الفرق بين المراجعتين لصفحة: «إقامة الدليل على إبطال التحليل/12»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
صفحة جديدة: {{ترويسة |عنوان= إقامة الدليل على إبطال التحليل |مؤلف= ابن تيمية |سابق= → [[إقامة الدليل على إبط...
 
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
سطر 6:
|ملاحظات=
}}
 
 
والأموال التي كان يقسمها النبي صلى الله عليه وسلم على وجهين: منها: ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث، ومنها: ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه، فإن ما أمر الله به منه ما هو محدود بالشرع: كالصلوات، وطواف الأسبوع بالبيت، ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها الله، فمن هذا ما اتفق عليه الناس، ومنه ما تنازعوا فيه: كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات: هل هي مقدرة بالشرع ؟ أم يرجع فيها إلى العرف، فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس ؟، وجمهور الفقهاء على القول الثاني، وهو الصواب { لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } وقال أيضا: في خطبته المعروفة { للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف }، وكذلك تنازعوا أيضا فيما يجب من الكفارات: هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف ؟ فما أضيف إلى الله والرسل من الأموال كان المرجع في قسمته إلى أمر النبي، بخلاف ما سمي مستحقوه كالمواريث، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين { ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم } أي ليس له بحكم
القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس، ولهذا قال: { وهو مردود عليكم } بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة، ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين، والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته فيقسمونها بأمرهم، فأما أربعة الأخماس فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم الله ورسوله كما يستفتي المستفتي، وكما كانوا في الحدود لمعرفة الأمر الشرعي، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم ; فقيل: إن ذلك كان من الخمس ; وقيل: إنه كان من أصل الغنيمة، وعلى هذا القول فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك ; ولهذا أجاب من عتب من الأنصار بما أزال عتبه وأراد تعويضهم عن ذلك، ومن الناس من يقول الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون ; وإن للإمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في غير هذا الموضع، فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية ; وإن كانت الإلهية
تتضمن الربوبية .
 
ما يذكر في الإسرائيليات: " أن الله قال لداود: أما الذنب فقد غفرناه ; وأما الود فلا يعود " فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا ; فإن دين محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله ; ولهذا قال: { أنا نبي الرحمة ; وأنا نبي التوبة } وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا، وقد قال تعالى في كتابه: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والموكب إذا وجده بعد اليأس، فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته ; كيف يقال: إنه لا يعود لمودته: { وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد }، ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة ; فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة ; وإن كان أنقص كان الأمر أنقص ; فإن الجزاء من جنس العمل ; وما ربك بظلام للعبيد، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ; وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها: فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ; ولئن سألني لأعطينه ; ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه }، ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ; وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبة ومودة، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم، وقد قال تعالى: { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم }، نزلت في المشركين الذين عادوا الله ورسوله مثل أهل الأحزاب " كأبي سفيان بن حرب، وأبي سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم، فإنهم
بعد معاداتهم لله ورسوله جعل الله بينهم وبين الرسل والمؤمنين مودة، وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه، وقد ثبت في الصحيح: { أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت: والله يا رسول الله، ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها نحو ذلك }، ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لله تعالى، فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، فالحب لله من كمال التوحيد ; والحب مع الله شرك، قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة لله ومحبة لله ومن أحب الله أحبه الله، ومن ود الله وده الله، فعلم أن الله أحبهم وودهم بعد التوبة، كما أحبوه وودوه، فكيف يقال: إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة
؟، ، وإن قال قائل: أولئك كانوا كفارا، لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم ; بل كانوا جهالا بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه، قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: إنه ليس الأمر كذلك، بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدا رسول الله، ويعادونه حسدا وكبرا وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع غيره، كما سمع من أمية بن أبي الصلت، وما سمعه من هرقل ملك الروم، وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل عليه الإسلام، وهو كاره له، وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلامه ومحبته لله ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة، وقد قال تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } فإذا كان الله يبدل سيئاتهم حسنات فالحسنات توجب مودة الله لهم، وتبديل السيئات حسنات ليس مختصا بمن كان كافرا، وقد قال تعالى: { إنما التوبة على
الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما } قال أبو العالية: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، الوجه الثاني: إن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة الله تعالى للتائبين فرق لا أصل له ; بل الكتاب والسنة يدل على أن الله يحب التوابين، ويفرح بتوبة التائبين، سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنبا أو لم يكونوا عالمين بذلك، ومن علم أن ما أتاه ذنبا ثم تاب فلا بد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود ; فإذا كان يبغض الحق فلا بد أن يحبه، وإذا كان يحب الباطل فلا بد أن يبغضه، فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به، ومن بغض الباطل واجتنابه هو من الأمور التي يحبها الله تعالى ويرضاها، ومحبة الله كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه، فكل من كان أعظم فعلا لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له، وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل، وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق، فوجب زيادة محبة الحق
