقاء. دليل ذلك استحالة بقاء الشيء في حال حدوثه. فلو بقي لنفسه كان باقيا في حال حدوثه وذلك محال باتفاق. فصح أنه باق ببقاء إذ كان قديما يستحيل أن تكون ذاته بقاء أو في معنى الصفات.

باب

فإن قال قائل: فخبرونا عن الله سبحانه ما هو. قيل له: إن أردت بقولك ما هو ما جنسه فليس هو بذي جنس لما وصفناه قبل هذا. وإن أردت بقولك ما هو ما اسمه فاسمه الله الرحمن الرحيم الحي القيوم. وإن أردت بقولك ما هو ما صنعه فصنعه العدل والإحسان والإنعام والسموات والأرض وجميع ما بينهما. وإن أردت بقولك ما هو ما الدلالة على وجوده فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره. وإن أردت بقولك ما هو أي أشيروا إليه حتى أراه فليس هو اليوم مرئيا لخلقه ومدركا لهم فنريكه.

باب

فإن قال قائل: وكيف هو؛ قيل له: إن أردت بالكيفية التركيب والصورة والجنسية فلا صورة له ولا جنس فنخبرك عنه. وإن أردت بقولك كيف هو أي على أي صفة هو فهو حي عالم قادر سميع بصير. وإن أردت بقولك كيف هو أي كيف صنعه إلى خلقه فصنعه إليهم العدل والإحسان.

باب

فإن قال قائل: أين هو؛ قيل له: الأين سؤال عن المكان وليس هو ممن يجوز أن يحويه مكان ولا تحيط به أقطار. غير أنا نقول إنه على عرشه لا على معنى كون الجسم بالملاصقة والمجاورة تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

باب

فإن قال قائل: فمتى كان؛ قيل له: سؤالك عن هذا يقتضي كونه في زمان لم يكن قبله لأن متى سؤال عن الزمان. وقد عرفناك أنه قديم كائن قبل الزمان وأنه الخالق للمكان والزمان وموجود قبلهما. وتوقيت وجود الشيء بعام أو مائة ألف عام يفيد أن الموقت وجوده معدوم قبل الزمان الذي وقت به. وذلك مما يستحيل عليه تعالى.

باب الكلام في جواز رؤية الله تعالى بالأبصار

فإن قال قائل: فهل يجوز أن يرى القديم سبحانه بالأبصار؛ قيل له: أجل فإن قال فما الحجة في ذلك قيل له: الحجة على ذلك أنه موجود تعالى. والشيء إنما يصح أن يرى من حيث كان موجودا إذا كان لا يرى لجنسه لأنا لا نرى الأجناس المختلفة ولا يرى لحدوثه إذ قد نرى الشيء في حال لا يصح أن يحدث فيها ولا لحدوث معنى فيه إذ قد ترى الأعراض التي لا تحدث فيها المعاني. فإن قال فما الدليل على أنه يجوز أن يرى من جهة القرآن. قيل له: قوله تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام { رب أرني أنظر إليك }. فلو كانت الرؤية تستحيل عليه كما قالت المعتزلة كما يستحيل أن يكون محدثا مربوبا وعبدا مخلوقا لاستحال على نبيه وأمينه على وحيه ومن جعله واسطة بينه وبين خلقه ومتحملا لرسالته أن يسأله المستحيل في صفته كما يستحيل أن يقول له رب كن عبدا مربوبا ومألوها مخلوقا. لأن ذلك أجمع استخفاف بالله سبحانه سواء سأله السائل لنفسه أو سأله لغيره. وليس يجوز على الأنبياء الاستخفاف بربهم ولا أن يكون أسلاف المعتزلة وأخلافها أعلم من الرسل بما يجوز على الله تعالى وما يستحيل في صفته. فدل ما وصفناه على صحة رؤيته.

باب آخر

فإن قال قائل: فما الدليل على وجوب رؤيته لا محالة في الآخرة؛ قيل له: قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }. والنظر في كلام العرب إذا قرن بالوجه ولم يضف الوجه الذي قرن بذكره إلى قبيلة ولا عشيرة وعدي بحرف الحر ولم يعد إلى مفعولين فالمراد به النظر بالبصر لا غير ذلك. ألا ترى إلى قولهم انظر إلى زيد بوجهك يعنون بالعين التي في وجهك.

مسألة

فإن قالوا: أفليس قد تمدح بقوله تعالى: { لا تدركه الأبصار } كما تمدح بقوله { بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } فكيف يجوز أن تزول عنه؛ قيل لهم: إنما تمدح بقوله { وهو يدرك الأبصار } ولم يتمدح باستحالة إدراكه بالأبصار. لأن الطعوم والروائح وأكثر الأعراض لا يجوز عندكم أن ترى بالأبصار وليست ممدوحة بذلك. فإن قالوا فما أنكرتم أن يكون إنما تمدح بأنه يدرك الأبصار وأنها لا تدركه. قيل لهم: هذا باطل لأن الوصفين اللذين يتمدح بهما لا بد أن يكون في كل واحد منهما مدح بمجرده نحو قوله { إنه عزيز حكيم } و { عليم قدير } وكل واحد من الوصفين مدحة في نفسه تجرد أو انضم إلى. ولما لم يكن كون المعدوم غير مدرك بالبصر مدحا له عندنا وعندكم بطل ما قلتم. لأن أكثر الموجودات عندكم لا يجوز أن يدرك بالأبصار وكل المعدومات عندنا وعندكم لا يدرك بالأبصار وليست بذلك ممدوحات. ألا ترى أنه لو قال الله عز وجل إني عالم معلوم وموجد موجود لكان متمدحا بقوله إني عالم موجد ولم يكن متمدحا بما ضامه من كونه معلوما وموجودا إذا شاركه عندنا وعندكم في هذين الوصفين ما ليس بممدوح بهما فكذلك المدح في قوله { وهو يدرك الأبصار } دون قوله { لا تدركه الأبصار }. فإن قالوا أفليس قد تمدح بقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } و { ما اتخذ الله من ولد } ولم يجب أن يكون كل من شركه في ذلك ممدوحا من الأعراض والموات. قيل لهم: إنما تمدح جل اسمه بنفي الآفات عنه مع جوازها على غيره من الأحياء وكل حي يمتنع ذلك عليه فإنه ممدوح به وممدوح أيضا بكونه حيا ليس بميت. فنحن إذا قلنا إنه متمدح بكونه حيا وأن السنة والنوم لا تأخذه فقد مدحناه بالأمرين. في هذا أنه سبحانه ذكر السنة والنوم تنبيها على أن جميع الأعراض ودلالات الحدوث لا تجوز عليه ولم يرد نفي السنة والنوم فقط. وفي الأعراض والميت والجماد من دلائل الحدوث مثل ما في النائم والوسنان. وإنما يمدح الشيء بنفي ما يدل على الحدوث إذا لم يكن فيه ما ينوب في الدلالة منابه. فسقط بذلك ما اعترضوا عليه. ويمكن أن يكون وجه التمدح بقوله { لا تدركه الأبصار } أنه تعالى يدرك الأشياء وأنه موجود يصح أن يدرك وأنه قادر على أن يمنعنا من إدراكه وأن كل من يرانا يمكن أن نراه من الخلق وأنه هو تعالى قد منعنا من الإدراك له إن كان مدركا لنا وأنه ليس فيمن يدركنا ببصره من يمكنه أن يخلق فينا ما يضاد رؤيته وينفيها. فيكون متمدحا بقدرته على خلق ما يضاد رؤيته. وكونه قادرا على خلق ضد رؤيته لازم له أبدا لا يتغير عنه وكونه خالقا لما يضاد رؤيته تمدح ببعض أفعاله. ويحتمل أيضا أن يكون وجه التمدح في قوله { لا تدركه الأبصار } أنها لا تدركه جسما مصورا متحيزا ولا حالا في شيء على ما يقوله النصارى ولا مشبها لشيء على ما يقوله أهل التشبيه ولا تدركه والدا ولا مولودا على صفة من يلد أو يولد تعالى عن ذلك ويكون القصد بذلك الرد على من وصفه بهذه الصفات. وليس لأحد من المعتزلة التعلق بهذه الآية لأن الله تعالى إنما نفي عندهم من إدراك الأبصار ما أثبته لنفسه في قوله { وهو يدرك الأبصار }. ولم يعن بذلك عند البصريين أنه يرى الأبصار وهو تعالى عندهم لا يدرك الأبصار لأنها مما لا يصح أن يدرك ولا يرى أيضا شيئا بتة عند البغداديين. وإنما عني عندهم أنه يعلم الأبصار فيجب عليهم أن يكون إنما نفى بقوله { لا تدركه الأبصار } علمنا به تعالى.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله عز وجل: { لن تراني }؛ قيل لهم: أراد في الدنيا لأنه إنما سأل ربه أن يريه نفسه في الدنيا فقوله { لن تراني } جواب هذا السؤال. ولو لم يكن جوابا لكان أيضا مخصوصا بقوله { إلى ربها ناظرة }.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله { تبت إليك }. قيل لهم: لم يقل جل اسمه إنه تاب من مسألته إياه الرؤية. فيمكن أن يكون ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى كما يسارع الناس إلى التوبة ويجددونها عند مشاهدة الأهوال والآيات. ويحتمل أن يكون المعنى في قوله تبت إليك من ترك استيذاني لك في هذه المسألة العظيمة ومثلها ما لا يكون معه تكليف لمعرفتك والعلم بك. ويحتمل أن يكون أراد بقوله تبت إليك أي تبت إليك أن أسألك الرؤية لهول ما أصابني لا لأنها مستحيلة عليك ولا لأني عاص في سؤالي كما يقول القائل تبت من كلام فلان ومعاملته ومن ركوب البحر ومن الحج ماشيا إذ ناله في ذلك تعب ونصب وشدة وإن كان ذلك مباحا حسنا جائزا. والتوبة هي الرجوع عن الشيء ومن ذلك سمي الإقلاع عن الذنوب والعود إلى طاعة الله تعالى توبة منها ومعنى المراد بقوله { ثم تاب عليهم ليتوبوا } أي رجع بهم إلى التفضل والامتنان ليرجعوا عما كانوا عليه. فقوله تبت إليك أي رجعت عن سؤالي إياك الرؤية. وهذا هو أصل التوبة وليس الرجوع عن الشيء يقتضي كونه عصيانا. فبطل تعلقهم بالآية.

مسألة

فإن سألوا عن معنى قوله { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } وعن تأويل ذلك وما معنى التجلي منه؛ قيل لهم: معنى ذلك أنه أرى نفسه للجبل فتدكدك وصار قطعا قطعا لما أحب تعالى من إعلام موسى صلى الله عليه أن أحدا لا يراه في الدنيا إلا لحقه ما لحق الجبل لحكمه تعالى بجعل الدنيا دار تكليف وإيمان بالغيب. ومعنى قوله تجلى أي أنه رفع عن الجبل الآفة المانعة له من رؤيته تعالى وأحياه وخلق فيه الإدراك له فرآه. وقد يكون التجلي ظهورا أو خروجا من وراء السواتر والحجب. وذلك من صفات الأجسام والله يتعالى عن ذلك. وقد يكون التجلي بمعنى رفع الآفات المانعة من الإدراك. ومن ذلك قولهم تجلت لي الألوان وتجلت للضرير المبصرات إذا أبصر المرئيات وتجلى لي الأمر إذا زالت عوارض الشبه منه. وأما الحجاب فقد يكون بمعنى الساتر المانع وقد يكون آفة موضوعة في البصر تمنع من إدراك المرئيات. وأصل الحجب المنع. ومنه سمي حاجب الأمير حاجبا لمنعه منه ودفعه عن الوصول إليه. ومنه قوله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } يعني الكفار أي إنهم ممنوعون بالآفات الموضوعة في أبصارهم من رؤيته تعالى إهانة لهم وتفريقا بينهم وبين المؤمنين.

مسألة

فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون موسى عليه السلام إنما أراد بقوله { رب أرني أنظر إليك } أي عرفني نفسك اضطرارا أو أرني آية من آيات الساعة؛ قيل لهم: أنكرنا ذلك لأنه غير جائز في اللغة. لأن القائل لا يجوز أن يقول لمن يسمع كلامه ويعرفه ولا يشك فيه أرني أنظر إليك وهو يريد عرفني نفسك أو أرني فعلا من أفعالك. هذا غير مستعمل في اللسان. ولأن النظر إذا أطلق فليس معناه إلا رؤية العين. وإن أريد به العلم فبدليل ولأن النظر الذي في الآية معدى بقوله إليك والنظر المعدى ب إلى لا يجوز في كلام العرب أن يراد به إلا نظر العين. فبطل ما قالوا.

مسألة

وإن سألوا عن قوله عز وجل: { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } وعن قوله { وقلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } وعن معنى إنكار الله لذلك من سؤالهم؛ قيل لهم: لم ينكر الله تعالى مسألة أخلاف بني إسرائيل أن ينزل عليهم كتابا من السماء ومسألة أسلافهم أن يروا الله جهرة لاستحالة ذلك. وإنما أنكره لأنهم سألوا ذلك على طريق العناد لموسى ومحمد صلى الله عليهما والشك في نبوتهما والتقدم بين أيديهما والامتناع من فعل ما أوجب عليهم من الإيمان بالله عز وجل حتى يفعل ما يؤثرونه ويقتاتونه. فأنكر الله ذلك من فعلهم وقولهم كما أنكر سؤالهم إنزال كتاب من السماء لا لاستحالة ذلك في قدرته. وكما أنكر قول من قال: { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى قوله { أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك }. لأن هذا أجمع إنما كان على وجه الاستخفاف بالرسل والتمرد لا على طلب الزيادة في العلم. ويجب الاعتماد في تخصيص قوله عز وجل: { لا تدركه الأبصار } وقوله { لن تراني } على قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } من حيث ثبت أنه لا يجوز أن يكون معناه إلا رؤية الأبصار. وكذلك يجب أن يعتمد في أنه لا يجوز أن يكون عني بقوله { لا تدركه الأبصار } وقوله { لن تراني } وقوله { فأخذتهم الصاعقة } الدلالة على إحالة رؤيته تعالى لأن نفي الشيء لا يدل على استحالته. لأنه قد ينفى عنه الجائز أحيانا وينفى المستحيل الممتنع في صفته. ولما صح أن قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } يقتضي النظر إليه بالأبصار لأن النظر في كلام العرب يحتمل وجوها منها نظر الانتظار ومنها الفكر والاعتبار ومنها الرحمة والتعطف ومنها الإدراك بالأبصار وإذا قرن النظر بذكر الوجه وعدي بحرف الجر ولم يضف الوجه إلى قبيلة وعشيرة الوجه الجارحة التي توصف بالنضارة التي تختص بالوجه الذي فيه العينان فمعناه رؤية الأبصار. ألا ترى إلى قوله عز وجل: { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } أي انظره بعينك. ولما لم يرد بقوله تعالى: { فناظرة بم يرجع المرسلون } نظر العين لم يعده بإلى ولا قرنه بالوجه. وكذلك قوله { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } لما أراد به الانتظار دون نظر الأبصار لم ينطه بالوجه ولا عداه بإلى. قال الشاعر:

فإن يك صدر هذا اليوم ولى ** فإن غدا لناظره قريب

فلم يقرن النظر بذكر الوجه ولا عداه ب إلى لما أراد الانتظار. فإن قالوا فما معنى قول جميل بن معمر:

إني إليك لما وعدت لناظر ** نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قيل لهم: معناه نظر العين المقرون بالذل والانكسار لأنه نظر إليه ببصره مقتضيا متنجزا لوعده نظر الذليل إلى العزيز القاهر. فإن قالوا فما معنى قول حسان بن ثابت:

وجوه ناظرات يوم بدر ** إلى الرحمن يأتي بالفلاح

قيل لهم: أراد نظر الأبصار إلى سماء الرحمن وترقب النصر عند رميهم بالأبصار إلى الجهة التي منها يرجى النصر وقوله إلى الرحمن يعني به إلى سماء الرحمن وجهة الرغبة إليه ولم يرد الانتظار. فإن قالوا فما أنكرتم أيضا أن يكون الله تعالى إنما أراد بقوله { إلى ربها ناظرة } أي إنها إلى جنان ربها وأفعاله وعظيم ما أعده لأولئك ناظرة. قيل لهم: هذا التأويل يجعل الآية مجازا وليس لنا فعل ذلك إلا بحجة. فإن قالوا ما أنكرتم أن تكون الحجة في ذلك إحالة العقول لرؤيته. قيل لهم: العقول عندنا تجيز رؤيته وتبطل دعواكم وقد بينا ذلك فيما سلف وسنفسد ما تتعلقون به فيما بعد إن شاء الله. فإن قالوا فما معنى قول الشاعر:

ويوم بذي قار رأيت وجوههم ** إلى الموت من وقع السيوف نواظر

والموت لا يرى ولا ينظر إليه. قيل لهم: ما أراد الشاعر إلا رؤية الأبصار وإنما أراد بالموت الضرب والطعن وفلق الهام. لأن ذلك يسمى في اللغة موتا لأنه من أسباب الموت وما يقع عنده غالبا والشيء عندهم يسمى باسم سببه. ويمكن أيضا أن يكون أراد بذكر الموت الأبطال الذين يوجد الموت عند كرها وإقدامها. قال جرير:

أنا الموت الذي خبرت عنه ** فليس لهارب مني نجاء

وقال آخر:

يأيها الراكب المزجى مطيته ** سائل بني أسد ما هذه الصوت

وقل لها بادروا بالعذر والتمسوا ** قولا يبرئكم إني أنا الموت

يريد به البطل الذي يكون عند فعله الموت فإن قيل فما معنى قول الآخر:

وجوه بها ليل الحجاز على النوى ** إلى ملك ركن المغارب ناظرة

قيل لهم: هذا شعر لا يعرفه أحد من أهل العلم فلا حجة. فيه وإن صح لم يفسد ما قلناه لأننا قد قلنا إن الوجوه المقرونه بذكر البلدة والعشيرة إنما يراد به سادة الناس. والله تعالى وصف الوجوه التي هي الجوارح بأنها تنظر إليه لأنه تعالى وصفها بما لا يجوز أن يوصف به إلا الجارحة حيث قال: { وجوه يومئذ ناضرة }. والنضارة لا تكون إلا في الجارحة التي هي الوجه.

مسألة

فإن قالوا: ما أنكرتم من أنه لو رئي بالأبصار لوجب أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا أو محدودا أو حالا في محدود أو مقابلا للمكان أو مباينا للمكان أو متصلا به الشعاع أو متصلا بمكانه أو متخيلا متمثلا متصورا بالقلوب عند غيبته وأن يكون من جنس المرئيات لأننا لم نعقل مرئيا بالبصر إلا كذلك؛ يقال لهم: لو وجب هذا لوجب إذا كان معلوما بالقلوب وموجودا أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا وفي العالم أو غيره من الأماكن أو ما يقدر تقدير الأماكن لأننا لم نعقل معلوما إلا كذلك وإذا كان شيئا أن لا يخلو من أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا لأننا لم نعقل شيئا إلا كذلك وإذا كان عالما قادرا سميعا بصيرا أن يكون جسما مجتمعا ذا حيز في الوجود لأننا لم نعقل حيا عالما قادرا رائيا إلا كذلك. فإن مروا على ذلك تركوا التوحيد وإن أبوه أبطلوا ما سألوا عنه. وأما قولهم إنه لو رئي بالأبصار لوجب أن يكون متمثلا متخيلا فإنهم إن أرادوا به أنه إذا تعدم رؤيته نتخيل له شكلا أو جسما ونعتقد أنا رأينا ذا هيئة وشكل فإن ذلك باطل لقيام الدليل على أن القديم سبحانه ليس من جنس المرئيات. وإن عنوا به أنا نعلم بعد رؤيته أننا رأينا شيئا { ليس كمثله شيء } فإن ذلك صحيح. وتسمية هذا العلم تخيلا وتمثلا باطل بالإجماع.

مسألة

فإن قالوا: ما أنكرتم من أنه لو جاز أن يرى لرأيناه الساعة لأن الموانع المانعة من رؤية ما يجوز أن يرى منتفية عنه وهي الرقة واللطافة والحجاب والبعد وذلك مستحيل على الله تعالى. فوجب أن نراه لو كان مما يجوز أن يرى؛ يقال لهم: ليس فيما ذكرتم شيء يمنع من رؤية المرئي. لأنا نرى اللطيف مع لطافته عند زيادة الإدراك ونرى البعيد مع بعده ونرى المحجوب إذا قوي الإدراك وزاد الشعاع عندكم فأنفذ خروقه. والمحتضر بالموت يرى ملك الموت ونحن لا نراه وإن كنا بحضرته. وكذلك الرسول يرى جبريل عليه السلام والصحابة لا تراه. وكذلك الملائكة يرى بعضهم بعضا مع رقتهم ونحن لا نراهم. وما منع من رؤية الشيء لا يجوز أن يقارن الرؤية له. فوجب أن لا يكون فيما ذكرتموه شيء يمنع من رؤية المرئيات كما أن الجهل المانع من العلم بالشيء لا يجوز أن يقارنه العلم بحال. فإن قالوا فما المانع من رؤية هذه الأمور. قيل لهم: هو وجود ما يضاد إدراكها في أبصارنا ولو رفعه تعالى أدركناها. وهذا المانع هو الذي يمنع من رؤية الله تعالى في هذا الوقت. فإن قالوا فأجيزوا أن يخلق الله فيكم إدراك ذرة ويمنعكم من إدراك فيل إلى جنبها. قيل لهم: هذا جائز عندنا في قدرة الله تعالى. فإن قالوا فأجيزوا الساعة ذلك وشكوا في أن بحضرتكم فيلة وجمالا وأنهارا جارية وأنتم لا ترون ذلك وإن كنتم ترون ما هو أصغر منه. قيل لهم: لولا أننا مضطرون إلى العلم بأن ذلك ليس بموجود لأجزناه. وليس يجب أن نشك اليوم في أن الله تعالى قد فعل كل مقدور عنده كما لا يجب أن نشك في أنه قد خلق اليوم إنسانا لا من أبوين وفرسا لا من نتاج ونارا غير محرقة لشيء وتمرا لا من نخل ولبنا لا من ضرع وأنه قد أحيا الأموات بسائر الأقطار وعرج بنا البارحة إلى ملكوت السموات ثم ردنا إلى مضاجعنا وأنه قد أمات كل من فارقناه يوما أو ساعة من أقاربنا وأصدقائنا ألف مرة ثم أحياهم بعد ذلك وإن كان ذلك أجمع مقدورا لله تعالى. فبطل بذلك ما سألتم عنه.

باب القول في أن الله تعالى مريد لجميع المخلوقات

إن قال قائل: فلم قلتم إن الله تعالى مريد للطاعة والمعصية وسائر الحوادث؛ قيل له: لأن الله تعالى قال في كتابه { فعال لما يريد }. وقد قام الدليل على أنه فعال لسائر أفعال الخلق وجميع الحوادث فوجب أنه مريد لذلك أجمع. ولقوله تعالى: { ولو شاء الله ما فعلوه } وقوله { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } فأخبر أنه لو لم يرد منهم العصيان والتكذيب والخلاف لما كان ولا فعلوه وأنه لو شاء أن يؤمنوا جميعا لآمنوا. فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون إنما أراد أنه لو أراد ذلك على سبيل الإكراه والإلجاء لكان لا محالة. قيل لهم: لو جاز أن يريد الإيمان منهم طوعا فلا يكون ولا يلحقه عجز ولا تقصير عن بلوغ مراده لجاز أن يريده منهم على سبيل الإلجاء والإكراه ولا يكون ولا يلحقه عجز ولا تقصير عن بلوغ مراده. فإن قالوا لو لم يتم ما أراد منهم على سبيل الإلجاء لدل ذلك على عجزه عن فعل سبب يلجئهم به إلى الإيمان من ترهيب وإحضار نكال وغير ذلك والعجز غير جائز عليه. قيل لهم: ولو لم يتما ما أراده من إيمانهم طوعا واختيارا لدل ذلك على عجزه عن فعل لطف وسبب من الأسباب يختارون عند فعله الإيمان وذلك منتف عنه. فإن قالوا قد لا يكون في المعلوم شيء يؤمنون عنده فلا يلحق العجز بفقد القدرة عليه. قيل لهم: وقد لا يكون في المعلوم شيء يلتجئون عند فعله بهم إلى الإيمان به وإن يقطعوا إربا إربا وأنزل عليهم أعظم العذاب والنكال والآلام بأن يعلم أنهم لا يختارون عند شيء من ذلك فعل الإيمان. فلا يجب بنفي القدرة عليه إثبات عجز عنه. ولا جواب عن هذا. ومما يدل على أن الله تعالى مريد لجميع أفعال العباد أنه لو كان في سلطانه منها ما ليس بمريد لكونه للحقه العجز والتقصير عن بلوغ المراد. وكذلك لو أراد منها ما لم يكن كما أنه لو أراد من فعل نفسه ما لم يكن أو كان منه عندنا وعندهم ما لم يرده وهو مما يصح أن يكون مرادا لدل ذلك على عجزه وتقصيره وتعذر الأشياء عليه. فلا فرق في ذلك بين فعل نفسه وفعل خلقه الذي جعله لهم كسبا كما أنه لا فرق بين أن يكون من فعل نفسه ما لا يعلم ولا يكون منه ما علم أنه يكون وبين أن لا يكون من خلقه ما يعلم أنه يكون وبين أن يكون منهم ما علم أنه لا يكون في إيجابه لتجهيله تعالى عن ذلك. فإن قالوا فيجب إذا كان من خلقه ما لم يأمرهم به أن يدل ذلك على عجزه. قيل لهم: هذا ساقط باتفاق لأنه قد كانت أكثر أفعاله ولم يأمر بها أحدا من خلقه ولم يلحقه العجز. فكذلك حكم فعل خلقه له. ولأنه إذا لم يكن ما أمر بكونه وكان ما لم يأمر به وهو تعالى مريد لكون ما لم يأمر به وغير مريد لما أمرهم به لم يلحقه عجز ولا تقصير. لأن ذلك إنما يلحق من خولف في أمره إذا أراد ما أمر به وكره ما نهى عنه فسقط ما سألتم عنه.

مسألة

فإن قالوا: فكيف يكون آمرا بما لا يريده ويكون بذلك حكيما؛ قيل لهم: هذا مما قد ورد به القرآن واتفق عليه سلف الأمة. لأن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح إسماعيل عليهما السلام ولم يرد ذلك منه بل نهاه عنه بعد أمره به وفداه مما أمره بفعله من ذبحه. ولو كان قد فعل الذبح لم يكن لافتدائه معنى. ولو كان إنما أمره بالإضجاع وإمرار السكين فقط دون الذبح لم يكن ذلك امتحانا منه ولم يكن لقوله { إن هذا لهو البلاء المبين } معنى ولا كان لافتدائه من إضجاع قد وقع معنى. وكذلك لو ذبحه ثم التحم لم يكن للفداء معنى ولا لبلائه معنى. وكذلك لو كان قد منعه من ذبحه بقلب صفحة عنقه نحاسا على ما يقوله بعض جهالهم لكان عندهم بذلك سفيها ومكلفا للفعل مع العجز عنه والمنع منه وذلك عندهم باطل.

مسألة

فإن قالوا: وجدنا كل مريد للقبح والسفه سفيها عابثا، فلو كان الباري تعالى مريدا للسفه لكان عابثا سفيها؛ قيل لهم: لم قلتم هذا وما أنكرتم أن يكون مريد السفه منا سفيها إذا كان منهيا عن إرادة السفه والباري تعالى لا يجوز ذلك عليه ولهذا لم يكن الطفل والمجنون سفيهين بإرادتهما للسفه إذا لم يكونا عن فعل الإرادة لذلك منهيين. ثم يقال لهم: فيجب على اعتلالكم أن يكون بإرادته الطاعة والصلاح والتقى مطيعا صالحا تقيا لأننا وإياكم لم نجد مريدا للطاعة إلا طائعا. فإن مروا على ذلك تركوا دينهم وإن أبوه أبطلوا سؤالهم. وإن قالوا مريد الطاعة منا مطيع لأنه مأمور بفعل إرادة الطاعة والله يتعالى عن ذلك. قيل لهم: ومريد السفه منا سفيه لأنه منهي عن فعل إرادة السفه والله يتعالى عن ذلك.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى ذم الله للكافرين في قوله { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } الآية؛ قيل لهم: معنى ذلك أنهم قالوا ذلك على جهة الهزل والاستهزاء بالرسل والمؤمنين في قولهم { ولو شاء الله لهداكم } ولو شاء لآمنتم. فقالوا في جواب هذا مستهزئين { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } منكرين بذلك لما قاله الرسل والمؤمنون. وهذا جواب على حد ما تقولونه أنتم أبدا لنا لو شاء الله أن نؤمن لآمنا ولو قدر وقضى لنا الطاعة لأطعنا مستهزئين بذلك ومنكرين لقضاء الله وقدره ومشيئته. وعلى هذا النحو جاء قوله في إنكاره على المنافقين في قولهم للنبي لرسول الله حيث قال: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }. فأنكر الله ذلك عليهم لكونهم غير معتقدين لصحة ما قالوه. وكما أنكر على من قال: { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } لقولهم هذا على سبيل الاستهزاء والهزل بالرسل لما أخبروهم أن الله تعالى لو شاء أن يطعمهم لأطعمهم.

مسألة

فإن قالوا: كيف يجوز أن يريد الله الفواحش وقد ذم من أحب { أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا }؛ قيل لهم: الله عز وجل إنما ذم من وصف أهل الطهارة بما ليس فيهم وأحب كون ذلك حقا وصوابا. والله تعالى لم يرد أن يكون قذف المحصنات حقا وصوابا فلم يرد من ذلك ما أرادوا. ولأنهم أيضا قد نهوا عن إرادة ذلك. وإذا كان ذلك كذلك وكان النهي لله عن كونه مريدا محالا في صفته فبطل ما قالوه.

باب الكلام في الاستطاعة

فإن قال قائل: فهل تقولون إن الإنسان مستطيع لكسبه؛ قيل له: أجل. فإن قال: ولم قلتم ذلك؟ قلنا: لأن الإنسان يعرف من نفسه فرقا بين قيامه وقعوده وكلامه إذا كان واقعا بحسب اختياره وقصده وبين ما يضطر إليه مما لا قدرة له عليه من الزمانة والمرض والحركة من الفالج وغير ذلك. وليس يفترق الشيئان في ذلك لجنسهما ولا للعلم بهما ولا لاختلاف محلهما ولا للإرادة لأحدهما. فوجب أن يحصل مع كسبه على هذه الصفة لكونه قادرا عليه.

مسألة

فإن قال: فهل تزعمون أنه يستطيع أن يكتسب بنفسه أو بقدرة؛ قلنا: لا بل بقدرة تحدث له. والدليل على ذلك كونه قادرا على الحركة مرة وغير قادر عليها أخرى وعلى ما هو مثلها ومن جنسها مرة أخرى.

مسألة

فإن قال: فهل تزعمون أنه يستطيع الفعل قبل اكتسابه أو في حال اكتسابه؛ قلنا: لا بل في حالة اكتسابه ولا يجوز أن يقدر عليه قبل ذلك. فإن قال لم قلتم ذلك قيل له: لأمور. منها أن القدرة على الكسب عرض لا يصح أن يبقى. فلو وجد الفعل في ثاني حال حدوثها وهي معدومة في تلك الحال لكان قد وجد بقدرة معدومة قد كانت وفنيت. ولو جاز ذلك لجاز وقوع الإحراق بحرارة معدومة كانت وفنيت والبطش بيد معدومة وذلك أجمع محال باتفاق. ولأن الإنسان لو كان يستطيع أن يفعل الفعل قبل كونه لكان في حال اكتسابه له ومستغنيا عن ربه وغير محتاج إليه في أن يعينه على الفعل. ولو جاز أن يستغني عن معونة الله في حال الفعل لكان بالاستغناء عنه إذا لم يكن فاعلا أولى. وذلك محال باتفاق. فوجب أن الاستطاعة مع الفعل للفعل.

باب

فإن قال قائل: ولم قلتم إنه لا يجوز أن تبقى إلى حين وجود الفعل ولا شيء من الأعراض؛ قيل له: لأنه لو جاز بقاؤها لكانت إنما تبقى لنفسها أو لعلة. ولو بقيت لنفسها لبقيت في حال حدوثها وذلك محال. ولو بقيت لعلة لوجب أن تقوم بها العلل وذلك يوجب أن تكون جسما أو جوهرا ليس بعرض وذلك فاسد لما قدمناه من قبل.

مسألة

فإن قالوا: فإذا جاز أن يقدر القادر على الشيء في حال حدوثه ووجوده فأجيزوا أن يقدر في تلك الحال على ضده أو تركه؛ قيل لهم: لا يجب ما قلتموه لأن الدليل قد قام على أن القدرة الواحدة المحدثة لا يصح أن يقدر القادر بها على مقدورين لا مثلين ولا مختلفين غيرين ولا ضدين ولا خلافين ليسا بضدين. فلو صح أن يقدر القادر منا على الفعل قبل حال حدوثه لم يجب أيضا أن يكون قادرا على تركه.

مسألة

فإن قالوا: لو جاز أن يقدر القادر على الشيء في حال حدوثه وهو موجود في تلك الحال لصح أن يقدر عليه في الثاني والثالث من حال حدوثه مع اتصال وجوده وذلك محال باتفاق؛ يقال لهم: لو وجب ما قلتم لوجب إذا جاز أن يقدر القادر على الشيء قبل حال حدوثه بوقت ووقتين أن يقدر عليه قبل حال حدوثه بسنة وسنتين لأن معدوم في سائر هذه الأزمان ولجاز أن يقدر على الشيء بعد عدمه وتقضيه لأنه معدوم في تلك الحال كما جاز أن يقدر عليه قبل حال حدوثه لأنه معدوم في تلك الحال والعدم في سائر هذه الأحوال متساو غير متزايد. فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلتم. ويقال لهم: لو لزم ما قلتم للزم إذا كان الفاعل للشيء فاعلا له في حال حدوثه وهو موجود في تلك الحال أن يصح كونه فاعلا له في ثاني حال حدوثه وثالثها مع اتصال وجوده لأنه موجود في هذه الأحوال. فإن لم يجب هذا أجمع عندنا وعندكم لم يجب أيضا ما سألتم عنه.

مسألة

فإن قالوا: لو كانت القدرة مع الفعل في حالة واحدة لم يكن أحدهما بأن يكون قدرة على صاحبه أولى من الآخر؛ قيل لهم: لم قلتم ذلك. ثم يقال لهم: لو كان الجوهر موجودا مع الكون في حالة واحدة لم يكن أحدهما بأن يكون كونا لصاحبه أولى من الآخر. وكذلك لو كانت حركة اليد مع حركة الخاتم ودخول الحجر في القدح مع خروج الماء منه والإرادة مع المراد والعلم بالألم مع وجود الألم لم يكن السبب بأن يكون سببا أولى من أن يكون مسببا ولا كانت الإرادة بأن تكون إرادة أولى من أن تكون مرادا ولا كان العلم بالألم بأن يكون علما به أولى من المعلوم. فإن لم يجب ذلك عندنا وعندكم بطل ما قلتموه.

مسألة

فإن قالوا: متى استطاع أن يطلق المطلق زوجته ويعتق المعتق عبده استطاع ذلك في حال العتق والطلاق أم قبله؛ فإن قلتم إنه مستطيع لذلك في حال العتق والطلاق والمرأة ليست بزوجة في حال الطلاق والمعتق ليس بعبد في حال العتق فإنما استطاع أن يطلق من ليست بزوجة له ويعتق من ليس بعبد له. وإن قلتم إنه قدر على الطلاق والعتق قبل وجودهما أقررتم بما نقول. قيل لهم: المطلق والمعتق إنما يستطيع الطلاق والعتاق في حال وجودهما وقدر في تلك الحال على طلاق من ليست بزوجة له في حال الطلاق وقد كانت زوجة له قبل ذلك كما أنا وأنتم نقول إنما يطلق المطلق في حال وجود الطلاق من ليست زوجة له في تلك الحال وقد كانت زوجة له قبل ذلك. وهذا هو الجواب عن سؤالهم عن القدرة على إلقاء العصا وكسر الكوز والانتقال من الظل إلى الشمس وكل ما يوردونه من هذا الجنس. ثم يقلب هذا السؤال عليهم فيقال لهم: متى طلق المطلق زوجته وأعتق المعتق عبده أطلقها في حال وجود الطلاق أم قبل ذلك. فإن قالوا طلقها قبل وجود الطلاق خلطوا وصاروا إلى أن المرأة تطلق قبل وجود طلاقها. وإن قالوا إنما طلق في حال وجود الطلاق منه. قيل لهم: فإذا كانت المرأة عندنا وعندكم في تلك الحال ليست بزوجة فإنما طلق من ليست بزوجة له. وكل جواب تعاطوه فهو جوابنا عما سألوا عنه.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } و { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها }؛ قيل لهم: المراد بذلك والله أعلم أنه لم يكلف أحدا من نفقات الزوجات إلا ما وجد وتمكن منه دون ما لا تناله يده. ولم يرد به إثبات الاستطاعة قبل الفعل.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله عز وجل: { وعلى الذين يطيقونه فدية }؛ قيل لهم: معنى ذلك على الذين يطيقون الصيام إن أرادوه وتكلفوه وعدلوا عن الإفطار. والآية منسوخ حكمها على هذا التأويل. ويمكن أن يكون المراد وعلى الذين يطيقون الإطعام ولا يقدرون على الصيام فدية إذا أفطروا. وقد قرىء { وعلى الذين يطوقونه فدية } يعني يؤمرون به ويكلفونه ولم يعرض على هذه القراءة لذكر القدرة والطاقة.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }؛ قيل لهم: معناه أن الله أوجب الحج على كل من وجد زادا وراحلة. وقد سئل رسول الله هذه الاستطاعة فقال « زاد وراحلة ». ونحن لا ننكر تقدم الأجسام للفعل. وكذلك تأويل قوله { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم }. وذم تعالى القاعدين عن الجهاد والحالفين أنهم غير مستطيعين إنما ينصرف إلى الاستطاعة التي هي الظهر والمال دون استطاعة الأبدان.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين }؛ قيل لهم: أراد هذا العفريت أنه قوي عليه في حال حمله إن قواه الله على حسب ما جرت به عادته كما يقول القائل أنا أقدر أن آتيك وأخاطبك في آخر اليوم وآخر الشهر على تأويل إن أقدرني الله على ذلك وعلى أنه يقدر في غالب الأحوال. فإن لم يكن العفريت عني ذلك فقد كذب وافترى في دعواه بقدم قدرته والغنى عن ربه. ولعل سليمان صلى الله عليه قد أنكر عليه وأدبه. فلا حجة في دعوى العفاريت.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }؛ قيل لهم: معناه ما كنتم مستطيعين للفعل أو لتركه غير مؤوفين ولا عاجزين.

مسألة

فإن قالوا: فما معنى قوله { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا }؛ قيل لهم: معناه أن من لم يستطع الصيام لعجز أو آفة فعليه الإطعام دون من لم يستطعه لإيثار تركه.

مسألة

فإن قالوا: فإذا قلتم إن القادر منا على الفعل لا يقدر عليه إلا في حال حدوثه ولا يقدر على تركه وفعل ضده لزمكم أن يكون في حكم المطبوع المضطر إلى الفعل؛ قيل لهم: لا يجب ما قلتم لأنه ليس ها هنا مطبوع على كون شيء أو تولد عنه. وأما المضطر إلى الشيء فهو المكره المحمول على الشيء الذي يوجد به شاء أم أبى. والقادر على الفعل يؤثره ويهواه ولا يستنزل عنه برغبة ولا رهبة. فلم يجز أن يكون مضطرا مع كونه مؤثرا مختارا. ولو كان الأمر على ما وصفتموه لوجب أن يكون الفاعل للشيء مضطرا إليه في حاله لأنه في تلك الحال غير قادر عندنا وعندكم على تركه. فبطل ما سألتم عنه.

مسألة

فإن قال قائل: فجميع الذين لم يفعلوا ما أمروا به غير قادرين على ذلك. قيل له: أجل هم غير قادرين عليه لتركهم له لا لعجزهم عنه.

مسألة

فإن قال قائل: أتزعمون أن الله يكلف عباده ما لا يطيقون؛ قيل له: هذا كلام على أمرين. فإن أردت بعدم الطاقة عدم القدرة على الفعل فذلك جائز. وإن أردت بعدم الطاقة وجود ضدها من العجز فلا يجوز ذلك. لأن العجز يخرج عن الشيء وضده ولا وجه لتكليف من هذا سبيله. وعدم القدرة على الشيء لا يوجب ذلك.

مسألة

فإن قال قائل: تقولون إن الله يكلف عباده ما لا يطيقون حسب ما ذكرتم، فما الدليل على جواز هذا التكليف وحسنه من القديم؛ قيل له: قوله تعالى: { وكانوا لا يستطيعون سمعا }. والسمع ها هنا القبول باتفاق لأن الكفار قد كانوا يسمعون ما يؤمرون به وينهون عنه ويدركون دعوة الرسل. وهو محمول على تأويل قولهم فلان لا يسمع ما يقال له ولا يسمع مما نقوله شيئا أي لا يقبل ذلك. وليس يريدون أنه لا يدرك الأصوات. ويدل على ذلك أيضا قوله { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم }. وقد أمر الله بالعدل بينهن وأوجبه مع إخباره أنا لا نستطيع ذلك. ويدل على صحة ذلك من القديم وأنه عدل وحكمة إخباره عمن أحسن الثناء عليه والمدح له أنهم رغبوا إليه في أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به. فقال إخبارا عنهم { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به }. فلو كان تكليف ما لا يطاق ظلما وعبثا وقبيحا من الله تعالى لكانوا قد رغبوا إليه في أن لا يظلمهم ولا يسفه عليهم ولا يوجب من الأوامر ما يخرج به عن حد الحكمة. والله أجل من أن يثني على قوم أجازوا ذلك عليه. فدل هذا أيضا على ما وصفناه.

باب

فإن قال قائل: وهل يحسن مثل هذا التكليف منا أو يسوغ لنا؛ قيل له: أجل لأنا قد نكلف القاعد القيام والتصرف في حال قعوده وهو لا يقدر في تلك الحال على ما نكلفه لما قد أوضحناه من الدليل فوجب صحة ذلك من فعلنا.

