حفار القبور

​حفار القبور​ المؤلف بدر شاكر السياب



ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور
 
واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع
 
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين
 
وكأن جولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود
 
كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب
 
باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات لكن خالدين
 
لا يهلكون علام تنعب ان عزرائيل مات
يا رب أسبوع طويل مر كالعام الطويل
 
والقبر خاو يفغر الفم في انتظار في انتظار
ما زلت أحفرةه وبطمر الغبار
 
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل
مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود
 
تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير
حتى الشفاءه يمص من دمها الثرى حتى النهود
 
تذوي ويقطر في ارتخاء من مراضعها المغير
واها لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه
 
واها لأجساد الحسان أيأكل الليل الرهيب
والدود منها ما تمناه الهوى واخيبتاه
 
كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال
 
إلا الحنين و ألف أنثى تحت أقدامي تنام
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال
 
ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب
يرقص حولي لا عبات بالضصنوج و بالسيوف
 
نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح و النهار فلن يمر على قرانا
 
أو بالمدينة و هي توشك أن تضيق بساكنيها
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
 
إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها
 
حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
أواه لو أني هناك أسد باللحم النثير
 
جوع القبور و جوع نفسي في بلاد ليس فيها
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال
 
وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
 
لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
و تخضهن إلى القرار و كالنيازك و الرعود
 
تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي
 
من كل شبر في المدينه ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها و يا لي
 
رباه إني أقشعر أكاد أسمع في الخيال
تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون
 
و كأن ما بيني و بين الآخرين من الهواء
ثدي سخي بالحليب و بالمحبة و الأخاء
 
يا رب أسبوع يمر و لست أسمع من غناء
واخيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين
 
و الطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام
 
فلتمطرنهم القذائف بالحديد و بالضرام
المزدهين من الحديد بما يطير و ما يذيع
 
مهما ادنأت فلن أسف كما أسفوا لي شفيع
أني نويت و يفعلون و إن من يئد البنين
 
و الأمهات و يستحل دم الشيوخ العاجزين
لأحط من زان انتهك الغزاة و ما استباحوا
 
و القاتلون هم الجناه و ليس حفار القبور
و هم الذين يلونون لي البغايا بالخمور
 
و هم المجاعة و الحرائق و المذابح و النواح
و هم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره
 
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
و سيوثقون بشسعر أختي قبضتي و كالظلام
 
و كخضة الحمى تسمرها على دمها صدور
تعلو و تهبط باللهاث كأنهن رحى تدور
 
يا مجرمون إلى الوراء فسوف تنتفض القبور
و تقيء موتاها و يا موتي على اسم الله ثورا
 
رباه عفوك إن قابيل المكبل بالحديد
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب
 
فيها قواه و ذاب فيها كوكب واهي الضياء
حتى إذا انهال التراب و صفح القبر الجديد
 
و تراعش الألق الضئيل على الظهور المتعبات
حتى اضمحل و غيبتها ظلمة الأفق البعيد
 
كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب
يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال
 
و تحركت شفتاه في بطء و غمغم في انخذال
أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاه
 
كالفاتحين و تشتريها بالذي ملكت يداك
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاه
 
أو في أظافر لاحقتها ذات يوم مقلتاك
سأعود لانهد تعصره يدي حتى الذهول
 
حتى التأوه و الأنين و صرخة الدم في العروق
و السكرة العمياء و الخدر المضعضع و الأفول
 
و الأذرع المتفترات يلون الضوء الخفوق
و تألق الجيد الشهي و لفحة النفس البهير
 
و النور منفلتا من ال
أهداب تثقله الطيوب
 
قلقا كمصباح السفينه راوحته صبا لعوب
و تخافق الأظلال في دعة ووسوسة الحرير
 
و الحلمتان أشد فوقهما بصدري في اشتهاء
حتى أحسهما بأضلعي و أعتصر الدماء
 
باللحم و الدم و الحنايا منهما لا باليدين
حتى تغيبا في صدري إلى غير انتهاء
 
لولا التماعات الكواكب و انعكاس من ضياء
تلقيه نافذة ووقع خطى تهاوى في عياء
 
يصدى له الليل العميق و حارس تعب يعود
و سنان يحلم بالفراش و زوجه تذكي السراج
 
و تؤجج التنور صامته و أخيلة اللهيب
تضفي عليها ما تشاء من اكتئاب و ابتهاج
 
ثم اضمحل الحارس المكدود و النغم الرتيب
وقع الخطى المتلاشيات كأنه الهمس المريب
 
أأظل أحلم بالنعوش و أنفض الدرب البعيد
بالنظرة الشزراء و اليأس المظلل بالرجاء
 
يطفو و يرسب و السماء كأنها صنم بليد
لا مأمل في مقلتيه و لا شواظ و لا رثاء
 
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات
لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
 
فات الأوان فخط لحدك واثو فيه إلى النشور
لو أنها انطبقت علي كأنها فم أفعوان
 
في آخر الأفق البعيد و لألأت قطرات نور
مما تبعثره المدينة و هي تبسم في فتور
 
و كأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه
فسرت لهيبا في دماه و ألغمتها بالرغاب
 
و كأنهن على المدى المقرور آلاف الشفاه
تدعوه ظمأى لاهثات مثل أحداق الذئاب
 
لا بد من هذا وصوب مقلتيه إلى السماء
حنقا يزمجر ثم أطرق و هو يحلم بالقاء
 
باب تفتح في الظلام و ضحكة و شذى ثقيل
ويدان تجتذبان أغطية السرير و ترخيان
 
يكتظ بالأشباح زاحفة إليه على اتئاد
فيصيح من فرح سألقاها فإن الطريق
 
نعشا و إن حف النساء به و أملق حاملوه
إني سألقاها و ينهض و هو يرفع باليمين