تهافت الفلاسفة/مقدمة

ملاحظات: للإمام، حجة الإسلام، أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي. المتوفى: سنة 505، خمس وخمسمائة.


1 - الدعاء إلى الله

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كل غاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

2 - اعراض البعض عن الدين...

أما بعد فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء، بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات، والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توفيقاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين، بفنون من الظنون. يتبعون فيها رهطاً يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً، وهم بالآخرة هم كافرون، ولا مستند لكفرهم غير تقليد سماعي، ألفي كتقليد اليهود و النصارى. إذ جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وأولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، لا عن بحث نظري، بل تقليد صادر عن التعثر بأذيال الشبه الصارفة عن صوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلا مع السراب. كما اتفق لطوائف من النظار في البحث عن العقائد والآراء من أهل البدع والأهواء.

3 – لما بلغهم عن الفلاسفة من حسن السمعة

وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسامي هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم وضلالهم في وصف عقولهم، وحسن أصولهم، ودقة علومهم الهندسية، والمنطقية، والطبيعية، والإلهية، واستبدادهم لفرط الذكاء والفطنة، باستخراج تلك الأمور الخفية. وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقلهم، وغزارة فضلهم، منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها نواميس مؤلفة، وحيل مزخرفة.

4 - ضلالهم

فلما قرع ذلك سمعهم، ووافق ما حكى من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر، تحيزاً إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطاً في سلكهم، وترفعاً عن مساعدة الجماهير والدهماء، واستنكافاً من القناعة بأديان الآباء ظناً بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال وغفلة منهم، عن أن الانتقال إلى تقليد عن تقليد خرف وخبال. فأية رتبة في عالم الله سبحانه وتعالى أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق، المعتقد تقليداً بالتسارع إلى قبول الباطل، تصديقاً دون أن يقبله خبراً وتحقيقاً. والبلة من العوام بمعزل عن فضحية هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوى الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء، والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء.

5 - الكتاب هذا رد على الفلاسفة

فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء، ابتدأت لتحرير هذا الكتاب، رداً على الفلاسفة القدماء، مبيناً تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم، فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفاً عن غوائل مذهبهم، وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء. أعني: ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء.

6 - أكابر الفلاسفة لا ينكرون وجود الله

هذا مع حكاية مذهبهم على وجهه، ليتبين هؤلاء الملاحدة تقليداً، اتفاق كل مرموق من الأوائل ةالأواخر، على الإيمان بالله واليوم الآخر . وأن الاختلافات راجعة إلى تفاصيل خارجة عن هذين القطبين، الذين لأجلهما بعث الأنبياء المؤيدون بالمعجزات، وأنه لم يذهب إلى إنكارهما إلا شرذمة يسيرة، من ذوى العقول المنكوسة، والآراءة المعكوسة، الذين لا يؤبه لهم ، ولا يعبأ بهم فيما بين النظار، ولا يعدون إلا من زمرة الشياطين الأشرار ، وغمار الأغبياء والأغمار، ليكف عن غلوائه من يظن أن التجمل بالكفر تقليداً يدل على حسن رأيه؛ ويشعر بفطنتو وذكائه ؛ إذ يتحقق أن هؤلاء الذين يشتبه بهم من زعماء الفلاسفة ورؤسائهم برآء عما قذفوا به من جحد الشرائع، وأنهم مؤمنون بالله ، ومصدقون برسله ، وأنهم اختيطوا في تفاصيل بعد هذه الأصول ، قد زلوا فيها، فضلوا وأضلوا عن شواء السبيل.

7 - سبب انخداعهم

ونحن نكشف عن فنون ما انخدعوا به، من التخابيل والأباطيل؛ ونبين أن كل ذللك تهويل، ماوراءه تحصيل، والله تعالى ولى التوفيق، لإظهار ما قصصدناه من التحقيق.

ولنُصَدِّر الآن الكتاب بمقدمات تُعرب عن مساق الكلام في الكتاب.