باب الكلام في إبطال التولد

قال أبو بكر: فإن قال قائل: خبرونا عن الألم الموجود عند الضرب والكسر الحادث عند الزج وذهاب الحجر الموجود عند الدفعة والألم واللذة الحادثين عند الحكة وغير ذلك من الحوادث الموجودة عند وجود حوادث أخر، هل هي عندكم كسب للضارب الدافع على سبيل التولد أم مخترعة لله وغير كسب لأحد من الخلق؛ قيل له: بل هي عندنا مما ينفرد الله تعالى بخلقها وليست بكسب للعباد. فإن قال ولم أنكرتم أن تكون من أفعال العباد وواقعة منهم على سبيل التولد عن الأسباب التي يكتسبونها في أنفسهم من الحركات والاعتمادات. قيل له: أنكرنا ذلك لأجل أنه لو كانت هذه الحوادث اكتسابا للعبد لم تخل من أن يكون فاعلها من الخلق قادرا عليها أو غير قادر عليها. فإن كان غير قادر عليها صح وقوع جميع أفعاله منه وهو غير قادر عليها. لأنه ليس بعض الأفعال بالغنى عن كون فاعلها قادرا عليه بأولى من غنى سائرها عن ذلك. كما أنه لو جاز وأمكن وقوع بعض الأفعال لا من فاعل لجاز ذلك في جميعها ولم يكن بعضها بالغنى عن فاعل أولى من بعض. وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يكون فاعل هذه الأمور من الخلق غير قادر عليها. وإن كان الفاعل لها قادرا عليها فلا يخلو أن يكون قدر عليها في حال وجودها أو في حال وجود أسبابها التي تقدمتها. فإن كان قادرا عليها في حال وجودها فلا يخلو أن يكون قدر عليها بالقدرة على سبيها المتقدم على وجود المسبب أو بقدرة توجد معها في حالها. فإن كان قادرا عليها بالقدرة على سبيها وقد تكون مخالفة لأسبابها فسد ذلك من وجهين. أحدهما ما ذكرنا وبيناه قبل هذا الباب من استحالة تقدم القدرة على الفعل ووجودها مع عدمه وكونها قدرة على ما يوجد بعد وجودها. والوجه الآخر ما ذكرنا أيضا سالفا من استحالة تعلق القدرة المحدثة بمقدورين مثلين أو ضدين أو خلافين ليسا بضدين. وإذا فسد ذلك بما شرحناه استحال أن تكون هذه الحوادث مقدورة للعبد بالقدرة على ما هو عند القوم سبب لهما. وإن كان العبد قادرا على هذه الحوادث بقدرة تقارنها وتوجد معها وتكون قدرة عليها كالقدرة على المباشرة من الأفعال بطل ذلك من وجوه على قولنا وقولهم. فأما وجه بطلانه على قولنا فهو أنه لو صح أن يقدر منا على هذه الحوادث بقدرة توجد معها لم يحتج مع وجود تلك القدرة عليها إلى وجود سبب لها تتولد عنه ولصح أن يفعلها بالقدرة مع عدم الأسباب كما لا يحتاج في كونه مكتسبا للمقدورات المباشرات من مقدوراته في نفسه إلى وجود أسباب لها تتولد عنها. لأنه لا دليل يلجىء إلى ذلك ويوجبه مع وجود القدرة عليها كما أنه لا دليل يوجب أن لا يفعل العبد المباشرات من مقدوراته في نفسه إلا بأسباب تتولد عنها وكما أنه لا دليل أيضا يوجب أن لا يفعل القديم ما قدر عليه إلا بأسباب تولده وتوجبه. وهذا يبطل كونها متولدة ويدخلها في معنى المباشرة من الأفعال. والوجه الآخر أنه لو كان الفاعل لهذه الأسباب قادرا عليها بقدرة تقارنها لصح أيضا أن يقدر على أضدادها بدلا من القدرة عليها بقدرة تقارنها. فكان يجب أن تصح قدرة العبد على تسكين الحجر والسهم وحبسهما متى لم يكن قادرا على تحريكهما وأن لا يصح خلوه من فعل الحركة والسكون في جسم غيره إذا لم يكن ميتا ولا عاجزا. لأن من صحت قدرته على الشيء وقدرته على ضده لم ينفك من القدرتين جميعا على الضدين إلا بالعجز عنهما أو بالموت المخرج للميت عن صحة كونه قادرا على شيء أصلا. وفي العلم بأن العبد قد يخلو من القدرة على تحريك جسم غيره وتسكينه مع كونه حيا سليما غير عاجز ولا مؤوف دلالة على فساد هذا القول. وعلى أنه لو صح أن يقدر العبد على تحريك ما قرب منه من الأجسام وعلى تسكينه بغير سبب لصح أن يقدر على تحريك الجسم وتسكينه بغير سبب إذا كان هو بمدينة السلام والجسم بأقصى تخوم خراسان. ولو صحت قدرته على ذلك لصحت قدرته على ذلك في سائر الأجسام ولم يكن بعضها أولى من بعض. وفي فساد ذلك دليل على سقوط هذا القول وأما ما يدل على فساد ذلك على قولهم فهو أنه إذا قدر على المتولد بقدرة توجد معه صحت القدرة على الموجود في حال وجوده وذلك باطل عندهم وخرجت هذه الحوادث أيضا عن أن تكون متولدة ولحقت بالمباشرة من الأفعال إذا لم يكن ها هنا دليل يلجىء إلى حاجتها إلى الأسباب مع وجود القدرة عليها. وكما أنه لا تحتاج عندهم في حال وجودها إلى قدرة عليها فكذلك لا تحتاج إلى سبب يولدها. ولو لم تحتج إلى الأسباب لصح أن أحرك الجسم وإن لم أفعل سببا لتحريكه ولوجب أن أسكنه إذا لم أحركه وذلك باطل. وإذا كان ذلك كذلك فقد فسد كون القادر منا قادرا على هذه الحوادث بقدرة توجد معها أو قبلها. فإذا فسد ذلك بطل أن تكون أفعالا للعبد إذا كان لا بد من كونه قادرا على ما هو فعل له. وهذا يبطل ما قالوه بطلانا ظاهرا. ثم يقال لهم: ما الدليل على أن هذه الحوادث أفعال للعباد. فإن قالوا الدليل على ذلك أنا نجدها واقعة عند وجود هذه الأسباب وبمقدار قصد العبد إليها وبحسب قدرته عليها وكونها تابعة في الوجود لأسبابها. لأن الإنسان إذا أراد اليسير من إيلام غيره وحركته دفعا يسيرا وضربه ضربا رفيقا. وإذا أراد الكثير من إيلامه وتحريكه ضربة الضرب الشديد فكان عند ذلك الألم الكثير. وإذا قصد إلى ذهاب الحجر في جهة منه دفعه في تلك ولم يدفعه في غيرها. وكل هذا يدل على أن هذه الحوادث فعل للعبد الفاعل لما يكون عنده من هذه الأمور. يقال لهم: لم قلتم ذلك وما دليلكم عليه ففي نفس هذا خالفناكم فلا تجدون فيه متعلقا سوى الدعوى. ثم يقال لهم: فيجب على موضوع اعتلالكم لو أجرى الله العادة بفعل سكون الحبل وحبس الحجر في مكانهما عند مباينة يد الإنسان لهما وترك اعتماده عليهما وفعل تحريكهما وخروجهما عن المكان عند مماسة يد الإنسان لهما واعتماده عليهما حتى يحبس الحجر في مكانه ويسكنه كلما فارقه العبد وباينه ويخرجه عن المكان ويفعل ذهابه كلما ماسه واعتمد عليه وقصد حبسه في المكان أن يكون ذهاب الحجر عن المكان وحركته متولدا عن مباينة يده له وترك اعتماده عليه وذهابه وخروجه عن المكان متولدا عن مماسة يده له واعتماده عليه في جهة المكان وقصده إلى حبسه فيه إذا فعل الله ذلك أبدا على وتيرة واحدة وأجرى به العادة لأن ذلك مقدور عندنا وعندكم. وكذلك لو أجرى العادة بأن يفعل الألم الشديد العظيم عند الضرب اليسير ولا يفعل الألم العظيم الكثير عند شديد الضرب بل يفعل ما ينافيه من اللذات لوجب أن يكون يسير الضرب مولدا لعظيم الألم وشديده مولدا ليسيره. ولو أجرى العادة بأن يفعل اجتماع أجزاء الكون ومجاورتها عند الزجة وتفرق أبعاضه ومباينتها عند إمساكه الرفيق في اليد وحبسه لوجب أن يكون الكسر متولدا عن حبسه في اليد والصحة والاجتماع والمجاورة متولدا عن دفعه وزجه إذا أجرى العادة بأن يجعل ذلك على وتيرة واحدة. فإن مروا على هذا تجاهلوا وتركوا قولهم وإن أبوه وقالوا لو أجرى العادة بفعل ذلك لم تكن هذه الأسباب مولدة لما سألتم عنه أبطلوا دليلهم إبطالا ظاهرا. وإن قالوا هذا مما لا يجوز أن يفعله الله لأن فيه لو فعله إفسادا للأدلة. قيل لهم: هذا جهل عظيم منكم لأنه لو كان ما ذكرتموه دليلا عقليا صحيحا لم يجز فساده بفعل من الأفعال يخرج إلى الوجود كما أنه لا يجوز إفساد دلالة تعاقب الأعراض على الأجسام على حدوثها بفعل يخرج إلى الوجود. وكل ما جوزنا فساده يوما ما من الأدلة العقلية خرج عن أن يكون دليلا. ثم يقال لهم: ويجب على اعتلالكم هذا أن يكون حدوث الموت عند ضرب العنق واللذة عند الحكة واللون عند الضرب والبياض والصلابة في الدبس عند سوطه والصحة عند الشد والجبر وحدوث النماء عند السقي والتسميد فعلا لضارب العنق وفاعل الحكة وسائط الدبس ومسقي الزرع ومسمده. وكذلك الشبع والري والإسكار يجب أن يكون فعلا للآكل والشارب. فإن مروا على هذا أجمع تركوا قولهم لأنه ليس منهم من يجمع بين جميع هذه الأقاويل. وإن أبوه أو شيئا منه نقضوا اعتلالهم نقضا ظاهرا. وبالله التوفيق.

باب الكلام في خلق الأفعال

إن قال قائل: لم قلتم إن الباري عز وجل خالق لجميع أفعال العباد؛ قيل له: الدليل على ذلك من جهة العقول أنه تعالى قادر على جميع الأجناس التي يكتسبها العباد. فإذا ثبت من قولنا جميعا أنه قادر على فعل مثل ما يكتسبه العباد على الوجه الذي يوجد عليه كسبهم وجب أنه قادر على نفس كسبهم. لأنه لو لم يقدر عليه مع قدرته على مثله لوجب عجزه عنه واستحالة قدرته على مثله. فثبت بذلك أن أفعال الخلق مقدورة له فإذا وجدت كانت أفعالا له. لأن القادر على الفعل إنما يكون فاعلا له إذا حصل مقدوره موجودا وليس يحصل المقدور مفعولا إلا لخروجه إلى الوجود فقط. فدل ما قلناه على خلق الأفعال. ومما يدل أيضا على خلق أعمال العباد علمنا بوقوعها على أحكام وأوصاف وحقائق لا يعلمها العباد من نحو كونها أعراضا وأجناسا مختلفة وأدلة على ما هي أدلة عليه وموجودة على صفة دون صفة مع العلم بجحد كثير منهم للأعراض وإنكار الأدلة عليها والجهل بحقائق ما وقعت عليه الأفعال والصفات التي هي عليها. وليس يجوز أن يخلقها على الحقائق والأحكام والأوصاف التي قدمنا ذكرها الساهي عنها والجاهل بحقائقها ومن ليس بقاصد إلى إيجادها. لأن ذلك لو جاز لجاز وقوع جميع المخلوقات من فاعل هذه سبيله ولاستغنى جميعها عن أن يكون فاعلها عالما قاصدا كما أنه لو جاز وقوع بعضها من غير فاعل لجاز ذلك في جميعها. وهذا يوجب بطلان دلالة شيء من الخلق على علم فاعله وقصده تعالى عن ذلك فثبت أن الخالق لضروب الأفعال هو الله العالم بحقائقها والقاصد إلى إيجادها. ومما يدل على ذلك أيضا من القرآن قوله تعالى: { والله خلقكم وما تعملون }. فأخبر أنه خالق لنفس عملنا كما قال: { جزاء بما كانوا يعملون } فأوقع الجزاء على نفس أعمالهم. فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون أراد أنه خلق الأصنام التي عملوا فيها. قيل لهم: الأصنام أجسام والأجسام لا يجوز أن تكون أعمالا للعباد على الحقيقة. فإن قالوا أليس قد قال تعالى: { تلقف ما يأفكون } وهي لم تلقف إفكهم. قيل لهم: أجل لأن الله تعالى ما ذكر إفكهم بل ذكر مأفوكهم لأن ما يأفكون هو المأفوك كما أن ما يأكلون ويشربون ويضربون هو المأكول والمشروب والمضروب. وكذلك قوله { أتعبدون ما تنحتون } لم يعرض تعالى فيه لذكر النحت وإنما ذكر المنحوت لأن ما ينحتون هو منحوتهم لا نحتهم. فبطل تعلقهم وتعليلهم. ويدل على ذلك أيضا من القرآن قوله عز وجل: { وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين }. والتقدير منه هو خلق الشيء وجعله على مقدار ما وإيقاعه بحسب قصده وإرادته. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم }. يريد تعالى باختلاف الألسن عند كافة أهل التأويل اختلاف اللغات والكلام بالألسن ولم يرد اختلاف مقاديرها لأنه يبطل معنى تخصيص اختلاف الألسن بكونه آية له فلما كان كلامنا المختلف من آياته وجب أن يكون خلقا له تعالى. ويدل ذلك أيضا على قوله تعالى: { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }. يقول تعالى كيف لا أعلم ما تسرونه وتخفونه من القول وأنا الخالق له لأن خلقه لموضع القول لا يدل عندنا وعندهم على العلم بما فعل فيه كما لا يدل عندهم بناء الدار وعمل الطوب على علم فاعله بما أودعه غيره وجعله فيه. والله تعالى جعل كونه خالقا دليلا على علمه فيجب أن يكون إنما عنى خلقه نفس القول دون خلقه مكانه وموضعه. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض }. ففي أن يكون خالقا غيره كما نفى إلها غيره في قوله { من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه }. فإن قالوا إنما نفى خالقا غيره يرزق من السماء والأرض. قيل لهم: وكذلك إنما نفى إلها غيره يأتي بليل تسكنون فيه. فإن مروا على هذا فارقوا الدين وإن أبوه أبينا تأويلهم. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون }. وقد عبدت الإنس الملائكة وقد نفى الله تعالى أن يكونوا خالقين لشيء على وجه. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم }. فحكم تعالى بشرك من ادعى أنه يخلق كخلقه ومن أثبت ذلك لأحد من خلقه. فلو كان العباد يخلقون كلامهم وحركاتهم وسكونهم إرادتهم وعلومهم وهذه الأجناس أجمع كخلقه ومن جنس ما يوجده لكانوا قد خلقوا كخلقه وصنعوا كصنعه ولتشابه على الخلق خلقه وخلقهم تعالى عن ذلك.

ذكر شبه لهم ونقضها

قد قالوا: لو كانت أفعالنا خلقا لله لكانت مقدورة لنا وله، ولو كان ذلك كذلك لجاز أن نفعلها ويتركها هو أو نتركها ويفعلها فيكون الشيء الواحد مفعولا متروكا؛ قيل لهم: هذا باطل لأن الإنسان لا يقدر على الفعل إلا في حال وجوده فلا يجوز أن يتركه في حال قد وجد فيها. ولا يجوز أيضا أن يتركه الله في تلك الحال لأنه هو الموجد لعينه دون العبد الذي يكسبه فلو تركه لم يكن موجودا. فإن قالوا الدليل على أن أفعالنا خلق لنا كونها واقعة بحسب قصودنا وإرادتنا وامتناعنا منها إذا شئنا. قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون الله هو الخالق لها والخالق لقصودكم إليها وهو التارك لخلقها في حال انصرافكم عنها وإعراضكم عن القصد إلى اكتسابها فلا يجدون في ذلك متعلقا. فإن قالوا الدليل على أنه لا يجوز أن تكون أفعالنا خلقا لله تعالى أنه لو كان هو الخالق لها لم يصح أمره بها ونهيه عن بعضها وإثابته على الحسن الجميل منها وعقابه على القبيح من جملتها. قيل لهم: لم قلتم ذلك فلا يجدون في ذلك وجها. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن لا يكون الله تعالى آمرا لأحد من خلقه بخلق شيء من الأفعال ولا ناهيا له عن ذلك ولا مثيبا لأحد على أن خلق شيئا ولا معاقبا له على ذلك لأن الخلق مستحيل من العبد وأن يكون إنما أمر باكتساب ما خلقه ونهى عن ذلك وأثاب وعاقب وذم ومدح ووعد وتوعد على أن اكتسب العبد ما نهى عنه وأمر به فقط بل ما أنكرتم أن يكون إنما جعل هذه الأفعال علما على إثابة من أحب إثابته وعقاب من أحب عقابه فقط. فإن قالوا لا نعقل معنى قولكم اكتسب الفعل حتى نعقل الأمر به والنهي عنه. قيل لهم: معنى الكسب أنه تصرف في الفعل بقدرة تقارنه في محله فتجعله بخلاف صفة الضرورة من حركة الفالج وغيرها. وكل ذي حس سليم يفرق بين حركة يده على طريق الاختيار وبين حركة الارتعاش من الفالج وبين اختيار المشي والإقبال والإدبار وبين الجر والسحب والدفع. وهذه الصفة المعقولة للفعل حسا هي معنى كونه كسبا. فلا معنى لدعواكم أن ما نقوله غير معقول. فإن قالوا الدليل على أن الله غير خالق لأفعال العباد أن منها الظلم والجور والفساد. فلو كان خالقا لها لكان بخلق الظلم والجور والسفه ظالما جائرا سفيها. فلما لم يجز ذلك صح ما قلناه. يقال لهم: لم قلتم إن هذا واجب وما دليلكم عليه. فإن قالوا لأن فاعل الظلم منا ظالم وفاعل الجوز منا جائر. قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون فاعل الظلم والجور منا ظالما جائرا لأنه منهي عنه وفاعل له في نفسه ولنفسه والقديم تعالى يخلق الظلم والجور والسفه جورا وظلما وسفها لغيره لا لنفسه ولا في نفسه. وهو تعالى غير مأخوذ بذلك ولا مطالب بتركه ولا مخالف بفعله أمر من يلزمه طاعته والانقياد له. فبطل ما قلتم. ثم يقال لهم: إن وجب أن يكون الباري بفعل الظلم ظالما قياسا على الشاهد وجب أن يكون بفعل الإرادة لغيره مريدا وبفعل فساد الزرع ودم الحيض الذي هو أدى كما أخبرنا مريدا مؤذيا مفسدا لأن فاعل الإرادة والأذى والفساد منا مفسد مؤذ مريد. فإن مروا على ذلك فارقوا الدين وإن أبوه لعله ما تركوا التعلق بالوجود. ويقال لهم: فيجب على اعتلالكم أن يكون الباري سبحانه بخلقه حركة غيره وموته وحياته وعلمه وجهله وصحته وسقمه وجنونه وهوسه ولونه وضرورته متحركا متلونا وحيا وميتا ومضطرا وصحيحا وسقيما. فإن مروا على ذلك فارقوا الدين وإن أبوه تركوا اعتلالهم. ويقال لهم: قولنا ظالم وجائر إنما أخذ في اللغة من جار وظلم ولم يؤخذ من فعل الجور والظلم. كما أن قولنا ضارب ومتلون ومتحرك إنما أخذ من قولنا تحرك وضرب وتلون لا من خلق الحركة والضرب واللون وفعل ذلك. فكما جاز أن يخلق الحركة واللون والضرب من ليس بضارب متلون متحرك جاز أيضا أن يخلق الظلم والجور من ليس بظالم ولا جائر. ولا جواب عن ذلك.

باب ذكر آيات من القرآن يحتج بها القدرية في أن العباد يخلقون أفعالهم

وإن استدلوا بقوله تعالى: { وتخلقون إفكا } فالجواب عنه أنه تعالى عنى إنكم تختلقون كذبا أي تتخرصون وتكذبون كذبا. فالخلق يكون بمعنى الكذب والاختلاق. ومنه قوله تعالى: { إن هذا إلا اختلاق } و { إن هذا إلا خلق الأولين } يعنون كذبهم. وقولهم هذا حديث مخلوق يريدون به هذا المعنى. وإن استدلوا بقوله عز وجل: { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني }. فالمراد بذلك إنك تقدر بقلبك وتصور بيدك. والخلق يكون بمعنى تقدير القلب وفكرته ويكون معناه تصوير اليد وحركاتها واعتماداتها التي يخلق عنده أشكال ما ماسته اليد وباشرته. ونحن لا ننكر أن يكون عيسى عليه السلام مفكرا بقلبه ومحركا ليده وجوارحه حركات وفكرا يخلق الله عنده اجتماع المصدورات من الأجسام. قال الشاعر زهير:

ولأنت تفري ما خلقت ** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

يعني تمضي ما قدرت ومنهم من يقدر ثم لا يمضي. وقال آخر:

ولا ينيط بأيدي الخالقين ولا ** أيدي الخوالق إلا جيد الأدم

يريد أيدي المقدرين للأدم بأيديهم وقلوبهم. وإن استدلوا بقوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } فالجواب عنه أنه تعالى عنى وهو أعلم أحسن المقدرين تقديرا وأحسن المصورين تصويرا. يقول إن تصويره ألطف وأحسن من تصويرهم وإن تقديره التي هي إرادته وقصده أصوب من تقديرهم وارتيائهم. ويحتمل أن يكون الله تعالى لما ذكر نفسه مع غيره الذي ليس بخالق سماهم باسمه مجازا واتساعا. كما قالوا عدل العمرين يعنون أبا بكر وعمر. وكما قالوا الأسودان يعنون الماء والتمر. وكما قال الشاعر:

أخذنا بآفاق السماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع

يعني الشمس والقمر. فكذلك قوله الخالقين والخالق منهم واحد. فإن قالوا الألف الذي في قوله أحسن ألف مبالغة لا يدخل في مثل هذا الكلام إلا للاشتراك وإيقاع التفاضل في الوصف. قيل لهم: الأصل في هذه الألف كما زعمتم. إلا أنها قد تجيء للإفراد بالوصف وتكذيب دعوى من ادعى مشاركة ما ليس له الوصف لما هو له نحو قوله تعالى: { الله خير أما يشركون } على وجه التكذيب لدعواهم الخير فيما يشركون به وقول حسان بن ثابت:

أتهجوه وليست له بند ** فشركما لخيركما الفداء

يعني إن كان في هجاء النبي على ما ادعاه. وكذلك قول الفرزدق:

إن الذي رفع السماء بنى لنا ** بيتا دعائمه أعز وأطول

يريد إن كان بيت جرير عزيزا طويلا على ما يدعيه. وكذلك قوله تعالى: { وهو أهون عليه } يعني عندكم وفي اعتقادكم وظنونكم أن ابتداء الشيء على كل فاعل أهون عليه من إعادته. فكذلك قال: { وله المثل الأعلى } فكذلك لما علم الله أن قوما ادعوا مع الله خلقا غيره منكم وممن سلف من إخوانكم قال: { فتبارك الله أحسن الخالقين } الذي ادعى المبطلون أنهم يخلقون فسقط ما توهموه. فإن قالوا أفليس قد قال الله تعالى: { الذي أحسن كل شيء خلقه } فكيف يكون القبيح من خلقه وليس بحسن. قيل لهم: ليس أحسن من معنى حسن بسبيل وإنما معنى أحسن أنه يحسن ويعلم كيف يخلق كما يقال فلان يحسن الظلم ويحسن السفه ويحسن فعل الخير والجميل أي يعلم كيف يفعل ويعرفه. وليس معنى قولهم يحسن القبيح والسفه أنه يجعل ذلك حسنا فبطل ما قلتم. فإن قالوا أفليس قد قال الله عز وجل: { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا } وقال: { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق }. والباطل من أفعال العباد ليس بحق. قيل لهم: معنى ذلك أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما وهو لا يريد إثابة المتقين الطائعين ولا مجاراة المسيئين المذنبين والكافرين على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب. فلذلك قال تعالى: { ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } يعني من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب وقوله { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } يعني أنه ما خلق ذلك إلا بقوله وكلامه الذي هو الحق. ويمكن أن يكون عنى إني ما خلقتهما ظالما لخلقهما ولا تجاوزت بفعلهما أمر آمر ولا زجر زاجر. ويحتمل أن يكون عني إني ما خلقتهما وكلفت أهلهما إلا وأنا مريد لإثابة الطائعين وعقوبة العاصين.

مسألة

فإن قالوا أفليس قد قال الله { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } فيكف يجوز أن يكون خالقا للكفر والقبائح وهي أفعال فاسدة متفاوتة. يقال لهم: إن الله تعالى خبر أنه لا يرى في خلق السموات من تفاوت لأنه قال: { خلق سبع سموات طباقا } يعني بعضها فوق بعض { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } يعني السموات والأرض ثم قال: { فارجع البصر } يعني في السماء { هل ترى من فطور } يعني من صدوع وشقوق يريد الإخبار عن إتقان فعلها وعجيب صنعها. والكفر لا فطور فيه ولا شقوق. ولولا الجهل ما تعلقوا بمثل هذا التأويل.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قول الله تعالى: { أن الله بريء من المشركين } وتبرئة من شركهم قيل لهم: إن الله تعالى لم يعرض في هذه الآية لذكر الشرك بتول له ولا تبرو منه. وإنما قال: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } إلى قوله { أن الله بريء من المشركين ورسوله } يعني من العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين رسوله قال: { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام }. فيجب على تأويلهم ألا يكون قد برىء من شرك الذين عاهدوا منهم وهذا جهل من قائله. ويقال لهم: فيجب على تأويلكم أن تكون براءة الرسول منهم براءة من خلق فعلهم وهذا جهل لا يقوله أحد. فدل ذلك على أن التأويل ما ذكرناه. ثم يقال لهم: فيجب أن يدل قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } على أنه متول لخلق برهم وإيمانهم. فإن مروا على هذا تركوا دينهم وقالوا بالحق وإن أبوا هذا التأويل أبطلوا استدلالهم وتعلقهم.

مسألة

وإن قالوا فما معنى قوله { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من ا لكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله }. قيل لهم: معنى ذلك أنهم كذبوا التوراة وحرفوها وكتموا صفة النبي وآله والبشارة به وادعوا أن الله تبارك وتعالى كذلك أنزل التوراة وتعبدهم أن يقولوه. فأنكر الله ذلك وقال: { وما هو من عند الله أي لم أنزل التوراة كذلك ولا تعبدتهم بالإخبار بما أخبروا به. ولم تكن المناظرة في خلق الأفعال فيكون للجهال في ذلك متعلق.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قوله { فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان } فكيف لم يقل هذا من عمل الرحمن. قيل لهم: لا خلاف بين الأمة أن وكز موسى القبطي ليس من عمل الشيطان وخلقه فلا تعلق لكم في الظاهر. وإنما أراد عليه السلام أنه من جنس الشر الذي يفعله الشيطان وأنه من دين الشيطان ومما يأمر به ويدعو إليه وأنه ليس من دين الرحمن ولا مما تعبد به ودعا إليه وضمن الثواب عليه. ولم يرد إخراج الباري عز وجل عن الخلق وإثبات شريك له فيه من شيطان أو غيره. لأن هذا شرك من قائله وهو نبي يجل عن هذه الصفة وهذا هو معنى قول أبي بكر الصديق وابن مسعود وغيرهما من الصحابة وإن يكن خطأ فمن الشيطان.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قوله { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }. قيل لهم: معنى ذلك إلا ليطيعه من في المعلوم أنه يطيع وينقاد دون من علم أنه لا يطيع ولا ينقاد. ويمكن أن يكون التأويل في ذلك إلا ليأمر بطاعته والانقياد له فيكون معنى إلا ليطاع إلا ليأمر بطاعته جميع المكلفين لا لتقع الطاعة من جميعهم.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }. قيل لهم: أراد بعض الجن والإنس وهم الذين علم أنهم يعبدونه. لأنه قال تعالى في آية أخرى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } أي إنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس. فإن قالوا معنى ذلك إنا سنذرأ. قيل لهم: وقوله { إلا ليطاع بإذن الله } يعني في الآخرة وقوله { ليعبدون } يعني في المعاد. وإن عبادته والاعتراف به والتصديق له يقع في الآخرة اضطرارا وإن كان من جنس الطاعة إذا وقع اختيارا. ويمكن أيضا أن يكون المراد بقوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي ما خلقتهم إلا لآمرهم بعبادتي. ويكون المقصود بالأمر بالعبادة من بلغ حد التكليف من عقلاء الجن والإنس دون غيرهم. فسمى الأمر بالعبادة عبادة لما بينهما من التعلق. وهذا أيضا ليس ببعيد في التأويل.

مسألة

وإن سألوا فقالوا ما معنى قوله { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }. قيل لهم: معنى ذلك أن قوما من أصحاب ثمود آمنوا فاهتدوا ثم ارتدوا عن الإيمان وكفروا واستحبوا العمى على الهدى. ويمكن أن يكون أراد أنه هدى فريقا من ثمود فاستحب فريق منهم آخر العمى على الهدى. لأن الله تعالى أخبر أنهم فريقان فقال عز من قائل { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون }.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قوله { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فكيف يكون خالقا لمحبة الكافرين لكفرهم. يقال لهم: هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين المستحبين الراشدين كما وصفتهم الله وليس المراد به الكافرين وسائر المكلفين.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قوله عز وجل: { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وهم لم يفعلوا عندكم شيئا. قيل لهم: معنى ذلك أنهم يسألون عما يكسبون ولا يسأل هو تعالى عما يخلق لأنه لا آمر فوقه ولا تكليف عليه فيما يخلق وعليهم الأمر والتكليف فيما يكسبون.

مسألة

فإن قالوا وكيف يكون الباري سبحانه خالقا لمعاصي العباد وسيئاتهم وقد قال: { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } فالله يتعالى أن تكون السيئة من عنده. يقال لهم: أول ما في هذا أنه يجب على موضوع تعلقكم بالآية أن يكون خالقا للطاعات والحسنات من أفعال العباد لإضافتها إلى نفسه وهذا ما تكرهون. ثم يقال لهم: هذه الآية دلالة على فساد قولكم لأنها إنكار عليكم وعلى من دان بدينكم. وذلك أن القوم كانوا يضيفون الحسنات إلى الله تعالى ويضيفون السيئات إلى أنفسهم. وكانوا إذا أصابهم الرخاء والخير أضافوه إلى الله وبرأوا الرسول منه. وإذا أصابهم الجدب والشدة أضافوا ذلك إلى النبي هذا منه وبشؤوم طائره. فأنكر الله تعالى ذلك من قولهم فقال على سبيل التعجب من قولهم والتفنيد لهم { إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك }. ثم قال ردا لهم { قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } تعجبا من قولهم هذا. وفي هذا الكلام حذف لا بد منه وتقدير الكلام يقولون { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك }. فحذف يقولون اقتصادا على شاهد الحال ومفهوم الخطاب والعلم بسبب إنزال هذا الكلام. وهو جار مجرى قوله عز وجل: { ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا } أي يقولون ما خلقت هذا باطلا وقوله تعالى: { والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } أي يقولون أخرجوا أنفسكم وقوله تعالى: { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } أي يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم. ومتى لم يقدر هذا الحذف بطل الكلام ومعناه. ومما يدل على صحة هذا التأويل الذي ذكرناه إضافة الله تعالى السيئة والحسنة اللتين ذكرهما إلى نفسه دون النبي بأن الحسنة والسيئة نازلتان بهم. ولا يجوز أن يكون النبي لما أضافوه من السيئات والحسنات عند أحد من الأمة ولا أن يكون الله خالقا لحسناتهم التي اكتسبوها عند المعتزلة. فصح بذلك ما قلناه في تأويل الآية.

مسألة

فإن قالوا فإذا قلتم إن الله تعالى خلق شتم نفسه وشتم رسله وبغض من أبغض من عباده له ولرسله وسبه لهما فما أنكرتم أن يكون الله تعالى أهلا للشتم والعداوة والبعض ومستحقا لذلك. قيل لهم: لا يجب ذلك كما لا يجب عندنا وعندكم إذا خلق سبحانه القدرة على شتمه وشتم رسله والبغض له ولهم أن يكون هو تعالى ورسله أهلا للشتم والعداوة والبغض له ولهم أن يكون هو تعالى ورسله أهلا للشتم والعداوة والبغض وكما لا يجب إذا خلق الجنون والإقدار والإتيان أن يكون أهلا لما خلقه وإذا خلق عذاب الكافرين ومحن الممتحنين أن يكون أهلا لأن يعذب ويمتحن تعالى عن ذلك وكما لا يجب عندكم إذا خلق الإنسان الطاهر الوالدين شتم نفسه وأبويه وخلق قتل نفسه أن يكون أهلا لأن يشتم وأن يشتم أبواه وأن يكون مستحقا للشتم له ولهما ولقتل نفسه. وليس كل فاعل لشيء يجب كونه مستحقا له وأهلا له فسقط ما قلتموه. ويقال لهم: فيجب أن يكون الباري سبحانه خالقا لحب المحبين له ولرسوله وثنائهم عليهما ومدحهم لهما لأنهما أهلان لذلك. فإن لم يجب ذلك لم يجب ما قلتم. فإن قالوا وإذا قلتم إن الله تعالى يضل عن الدين فلم لا يجوز أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين ليضل عن الدين. قيل لهم: لأن في فعله لذلك إيجاب تعجيزه عن أن يدلنا على صدق الصادقين والفرق بينهم وبين الكذابين. وليس ذلك واجبا في خلق غيره من الضلالة. فإن قالوا فإذا أجزتم فعل القديم لجميع ما يقبح منا وإن لم يقبح ذلك منه فأجيزوا عليه الكذب في خبره ولا يكون ذلك منه قبيحا. قلنا: إنما نحيل عليه كما نحيل عليه العجز والسهو لقيام الدليل على أنه لم يزل متكلما قادرا صادقا لا لقبح ذلك منه. فبطل ما ظننتم.

باب في وجوب تسميتهم قدرية

فإن قالوا فلم سميتمونا قدرية. قيل لهم: لإدعائكم لأنفسكم الكذب الذي لا أصل له من خلق أعمالكم وتقديرها والتفرد بملكها والقدرة عليها دون ربكم. وهذا اسم وضع في الشريعة لذم من قال بالكذب في خلق الأفعال خاصة ودان بغير الحق. فلما كان ما قدمناه من الأدلة على خلق الأفعال قد أبطل دعواكم وجب أن تكونوا أحق الناس بهذا الاسم. وقولهم بعد ذلك إنهم ينفون القدر عن ربهم وإننا نحن نثبته فيجب أن نكون أولى بهذه التسمية تمويه منهم. لأنهم ينفون تقدير الأعمال وخلقها عن ربهم ويثبتون ذلك لأنفسهم. وهم كاذبون مبطلون في هذه الدعوى فلزمهم هم اسم الذم لادعائهم غير الحق. فإن قالوا فالباري سبحانه قد أثبت الخلق والتقدير لنفسه واثبتموه أنتم له فيجب أن تكونوا بذلك قدرية. قيل لهم: لا يجب ما قلتم لأن الله تعالى صادق محق في إثبات الخلق والتقدير لنفسه وكذلك نحن صادقون محقون في إضافة ذلك إلى الله تعالى فلم يلزمنا اسم الذم. وأنتم مبطلون في دعواكم لهذه الأمور. فإن قالوا فأنتم تكثرون ذكر القدر والقول بأن كل شيء قضاء وقدر فيجب لزوم هذا الاسم لكم. قيل لهم: نحن محقون في هذا القول ولا يلزم المحق اسم الذم. وأنتم تكثرون ذكر تقديركم لأفعالكم وتفردكم بملكها وخلقها وتكذبون وتفترون في هذه الدعوى فوجب لزوم الاسم لكم. على أنه لو سئل جميع الفرق وعامة الناس وخاصتهم عن القدرية لم يرشدوا إلا إليكم دون كل فرقة من فرق الأمة. وجملة هذا القول أن قدريا نسبة إلى القول بالباطل في القدر. والقدر يكون بمعنى القضاء ويكون بمعنى جعل الشيء على قدر ما. وقد يقال قدر وقدر مخفف ومثقل. والعرب تقول قدرت الشيء وقدرته. قال النبي الهلال « فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين » أي قدروا. وقد قال الله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } وتثقيلها جائز. وكذلك قوله { فسالت أودية بقدرها }. ولو خففت لكان ذلك جائزا شائعا. والعرب تقول قدر الله وقدر الله. قال الشاعر:

كل شيء حتى أخيك متاع ** وبقدر تفرق واجتماع

وقال آخر:

وما صب رجلي في حديد مجاشع ** مع القدر إلا حاجة لا أريدها

يعني بالقدر القدرة. وكل من قال في القدر قولا باطلا لزمه اسم قدري لأنه وضع لذم المبطل.

باب القول في أن الله قضى المعاصي وقدرها قبيحة على ما خلقها

فإن قال قائل: أفتقولون إن الله تعالى قضى المعاصي وقدرها كما أنه خلقها وأوجدها. قيل له: أجل نقول ذلك على معنى أنه خلق العصيان وجعله على حسب قصده ولا نقول إنه قضى بذلك بمعنى أنه أمر به.

مسألة

فإن قيل فعلى كم وجه ينقسم القضاء. قيل له: على وجوه. منها القضاء بمعنى الخلق. قال الله تعالى: { فقضاهن سبع سموات في يومين } يعني خلقهن. وقال تعالى: { فلما قضينا عليه الموت } يعني خلقناه وأوجدناه به. وقد يكون القضاء بمعنى الإخبار والكتابة والإعلام وكذلك القدر. قال الله عز وجل: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدون في الأرض مرتين } أي أعلمناهم ذلك وأخبرناهم به. وقال في القدر بمعنى التقدير { وقدر فيها أقواتها }. والقدر أيضا بمعنى الخلق. ومنه قوله تعالى: { قدر فهدى }. وقد يكون القضاء بمعنى الأمر. قال الله عز وجل: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } أي أمر ربك. وقد يكون القضاء بمعنى الحكم والإلزام وهو مأخوذ من قولهم قضى القاضي على فلان بكذا أي حكم عليه به وحتمه. فنقول إنه قضى المعاصي وقدرها على كل هذه الوجوه إلا على معنى أنه فرضها وأمر بها وحتم على العباد أن يفعلوها.

باب

فإن قال فالقضاء عندكم هو المقضي أو غيره. قيل له: هو على ضربين. فالقضاء بمعنى الخلق هو المقضي لأن الخلق هو المخلوق. والقضاء الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة غير المقضي لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه إذا لم يكن خبرا عن نفسه أو عما يستحيل مفارقته له على بعض وجوه المفارقات المقتضية للغيرية. وكذلك الكتابة غير المكتوب.

باب

فإن قالوا أفترضون بقضاء الله وقدره. قيل لهم: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه الذي أمرنا أن نريده ونرضاه. ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به ولا نتقدم بين يديه ولا نعترض على حكمه. وجواب آخر وهو أننا نقول إنا نرضى بقضاء الله في الجملة على كل حال. فإن قالوا أفترضون الكفر والمعاصي التي هي قضاء الله. قيل لهم: نحن نطلق الرضى بالقضاء في الجملة ولا نطلقه في التفصيل لموضع الإبهام. كما يقول المسلمون كافة على الجملة الأشياء لله ولا يقولون على التفصيل الولد لله والصاحبة والزوجة والشريك له. وكما نقول الخلق يفنون ويبيدون ويبطلون ولا نقول حجج الله تفنى وتبطل وتبيد في نظائر هذا من القول الذي يطلق من وجه ويمنع من وجه. ثم يقال لهم: أوليس قد قضى الله تعالى موت النبي المسلمين والإقدار على غزوهم وهدم ثغورهم وسبي نسائهم وقضى إعانة الفراعنة والشياطين وسائر الكافرين وتعاونهم واستظهارهم على المسلمين. فإن قالوا أجل. قيل لهم: أفترضون بذلك أجمع. فإن قالوا نعم. قيل لهم: مثله فيما سألوه عنه وخرقوا الإجماع بركوب هذا الإطلاق. وإن قالوا لا قيل لهم: مثله فيما سألونا عنه.

باب القول في الأرزاق

فإن قالوا أفتقولون إن الله يرزق الحلال والحرام. قيل لهم: أجل وقد دل على ذلك بقوله { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم }. فلما كان منفردا بالخلق والإماتة والإحياء كان منفردا بتولي الأرزاق. فإن قالوا فما معنى قولكم إنه يرزق الحرام. قيل لهم: تأويل ذلك أن يجعله غذاء للأبدان وقواما للأجسام لا على معنى التمليك والإباحة لتناوله لأن ذلك مما قد أجمع المسلمون على خلافه. وهو تعالى رازق الحلال على الوجهين جميعا. فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون معنى الرزق هو معنى التمليك. قيل لهم: أنكرنا ذلك لإجماع الأمة على أن الطفل مرزوق لما يرتضعه من ثدي أمه وعلى أن البهائم من ولد النعم مرزوقة لما تتغذى به من لبنها وكذلك هي كلها مرزوقة لما ترتعيه من حشائش الأرض ونباتها وأن البهيمة والطفل لا يملكان ذلك مع كونه رزقا لهما لأنهم متفقون على أن لبن سائر النعم ملك لربها دون سخالها. فبطل ما سألتم عنه. وعلى أنه لو كان الرزق هو التمليك والملك عندهم بمعنى القدرة لكان الباري مملكا للحرام من حيث كان مقدرا على تناوله وعلى أن يكون رازقا له بهذا المعنى. ولا مهرب لهم من ذلك.