له ومودته إياه ; بل يبدل الله سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الله سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل، وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الله منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت مودة الله له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال الود لا يعود، وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول: " إن الله لا يبعث نبيا إلا من كان معصوما قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال إنه لا يبعث نبيا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصا فهو غالط غلطا عظيما، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلا ; لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة ; بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها،
لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنا قليلا كفر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة ; وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا، والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب ; ` وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر الله عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى وقد قال تعالى: { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام ثم أرسله الله تعالى إلى قوم لوط وقد قال تعالى في قصة شعيب: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } وقال تعالى: { وقال الذين كفروا لرسلهم
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد }، وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولا بد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين، كما قال تعالى: { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }، وقد أخبر الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وآخر ما نزل عليه - أو من آخر ما نزل عليه - قوله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }، وفي الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي } يتأول القرآن، وقد أنزل الله عليه قبل ذلك: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم }، وفي صحيح البخاري: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: { يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة }، وفي صحيح مسلم: عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة }، وفي السنن: عن ابن عمر أنه قال: { كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة }، وفي الصحيحين: عن أبي موسى عن [ النبي صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يقول: { اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم أنه مني ; اللهم: اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير } وفي الصحيحين: عن أبي هريرة أنه قال: { يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟ قال: أقول: اللهم: باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم، نقني من خطاياي كما
ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد }، وفي صحيح مسلم وغيره: { أنه كان يقول: نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع }، وفي صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: { اللهم، أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت }، في صحيح مسلم: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: { اللهم، اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره }، وفي السنن عن علي { أن النبي أتي بدابة ليركبها وأنه حمد الله وقال: { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ثم كبره وحمده ثم قال: سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، وقال إن الرب يعجب من عبده إذا قال اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا }، وقد قال تعالى: { واستغفر لذنبك
وللمؤمنين والمؤمنات } وقال: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وثبت في الصحيحين: في حديث الشفاعة { أن المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر }، وفي الصحيح: { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا }، ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة، لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب، وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه، كتأويلهم قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه: أحدها: أن آدم قد تاب الله عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلا عن عام الحديبية الذي أنزل الله فيه هذه السورة قال تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } وقال: { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } ذكر أنه قال: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }، والثاني: أن يقال: فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضا، ومن قال: إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما، الوجه الثالث: أن الله لا يجعل الذنب ذنبا لمن لم يفعله فإنه هو القائل: { ولا تزر وازرة وزر أخرى }، فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذنب آدم صلى الله عليه وسلم أو أمته أو غيرهما، وقد قال تعالى: { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } وقال تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ولو جاز هذا لجاز أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم، ويقال: إن قوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } المراد ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك، فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم، وهو سيد ولد آدم، وقال: { أنا سيد ولد آدم ولا فخر وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة، أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا } وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد، بل
 
تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبا له، فإن قال: إن الله لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل: وهو أيضا لم يغفر ذنوب جميع أمته، الوجه الرابع: أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبا له، الوجه الخامس: أنه ثبت في الصحيح: أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الله، هذا لك فما لنا فأنزل الله { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } مختص به دون أمته، الوجه السادس: أن الله لم يغفر ذنوب جميع أمته بل قد ثبت أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وقد قال الله تعالى: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل، فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول ; لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب .
-مسألة: عن العمرة، هل هي واجبة ؟ وإن كان، فما الدليل عليه ؟، فصل: العمرة في وجوبها قولان للعلماء وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور عنهما وجوبها، والقول الآخر: لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهذا القول أرجح فإن الله إنما أوجب الحج بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } لم يوجب العمرة كما أوجب إتمامها بقوله: { وأتموا الحج والعمرة لله } إيجاب الإتمام وأوجب إتمامهما، وفي الابتداء إنما أوجب الحج، وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ; ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج فإنها إحرام وإحلال وطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وهذا كله داخل في الحج، وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئا مرتين، فلم يفرض وقوفين ولا طوافين ولا سعيين، ولا فرض الحج مرتين، فطواف الوداع ليس بركن بل هو واجب وليس هو من تمام الحج، ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع، ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض، لا
لكون ذلك واجبا بالإسلام كوجوب الحج، ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة لا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه، بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لسبب عارض، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .
 
وتجب النفقة لكل وارث ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم لأنه من صلة الرحم وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام، وهو رواية عن أحمد والأوجه وجوبها مرتبا وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض رجاء الاسترجاع وعلى هذا فمتى وجبت عليه النفقة وجب عليه القرض إذا كان له وفاء، وذكر القاضي وأبو الخطاب وغيرهما في أب وابن القياس أن على الأب السدس إلا أن الأصحاب تركوا القياس لظاهر الآية، والآية إنما هي في الرضيع وليس له ابن فينبغي أن يفرق بين الصغير وغيره فإن من له ابن يبعد أن لا تكون عليه نفقته بل تكون على الأب فليس في القرآن ما يخالف ذلك وهذا جيد على قول ابن عقيل حيث ذكر في التذكرة أن الولد ينفرد بنفقة والديه .
 
الوجه الرابع والعشرون: أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم، أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب، فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منها فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة وإلا سميت سببا ومقتضيا ونحو ذلك من الأسماء المشهورة، ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاض لإفضائها، وأما إن كانت إنما تفضي أحيانا فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا، ثم هذه الذرائع
منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها، ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام ثلاثة، الأول: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى، وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسئا، وكقرض بني آدم، الثاني: ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن، الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة، والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا ; لأن هذه
 
المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل لم أقصد به ذلك، ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه، وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر لعلم الشارع ما جلبت عليه النفوس وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة، أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر، فالأول: قوله سبحانه وتعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } حرم سب الآلهة مع أنه عبادة لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى ; لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم، الثاني
 
ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه } متفق عليه ولفظ البخاري: { إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه } فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق ; لأن سب أبا الناس هنا حرام لكن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر لكونه شتما لوالديه لما فيه من العقوق وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره، الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه ; لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام، الرابع: أن الله سبحانه حرم الخمر لما فيه من الفساد
المترتب على زوال العقل وهذا في الأصل ليس من هذا الباب، ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل وجعلها نجسة لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها، ثم إنه قد نهى عن الخليطين، وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها حسما لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف - وبين صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة فقال: { لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه }، يعني صلى الله عليه وسلم أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا، الخامس: أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير، السادس: أنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا، وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة، السابع: أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس
وغروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس ففي ذلك تشبيه بهم ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها، الثامن: أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله { إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم } - { إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم }، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء: { لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع }، وقال في موضع: { لا تشبهوا بالأعاجم } وقال فيما رواه الترمذي: { ليس منا من تشبه بغيرنا }، حتى قال حذيفة بن اليمان من تشبه بقوم فهو منهم، وما ذاك إلا ; لأن المشابهة في بعض الهدى الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب ذلك يجر إلى فساد عريض، التاسع: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، وقال: { إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم } حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها كما رضيت بذلك { أم حبيبة لما طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج
أختها درة لم يجز ذلك }، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك ; لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة، وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع ; لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن به قوة على العدل بينهن مع الكثرة، وكذلك عند من زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العين الأولى بقوله تعالى: { ذلك أدنى ألا تعولوا } وهذا نص في اعتبار الذريعة، العاشر: أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك، الحادي عشر: أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي حال الإحرام حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين، الثاني عشر: أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما، ومثل اشتراط الولي فيه، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى
إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وكان أصل ذلك في قوله تعالى: { محصنين غير مسافحين } و { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وإنما ذلك ; لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش، ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى: { نسبا وصهرا }، وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح وتبين أن نكاح المحل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه، الثالث عشر: { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع } وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك ; لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا، ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد
عجوة قال إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له، الرابع عشر: إن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة، الخامس عشر: أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض إلى أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض، وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا، وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية، ومنع الشافعي قبول الهدية، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية، السادس عشر: أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء، إما القاتل عمدا كما قال مالك، والقاتل
مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق، أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا، وما ذاك إلا ; لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر، السابع عشر: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان ; لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين، الثامن عشر: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، التاسع عشر: { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب } لئلا يكون ذلك ذريعة إلى
اللحاق بالكفار، العشرون: { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه } { ونهى عن صوم يوم الشك } إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم تمييزا لوقت العبادة من غيره لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التمييز، ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض، الحادي والعشرون: أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا قطعا لذريعة التشبيه
بالسجود لغير الله سبحانه، الثاني والعشرون: أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا مع قصدهم الصالح ; لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم ولئلا يشتبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا، الثالث والعشرون: أنه أوجب الشفعة لما فيه من رفع الشركة وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان، الرابع والعشرون: أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه الباطن، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق وأن لا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه، حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم لغير الحق فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير، الخامس والعشرون: أن
الله سبحانه منع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به، السادس والعشرون: أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر وإن كانت العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة وإن تاب العاصي عند ذلك وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، السابع والعشرون: أنه صلى الله عليه وسلم سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع
التصرفات لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذرائع الفرقة، وهي من الأفعال أيضا، الثامن والعشرون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع، التاسع والعشرون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم، الثلاثون: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بهدية إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ويخلي بينه وبين الناس ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته، قالوا وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها لحصول غرضه بعطبها دون المحل كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها
المحل وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع، والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي قصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا، ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخرى غير ما ذكرناه من الذرائع وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به المحرم أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله والله الهادي إلى سواء الصراط .