مقدمة

ليعلم أن الخوض في حكاية اختلاف الفلاسفة تطويل، فإن خبطهم طويل، ونزاعهم كثير، وآراءهم منتشرة، وطرقهم متباعدة متدابرة ، فلنقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفليسوف المطلق، والمعلم الأول، فإنه رتب علومهم وهذّبها بزعمهم، وحذف الحشو من آرائهم، وانتقى ما هو الأقرب إلى أصول أهوائهم، وهو ((أرسطاطاليس))؛ وقد رد على كل من قبله حتى على أستاذه الملقب عندهم بأفلاطون الإلهى، ثم اعتذر عن مخالفته أستاذه بأن قال: (( أفلاطن صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه)).

وإنما نقلنا هذه الحكاية ليعلم أنه لا تثبت ولا إتقان لمذهبهم عندهم، وأنهم يحكمون بظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية، بظهور العلوم الحسابية، والمنطقية ، ويستدرجون به ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية، لما اختلفوا فيها، كما لم يختلفوا في الحسابية. ثم المترجمون لكلام أرسطو لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل، محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضاً نزاعاً بينهم، وأقومهم بالنقل من المتفلسفة الإسلامية: أبو نصر الفارابي، وابن سينا.

فنقتصر على إبطال ما اختاروه، ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهما في الضلال، فإن ما هجراه واستنكفا من المتابعة فيه لا يتمارى في اختلاله، ولا يقتقر إلى نظر طويل في إبطاله، فليعلم أنا مقتصرون على رد مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين، كي لا ينتشر الكلام بحسب انتشار المذهب.

مقدمة ثانية

ليعلم أن الخلاف بينهم وبين غيرهم ثلاثة أقسام:

قسم <الأول>: يرجع النزاع فيه إلى لفظ مجرد، كتسميتهم صانع العالم –تعالى عن قولهم - جوهراً، مع تفسيرهم الجوهر: بأنه الموجود لا في موضوع أى القائم بنفسه الذى لا يحتاج إلى مقوم يقومه، ولم يريدوا به الجوهر المتحيز، على ما أراده خصومهم.

ولسنا نخوض في إبطال هذا، لأن معنى القيام بالنفس إذا صار متفقاً عليه، رجع الكلام في التعبير باسم الجوهر عن هذا المعنى، إلى البحث عن اللغة، وإن سوّغت اللغة إطلاقه ، رجع جواز إطلاقه في الشرع، إلى المباحث الفقهية، فإنّ تحريم إطلاق الأسامى وإباحتها يؤخذ مما يدل عليه ظواهر الشرع.

ولعلك تقول:

القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة.

وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في ابطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل.

فان قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (( ان الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة)) ، فكيف يلائم هذا ماقالوه؟ قلنا: وليس في هذا ما يناقض ما قالوه ، اذ ليس فيه الا نفى وقوع الكسوف لموت أحد او لحياته والامر بالصلاة عنده. والشرع الذى يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه ان يأمر عند الكسوف بها استحباباً؟ فان قيل: فقد روُى انه قال في آخر الحديث: (( ولكن الله اذا تجلىّ لشىء خضع له)) فيدلّ على ان الكسوف خضوع بسبب التجلى، قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها فيجب تكذيب ناقلها، وانما المروى ما ذكرناه كيف، ولو كان صحيحاً، لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية. فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد.

وأعظم ما يفرح به المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، ان كان شرطع امثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً، ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات، وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه إلى البحث الالهىّ كنسبة النظر إلى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت.

الثالث: ما يتعلق النزاع فيه بأصل من أصول الدين، كالقول في حدوث العالم، وصفات الصانع، وبيان حشر الأجساد والابدان، وقد أنكروا جميع ذلك. فهذا الفن ونظائره هو الذى ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه.