باب القول في الأسعار

فإن قالوا: فخبرونا عن الأسعار غلائها ورخصها من قبل من هو؛ قيل لهم: من قبل الله تعالى الذي يخلق الرغائب في شرائه ويوفر الدواعي على احتكاره لا لقلة ولا لكثرة ولأنه طبع الخلق على حاجتهم إلى تناول الأغذية التي لولا حاجتهم إليها لم يكترث بها ولا فكر فيها. فإن قالوا أفليس لو حاصر بعض السلاطين أهل حصن أو بلد وقطع الميرة عنهم لغلت أسعارهم وقل ما في أيديهم ولصلح أن يقال إن السلطان أغلى أسعارهم. قيل لهم: قد يقع الغلاء عند مثل هذا الحصار. ولكن يقال إن السلطان أغلى أسعارهم مجازا واتساعا كما يقال قد أماتهم السلطان جوعا وضرا وهزلا وقد قتلهم بالحصار. وهو في الحقيقة لم يفعل بهم موتا ولا قتلا وإنما فعل أفعالا أحدث الله عندها موتهم وهلاكهم وإن نسب الموت والهلاك إلى السلطان مجازا. فإن قالوا فيجب أن يكون الغلاء الحادث واقعا عن فعل السلطان الذي أوقع الحصار لأنه لو لم يفعله لم يقع الغلاء. يقال لهم: ليس الأمر كما ظننتم لأنهم لو لم يطبعوا طبعا يحتاجون معه إلى المأكول والمشروب لم يمس أطعمتهم شيء من الغلاء. فعلم أنه واقع من فعل من طبعهم على الحاجة إلى الغذاء ولولا طبعه لهم كذلك ما احتاجوا إليه وهذا أولى وأحرى. ومع أنه لو خلق الزهد فيهم عن الاغتذاء وإيثار الموت لما اشتروا ما عندهم وإن قل بقليل ولا كثير. وعلى أنه لو وجب أن يكون غلاء الأسعار من السلطان الذي يوقع الحصار ويحمل الناس ويجبرهم على تسعير الطعام ولأنه لو لم يفعل ذلك لم يقع الغلاء على قولهم لوجب إذا ماتوا جوعا عند الحصار أن يكون هو أماتهم وفعل موتهم. وإذا رفع ذلك عنهم وأمدهم بالميرة فحيوا بأكل ما يحمله إليهم لوجب أن يكون هو أحياهم. فدل ما وصفناه على أن جميع هذه الأسعار من الله تعالى.

باب القول في الآجال

فإن قال قائل: فخبرونا عن المقتول أيموت بأجله المحكوم له به أم هو مقطوع عليه أجله قيل له: بل يموت بأجله المقدور. فإن قال وما الحجة في ذلك. قيل له: قوله عز وجل: { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }. وأجل الموت هو وقت الموت كما أن أجل الدين هو وقت حلوله. وكل شيء وقت به فهو أجل له. وأجل الإنسان هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت فيه لا محالة. وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه لا من حيث إنه ليس بمقدور تأخيره. وجل حياته هو مدة الزمان الذي علم الله عز وجل أنه يحيا إليه لا تجوز الزيادة عليه ولا الانتقاص منه. وقد قال كثير من المعتزلة إلا من شذ منهم إن المقتول مات بغير أجله الذي ضرب له وإنه لو لم يقتل لحيي. وهذا غلط عندنا لأن المقتول لم يمت من أجل قتل غيره له بل من أجل ما فعله الله سبحانه من الموت الذي وجد به. وليس يجوز أن يقال فيما لم يمت الإنسان من أجله لو لم يكن لحيي. لأن القتل ليس بضد للحياة ولا بدل منها فيقال له إنه لو لم يكن لحيي المقتول. ولأن في ذلك دفع ما تلوناه من التنزيل. وقد قال قوم منهم يجوز أن يحيا لو لم يقتل ويجوز أن لا يحيا وأن يكون ذلك الوقت وقت موته. فإن قال قائل: فهل كان جائزا في قدرة الله تعالى أن يبقي من أماته ابن عشرين سنة إلى ثلاثين سنة أو ما هو أكثر منها. قيل له: أجل لو بقاه لبقي. وإن كان لا يفعل ذلك كان المعلوم عن حاله أنه يميته ابن عشرين سنة ولن يجوز ترك فعل ما في المعلوم أنه يفعل وإن كان مقدورا تركه. على أنه لو ترك لكان السابق في المعلوم أنه يترك. فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون أجله ثلاثين سنة لأنه لو لم يمته لبقي إلى ذلك الوقت. قيل له: لا يجب ذلك لأن أجل الإنسان وقت موته على ما بينا. وليس يجوز أن يكون ما لم يبق إليه مما كان يصح في العقل أن تمتد حياته إليه أجلا له إن كان المعلوم من حاله أنه يخترم دونه. كما لا يجوز أن تكون جهنم دار الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين لأنه جائز في العقل أن يدخلوها لو كفروا وأن تكون الجنة دار الفراعنة والكفرة على أنهم لو آمنوا لسكنوها. وكما لا يجب أن تكون المرأة التي يعلم الله أن الإنسان لو بقي لتزوج بها زوجة له على معنى أنه لو بقي وتزوجها لكانت زوجة له. فكذلك لا يجوز أن يكون ما لم يبق إليه من الأوقات أجلا له لأنه لو لم يمت لصح أن يبقى إليه.

باب الهدي والإضلال

فإن قال قائل: فهل تقولون إن الله يهدي المؤمنين ويضل الكافرين قيل له: أجل. فإن قال وما معنى هدايته للمؤمنين. قيل له: قد يهديهم بأن يخلق هداهم وينور بالإيمان قلوبهم. وقد يهديهم أيضا بأن يشرح صدورهم ويتولى توفيقهم له وإعانتهم عليه وتسهيله لهم السبيل إليه كل ذلك هداية منه لهم. وقد يهديهم أيضا في الآخرة إلى الثواب وطريق الجنة وذلك هدى لهم من فعله. فإن قال فما معنى إضلاله الكافرين. قيل له: قد أضلهم بأن يخلق ضلالهم قبيحا فاسدا وقد مر بيان ذلك سالفا. وقد يضلهم بترك توفيقهم وتضييق صدورهم وإعدام قدرهم على الاهتداء. وقد يضلهم عن الثواب وطريق الجنة في الآخرة كل ذلك إضلال لهم. فإن قالوا وما الدليل على ما قلتهم. قيل لهم: يدل على ذلك قوله تعالى: { ويضل الله الظالمين }. فأخبر أنه يضل ويهدي ووصف نفسه بذلك. فإن قال قائل: ما أنكرتم أن لا يكون معنى الإضلال منه والهداية أكثر من الحكم والتسمية كما يقول الناس قد ضلل فلان فلانا وقد عدله وقد سرق فلان فلانا لا على معنى أنه جعله ضالا فاسقا سارقا وفعل له ما من أجله يكون كذلك من السرقة والضلال والعدالة. قيل له: لو كان ذلك على ما قلته لم يكن لله على المؤمنين في هدايته لهم إلا ما لبعضهم على بعض لأنا قد يسمي بعضنا بعضا بالهداية ويخص بعضنا بعضا بهذه التسمية. وكذلك كان يجب أن يكون إضلال بعضنا بعضا كإضلال الله الظالمين وهذا خلاف ما اتفق عليه المسلمون. لأن الله عز وجل قد امتن على المؤمنين بهدايته لهم فقال: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين }. فلو كانت هدايته لهم هي الحكم والتسمية لكانوا قد منوا على أنفسهم بهذه المنة ولكان رسول الله من بها عليهم كمن الله إذ قد سماهم بذلك وحكم لهم به وهذا خلاف الإجماع. وكذلك لو كانت هدايته لهم التي من بها عليهم هي دعوته إياهم وبيانه لهم لكان بعضهم قد من على بعض بهذه المنة. لأنه قد يدعو بعضهم بعضا ويبين بعضهم لبعض كما يدعو الله وهذا أيضا خلاف الاتفاق. وعلى أنه لو كانت الهداية والإضلال من الله تعالى بمعنى ما وصفتم لكان إبليس قد أضل الأنبياء وسائر المؤمنين إذ كان قد دعاهم إلى الضلال وسماهم ضالين وحكم لهم بذلك ولكان النبي قد أضلوا الكافرين أجمعين إذ كانوا قد سموهم كافرين وحكموا لهم بحكم الضالين. وفي إجماع الأمة على خلاف هذا دليل على سقوط ما قلتم.

باب القول في اللطف

فإن قال قائل: فهل تقولون إن في قدرة الله تعالى لطفا لو لطف به لسائر من يعلم أنه يموت كافرا لآمن قيل له: أجل هو على ذلك قادر. فإن قال ولم قلتم ذلك. قيل له: لأنه قادر على أن يقدرهم على الإيمان كما صح أن يقدر على ذلك أمثالهم وكما صح أن يقدرهم على ضده من الكفر والضلال. فلو فعل فيهم القدرة على الإيمان لوجد إيمانهم لا محالة لما بينا من قبل من وجوب كون الفعل في حال وجود القدرة عليه واستحالة تقدمها له ووجودها مع عدمه. فصح بذلك ما قلناه. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } وقوله { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء } فخبر أنه يقدر على ما لو فعله بهم لضلوا وكفروا. فيجب أيضا أن يكون قادرا على ما لو فعله بهم لآمنوا واهتدوا.

فصل

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا }. فوجب أنه قادر على ما لو فعله بهم لآمنوا واهتدوا. فإن قالوا أراد بذلك أنه يقدر على فعل لو فعله بهم لآمنوا كرها. قيل لهم: وكذلك إنما أخبر أنه يقدر على بسط الرزق لو فعله بالخلق لضلوا كرها لا طوعا. ولا خلاص لهم من ذلك. فإن قالوا أفليس قد قال: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم } فخبر أنهم لا يتبعون قبلته. قيل لهم: إنما خبر أن النبي أتاهم بكل آية ما تبعوا قبلته ولم يخبر أنه لو أتاهم هو بالآيات ما تبعوا قبلته أو أتاهم غيره لما آمنوا فلا حجة في هذا الظاهر.

فصل

فإن قال قائل: أفليس قد قال الله تعالى: { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا }. قيل لهم: قد استثنى في آخر الآية بقوله { إلا أن يشاء الله } فبطل ما قلتم. وعلى أنه أخبر أنهم لا يؤمنون أبدا عند هذه الآيات التي هي إنزال الملائكة وتكلم الموتى وحشر كل شيء قبلا ولم يقل ليس في المقدور فعل شيء يؤمنون عنده فقد يمكن أن يكون في المعلوم أنه لو فعل بهم غير هذه الآيات لآمنوا. فبطل ما قالوه.

باب الكلام في التعديل والتجوير

فإن قال قائل: فهل يجوز أن يؤلم الله تعالى الأطفال من غير عوض وأن يأمر بذبح الحيوان وإيلامه لا لنفع يصل إليهم وأن يسخر بعض الحيوان لبعض وأن يفعل العقاب الدائم على الأجرام المنقطعة وأن يكلف عباده ما لا يطيقون وأن يخلق فيهم ما يعذبهم عليه وغير ذلك من الأمور. قيل له: أجل ذلك عدل من فعله جائز مستحسن في حكمته. فإن قال فكيف جاز ذلك منه وحسن مع قبح ذلك أجمع منا. قيل له: إن ذلك إنما قبح منا وصار جورا من فعلنا لأجل نهي مالك الأعيان والأشياء لنا عن فعله فلولا تقبيحه لذلك ونهيه عنه لما قبح منا. وقد أوضحنا ذلك فيما سلف لما قلنا إن ذلك ليس بقبيح في العقل لنفسه لأنه كان يجب أن يشترك في علمه جميع العاقلين ولكان يجب إذا كان الألم الموجود على هذه السبيل قبيحا لكونه ألما على هذه الصفة أن لا يشركه في كونه قبيحا إلا ما كان ألما هذه صفته وذلك باطل باتفاق وكذلك القول في كل ضرب من ضروب القبيح والباري عز وجل. هو المالك القاهر الذي الأشياء له وفي قبضته لا آمر عليه ولا مبيح ولا حاظر. فلم يجب أن يقبح جميع ما ذكرناه من فعله قياسا على قبحه منا. فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون كل إيلام لا نفع للمؤلم فيه في عاجل ولا آجل ولا هو مستحق ظلما في العقل وقبيحا لنفسه قلنا من قبل ما بينا أولا من أن ذلك لو كان كذلك لعلمنا قبح الضرر الجاري هذا المجرى اضطرارا. وفي كوننا غير مضطرين إلى ما وصفت دليل على سقوط هذا السؤال. ولأن ذلك لو كان كذلك لوجب قبح هذا الضرر من كل من وجد منه وكان لا معتبر باختلاف فاعليه وتباين محالة. ألا ترى أن الحركة التي تكون حركة لنفسها يجب أن تكون أبدا حركة حيث وجدت وهذا يوجب أن يكون الكلب والسبع وسائر الحيوان الذي لا يعقل ظالما راكبا للقبيح مستحقا للذم والتأنيب وأن يكون عاصيا فاسقا بإيلامه للغير على هذه السبيل. وفي الاتفاق على فساد ذلك دليل على سقوط ما سألت عنه. ولأنه لو كان الأمر على ما وصفت لم يكن الجهل والكذب قبيحين لأنهما ليسا بألم هذه سبيله. وقد بينا من قبل أن الحكم العقلي الواجب لعلة ولوجه مخصوص لا يجوز ثبوته لبعض من هو حكم له بغير تلك العلة وذاك الوجه لأن ذلك نقض للعلل وإبطال لها. فبطل بذلك ما قلت. فإن قال قائل: فهل يصح على قولكم هذا أن يؤلم الله سبحانه سائر النبيين وينعم سائر الكفرة والعاصين من جهة العقل قبل ورود السمع. قيل له: أجل له ذلك. ولو فعله لكان جائزا منه غير مستنكر من فعله. فإن قال فما الذي يؤمنكم من تعذيبه المؤمنين وتنعيمه الكافرين. قيل له: يؤمننا من ذلك توقيف النبي وإجماع المسلمين على أنه لا يفعل ذلك. وعلى أنه قد أخبر أخبارا علموا قصده به ضرورة إلى أن ذلك لا يكون. ولولا هذا التوقيف والخبر لأجزنا ما سألت عنه. فإن قال وهل يجوز وقوع الكذب منه والأمر به وبسائر المعاصي. قيل له: أما الكذب فلا يجوز عليه لا لأنه يستقبح منه فحسب ولكن لأن الوصف له بأنه صادق من صفات نفسه. ومن كان صدقه من صفات نفسه استحال عليه الكذب كما أن من كان الوصف له بأنه قادر عالم من صفات النفس استحال أن يعجز أو يجهل. وليس وجه إحالة هذه الأمور عليه لأجل القبح فقط لكن لاستحالتها عليه بأدلة العقول. فأما قولك هل يجوز أن يأمر بالمعاصي والكذب فإن ذلك جائز على معنى أنه لو أمر بها لكان أمره بها قديما ولكانت تكون طاعات مستحسنات بدلا من كونها معاصي. إذ كان العصيان إنما يصير عصيانا بالنهي لا لجنسه ونفسه. وقد أمرنا بالكذب في بعض المواضع وأبيح للخائف في دار الحرب على نفسه الكذب. فبان بجميع ما قلناه صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب.

باب القول في معنى الدين

فإن قال قائل: فما معنى الدين عندكم. قيل له: معنى الدين يتصرف على وجوه. منها الدين بمعنى الجزاء. ومنه قوله تعالى: { مالك يوم الدين }. ومنه قول الشاعر:

واعلم وأيقن أن ملكك زائل ** واعلم بأن كما تدين تدان

يريد كما تفعل يفعل بك. وقد يكون بمعنى الحكم كقوله { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي في حكمه. وقد يكون الدين بمعنى الدينونة بالمذاهب والملل. ومنه قولهم فلان يدين بالإسلام أو اليهودية أي إنه يتدين بذلك على معنى أنه يعتقد وينطوي عليه ويتقرب به. والدين أيضا بمعنى الانقياد والاستسلام لله عز وجل. من ذلك قوله { إن الدين عند الله الإسلام } يريد دين الحق لا على أن اليهودية لا تسمى دينا في اللغة وغيرها من الأديان.

باب الكلام في الإيمان والإسلام والأسماء والأحكام

باب القول في معنى الإيمان

فإن قال قائل: خبرونا ما الإيمان عندكم. قلنا: الإيمان هو التصديق بالله تعالى وهو العلم والتصديق يوجد بالقلب. فإن قال وما الدليل على ما قلتم. قيل له: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن وبعثة النبي التصديق لا يعرفون في لغتهم إيمانا غير ذلك. ويدل على ذلك قوله تعالى: { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } أي ما أنت بمصدق لنا. ومنه قولهم فلان يؤمن بالشفاعة وفلان لا يؤمن بعذاب القبر أي لا يصدق بذلك. فوجب أن يكون الإيمان في الشريعة هو الإيمان المعروف في اللغة لأن الله عز وجل ما غير لسان العرب ولا قلبه. ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله وتوفرت دواعي الأمة على نقله ولغلب إظهاره وإشهاره على طيه وكتمانه. وفي علمنا بأنه لم يفعل ذلك بل أقر أسماء الأشياء والتخاطب بأسره على ما كان فيها دليل على أن الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي. ومما يدل على ذلك ويبنيه قول الله تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } وقوله تعالى: { إنا جعلناه قرآنا عربيا }. فخبر أنه أنزل القرآن بلغة القوم وسمى الأشياء بتسمياتهم. فلا وجه للعدول بهذه الآيات عن ظواهرها بغير حجة وسيما مع قولهم بالعموم وحصول التوقيف على أن الخطاب نزل بلغتهم. فدل ما قلناه على أن الإيمان هو ما وصفناه دون ما سواه من سائر الطاعات من النوافل والمفروضات.

باب القول في معنى الإسلام

فإن قال قائل: ما الإسلام عندكم. قيل له: الإسلام هو الانقياد والاستسلام. وكل طاعة انقاد العبد بها لربه تعالى واستسلم فيها لأمره فهي إسلام. والإيمان خصلة من خصال الإسلام. وكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا. فإن قال فلم قلتم ذلك وأن معنى الإسلام هو ما وصفتم. قيل له: لأجل قوله تعالى: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا }. فنفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام وإنما أراد بما أثبته الانقياد والاستسلام. ومنه قوله { لمن ألقى إليكم السلام }. وكل من استسلم لشيء فقد أسلم وإن كان أكثر ما يستعمل ذلك في المستسلم لله عز وجل ولنبيه.

باب القول في معنى الكفر

إن قال قائل: وما الكفر عندكم. قيل له: هو ضد الإيمان وهو الجهل بالله عز وجل والتكذيب به الساتر لقلب الإنسان عن العلم به فهو كالمغطي للقلب عن معرفة الحق. ومنه قول الشاعر في ليلة كفر النجوم غمامها أي غطاها ومنه قولهم زيد متكفر بسلاحه. ومنه سمي مغطي الزرع كافرا. وقد يكون الكفر بمعنى التكذيب والجحد والإنكار. ومنه قولهم كفرني حقي أي جحدني. وليس في المعاصي كفر غير ما ذكرناه وإن جاز أن يسمى أحيانا ما جعل علما على الكفر كفرا نحو عبادة الأفلاك والنيران واستحلال المحرمات وقتل الأنبياء وما جرى مجرى ذلك مما ورد به التوقيف وصح الإجماع على أنه لا يقع إلا من كافر بالله مكذب له وجاحد له.

باب القول في تسمية الفاسق الملي مؤمنا

فإن قال قائل: فخبروني عن الفاسق الملي هل تسمونه مؤمنا بإيمانه الذي فيه وهل تقولون إن فسقه لا يضاد إيمانه. قيل له: أجل. فإن قال فلم قلتم إن الفسق الذي ليس بجهل بالله لا يضاد الإيمان. قيل له: لأن الشيئين إنما يتضادان في محل واحد. وقد علمنا أن ما يوجد بالجوارح لا يجوز أن ينفي علما وتصديقا يوجد بالقلب. فثبت أنه غير مضاد للعلم بالله والتصديق له. والدليل على ذلك أنه قد يعزم على معصية الرسول من لا ينفي عزمه على ذلك معرفة النبي له. وكذلك حكم القول في العزم على معصية الله عز وجل وأنه غير مضاد لمعرفته والعلم به والتصديق له هو الإيمان لا غير. فصح بذلك اجتماع الفسق الذي ليس بكفر مع الإيمان وأنهما غير متضادين. فإن قال ولم قلتم إنه يجب أن يسمى الفاسق الملي بما فيه من الإيمان مؤمنا. قيل له: لأن أهل اللغة إنما يشتقون هذا الاسم للمسمى به من وجود الإيمان به. فلما كان الإيمان موجودا بالفاسق الذي وصفنا حاله وجب أن يسمى مؤمنا كما أنه لما لم يضاد ما فيه من الإيمان فسقه الذي ليس بكفر وجب أن يسمى به فاسقا. وأهل اللغة متفقون على أن اجتماع الوصفين المختلفين لا يوجب منع اشتقاق الأسماء منهما ومن أحدهما. فوجب بذلك ما قلناه. فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون حكم اللغة ما ذكرتم غير أن الله تعالى عظم زجر الفاسق والمبالغة في عقوبته بأن حرمه التسمية بإيمانه وجعل تسمية المؤمن مؤمنا علما على استحقاقه ضربا عظيما من الثواب وكذلك جعل تسمية الفاسق فاسقا من أسماء الدين علما لاستحقاقه ضربا من العقاب العظيم وأن يكون حكم هذه الأسماء في الشريعة منقولا عن حكم اللغة. قيل له: هذه دعوى لا شبهة في سقوطها. ولو جاز لمدع أن يدعي ذلك لجاز لآخر أن يدعي أن الله تعالى لما عظم شأن الإيمان وبالغ في الترغيب في فضله وجب سقوط التسمية بما قارنه من الفسق لما أراده من تغليب حكم الإيمان على الفسق وجعله مما يعلو ولا يعلى وقصد به إلى الدلالة على استحقاق الثواب. وهذا يوجب أن يكون الفاسق هو الكافر فقط وأن من سواه فليس بفاسق ولا يسمى بذلك. فإن لم يجب هذا لم يجب ما قالوه. ولأن في هذه الدعوى تصحيح تغير الأسماء عن طريقة اللغة ودفع ما تلوناه من التنزيل. وقد أبنا فساد ما يوجب ذلك من الأقاويل فيما قبل.

باب القول في الوعد والوعيد

فإن قال قائل: خبرونا عن جميع الكفرة والعصاة بضروب المعاصي هل كان جائزا في العقل أن يغفر الله لجميعهم. قيل له: أجل لو قسم جميعهم للجنة لجاز ولم يكن ما وجد من كفرهم وعصيانهم دليلا على أنه يؤلمهم بالنار لا محالة. لأن إيلام الله تعالى لمن يؤلمه ليس يوجد منه لعلة لولاها لم يوجد بل جعل الله تعالى أفعال العباد دليلا على ما قسمه لهم. ويدل على ذلك أن العقاب حق له يجوز له أخذه وتركه. فوجب أن يكون جاريا مجرى التفضل بإنعام غير مستحق. ولأنا قد علمنا جميعا حسن ترك عقوبة الذنب ممن استحقه. بجناية عليه. وقد اتفق المسلمون وغيرهم أيضا على حسن العفو والصفح عن عقوبة الذنب وعلى مدح من لا يتم ما يتوعد به وتعظيمه ومدحه بالعفو عن فعله. قال كعب بن زهير:

نبئت أن رسول الله أوعدني ** والعفو عند رسول الله مأمول

وأنشده للنبي ينكره ولا أحد من المسلمين. وقال آخر:

وإني إذا أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وقال آخر في ذم من يفي بوعيده أبدا وليس الصفح من سجيته:

كأن فؤادي بين أظفار طائر ** من الخوف في جو السماء معلق

حذار امرىء قد كنت أعلم أنه ** متى ما يعد من نفسه الشر يصدق

فذمه على الوفاء بالوعيد. ولا خلاف بين أهل اللغة أن العفو عن الذنب بعد تقدم الوعيد لا يوجب ذم المتوعد ولا جعل خبره كذبا. وكيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب وقد أمرنا به وحضنا عليه ومدح من هو من شأنه وقد أجمع الكل على أن ما أمر به وحض عليه ومدح فاعله فليس بقبيح. قال الله تعالى: { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } ثم قال تعالى: { والله يحب المحسنين } يعني الواهبين لما استحقوه بما جني عليهم. وقال: { وأن تعفوا أقرب للتقوى }. وقال: { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا } وكيف لا تجوز هبة الحق لمن يملك أخذه وتركه فدل جميع ما وصفناه على صحة عفو الله تعالى عن سائر المذنبين وجواز ذلك منه لو لم يرد الخبر بأنه لا بد أن يعاقب بعضهم. فإن قال فما يؤمنكم أن يغفر الله لسائر الكفرة أو لبعضهم وإن كان قد قدم وعيده لهم بالنار. قيل له: يؤمن من ذلك توقيف النبي المسلمين الذين لا يجوز عليهم الخطأ أن الله لا يغفر لهم ولا لأحد منهم. لأن الأمة بأسرها نقلت عن شاهد النبي حجة وأهل تواتر أنهم علموا من دينه ضرورة أن جميع الكفار في النار خالدين فيها وعرفوا قصده إلى إستغراق الوعيد لجميعهم وإرادته لكلهم وأن الله يفعل ذلك بسائرهم. ولولا هذا الإجماع والتوقيف الذي اضطررنا إليه لجاز العفو عما سألت عنه. فإن قال قائل: وكيف يكون هذا إجماعا من الأمة وقد زعم قوم من المتكلمين بأن مقلده اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ليسوا في النار. قيل له: هؤلاء إنما أنكروا أن يكون المقلد كافرا لشبهة دخلت عليهم ولم يزعموا أن المقلد كافر وأنه مع ذلك ليس في النار. والعلم بأن المقلد كافرا أو غير كافر طريقه النظر دون التوقيف والخبر. فإن قال فما تقولون في مذنبي أهل ملة الإسلام هل يجوز العفو عنهم حتى لا يعاقب الفاسق بما كان من ظلمه لنفسه أو غيره. قيل له: نعم. فإن قال فما الدليل على ذلك. قيل له: ما قدمناه من حسن العفو من الله ومن غيره وإن لم يرد توقيف اضطرنا إليه على تعذيب سائرهم. ومع أن الله تعالى قد بين ذلك في نص كتابه فقال: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. فاستثنى من المعاصي التي يجوز أن يغفرها الشرك. فألحقت الأمة به ما كان بمثابته من ضروب الكفر والشرك. وقال: { إن الله يغفر الذنوب جميعا } فلم يخرج من ذلك إلا الكفر والشرك. وقال تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }. والكبائر ها هنا الكفر بدليل قوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. والسيئات التي يغفرها هي ما دون الشرك. وقال تعالى: { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } وقال تعالى: { لا تقنطوا من رحمة الله } في نظائر لهذه الآيات يطول تعدادها وهي كله فيمن ليس بكافر ولا مشرك. فلما كان الملي الفاسق ليس بكافر ولا مشرك من قولنا وقول المعتزلة ثبت أنه ممن يجوز أن يغفر له وإن مات مصرا إذا كان التائب لا عيب عليه ولا معه عندهم شيء يحتاج معه إلى غفران. وقد دللنا قبل هذا على أن معصية الله بغير الكفر والتكذيب لا تضاد معرفته التي هي الإيمان به. وكذلك معصية غيره لا تنفي العلم بالمعصي. فوجب أن يكون العاصي مؤمنا بالله والمؤمن لا يكون كافرا ولا مشركا.

باب القول في الخصوص والعموم

فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى: { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله فإنه له نار جهنم خالدين فيها } وقوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } وما ورد بمعنى هذه الآيات. قيل له: المراد بذلك العاصي الكافر الذي لا إيمان ولا حسنة معه. لأن الله تعالى قد بين في آيات أخر أنه يدخل المؤمنين جنته ومن أتى بحسنة جازاه بعشر أمثالها وأنه يعطيه خيرا منها ويؤمنه من الفزع الأكبر ومن فزع يومئذ وأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى ويجازي بالحسنة ويعفو عن السيئة وأن الحسنات يذهبن السيئات. قال تعالى: { من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون }. وليس في الحسنات أكبر ولا أعظم شأنا من الإيمان الذي يحبط الكفر ويزيل عقابه. وقال: { إن المتقين في جنات ونعيم } و { إن المتقين في جنات ونهر }. وقال: { يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } وقال تعالى: { إن الحسنات يذهبن السيئات }. فخبر أن الحسنات تبطل السيئات وتذهب بها. ولا شيء من الحسنات أولى أن يكون كذلك من الإيمان الذي يذهب بالكفر ويمحوه. وقال: { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى }. وقال: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره }. وإذا كان الفاسق الملي مؤمنا على ما بيناه وكان معه حسنات أكبرها الإيمان وكانت له أعمال لا تضيع عليه وجب أنه ممن لم يرد بالخلود في جهنم وأن يرتب ذلك ترتيبا لا يجوز معه نقض بعض الآيات بعضا. فإن قال إنما أراد بقوله { من جاء بالحسنة فله خير منها } إذا لم يقتل نفسا مؤمنة ولم يعص ولم يتعد حدوده. قيل له: لا بل أراد بالوعيد على قتل النفس المؤمنة وتعدي حدوده وفعل معصيته من لم يكن منه إيمان ولا حسنة وهم الكفار وهذا أولى. فإن قال قوله { من } ورد مورد الشرط والجزاء وهذا يوجب استغراق المجازين. قيل له: فقل لأجل هذا بعينه إن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وإنه يعطي خيرا منها وهو من فزع يوم القيامة آمن لأجل قوله { من جاء بالحسنة فله خير منها }. فإن قال إن صاحب الكبيرة لا يسمى محسنا. قيل له: والمؤمن الموحد المصدق لله ولرسوله لا يسمى عاصيا متعديا لحدوده. وكل ذلك خروج عن اللغة. ومع أن قوله { من } يصلح للعموم وللخصوص وهو معرض لهما لأن القائل يقول جاءني من دعوته وكلمت من عرفته وهو يريد الواحد منهم الذي عرفه ودعاه وهو بعض من دعاه وعرفه وقال الله عز وجل: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ولم يرد أن حكام المسلمين كفار إذا تركوا الحكم بما أنزل الله وإنما أراد بعض من لم يحكم بما أنزل الله وقال الشاعر:

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

ولم يرد أن كل من لا يظلم الناس يظلم لأن الله عز وجل لا يظلم الناس ولا يجوز أن يظلم ولا كل من كان غير ذائد عن حوضه بسلاحه هدم. وإذا كان ذلك كذلك فقد بطل التعلق بظاهر هذه الآي مع جواز احتمالها. وكذلك الجواب إن تعلقوا بقوله تعالى: { وإن الفجار لفي جحيم } وبما جرى مجراه. قيل لهم: يحتمل أن يكون أراد بعض الفجار دون سائرهم. وعورضوا بقوله { إن الأبرار لفي نعيم } وأعظم البر التوحيد والإيمان الذي لا يحصل الإنسان بارا مطيعا إلا بوجوده. وقيل لهم: قال الله تعالى: { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } و { لا أضيع أجر المحسنين }. وليس في الطاعات حسنة أكبر من الإيمان بالله ورسوله وتصديق ما جاء به من عنده. وإذا كان الأمر كذلك وجب تفويض أمر عصاة أهل الملة إلى الله سبحانه وتصحيح غفرانه لهم وترك القطع بعقابهم وإيجاب القول بأنه لا يخلد في النار منهم أحد وإن أدخلها. مع أنا لو صرنا إلى ظاهر مقتضى القرآن لوجب أن لا يدخل النار إلا كافرا. قال الله عز وجل: { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } وقال: { فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى } وقال: { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر } إلى قوله تعالى: { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم } وقال: { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } إلى قوله { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } يريد الشرك { وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون }. فأوجب النار لمن ينكر البعث ويكفر بالله وبرسله ولا يؤمن بهم. وليس في فساق أهل الملة من هذا وصفه. فإن لم يجب المصير إلى عموم هذه الآيات لم يجب المصير إلى عموم الظواهر التي تلوها. فصح ما ذهبنا إليه من جواز العفو عن فساق أهل ملتنا.

مسألة

فإن قال قائل: أفليس الله قد أوجب عداوة الفاسق والتبرؤ منه ولعنه وأمرنا بأن لا تأخذنا رأفة به وأمرنا بالنكال به فقال: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } الآية وقال: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } مع قوله { وكان بالمؤمنين رحيما } فكيف يجوز أن يكون صاحب الكبيرة مؤمنا والمؤمن مرحوم وولي لله تعالى. قيل له: لسنا نقول إن الفاسق عدو لله ولا إن الله لعنه إلا بشريطة أن يكون في معلومه أنه يعذبه وأن يكون أراد ذلك وقصده. وإنه متى لم يكن ذلك كذلك وكان المعلوم من حاله أنه يثيبه ويغفر له ويشفع فيه نبيه فإنه غير ملعون ولا عدو لله ولا ممن حكم بعقابه. لأن العداوة والبغض من الله إنما هي إرادته لعذاب من علم أنه يعذبه على ما بينا في باب الصفات. وهذا كما تعبدنا بلعن من ظهر منه كلمة الكفر في دار الحرب والحكم عليه بأنه عدو لله بشريطة أن كان معتقدا للكفر وكان ظاهره كباطنه وكما أمر عندكم بلعن من أظهر الفسق وذمه والبراءة منه إذا لم تعلم توبته بشريطة أن لا يكون قد تاب وندم. وكذلك تعبدنا الله بلعن شهود الزنى والبراءة منهم إذا اختلفت شهادتهم وقصر عددهم والحكم بفسقهم إن كانوا عند الله كذبه لا على الإطلاق. وكذلك قر أمرنا بموالاة من أظهر لنا الإيمان وتوليه بشريطة أن يكون عند الله معتقدا لذلك. وإذا كان هكذا بطل ما قلتم. لأن الله تعالى إن كان قد علم أنه سيغفر للفاسق الملي ويشفع فيه نبيه فليس بملعون عنده ولا عدو له. فأما إن كان في المعلوم أنه سيعاقبه فإن معنى عداوة الله له أنه أراد عقابه على ذنبه وهو أيضا موال له على إيمانه لأنه مريد لإثباته. وليس بمستحيل أن يريد الله عقاب الفاسق في وقت وإثابته في وقت آخر كما أنه ليس بمحال أن يريد الإنسان عقاب ولده على ذنبه فيريد أيضا تبجيله وإثابته على عمله الجميل وحسن طاعته فيما فيه. وإنما تمتنع وتتضاد العداوة والولاية من وجه واحد وعلى عمل واحد. وقد قال الله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } وقال عز وجل: { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم }. وقد بينا فيما سلف أن الفاسق الملي مؤمن بما يغني عن إعادته. فوجب أن يكون وليا لله تعالى بإيمانه وبما معه من طاعاته والتقرب إليه. وقوله عز وجل: { وكان بالمؤمنين رحيما } فالمراد به إرادته لإثابتهم على إيمانهم في الآخرة وطاعاتهم له لأنه لا بد أن يثيبهم على الإيمان. وإرادته أيضا إرادة للحكم عليه في الدنيا بأحكام المؤمنين من المناكحة والموارثة وعيادة مريضهم ودفنهم في مقابر المسلمين. ويحتمل أن يكون أراد بقوله تعالى: { وكان بالمؤمنين رحيما } أنه رحيم بهم في كل شيء إلا ما علم أنه يجازيهم عليه من ذنوبهم. فبطل ما قالوه. وأما الفاسق من المؤمنين فلا يجوز أن يكون معاديا لله بمعصيته مع إقراره بوجوده وإيمانه بربه وتصديقه له لأن العداوة لله متضمنة للكفر به. وقد يمكن أن يكون الله سبحانه إنما تعبدنا بذم الفاسق ولعنه وجلده وقطعه محنة له ليثيبه على ذلك في الآخرة كما أمر بجلد التائب وقطعه محنة له ليثيبه على ذلك في المعاد. بل فلا جهة لهم في ذم الفاسق وحده. فإن قالوا لو كان مع الفاسق إيمان يستحق به الثواب والتعظيم في الآخرة لأزال عنه الحد في الدنيا. فلما لم يزل ذلك عنه بطل ما قلتم. قيل لهم: لم قلتم ذلك. ثم يقال لهم: ولو كان مع التائب المنيب ما يستحق عليه الثواب في الآخرة لاستحق به إزالة العقاب والحدود في الدنيا. فلما كان التائب عندنا وعندهم مقطوعا ومحدودا مع توبته بطل أن يكون من أهل التعظيم والثواب في الآخرة. فإن قالوا إنما لم تزل التوبة قطع التائب وحده وتعمل في إحباطه لأجل أن قطعه وإقامة الحدود عليه ليس بعقاب وإهانة وإنما هو محنة من الله عز وجل له. وليس يجب أن تؤثر التوبة في إزالة المحن التي ليست بنكال ولا عقاب. قيل لهم: وكذلك قطع المؤمن الموحد المصدق لله ولرسوله ليس بعقاب ولا نكال وإنما هو امتحان من الله. وإنما المراد بقوله { نكالا من الله } إن كانا مستحلين للزنى وممن قد حكم بعقابهما في الآخرة. فلذلك لم يزل إيمانه وولايته قطعه وحده. ثم يقال لهم: لو لم يكن مع المؤمن ما يستحق به ثوابا في الآخرة لبطلت موارثته ومناكحته وحرمت زيارته وعيادة مريضه ودفنه في مقابر المسلمين. فلما لم يزل ذلك علمنا أنه من أهل الثواب في الآخرة. فإن قالوا جميع هذا ليس يدل على أن المفعول به ما وصفتم من أهل الثواب لأن جميع هذه الأحكام تجرى على المنافقين وليسوا بها مثابين. قيل لهم: وكذلك مدحنا للمؤمنين وتوليهم وحسن الثناء عليهم ليس بثواب لأننا نفعل ذلك أجمع بالمنافقين متى أظهروا لنا الإيمان وليس ذلك بثواب ولا دلالة على حصول الثواب في الآخرة. وإن هم قالوا لو جاز أن نعادي الفاسق ونذمه ونلعنه بشريطة أن يكون ممن يعاقب في الآخرة لجاز أن يعاديه الله ويلعنه على هذه الشريطة. يقال لهم: ولو جاز أن نلعن نحن شهود الزنى ونبرأ منهم بشريطة أن كانوا كاذبين لجاز أن يلعنهم الله ويعاديهم على هذه الشريطة. فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلتم. والسبب المفرق بين لعننا وعداوتنا بشريطة يجوز أن تكون ويجوز أن لا تكون وامتناع لعن الباري لهم بشريطة لأننا نحن لا نعلم عواقب أمورهم والباري سبحانه عالم بذلك فلم يجز عليه لعنهم والعداوة لهم بشريطة وإن جاز وصح ذلك فينا.

مسألة

وإن قالوا الدليل على خلود الفاسق الملي في جهنم أنه قد ثبت أنه مستحق للعقاب وثبت أن ما يستحقه من ذلك دائم كما أنه مستحق للذم دائما ما لم يتب فوجب أنه غير مثاب. يقال لهم: وما أنكرتم أن يكون الفاسق غير معاقب بالنار بهذه العلة بعينها لأنه قد ثبت أنه مستحق لثواب دائم على إيمانه وطاعته كما أنه مستحق لمدح دائم فوجب أنه غير معاقب بالنار. فإن قالوا لو كان مستحقا للثواب لم يلعن ولم يهن في الدنيا ولزالت عنه الحدود. قيل لهم: هذه الحدود ليست بعقاب وإنما هي امتحان. ثم يقال لهم: ولو لم يستحق الفاسق بطاعته الثواب لم يستحق المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين. فإن قالوا هذه الأمور ليست بثواب. قيل لهم: والحدود ليست بعقاب لأنها جارية على التائب الولي. وكذلك ذمنا وبغضنا ليس بعقاب لأنه جار على شهود الزنى إذا اختلفت شهادتهم ونقص عددهم وإن كانوا صادقين أبرارا عند الله عز وجل. ولا فصل في شيء من ذلك.

باب الكلام في الشفاعة

ومما يدل على جواز الغفران لعصاة أهل الملة ما ورد من الأخبار الثابتة المتظاهرة في إثبات شفاعة الرسول وآله في أهل الكبائر نحو قوله: « ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ». وقد روى خبر الشفاعة عن النبي وآله عدة منهم أنس بن مالك وجابر بن عبد الله. ورواه حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي. وروى معبد بن هلال وثابت البناني ذلك في خبر طويل عن أنس بن مالك. ورواه أيضا أبو سعيد الخدري عن النبي وآله وسلم. قال أنس بن مالك سمعت محمدا وآله وسلم يقول: « إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض. فيؤتى آدم فيقال له يا آدم اشفع في ذريتك. فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن. فيؤتى إبراهيم فيقال له مثل ذلك. فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الرحمن. فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته. قال فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد. فأوتى فأقول أنا لها. فأنطلق فأستأذن على ربي. فيؤذن لي عليه فأقوم بين يديه فيلهمني محامده فأحمده بتلك المحامد. ثم أخر ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع. فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه إما قال مثقال ذرة أو مثقال شعيرة من إيمان فأخرجه منها. قال فأخرجه ثم أعود فأحمده بتلك المحامد وأخر ساجدا. فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع. فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان فأخرجه منها. قال فأنطلق فأفعل ذلك. ثم أحمده بتلك المحامد ثم أخر ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار ثلاث مرات ». وزاد الحسن البصري في هذه الرواية عن أنس ابن مالك وثلاثة وعشرين رجلا. قال حدثني أنس أنه قال فأقوم الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر ساجدا. قال فيقال لي ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. فيقال لي ليس لك ذلك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. والأخبار في الشفاعة أكثر من أن يؤتى عليها وهي كلها متواترة متوافية على خروج الموحدين من النار بشفاعة الرسول وآله وإن اختلفت ألفاظها. ففي بعضها أنهم يخرجون بعد ما امتحشوا فيه وصاروا فحما. وفي خبر أنهم يخرجون منها ضبائر ضبائر فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الطراثيث والحبة في جميل السيل. وأنهم يدخلون الجنة مكتوبا على جباههم الجنميون وفي خبر آخر عتقاء الله من النار وأن آخر من يخرج من النار رجل يقول في النار يا حنان يا منان. وقد أطبق سلف الأمة على تسليم هذه الرواية وصحتها مع ظهورها وانتشارها والعلم بأنها مروية من الصحابة والتابعين. ولو كانت مما لم تقم الحجة بها لطعن طاعن فيها بدفع العقل والسمع لها على ما يقوله المعتزلة ولكانت الصحابة أعلم بذلك وأشد تسرعا إلى إنكارها. ولو كانوا قد فعلوا ذلك أو بعضهم لظهر ذلك وانتشر ولتوفرت الدواعي على إذاعته وإبدائه حتى ينقل نقل مثله ويحل العلم به محل العلم بخبر الشفاعة لأن هذه العادة ثابته في الأخبار. وفي العلم بفساد ذلك دليل على ثبوت خبر الشفاعة وبطلان قول المعتزلة إن الغفران باطل بالعقل وموجب لتكذيب السمع وغير ذلك مما يدعونه.