 
وإذا اختلف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأخذ آخر عن رجل آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحق عند الله واحد، وعلى الرجل أن يجتهد وهو لا يدري أصاب الحق أم أخطأ، وهكذا قال عمر والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ، ولو كان حكم بحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ما يدري عمر أخطأ أم أصاب، ولكن إنما كان رأيا منه، قال: وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ رجل بقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ آخر بقول التابعين كان الحق في قول أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قال بقول التابعين كان تأويله خطأ، والحق عند الله واحد، ولو أن حاكما حكم في المفلس أنه أسبق الغرماء إذا وجد رجل عين ماله، ثم رفع إلى حاكم آخر، فذهب إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رد لحكم هذا الحاكم، وإنما يجوز حكم الحاكم إذا حكم أن لا يرد إذا اعتدلت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يرد أو يختلف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل ببعض قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يرد أو يختلف عن
التابعين، فأخذ بقول بعضهم فهذا لا يرد، فأما إذا كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقول التابعين، فهذا يرد حكمه ; لأنه حكم بجور وتأول وذكر حديث زيد بن أرقم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } قال أبو عبد الله من عمل خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو خلاف السنة رد عليه، وهذا حديث حسن، وقد بين أبو عبد الله فنون الاختلاف وقسمه خمسة أقسام، أحدها: أن يتعارض حديثان صحيحان، الثاني: أن يعارض الحديث الصحيح حديث ضعيف، الثالث: أن يعارض قول صاحب، الرابع: أن لا يكون في المسألة نص بل اختلف فيها الصحابة فأخذ بقول بعضهم، الخامس: أن يأخذ بالقول الثالث أو الثاني الذي أحدث بعد اتفاق الصحابة على قول أو قولين، وبين أن من خالف النص الصحيح لقول صاحب أو حديث ضعيف أو ترك أقوال الصحابة التي هي إجماع أو كالإجماع إلى قول من بعدهم فهو مخطئ مخالف للحق ; لأنه ترك الدليل الذي يجب اتباعه إلى ما ليس بدليل، وأما إذا تعارض النصان أو فقدا
واختلف الصحابة فهنا يجتهد في الراجح ولا يرد حكم من حكم بأحدهما ; لأن تراجيح الأدلة أو استنباطها عند خفاها هو محل اجتهاد المجتهدين، ثم إنه لم يحكم بخطإ من ذهب إلى أحد النصين مع قوله إن الحق عند الله واحد، وعند خفاء الأدلة قال لا أدري أصاب الحق أم أخطأ، وهذا تحقيق عظيم وذلك ; لأن النص دليل قطعا لكن عند معارضة الآخر له هل سلبت دلالته أم لم تسلب، هذا محل تردد، فإن اعتقد رجحانه اعتقد بقاء دلالته فقد تمسك بما هو دليل لم يثبت سلب دلالته فصار إن كان الحق في القول الآخر كالتمسك بالنص الذي نسخ ولم يعلم نسخه فلا يحكم على مخالفه بالخطإ، كما لا يحكم لنفسه بإصابة الحق الذي عند الله، وأما إذا لم يكن نصا وقد اجتهد فقد يكون ما اعتمده من الاستنباط بالرأي تأويلا وقياسا ليس بدليل، فلا ندري أنه أصاب كالمتمسك بدليل أم لم يصب فتحرر من كلامه أنه في الباطن ليس المصيب إلا واحدا، وأما في الظاهر فلا نحكم بالخطإ لمن تمسك بدليل صحيح، ولا نحكم بالصواب لمن لا نعلم أنه تمسك بدليل صحيح، وهذا التفصيل خير من إطلاق بعض أصحابنا وغيرهم الخطأ في الحكم مطلقا، وإطلاق بعضهم
الإصابة في الحكم مطلقا، واعلم أن أحمد لم يقل إنه مصيب في الحكم، بل قال لا يقال إنه مخطئ لعدم العلم بأنه مخطئ، ولأن ذلك يوهم أنه مخطئ في استدلاله .
المقام الثالث: أن ذلك الدليل هل يفيد العلم اليقيني أو العلم الظاهر الذي يسميه المتكلمون الظن ويسمى الاعتقاد، فمن المتكلمين وأهل الظاهر من يقول عليه دليل يفيد اليقين، ثم من هؤلاء من يؤثم مخالف ذلك الدليل، وربما فسقه، ومنهم من لا يؤثمه ولا يفسقه وقد يؤثم ولا يفسق، وأما أكثر المتأخرين من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فإنهم يقولون ليس عليه إلا دليل يفيد الاعتقاد الراجح الذي يسمى الظن الغالب، وقد يسمى العلم الظاهر، والمنصوص عن الإمام أحمد وعليه عامة السلف من الفقهاء وغيرهم أنه تارة يكون عليه دليل يقيني وتارة لا يكون الدليل يقينا وكون المسألة مختلفا فيها لا يمنع أن دليلها يكون يقينا، ويكون من خالفه لم يبلغه أو لم يفهمه أو ذهل عنه، وقد يكون يفيد اعتقادا قويا غالبا يسمى أيضا يقينا، وإن كان تجويز نقيضه في غاية البعد، وعلى هذا يتفرع نقض حكم الحاكم وجواز الأدلة على من يفتي بالقول المعين، والائتمام
بمن أخل بفرض في مذهب المأمور وتعيين المخطئ والتغليظ على المخالف .