مقدمة ثالثة

ليُعلم أن المقصود تنبيه من حسُن اعتقاده في الفلاسفة، وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا دخول مدع مثبت. فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة وأخرى مذهب الكرامية؛ وطوراً مذهب الواقفية، ولا أتهض ذاباً عن مذهب مخصوص بل أجعل جميع الفرق إلباً واحداً عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد.

مقدمة رابعة

من عظائم حيلهم في الاستدراج - إذا أورد عليهم إشكال في معرض الحجاج - قولهم: إن هذه العلوم الإلهية غامضة خفية، وهى أعصى العلوم على الأفهام الذكية؛ ولا يتوصل إلى معرفة الجواب عن هذه الإشكالات، إلا بتقديم الرياضيات، والمنطقيات. فيمن يقلدهم في كفرهم، إن خطر له إشكال على مذهبهم، يحسن الظن بهم، ويقول: لا شك في أن علومهم مشتملة على حله، وا إنما يعسر علىّ دركه لأني لم أحكم المنطقيات ولم أحصل الرياضيات.

فنقول: أما الرياضيَّات التى هى نظر في الكم المنفصل – وهو الحساب - فلا تعلق للإلهيات به، وقول القائل: ان فهم الالهيِّات يحتاج اليها خُرْق، كقول القائل: ان الطب والنحو واللغة يحتاج اليها أو الحساب يحتاج إلى الطب.

وأما الهندسيات، التى هى نظر في الكم المتصل يرجع حاصله إلى بيان ان السموات وتحتها إلى المركز كرىّ الشكل ، وبيان عدد طيقاتها ، وبيان عدد الاكر المتحرّكة في الافلاك ، وبيان مقدار حركاتها ، فلنسلم لهم جميع ذلك في شىء من النظر الالهىّ ، وهو كقول القائل: العلم بان هذا البيت حصل بصنع بناء عالم مريد قادر حىّ يفتقر إلى أن يعرف ان البيت مسدس أو مثمن وان يعرف عدد جذوعه وعدد لبناته ، وهو هذيان لا يخفى فساده. وكقول القائل: لايعرف كون هذه البصلة حادثة ما لم يعرف عدد طبقاتها ، ولا يعرف كون هذه الرمانة حادثة ما لم يعرف عدد حباتها ، وهو هجُر من الكلام مستغثّ عند كل عاقل.

نعم قولهم: إن المنطقيات لا بدّ من إحكامها، فهو صحيح، ولكن المنطق ليس مخصوصاً بهم، وإنما هو الأصل الذي نسمّيه في فن (الكلام) (كتاب النظر) فغيّروا عباراته إلى المنطق تهويلاً، وقد نسمّيه (كتاب الجدل)، وقد نسمّيه (مدارك العقول)، فإذا سمع المتكايس المستضعف، اسم المنطق، ظن أنه فن غريب، لا يعرفه المتكلِّمون، ولا يطلع عليه إلا الفلاسفة.

ونحن، لندفع هذا الخبال، واستئصال هذه الحيلة في الضلال، نرى أن نفرد القول في مدراك العقول في هذا الكتاب ونهجر فيه ألفاظ المتكلِّمين والاصوليّين، بل نوردها بعبارات المنطقيّين ونصبّها في فوالبهم ونقتفى آثارهم لفظا لفظا.

ونناظرهم في هذا الكتاب بلغتهم، أعنى بعباراتهم في المنطق، ونوضح أن ما شرطوه في صحة مادة القياس وماوضعوه من الاوضاع في ايساغوجى وقاطيغورياس التى هى من اجزاء المنطق ومقدّماته لم يتمكنوا من الوفاء بشىء منه في علومهم الالهية.

ولكنا نرى أن نورد (مدراك العقول) في آخر الكتاب فأنه كالآلة لدرك مقصود الكتاب، ولكن رب ناظر يستغنى عنه من لا يحتاج إليه، ومن لايفهم في آحاد المسائل في الرد عليهم، فينبغى أن يبتدئ أولا يحفظ كتاب (معيار العلم) الذى هو الملقب بالمنطق عندهم.