مسألة

فإن قالوا هذه الأحاديث معارضة بمثلها. فروى الحسن البصري وغيره عن النبي أنه قال « لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي ». فوجب إطراحها. يقال لهم: هذه الرواية التي ذكرتموها غير معروفة ولا ثابتة عند أهل النقل. فلا يجب أن يدفع بها ما قد علمنا نحن وأنتم أنه مروي. ثم يقال لهم: لو سلمت روايتكم لوجب حملها مع الأخبار التي رويناها على ضرب من البناء والتأويل حتى لا يدفع من السنن شيء يمكن استعمالها وتصحيحها كما يصنع ذلك في قوله تعالى: { هذا يوم لا ينطقون } وقوله { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون }. فنقول قوله لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي أراد بذلك أن كانت الكبائر الواقعة منهم ردة بعد إسلام أو كفرا بعد إيمان بدلالة الأخبار الأخر التي فيها إخراج أهل الإيمان بشفاعته فلا يكون لذلك معارضا. فإن قالوا قوله لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي يمنع تأويلكم هذا لأنه حكم بأنهم من أمته وذلك يقتضي أنهم قوم مسلمون. قيل لهم: يحتمل أن يكون أراد بقوله أمتي الذين كانوا من أمتي ثم ارتدوا. ويحتمل أن يكون أراد أهل قرني وعصري الذين بعثت فيهم فلا تعلق لهم في ذلك.

مسألة

فإن قالوا أفليس قد روي عن النبي وآله أنه قال « من تحسى سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا » وروي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة ومن تردى من جبل. وكذلك روي عنه أنه قال « لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ». وهذه الأخبار معارضة لأخبار الشفاعة. قيل لهم: لو ثبتت هذه الأخبار كثبوت خبر الشفاعة لم تكن متعارضة. بل يجب أن يكون قوله من تحسى سما فقتل نفسه ومن أدمن الخمر ومن عق والديه وتردى من جبل وقتل نفسه بحديدة ينصرف إلى من فعل ذلك أجمع على وجه الاستحلال وتكذيب الخبر والتوقيف على تحريمه. لأن ذلك لا يقع على جهة التكذيب ممن يستحق الشفاعة.

مسألة

فإن قالوا أفليس الرسول لا يشفع إلا في مؤمن وقد وردت الروايات بأن السارق لا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. فكيف يشفع الرسول وآله فيمن ليس بمؤمن وكذلك روي عنه أنه قال « ليس منا من بات بطينا وجاره خميص ومن غشنا فليس منا » فكيف تحصل الشفاعة لمن ليس من أهل ملته. يقال لهم: هذه الأخبار أيضا محتملة لوجوه إذا صرفت إليها لم تكن معارضة لخبر الشفاعة. فيحتمل أن يكون المراد بقوله « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن » إذا فعلا ذلك مستحلين للزنى والسرقة ومكذبين بتحريمهما. ولا شفاعة لمن زنى مستحلا لذلك. ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنه ليس بمؤمن كالمؤمن الذي لم يكن منه زنى ولا سرقة في البر والطهارة والسلامة من الذنوب. ويحتمل أن يكون ذلك إنما خرج على مذهب التغليظ والمبالغة في الزجر على سبيل قوله « لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » وكذلك قوله « من غشنا فليس منا » و « ليس منا من بات بطينا وجاره خميصا ». وإذا حملت هذه الأخبار على هذا التأويل بطل التعارض. وقد روى أبو الدرداء عن النبي قال « من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ». قال فقلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ وأنه ردد ذلك عليه حتى قال له في الثانية أو الثالثة: « نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء » وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل هذه الأخبار على البناء والترتيب كما يجب ذلك في آي القرآن المتعارضة الظواهر. فإن قالوا فما معنى قوله { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }. قيل لهم: معناه ولا يشفعون إلا لمن رضي الله سبحانه أن يشفعوا وأذن فيه. ولم يرد بذلك أنهم لا يشفعون إلا لمن رضي عمله لأن من رضي الله سائر عمله لا يحتاج إلى الشفاعة. ويحتمل أيضا أن يكون أراد أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى عمله الذي هو غير ذنبه الذي يستوجب به العقاب. فكأنه قال لا يشفعون إلا لمن معه عمل مرتضى. والفاسق معه طاعات وبر وقرب وتصديق وتوحيد وذلك أجمع مرتضى منه. وإنما تدل هذه الآية على أنه لا شفاعة لكافر لأن الكافر لا طاعة معه.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قوله عز وجل: { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع }. قيل لهم: معنى ذلك أنه لا شفاعة للظالمين بالكفر والشرك الذين لا طاعة معهم. قال الله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم }. ولم يرد أهل التوحيد كما أنه لم يرد عندكم أهل الصغائر الواقعة منهم مع مجانبة الكبائر. فلا تعلق لهم في ذلك.

مسألة

فإن قالوا فما معنى قوله { لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون } و { ولا يخفف عنهم من عذابها } و { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب }. قيل لهم: جميع هذه الآيات وما كان بمعناها يراد بها أهل الكفر والجحد والتكذيب. وكذلك قوله { فما تنفعهم شفاعة الشافعين }. لأن الله تعالى خبر عنهم أنهم قالوا { لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين }. ولم يعن بهذا الوعيد أحدا من أهل الإسلام والتصديق.

مسألة

فإن قال قائل منهم: ما أنكرتم أن تكون شفاعة الرسول الملائكة مستحقة للمؤمنين على وجه الثواب لهم والجزاء على أعمالهم وطاعاتهم وتوبتهم لأن الله تعالى أخبر بذلك فقال: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وادخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم }. فأخبر سبحانه أن ذلك على وجه الثواب لهم. يقال لهم: متى أخبر الله سبحانه بذلك وليس في الآية أكثر من أن الملائكة يستغفرون لهم فقط. ثم يقال لهم: لو كان استغفار الرسول والملائكة وشفاعتهم إلى الله سبحانه ثوابا على أعمالهم والرسول والملائكة هم الفاعلون الخالقون لكلامهم وطلبهم وشفاعتهم عندكم لكانوا هم المثيبين للمؤمنين التائبين بهذه الشفاعة. لأن فاعل الثواب مثيب كما أن فاعل العقاب معاقب وفاعل الألم والتفضل مؤلم متفضل. فلما أجمع المسلمون على أن الأنبياء والملائكة لا يثيبون الطائعين لله على طاعاتهم له سبحانه وأن الله هو المثيب على ذلك دون كل أحد بطل ما توهمتم. ثم يقال لهم: لو سلمنا لكم أن الشفاعة مستحقة بالإيمان لم يدل ذلك على أنها ليست بشفاعة في غفران الذنوب. لأن الإيمان بالله سبحانه والتوبة من الكفر يستحق به الثواب عندكم. فيجوز أيضا أن يستحق به شفاعة النبي ذنوبهم التي قارنت الإيمان. فما الذي يدفع ذلك. فإن قالوا لأنه أخبر عنهم أنهم يقولون { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } والمصر ليس بتائب. قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون أراد بقوله للذين تابوا من كفرهم وطعنهم على النبيين ودين المسلمين واتبعوا سبيله سبحانه واعتقدوا توحيده وتصديق رسله والإقرار بما جاء من عنده فهل تجدون لهذا مدفعا. ولو كانت الملائكة لا تشفع إلا لمؤمن تقي تائب مقلع متنسك لا سبيل ولا حجة عليه لم يكن لشفاعتها معنى إلا الرغبة إلى الله عز وجل في أن لا يظلمه ولا يجوز عليه ولا يسفه بعقابه لأن عقاب من هذه سبيله ظلم وسفه على أصولهم. والأنبياء والملائكة أجل عند الله عز وجل وأعظم قدرا من أن ترغب إليه في أن لا يظلم عباده ولا يجوز في حكمه. ويمكن أيضا على أصولنا أن يكون معنى قوله { فاغفر للذين تابوا } أي تفضل عليهم بقبول توبتهم فاغفر لهم. لأن قبول التوبة تفضل من الله له أن يفعله وله أن لا يفعله. وهذا التأويل غير مطرد على أصول المعتزلة لأنها توجب قبول التوبة على الله وتظلمه وتجوزه في ردها وترك قبولها والعقاب على ما هي توبه منه. فلا يسوغ لهم مع ذلك مثل تأويلنا.

فصل

وقد افترقت المعتزلة فريقين. فأنكر فريق منهم الشفاعة جملة وحمل نفسه على جحد الأخبار ورد القرآن. وقال الفريق الآخر إن للأنبياء والملائكة شفاعة إلا أنها تشفع لثلاثة فرق من الناس المؤمنين. ففريق من أهل الشفاعة هم أصحاب الصغائر الذين واقعوها مع مجانبة الكبائر. والفريق الآخر أصحاب الكبائر الذين تابوا منها وندموا عليها. والفريق الآخر هم المؤمنون الذين لا ذنب لهم أصلا. فتكون شفاعة الأنبياء والملائكة فيهم شفاعة في الزيادة لهم من النعيم على قدر ما يستحقون بأعمالهم. فأما الشفاعة في صاحب كبيرة إذا مات مصرا عليها فإنها باطلة. فيقال لهم: أما الشفاعة للفريقين الأولين لا معنى لها. لأنها شفاعة إلى الله في أن لا يظلم ولا يجور على عباده بعقاب غير مستحق لأن صاحب الصغيرة غير مستحق للعذاب إذا فعلها مع مجانبة الكبائر عندكم وعلى أصولكم. وكذلك التائب من الكبيرة قد أزال عن نفسه العقاب بتوبته وصار عقابه عليها مع التوبة ظلما قبيحا. فلا معنى للشفاعة فيمن هذه حاله. فأما الشفاعة للسالم من كل الذنوب في أن يزاد على قدر ما يستحقه فإنها خلاف الشفاعة المروية عن النبي ولأن ذلك لم يذكر في شيء من الأخبار. وكذلك هي مخالفة للقرآن لأن الشفاعة التي ذكرها الله سبحانه عن الملائكة إنما هي شفاعة في الغفران للذين تابوا من الكفر والظلم لأن يقيهم السيئات وليس فيها ذكر الزيادة في النعيم. ولولا العناد والميل إلى سبيل الضالين ووساوس المردة والشياطين لم يعدلوا عن إثبات الشفاعة المذكورة في نص الكتاب والمأثورة في الأخبار إلى الترهات وطريق التأويلات وتلفيق الجهل والضلالات. ويقال لهم: ليس الكلام بين الأمة في الزيادة على قدر الثواب وإنما الكلام في الشفاعة التي جاءت بها الأخبار والقرآن فهل لها عندكم معنى أم لا. فإن قالوا لا صاروا إلى جحد القرآن والروايات وسألناهم على حد ما تقدم. وإن أثبتوها وتأولوها على بعض ما تقدم كلمناهم بما سلف ولا جواب لهم عن شيء منه.

مسألة لهم هذا الباب

فإن قالوا خبرونا عمن حلف بالطلاق أنه يعمل عملا ينال به شفاعة الرسول الذي يجب عليه أن يعمل أتأمرونه بعمل المعاصي أو بماذا تأمرونه. يقال لهم: لا بل نأمره أن يطيع الله سبحانه حتى ينال شفاعة الرسول الزيادة على قدر عمله على ما ارتضيتموه في أقسام الشفاعة. وفي ذلك سقوط سؤالكم. وكذلك الجواب إن قالوا حلف أن يعمل عملا يصير به من أهل الشفاعة. ثم يقال لهم: الذي يجب عندنا على هذا الإنسان أن يستديم الإيمان ويتمسك بفعل الخير والطاعات لأنه بذلك عندنا ينال الشفاعة دون ذنوبه. لأن له أذنب ولم يتب مع ذلك ويؤمن لم ينل الشفاعة. فالذي به تثبت له الشفاعة بره وإيمانه كما أن الذي به تثبت لزيد شفاعة صديقه ووليه إنما هو صداقته وسالف الجميل منه وليس هو نفس الذنب والجناية عليه. وهذا معلوم بما يغني عن الحجاج والإكثار.

مسألة

وإن سألوا عمن حلف أنه يفعل ما يستحق أو يستوجب به شفاعة النبي إن عنى بالاستحقاق والاستيجاب النيل لها والكون من أهلها أمرناه بما سلف من طاعة الله عز وجل وإن عنى به الاستحقاق على الله أو على رسوله واعتقد ذلك فلا مخرج له عن يمينه لقيام الدلالة على أنه لا يجوز أن يستحق على الله ولا على رسوله وملائكته الشفاعة بشيء من الأعمال.

مسألة

وإن قالوا فما تقولون فيمن حلف أن يفعل فعلا يجوز أن يشفع له فيما استحق عليه من العقاب. قيل لهم: هذا لا نأمره بشيء من معاصي الله تعالى. فإن ابتلي بشيء من ذلك فقد زال عنه حكم اليمين. كما أنكم لا تأمرونه بفعل الصغير من الذنوب فإن ابتلي بشيء من ذلك زال عنه حكم اليمين. ثم يقال لهم: فما تقولون أنتم فيمن أحب أن يكون من التوابين والمستغفرين لما سمع الله يثني على التوابين والمستغفرين فحلف أن يعمل عملا تصح توبته واستغفاره منه. فإن قالوا نأمره بفعل الخير والبر. قيل لهم: وكيف تصح توبته واستغفاره من فعل الخير وتقربه بالندم عليه وهذا ما لا يقوله مسلم. وإن قالوا نأمره بفعل بعض معاصي الله سبحانه خرجوا من الإجماع واستجازوا ما حظره الله لأن الأمر بالعصيان عصيان. وإن قالوا لا نأمره بفعل المعصية لكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له: قد فعلت ما يصح استغفارك وتوبتك منه وزال حكم اليمين عنك أجيبوا بمثل ذلك فيما سألونا عنه. وبالله التوفيق.

باب الكلام في الإمامة وذكر جمل من أحكام الأخبار ومما يدل على فساد النص وصحة الاختيار

قال أدام الله تأييده: قد كنا أملينا مختصرا في الإمامة جعلناه مدخلا إلى كتاب مناقب الأئمة ونقض المطاعن على سلف الأمة اختصرنا العبارة فيه وأوضحنا معانيه ولم يخل بمعنى يحتاج إليه في فصول منه. فرأينا أن ننقل تلك الفصول على وجهها إلى هذا الكتاب ونزيد في بعضها وننقص من بعض طلبا لسرعة الفراغ من ملتمس أطال الله بقاءه. فنقول إن أصل هذا الباب الذي بمعرفته يتوصل إلى علم الصواب منه هو الوقوف على جملة أقسام الأخبار وما يوجب العلم منها اضطرارا وما يقتصر عن ذلك مما يعلم نظرا واستدلالا ولا سبيل إلى العلم بصحته مما يمكن أن يكون صدقا ويمكن أن يكون كذبا وما يوجب العمل دون العلم من هذه الأخبار وما قد قطع الدليل على بطلانه وكذب ناقليه منها.

باب القول في معنى الخبر

إن قال قائل: ما معنى وصفكم للشيء بأنه خبر. قيل له: معنى ذلك أنه ما يصح أن يدخله الصدق أو الكذب لأنه متى أمكن دخول الصدق أو الكذب فيه كان خبرا ومتى لم يمكن ذلك فيه خرج عن أن يكون خبرا وبهذا الاختصاص فارق الخبر ما ليس بخبر من الكلام وسائر الذوات التي ليست بخبر.

باب الكلام في أقسام الأخبار

فإن قال قائل: فعلى كم وجه تنقسم الأخبار قيل له: على ثلاثة أضرب فضرب منها خبر عن واجب وهو كل خبر عن أمر ثابت قضت الضرورات ودرك الحواس على إثابته وقامت الأدلة على ذلك من أمره نحو الخبر عن حضور ما ندركه ونشاهده بحواسنا والخبر عن امتناع اجتماع الضدين وكون الجسم في مكانين معا وأمثال ذلك مما يعلم فساده بضرورات العقول والخبر عن حدث العالم وإثبات محدثه وأنه على ما يجب كونه عليه من صفات وصحة أعلام رسله وما جرى مجرى ذلك من كل أمر ثبت العلم بصحته استدلالا ونظرا وهذا ما لا يقع أبدا إلا صدقا من قديم ومحدث ومؤمن وكافر وعدل وفاسق وجماعة وآحاد لثبوت مخبره وصحته وكيف تصرفت بالمخبرين عنه الحال. والضرب الثاني خبر عن محال ممتنع إما بقضية الحواس والضرورات أو بما قام عليه من الحجج والدلالات نحو الخبر عن عدم ما نشاهده وكونه على خلاف صفة ما ندركه عليه والخبر عن قيام الأموات وقلب العصا حيات وانقلاب دجلة ذهبا في وقتنا هذا والخبر عن وجود الضدين في محل واحد وكون الجسم في مكانين وما جرى مجرى ذلك من الممتنع المعلوم بطلانه وإحالته بقضايا الحواس وموضوع العادات وأوائل العقول والضرورات وهذا الخبر لا يقع أبدا إلا كذبا ممن وقع منه لثبوت العلم ببطلان مخبره وتناوله له على غير ما هو به. وليس يجوز أن يقع هذا الخبر من القديم ولا من نبي ولا ممن خبر نبي عنه أنه لا يكذب ولا من قوم يثبت بهم التواتر ويعلم صدقهم اضطرارا إذا نقلوا عن مشاهدة من غير قهر وإجبار وأسباب يظهر عليهم الحديث بها لأن الكذب لا يجوز على من ذكرناه فيما هذه حاله ونحو الخبر عن حدوث القديم وقدم المحدث وإبطال المعجزات وغير ذلك مما يدل الدليل على ثبوته وأن الخبر قد تناوله على خلاف ما هو به وهذا الخبر لا يقع أيضا من الله ولا من رسوله ولا ممن أخبر أنه لا يكذب في خبره وقد يجوز أن يقع من قوم لو خبروا عن مشاهدة لحجوا وعلم صدقهم ضرورة بشبهة تدخل عليهم لأنهم غير عالمين بما خبروا فضلا عن أن يكونوا إليه مضطرين. والضرب الثالث من الأخبار خبر عن ممكن في العقل كونه ومجيء التعبد به نحو الإخبار عن مجيء المطر بالبلد الفلاني وموت رئيسهم ورخص سعرهم وعن كون زيد في داره وخروجه عنها ونحو الإخبار عن الرسول إمام بعده وعلى حج وصلوات وعبادات أكثر من المتعبد بها في الشريعة وأمثال ذلك مما يمكن أن يكون صدقا ويمكن أن يكون كذبا وما هذه حاله موقوف على ما يوجب الدليل من أمره فإن قام الدليل على أنه صدق قطع به وإن قام على أنه كذب قطع ببطلانه وكذب ناقله وإن عدم دليل صحته ودليل فساده وجب الوقف في أمره وتجويز كونه صدقا وكونه كذبا وإذا وقع الخبر على الممكن كونه من الله ومن رسوله وممن أخبر عنه أنه لا يكذب في خبره ومن جماعة أسندوا ما أخبروا عنه إلى مشاهدتهم ليثبت التواتر بمثلهم قطع بصدقهم وكذلك كل خبر عن جائز قام الدليل على صدق نقلته. وهذه جملة من القول في تفسير الأخبار مقنعة.

باب الكلام في إثبات التواتر واستحالة الكذب على أهله

إن قال قائل: ما الدليل على استحالة الكذب على العدد الذين يثبت بهم التواتر. قيل له: ما قدمنا عند القول في نقل أعلام الرسل وهو أن العادة لم تجر باجتماع مثل عدد أهل التواتر على نقل كذب عن مشاهدة ولا على كتمان ما هم عالمون به من غير ظهور الحديث به بينهم والإقرار إذا خلوا بأنهم كتموا وتشاعروا لعلة دعتهم إلى ذلك لأنه لا يجوز أن يستمر بهم ترك ذلك والخوض فيه والحديث به زمانا طويلا أو الأبد حتى لا يعلم في حالهم أنهم قد افتعلوا وإن جاز ذلك على الواحد والاثنين منهم كما أنه لم تجر العادة باجتماع مثلهم على التشويه بأنفسهم والتعالج لتشويه وجوههم وكشف سوآتهم وعوراتهم وطلاق نسائهم والخروج من ديارهم وشخوص أجمعهم إلى بلد كرمان وشيراز وبلد الصين واحتمال هول البحر وغير ذلك من المتاجر والصنائع لما جعلهم الله عليه من تفرق الدواعي واختلاف الهمم والأعراض فمن أراد أن يجيز الكذب على جميعهم عند الاجتماع لجواز ذلك على آحادهم عند الانفراد فهو كمن جوز عليهم جميع الذي وصفنا مع اجتماعهم لجواز ذلك على آحادهم عند الانفراد وكل ذلك محال معلوم امتناعه وتعذره في العالم. فإن قال قائل: ما الدليل على أن العلم بمخبر خبر من ذكرتم يقع اضطرارا. قيل له: الدليل على ذلك أننا نجد أنفسنا عالمة بما يخبرون عنه على حد ما نجدها عالمة بما تدركه من حواسنا وما نجده من أنفسنا مما لا يمكننا الشك فيه ولأنه قد شاركنا في العلم به النساء والعامة والمتنقصون الذين ليسوا من أهل النظر فثبت أن العلم بذلك ضرورة على ما قلناه.

باب آخر في صفات أهل التواتر

فإن قال قائل: هل يجب أن يكون لأهل التواتر صفات لا بد من كونهم عليها. قيل له: أجل فإن قال وما هي. قيل له: منها أنه يجب أن يكونوا عالمين بما ينقلونه علم ضرورة واقعا عن مشاهدة أو سماع أو مخترع في النفس من غير نظر واستدلال وإلا لم يقع العلم بخبرهم وكذلك ما لم يجب أن يقع العلم بخبر كافة المسلمين لمن خالفهم بحدث الأجسام وإثبات صانعها وكون القرآن معجزا وغير ذلك من الأخبار عن صحة الأمور المعلوم ثبوتها عندهم من جهة الاستدلال لأن الله تعالى لم يجر العادة بفعل العلم بالمخبر عنه إذا علمه المخبرون عنه من هذه الطريقة ولأنا إنما نخبر عن استدلال واقع لنا به العلم فمن عرفه واستعمله ورتبه في موضعه عرف من ذلك ما عرفناه ومن صدف عنه وأعرض عن تأمله لم يعرف صحة ما عنه خبرنا. ومن صفاتهم أن يكونوا عددا يزيدون على الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة وكل عدد أمرنا الله بالاستدلال على صدق المخبر به كالشاهد الواحد ومن أمرنا بالاجتهاد في عدالتهم وتأمل أحوالهم لأنه لو علم تعالى أن خبر الواحد يوجب علم الاضطرار وأنه سيفعل ذلك عند خبره لما أمرنا بالاستدلال على صدق أخبار الرسل خاصة مع عدالتهم وارتفاع أقدارهم وشدة تنزههم عن الكذب وتجنبهم له وكذلك لو علم أن الاثنين أو الرجل والمرأتين والأربعة إذا شهدوا بالزنا وقع العلم بخبرهم إذا كانوا صادقين لم يتعبدوا بالاجتهاد في عدالتهم وقبول شهادتهم إذا كانوا عندنا على هذه الصفة وردها إذا كانوا فساقا لأننا إنما نستدل ونجتهد إذا لم نعلم بصدق المخبر فأما إذا علم صدقهم ضرورة فلا وجه للنظر والاستدلال على ما نحن إلى العلم بصحته مضطرون فوجب أن من صفات أهل التواتر تجاوز عددهم لعدة من أمرنا بالاجتهاد في شهادتهم ويكفي في ذلك على أصولنا أن نقول ويجب أن يكونوا عددا يتجاوزون عدة من جرت العادة بألا يعقل العلم بصدق خبرهم ضرورة دون ذكر الأربعة والاجتهاد في العدالة. ومن صفاتهم أن يكونوا عددا كل من خبر عن مشاهدة وكان في الكثرة والعدد كهم وقع العلم بخبرهم ضرورة. ومن صفاتهم إذا كانوا خلفاء لسلف ولسلفهم سلف أن يكون أول خبرهم كآخره ووسط ناقليه كطرفيه في أنهم قوم بهم يثبت التواتر ويقع العلم بصدقهم إذا نقلوا عن مشاهدة. هذه الصفات التي يجب لزومها لأهل التواتر دون ما يغلط قوم من أهل النظر بذكره من اختلاف الديانات والملل وتفرق الأوطان وتباعد الديار واختلاف الأنساب وتغاير الأسباب وأن يكونوا في دار ذلة وأن تؤخذ منهم جزية إلى غير ذلك مما يذكرونه من الأوصاف لأنه قد يقع العلم بخبر أهل ملة واحدة وبني أب واحد وأهل بقاع متجاورة وبلدة واحدة ويقع العلم بخبرهم وإن لم يكونوا في دار ذلة ولم تؤخذ منهم جزية كما وقع لنا العلم البلدان وغيرها من الأمور بنقل من ليس في دار ذلة ولا من يعطي الجزية.

باب آخر في خبر الواحد

فإن قال قائل: فما معنى وصفكم للخبر بأنه خبر قيل له: أما حقيقة هذه الإضافة في اللغة فإنه خبر واحد وأن الراوي له واحد فقط لا اثنان ولا أكثر من ذلك. غير أن الفقهاء والمتكلمين قد تواضعوا على تسمية كل خبر قصر عن إيجاب العلم بأنه خبر واحد وسواء عندهم رواه الواحد أو الجماعة التي تزيد على الواحد. وهذا الخبر لا يوجب العلم على ما وصفناه أولا ولكن يوجب العمل إن كان ناقله عدلا ولم يعارضه ما هو أقوى منه على حد ما نذهب إليه مما ليس هذا موضع ذكره.

باب الكلام في إبطال النص وتصحيح الاختيار

إن سأل سائل فقال ما الدليل على ما تذهبون إليه من الاختيار للأمة وإبطال النص على إمام بعينه قيل له: الدليل على هذا أنه إذا فسد النص صح الاختيار لأن الأمة متفقة على أنه ليس طريق إثبات الإمامة إلا هذين الطريقين ومتى فسد أحدهما صح الآخر والذي يدل على إبطال النص أنه لو نص النبي إمام بعينه وفرض طاعته على الأمة دون غيره وقال لهم هذا خليفتي والإمام من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا لكان لا يخلو أن يكون قال ذلك وفرضه بمحضر من الصحابة أو الجمهور منهم أو بحضرة الواحد والاثنين ومن لا يوجب خبره العلم فإن كان قد أعلن ذلك وأظهره وقاله قولا ذائعا فيهم وجب أن ينقل ذلك نقل مثله مما شاع وذاع من نحو الصلوات وفرض الحج والصيام وغيرهما من العبادات التي لا اختلاف بين الأمة في أنها مشروعة مفروضة في دين النبي سيما إن كان فرض الإمامة من الفرائض العامة اللازمة لكل أحد في عينه وكان النص من النبي عظيما وخطرا جسيما لا ينكتم مثله ولا يستتر عن الناس علمه مع العلم بأن الأمة قد نقلت بأسرها تولية النبي لزيد بن حارثة ولأسامة بن زيد وعبد الله بن رواحة وعمرو بن العاص ولأبي موسى الأشعري وعمرو بن حزم وغير هؤلاء من أمرائه وقضاته حتى لم يذهب علمه على أحد من أهل العلم والأخبار. والنص منه على إمام على صفة ما تدعيه الشيعة من التصريح والإظهار أعظم وأخطر من تولية الأمراء والقضاة وتوفر الدواعي على نقلة أكثر وإذا كان ذلك كذلك وجب لو كان الأمر على ما قالوه أن يغلب نقل النص من الكافة على كتمانه وأن يظهر وينقله خلف عن سلف إلى وقتنا هذا نقلا شائعا ذائعا يكون أول نقلته ووسطهم وآخرهم سواء في أنهم جميعا حجة يجب العلم عند نقلهم ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يعلم ضرورة صدق الشيعة فيما نقله من النص وألا يوجد لهم مخالف من الأمة يوفي على عددهم ينكر النص ويجحد علمه كما لم يوجد فيها من ينكر فرض الصلاة والصيام وإمرة أسامة بن زيد وزيد بن حارثة. وفي العلم ببطلان هذا ووجود أنفسنا غير مضطرة به ولا عالمة به وعلمنا بأن جمهور الأمة والسواد الأعظم منها ينكر ذلك ويجحده ويبرأ من الدائن به ورأينا أكثر القائلين بفضل علي عليه السلام من الزيدية ومعتزلة البغاديين وغيرهم ينكر النص عليه ويجحده مع تفضيله عليا على غيره وزوال التهمة عنه في بابه أوضح دليل على سقوط ما ذهبوا إليه وبطلانه. فإن قالوا ولم قلتم إن ما هذه سبيله من النقل يوجب علم الاضطرار قيل لهم: قد بينا ذلك فيما قبل بما يغنى عن رده. وإذا لم ينقل خبر الشيعة نقل مثله مما وقع شائعا ذائعا في الأصل ولا وجب العلم به كوجوب نظيرة مما يعم فرضه والبلوى به ولا اترفعت الشكوك والشبه فيه كارتفاعها عن نظيره وما جرى مجراه من تأمير النبي أمره وعقد القضاء لمن عقده بل ما يدعونه فوق هذا الباب ولا حصل علم ذلك لأكثر الشيعة والزيدية المفضلين لعلي عليه السلام على غيره من الأئمة والمختصين علما بفضائله ومناقبه والمبرئين من التهمة في بابه عند الفريقين ولا وجب علمنا بما قالوه ضرورة ولا حصل أيضا علمه لمن ليس من أهله مع بحثه عنه ممن يخالف الأمة كحصول علم اليهود والنصارى بمقدار فرض صلواتنا وصيامنا عند تلقيهم لنا وسماعهم لأخبارنا وجب القضاء على إبطال خبرهم عن النص بأكثر الأدلة الدالة على فساد الأخبار. وهذا بين لمن نصح نفسه وإن كان الرسول نص عليه النص الذي يدعونه بمحضر من الواحد والاثنين ومن يجوز الكذب والسهو عليه ولم يذع ذلك ويشعه فلا سبيل إذا لنا إلى العلم والقطع على أن النبي على رجل بعينه وألزم فرض طاعته دون غيره إذ كان إنما نقل ذلك في الأصل عن الرسول لا يجب العلم بصدقه ومن يجوز دخول الغلط والسهو عليه وكنا نحن وأنتم قد اتفقنا على أن أخبار الآحاد لا توجب علم الاضطرار وإن كان الآخذون عنهم ممن عددهم كعدد القطر والرمل فلم يقارن أيضا خبر ذلك الواحد عن النبي يدل على صدقه بأن يخبر الله تعالى عن ذلك الواحد في نص كتابه أنه لا يكذب في شيء من أخباره أو يخبر بذلك الرسول أمره أو تجمع الأمة على تلقي خبره بالقبول والمصير إلى العلم بموجبه والقطع عليه ولا كانت العقول دالة على وجوب النص من الله ورسوله على ذلك الرجل بعينه ومقتضية لصدق المخبرين عن النص عليه ولا ادعى ذلك الواحد والآحاد على سائر الأمة أو على من لا يجوز عليه فيها الكذب والافتعال والإمساك عن إنكار كذب يدعى عليهم أنهم حضروا نص النبي من ادعي النص عليه وسمعوه كما سمعه فإذا قد عري خبر الواحد عن النص عن كل شيء يدل على صدق أخبار الآحاد فوجب ألا نقطع بذلك ولا نصير إلى علمه بخبر الواحد. وعلى أنه لو كان النص قد رواه واحد وآحاد عن النبي صدر الأمة وادعى مع روايتهم حضورهم له وسماعهم فالواجب أن يقع لنا العلم ضرورة بأن هذا الأمر الخطير والشأن العظيم قد ادعاه ورواه راو في صدر الإسلام وأنه قد استشهد عليه وأيده بدعواه حضور القوم له وسماعهم إياه لأن توفر الدواعي على نقل ذلك لو كان صحيحا أشد من توفرها على نقل خلاف الأنصار في الإمامة وقول قائلها أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ونقل رواية من روى قول النبي « الأئمة من قريش » وأن محمدا ربه بعيني رأسه وخلاف من خالف فيه إلى نظائر ذلك مما رواه وقاله الآحاد وظهر واشتهر ظهور مثله على ما جرت العادة بمثل رواية الآحاد في الصدر الأول للنص من النبي إمام بعينه لا بد أن تتلقاه الأئمة بالقبول أو برده بأسرها أو ينكره بعضها ويصححه الآخرون منها ويقع التشاجر بينهم في ذلك لأنه ليس يجوز إغفاله وقلة الإحفال به وترك البحث والتأمل لروايته وحال راويه بل كان يجب أن نعلم ضرورة أن هذا قد ادعي في صدر الإسلام واستدل عليه ببعض الاحتجاج وكيف جرى أمر الأمة في قبوله أو رده أو الاختلاف فيه وألا يرد ذلك ورودا خاصا تفتعله الشيعة بينهم وتضيفه إلى عمار والمقداد وغيرهم من أصحابه ويمنون أنفسهم الأباطيل فيه بل يجب أن تعلمه العذراء في خدرها من المسلمين ومن ليس من أهل الإسلام أيضا من أهل السير وكل ذلك يدل على بطلان دعوى من ادعى منهم أن النص نقله واحد وآحاد في الأصل. فإن قال منهم قائل فاجعلوا خبر الشيعة عن النص بمنزلة أخبار الآحاد التي تعملون بها في الشريعة وإن لم تقطعوا على صحتها وخبر الشيعة عن النص فيه عمل من الأعمال في الشريعة فصيروا إلى العمل به قيل له: قد قلنا فيما قبل إنا إنما نعمل بأخبار الآحاد إذا كانت على صفات مخصوصة وعريت مما يدل على فسادها أو معارضتها وثبتت عدالة نقلتها ونحن لا نعرف أحدا قال بالنص على علي عليه السلام إلا وهو يتبرأ من أبي بكر وعمر وسائر أهل الشورى سوى علي ويشتم الصحابة ويزري على أفعالهم ويزعم أنهم ارتدوا بعد الإسلام على أعقابهم ويضيف إلى ذلك مذاهب أخر نرغب عن ذكرها لئلا يظن قارىء كتابنا أنا نقصد الشناعة عليهم دون الاحتجاج على فساد قولهم. وببعض هذه الأمور تسقط العدالة وتزول الثقة والأمانة لأن هذا الدين عندهم لا يتم إلا بالولاء والبراء ومنهم من يرى الشهادة لموافقة على خصمه والشريعة إنما أوجبت العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا مرضيا وليس هذه صفة القائلين بالنص ولا صفة الآحاد الذين رووا لهم ذلك في الأصل على دعواهم لأنهم يزعمون أن راوي هذه الأخبار لهم كان من القائلين بولاية علي وممن يرى في الصحابة رأيهم ويدين بالبراءة منهم فلا يجب أن يقبل خبر هذا السلف ولا يقبل الخلف لما قد ثبت من إيمان من دانوا بإكفاره وعدالة من دانوا بتفسيقه والبراءة منه. فإن زعموا أن رواة النص في الأصل لم يكونوا ممن يدين بالنص على علي عليه السلام قيل لهم: فهم إذا فساق عندنا وعندكم فوجه فسقهم عندكم تدينهم بترك ما علموه ورووه من النص وتوليتهم الظلمة والفساق ووجه تفسيقهم عندنا روايتهم لما لا أصل له عندهم ولما قد علموا بطلانه وترك العمل به وأوهموه الناس بطلانه فلا معتبر بخبر من هذه صفته عندنا وعندكم فهذا هكذا. ولأن هذه الأخبار التي هي أخبار الآحاد التي تدعونها في النص على علي أخبار قد عارضها إجماع المسلمين في الصدر الأول على إبطالها وترك العمل بها لأن الأمة كلها انقادت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ودانت بوجوب طاعتهما والسكون تحت رايتهما وفيهم علي والعباس وعمار والمقداد وأبو ذر والزبير بن العوام وكل من ادعي له النص وروي له وهذا الظاهر المعلوم من حال الصحابة رضي الله عنهم لا يمكننا ولا أحدا من الشيعة دفعه ولهذا قالوا إن التقية ديننا ورواه عن ولد علي أنهم قالوا إن التقية ديننا ودين آبائنا فلا يجوز أن يعمل بخبر الواحد ونحن نتيقن ترك رواته له وإظهاره فوجب ترك العمل على هذه الأخبار لتدينهم بخلافة وترك من روى النص عليه وتكذيبه به لأن الإجماع الظاهر في المعلوم يترك له ما هو أقوى من هذه الأخبار فوجب أيضا ترك العمل على هذه الأخبار ولولا كانت مروية. على أنا إنما نعمل بخبر الواحد من الشريعة إذا لم يعارضه خبر بضد موجبه وهذا الخبر الذي ادعته الشيعة فقد عارضه خبر البكرية والراوندية وكل من قال بالنص على أبي بكر والنص على العباس وروايتهم في ذلك أظهر وأثبت والعمل في صدر الأمة موافق لرواية النص على أبي بكر عليه السلام فهو إذا أقوى وأثبت فيجب إذا ترك الأضعف بالأقوى فإن لم نفعل ذلك فلا أقل من اعتقاد تعارض هذه الأخبار وتكافئها وتعذر العمل بشيء منها ورجوعنا إلى ما كنا عليه من أن الأصل ألا نص إلى أن يثبت أمر نعود إليه وأنى لأحد بذلك وكل ما يستدل به على بطلان الخبر الواحد موجود في هذه الرواية وفي بعض هذه الجملة كفاية في إبطال النص وإذا بطل النص ثبت الاختيار ثبوتا لا يمكن دفعه وإنكاره. فإن قال من الشيعة المنكرين صريح النص على علي عليه السلام ما أنكرتم أن يكون النبي نص على علي رضي الله عنه بقوله من كنت مولاه فعلي مولاه لأن النبي على وجوب طاعته وأنه أولى بهم من أنفسهم ثم قال بعد قوله لهم ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه فأوجب لعلي من وجوب الطاعة والانقياد له وأنه أولى بهم ما أوجبه لنفسه. يقال لهم: لا يجب ما قلتم لأن ما أثبته لنفسه من كونه أولى بهم ليس هو من معنى ما أوجبه لعلي بسبيل لأنه قال من كنت مولاة فعلي مولاه فأوجب الموالاة لنفسه ولعلي وأوجب لنفسه كونه أولى بهم منهم بأنفسهم وليس معنى أولى من معنى مولى في شيء لأن قوله مولى يحتمل في اللغة وجوها ليس فيها معنى أولى فلا يجب إذا عقب كلام بكلام ليس من معناه أن يكون معناهما واحدا. ألا ترون أنه لو قال ألست نبيكم والمخبر لكم بالوحي عن ربكم وناسخ شرائع من كان قبلكم ثم قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه لم يوجب ذلك أن يكون قد أثبت لعلي من النبوة وتلقى الوحي ونسخ الشرائع على لسانه ما أوجبه في أول الكلام لنفسه ولا أمر باعتقاد ذلك فيه من حيث ثبت أنه ليس معنى نبي معنى مولى فكذلك إذا ثبت أنه ليس معنى أولى معنى مولى لم يجب أن يكون قد أثبت لعلي ما أثبته لنفسه وإنما دخلت عليهم الشبهة من حيث ظنوا أن معنى مولى معنى أولى وأحق وليس الأمر كذلك. فإن قالوا ولم أنكرتم أن يكون معنى مولى معنى أولى قيل لهم: لأن هذا الذي تدعونه لغة ولا يجوز ثبوته إلا بتوقيف من أهلها عليه بنقل يوجب العلم مثله وينقطع العذر به ومتى لم نجد ذلك في اللغة كما ادعيتم بطل ما قلتموه كما أنه إذا لم يكن معنى مولى معنى نبي لم يجب إثبات النوبة لعلي بمثل هذا الكلام. فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون معنى قوله مولى معنى معنى أولى في اللغة بدلالة قوله تعالى: { مأوكم النار هي مولكم } يريد أولى بكم وبدلالة قول النبي « إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل » يريد بغير إذن مولاها المالك لأمرها وبدلالة قول الأخطل:

فأصبحت مولاها من الناس كلهم ** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