 
المقام الرابع: أن هذه الأدلة اليقينية أو الاعتقادية، لا بد أن يعمل بها بعض الأمة لئلا تكون الأمة مجمعة على الخطإ، ولا يحصل مقتضاه إلا لمن بلغته ونظر فيها، فمن يبلغه من غير تقصير ولا قصور إما أن يكون متمسكا بما هو دليل شرعي لولا معارضة تلك الأدلة كالمتمسك بالعام قبل أن يبلغه تخصيصه، وإما أن يكون متمسكا بحق في الباطن، لكن تلك الأدلة نسخته، وإما أن يكون متمسكا بالنفي الأصلي، وهو عدم الوجوب والتحريم، فهل يقال لأحد هؤلاء أنه مصيب أو مخطئ، أو مصيب من وجه مخطئ من وجه، أو لا يطلق عليه صواب ولا خطأ، وهل يقال فعل ما وجب أو ما لم يجب، أو ما أبيح أو ما لم يبح هذا المقام والذي بعده أكثر شعب هذه المسألة فمن أصحابنا وغيرهم من يطلق عليه الخطأ في الباطن في جميع هذه الأمور، وهو عنده معذور بل مأجور، وهذا قول من يقول إن النسخ يثبت في حق المكلف إذا بلغه الرسول قبل أن يصل إلى المكلف بمعنى وجوب القضاء عليه والضمان إذا بلغه لا بمعنى التأثيم، ويقول إنما يجب القضاء على من صلى إلى القبلة
المنسوخة قبل العلم ; لأن القبلة لا تجب إلا مع العلم والقدرة، ولهذا لا يجب القضاء على من تيقن أنه أخطأها في زماننا إذا كان قد اجتهد وإن سميته مخطئا ومنهم من يطلق الخطأ على المتمسك بدليل ليس في الباطن دليلا وعلى المتمسك بالنفي دون المستصحب للحكم بناء على أن الله ما حكم بموجب دليل قط، ومنهم من لا يطلق الخطأ على واحد من الثلاثة، وأما في الظاهر فمنهم من يطلق على المجتهد المخطئ عموما أنه مخطئ في الباطن وفي الحكم، هذا قول القاضي لكن عنده أن النسخ لا يثبت حكمه في حق المكلف قبل البلاغ، ومنهم من يقول ليس بمخطئ في الحكم، ومنهم من يقول هو مصيب في الحكم، حكى هذا أبو عبد الله بن حامد، وخرج القاضي في الخطإ في الحكم روايتين، وخرج ابن عقيل رواية أن كل مجتهد مصيب، والصحيح إذا ثبت أن في الباطن حكم في حقه أن يقال هو مصيب في الظاهر دون الباطن، أو مصيب في اجتهاده دون اعتقاده، أو مصيب إصابة مقيدة لا مطلقة بمعنى أن اعتقاد الإيجاب والتحري لا يتعداه إلى غيره، وإن اعتقده عاما هذا في الظاهر فقط، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر { أن الحاكم المجتهد المخطئ له أجر والمصيب
أجران }، ولو كان كل منهما أصاب حكم الله باطنا وظاهرا لكانا سواء، ولم ينقض حكم الحاكم أو المفتي إذا تبين أن النص بخلافه، وإن كان لم يبلغه من غير قصور ولا تقصير، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم { فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم }، ولما قال { لسعد لقد حكمت فيهم بحكم الملك }، إن كان كل مجتهد يحكم بحكم الله وارتفاع اللوم بحديث المختلفين في صلاة العصر في بني قريظة، وحديث الحاكم .