يقول أصبحت وليها فجعل مولاها بمعنى وليها. يقال لهم: ليس فيما ذكرتموه ما يدل على أن معنى مولى معنى أولى لأن قوله هي مولكم المراد به مكانهم وقرارهم وكذلك فسره الناس وأما قوله بغير إذن وليها فليس وليها من مولاها في شيء لأن أبا المرأة وأخوتها وبني عمها أولياؤها وليسوا بمول لها وإن كان ولي الأمة مولى لها لأنه لم يكن مولى لها من حيث كان وليها لأن ما ذكرناه ولي وليس بمولى وقول الأخطل فأصبحت مولاها إنما اراد ناصرها والحامي عنها لأن المولى يكون بمعنى الناصر وكان عبد الملك بن مروان إذ ذاك أقدر على نصرها وأشدها تمكنا من ذلك فلهذا قال وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا أي إنك أقدرها على إعزاز ونصرة وإجلال وإهابة وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قلتم. وعلى أنه لو ثبت أن معنى مولاه معنى أولى وإن كان محتملا لوجوه أخر لم يجب أن يكون المراد بقوله فمن كنت مولاه فعلي مولاه من كنت أولى به وإن نسق بعض الكلام على بعض وكان ظاهره يقتضي ذلك لدليل صرفه عما يقتضيه وهو أن الأمة مجمعة على أن النبي ما أوجبه بقوله « ما كنت مولاه فعلي مولاه » في وقت وقوع هذا القول في طول أيام حياة النبي كان إنما أثبت له الولاية عليهم وجعله أولى بهم وألزمهم طاعته والانقياد لأوامره لوجب أن يكون قد أثبته إماما وأوجب الطاعة له آمرا وناهيا فيهم مع وجوده سائر مدته أجمعت الأمة على فساد ذلك وإخراج قائله من الدين ثبت أنه لم يرد به فمن كنت مولاه من كنت أولى به ولم يرد بقوله فعلي مولاه أنه أولى به. ويدل على ذلك أيضا ويؤكده ما يروونه من قول عمر أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن فأخبر أنه قد ثبت كونه مولى له ولكم مؤمن فلم ينكر ذلك النبي أنه قد أثبت له في ذلك الوقت ما أثبته لنفسه وليس هو الولاية عليهم ولزوم طاعتهم له فهذه دلالة تصرف الكلام عن مقتضاه لو كان معنىمولى معنى أولى وكان نسق الكلام يقتضي ذلك فسقط ما تعلقوا به. فإن قالوا فما معنى مولى عندكم وما الذي أثبته النبي الكلام لعلي وقصد به قيل لهم: أما معنى مولى فإنه يتصرف على وجوه فمنها المولى بمعنى الناصر ومنها المولى بمعنى ابن العم ومنها المولى بمعنى الموالي المحب ومنها المولى بمعنى المكان والقرار ومنها المولى بمعنى المعتق المالك للولاء ومنها المولى بمعنى المعتق الذي ملك ولاءه ومنها المولى بمعنى الجار ومنها المولى بمعنى الصهر ومنها المولى بمعنى الحلف فهذا جميع ما يحتمله قوله مولى. وليس من معنى هذه اللفظة أن المولى إمام واجب الطاعة قال الله تعالى في المولى بمعنى الناصر { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } يعني ناصره وقال الأخطل:

فأصبحت مولاها من الناس كلهم ** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

أي فأصبحت ناصرها وحامي ذمارها. وأما المولى بمعنى ابن العم فمشهور. قال الله تعالى: { وإني خفت الموالي من ورائي } يعني بني العم قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يخاطب بني أمية:

مهلا بني عمنا مهلا موالينا ** لا تنبتوا بيننا ما كان مدفونا

لا تحسبوا أن تهينونا ونكرمكم ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا

الله يعلم أنا لا نحبكم ** ولا نلومكم ألا تحبونا

وأما المولى بمعنى المعتق والمعتق فأظهر من أن يكشف يقال فلان مولى فلان يعني معتقه ومالك ولائه وفلان مولى لفلان يراد به معتق له وأما المولى بمعنى الموالى المحب فظاهر في اللغة يقال فلان مولى فلان أي محب له وولي له وقد روي في قول النبي « مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله » أي محبون موالون لهما. وأما المولى بمعنى الجار فمعروف في اللغة قال مربع بن دعدعة وكان جاور كليب ابن يربوع فأحسنوا جواره:

جزى الله خيرا والجزاء بكفه ** كليب بن يربوع وزادهم حمدا

هم خلطونا بالنفوس وألجموا ** إلى نصر مولاهم مسومة جردا

أي إلى نصر جارهم. وأما المولى بمعنى الصهر فمعروف أيضا قال أبو المختار يزيد بن قيس الكلابي في ظلامته إلى عمر في أمرائه:

فلا تنسين النافعين كليهما ** وهذا الذي في السوق مولى بني بدر

وكان الرجل صهرا لبني بدر. وأما المولى بمعنى الحليف فمذكور أيضا قال بعض الشعراء:

موالي حلف لا موالي قرابة ** ولكن قطينا يعصرون الصنوبرا

فأما ما قصد به النبي « من كنت مولاه فعلي مولاه » فإنه يحتمل أمرين أحدهما من كنت ناصره على دينه وحاميا عنه بظاهري وباطني وسري وعلانيتي فعلي ناصره على هذا السبيل فتكون فائدة ذلك الإخبار عن أن باطن علي وظاهره في نصرة الدين والمؤمنين سواء والقطع على سريرته وعلو رتبته وليس يعتقد ذلك في كن ناصر للمؤمنين بظاهره لأنه قد ينصر الناصر بظاهره طلب النفاق والسمعة وابتغاء الرفد ومتاع الدنيا فإذا أخبر النبي نصرة بعض المؤمنين في الدين والمسلمين كنصرته هو على طهارة سريرته وسلامة باطنه وهذه فضيلة عظيمة. ويحتمل أيضا أن يكون المراد بقوله فمن كنت مولاه فعلي مولاه أي من كنت محبوبا عنده ووليا له على ظاهري وباطني فعلي مولاه أي إن ولاءه ومحبته من ظاهره وباطنه واجب كما أن ولائي ومحبتي على هذا السبيل واجب فيكون قد أوجب مولاته على ظاهره وباطنه ولسنا نوالي كل من ظهر منه الإيمان على هذه السبيل بل إنما نواليهم في الظاهر دون الباطن. فإن قيل فما وجه تخصيصه بهذا القول وقد كان عندكم في الصحابة خلق عظيم ظاهرهم كباطنهم قيل له: يحتمل أن يكون بلغة قادح فيه أو ثلب ثالب أو أخبر أن قوما من أهل النفاق والشراة سيطعنون عليه ويزعمون أنه فارق الدين وحكم في أمر الله تعالى الآدميين ويسقطون بذلك ولايته ويزيلون ولاءه فقال ذلك فيه لينفي ذلك عنه في وقته وبعده لأن الله تعالى لو علم أن عليا سيفارق الدين بالتحكيم أو غيره على ما قرف به لم يأمر نبيه أن يأمر الناس باعتقاد ولايته ومحبته على ظاهره وباطنه والقطع على طهارته وهو يعلم أنه يختم عمله بمفارقة الدين لأن من هذه سبيله في معلوم الله تعالى فإنه لم يكن قط وليا لله ولا ممن يستحق الولاية والمحبة وفي أمر رسول الله بموالاة علي على ظاهره وباطنه دليل على سقوط ما قرفه أهل النفاق والضلال به. فإن قالوا فإذا كان هذا هو الذي أراده فلم لم يقل علي مؤمن الظاهر والباطن نقي السريرة وخاتم لعمله بالبر والطاعة فيزيل الإشكال قيل لهم: ليس لنا الاعتراض على النبي تخير الألفاظ ولعله أوحى إليه أن إذاعة هذا الكلام وجمع الناس له وتقديم التقرير لوجوب طاعته لطف لعلي عليه السلام وأنه أجمع للقلوب على محبته وموالاته فلا سؤال علينا في ذلك. ثم يقال لهم: فلو كان الرسول إنما أراد بهذا القول النص عليه فلم لم يقل هذا إمامكم بعدي الواجبة طاعته فاسمعوا له وأطيعوا فيزيل الوهم والإشكال فكل شيء أجابوا به فهو جواب لهم فيما سألوا عنه.

دليل آخر

فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون النبي نص على علي عليه السلام بقوله « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » قيل لهم: لا يجب ذلك لأن معنى ذلك أني أستخلفك على أهلي وعلى المدينة إذا توجهت إلى هذه الغزوة لأنه إنما قال ذلك في غزوة تبوك لما خلفه بالمدينة وماج أهل النفاق وأكثروا وقالوا قد أبغض عليا وقلاه وقال سعد بن أبي وقاص وهو العمدة في رواية هذا الحديث فلحق علي بالنبي يا رسول الله أتتركني مع الأخلاف فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي أي إني لم أخلفك بغضا ولا قلى كما أن موسى لم يخلف أخاه هارون في بني إسرائيل لما توجه لكلام ربه بغضا ولا قلى. ومما يدل على أن هذا المعنى هو الذي قصده بقوله أنه كان لهارون من موسى منازل منها أنه كان أخاه ومنها أنه كان شريكا له في النبوة ومنها أنه خلفه في قومه لما توجه لكلام ربه وليس منها أنه خلفه بعد موته لأن هارون مات قبل موسى بسنين كثيرة وإنما خلف موسى بعد موته يوشع بن نون فلا يجوز أن يكون النبي عنى بقوله « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » أي إنك أخي لأبي وأمي ولا أنك تخلفني بعد موتي لأن هذه منزلة لم تكن لهارون من موسى فثبت أنه إنما أراد خليفتي على أهلي وعلى المدينة عند توجهي إلى هذه الغزوة كما خلف موسى أخوه هارون في قومه عند توجهه لكلام ربه. فإن قالوا فما معنى قوله إنه لا نبي بعدي وكيف يجوز أن يقول أما ترضى أن تخلفني في قومي وفي أيام حياتي إلا أنه لا نبي بعدي قيل لهم: لم يرد بقوله بعدي بعد وفاتي وإنما أراد لا نبوة بعد نبوتي ولا معي ولا بعدي وهذا كما يقل القائل لا ناصر لك بعد فلان ولا بيان لك بعد هذا الكلام يريد أنه لا نصرة لك بعد نصرة فلان لا في حباته ولا بعد موته وكذلك قولهم لا بيان لهم بعد هذا الكلام يريد لا بيان معه يزيد عليه ولا بعده فإن قالوا حمل الكلام على هذا التأويل يجعله مجازا لأن قوله لا نبي بعدي يقتضي بعد عينه وأنتم تقولون بعد نبوته ونبوته غيره قيل لهم: هذا هو مفهوم الكلام الذي هو أولى به من معناه فهو إذا كان كذلك حقيقة فالمعقول منه أولى به من حمله على ما ليس من مفهومه. ثم يقال لهم: وأنتم أيضا قد تركتم الظاهر وحملتم الكلام على المجاز لأنكم تزعمون أنه أراد بقوله لا نبي بعدي أي بعد موتي وموت النبي كما أن حركته وسكونه ولونه غيره وأنتم بمنزلة من قال لا نبي بعد حركتي وصفة من صفاتي وذلك تجوز في الكلام. وإذا كان لا بد من ترك الظاهر فتركه إلى المعقول من معناه من استعمال أهل اللغة أولى. فإن قالوا فإذا زعمتم أن النبي بهذا القول استخلافه على أهل المدينة فهو على ولايته إلى أن يصرفه النبي روى أحد صرفه قيل لهم: هذا من التعاليل لأن تولي النبي والإنفاذ لها والاستبداد بالنظر فيها عند رجوعه إلى المدينة صرف له مع أنه ليس في الأمة من يقول إن النظر والحكم والتولية كان لعلي عليه السلام في المدينة عند عود النبي من هذه الغزوة فلا متعلق لأحد في هذا. ثم يقال لهم: فقد كان رسول الله في أيام حياته عدة من الولاة على الموسم والبلدان والأطراف وولى قضاة وحكاما منهم أبو بكر الصديق فإنه ولاه الموسم وإقامة الحج سنة تسع من الهجرة وولى عمر صدقات قريش وولى زيد بن حارثة وولى أسامة بن زيد عند موته الجيش الذي أنفذه أبو بكر إلى الشام وولى عمرو بن العاص وأبا عبيده بن الجراح في غزوة ذات السلاسل وولى خالد بن الوليد وولى معاذا على اليمن وولى أبا موسى الأشعري وولى عمرو بن حزم فيجب أن يكون هؤلاء على ولاياتهم وإمرتهم وحكمهم وقضائهم لأنه لم يرو عن النبي واحد منهم فإن مروا على هذا قيل لهم: فيجب أن تقولوا ليس لعلي عليه السلام ولاية على أحد من هؤلاء وهذا خلاف دينكم وإن أبوه وقالوا لم تكن هذه الولايات مؤبدة من النبي منقطعة بموته وأن النبي هذه الأحكام بنفسه بعد توليته لمن ولاه قيل لهم: مثل ذلك في تأميره عليا على المدينة.

دليل آخر

فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون النبي نص على علي بقوله « أنت أخي وخليفتي في أهلي وقاضي ديني ومنجز عداتي » قيل لهم: ليس في هذا أيضا لو ثبت نص على إمامته لأنه إذا أراد بقوله أخي التعظيم لم يكن هذا عهدا في الإمامة ولا من النص على ولايته في شيء وإن كان ذلك خبرا له عن فضله وعظيم محله منه وأمانته في نفسه وهو أيضا خليفته على أهله وهم فاطمة وولدها عليهم السلام وقوله وقاضي ديني متوجه إلى أنه أمره بقضاء دينه أو كان قد قضي عنه قبل هذا القول وليس هذا من قوله أنت الإمام بعدي في شيء ولهذا ما لو قال خليفة الأمة في هذا الوقت زيد هذا أخي وخليفتي في أهلي وقاضي ديني لم يكن هذا عهدا إليه في الإمامة ولا من النص على ولايته في شيء وإن كان ذلك خبرا عن فضله عنده وعظيم محله منه وأمانته وثقته فلا متعلق أيضا في هذا القول. ثم يقال لهم: فيجب أن تثبتوا النص على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بمثل هذا القول لأنه قد روى مسلم بن إبراهيم عن قزعة بن سويد عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي « أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى » فيجب النص عليهما بهذا القول. فإن قالوا هذا من أخبار الآحاد التي لا نعلمها ضرورة ولا بدليل قيل إن جازت لهم هذه الدعوى جاز لخصمكم أن يزعم أن جميع ما رويتموه وتعلقتم به في النص والتفضيل من أخبار الآحاد التي لا نعلمها ضرورة ولا بدليل فلم يلزم القول بها ولا جواب لهم عن ذلك. ثم يقال لهم: كيف لم تعلموا أن جميع ما رويتموه ليس بنص على علي ولا عهدا إليه بترك علي المطالبة بذلك والاحتجاج به في السقيفة وعلى أهل البصرة ومعاوية وفي كل مقام كان يسوغ ذكره والاحتجاج به وعدوله إلى أن يقول بالبصرة بايعاني بالمدينة وخلعاني بالعراق وتعلمون أن ما ظهر منه من الانقياد لأبي بكر وعمر وعثمان والأخذ لغنيمتهم والموطىء للحنفيه من سبيهم وتزويجه ابنته من عمر بن الخطاب وإقامته حدا بحضرة عثمان وقتاله مع أبي بكر رضي الله عنهم أجميعن وما كان من ثنائه عليهما وقوله في عمر والله ما أحد ألقى الله بصحيفته أحب إلى من هذا المسجى. وقوله في رواية سويد بن غفلة والجم الغفير من أصحابه ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم بعد أبي بكر عمر ثم الله أعلم بالخير حيث هو وروايته عن النبي قال لهما « هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين » وقوله: ما حدثني أحد عن رسول الله أحلفته إلا أبا بكر وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، في نظائر هذه الأقاويل المشهورة عنه في مدحهم وتقريظهم وحس الثناء عليهم وأنه راض بإمامتهم وأنه لو كان الرسول نص عليه وقطع العذر في بابه لم يجز أنه يقول فيمن غصبه وجحده حقه هذه الأقاويل وتكون أفعاله معهم واقتداؤه بهم ما ذكرنا فكيف تركتم هذا الظاهر المعلوم من قوله وفعله إلى تعليل النفوس وشهواتها وتسويفها للأماني فإن قالوا كل هذا الذي ظهر منه على سبيل التقية والإرهاب والخوف منهم قيل لهم: وما الحجة في ذلك مع ما فيه من القدح وسوء القول في أمي والمؤمنين فلا يجدون في ذلك متعلقا. ثم يقال لهم: كيف لم تستدلوا على إثبات النص لأبي بكر رضي الله عنه بقوله « يؤم الناس أبو بكر » وقوله « يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر » وقوله لعائشة « إنكن صواحبات يوسف يأبى الله إلا أبا بكر » وقوله « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » وقوله « لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر أن يتقدمهم غيره » وقوله « إيتوني بدواة وكتف أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان » وقوله « أنتما من الدين بمنزلة السمع والبصر من الرأس » وقوله « لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن » وقوله « إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في أمر الله وإن تولوها عمر تجدوه قويا في بدنه قويا في أمر الله وإن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا » وعلموا بهذه البنية والترتيب أنه قصد التنبيه على النص عليه وبقوله « الخلافة بعدي إلى ثلاثين » وقوله « إن يطع الناس أبا بكر وعمر رشدوا ». ورشدت أمتهم وإن يعصوهما غووا وغوت أمتهم » وقوله « خير أمتي أبو بكر ثم عمر » وقوله « من أفضل من أبي بكر زوجني ابنته وجهزني بماله وجاهد معي ساعة الخوف » وقوله في عمر « لو كان بعدي نبي لكان عمر » و « لو لم أبعث فيكم لبعث عمر » و « إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه يقول الحق وإن كان مرا » و « إن منكم لمحدثين ومكلمين وإن عمر منهم » في نظائر هذه الأخبار والفضائل التي يطول تتبعها فكيف لم تقولوا بالنص عليهما. فإن قالوا كل هذه الأخبار آحاد غير ثابتة قيل لهم: فما الذي يمنع خصومكم على هذه الدعوى في أخباركم يجدون فصلا. ثم يقال لهم: فكأنكم قد عزمتم على إنكار جميع ما نرويه لكم وتكذيبه ومطالبتنا بالإقرار والإذعان لجميع ما تروونه وكأنكم إنما تقولون لنا سلموا لنا مذهبنا واتركوا الظاهر المعلوم من قول النبي أبي بكر وعمر وقول علي فيهما واحملوا ذلك على التقية منه وهذا من حديث النفوس وما لا سبيل لكم إلى المصير إليه.

باب الكلام في حكم الاختيار

فإن قالوا فإذا فسد النص على إمام بعينه فكيف طريق إثبات الإمامة وبماذا يصير الإمام إماما قيل لهم: إنما يصير الإمام إماما بعقد من يعقد له الإمامة من أفاضل المسلمين الذين هم من أهل الحل والعقد والمؤتمنين على هذا الشأن لأنه ليس لها طريق إلا النص أو الاختيار وفي فساد النص دليل على ثبوت الاختيار الذي نذهب إليه.

باب القول في العدد الذي تنعقد به الإمامة

فإن قال قائل: فبكم يتم عقد الإمامة عندكم؛ قيل له: تنعقد وتتم برجل واحد من أهل الحل والعقد إذا عقدها لرجل على صفة ما يجب أن يكون عليه الأئمة. فإن قالوا وما الدليل على ذلك؟ قيل لهم: الدليل عليه أنه إذا صح أن فضلاء الأمة هم ولاة عقد الإمامة ولم يقم دليل على أنه يجب أن يعقدها سائرها ولا عدد منهم مخصوص لا تجوز الزيادة عليه والنقصان منه ثبت بفقد الدليل على تعيين العدد والعلم بأنه ليس بموجود في الشريعة ولا في أدلة العقول أنها تنعقد بالواحد فما فوقه. فإن قيل ألا جعلتم العقد إلى كل فضلاء الأمة في كل عصر من أعصار المسلمين قيل له: أجمع أهل الاختيار على بطلان ذلك ولعلمنا بأن الله قد فرض علينا فعل العقد على الإمام وطاعته إذا عقد له وأن اجتماع سائر أهل الحل والعقد في سائر أمصار المسلمين بصقع واحد وإطباقهم على البيعة لرجل واحد متعذر ممتنع وأن الله تعالى لا يكلف فعل المحال الممتنع الذي لا يصح فعله ولا تركه ولعلمنا بأن سلف الأمة لم يراعوا في العقد لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي حضور جميع أهل الحل والعقد في أمصار المسلمين ولا في المدينة أيضا وأن عمر رد الأمر إلى ستة نفر فقط وإن كان في غيرهم من يصلح للعقد فوجب بهذه الجملة صحة ما قلناه ويوضح ذلك أيضا أن أبا بكر عقدها لعمر فتمت إمامته وسلم عهده بعقده له وسنتكلم في بيان ذلك وصحته عند انتهاء كتابنا إلى القول في إمامة عمر بما يوضح الحق إن شاء الله.

سؤال لهم

فإن قالوا: فهل يجب عندكم أن يحضر العقد للإمام قوم من المسلمين؛ قيل لهم: أجل وليس يجب أن يكون لمن يحضر العقد منهم حد فإذا حضر نفر من المسلمين تمت البيعة. وقد قال قوم إن أقل ما يجب أن يحضر أربعة نفر بعد العاقد والمعقود له قياسا على فعل عمر في الشورى وهذا ليس بواجب لأن عمر لم يقصد بجعلها شورى في ستة تحديد عدد الحاضرين للعقد وإنما جعلها فيهم دون غيرهم لأنهم أفاضل الأمة وقد أخبر بذلك عن نفسه بقوله أما إنه لو حضرني سالم مولى أبي حذيفة لرأيت أني قد أصبت الرأي وما تداخلني فيه الشكوك يريد من أخذ رأيه ومشورته فبطل ما قالوه وإنما يمنع أن يعقد الرجل لغيره مستسرا للعقد وخاليا به لئلا يدعي ذلك كل أحد وأنه قد كان عقد له سرا فيؤدي ذلك إلى الهرج والفساد.

سؤال لهم

فإن قال قائل: فهل تملك الأمة فسخ العقد على الإمام من غير حدث يوجب خلعه كما أنها تملك العقد له؛ قيل له: لا. فإن قيل فكيف يملك العقد من لا يملك فسخه قيل له: هذا في الشريعة أكثر من أن يحصى ألا ترى أن العاقد على وليته لا يملك فسخ النكاح من حيث كان يملك عقده وكذلك العاقد البيع على سلعته لا يملك حله وإن ملك عقده وكذلك يملك عقد الصيام إلى مدة ولا يملك فسخه وكذلك يملك كتابة عبده وتدبيره والمتطوع بالصيام والصلاة إذا دخل فيهما لا يملك حل شيء من ذلك فبطل ما سألتم عنه.

سؤال آخر لهم

فإن قالوا فهل يملك الرجل من أهل الحل والعقد عقد الإمامة لنفسه كما يملك ذلك لغيره قيل لهم: لا فإن قالوا كيف يعقل هذا قيل من حيث عقل أمثاله من الشريعة وعقلته الأمة ألا ترى أن الإنسان يملك العقد على وليته لغيره ولا يملك عقد بيعها عليها لنفسه وكذلك العاقد على سلعته يملك عقد بيعها على غيره ولا يملك عقد بيعها على نفسه وكذلك الإنسان يملك كتابة عبده وتدبيره وعتقه ولا يجب أن يملك تدبير نفسه وكتابتها وعتقها مع نظائر لذلك فسقط ما سألتم عنه.

سؤال آخر لهم

فإن قالوا فما تقولون إذا عقد جماعات من أهل الحل والعقد لعدة أئمة في بلدان متفرقة وكانوا كلهم يصلحون للإمامة وكان العقد لسائرهم واقعا مع عدم إمام وذي عهد من إمام ما الحكم فيهم عندكم ومن أولى بالإمامة منهم قيل لهم: إذا اتفق مثل هذا تصفحت العقود وتؤملت ونظر أيه السابق فأقرت الإمامة فيمن بدىء بالعقد له وقيل للباقين انزلوا عن الأمر فإن فعلوا وإلا قوتلوا على ذلك وكانوا عصاة في المقام عليها وإذا لم يعلم أيها تقدم على الآخر وادعى كل واحد منهم أن العقد سبق له أبطلت سائر العقود واستؤنف العقد لواحد منهم أو من غيرهم وإن أبو ذلك قاتلهم الناس عليه فإن تمكنوا وإلا فهم في غلبة وفتنة وعذر في ترك إمامة الإمام وإن تمكن من العقد لغيرهم فعل ذلك وكان الإمام المعقود له حربا لسائر هؤلاء حتى يذعنوا ويرجعوا إلى الطاعة والسداد وإن تؤملت العقود ووجدت كلها وقعت في وقت واحد أبطل أيضا جميعها واستؤنف العقد لرجل منهم أو من غيرهم ونظير ذلك من الشريعة عقد ولاة المرأة عليها ووجوب تسليمها إلى من سبق بالعقد له فإن أشكل ذلك وتنازع الأزواج وعدمت البينة أبطلت العقود بأسرها وإن انكشف أن جميع أوليائها عقدوا عليها في حالة واحدة فسخت أيضا وكذلك القول في الإمامة.

سؤال لهم آخر

فإن قالوا فما تقولون إذا كانت الأمة مفترقة على مذاهب مختلفة وآراء متضادة والحق منها في واحد وادعى كل واحد منهم أنهم ولاة هذا الأمر دون غيرهم وتمانعوا فيه ما الحكم فيهم ومن أولى منهم بعقد هذا الأمر قيل لهم: إن كان ما اختلف فيه من المسائل الشرعية التي الحق عندنا في جميعها والإثم موضوع عن المخطىء فيها على قول غيرنا فكلهم ولاة هذا الأمر فأيهم سبق بالعقد لرجل تمت بيعته ولزمت طاعته وصار المخالف عليه باغيا يجب حربه وإن كان ما اختلفت فيه الأمة مما يوجب التكفير والتفسيق والتضليل فعقد الإمامة لأهل الحق منهم دون غيرهم ممن كفر أو فسق وضل بتأويله الخطأ في الدين وقد قام الدليل على أن هذه الفرقة هم أصحابنا دون المعتزلة والنجارية وغيرهم من الفرق المنسوبة إلى الأمة فإن تمكنا من ذلك حملناهم على الانقياد لمن نعقد له فإن دفعونا عنه وعقدوا لبعض موافقيهم فليس له إمامة ثابتة ولا طاعة واجبة وكنا نحن في دار قهر وغلبة وإن تقاومت الفرق وتمانعت فتلك فتنة يقوم العذر بها في ترك العقد وإن انحاز أهل الحق إلى فئة ونصبوا حربا وراية وعقدوا لرجل مهم كان هو الإمام دون غيره من أهل الضلال فليس هذا التمانع إن اتفق أكبر من تمانع اليهود والنصارى والمسلمين إذا حصلوا في دار واحدة وتمانعوا وحاول أهل كل دين منهم إقامة الرياسة لهم وتنفيذ أحكامهم في الدار ولا بأعجب من غلبة النبي بمكة وتعذر إقامة الحق فيها قبل الفتح والهجرة فذلك حكم تغالب فرق الأمة وقهرهم الفرقة الهادية إن اتفق ذلك وبالله التوفيق.

باب الكلام في صفة الإمام الذي يلزم العقد له

فإن قال قائل: فخبرونا ما صفة الإمام المعقود له عندكم قيل لهم: يجب أن يكون على أوصاف منها أن يكون قرشيا من الصميم ومنها أن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين ومنها أن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب وتدبير الجيوش والسرايا وسد الثغور وحماية البيضة وحفظ الأمة والانتقام من ظالمها والأخذ لمظلومها وما يتعلق به من مصالحها ومنها أن يكون ممن لا تلحقه رقة ولا هوادة في إقامة الحدود ولا جزع لضرب الرقاب والأبشار ومنها أن يكون من أمثلهم في العلم وسائر هذه الأبواب التي يمكن التفاضل فيها إلا أن يمنع عارض من إقامة الأفضل فيسوغ نصب المفضول وليس من صفاته أن يكون معصوما ولا عالما بالغيب ولا أفرس الأمة وأشجعهم ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قبائل قريش. فإن قال قائل: وما الدليل على ما وصفتم قيل له: أما ما يدل على أنه لا يجوز إلا من قريش فأمور منها قول النبي « الأئمة من قريش ما بقي منهم اثنان » وقوله للعباس حيث وصى بالأنصار في الخطبة المشهورة وكانت آخر خطبة خطبها لما قال للرسول: توصي لقريش؟ فقال له « إنما أوصي قريشا بالناس وبهذا الأمر وإنما الناس تبع لقريش فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم » في نظائر هذه الأخبار أو الألفاظ التي قد استفاضت وتواترت واتفقت على المعنى وإن اختلفت ألفاظها. ويدل على ذلك وعلى صحة هذه الأخبار أيضا احتجاج أبي بكر وعمر على الأنصار في السقيفة بها وما روي عن العباس من ذكره لها والأمر باعتماد عليها وما كان من إذعان الأنصار ورجوعهم لموجبها عند سماعها وإدكارهم بها والاستشهاد عليهم بها ولولا علمهم بصحتها لم يلبثوا أن يقدحوا فيها ويتعاطوا ردها ولا كانت قريش بأسرها بالتي تقر كذبا يدعى عليها ولها لأن العادة جارية فيما لم يثبت من الأخبار أن يقع الخلاف فيه والقدح عند التنازع والحجاج لا سيما إذا احتج به في مثل هذا الأمر العظيم الجسيم مع إشهار السيوف واختلاط القول ومحاولة الإمرة والميل إلى الرياسة والعادة أصل في الأخبار فصح بذلك ثبوت هذا الأمر. ويدل على ما قلناه إطباق الأمة في الصدر الأول من المهاجرين والأنصار بعد الاختلاف الذي شجر بينهم على أن الإمامة لا تصح إلا في قريش وقول سعد بن أبي عبادة لأبي بكر وعمر عند الاحتجاج بهذه الأخبار وادكاره بها نحن الوزراء وأنتم الأمراء فثبت أن الحق في اجتماعها وأنه لا معتبر بقول ضرار وغيره ممن حدث بعد هذا الإجماع. وأما ما يدل على أنه يجب أن يكون من العلم بمنزلة ما وصفناه فأمور منها إجماع الأمة على ذلك ممن قال بالنص والاختيار. ومنها أنه الذي يولي القضاة والحكام وينظر في أحكامهم وما يوجب صرفهم وجرحهم ونقض أحكامهم ولن يملك علمه بذلك وتمكنه منه إلا بأن يكون كهم في العلم أو فوقهم. ومنها إجماع الأمة على أن للإمام أن يباشر القضاء والأحكام بنفسه ولا يستخلف قاضيا ما استغنى بنفسه ونظره ولن يصلح للحكم إلا من صلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين فصح بذلك ما قلناه. وأما ما يدل على أنه لا بد أن يكون من الصرامة وسكون الجأش وقوة النفس والقلب بحيث لا تروعه إقامة الحدود ولا يهوله ضرب الرقاب وتناول النفوس فهو أنه إذا لم يكن بهذه الصفة قصر عما لأجله أقيم من إقامة الحد واستخراج الحق وأضر فشله في هذا الأمر بما نصب له. وأما ما يدل على وجوب كونه عالما بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وما يتصل بذلك من الأمر فهو أنه إذا لم يكن عالما بذلك لحق الخلل في جميعه وتعدى الضرر بجهله بذلك إلى الأمة وطمع في المسلمين عدوهم وكثر تغالبهم ووقفت أحكامهم وأدى إلى إبطال ما أقيم لأجله فوجب بذلك ما قلناه. وأما ما يدل على أنه يجب أن يكون أفضلهم متى لم يكن هناك عارض يمنع من إقامة الأفضل فالأخبار المتظاهرة عن النبي وجوب تقدمة الأفضل ومنها قوله « يؤم القوم أفضلهم » وقوله « أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون » وقوله في خبر آخر « أئمتكم شفعاؤكم إلى الله فقدموا خيركم » وقوله « من تقدم على قوم من المسلمين يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين » في أمثال هذه الأخبار مما قد تواترت على المعنى وإن اختلفت ألفاظها. وقد اتفق المسلمون على أن أعظم الإمامة الإمامه الكبرى وأن إمام الأمة الأعظم له أن يتقدم في الصلاة فيجب لأجل ذلك أجمع أن يكون أفضلهم ويدل على ذلك أيضا إجماع الأمة في الصدر الأول على طلب الأفضل وتمثيلهم بين أهل الشورى وقول عبد الرحمن لم أرهم يعدلون بعثمان أحدا وقول أبي عبيدة لعمر حين قال مد يدك أبايع لك أتقول هذا وأبو بكر حاضر والله ما كان لك في الإسلام فهة غيرها وترك الكافة الإنكار عليه وقبول عمر لهذا منه وإضرابه عن مراجعته وإنما استجاز عمر قبول ذلك خشية الفتنة وأن لا تستقيم الأمة على أفضلها ولذلك قال وقى الله شرها. وأما ما يدل على جواز العقد للمفضول وترك الأفضل لخوف الفتنة والتهارج فهو أن الإمام إنما ينصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل وإقامة الحدود واستخراج الحقوق فإذا خيف بإقامة أفضلهم الهرج والفساد والتغالب وترك الطاعة واختلاف السيوف وتعطيل الأحكام والحقوق وطمع عدو المسلمين في اهتضامهم وتوهين أمرهم صار ذلك عذرا واضحا في العدول عن الفاضل إلى المفضول ويدل على ذلك علم عمر رضي الله عنه وسائر الصحابة والأمة بأن في الستة فاضلا ومفضولا وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى إلى صلاحهم وجمع كلمتهم من غير إنكار أحد عليه ذلك فثبت أيضا ما قلناه. وأما ما يدل على أنه لا يجب أن يكون من بني هاشم دون غيرها من قبائل قريش فهو أن ظاهر الخبر لا يقتضي ذلك ولا العقل يوجبه وظاهر قوله « الأئمة من قريش » يوجب كونها شائعة في سائرهم. فإن قال قائل: هلا قلتم إنها تجوز في موالي قريش لقول النبي « موالي القوم منهم » قيل له: هذا إنما قاله مجازا واتساعا وتألفا للموالي وإكراما لهم ومطلق قوله من قريش يوجب أن يكون من الصميم دون الموالي. وأما ما يدل على أنه لا يجب أن يكون معصوما عالما بالغيب ولا بجميع الدين حتى لا يشذ عليه منه شيء فهو أن الإمام إنما ينصب لإقامة الأحكام وحدود وأمور قد شرعها الرسول تقدم علم الأمة بها وهو في جميع ما يتولاه وكيل للأمة ونائب عنها وهي من ورائه في تسديده وتقويمه وإذكاره وتنبيهه وأخذ الحق منه إذا وجب عليه وخلعه والاستبدال به متى اقترف ما يوجب خلعه فليس يحتاج مع ذلك إلى أن يكون معصوما كما لا يحتاج أميره وقاضيه وجابي خراجه وصدقاته وأصحاب مسائله وحرسه إلى أن يكونوا معصومين وهو فليس يلي بنفسه شيئا أكثر مما يليه خلفاؤه من هذه الأمور. فإن قالوا فهو المولي لخلفائه فيجب أن يكون لذلك معصوما من الخطأ قيل لهم: وكذلك أمراؤه وقضاته وعمال خارجه يولون خلفائهم فيجب أن يكونوا لذلك معصومين. ويدل على هذا اعتراف الخلفاء الراشدين بأنهم غير معصومين وترك إنكار الأمة أو واحد منهم تولى الآمر مع اعترافهم ينفي العصمة عنهم. هذا أبو بكر يقول أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم إلى قوله لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم وهذا عمر يقول رحم الله امرءا أهدى إلينا عيوبنا ولولا علي لهلك عمر ولولا معاذ لهلك عمر وهذا عثمان يقول أحلتهما آية وحرمتهما آية يعني في الجمع بين الأختين بملك اليمين وهذا علي يرى الرأي ثم يرجع عنه كالذي قيل له: في بيع أمهات الأولاد أجمع رأيي ورأي عمر على ألا يبعن وقد رأيت بيعهن ويسأل عن مسائل في الأحكام ويطلب الروايات كطلبهم ويقول فيما بلي به من الحرب والهرج وتشتت الآراء عليه

لقد زللت زلة لا أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأنشمر

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر

وفي غير ذلك مما حكي عنه مما تقر الشيعة أنه ليس بصواب في الدين. كفعل التحكيم وبيعه السبي على مصقلة بن هبيرة واحتماله المال وتوليته من خان الله والمسليمن وخانه ولحق باالمنابذين له والخارجين عليه وادعائهم في ذلك التقية ومع ما أعلمه النبي يؤول الأمر إليه. وهذا باطل متروك بالظاهر المعلوم وإن كان هذا أجمع ليس بخطأ من فعله عندنا لما قد بيناه في غير هذا الكتاب.

باب ذكر ما أقيم الإمام لأجله

فإن قالوا فهل تحتاج الأمة إلى علم الإمام وبيان شيء خص به دونهم وكشف ما ذهب علمه عنهم قيل لهم: لا لأنه هو وهم في علم الشريعة وحكمها سيان فإن قالوا فلماذا يقام الإمام قيل لهم: لأجل ما ذكرناه من قبل من تدبير الجيوش وسد الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم وإقامة الحدود وقسم الفيء بين المسلمين والدفع بهم في حجهم وغزوهم فهذا الذي يليه ويقام لأجله فإن غلط في شيء منه أو عدل به عن موضعه كانت الأمة من ورائه لتقويمه والأخذ له بواجبه.

باب ذكر ما يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته

إن قال قائل: ما الذي يوجب خلعه الإمام عندكم قيل له: يوجب ذلك أمور منها كفر بعد الإيمان ومنها تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك ومنها عند كثير من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود. وقال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث لا ينخلع بهذه الأمور ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله. واحتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متظاهرة عن النبي أصحابه في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال وأنه قال « اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ولو لعبد حبشي » و « صلوا وراء كل بر وفاجر » وروي أنه قال: « أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك » و « أطيعوهم ما أقاموا الصلاة » في أخبار كثيرة وردت في هذا الباب. وقد ذكرنا ما في هذا الباب في كتاب إكفار المتأولين وذكرنا ما روي في معارضتها وقلنا في تأويلها بما يغنى الناظر فيه إن شاء الله. ومما يوجب خلع الإمام أيضا تطابق الجنون عليه وذهاب تمييزه وبلوغه في ذلك إلى مدة يضر المسلمين زوال عقله فيها أو يؤذن باليأس من صحته وكذلك القول فيه إذا صم أو خرس وكبر وهرم أو عرض له أمر يقطع عن النظر في مصالح المسلمين والنهوض بما نصب لأجله أو عن بعضه لأنه إنما أقيم لهذه الأمور فإذا عطل وجب خلعه ونصب غيره وكذلك إن حصل مأسورا في يد العدو إلى مدة يخاف معها الضرر الداخل على الأمة ويوأس معها من خلاصه وجب الاستبدال به فإن فك أسره أو ثاب عقله أو برىء من مرضه وزمانته لم يعد إلى أمره وكان رعية للوالي بعده لأنه عقد له عند خلعه وخروجه من الحق فلا حق له فيه. وليس مما يوجب خلع الإمام حدوث فضل في غيره ويصير به أفضل منه وإن كان لو حصل مفضولا عند ابتداء العقد لوجب العدول عنه إلى الفاضل لأن تزايد الفضل في غيره ليس بحدث منه في الدين ولا في نفسه يوجب خلعه ومثل هذا ما حكيناه عن أصحابنا أن حدوث الفسق في الإمام بعد العقد له لا يوجب خلعه وإن كان مما لو حدث فيه عند ابتداء العقد لبطل العقد له ووجب العدول عنه وأمثال هذا في الشريعة كثيرة ألا ترى أنه لو وجد المتيمم الماء قبل دخوله في الصلاة لوجب عليه التوضؤ به ولو طرأ عليه وهو فيها لم يلزمه ذلك وكذلك لو وجبت عليه الرقبة في كفارته وهو موسر لم يجز غيرها ولو حدث اليسار بعد مضيه في شيء من الصيام لم يبطل حكم صيامه ولا يلزمه غير ما دخل فيه في أمثال لهذا كثيرة. وكذلك حكم القول في حدوث الفضل على الإمام بعد العقد له.

باب الكلام في إمامة أبي بكر رضي الله عنه

إن قال قائل: ما الدليل على إثبات إمامة أبي بكر وأن العقد له وقع موقعا صحيحا قيل له: الدليل على ذلك أنه بصفة من يصلح للإمامة وزيادة عليها بما سنصفه فيما بعد إن شاء الله تعالى وأن العاقدين له الأمر يوم السقيفة من أفاضل أهل الحل والعقد ممن يصلح أيضا لإمامة المسلمين والتقدم عليهم. وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح بمحضر من بشير بن سعد وأسيد بن الحضير وعمران بن الحصين وغيرهم من الأنصار ومن حضر من المهاجرين وأن هذا العقد وقع بمحضر من جمهور الأمة وأهل القدوة منهم ولم ينكره منكر ولا قدح فيه قادح بل تتابعوا على البيعة من ساعتهم وبقية يومهم وأذعنت له الأنصار وانقادت بعد خلافها وغلطها فيه المتفق عليه لأنها أرادت إخراج الأمر عن قريش ونصب إمامين في وقت واحد. وقال الحباب بن المنذر منهم منا أمير ومنكم أمير وهذا غلط حاولوه باتفاق المسلمين فلو أقاموا عليه وخالفوا أبا بكر بعد عقد من عقد له الأمر لوجب أن يكونوا في ذلك آثمين ولوجب حربهم وقتالهم إلى أن يرجعوا عن البغي وشق العصا لأن العقد قد تم لمن حضر وعقد وقد دللنا على ذلك من قبل فلا نحتاج في إثبات إمامة أبي بكر إلى وقوع الإجماع عليها ولا نستضر ولا نستوحش من خلاف مخالف فيها غير أن الله قد وقى كل أحد من المسلمين في ذلك الوقت مواقعة هذه المعصية ووفر دواعي الصحابة على ذلك وجمع همتهم على طاعته والإذعان للحق الذي لزمهم الانقياد له. وليس يجوز لمسلم اتقى الله أن يضيف إلى علي بن أبي طالب عليه السلام والزبير بن العوام التأخر عن بيعته بأخبار آحاد واهية مجيئها من ناحية متهومة لأن تأخرهم عن البيعة مع ما وصفناه من صحة وثبوتها ضرب من الإثم والعصيان وليس يمكن إضافة معصية إلى الصحابة بمثل هذا الطريق لا سيما إذا رووا مع ذلك أن أبا بكر عليه السلام كان يدعوهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة ويحرم عليهم تأخرهم ولا يسوغهم ذلك وكذلك يجب أن ينفى عن عبد الله بن مسعود إخراجه المعوذتين من المصحف ومخالفته الجماعة. وكل أمر روي عن الصحابة فيه تأثيم وقذف بعصيان فيجب أن نبطله وننفيه إذا ورد ورود الآحاد لأن من ثبت إيمانه وبره وعدالته لا يفسق بأخبار الآحاد. وعلى أن نعلم بواضح النظر كذب من ادعى تأخر علي والعباس والزبير لأن مثل هذا الخطب الجسيم في مثل هذا الأمر العظيم يجب إشهاره وظهوره وأن ينقل نقل مثله فكيف حفظت الأمة بأسرها وعلمت مخالفة علي لأبي بكر وغيره من الصحابة في حكم أم الولد والتوريث الذي إنما تعلمه الخاصة وذهب عنها علم تأخره وتأخر الزبير عن البيعة حتى لا يرد إلا وردا شاذا ضعيفا وتكون الأخبار الكثيرة في معارضته ومناقضته والعادة جارية بلزوم مثل هذا للقلوب وإطلاق الألسن بذكره واشتهاره وإظهاره دون طيه وكتمانه والسهو عنه والإغفال له وإن هذا من العجب العجيب الذي لا يذهب فساده على ذي تحصيل هذا على أن حرصنا إنما هو على نفي الشين والعار وإضافة العصيان عن جلة الصحابة وعليتها بالتأخر عن بيعة قد لزمهم الانقياد لها والخنوع لصاحبها فإن أبوا ذلك ولم يقنعوا إلا بتصحيح الخلاف منهم قلنا لهم: فهذا إذا من ذنوبهم وما نرجوه أن يغفر الله لهم وحاشا للصحابة من ذلك. على أنه لا نعرف أحدا روى تأخر علي والزبير عن البيعة أياما إلا وقد روي عنه في هذه القصة رجوعهما إلى بيعته ودخولهما في صالح ما دخل فيه المسلمون وأنهما قالا لا تثريب يا خليفة رسول الله ما تأخرنا عن البيعة إلا أنا كرهنا ألا ندخل في المشورة وأنهما وصفا من فضله وسابقته وأنه صاحب الغار في كلام طويل. فإن قال قائل: وما الدليل على أن أبا بكر كان بصفة ما ذكرتم من صلاحه لإمامة المسلمين واجتماع خلال الأئمة وآلتهم فيه؛ قيل له: الدليل على ذلك سبقه إلى الإيمان والجهاد في سبيل الله بماله ونفسه وإنفاقه على الرسول ماله وإيناسه له في الغار بنفسه وتعاظم انتفاع النبي من دعاة إلى الإيمان وإسلام من أسلم باستدعائه وبنائه مسجدا يدعو فيه إلى الإيمان وتصديق الرسول حتى قال الناس من آمن بدعاء أبي بكر أكثر ممن آمن بالسيف فمنهم عثمان وطلحة والزبير وغيرهم من علية الصحابة رضي الله عنهم وإنما أرادوا أكثر قوة ومنة لا أكثر عددا ممن آمن بالسيف وشراؤه المعذبين في الله كبلال وعامر بن فهيرة ومناضلته المشركين وقوله لمثل سهيل بن عمرو لما جاء مصالحا عن قريش حيث قال للنبي أرى حولك إلا من لو عضه الحديد أو قربت الخيل لأسلمك فقال له اسكت عضضت ببظر اللات أنحن نسلمه وكونه مع النبي بدر في العريش وتخصصه له مع العلم بأنه لا يركن في مثل تلك الحال إلا إلى ذي منة ورأي وبصيرة وغناء وقد دل على هذا بقوله للأعرابي حيث قال له إنك ضنين بصاحبك هذا وقد استحر القتل في أصحابك فقال له إن الله أمرني أن اتخذه خليلا أو جليسا أو أنيسا وما هذا معناه من اللفظ هذا مع علمنا ضرورة بأنه كان معظما في الجاهلية قبل الإسلام ومن أهل الثروة والجاه منهم وممن تجتمع إليه العرب وتسأله عن أيام الناس والأنساب والأخبار ففارق ذلك أجمع إلى الذل والصغار والصبر على أذية أهل الكفر وعلمنا ضرورة بأن النبي يعظمه ويشاوره ويخلي له مجلسا عن يمينه لا يجلس فيه غيره. ومما روي من الجهات المشهورة مما قاله عليه السلام فيه نحو قوله « اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » « وإنهما من الدين بمنزلة الرأس من الجسد » « وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر » « وإني بعثت إلى الناس كلهم فقالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت » فسمي لأجل ذلك صديقا وغلب على اسمه وكنيته واسم أبيه وإلى غير هذه الأخبار مما قد بسطنا طرفا من ذكرها في غير هذا الكتاب. وقد كان أهل الكفر يعرفون هذا من أمره ويعرفون تقدمه في الجاهلية ثم في الإسلام وعند النبي صاح أبو سفيان بأعلى صوته عند تزاحف الصفوف أين أبو بكر بن أبي قحافة أين عمر بن الخطاب يوم بيوم في كلام طويل ولم يناد بغيرهما ولهذا كان النبي في الشهادة عليه في عهوده وكتب صلحه ويكتب شهد عبد الله بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وفلان وفلان وهذا مما يعلم ضرورة ولا يمكن دفعه. غير أن الشيعة تزعم أن رسول الله ممتحنا به وبعمر على نفاق لهما وتقية منهما وهذه أماني دونها خرط القتاد وذهاب الأنفس حسرات ولولا علم النبي سبقه وهجرته وعلمه لم يأتم به ولم يقدمه عليهم في مرضه ويعظم الأمر في بابه ويقول يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر وقوله لحفصة وعائشة « إنكن صواحبات يوسف » ولولا شدة تعلق هذا الأمر بأبي بكر وتخصصه بالفضل فيه وخشية الإثم في تقدم غيره لم يقل إنكن صواحبات يوسف ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر. والأمر الذي التمس منه أمر سائغ ليس بإثم في الدين لأن فضل السن فقط وما جرى مجراه لا يوجب التحذير بهذا القول. هذا وهو « يؤم الناس خيرهم » « وأئمتكم شفعاؤكم إلى الله فانظروا بمن تستشفعون » ويقول « من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين ». وأما دعوى الشيعة أنه خرج فعزله ودفعه عن موضعه وأنكر تقديمه وأعظمه فمن جنس الترهات والأماني الكاذبة لأن مثل هذا لو كان لعلمناه ضرورة كما علمنا أن أبا بكر تقدم ضرورة وإنما اختلف في أن أبا بكر صلى بالنبي أو صلى به النبي واحدة ذكر ذلك فيها وصلى بهم بقية أيام مرض رسول الله الثبت الثقات أن النبي « ما من نبي يموت حتى يؤمه رجل من قومه » وأن أبا بكر أم رسول الله هو الذي عناه أبو بكر بقوله « وليتكم ولست بخيركم إني وليتكم الصلاة ورسول الله » ولعمري إنه لا يجوز أن يكون خير قوم فيهم رسول الله معتبر في هذا الأمر العظيم بتلفيق المخالفين وتمنيهم الأباطيل وتلقهم بروايات ترد خاصة منهم ولهم لا يعلمها غيرهم. على أنه لو يعلم جميع هذا من حاله ولم يتقدم له شيء مما ذكرناه من فضائله ومناقبه لكان ما ظهر منه بعد موت النبي العلم والفضل والشدة في القول والفعل وتحصيل ما ذهب على غيره دلالة على اجتماع خلال الفضل والإمامة فيه بل لو لم يدل على ذلك من أمره إلا ما ظهر منه من التثقيف والتقدم والتشدد وسد الخلل وقمع الردة وأهلها في أيام نظره لكان في ذلك مقنع لمن وفق لرشده. فأول ما ظهر من فضله وتسديد رأيه إعلام الناس موت رسول الله عمر وغيره ممن تشتت آراؤهم في موته وفجئتهم المصيبة بموته وما كان من قوله وفعله في ذلك وقالت عائشة وغيرها من أصحابه إن الناس أفحموا ودهشوا حيث ارتفعت الرنة وسجى رسول الله بثوبه وذهل الرجال فكانوا كأجرام انتخبت منها الأرواح وحولهم أطواد من الملأ فكذب بعضهم بموته وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد الغد وخلط آخرون ولاثوا الكلام بغير بيان وبقي آخرون معهم عقولهم فكان عمر ممن كذب بموته وعلي في من أقعد وعثمان في من أخرس وخرج من في البيت ورسول الله وخرج عمر إلى الناس فقال عمر إن رسول الله لم يمت وليرجعنه الله وليقطعن أيديا وأرجلا من المنافقين يتمنون لرسول الله وإنما واعد ربه كما واعد موسى وهو آتيكم. وأما علي فإنه قعد فلم يبرح من البيت وأما عثمان فجعل لا يكلم أحدا يؤخذه بيده فيذهب ويجاء به حتى جاء الخبر أبا بكر وتواتر أهل البيت إليه بالرسل فلقيه أحدهم بعد ما مات تهملان وغصصه ترتفع كقطع الجرة وهو في ذلك جلد العقل والمقالة حتى دخل على رسول الله عليه وكشف عن وجهه ومسحه وقبل جبينه وخديه وجعل يبكي ويقول بأبي أنت وأمي ونفس وأهلي طبت حيا وميتا وانقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد من الأنبياء والنبوة فعظمت عن الصفة المصيبة وجللت عن البكاء وخصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرنا فيك سواء ولولا أن موتك كان اختيارا منك لجدنا لموتك بالنفوس ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشؤون. فأما ما لا تستطيع نفيه عنا فكمد وإدناف يتحالفان لا يبرحان اللهم فأبلغه عنا اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفته من الوحشة اللهم ابلغ نبيك عنا واحفظه فينا ثم خرج لما قضى الناس عبراتهم وقام خطيبا فخطب فيهم خطبة جلها الصلاة على النبي محمد فقال فيها أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وأشهد أن الكتاب كما أنزل وأن الدين كما شرع وأن الحديث كما حدث وأن القول كما قال وأن الله هو الحق المبين في كلام طويل ثم قال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وإن الله قد تقدم إليكم في أمره فلا تدعوه جزعا وإن الله قد اختار لنبيه ما عنده على ما عندكم وقبضه إلى ثوابه وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر { يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم ولا يفتننكم عن دينكم وعاجلوا الشيطان بالخزي تعجزوه ولا تستنظروه فيلحق بكم فلما فرغ من خطبته قال يا عمر أأنت الذي بلغني أنك تقول على باب نبي الله والذي نفس عمر بيده ما مات رسول الله أما علمت أن نبي ارقال يوم كذا كذا وكذا وقال الله في كتابه { إنك ميت وإنهم ميتون } فقال والله لكأني لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا أشهد أن الكتاب كما أنزل وأن الحديث كما حدث وأن الله حي لا يموت وإنا لله وإنا إليه راجعون صلوات الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله ثم جلس إلى أبي بكر. وقد كان العباس قل لهم إن رسول الله مات وإني قد رأيت في وجهه ما لم أزل أعرفه في وجوه بني عبد المطلب عند الموت فلم يرجعوا لقوله حتى كان من أبي بكر ما ذكرناه فرجعوا صابرين محتسبين بقوة نفس وسكون جأش في الدين ولو لم يظهر منه غير هذا الفعل لكان كافيا في العلم بفضله وما هو عليه من اجتماع ما هو مفترق في غيره. ثم ما كان من إنفاذه جيش أسامة ومخالفته للكافة في ترك إنفاذه مع شدة خوفهم من الظفر من عدوهم وقولهم إن هذا الجيش فيه الحامية من نقباء المهاجرين والأنصار وأهل الردة قد أطلعوا رؤوسهم وساقوا المدينة فانتظر بإنفاذه انكشاف الردة فقال والله لأن أخر من السماء فتخطفني الطير وتنهشني السباع أحب إلي من أن أكون أول حال لعقد عقده رسول الله جيش أسامة. ونادى مناديه بخروجهم وسأل نقباء المهاجرين والأنصار عمر أن يسأل أبا بكر أن يصرف أسامة ويولي من هو أسن وأدرب بالحرب منه فسأله عمر ذلك فوثب إليه وأخذ لحيته بيده فهزها وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب وعدمتك أيوليه رسول الله أن أصرفه والله لا يكون ذلك أبدا فأمرهم بالخروج وشيعهم أبو بكر حافيا والعباس معه ومن بقي من الصحابة في المدينة فما زال يدعو لهم ويأمر العباس بالتأمين على دعائه وأسامة يقول إما أن تركب يا خليفة رسول الله أو أنزل وهو يقول لا والله لا أركب ولا تنزل وماذا علي أن تغبر قدماي في تشييع غاز في سبيل الله تعالى. فنفذ الجيش وفتح الله تعالى لهم وغنم ورجع في نيف وستين يوما ولقي بهم أهل الردة. ثم ما كان منه في قتال أهل الردة وسدة ثلم المدينة وخروجه لمناضلتهم بنفسه ومن معه حتى دفعهم قبل عود جيش أسامة وندائه في المدينة ألا يؤوي أحد أحدا من رسل أهل الردة لما وفدوا إليه الوفود يسألونه الصلح على ترك الزكاة وقوله لما سألوه رفع السيف عنهم وأذعنوا بأداء الزكاة لا والله أو يقولوا إن قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة ثم إنفاذه خالد بن الوليد ومن معه من الجيوش إلى أهل الردة ومسيلمة ومن باليمامة من دعاة الكفر حتى أبادهم واستأصل خضراءهم وأيد الله به الدين وكشف الغمة وأزال الكربة ورد الحق إلى نصابه وانحسرت بيمنه الفتنة وضعفت منه أهل الكفر وفشلوا قبل لقاء عسكره حتى قال قائلهم المشهور شعره:

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ** لعل منايانا قريب وما ندري

لعل جيوش المسلمين وخالدا ** سيطرقنا قبل الصباح من البر

فصبحتهم الخيل. قال الراوي فكان رأس هذا الشاعر أول رأس رمي به تدكدك في باطئة الجمر. فكيف لا يصلح من هذه صفته لإمامة الأمة هذا مع ما ظهر من علمه وانتدابه لجمع القرآن وأنه لم يتلعثم في حكم نزل في أيام نظره ولا رجع عنه وقد جلس مجلس النبي وخلفه في أمته وإن ذلك لأمر عظيم ثم ما كان من عهده إلى عمر عند موته وتسديده في رأيه وتنبيهه القوم على فضل رأيه ومكان نظره ما عمر بسبيله وما هو مخصوص به مما سنذكر طرفا منه في باب إمامته. وببعض هذه الأوصاف والخلال وتسديد التدبير والرأي والمقال يصلح ويستحق الإمامة. فإن قالوا وكيف يكون أبو بكر مستحقا لهذا الأمر مع اعترافه بأنه ممن يميل ويضل ويزل وأنه غير معصوم حيث يقول ألا وإني أكثركم شغلا وأثقلكم حملا فإن استقمت فاتبعوني وإن ملت فقوموني أطيعوني ما أطعت الله فيكم وإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ومن سبيل الإمام أن يكون معصوما قيل لهم: هذا غلط لما قد بيناه في صدر هذا الكتاب من أنه لا يجب أن يكون الإمام معصوما كما لا يجب عصمة أمرائه وقضاته وعماله وأصحاب جيوشه ومسائله إذ كانوا يلون من ذلك ما يليه بنفسه وقد أوضحنا هذا بما نستغني عن رده. وهذا الكلام الذي قاله من أدل الأمور على فضله وأداء الأمانة فيما تحمل والخوف من التقصير فيه وهو ادعى الأمور إلى الرضى به والاجتماع على طاعته. فإن قالوا فكيف يستحق أبو بكر هذا الأمر وهو يعترف بأن له شيطانا يعتريه حيث يقول في هذه الخطبة ألا وإن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتم ذلك فلا تقربوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم وأقل أحوال الإمام أن يكون عاقلا سليما من عوارض الشيطان. يقال لهم: ليس على وجه الأرض ذو عقل يرى أن أبا بكر كان مجنونا ومعترفا في هذا القول بالصرع والغلبة ولو كان على هذه الحال لما خفي أمره على الصحابة ولا تركوا بأسرهم دفعة عن هذا الأمر والاحتجاج بأنه مجنون محتاج إلى العلاج دون الإمامة والمناظرة فيها وإقامة الحجاج وهذا جهل ممن بلغ إليه كفينا مؤونة كلامه وإنما قال ذلك أبو بكر مخبرا بأن الشيطان يوسوس له ويلقي إليه كما يوسوس في صدور جميع الخلق وأنه ليس بمباين لهم في هذا الباب ليتقوا وقت غضبه ووسوسته. وهذا رسول الله « ما من أحد إلا وله شيطان » قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا إلا أن الله قد أعانني عليه فأسلم » أفترى أن رسول الله في هذا القول عن جنونه حاشاه من ذلك وجنون سائر الصحابة إن هذا لجهل عظيم واقتحام طريف. فإن قالوا فكيف يكون أبو بكر مستحقا لهذا الأمر وهو يقول في هذه الخطبة وليتكم ولست بخيركم فألا علم بذلك أن الأمر لمن هو خير منه وأنه ظالم في استبداده به قيل لهم: في هذا أجوبة كثيرة فأولها أنه قال ذلك محتجا على الأنصار وعلى من ظن أنه يتأخر عنه لأنه قد وليهم الصلاة ورسول الله ولعمري إنه لا يجوز أن يكون خير قوم فيهم رسول الله قال كيف لا أليكم بعد النبي وليتكم مع وجوده ولست بخيركم إذ ذلك ومنها أنه يمكن أن يكون أراد بقوله وليتكم ولست بخيركم أني لست بخيركم قبيلة وعشيرة ولأن نبي هاشم أعلى منه في ذروة النسب لكي يدلهم بذلك على أن هذا الأمر العظيم ليس يستحق بعلو النسب وأنه ليس بمقصور على بني هاشم دون غيرهم من قريش بظاهر قوله « الأئمة من قريش ». ويمكن أن يكون أراد بقوله وليتكم ولست بخيركم أي إنه يجوز علي من السهو والغلط ووساوس الصدور وخواطر النفوس ما يجوز من السهو عليكم لكي يدلهم بذلك على فساد قول من زعم أن هذا الأمر لا يستحقه إلا الوافر المعصوم. ويمكن أن يكون أراد بقوله وليتكم ولست بخيركم لولا أن الله فضلني عليكم بحق الولاية فأوجب عليكم من طاعتي أن صرت إماما وأسقط عني فرض طاعتكم ويمكن أيضا أن يكون قد اعتقد أن في الأمة أفضل منه إلا أن الكلمة عليه أجمع والأمة بنظره أصلح لكي يدلهم على جواز إمامة المفضول عند عارض يمنع من نصب الفاضل ولهذا ما قال للأنصار وغيرهم قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أحدهما عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح وهو يعلم أن أبا عبيدة دونه ودون عثمان وعلي في الفضل غير أنه قد أن الكلمة تجتمع عليه وتنحسم الفتنة بنظره وهذا أيضا مما لا جواب لهم عنه. فإن قالوا كيف يكون أبو بكر مستحقا لهذا الأمر وهو يقول أقيلوني أقيلوني. قيل لهم: ليس في استقالته من تحمل ثقل الإمامة لفضل دينه وخشيته وورعه ما يقعده عن استحقاقها وما ينبغي لفاضل عرضت عليه أن يظهر المسارعة إليها والسرور بها فإن ذلك ملق له في الظنة ومورط للقوم في التهمة فما قال من ذلك إلى ما يقوله مثله في الفضل والتقدم ولو أقالوه وولوا غيره لكان جائزا وقد قال القائلون بالنص على إمامته إنه إنما أراد بهذا القول وبقوله وليتكم ولست بخيركم امتحان القوم ليرى من يقبل هذا القول ليعرف بذلك المطيع من العاصي وقابل النص عليه من الراد له فيقومه بما يقوم مثله به قالوا وهذا بمنزلة قول عمر لحذيفة لما قال إن رسول الله عرفه المنافقين نشدتك بالله هل أنا منهم فقال لا ولا أخبر بعدك أحدا وقد علم أن عمر لم يشك في إيمانه وأنه ليس بمنافق وأنه لو كان منافقا لكان يعلم ذلك من نفسه فلا معنى لاستعلامه حال نفسه من حذيفة وإنما قال ذلك امتحانا ليعلم صدقه من كذبه وهذا أيضا ليس ببعيد في التأويل. فإن قالوا كيف يكون أبو بكر مستحقا لهذا الأمر وعمر يقول قولا ظاهرا على المنبر ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها وأمر بقتل من عاد إلى مثلها بقوله في هذا الخبر فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه قيل لهم: ما شككنا في شيء فإنا لا نشك وإياكم في أن عمر لم يكن مجنونا ولا مخلطا وهذا الكلام إن حمل على ما قلتم صار في حكم الجنون من قائله لأن عمر كان يحتج على الناس في إثبات إمامته والدعاء إلى طاعته والانقياد له في الإمامة بعقد أبي بكر له الأمر وعهده إليه فيه وإذا كانت بيعة أبي بكر باطلة يجب قتل صاحبها ومن عاد إلى مثلها وجب أن يكون عهده إلى عمر باطلا كعهد أبي بكر وموجبا لقتل عمر وقتل من نظر في أمور المسلمين بعدهم من إمام فكان يجب أن تقول له الصحابة فأنت أيضا ممن يجب قتلك ولا يجب العمل على عهدك في الشورى. وإنما قال هذا الكلام لما عهد إليهم في الشورى على المنبر وكان يجب أن يقال له أيضا قد قلت فيمن هذا وصفه وددت أن أكون شعره في صدره وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه وكان والله من خيرنا يوم توفي رسول الله هذه الأقاويل. وهذا الاختلال لا يتهم عمر به إلا مخلط جاهل. فإن قالوا فما معنى الخبر قيل لهم: إن عمر كان يعتقد أن أبا بكر كان أفضل الأمة ومبرزا فيهم بالفضل وغير مشتكل الأمر وأنه كان يستحق أخذها بالمناظرة عليها وأن من بعدها متقاربون في الرتبة والفضل لا يستحقونها على ذلك الوجه ولذلك جعلها شورى في ستة. وقوله كانت فلته أى تمت على غير إعمال فكر ولا روية بل استوثقت فجاءة وقوله وقى الله شرها يعني شر الخلاف عليها وشق العصا عند تمامها فإنه بعيد عنده أن يتم ذلك مع ما رأى من تواثب الأنصار عليها واطلاع الفتنة رأسها وقوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه إنما أراد إلى مثل قول الأنصار وما حكي عن الأنصار من إرادتهم نصب إمامين في وقت واحد بقولهم منا أمير ومنكم أمير ولإخراجهم الأمر من قريش إلى غيرهم وهذان الأمران حرام فعلهما في الدين وجالبان الفتنة وإنما عظم غلط الأنصار فيهما فقال لأهل الشورى وغيرهم لما عهد إليهم فيها إن من عاد إلى مثل قول الأنصار فاقتلوه. ويمكن أن يكون أراد من حاول أخذها بالمناظرة عليها وإظهار التقدم والتبريز بالفضل على وجه ما فعله أبو بكر وعرف ذلك من أمره فاقتلوه لأنه لم يبق في هذه الأمة من هذه منزلته. وإذا كان كذلك سقط ما تعلقوا به وصح بهذه الجملة إمامة أبي بكر رضي الله عنه ونضر وجهه.

باب الكلام في إمامة عمر رضي الله عنه

إن قال قائل: ما الدليل على إثبات إمامة عمر قيل له: الدليل على ذلك أن أبا بكر عهد إليه بمحضر من جلة الصحابة بعد تقدمه إليهم وأمره بالنظر في أمورهم والتشاور في إمامتهم وردهم الأمر إلى نظره ورأيه فقال سأخبركم باختياري وخرج معصوبا رأسه فخطب خطبته المشهورة فوصف فيها عمر بصفاته ونعته بأخلاقه وذكر شدته في غير عنف ولينه من غير ضعف وقدرته على الأمر ثم أجاب طلحة لما قال له تولي علينا فظا غليطا ماذا تقول لربك إذا لقيته قد فركت لي عينيك ودلكت لي عقبيك وجئتني تلفتني عن رأيي وتصدني عن ديني والله لتتركن عضيهته أو لأنفينك في كلام له طويل أقول إذا سألني وليت عليهم خيرا أهلك ثم قال والله لتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان يا هادي الطريق جزت إنما هو البحر أو الفجر في كلام له قد ذكرناه في غير هذا الموضع. وقد اعترف طلحة بصواب رأيه ووصف عمر لما شاورهم بالخروج بنفسه إلى ملوك نهاوند بما وصفه أبو بكر وفوقه وقال له في كلام مشهور لقد استقامت العرب عليك وفتح الله على يديك فسر بنا فإنا لا نستعصي عليك وما هذا معناه من قول طلحة وقد قال طلحة وعثمان وعبد الرحمن لأبي بكر امض لشأنك وأنفذ أمرك واعهد إلى عمر فإنه أهل لها وما هذا نحوه. وقال عثمان لقد أحضرني أبو بكر وقال لي اكتب هذا ما عهد به أبو بكر عبد الله بن قحافة آخر عهده بالدنيا وقت يسلم فيها الكافر ويبر فيها الفاجر وثقل لسانه فلم يبن عن نفسه فكتبت إلى عمر فلما أفاق قال لي من كتبت قال عثمان قلت عمر فقال أصبت ما في نفسي ولو كتبت نفسك لكنت لها موضعا مطيبا لنفسه وتوخيا لرضاه وتركا للتعسف والجبرية فلم يخب في عمر رأيه ولا خاب ظنه بل زاد على ما أمله منه وقدره فيه وظهر من جلده وشدته في الله وصرامته ما لا خفاء به فافتتح الفتوح وجند الأجناد ومصر الأمصار واستأصل الملوك واستولى على ديارهم وأبعدهم عن ممالكهم وتناول نفوس أكثرهم وصلح بنظره الحاضر والبادي والقاصي والداني وقومهم بالدرة دون السيف وأقام الدعوة وقال لئن عشت للمسلمين ليبلغن الراعي حقه بعدن من هذا المال متواضعا في جميع ذلك لربه خاشعا لأمره غير وان في شيء مما يلزمه القيام به لا تغيره الإمرة ولا تبطره النعمة ولا يستطيل على مؤمن بسلطانه ولا يحابي أحدا في الحق لعظم شأنه ولا يدع استخراجه للضعيف لضعفه ولا تأخذه في الله لومة لائم يحمل الجرة بنفسه ويلبس المرقع ويباشر نفقة الأرامل وأهل المنازل بنفسه ويطوف عليهم في ليله ونهاره حتى سمع في بعض الليالي قول امرأة لبعض أهل البعوث تقول:

تطاول هذا الليل وازور جانبه ** وأرقني ألا حبيب ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره ** لزعزع من هذا السرير جوانبه

فعرف الدار وصاحبها فقال لحفصة وأهل التجربة من النساء كم أكثر ما يصبر النساء عن أزواجهن فقلن له أربعة أشهر فكان لا يحبس البعث أكثر من أربعة أشهر وحتى قالت عائشة وعبد الرحمن وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة ممن وصفه إن عمر أبدت له الدنيا زينتها وزخرفها وألقت إليه أفلاذ كبدها يعني كنوز الذهب فمشى ضحضاحها وخرج منها سليما ما ابتلت قدماه في أمثال هذه الأقاويل ثم يحاسب عماله ويتفقد أمورهم ويسترجع مال الله تعالى ولا يوليهم أكثر من سنة ويلين لمن خنع منهم ويعنف على من تجبر ثم ينزل إلى تدبير آرائهم وأمر متاجرهم وأولادهم وضياعهم ويقول لهم تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وانزوا على الخيل نزوا واحفوا وانتعلوا فإنكم لا تدرون متى تكون الجفلة ويكتب إلى أهل البصرة علموا أولادكم العوم ورووهم ما سار من المثل ولا تنهكوا الأرض فإن شحمتها في وجهها وقد كنت نهيتكم عن البنيان فإذ قد فعلتم فعلوا الجدر وقاربوا بين الخشب وباعدوا الحشوش عن المجالس ويقول للناس إذا اشتريتم بعيرا فاشتروه ضخما فإن أخطأ خبرا لم يخطىء سوقا. ويقول لأبي عبيدة بن الجراح وقد قال له لما رآه في بعض طرق الشام وقد انحط عن بعيره وردم الخطام على عنقه وحسر عن ساقيه ليعبر ضحضاحا وهو يقود بعيره يا أمير المؤمنين أتفعل هذا ولك الكفاة من أصحابك وأنت بإزاء عدو يدل بمنة وقدرة فقال عمر اسكت يا ابن عامر أو يا ابن أخي عامر والله ما أعزكم الله بعد الذلة وكثركم بعد القلة إلا بالخنوع والاستكانة فإن تروموا العز بغيرها تهلكوا في يد عدوكم. ويكتب إلى أبي موسى الأشعري: آس بين الناس في مجلسك ونظرك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من إنصافك ولا يمنعنك قضاء قضيته راجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم. ويقول للناس: أمير المؤمنين أخو المؤمنين فإن لم يكن أخا المؤمنين فهو عدو للمؤمنين. ويقول: رحم الله أمرأ أهدى إلينا عيوبنا. ويقول في جواب المرأة التي راجعته في النهي عن المبالغة في مهور النساء وقولها له لم تمنعنا مما قد جعل الله لنا والله يقول { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } فقال: امرأة أصابت ورجل أخطأ وأمير ناضل فنضل واسترجع. وقال: كل الناس أفقه منك يا عمر. ويقول إذا تأدى إليه الخبر عن رسول الله: « لولا هذا لقضينا فيه برأينا وكدنا أن نقضي فيه برأينا ». ويقول « لولا علي لضل عمر ولولا معاذ لهلك عمر ». ولا ينفذ الأحكام إلا بمجمع من أصحابه وحضورهم ومشاورتهم مع فضله وفقهه وحسن بصيرته بمأخذ الأحكام وطرق القياس ومعرفة الآثار. ولو لم يظهر ذلك من أفعاله ولم يعلم من سريرته وأخلاقه لكفى في بابه والعلم بفضله وتقدمه ما روي عن النبي نحو قوله « لما استأذن على النبي نفر من نسائه وغيرهن وقد علت أصواتهن في مخاطبة النبي استأذن عمر وعرفن صوته ابتدرن الحجاب فلما دخل على رسول الله فقال له عمر مم تبسمك أضحك الله سنك فقال له النبي من هؤلاء اللائي كن يضحكن فلما سمعن صوتك ابتدرن بالحجاب. فحول عمر وجهه نحو البيت الذي هن فيه وقال أي عدوات أنفسهم أتهبنني ولا تهبن رسول الله إنه لأحق أن تهبنه. فقال رسول الله تلمهن يا عمر واخفض عنهن فوالله ما سلكت فجا قط إلا وسلك الشيطان فجا غير فجك يا عمر ». وقوله « لو لم أبعث فيكم لبعث عمر » و « لو كان بعدي نبي لكان عمر » و « إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه يقول الحق وإن كان مرا ». وقوله « إن منكم لمحدثين ومتكلمين وإن عمر لمنهم ». وقوله « عمر قفل الإسلام ». وقوله « اللهم أعز الإسلام وأيد هذا الدين بأحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام » فسبقت الدعوة في عمر وأظهر الله الدين وأعز به المؤمنين. وقوله « لا يعبد الله سرا بعد هذا اليوم ». وكان يقول لأهل مكة إذ ذاك والله لئن بلغت عدتنا مائة لتتركونها لنا أو نتركها لكم ». يريد أنه كان ينصب راية الحرب بمكة ويحاربهم على إقامة الحق. وتتبع فضائله ومناقبه واستيعاب قول النبي وقول الصحابة نحو قولهم كان والله عمر للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما مات انثلم وانهدم ذلك الحصن والله ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر إلى مثال ذلك مما قالوه نظما ونثرا مما يطول ويكثر. فبان بهذه الجملة أنه بصفة من يصلح العهد إليه والابتداء بالعقد له وفوق صفة الإمامة التي يتوخاها ويبتغيها العاقدون.

باب الدلالة على صحة العهد من أبي بكر إلى عمر ومن كل إمام عدل إلى من يصلح لهذا الأمر

فإن قال قائل: قد أوضحتم أن عمر بصفة من يصلح لإمامة المسلمين وابتداء العقد له فما الدليل على صحة عهد أبي بكر إليه وأنه جار مجرى العقد له قيل له: الدليل على صحة ذلك أن أبا بكر عهد إليه بمحضر من الصحابة والمسلمين على صفة ما ذكرناه فأقروا جميعا عهده وصوبوا رأيه ولم يقل قائل منهم لم تعهد في أمر ما جعل الله لك العهد فيه ولا قال ذلك قائل في غير مجلسه ولا بعد وفاته ولو كان عهده إلى عمر خطأ في الدين لسارعوا إلى تعريفه ذلك وموافقته عليه ولكان أجدر من قول قائلهم أتولي علينا فظا غليظا إذ كان ليس له أن يولي عليهم أحدا لا فظا ولا رفيقا وكان تنبيهه على ذلك وادكاره به ومطالبته بتركه أولى من خوضهم في صفة من يعهد إليه لأن الكلام في صفة من يعهد إليه فرع للكلام في صفة العهد أولا وإذا لم يصح العهد جملة سقط الخوض فيه في صفة المعهود إليه وزالت المؤونة ومثل هذا الخطأ والتفريط الظاهر لا يجوز على كافة لمسلمين وقادة الأنصار والمهاجرين لأن الأمة لن تجتمع في عصر الصحابة ولا في غيره على خطأ وإمساك عن إنكار ما من سبيله أن ينكر حتى لا يكون فيها إلا متدين بصحة العهد من الإمام إلى غيره وقائل به ومصوب له لأن القول بالعهد وفعله خطأ من فاعله الرضي به والإقرار له خطأ من المقر له إذ كان العهد خطأ في الدين والأمة لا تجتمع على خطأ. ويدل عليه أيضا إجماع أهل الاختيار الذين هم أهل الحق في القول بالإمامة أن للإمام أن يعهد إلى إمام بعده ولسنا نعرف منهم من ينكر ذلك ولا يثبت عن أحد منهم برواية شاذة ومقالة مروية أنه لم يكن قائلا بها ولا ذاهبا إليها. ويدل على ذلك أيضا ويوضحه علمنا أن الإمام العدل لو لم يكن إماما وكان رجلا من الرعية لكان له أن يبتدىء العقد لمن يصلح للإمامة وإذا كان ذلك كذلك فكونه إماما لا يحطه عن هذه الرتبة فوجب أن يكون له أن يعقد على إمام بعده ويعهد إليه كما كان له أن يبتدىء العقد له لأن العقد في الحقيقة عقد على صفة فصح بذلك ما قلناه. فإن قال قائل: فما أنكرتم من تحريم العهد من الإمام لغيره لموضع التهمة من العاهد وتجويز ميله إلى المعهود إليه وإيثاره لولايته قيل له: هذه التهمة معصية لله ممن جناها وظنها بإمام المسلمين إذا كان عفيفا مشهورا ظاهر العدالة منصفا للأمة لم تكن منه خيانة لهم في مدة أيام نظره ولا مخاتلة ولا جبرية فهو بألا يتهم بعد الموت ويحتقب عظيم الإثم في تسليط ظالم عليهم أو جاهل بأمورهم أولى وفي هذا ما يوجب أن يكون ظن المسلمين بإمامهم الذي لم يعرفوه إلا بالصلاح والاستقامة والتهمة له ذنبا منهم تجب التوبة والاستغفار منه. ولا يجوز أن يبطل العهد منه إلى من عهد إليه وإن كان ممن يصلح أن يبتدىء العقد على غيره لأجل هذه التهمة وعلى أن هذا المعنى قائم في العاقد كوجوده في العاهد. فيجب أيضا أن يبطل عقد العاقد لغيره لأنه قد يجوز أن يعقل لمن يميل إلى نظره ويؤثر ولايته ويرجو الاعتداد والانتفاع به مع العلم بأنه غير مقصر في هذا الشأن فلما لم يجز إبطال العقد بهذه التهمة لم يجز إبطال العهد. فصحت بهذه الجملة إمامة عمر رضي الله عنه وأنه بصفة من يصلح العهد إليه وابتداء العقد له وكان العاقد له إماما عدلا رضى بصفة من له أن يعهد إلى غيره.

باب الكلام في إمامة عثمان رضي الله عنه وصحة فعل عمر في الشورى

إن سأل سائل فقال ما الدليل على إثبات إمامة عثمان رضي الله عنه قيل له: الدليل على ذلك أن عبد الرحمن بن عوف عقدها له بمحضر من أهل الشورى سوى طلحة وأن طلحة بايعه لما قدم وعلم ضرورة من حاله رضاه بإمامته وأن عثمان في فضله وسابقته وقرابته وجهاده بنفسه وماله وما هو بسبيله من الإحاطة بحفظ القرآن ومعرفة الإحكام والحلال والحرام. وقد كملت له الخلال التي يصلح معها التقدم لإمامة المسلمين هذا مع ما قد عرف من كثرة مناقبه وفضل جهاده وإنعامه وأنه مجهز جيش العسرة ومشتري بئر رومة وموسع مسجد النبي ماله وكونه من المهاجرين الأولين وتزويج النبي منه وقوله « لو كانت لنا ثالثة لزوجناك » وقوله في خبر آخر « لو أمدنا الله بالبنات لأمددناك بالأزواج » وقوله « عثمان أخي ورفيقي في الجنة » وقوله لما ستر ركبتيه عند دخول عثمان عليه « ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة } وقوله فيه وفي علي لما أتياه في شيء حمل إلى النبي أن طرح علي جبة شعر « هكذا تدخلان الجنة ولا يحبكما إلا مؤمن ولا يبغضكما إلا منافق » وحكمه له بأنه يقتل شهيدا وأمره إياه بألا يخلع ثوبا كساه الله إياه في أخبار كثيرة يطول تعدادها مع تسبيح الحصى في يده وقوله « اسكن حراء فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد » وفي بعض الأخبار شهيدان فوجب بذلك أجمع أن يكون بصفة من يصلح لهذا الشأن. فإن قالوا فما الدليل على أن لعمر أن يجعلها شورى في نفر من المسلمين. قيل لهم: ليس الكلام في تصحيح الشورى مما يحتاج إليه في إثبات إمامة عثمان لأن الستة الذين هم أهلها كانوا أفضل الأمة وأحق الناس بهذا الأمر وبالنظر فيه فلو أنهم اجتمعوا بأنفسهم ونظروا في أمر إمامتهم وعقد عبد الرحمن أو غيره لواحد منهم لتمت بيعته ولزم الإنقياد له. فلو اعترفنا بغلط عمر في جعله شورى فيهم لم يضر ذلك بصحة عقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان رضي الله عنهما غير أن البراهين الواضحة ودلت على صوابه وتسديد رأيه وشدة احتياطه للأمة لأنه كان له أن يعهد إلى واحد منهم فلما ترجح الأمر في نفسه وأشكل عليه ولم يرد صلاح الأمة على أيهم يكون أكثر وخاف هرجا وفسادا بعهده وعلم أنهم أفاضل الأمة وبلغه أن قوما يخوضون في أمر الإمامة يريدون إخراجها عن جميع الستة وأخبره بذلك عبد الرحمن وغيره فقام في الناس خطيبا بفضلهم وأخبرهم أن الأمر لا يعدوهم وأنه فيهم فقال لهم في خطبته المشهورة ألا وأني رأيت كأن ديكا نقرني نقرة أو نقرتين وما أظن ذلك إلا اقتراب أجلي ألا وإني جعلت الأمر شورى في هؤلاء الستة الرهط الذين توفي رسول الله عنهم راض وقد بلغني أن قوما يقولون لئن مات عمر لنولين فلانا أولئك أعداء الله الضلال الجهال والله لقد جالدتهم بيدي هذه على الإسلام. وهذا غاية ما يكون من الإحتياط للأمة وحسم مادة الفتنة وإطماع من طمع في هذا الأمر من غير أهله وتنبيهه للمسلمين على فضل فاضلهم والتوقيف على مراشدهم ومصالحهم وقد كانوا قالوا لعمر ألا تعهد فقال إن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله له عبد الله ابنه لأجل فضله وعلمه ونسكه وكثرة الرضا بمثله فقال لم أكن بالذي أتحملها حيا وميتا وقال يكفي آل الخطاب أن يسأل منهم رجل واحد. وقال أما إنه لو حضرني سالم مولى أبي حذيفة لرأيت أني قد أصبت الرأي وما تداخلني فيه الشكوك وفي خبر آخر أبو عبيدة بن الجراح أو سالم يريد مشاورة سالم وأخذ رأيه دون العقد له لأنه أحد المحتجين على الأنصار بقول النبي « الأئمة من قريش » وهذا ما لا مطلب وراءه من الاحتياط ولا احتياط بعده. ويا ليت شعري ما الذي حظر على عمر جعلها شورى وإخبار المسلمين أنهم أفضل الأمة وأن الإمامة لا تعدوهم وقد أجمع المسلمون على ما ذكر هذا مع خوفه مما أنهي إليه من طمع من ليس من أهل هذا الأمر ثم منعهم من أن يصلي بالناس واحد منهم خوفا من أن يظن أو يقدر أنه كالنص عليه وأن رأيه فيه وأن يصير ذلك حجة لمن اعتقد منهم تعظيم نفسه وأنه أولى بالأمر منهم أو لأن لا يكرهه كاره أو ينفر عند تقدمه نافر فتهيج فتنة تعود بتفريق الكلمات وشتات الرأي وخروج الأمر عن نصابه وقدم لهم من لا يشكون في أمانته وصلاحه وهو صهيب فصلى بهم أيام مشورتهم حتى قال شاعرهم:

صلى صهيب ثلاثا ثم أرسلها ** على ابن عفان ملكا غير مقسور

وقال لا تنتظروا طلحة أكثر من ثلاثة أيام فإن قدم وإلا فأنفذوا أمركم وقال لهم فإن انقسم القوم شطرين فكونوا في حيز عبد الرحمن بن عوف لعلمه بأمانته وثقته وأنه مرضي عند الكافة وأزهدهم في هذا الأمر على أن هذه الرواية شاذة غير معلومة ولم يكن يبعد إذا اعتقد هذا أجمع في عبد الرحمن أن ينص عليه أو يعهد إليه وظاهر الفعل المتفق عليه يدل على اعتدالهم في نفسه وتقاربهم في المنزلة وما يحتاج إليه من صلاح الأمة. وإذا كان ذلك كذلك وكان عمر بما قدمناه إماما عدلا مرضيا وقد خالف من الأمر ما وصفه وعلم احتياطه وجب أن يكون جعله لها شورى إحدى فضائله ومناقبه ومضافا إلى ما سلف من إنعام نظره للمسلمين ونصحه إياهم. فإن قالوا كيف يجوز أنه يكون قاصدا للمصلحة وحسن النظر للأمة بهذا القول مع ما روي عنه من ذمة لجميع أهل الشورى ووصفه لهم بأنهم لا يقومون بالإمامة ولا يصلحون لها نحو ما روي عنه أنه أمر بهم يوما وهم مجتمعون فأقبل عليهم وقال لهم أكلكم يطمع في هذا الأمر. أما قول وأن طلحة قال له إن رأيت أن تكف عنا القول فافعل فإنك لا تقول خيرا وأن الزبير قال له قل وما عساك أن تقول فقال لطلحة ما أنت فما أعرفك منذ أن شلت يمينك مع رسول الله البأو والكبر الذي أحدثته ولقد مات رسول الله عليك غضبان لما قلت ما قلت حتى نزلت آيه الحجاب ثم قال للزبير وأما أنت فإنك مؤمن الرضا كافر الغضب يوما شيطان ويوما إنسان فمن للمسلمين يوم تكون شيطانا وأقبل على عثمان فقال له أما أنت فوالله لئن وليت هذا الأمر لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس وليأكلن مال الله ولتسيرن العرب إليك ولتقتلنك والله لئن فعلت ليفعلن ثم أخذ لحيته فهزها ثم قال اذكرني إذا كان ذلك يا ابن عفان ثم أقبل على علي فقال له وأما أنت يا علي فلئن وليتهم لتحملنهم على المحجة البيضاء والطريق المستقيم وما يقعدك عن هذا إلا دعابة فيك وأنك كثير البطالة ثم قال لسعد وأما أنت فصاحب قنص وقوس وسهام ولست بصاحب الجسيم من أمرهم ثم أقبل على عبد الرحمن فقال له وأما أنت فلو وزن إيمانك بنصف إيمان المؤمنين لوفى عليه إلا أنه يقعدك عن هذا الأمر العجز وما زهرة وهذا الأمر. وقوله في خبر آخر في رواية ابن عباس عنه أنه قال له لما دخل عليه فوجده على سرير مرمول قلقا متململا فسلم عليه فقال له والله لقد فرحت بدخولك علي لقرابتك وفضل رأيك ولقد أرقت ليلي وقلقت يومي في أمر الأمة وما أدري ما أصنع بأمر المؤمنين فقلت له ولم يا أمير المؤمنين وهذا الأمر إليك وما هذا نحوه فقال لي فأشر وقل ما عندك قال فقلت إن بدأت بعلي فيقول جاءنا بابن عمه قال فقلت عثمان فصاح وقال والله والله لئن فعلت ليحملن بني أمية على رقاب الناس ولصارت العرب إليه فقتلته قال فقلت طلحة فقال إنه كثمر البأو ولا يمر الذباب على أنفه وما كنت بالذي أجمع على المسلمين بين كبره أو تيهه وإمرته قال فقلت الزبير قال فقال ذلك ضرس شرس لو ولي هذا الأمر لألفي بالبطحاء يلاطم على مد شعير أو صاع من تمر وفي بعض الأخبار أو قعب من لبن قال فقلت سعد قال فقال فيه مثل ما قال في الخبر الأول قلت فعبد الرحمن فقال فيه مثل مقالته التي قدمناها فقلت فعلي فقال إنه وإنه يقرظه لولا دعابة فيه وفي خبر آخر لولا أنه كثير البطالة في أمثال لهذه الأقاويل رويت عنه فيهم. فيكف يكون مع هذا الرأي مصيبا في ردها إليهم. يقال لهم: ليس من شأن أهل العلم ومن أراد الله ببحثه وفحصه أن يترك الظاهر المعلوم من حال الصحابة مما يوجب إعظام بعضهم بعضا إلى القول بمجهول من أمرهم والمصير إلى روايات شاذة في ذم بعضهم بعضا ولا سيما إذا عارضها ما هو أقوى منها وأثبت فهذه الأخبار أكثرها كذب موضوع لا محالة وإن جاز أن تكون اللفظة واللفظتان منها صحيحة لأنا علمنا ضرورة من حال عمر أنه عظمهم وقرظهم وأنه جعل الأمر فيهم وأمر الأمة بالانقياد وأخبر أنهم أفضل من بقي. وهذا الثابت المعلوم لا يرده ظاهر هذه الروايات والأقاويل التي رويتموها فوجب دفعها واطراحها. وكيف يجوز أن يظن بعمر في فضله وتيقظه وصرامته وثاقب رأيه وعلمه بمواقع الخطاب وأحوال الكلام وموارد الأمور ومصادرها أن يناقض بمثل هذه المناقضات في كلامه وهو من أعلمهم بضبط الصحابة وتحصيلهم واستدراكهم للدقيق اللطيف فضلا عن المناقضة الظاهرة وإن كان قاصدا بهذا الكلام القدح في فضلهم وكيف لم يعرف أن القوم يعلمون بأن الكثير البطالة والدعابة لا يحمل الناس على المحجة البيضاء والطريق المستقيم وأن حملهم على هذا المنهاج ضد البطالة والدعابة وتقيضها فلو لم نعلم ضرورة بالروايات المعارضة لهذه الأخبار الواردة عنه في تقريظهم وتعظيمهم لوجب أن ينفى عنه مثل هذه المناقضات فكيف والأمر بخلاف ذلك. وكيف يجوز أن يقبل مثل هذا في طلحة مع ما روي عن النبي تفضيله له وقوله هذا يوم كله لطلحة ولولا أنه قال حس لطار مع الملائكة وقوله للصحابة وقد أحدقوا به لأخذ درعه وحط السلاح عنه عليكم بطلحة في أمثال لهذه الأخبار معلومة ثابتة. ويكون قاصدا بقوله للزبير ما قاله للتحذير له من التشدد والمضايقة ولم بصفة بالبخل في نفسه لأن الإنسان قد يكون أسخى من الريح الهبوب مع تشدده ومضايقته في المعاملة. وعلى أنه لم يقل فيه إنه قد فعل ذلك أو يفعله وإنما قال لألفي فاعلا على مذهب التحذير. وعلى ذلك تأويل قوله إنه ضرس شرس. وأما قوله يوما شيطان ويوما إنسان وإنه مؤمن الرضا كافر الغضب فإنه أيضا يصف فيه لين أخلاقه تارة وحسن رضا أو شدة غضبه تارة وتعسفه والتحذير له من ذلك إن ولى الأمر. وكذلك قوله في سعد إنه صاحب قنص وقوس وسهام وإنه صاحب مقنب من مقانبهم وليس بصاحب الجسيم من أمرهم إنه خرج مخرج التحذير له من أن يكون بهذه الصفة إن ولي الأمر والدعاء له إلى ترك الاشتغال بذلك أحيانا والانتصاب إلى النظر في مصالح الأمة وكيف يكون هذا الخبر صحيحا وهو يستكفيه ويؤمره على الأقاليم ويقول عند موته أوصي الخليفة من بعدي أن يولي سعدا فإني لم أصرفه عن خيانة ولا موجدة. وكذلك قوله في علي وأنه لكثير البطالة والدعابة لو صحت هذه الرواية أيضا إنما المراد به النهي والتحذير والدعاء إلى ترك المزح في بعض الأوقات وهذا كله لا يوجب الفجور وإسقاط العدالة وإخراج من له هذه الأوصاف أو شيء منها عن استحقاق الإمامة. وأما قوله في عبد الرحمن وما زهرة وهذا الأمر إنما هو على مذهب التحذير من العجز إن صح ولقد ظهر من صرامة عبد الرحمن وشدته وجمع القوم للنظر في هذا الأمر معه شاكا سلاحه ما يدل على نفي العجز عنه وبعده منه وهذا مع اجتماع القوم على الرضا به والاعتماد على رأيه ومع ما علم من زهده فيه وإخراجه نفسه عنه مع صلاحه له وتمكنه من القيام به. فمن ظن أن عمر أراد غير ما ذكرناه إن صح الحديث فقد ظن بعيدا ومن قدر أنا نترك الظاهر المعلوم من إعظام عمر لهم وحسن ثنائه عليهم إلى هذه الروايات فقد ظن عجزا وتفريطا عظيما واعتقد شططا.

باب ذكر الدلالة على صحة عقد عبد الرحمن لعثمان بن عفان رضي الله عنهما

فإن قال قائل: ما الدليل على صحة عقد عبد الرحمن لعثمان قيل له: الدليل على ذلك أنهم تشاوروا ليالي وأياما ونظروا في أمرهم ورضوا بعبد الرحمن أمينا ومشيرا في هذا الباب وعلمنا ضرورة أنه عقد لعثمان وأن الباقين منهم ومن سائر الأمة انقادوا لعثمان وخاطبوه بأمير المؤمنين وعثمان بصفة من يصلح العقد له والعهد إليه وعبد الرحمن في فضله ونبله وسابقته وعلمه وما لا حاجة لنا إلى الإطالة في ذكره من فضائله ممن يصلح لعقد هذا الأمر بل هو من جلة أهل الحل والعقد. وقد ظهر من تبرئه منها وزهده فيها مع كونه مرضيا عندهم وعند سائر الأمة ما يدل على قوة إيمانه وشدة خوفه وحذره وعظيم مناصحته للأمة فهو أبعد الناس من التهمة في هذا الباب وأشدهم إيثارا وتوخيا لأداء الأمانة وحسن النظر للأمة هذا معلوم من حاله وفعله وما بعد ذلك من الروايات التي لا تليق بما وصفناه ملغاة مطرحة. فإن قالوا أفليس قد روي أن عليا قال لعبد الرحمن لما عقد لعثمان أغدر هذا يا عبد الرحمن وأنكر ما كان منه قيل لهم: هذا من الوساوس وحديث النفس لأن المعلوم الذي لا شك فيه مبايعة علي لعثمان وتصرفه معه وإقامته الحدود بين يديه حتى قال كثير من الشيعة إنهم جهلوا الحد فقام يعلمهم وقال آخرون إنه كان في تقية منهم وهذا كله باطل لا سبيل إلى علمه فلا يجوز ترك هذا الظاهر بمثل هذه الروايات هذا لو لم يعارضها من رواية أهل الثبت والثقات ما يطابق الظاهر من فعل علي وانقياده فكيف وقد ورد ذلك بما لا قبل لأحد بدفعه وذلك أن الصحيح في هذا ما روي أن عليا عليه السلام قال لعبد الرحمن بن عوف بعد أن عرض عليه البيعة على شرط ما روي عنه أنه شرطه فأباه علي والتزمه عثمان فقال له علي عليه السلام بايع أخاك فقد أعطى الرضا من نفسه واستخر بالله واصفق على يده وهذا أشبه بقول علي وفعله. وكذلك إن قالوا أفليس قد روي أن عليا عليه السلام كان يقول أيام الشورى نشدتكم بالله هل فيكم من قال فيه النبي « من كنت مولاه فعلي مولاه » مناديا بذلك ورافعا صوته غيري فكيف يكون راضيا بما صنعوه قيل لهم: إن هذه الرواية من جنس روايتكم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر وأن عمر رفض فاطمة وأنها سقطت وأنهم أحضروا عليا إلى البيعة في حبل أسود يسحبه عمر في أمثال هذه الروايات. وليس يجب ترك الظاهر المعلوم من حال علي وسائر الصحابة لأجل هذه الرواية المردودة. وكيف يكون ذلك صحيحا مع ما روي عنه من قوله بايع أخاك فقد أعطاك الرضا من نفسه ومع قوله الظاهر بالكوفة والبصرة والشام والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وقوله اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر وقوله لو رضيت مني بنو أمية أن أحلف لها عند الحجر الأسود أني ما قتلت عثمان لحلفت في أمثال هذه الأخبار ولو كان ما رويتموه من احتجاجه على أهل الشورى بقوله من كنت مولاه فعلي مولاه صحيحا وكان يرى أن هذا القول من النبي عليه لوجب أن يكون عالما بأن عثمان باغ مستحق القتل ولم يجز أن يلعن قتله إذا كان باغيا مستحقا للقتل وهذا مما لا يمكن أن يعتقد في مثله مع فضله ونبله وعلمه وقرابته وسابقته وثاقب رأيه فبان بذلك سقوط ما تعلقوا به. وإن قالوا وكيف يكون عقد عبد الرحمن لعثمان صحيحا وقد عقد له على شرط تقليده في الأحكام لأبي بكر وعمر وما روي عنه من أنه قال لعلي نبايع لك ونعقد لك هذا الأمر على أن تحكم بكتاب الله وسنة نبيه وسنة الشيخين من بعده وأن عليا قال ليس مثلي من استظهر عليه ولكن أجتهد رأيي وأنه عرض ذلك على عثمان فرضي بالشرط وضمنه وعقد له عليه وقد اتفقنا على أن التقليد من العالم لغيره حرام في الدين. يقال لهم: هذا الخبر أيضا من أخبار الآحاد وليس هو مما يعلم صحته ضرورة ولا بدليل. فإن كان التقليد حراما فإن الصحابة قد كانت أعلم بذلك وأتقى لله من أن تدخل في الحرام على غير إنكار له وكان يجب على علي عليه السلام مع امتناعه من قبول الشرط أن يقول هذا حرام في الدين لا يحل فعله. وليس لنا أن نطعن على الصحابة بشيء نضيفه إليهم لا نجيزه علينا بروايات الآحاد فسقط أيضا التعلق بهذه الروايات. ويمكن أيضا إن كانت هذه الرواية صحيحة ألا يكون عبد الرحمن أراد بسنة الشيخين اتباعهما على التقليد في الأحكام وإنما أراد السيرة بالعدل والإنصاف وألا يكون قال ذلك أيضا على شك منه في أن عليا سيحكم بالإنصاف والعدل إن صار الأمر إليه وإنما قال ذلك على مذهب التقرير له والتأكيد والتبرئة له ليقع الرضا من الجماعة وتزول الفتنة ويستميل بذلك قلوب السامعين له فيكون عبد الرحمن مصيبا في اشتراطه وتقريره وتأكيد الأمر ويكون علي مصيبا في الامتناع منه ويكون عثمان مصيبا أيضا في قبول الاشتراط لما علمه من أن عبد الرحمن ما قصد إلا التأكيد والتقرير واشتراط السيرة بالعدل. ويدل على ذلك ويؤكده علمنا وعلم سائر الناس أن أحكام أبي بكر وعمر في كثير من الفقهيات مختلفة كتوريث الجد والمفاضلة في العطاء من عمر وتسوية أبي بكر بين الناس فيه وغير ذلك وأن عثمان لا يمكنه ولا يجوز أن يحكم بحكميهما المختلفين فدل ذلك على أنه إنما أراد اشتراط السيرة بالعدل والإنصاف. وقد يمكن أيضا إن كانت هذه الرواية ألا يكون عبد الرحمن اشترط على عثمان ترك التقليد في الأحكام لأن سيرة أبي بكر وعمر ترك التقليد فيهما والنهي عن ذلك. فذلك لم يقلد عمر أبا بكر بل خالفه ولا قلد أبو بكر عمر في شيء من مسائل الحلال والحرام وقد علم أن من سيرتهما اجتهاد الإمام وترك التقليد لغيره فكيف يدعوه عبد الرحمن إلى التقليد وترك الاجتهاد وهذا وهذا ضد سنتهما فبان أنه لم يدعه إلا إلى ما ذكرناه وأن عليا قدر فيه أنه دعاه إلى التقليد فأصاب في امتناعه من قبول الشرط وقد قال قوم من الفقهاء إن تقليد العالم للعالم والحكم بالتقليد جائز سائغ في الدين وهي مسألة اجتهاد أعني تقليد العالم للعالم فلعل عثمان وعبد الرحمن كانا يريان جواز التقليد والحكم به وعلي عليه السلام لا يرى ذلك فأصابا فيما تعاقدا عليه وأصاب علي في امتناعه من غير قدح في العقد لأنه لا يحرم ذلك على من رآه وإن وجب عليه ألا يفعله لأنه ليس من رأيه واجتهاده. فبان بذلك أجمع زوال ما تعلقوا به في هذا الفصل. فإن قالوا كيف يكون عقد عبد الرحمن صحيحا وهو قد أنكر على عثمان ونقم كثيرا من أفعاله وقال للصحابة لما قال له بعضهم هذا من عملك حيث عقدت لهذا الظالم الجبار فقال لهم ما علمت وإذا شئتم أخذت سيفي على عاتقي وأخذتم أسيافكم وقتلنا هذا الطاغية وأزلناه عن الأمر ونحو ذلك. يقال لهم: هذا أيضا من الروايات المختلفة لأن الثابت المعلوم من حال عبد الرحمن رضاه به واختياره له وقوله خطيبا بذلك إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان أحدا فوليته في نظائر لهذه الروايات مما يقتضى موالاة عبد الرحمن لعثمان فلا وجه لترك ذلك والتعلق بالتعاليل والأباطيل. على أنه لو صح عن عبد الرحمن أنه قال إني خلعت عثمان فاقتلوا هذا الطاغية أو سيروا لخلعه لم ينخلع عثمان لهذا القول من عبد الرحمن ولا من غيره لأن الإمامة إذا ثبتت بعقد صحيح مأذون فيه لم ينخلع صاحبها بخلع العاقد له بعد ذلك ولا بخلع غيره ولا بذم أحد له ولا ينخلع بالقرف ولا بالتأويل عليه وإنما ينخلع بالجلي المعلوم من الأحداث الثابتة الظاهرة. فيجب أن ننظر فيما أنكره عبد الرحمن بعد عقده وما نقمه القوم عليه فإن كان ما يوجب خلع الولاية وسقوط الطاعة صرنا إليه وطالبناه بموجبه وإن كان غلطا في التأويل وقرفا بالباطل أضربنا عنه ولم نحفل به. فإن لم تقنع الشيعة وأبت إلا إبطال إمامة عثمان بهذا التأويل والروايات التي ليست بثابتة عن عبد الرحمن وإن كان قد عقدها في الأصل طوعا واختيارا عن رأي ومشورة وإخبار الناس أنه وجد الصحابة لا يعدلون بعثمان أحدا عاد ذلك بأعظم الضرر عليهم ووجب عليهم به القدح في إمامة علي لأجل إنكار طلحة والزبير وعائشة لفعله وخلع طلحة والزبير له وإقراره بذلك على ما قد روي بمثل رواية ما ادعوه على عبد الرحمن في قوله في عثمان وقوله بالبصرة بايعاني بالمدينة وخلعاني بالعراق وقولهم في جواب ذلك بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان وقول طلحة بايعت واللج على قفي. وقول الزبير بايعته أيدينا ولم تبايعه قلوبنا وقد كان أحضرا مكرهين فيهما أعذر في خلعهما لعلي من عبد الرحمن في خلعه لعثمان ولأجل أن المطالبة بدم عثمان أمر ليس يقع التأويل في مثله وإن كان الحق في يد علي ومعه دون كل من خالفه. وما نقم أحد على عثمان شيئا فيه شبهة ولا متعلق وعلى أن عثمان لم يقعد عنه أحد دعاه إلى نصرته أيام حصاره وسعى أهل الفتنة عليه بل كانوا يبذلون أنفسهم ونصرتهم ويقولون دعنا نكن أنصار الله مرتين فيأبى ذلك ويمنعهم منه. وعلي عليه السلام قعد عن نصرته كثير ممن دعاه إلى القتال معه من جلة الصحابة كسعد وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وسلامة بن وقش وغيرهم ممن لا يحصى كثرة فيجب أن يكون ذلك أظهر في القدح في إمامته وأجدر مما تعلق على عثمان. ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القدح في إمامتهما جميعا غير أن الشيعة تفتح على أنفسها من هذا الباب ما لا قبل لهم بدفعه. وليس تفسد إمامة علي بخلع من عقدها له ولا بالتأويل عليه بأنها عقدت على شرط فيها ولا يوهنها قعود من قعد عنها فكذلك لا تبطل إمامة عثمان بما حكوه عن عبد الرحمن ولا بسعي أوغاد وأهل فتنة إليه وتعديهم عليه لأن إمامته قد ثبتت وصحت فلا يقدح فيها شيء مما ذكروه. فإن قالت الشيعة نحن لا نعتبر بقول طلحة والزبير وخلعهما وقعودهما لأن طريق الإمامة النص من النبي لهم فليس يجب أن ينزلوا معنا إلى الكلام في إمامة عثمان وعقد عبد الرحمن وخلعه لأن الخوض فيها عندكم منكر فإن قالوا إنما نسألكم ونلزمكم على مذهب أهل الاختيار قيل لهم: قد أبنا لكم أن ذلك لا يلزم على أصولنا وأنه لو لزم لعاد بإبطال إمامة علي وذلك فاسد.

باب الكلام في مقتل عثمان رضي الله عنه والدليل على أنه قتل مظلوما

فإن قال قائل: فهل تقولون إن عثمان قتل مستحقا للقتل أم مظلوما وهل كان منه حدث أوجب قتله والمطالبة بخلعه أم لا قيل له: نقول إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما وإنه لم يكن منه ما يوجب قتله ولا المطالبة بخلعه ولا سقوط عدالته وموالاته وإن الذين تولوا قتله والإغراق في السعي عليه أهل فتنة ولفيف الأمصار ومن لا مدخل له في هذا الشأن أعني أمر الإمامة وحلها وعقدها وإنهم لم يستندوا في شيء مما خرجوا إليه في أمره إلى ما يمكن أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة. فإن قالوا وما الدليل على ذلك الدليل عليه أنه قد ثبت من إيمان عثمان ونزاهته وسابقته وفضله وجهاده ما قدمناه من فضائله ومن صحة أمامته وثبوت بيعته ووجوب طاعته والانقياد له ما نستغني عن إعادته ورد قول فيه وإذا كان ذلك كذلك وجب أن نعتقد أنه على جميع هذه الأوصاف وأنه قتل مظلوما حتى يذكر القاتلون له والساعون عليه والمنتصرون لفجورهم ما يبيحون به دمه على ذلك الوجه ويوجب خلع طاعته وزوال عدالته وأنى لهم بذلك. وعلى أنه لو ثبت عليه أمر يستحق به خلع الطاعة ويجب به زوال العدالة لم يكن مبيحا لقتله على ذلك الوجه لأنه لم يحم دارا ويمتنع على المسلمين ولا نصب الحرب بينه وبين من سار إليه فقد كان يجب عليهم القبض عليه لما أخذوه وتمكنوا من داره وحريمه أو حبسه وإبعاده عن المدينة أو أخذه بغاية الإرهاب بخلع نفسه لو كان مستحقا للخلع فأما أن يقتل على ذلك الوجه وهو غير ناصب للحرب فضلال وظلم لا محالة. على أنه لو استحق قتله وخلعه وإبعاده لم يجز أن يتولى ذلك من أمره الذين ساروا إليه لأنهم ليسوا من أضرابه ولا أشكاله وممن يداني منزلته ولا ممن له مدخل في الإمامة ولا في عقدها وحلها والاعتراض على أهلها وإنما يعتد بمثل ما جروا إليه ويكون لأحد فيه أدنى تعلق لو تولى ذلك منه أكفاؤه ومن له مدخل في هذا الشأن وليس للرعية كافة أن يتولوا دم من هو دون عثمان ولا إقامة أقل الحدود على أقل الناس قدرا فكيف بعثمان مع ما ذكرناه من أحواله وهذا واضح في أن القوم يجب تفسيقهم بقتله لو كان ممن يستحق القتل فضلا عن أن يكون غير مستحق له وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب أسباب هؤلاء القوم الذين عدوا عليه وكل واحد منهم والذي بعثهم على السير إليه وأنها كانت أحقادا عليه لأجل إمرة طلبوها ولأجل غيظ منهم على أمرائه ولأن بعضهم كان طفلا في حجره ولأن بعضهم حرمه بعض طلبته إلى غير ذلك مما لا حاجة بنا إلى ذكره. وقادة هؤلاء القوم الذين أشاروا عليهم وحملوهم على ما فعلوه الغافقي المصري إمام القوم وكنانة بن بشر التجيبي وسودان بن حمران وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ومن قادة البصريين حكم بن جبلة العبدي فيمن صحبه منهم ومن أهل الكوفة ملك بن الحارث الأشتر النخعي في رجال قد سميناهم. وقد كان هؤلاء أثاروا الفتنة مدة قبل قتل عثمان رضي الله عنه ورأى من الرأي إبعادهم عن المدينة فأخرج منهم عن المدينة سبعة عشر نفسا منهم القوم الذين سميناهم ومنهم على ما ذكر صعصعة بن صوجان وزيد بن صوجان العبديان وعبد الله بن الكواء وعمر بن الحمق في آخرين فكان معاوية يقربهم ويدنيهم ويحضرهم طعامه ويكثر إذكارهم بالله ويخوفهم شق العصا والفتك بإمام الأمة وتعظيم حرمة الإمامة ووجوب لزوم الجماعة إلى أن قال له زيد بن صوجان يوما كم تكثر علينا بالإمرة وبقريش فوالله ما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تأكل من متاجرها فقال له معاوية اسكت لا أم لك أذكرك بالإسلام وتذكرني بالجاهلية قبح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم فلستم برجال ضر ولا نفع أخرجوا حيث شئتم فأبعدهم ثم أحضر ابن الكواء فسأله عن أهل الفتنة في كل بلد وعن أحوال أهلها. ثم كتب إلى عثمان بأن القوم قد أثاروا الفتنة بالشام وقد خفت انخراق الأمر فأن أمرت أنفذت إليك برؤوسهم وإلا فمر بتسريحهم فكتب إلي إن الفتنة قط اطلعت رأسها وألا ينكأ القرح فسرحهم إلي فأخرجهم معاوية فعدا عليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان يومئذ أمير الجزيرة وكثير مما يتصل بها فلم يفلت أحد منهم فلما أدخلوا عليه قال لهم لا مرحبا بكم ولا أهلا يا حزب الشيطان قد انصرف الشيطان محسورا وأنتم في ضلالكم تترددون أنا عبد الرحمن أنا ابن خالد بن الوليد أنا ابن فاقىء عين الردة لم لا تقولون لي ما كنتم تقولونه لمعاوية وعبد الله بن عثمان وقمعهم وحصرهم فكان كلما ركب أمشاهم بين يديه ثم يقول لملك بن الأشتر أعلمت يا ملك أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر والله لأحسنن تقويمكم فكانوا عنده سنة يظهرون التوبة والندامة من الطعن على عثمان والإثارة للفتنة وتشعيب الكلمة. وكتب إلى عثمان بتوبتهم فكتب إليه أن سرحهم إلي فلما مثلوا بين يدي عثمان جددوا التوبة والندم وحلفوا له على ذلك فخيرهم البلاد فاختار بعضهم الكوفة واختار بعضهم البصرة فأخرجهم إلى حيث آثروا. فما استقرت بهم البلاد حتى شرعوا في أعظم مما تابوا منه بأنفس حنقة وصدور وغرة وقلة إحفال بالإمام والأمة وإيثار الشغب والفتنة. واتصل ذلك بعثمان فأرسل رسلا إلى البلاد ليرفعوا شكواهم ويزيل ظلامتهم فأفسدوا بعضهم وأثاروا الفتنة على باقيهم ولم يقنعوا إلا بالمسير إليه وقتله في داره وهتك حريمه والتغلب على مدينة الرسول أن وطئوه وحصبوه ومنعوه الصلاة في المسجد وهو دائبا يسكنهم ويضمن لهم إزالة ظلامتهم وإجمال النظر لهم ويغرق في وعظهم وتخويفهم ويقول ويحلف لهم في غير خطبة خطبها عليهم من فوق داره أنه أبصر الناس بأخذهم سيرة عمر وحملهم على عنف السياق وأنه ما بسطهم عليه إلا لينه وتجاوزه عنهم في صلاحهم فيقول لهم إن رأيتم أن تضعوا رجلي في قيد فضعوها ويقول لهم تارة وقد أشرف عليهم أنشدكم الله هل سمعتم رسول الله « لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس » فيقولون: اللهم نعم، فيقول: والله ما كفرت منذ أمنت ولا قتلت نفسا بغير نفس ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط فبماذا تستحلون دمي. ويقول لهم تارة: أنشدكم الله هل سمعتم رسول الله « من وسع مسجدي هذا ضمنت له على الله الجنة ومن جهز جيش العسرة ومن اشترى البئر للمسلمين » ففعلت ذلك، ويقولون: اللهم نعم، ويقول: فما بالكم تمنعوني الصلاة في المسجد وما بالكم آمنون وأنا خائف. في نظائر لهذه الألفاظ. ويقول لرجل هجم على داره من أهل مصر مقتحما بسيفه يريد قتله فلما رأى هيبته وسمع قراءته أحجم عنه فقال له عثمان مالك رحمك الله فقال إنا جئنا لقتلك فإن القوم كتبوا إلينا أنك كفرت وارتددت وما أراك إلا إماما صالحا قواما فبكى عثمان فقال له ما كفرت منذ آمنت اللهم احكم بيننا وبينهم فقال له الرجل يا أمير المؤمنين إني نذرت دمك وآليت على نفس فأبر قسمي قال فأدناه عثمان وكشف له عن جنبه فشرط له بالسيف شرطة خفيفة حتى خرج دمه فقالت عند ذلك زوجته نائلة بنت الفرافصة واذل أمير المؤمنين ثم إن الرجل خرج فركب راحلته وانصرف من فوره وتبعه أناس. ثم راسلهم قبل أن يشتد الحصار الثاني عليه بسعد وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم يناشدهم ويعظهم ويخوفهم ويرفق بهم ويضمن لهم إزالة كل ما تظلموا منه حتى تناذر الصحابة ومشى بعض الصحابة إلى بعض وسعوا في التسكين عنه وحتى ذكر أن طلحة خرج قبل قتله بليلة أو ليلتين فصاح في الناس وذكرهم الله وقال لهم إن إمامنا قد أعطى الرضا من نفسه وبذل ما كانت الطلبة منه دونه فتفرقوا رحمكم الله وانصرفوا إلى مياهكم ثم بكى فأحدق به خلق من أهل الفتنة وفيهم ملك الأشتر فنتل لخطابه وقال لطلحه الآن ننصرف والله لقد كنا في ثغورنا ما ينتظر أحدنا إلا سهما يقع في لبان فرسه أو غارة تقع في المشركين وكتبتم إلينا أن سيروا إلى من غير الكتاب والسنة فلما جئنا قعد هذا في بيته وأشار إلى حجرة علي وقعدتم تعصرون أعينكم دونه والله لا نبرح العرصة أو نهريق دمه. وهذا قهر عظيم وافتيات على عثمان والصحابة شديد وسرف يدلك على إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة ولا سيما إذا كان ذلك أجمع واقعا ممن ليس من أهل الإمامة والخوض فيها والافتيات على أهلها. ويدل على هذا من أمرهم إظهارهم للناس أن يحصروه ليخلع نفسه ويزيل ظلامتهم ولا يظهر منهم غير ذلك ثم يهجمون عليه الدار غلسا وفي خفية لإراقة دمه وتسوروا عليه على ما ذكر من خوخة من دار آل عمرو بن حزم وفي ذلك يقول الشاعر:

لا ترثين لحزمي رأيت به ** ضرا ولو قذف الحزمي في النار

الناخشين بمروان بذي خشب ** والمقحمين على عثمان في الدار

وكان النفر الذين ذكر أنهم هجموا عليه من المعروفين دون أتباعهم الغافقي وكنانة بن بشر التجيبي وسودان بن حمران وعبد الله بن بديل بن ورقاء وعمرو بن الحمق الخزاعي في آخرين منهم محمد بن أبي بكر فتسرع إليه محمد وألقاه لجنبه وجلس على صدره وأخذ لحيته فهزها وغلظ له في القول وذكر أنه ضرب جبهته بمشقص كان في يده فلما أراد أن يثنى وعظه عثمان وقال له يعز على أبيك أن ترقى هذا المرقى واستحيا وانصرف. وذكر أنه لم يمسه في بعض الروايات فعرف الغافقي وكنانة أنه انصرف حياء منه فأقحما عليه وبدره التجيبي بضربة ألقاه منها لجنبه والمصحف في حجره فلما سقط الدم عليه أطبقه ثم نحاه وضربه غيره. وقاتل البقية قوم من بني عبد الدار فقتل منهم سوى عثمان أربعة نفر وقتل العبد الأسود وارتث مروان بن الحكم خارج الدار وأثخن الحسن حتى حمل مغلوبا بألم الجراح. ولما رأت نائلة بنت الفرافصة زوج عثمان وقع السيف برزت وألقت نفسها عليه فأصابتها ضربة اندرت من يدها ثلاث أصابع وضرب بعض أولئك الفجرة يده عليها وقال ما أكبر عجيزتها نفلونيها وصاح الآخرون ألحقوا بيت المال. وأغاروا بديئا على رجل عثمان وما كان في داره ثم تناولوا ما أمكنهم أخذه من بيت المال وأضرموا الدار عليه بالنار فاحترق أكثر أبوابها. وذكر أن عمرو بن الحمق قال طعنت عثمان تسع طعنات منها ثلاث لله وست لغير الله. وقد علم كل مسلم أنصف نفسه أن ما فعله القوم به ليس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شيء وأنه أبعد الأمور عن الحق وعن مصلحة الأمة وأدعاها إلى تفريق الكلمة وشتات الرأي وتوهين الدين والإذلال لسلطان المسلمين والتوثب على أئمتهم وتوخي إضعاف أمرهم وقصر هممهم وأيديهم عن إقامة الدين وتنفيذ أحكام المسلمين وأن عثمان رضي الله عنه لو كان في الحقيقة قد ارتد عن دينه أو زنى بعد إحصانه لم يستحق سفك دمه على ذلك الوجه وإحراقهم داره ونهب تراثه والمطالبة بتنفيل زوجته وهذا أظهر وأبين من أن نحتاج فيه إلى إقامة الدليل على ظلم فاعله وتعديه. وعلى أن ذلك أجمع لو وجب عليه وكان من حدود الله تعالى في شريعة لم يكن لهؤلاء القوم توليه وإقامته وإنما ذلك إلى سلطان المسلمين ولا أقل من أن يكون للأماثل منهم أهل الحل والعقد ومن يقدر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون من ذكرناه. وكل من ادعي عليه قتله من الصحابة فقد كذب عليه وأضيف إليه ما ليس منه بسبيل كعلي وطلحة والزبير رضوان الله عليهم وما من هؤلاء أجمع أحد إلا وقد أظهر المطالبة بدمه ولعن قتلته وأظهر البراءه منهم والتأسف على ألا يمكنه إقامة الحق عليهم. وهذا ظاهر معلوم من حال علي وطلحة والزبير وما وراء ذلك إنما هو من الشواذ وأخبار الآحاد ولا يحل لمسلم اتقى الله وعرف قدر الصحابة أن يضيف إلى أحد منهم قتل عثمان والرضا به والخذلان له مع دعائه إلى نصرته والدفع عنه بأخبار آحاد يعارضها مثلها تارة وما هو أقوى منها أخرى ويكون الظاهر من قول علي وطلحة والزبير بخلافها وفي نقيضها لأن الظاهر المعلوم لا يترك لروايات غير معلومة بل لو لم يظهر منهم مثل هذا لكانت مثل هذه الأخبار مدفوعة بما ورد من أمثالها في نقيضها ومعارضتها وكيف يجوز لذي علم ودين أن يضيف إلى أدون الصحابة بعض ما يوجب الفسق من قتل عثمان أو التأليب عليه أو خذلانه بروايات لا تساوي مدادها ولا الاشتغال بالإصغاء إليها وقد ظهر عدوان من ذكرناه عليه وتوليه لقتله وفي ذلك يقول الشاعر:

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ** قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

وذكر أيضا محمد بن أبي بكر وغيره في أشعار كثيرة مشهورة، وقد ذكرناها في غير هذا الكتاب. وما روي عن عثمان أنه كتب إلى علي أيام الحصار:

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ** وإلا فأدركني ولما أمزق

إنما هو أيضا من روايات الآحاد. وكيف يصح ذلك وقد أنفذ علي الحسن لنصرته وعثمان يرده ويرد الناس عن الدفع عنه بالقتال لهم ويحملهم الرسائل إليهم بالوعظ لهم وهذا معلوم ظاهر من حاله وأنه قال من كان يظن أن لي في عنقه طاعة فليغمد سيفه وليلزم بيته وقال لعبيده من غمد منكم سيفه فهو حر لوجه الله ففعلوا إلا الأسود الذي قتل في الدار وهذا لا يشبه ما رووه من استنهاضه لعلي ولأن في ذلك أيضا قرفا لعثمان في اتهامه لمثل علي رضوان الله عليه في هذا الباب. فكل ما جرى مجرى هذه الروايات فإنه مردود. والظاهر من علي تكذيب هذه الرواية من قوله والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله. ويمكن لو صحت هذه الرواية أن يكون هذا القول من عثمان ليس على سبيل التهمة لعلي عليه السلام بل على طريق الاستزادة في وعظ القوم وكفهم وإرساله في هذا الباب وقد يقول الإنسان مثل هذا الكلام إذا حزبه الأمر وفجئه ما يخافه على غير سبيل الظنة والتهمة. فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في هذا على ما وصفتم من ظلم القوم له وتعديهم عليه فما بال الصحابة لم يسارعوا إلى إنكار ذلك وصدهم عنه وأي عذر لهم في إسلامه والتساهل في خذلانه قيل له: معاذ الله أن يكون فيهم من خذله أو قعد عن نصرته عند دعائه لهم وإنما لزموا بيوتهم لأنه أمرهم بذلك وكرره عليهم وناشدهم الله عز وجل وعرفهم أن الجيوش توافيه وأنه لا يرى منابذة الصحابة لأهل الفتنة وإنما يجب أن يدفعوا بأمثالهم ووكد هذا القول وضيقه على القوم وقد جاء زيد بن ثابت شاكا في سلاحه وقال له دعنا نكن أنصار الله مرتين يعني في الدفع عنه مع الدفع عن رسول الله من ذلك فأتاه عبد الله بن عمر متدرعا فكفه طمعا في أن ينصرف القوم ثانية كما انصرفوا في الأول أو في أن يلحق به من البلاد من يدفع عنه غير الصحابة وكره أن يتحدث عنه في أمصار المسلمين وغيرها أن قوما قصدوا بابه لرفع ظلامه فقتلهم وناصبهم الحرب ولقد طمع فيما يطمع فيه مثله وأحسن السيرة والتدبير في الكف عنهم والأمر بذلك. وليس يجوز أن يعتقد فيه أنه أقعدهم عن الدفع عنه مع غلبة ظنه بأنه يقتل لا محالة وأن القوم يقصدون نفسه دون إشكائه وإزالة الظلامة لأن ذلك خطأ من فعله لو وقع وكذلك فلا يجوز أن يظن بالصحابة ولا بأحد منهم أنهم قعدوا عنه وتركوا الاعتراض عليه في أمره لهم بالكف مع ظنهم وتوهمهم أنه سيقتل لأن ذلك إجماع منه ومنهم على الخطأ وإنما قدروا أن القوم ينصرفون فأطاعوه في أمره وإنما تهجموا على داره غلسا بسحر ولو فعلوا ذلك بمحضر الصحابة أو بعضهم لندرت الرؤوس عن كواهلها دون الوصول إليه ولم يعدم النصرة على كل حال من كافتهم أو الأكثرين منهم عددا. وأما قولهم إنه بقي ملقى على المزبلة ثلاثة أيام فكذب من راويه وطعن على السلف وسائر الأمة بل قد وردت الروايات أنه دفن من يومه وحمل من داره إلى بقيع الغرقد وهذا أظهر وأليق بمثل الصحابة. وهذا جمل تنبىء عن ظلم القوم وعدولهم عن الحق فيما جروا إليه.

باب ذكر ما تعلقوا به على عثمان رضي الله عنه ونقموا من فعله والجواب عنه

فأما تعلقهم بأنه ضرب عمارا حتى فتق أمعاءه وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر ضلعين من أضلاعه ومنعه العطاء سنين كثيرة وأنه رد عليه عطاءه فباطل عند كثير من الناس. وليس ما يروون في هذا مما نضطر إليه أو مما قام دليل عليه ولا مما يثبت تعلق القوم به. وعلى أنه لو ثبت ذلك لوجب أن يحمل فعله على الصحة وقد روي أن سبب ضربه لعمار أنه قال للطاعنين عليه اكتبوا ما تشكونه من عثمان في كتاب واعطونيه حتى أدخل عليه وأوقفه عليه فكتب ذلك ودخل عليه فغلظ له في القول وافترى واستخف بسلطان الله وليس له ذلك ولا يحل له ولا لغيره أن يخاطب عثمان بذلك وليس بأمير المؤمنين إلا بما يقتضيه ما ذكرناه من محله في الدين ومنزلته بين المسلمين وحرمته وسابقته في الدين فكيف وهو السلطان المأمور بطاعته وترك الافتيات عليه وليس فيما أنكروه عليه منكر يستحق به مثل ما خرج إليه عمار. وقد روي أنه كان يقول عثمان كافر وكان يقول بعد قتله قتلنا عثمان يوم قتلناه كافرا حتى قال له علي عليه السلام مرة وهو يخاصم في ذلك الحسن بن علي والحسن ينكر ذلك من قوله أتكفر يا عمار برب آمن به عثمان فقال لا فأرسل الحسن يده من يده. وهذا سرف عظيم من خرج إلى ما هو دونه استحق الأدب من الإمام فلعل عثمان انتهزه وأدبه لكثرة قوله قد خلعت عثمان وأنا بريء منه فأدى الأدب إلى فتق أمعائه. ولو أدى أدب الإمام إلى تلف النفس لم يكن بذلك مأثوما ولا مستحقا للخلع فإما أن يكون ضربه باطلا وإما أن يكون صحيحا فيكون ردعا وتأديبا ونهيا عن الإغراق والسرف وذلك صواب من فعل عثمان وهفوة من عمار. وأما ضربه عبد الله بن مسعود ومنعه العطاء وكراهة عبد الله له فإنه باطل أيضا غير صحيح فإن صح ذلك حمل من عثمان مع ثبوت عدالته وإيمانه على وجه صحيح وهو أن يكون قصد بذلك تأديب عبد الله بن مسعود وردعه عن الامتناع من إخراج المصحف إلى مثل عثمان وعلى سائر الصحابة مع علمه بشدة الهرج والفساد واختلاف القراءة وتوخي عثمان حسم هذه الفتنة وجمع الكلمة والموافقة على مصحف متفق عليه محفوظ محروس يكون العماد في هذا الباب ولقد وفق في ذلك لأمر من الدين عظيم وخير كثير فلم يكن لعبد الله أن يمنع من ذلك هذا مع العجائب التي يذكرون أنها في مصحفه من إلغاء المعوذتين وإثبات ما نسخت تلاوته ويبعد أن يكون من كلام الله تعالى ومن القرآن وإلى غير ذلك. وقد كان يجب أن يخرج ما في يده ويوافقه عليه فإذا امتنع من ذلك جاز للإمام إرهابه بشيء من الضرب إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك فإن أدى الضرب إلى كسر ضلع وإبطال عضو وإذهاب البصر لم يكن الإمام ذلك مأثوما ولا حرجا إذا لم يقصد إلا التأديب والتشديد وكذلك إن قرفه بظلم أو ومعصية ألب عليه ولم يضمر بذلك الحجة وكانت ظاهر الإمام العدالة جاز له تأديبيه. وأما قولهم إنه كره أخذ العطاء فلعله رأى في وقت رده إلى من هو أحق منه أو لعله استغنى عنه أو لعله اعتقد أن فيه شبهةتمنع من أخذه وإن كان غالطا في اعتقاده ذلك لأنه ليس بمعصوم لا يجوز الزلل عليه أو رأى أنه يستحق أكثر مما أعطاه عثمان ولم يكن يستحق عنده أكثر مما قسمه له وهذا مردود إلى اجتهاد الإمام ورأيه وليس لأحد الافتئات عليه ولا رد العطاء إذا لم يرضه أو يبين ابن مسعود أن رد العطاء لوجه يوجب فسق عثمان فينظر في ذلك فإن لم يكن معنى غير رده حمل أمره على بعض ما قلناه وكذلك ضرب عثمان إياه حمل أمره على الأليق به أولى وأما قولهم إنه منعه العطاء لسنين فإنه غير ثابت فإن صح فلعله كره أن يأخذه أو لعل عثمان صرفه إلى غيره لأنه كان أولى منه وهو مصيب في ذلك إذا أداه اجتهاده إليه. ومثل هذا لا يثبت بأخبار الآحاد ولا يتوصل به إلى القدح في الأئمة وفضلاء الأمة. وأما تعلقهم بأن عثمان جمع القرآن وحرق المصاحف وسبق إلى ذلك فإنه جهل عظيم لأن هذا من فضائله وتسديد عمله عندما حدث من الاختلاف والتهازج بين القراء وعدوان بعضهم على بعض ووجود كل ملحد ومدغل السبيل إلى الطعن في الدين وإفساد التأويل والهزل بأئمة المسلمين. وهذا كان الواجب على عثمان إذا وقع له وخطر بباله وظن الصلاح ولم الشعث ولو عدل عنه لكان عاصيا مفرطا قائدا إلى الإهمال والتضييع. وأما قولهم إنه سبق إلى ذلك فباطل لأنه قد جمع في أيام رسول الله أبي بكر وعمر في الجلود والخزف والأكتاف وغير ذلك ولم تحتج الصحابة إلى جمعه على وجه ما جمعه عثمان لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف بين القراء ما حدث في أيامه وأما تعلقهم بأن جمعه معصية وبدعة فإنه جهل لأن المعصية هي ما نهي فاعلها عنها ونحن نقول إن جمعه من فرض عثمان إذا قدر في جمعه من الصلاح ما ذكرناه وليس من نص الكتاب أو السنة الثابتة أو إجماع الأمة أو حجج العقول ما يحظر جمع القرآن ويقضي على عصيان فاعله فبطل بذلك ما ظنوه. وأما قولهم إنه حرق المصاحف فإنه غير ثابت ولا مما يلزم قلوبنا العلم به ولو ثبت لوجب أن يحمل على أنه حرق مصاحف قد أودعت ما لا تحل قراءته وقد خرج عن أن يكون قرآنا بإفساد نظمه وإحالة معناه في الجملة فإنه إمام من أهل العلم غير معاند للنبي طاعن على التنزيل. هذا هو المعلوم من أمره فيجب أن يكون حرق ما يجب إحراقه. ولذلك ما لم يرو عن أحد من الصحابة أنه قال له قد عصيت الله وأذللت الدين بإحراق مصاحف لا يحل إحراقها. وقد شاهد القوم من ذلك وعرفوا ما ذهب علينا معرفة كنهه وقد ثبت عدالة عثمان وطهارته فلا متعلق في ذلك. وأما تعلقهم بأنه حمى الحمى فلا حجة فيه لأن إبل الصدقة وماشيتها كثرت واتسعت وكثرت الخصومات بين رعاة ماشية الصدقة وحفاظها وقتلوا أرباب المواشي فحسم مادة الفتنة ووسع الحمى وقد حمى أبو بكر وعمر فلم ينكر ذلك أحد ولا نقمه ولا عده من معاصيهما فلا تعلق في ذلك. وأما تعلقهم بأنه نفى أبا ذر إلى الربذة فباطل لأن أبا ذر اختار الخروج إليها لما خيره عثمان وكره المقام في المدينة فلا عتب على عثمان ولو صح أنه أبعده عن المدينة لم يكن بذلك مأثوما ولوجب حمل فعله على العدل والصحة حتى يقوم دليل على ظلمه وتعديه وقد ذكر الناس أن أبا ذر كان يطعن على عثمان وعلى أمرائه ويقول إنهم قد استأثروا بالمال وعلوا البنيان وركبوا المراكب وكان هذا عنده منكرا رحمه الله لأنه كان ممن يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ويرى أن التمتع بزينة الدنيا حرام وليس كما توهم. وذكر أنه أفسد على عثمان الشام وكان أبدا يقول إذا دخل على خلفائه { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } ويغرق في مجاهرتهم بأغلظ القول وليس له فعل هذا فأنكر عليه ذلك عثمان وقال له إما أن تقيم وتكف عما يثير الفتنة أو تبعد إلى حيث لا يسمع منك ولا ينكر فعلك وكل هذا يحق لو ثبت إبعاده على هذا الوجه فيكف ولم يثبت وإنما اختار الخروج إلى الربذة. وأما تعلقهم بأنه آوى الحكم طريد رسول الله باطل لأن أكثر الناس ينكره ويقول إن الحكم خرج بأمر النبي كف وكبر فاستأذن في الخروج إلى أهله فأذن له. وعلى أن القوم لا يدرون ما سبب طرده فمنهم من يقول إنه كان يحاكي النبي في مشيته ومنهم من يذكر أنه كان يحاكيه خلف الصفوف وكل هذا من الترهات. وقد روي عن غير طريق أيضا أن عثمان كان قد قال لأبي بكر وعمر إني كنت استأذنت رسول الله رده فأذن في ذلك فطالباه بآخر معه يشهد بذلك فلم يجد فلما ولى عمل على أمره رسول الله هذا الحكم مما لا يجوز عمل الحاكم فيه وحكمه بعلمه فلا متعلق فيما ذكروه من ذلك. وأما تعلقهم بأنه أتم الصلاة بمنى فإنه أيضا من قلة التوفيق وللدلالة على العناد لأن هذه الصلاة صلاة سفر يجوز له إتمامها ويجوز له قصرها وقد كان النبي في السفر تارة ويقصر أخرى وكانت عائشة رضي الله عنها وغيرها من الصحابة يتمون هذه الصلاة خاصة فما نقم ذلك أحد ولا عده ذنبا وعلى أن عثمان قد احتج في ذلك بشيئين لما سئل عنه أحدهما أنه قال كان أهلي بمكة فصرت في حضر وخرجت عن حكم المسافر وهذا كما قال إذا كان على أهل ومنزل والآخر أنه قال بلغني أن العرب انصرفت إلى مياهها وصلت ركعتين وقالت إن الصلاة قصرت فخفت دخول الشبهة عليهم وأي تعلق في هذا. وأما تعلقهم بتركه قتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان فإنه أيضا باطل لأنه لم يفعل ذلك إلا عن رأي الأمة ومشورة منهم أو من أكثرهم. لأنه قيل له: أمس قتل أبوه ويقتل اليوم ويتحدث بهذا في بلاد الكفر والإسلام فيهن الدين ويذل سلطان المسلمين. وقيل إن الهرمزان حمل أبا لؤلؤة على قتل عمر حمية للفرس والمجوسية وإن إسلامه لم يكن حسنا وإنه كان يستقل عطاء عمر فإنه كان يفرض له على ما ذكر عشرين درهما ويقول إنه لا أب له في الإسلام وذكر له أن الهرمزان خرج من داره أبو لؤلؤة بالخنجر يوم قتل عمر يرى الخنجر تحت أثوابه فقالوا له هذا من السعي في الأرض فسادا وهو مستحق لما نزل به غير أن هذا إليك وإلى من يقوم بالأمر وقد تعدى عبيد الله بأخذ حقه بيده فقط وقد كان هذا منه في غير سلطانك والعقد لك وليس أخذه للحق بيده حقا لأحد يطالب به فلا شيء الآن عليه. وقد يجوز أن يعتقد بعض الصحابة أن دم عبيد الله مستحق ولا يعتقد ذلك عثمان إذا ظن وقوي عنده أن الهرمزان سعى في الأرض فسادا يقتل عمر بن الخطاب وخاف أمثالها من التوثب على الأئمة فلا شيء عليه في ترك الإفادة من عبيد الله بن عمر. وأما ما تعلقوا به من تولية أقاربه كمعاوية وعبد الرحمن بن عثمان ومروان بن الحكم وغيرهم فلا متعلق فيه دون أن يثبتوا أنهم فساق وأن فسقهم ثبت عند عثمان فأقرهم وأنه ولاهم يوم ولاهم وهم فساق ليسوا بأهل الولاية وقد كان هؤلاء النفر أهل نجدة وكفاية وبصر بالإمرة وقدرة عليها وإن لم يكونوا زهادا وقد كان معاوية من أمراء عمر طول مدته فما نقم عليه أحد. وأما قولهم إنه كان يحبهم ويخصهم بالعطاء وإنه أعطى مروان جميع خمس إفريقية فإنه باطل وتوهم منهم وقد كان عثمان أتقى لله وأنزه نفسا مع إنفاقه في سبيل الله وكثرة بذله لماله ونفسه في نصرة الدين. وقد ذكر أنه إنما أعطى من مال نفسه وقال لهم مرة في قسمه إنما اقترضت من بيت مال المسلمين وهذا ضعيف لأنه كان غير محتاج إلى اقتراض مع سعة ماله ومتى لم يثبت عليه ذلك لم يحل قرفه به. وأما تعلقهم بما أنكرته عائشة وغيرها من تجاوزه في تأديب الصحابة الضرب بالدرة إلى الضرب بالعصا فلا عتب عليه في ذلك لأن للإمام التقويم والضرب بالدرة من الواحد إلى الألف مرة بالعصا ومرة بالدرة ومرة بالانتهار والقول ولو أن عمر احتاج معهم إلى العصا لفعل. وأما ما تعلقوا به من أمر الكتاب الذي وجدوه مع عبده على بعيره وما تضمنه في بابهم وباب محمد بن أبي بكر مما أمر به عبد الله بن أبي سرح فلا حجة عليه من وجوه أحدها أنه اعترف أن العبد عبده والبعير بعيره وحلف لهم أنه ما كتب الكتاب ولا أمر من كتبه. وقد كان من حق كل مسلم سمع قسم عثمان أن يصدقه ويثق بقوله فضلا عن يمينه وأما افتياتهم عليه بعد ذلك وقولهم تسلم مروان لأنه هو كاتبه فإنه مطالبة بمعصية لأنه سأل مروان عن ذلك وهو يومئذ معه في الدار فأنكر أن يكون كتبه فلم يجز له تسليمه إليهم ليتحكموا فيه فلو أنه أيضا اعترف بالكتاب لم يحل دمه ولو حل أيضا دمه لم تكن إقامة الحد لهم ولم يجز لإمام المسلمين أن يمكنهم من إقامة الحدود وهم رعاع ليس إليهم هذا الشأن ولا هم بمأمونين عليه. وعلى أنه لو ثبت أن عثمان ومروان كتبا الكتاب لم يكن ذلك بذنب لهما لأن أولئك القوم كانوا مستحقين له لسعيهم على عثمان وحصرهم له واستنفار الناس عليه وشتمه وتحصيبه على منبر رسول الله الماء واستخفافهم بسلطان الله وحصرهم الصحابة في منازلهم وتقدم الغافقي على سائرهم واستيلائهم على المدينة وبدون هذه الأفعال يكتب بما كتب به عثمان فليت القوم انصرفوا وليت الكتاب وصل فإنه لم يكن والله أعلم يجري ما جرى من قتل عثمان وما أثمر من سفك الدماء بعده وما نحن في بقيته إلى اليوم فإن قتل أولئك كان من الصلاح في الدين وتمكينهم ما حاولوه من أعظم الفساد وقد أعقب من الشتات والفرقة وسوء العاقبة ما لا ينقطع في غالب الظن إلى يوم القيامة. وأما تعلقهم بأنه رقي على المنبر فوق المرقاة التي كان يقوم عليها رسول الله غير ثابت ولو ثبت لم يحل بذلك دمه ولم يكن ذلك من معاصيه إذا أداه اجتهاده إلى أن الصعود عليها مصلحة وأنه أرهب للعدو وأبلغ للقول وأقمع للطامع في إذلال الإمام ولعله أن يكون قد جرى ما أوجب ذلك مما لم نقف على كنهه وفي الجملة أنا نعلم أن عثمان لم يقدم نفسه على أبي بكر وعمر فضلا عن الترفع على النبي ذلك كفر من فاعله وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في هذا تعلق لأحد إذا فعله الإمام لوجه من المصلحة يراه من تعظيمه لشأن الرسول. وأما تعلقهم بأنه انصرف يوم حنين فإنه ما ثبت أنه انصرف انصراف منهزم وإنما انصرف انصراف متحرف لقتال ومنتهز لفرصة. وقد ذكر أن العسكر بأسره انصرف عن النبي يثبت معه إلا عمه العباس وابنه عبيد الله بن العباس أو قثم حين صاح يا للمهاجرين يا للأنصار فتراجع الناس. وليس يجب على الواحد الثبوت عند انصراف القوم إلا على أنهم متحرفون لقتال أو على غير علم بانقطاع الرسول عنهم إلا من شاء الله فكيف يتورك هذا الذنب على عثمان وحده من بين الجماعة على أن عثمان قد ذكر أنه قال لهم فإن كان الأمر على ما وصفتم فقد عفا الله عني وعن المنصرفين حيث يقول ولقد عفا الله عنهم وقال ثم يتوب من بعد ذلك على من يشاء فقبل الله توبته وتوبة القوم من ذلك والتوبة تزيل الذنب وعقاب الذنب فلا تعلق في هذا. وأما تعلقهم بأنه لم يحضر بدرا فإنه جهل عظيم لأن أكثر ما في ذلك أن يكون غيره أفضل منه وقد بينا أن إمامة المفضول جائزة مع حصول الفاضل بسبب عارض يقعده على أن الفضيلة له في تأخره عن بدر ثابتة لأنه إنما تأخر بأمر رسول الله بذلك وإلزامه له لتعليل ابنته ومشاهدة أمرها لأن بنت الرسول كانت مرضت فأمره بالقيام عليها وكان « إن قوما بالمدينة تخلفوا وما تخلفوا عما نحن فيه » قال الراوي فكنا نرى أنه يعني عثمان وقد جعل رسول الله فضل الحاضرين وضرب له سهمه من غنيمة بدر ولو علم أنه مؤثر للتخلف عن الغزو لغير عذر لكان حربا بذمه والتنبيه على سوء فعله ورأيه فيه وهذا عائد بالطعن على النبي له دون غيره. وأما تعلقهم بتأخره عن بيعة الرضوان فإنه غفلة وجهل ولجاج وعناد وذلك أنه إنما تأخر لتحمل رسالة النبي أهل مكة حين أرجف بالعسكر أن قريشا قتلت عثمان فغضب النبي وقال « والله لئن كان قتلوه لأضرمنها عليهم نارا » ثم أخذ لأجل هذا الخبر على الصحابة بيعة الرضوان وقال « هذه شمالي عن يمين عثمان وهي خير له من يمينه » فهو كان سبب بيعة الرضوان وغضب النبي يكون بتأخره عنها منقوصا. فدل جميع ما وصفناه على فضل عثمان ونزاهته وعدالته وسلامة بيعته وأنه قتل مظلوما.

باب الكلام في إمامة علي عليه السلام والرد على الواقف فيها والقادح في صحتها

فإن قال قائل: ما الدليل على إثبات إمامة علي وأنه أهل لما قام به وأسند إليه ومستحق لإمامة الأمة. قيل له: الدليل على ذلك كمال خلال الفضل فيه واجتماعها له لأنه من السابقين الأولين وممن كثر بلاؤه وجهاده في سبيل الله وعظم غناؤه في الإسلام وعن رسول الله ما له من القرابة الخاصة وتزويجه النبي وكريمته فاطمة روي فيه من الفضائل المشهورة عن النبي قوله « أقضاكم علي وأفرضكم زيد » مع العلم بأن القضاء يشتمل على معرفة أبواب الحلال والحرام وأحكام الشرع وما يحتاج إلى علمه إمام الأمة ونحو قوله « حب علي إيمان وبغضه نفاق » وقوله في خيبر « لأدفعن الراية إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله » ودفع الراية إليه بعد أن تفل في عينيه وكان رمد قال علي فما رمدت عيناي بعد ذلك وقوله « من كنت مولاه فعلي مولاه » بعد قوله « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » فأوجب من موالاته على باطنه وظاهره والقطع على طهارة سريرته ما أثبته لنفسه وأعلمهم أن عليا ناصر للأمة مجاهد في سبيل الله بظاهره وباطنه لأن المولى يكون بمعنى الناصر المعين باتفاق أهل اللغة قال الله تعالى: { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } يعني ناصره وقال الأخطل:

فأصبحت مولاها من الناس كلهم ** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

يعني أصبحت ناصرها من الناس يعني عبد الملك بن مروان لأن أحدا في وقته لم يقدر على مثل نصرته إذ كان إمامهم إذ ذاك وقائدهم وإن كان فيهم ناصر دونه. ومن فضائله قوله غزاة تبوك لما لحق به وشكا خوض الناس في بابه « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » أي إني استخلفك على المدينة كما استخلف موسى أخاه هارون لما توجه لكلام ربه من غير بغض ولا قلى وقوله لا يؤدي عني إلا رجل مني وإنفاذه بسورة براءة يقرؤها على المشركين بمكة وهذا أمر لا يليه إلا أهل القدر والنباهة ومن يصلح للتحمل والأداء عن رسول الله مثل قريش مع وفارة عقولهم وصحة أحلامهم وما وصفهم الله به فقال: { بل هم قوم خصمون }. ومن فضائله قوله وقد شكت له بعض حالها « أما ترضين أن الله قد اطلع على أهل الأرض فاختار منهم رجلين جعل أحدهم أباك وجعل الآخر بعلك ». وقوله « اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر » فجاء علي فأكل معه من الطائر المشوي الذي كان أهدي إليه إلى غير هذا من الفضائل مما يطول تتبعها. هذا مع ما ظهر من إعظام كافة الصحابة له وإطباقهم على علمه وفضله وثاقب فهمه ورأيه وفقه نفسه وقول مثل عمر فيه لولا علي لهلك عمر وكثرة مطابقتهم له في الأحكام وسماع قوله في الحلال والحرام. ثم ما ظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة من استدعائهم ومناظرتهم وترك مبادأتهم والنبذ إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه « لا يبدؤوهم بالحرب حتى يبدؤوكم ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يكبس بيت ولا تهج امرأة » وفي رواية أخرى ولا يكسر بيت ورده رحالات القوم إليهم وترك اغتنام أموالهم وكثرة تعريفه وندائه على ما حصل في قبضته من أموالهم وكثرة الأمر لابن عباس وغيره بقبول شهادة أهل البصرة وصفين إذا اختلطوا ووضعت الحرب أوزارها والصلاة خلفهم وقوله لمن سأل عن ذلك « ليس في الصلاة والعدالة اختلفنا وإنما اختلفنا في إقامة حد من الحدود فصلوا خلفهم واقبلوا شهادة العدول منهم » إلى غير ذلك مما سنه من حرب المسلمين حتى قال جلة أهل العلم لولا حرب علي لمن خالفه لما عرفت السنة في قتال أهل القبلة. هذا مع ما علم من شجاعته وغنائه وإحاطته علما بتدبير الجيوش وإقامة الحدود والحروب وحماية البيضة وقوله ظاهرا من غير رد من أحد حفظ عليه إن قريشا تقول إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا رأي له في الحرب. لله أبوهم ومن ذا يكون أبصر بها مني وأشد لها مراسا والله لقد نهضت فيه وما بلغت العشرين وها أنا اليوم قد ذرفت على الستين ولكن لا إمرة لمن لا يطاع وكثرة ما ظهر منه من مناظرته لأهل البصرة وصفين وحروراء والنهروان ولطيف ما أحتج به وأبان عن نفسه وفضل رأيه وأنه على الواضحة في سائر ما أتاه مما أنكروه وقد بسطنا ذلك ضربا من البسط في كتاب مناقب الأئمة. وببعض هذه الخصال ودون هذه الفضائل يصلح للخلافة ويستحق الإمامة فبان بما ذكرناه أنه حقيق بما نظر فيه وتولاه. فإن قال قائل: فما الدليل مع ما ذكرتم من فضله وجلالة قدره وصلاحه لهذا الأمر على أن العقد له وقع موقعا صحيحا يجب الانقياد لصاحبه والاقتداء به قيل له: الدليل على ذلك أن عثمان رضي الله عنه لما قتل استولى الغافقي ومن صار معه من أهل الفتنة على المدينة وهموا بالفتك بأهلها وحلفوا على ذلك للصحابة متى لم يقدموا النظر في أمرهم ويعقدوا الإمامة لرجل منهم فأراد الصحابة حسم مادة الفتنة وعرض هذا الأمر على علي عليه السلام والتمس منه وآثره المصريون فامتنع عليهم وأعظم قتل عثمان وأنشأ يقول:

ولو أن قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرا يديخ الأعاديا

ولزم بيته. ثم عرض ذلك على طلحة وآثره البصريون وأبى ذلك وكرهه وأنشأ يقول:

ومن عجب الأيام والدهر أنني ** بقيت وحيدا لا أمر ولا أحلي

ثم عرض ذلك على الزبير فأبى وأنشأ يقول:

متى أنت عن دار بفيحان راحل ** وباعثها تخني عليه الكتائب

كل ذلك منهم إنكار لقتل عثمان وإعظام له ورزية به. فلما حلف أهل الفتنة على الفتك بأهل المدينة وإلقاح الفتنة وردها جذعة اجتمع وجوه المهاجرين والأنصار عشية اليوم الثالث على ما روي من قتل عثمان فسألوا عليا هذا الأمر وأقسموا عليه فيه وناشدوه الله في حفظ بقية الأمة وصيانة دار الهجرة فدخل في ذلك بعد شدة وبعد أن رآه مصلحة ورأى القوم ذلك لعلمهم وعلمه بأنه أعلم من بقي وأفضلهم وأولاهم بهذا الأمر فمد يده وبايعه جماعة من حضر منهم خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم بن التيهان ومحمد بن مسلمة وعمار في رجال يكثر عددهم من المهاجرين والأنصار وهذا من أصح العقود وأثبتها لأن المعقود له أفضل من بقي ومن ذكرناه من العاقدين بصفة من يملك عقد الإمامة في الفضل والسابقة فوجب بذلك تمام بيعته وصحة إمامته. فإن قال قائل: أفليس قد روي أن عليا حضر المسجد ثاني هذا اليوم غدوة فاجتمع أهل المدينة إليه وأحضر طلحة والزبير مكرهين فأخرج أولا طلحة من بيته وأهل البصرة قد حفوا به وحكيم بن جبلة العبدي يحدوه بالسيف من خلفه ثم أخرج الزبير وقد أحدق به أهل الكوفة وملك الأشتر يحدوه بالسيف من خلفه حدوا حتى أحضر المسجد وخطب علي خطبته المشهورة ووصف دخوله في هذا الأمر وقيل لطلحة بايع فبايع مكرها وصفق على يد علي بيده الشلاء فقال قائل: من أخريات الناس لا إله إلا الله أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين يد شلاء والله لا يتم هذا الأمر وقال الناس يد شلاء وأمر لا يتم ثم بايع الزبير على هذه الصفة من الإكراه وروي أنهما قالا بايعته أيدينا ولم تبايعه قلوبنا وأن طلحة قال بايعته واللج على قفي يعني السيف. وأنهما قالا بالبصرة بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان وأن عليا قال بايعاني بالمدينة وخلعاني بالعراق فكيف لا تكون بيعة القوم على هذا الوجه فاسدة وإمامته باطلة. قيل لهم: جميع ما ذكرتموه لا يقدح في صحة إمامته لأن البيعة قد كانت تمت ووجب الانقياد لعلي بعقد من عقدها له ممن ذكرنا قبل حضور طلحة والزبير ومبايعتهما فلا معتبر بالمبايعة بعد تمامها وبالوجه الذي وقعت عليه ممن أوقعها إذ كان فعلهما كالتبع لما تقدم ودخول في طاعة قد وجبت عليهما ولو تأخرا عن الانقياد لإمامته لوجب أن يكونا مأثومين في ذلك كما أنه لو تأخر متأخر عن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان لوجب تأثيمه بعد إتمام إمامته وقولهما بايعناك مكرهين قد عورض من النقل بما يدفعه وإن وقعت منهما على سبيل الإكراه لم يضر ذلك بإمامة علي رضوان الله عليه لأنها قد ثبتت قبل بيعتهما. وقول من قال أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين يريد أول يد من أيدي أهل المسجد التي صفقت على يده في ذلك الوقت ولم يرد أنها أول يد بايعته فلا حجة في هذا القول. ويمكن أن يكون هذا القائل ظن أن يد طلحة أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين ولم يكن حضر البيعة عشاء فلا متعلق لأحد في هذا القول. وأما ما روى من قولهم بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان فإنه مما يبعد أن يكون صحيحا لأن الاتفاق من علي ومنهما اتفاق على خطأ في الدين وذلك ما يجب نفيه عنهم ما أمكن ووجد إليه السبيل وذلك أن عقد الإمامة لرجل على أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز لأنه متعبد في ذلك باجتهاده والعمل على رأيه وقد يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن لا يقتل الجماعة بالواحد وذلك رأي كثير من الفقهاء وقد يكون ممن يرى ذلك ثم يرجع عنه إلى اجتهاد ثان فعقد الأمر له على ألا يقيم الحد إلا على مذهب من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل ممن عقده ورضي به وليس يجوز أن ينسب إلى علي وطلحة والزبير خطأ مقطوع بفساده من جهة أخبار الآحاد التي لا يجب العلم بصحتها وعلى أنه إذا ثبت أن عليا ممن يرى قتل الجماعة بالواحد لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلا بأن تقوم البينة على القتلة بأعيانهم وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه ويطالبوا بدم أبيهم ووليهم ولا يكونوا في حكم من يعتقد أنهم بغاة عليه وممن لا يجب استخراج حق لهم دون أن يدخلوا في الطاعة ويرجعوا عن البغي وبأن يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن قتل قتلة عثمان لا يؤدي إلى هرج عظيم وفساد شديد قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه وإن تأخير إقامة الحد إلى وقت إمكانه وتقصي الحق فيه أولى وأصلح للأمة وألم لشعثهم وأنفى للفساد والتهمة عنهم. هذه أمور كلها تلزم الإمام في أقامة الحدود واستخراج الحقوق وليس لأحد أن يعقد الإمامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حد من حدود الله والعمل فيه برأي الرعية ولا للمعقود له أن يدخل في الإمامة بهذا الشرط فوجب اطراح هذه الرواية لو صحت ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة فقبل هو ذلك لكان هذا خطأ منهم غير أنه لم يكن بقادح في صحة إمامته لأن العقد له قد تقدم هذا العقد الثاني وهذه الشريطة لا معتبر بها لأن الغلط في هذا من الإمام الثابتة إمامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. فإن قال قائل: فما تقولون في حربهما له ومطالبتهما بهذا الباب وخلعهما له إن كانا خلعاه قيل له: أما خلعهما له إن صح فإنه ليس بشيء ولا قادح في صحة إمامته ولا موجب لسقوط طاعته لأن إمامته قد صحت فلا ينخلع بعد صحتها بخلعهما له ولا بخلع غيرهما ولا بترك الذهاب إلى بعض مذاهب المسلمين في إقامة الحد إنما ينخلع بالأحداث التي ذكرناها من قبل فقط. فأما حربهما له على ذلك فإنه اجتهاد منهما وما أداهما الرأي إليه وهما من أهل الفقه والرأي وكذلك عائشة. فمن الناس من يجعل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد ويقول إن كل مجتهد نصيب كإصابتهم في سائر مسائل الأحكام ومنهم من يقول إن الحق منها في واحد وهو رأي علي وقوله وإن مخالفه مخطىء في الاجتهاد خطأ لا يبلغ به الإثم والفسوق بل الإثم عنه موضوع. ومنهم من يقطع بصواب أمير المؤمنين وخطأ من خالفه ونازعه وأنه مغفور له ومنهم من يقول إنهم تابوا من ذلك ويستدل برجوع الزبير وندم عائشة إذا ذكروا لها يوم الجمل وبكائها حتى تبل خمارها وقولها وددت أن لو كان لي عشرون ولدا من رسول الله مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأني ثكلتهم ولم يكن ما كان مني يوم الجمل وقولها لقد أحدقت بي يوم الجمل الأسنة حتى صرت على البعير مثل اللجة. وأن طلحة قال لشاب من عسكر علي وهو يجود بنفسه أمدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين وما هذا نحوه. والمعتمد عندهم في ذلك قول النبي « عشرة من قريش في الجنة » وعد فيهم طلحة والزبير قالوا ولم يكن ليخبر بذلك إلا عن علم منه بأنهما سيتوبان مما أحدثاه ويوافيان بالندم والإقلاع. ومن أئمة المعتزلة من يقف في علي وطلحة والزبير وعائشة ولا يدري من المصيب منهم ومن المخطىء كعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ومن مال إلى قولهم. وقال جلة من أهل العلم إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة على الحرب بل فجاءة وكان على سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر بها لأن الأمر قد كان انتظم بينهم وتم الصلح والتفرق على الرضا فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت أراؤهم على أن يفترقوا فرقتين ويبدؤوا بالحرب سحرة في العسكرين ويختلطوا ويصيح الفريق الذي في عسكر علي بالحرب سحرة من العسكرين ويختلطوا ويصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة والزبير ويصيح الفريق الآخر الذي في عسكر طلحة والزبير غدر علي فتم لهم ذلك على ما دبروه ونشبت الحرب فكان كل فريق منهم دافعا لمكروه عن نفسه ومانعا من الإشاطة بدمه. وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذا وقع القتال والامتناع منهم على هذه السبيل. فهذا هو الصحيح المشهور وإليه نميل وبه نقول. فإن قال قائل: فإذا كانت إمامة علي من الصحة والثبوت بحيث وصفتم فما تقولون في تأخر سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وسلامة من وقش وغير هؤلاء ممن يكثر عددهم وقعودهم عن نصرته والدخول في طاعته قيل لهم: ليس في جميع القاعدين ممن أسميناه أو أضربنا عن ذكره من طعن في إمامته واعتقد فسادها وإنما قعدوا عن نصرته على حرب المسلمين لتخوفهم من ذلك وتجنب الإثم فيه وظنهم موافقة العصيان في طاعته في هذا الفعل فلذلك احتجوا عليه في القعود ورووا له فيه الأخبار وقال منهم قائل لا أقاتل حتى تأتيني بسيف له لسان يعرف المؤمن من الكافر ويقول هذا مؤمن وهذا كافر فاقتله ولم يقل إنك لست بإمام واجب الطاعة. وقال له محمد بن مسلمة بعد مراجعته ومعارضته إن رسول الله إلي إذا وقعت فتنة بين المسلمين أن أكسر سيفي واتخذ مكانه سيفا من خشب وفي خبر آخر أن أغمد سيفي وأمتسك في بيتي حتى تأتيني ميتة ماضية أو يد خاطئة فاحذر يا علي لا تكن أنت تلك اليد الخاطئة ولم يقل له لست بإمام مفروض الطاعة. وكذلك قال له أسامة بن زيد قد علمت يا علي أنك لو دخلت بطن أسد لدخلت معك فيه ولكن لا مواساة في النار ولم يقل إنك لست بإمام وإنما خاف من قتل المسلمين. وليس هذا من القدح في الإمامة بسبيل. وقد كان علي عليه السلام مدفوعا إلى أمر عظيم من قتلة عثمان والمطالبين بدمه والمنكرين لقتلة فكان لا يمكنه إقامة القود والحد على قوم قتلوا رجلا لا يعرفهم بأعيانهم وإن كان يعلم أنهم تحت كنفه ومختلطون بالبراء من أهل عسكره من حيث لا يمكنه تمييزهم والوصول إلى معرفة أعيانهم ولا أن يقيد للولي وهم أهل حرب له وغير مطالبين بالدم لأحد بعينه ولا مقيمين بينة على ذلك ولا حصل لهم إقرار ولا اعتراف من أحد بالقتل على وجه يصح مثله ويمكن العمل به وكانت الحامية من أصحابه مثل ملك الأشتر النخعي وابن بديل بن ورقاء وابن سبأ ومحمد بن أبي بكر والغافقي وغيرهم ممن يرى رأيهم يكثرون الطعن على عثمان والمقالة فيه والبراءة منه وممن تولاه. وكان علي عليه السلام لا يمكنه أن ينتقم منهم ويجرد القول في لعن قاتل عثمان والبراءة منه والأمر بإقصائهم وإخراجهم من العسكر لتمالئهم وتضافرهم وخوفه من إفساد الأمر عليه والقدح فيه ولا يلتحم ولا يلتئم ولا يمكنه التصويب لقتل عثمان وإظهار الرضا به لعلمه بأنه قتل مظلوما وتبرئه من قتله وأنه لو قال ذلك اشتد نفور الناس عنه وكوشف واعتقد بذلك الضلال وظن السامعون أنه رأيه في عثمان وهو بريء من ذلك. وكان إذا سئل عنه أورد الكلام المحتمل وتغلغل إلى لطيف التأويل والرفق بالفريقين وكانوا إذا سمعوا منه الكلام المحتمل ورأوا قتلته مختلطين بعسكره ظنوا أنه مؤثر لما جرى وأنه متمكن من إقامة الحد وأخذ القصاص لأوليائه وأنه متحيف لهم وإن كان بريئا من ذلك فيصير ظاهر اختلاط القوم بعسكره وما يسمع من محتملات أقاويله طريقا لاجتهاد المحارب المطالب له بدم عثمان والقاعد عنه لموضع ظنهم به ما هو بعيد عنه فلا يبعد أن يكون المحارب له والقاعد عنه مصيبا فيما فعله لأجل هذه الشبهة فيزول الإثم عمن قصد هذا القصد ولم يطلب بقتاله وقعوده عنه الخذلان للإمامة والفتنة والتهاون بالقصة وحب النهب والغارة وأخذ ما ليس له. وقد روي أن عليا عليه السلام قال بالبصرة والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ولكن الله قتل عثمان وأنا معه وهذا محتمل فظن قوم أنه خدعهم وأنه قد أخبر عن نفسه أنه قتله بقوله وأنا معه وليس ذلك كذلك لأنه أراد به أنه أماته ويميتني معه لأنه قد حلف وهو الصادق أنه ما قتله ولا مالأ على قتله. وروي أنه سئل عن قتل عثمان مرة أخرى فقال والله ما ساءني ذلك ولا سرني فصار هذا أيضا طريقا لتأويل الفريقين عليه غير الحق وهو إنما أراد بقوله ما ساءني مطالبة من يطالب بدمه واجتهاده في ذلك لطلبه له من بابه ووجهه ولا سرني قتل من قتله وكيف يسره ذلك ولا يسوؤه وهو يقول اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر فيقول التأويل عليه أراد بقوله اللهم العنهم إن كانوا مستحقين للعن وكان عثمان غير مستحق للقتل ليرضى العامة بذلك وإلا فهو الذي سبب قتله وألب عليه وكان ذلك من غرضه لظلم عثمان وغضبه الأمر. وسئل فيما حكي دفعة أخرى عن دم عثمان فقال إن دم عثمان في جمجمتي هذه فقال أهل الحق إنه أراد أن دمه في عنقي ولازم لي وواجب علي حتى أقيد به وأقتل قتلته متى قامت البينة عليهم بأعيانهم وأمكن أخذ الحق منهم. وقال آخرون لا بل أراد أنه هو الذي قتله وأمر بذلك ودعا إليه وكذلك كان يجب عليه. فكل هذه الأقاويل مع اختلاط القتلة بأهل عسكره وكونهم تحت رايته ليسوغ التأويل للمحارب له والقاعد عنه عند يقينه وتشككه وكان علي عليه السلام أبصر وأعلم بما يعرض لهم من الشبهات وكان لا يجبر القاعد عنه على الحرب علما منه بما سبق إلى وهمه مما هو بريء منه. وقد روي أن عليا عليه السلام قام في الناس خطيبا عند مسيره إلى البصرة فقال أيها الناس املكوا أنفسكم وكفوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء فإنهم إخوانكم واصبروا على ما نابكم فإن المخصوم من خصم اليوم وسار على تعبئته وأنه قام فيهم مقاما آخر فقال لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم فإنكم بحمد الله على حجة وإذا قاتلتموهم فغلبتموهم فلا تجهزوا على جريحهم وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا إلا بإذن ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم يعني من سلاح خزائن السلطان فإنه قد بين ذلك وفسره في كلام آخر قد ذكرناه في غير هذا الكتاب ولا تهجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهم مشركات. وهذا يدل على أنهن عنده غير مشركات وإن رأين حربه وأنهم مع هذه الحال مؤمنات. وكذلك قوله فإنهم إخوانكم يدل على أنهم مسلمون ليسوا بكفار ولا فساق أيضا. ولأن مثل هذا الإطلاق يقتضي المساواة عنده في الرتبة والمنزلة الدينية. وقد روى أن الأعور بن أبان المنقري وكان من أماثل أصحاب علي رضي الله عنه قام إليه في مسيره إلى البصرة فقال يا أمير المؤمنين علام تقدمنا فقال على الإصلاح وإطفاء الثائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة ويضع حربهم وقد أجابوا قال فإن لم يجيبوا قال تركناهم ما تركونا قال فإن لم يتركونا قال دفعناهم عن أنفسنا قال فهل لهم مثل ما عليهم من هذا قال نعم. وروي رواية ظاهرة أن عليا قام عند منصرفه من الشام وخروج الخوارج عليه وإنكارهم التحكيم وإكفارهم معاوية وأهل الشام والبصرة عند خطاب ورأي أشارت عليه به همذان وجارية بن قدامة التميمي فقال عند ذلك إنا والله ما قاتلنا أهل الشام على ما توهم هؤلاء الضلال من التكفير والفراق في الدين وما قاتلناهم إلا لنردهم إلى الجماعة وأتاكم هذا منهم في الفرقة وإنهم لإخواننا في الدين قبلتنا واحدة ورأينا أننا على الحق ودونهم وإني لعلى عهد من رسول الله أمرني فيه بقتال الباغين والناكثين وإن الرشاد عندي أن يجمعنا الله وإياهم وما لهذا الأمر مثل الرفق عسى الله أن يجمع هذه الفرقة إلى ما كانت عليه من الجماعة فما كره الصلح من هؤلاء الضلال إلا من كان يكره الجهاد للعدو ويضنون بأنفسهم عن الحرب ويريدون الاعتداء على المسلمين لقد كنا مع رسول الله القتل بين الآباء والأبناء والإخوان وذوي القرابات فما نزداد عل كل مصيبة وكل شدة إلا إيمانا ونصرا للحق وسلمنا الأمر لله تعالى وصبرنا على ألم الجراح ولكنا لما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيهم من الزيغ والتأويل والشبهة فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ونزلنا بها إلى التقية بيننا ورغبنا فيها وأمسكنا عما سواها ثم قطع الكلام. وجميع ما قاله علي مفارق لما تعتقد الشيعة والشراة في أهل البصرة وصفين من إكفارهم وإخراجهم عن الإيمان فلا عذر لمشنع في الخلاف عليه والسرف والإغراق في إكفار المحارب له على التأويل والقاعد عنه والحال ما وصفناه. وقد أشبعنا القول في جميع هذه الأبواب وبسطنا البراهين على ما توخينا من الصواب في غير هذا الكتاب بما فيه تبصرة للمسترشدين وبيان للمتوسمين وإن كان فيما أودعناه هذا المختصر إقناع وبلاغ والله المعين.

تم كتاب التمهيد بعون الله وتأييده وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما وكان تمامه في غرة شعبان من سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. كتبه لخزانة المتوكل على الله أبي محمد عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن سلمة أيد الله أمره وأعز نصره وأعلى يده وأطال أمده مملوكه ونعمته المنقطع إليه بحمد الله.


هامش

  1. الأصل: لأنه
  2. إنما لقي سلمان رسول الله في قباء عند الهجرة.
  3. ط: النبوة.
  4. هذا الباب موجود في طبعة دار الفكر العربي (1366-1947) بتعليق محمود محمد الخضيري، المدير المساعد للبحوث والثقافة الإسلامية بالأزهر. وقد نقل منه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية والذهبي في العلو وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية. ينظر مقال "الإمام الباقلاني وكتابه التمهيد" لمحمد بن عبد الرزاق حمزة، الذي ذكر وجود هذا الباب في نسخة مكتبة مصطفى عاطف (2223) وأن المخطوطة الباريسية التي اعتمدت عليها إحدى الطبعات مخرومة بين ورقة 60 و61 وأن فهرسها يدل على سقوط 25 بابا. وينظر باب ذكر الاستواء على العرش في الإبانة للأشعري.