 
المقام السادس: أن الواجب على المجتهد ماذا ؟ من أصحابنا وغيرهم من يقول الواجب طلب ذلك الحق المعين وإصابته، ومنهم من يقول الواجب طلبه لا إصابته ومنهم من يقول الواجب اتباع الدليل الراجح سواء كان مطابقا أو لم يكن، وكل من هؤلاء لحظ جانبا، وجمع هذه الأقوال أن الواجب في نفس الأمر إصابة ذلك الحكم، وأما الواجب في الظاهر هو اتباع ما ظهر من الدليل واتباعه أن يكون بالاجتهاد الذي يعجز معه الناظر عن الزيادة في الطلب، أو يشق عليه مشقة فادحة ومقدارا غير مضبوط، ولهذا كان العلماء يخافون في الفتوى بالاجتهاد كثيرا ويخشون الله ; لأن مقدار المشقة التي يعذرون معها ومقدار الاستدلال الذي يبيح لهم القول قد لا ينضبط فلو أصاب الحكم بلا دليل راجح فقد أصاب الحكم وأخطأ الحق المعين فقد أحسن وخطؤه مغفور له، وهذا عندنا وعند الجمهور لا يجوز إلا إذا كان ثم دليل آخر على الحق هو الراجح، لكن يعجز عن دركه وإلا للزم أن لا يكون الله نصب على الحق دليلا، وفي الحقيقة فالدليل الذي نصبه الله حقيقة على الحكم لا يجوز أن يخلف كما يجوز خطأ الشاهد لكن يجوز أن يخفى على بعض المجتهدين ويظهر له غيره .
 
المسلك الرابع: إجماع الصحابة، فروى قبيصة بن جابر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم وهو مشهور محفوظ عن عمر، وعن زيد بن عياض بن جعد أنه سمع نافعا يقول إن رجلا سأل ابن عمر عن المحلل فقال له ابن عمر: عرفت ابن الخطاب رضي الله عنه لو رأى شيئا من ذلك لرجم فيه، رواه ابن وهب عنه لكن زيدا هذا يضعف جدا وحديثه هذا محفوظ من غير طريقه، كما سنذكر إن شاء الله تعالى وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما، وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة، رواه الجوزجاني وعن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول، فقال له عثمان لا تنكحها إلا نكاح رغبة ذكره أبو إسحاق الشيرازي في المهذب، رواه ابن وهب عن الليث بن سعد عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مروان التجيبي يقول: إن رجلا
طلق امرأته ثلاثا ثم ندما وكان له جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما، فسأل عن ذلك عثمان فقال له عثمان إلا نكاح رغبة غير مدالسة، وعن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ذكره بعض المالكية، وذكر عبد الرزاق عن هيثم عن خالد الحذاء عن مروان الأصفر عن أبي رافع قال سئل عثمان وعلي وزيد بن ثابت عن الأمة هل يحلها سيدها لزوجها إذا كان لا يريد التحليل، يعني إذا بت طلاقها، فقال عثمان وزيد نعم، فقام علي غضبان وكره قولهما، وعن علي: لعن الله المحلل والمحلل له، وعن أشعث عن ابن عباس قال لعن الله المحلل والمحلل له، وعن أبي معشر عن رجل عن ابن عمر قال: لعن الله المحلل والمحلل له والمحللة، وعن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل أن ابن عمر سئل عن تحليل المرأة لزوجها قال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم، رواه الإمام أبو بكر بن أبي شيبة وعن الثوري عن عبد الله بن شريك قال سمعت ابن عمر رضي الله عنه وسئل عن المحلل قال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله
سبحانه أنه أراد أن يحلها له، هكذا رواه عنه حسين بن حفص ورواه الجوزجاني، عن ابن نمير عنه لكن قال عن سفيان عن رجل سماه عن ابن عمر في المحلل إذا علم الله سبحانه منه أنه محلل، لا يزالان زانيين ولو مكثا عشرين سنة، ورواه عبد الرزاق عن عبد الله بن شريك، قال سمعت عمر يسأل عمن طلق امرأته ثم ندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له، فقال له ابن عمر كلاهما زان ولو مكثا عشرين سنة، ورواه الشالنجي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري قال سمعت ابن عمر سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، فقال لعن الله المحلل والمحلل له، هما زانيان، وقال سعيد في سننه ثنا هشيم ثنا الأعمش عن عمران بن الحارث السلمي قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن عمه طلق امرأته ثلاثا فندم فقال عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال أرأيت إن أنا تزوجتها من غير علم منه أترجع إليه قال من يخادع الله يخدعه الله، رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس أن رجلا سأله عمن طلق امرأته، كيف ترى في رجل يحلها له، فقال ابن عباس: من يخادع الله
يخدعه، وهذه الآثار مشهورة عن الصحابة، وفيها بيان أن المحلل عندهم اسم لمن قصد التحليل سواء يظهر ذلك أو لم يظهره، وأن عمر كان ينكل من يفعل ذلك وأنه يفرق بين المحلل والمرأة وإن حصلت له رغبة بعد العقد، إذا كان في الابتداء قصد التحليل، وأن المطلق طلق ثلاثا وإن تأذى وندم ولقي شدة من الطلاق، فإنه لا يحل التحليل له، وإن لم يشعر هو بذلك، وهذه الآثار مع ما فيها من تغليظ التحليل فهي من أبلغ الدليل، على أن تحريم ذلك واستحقاق صاحبه العقوبة كان مشهورا على عهد عمر، ومن بعده من الخلفاء الراشدين، ولم يخالف فيه من خالف في المتعة مثل ابن عباس، بل اتفقوا كلهم على تحريم هذا التحليل، وقد ذكرنا في أول الكتاب عن الحسن البصري أنه قال له رجل، إن رجلا من قومي طلق امرأته ثلاثا فندم وندمت، فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقا، ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته ثم أطلقها، فقال له الحسن اتق الله يا فتى ولا تكون مسمار نار لحدود الله، وروي عن الحسن أنه قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار وهذا يقتضي شهرة ذلك بين المسلمين زمن الصحابة، فإن قيل: فقد روى ابن
 
سيرين أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فندم وكان بالمدينة رجل من الأعراب عليه رقعتان رقعة يواري بها عورته، ورقعة يواري بها سوأته، فقال له هل لك تتزوج امرأة فتبيت عندها ليلة وتجعل لك جعلا، قال نعم فزوجوها منه، فلما دخل فبات عندها قالت له هل عندك من خير قال هو حيث تحبين جعله الله فداها، فقالت لا تطلقني فإن عمر لن يجبرك على طلاقي، فلما أصبحوا لم يفتح لهم الباب حتى كادوا يكسرون الباب، فلما دخلوا قالوا له طلقها، قال الأمر إليها فقالوا لها، فقالت إني أكره أن لا يزال يدخل علي الرجل بعد الرجل، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب أخبروه القصة فرفع يده، وقال اللهم أنت رزقت ذا الرقعتين إذ بخل عليه عمر فقال له لئن طلقها فأوعده، رواه سعيد بن منصور وحرب عنه بهذا اللفظ، ولفظه في سنن سعيد أن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا، وندم، وبلغ ذلك منه ما شاء الله فقيل له انظر رجلا يحللها لك وكان رجلا من أهل البادية له حسب أقحم إلى المدينة، وكان محتاجا ليس له شيء يتوارى به إلا رقعتين، رقعة يواري بها فرجه ورقعة يواري بها دبره، فأرسلوه إليه فقالوا له هل لك أن نزوجك امرأة فتدخل
عليها فتكشف عنها خمارها ثم تطلقها، ونجعل لك على ذلك جعلا، قال نعم، فزوجوه فدخل عليها وهو شاب صحيح الحسب فلما دخل على المرأة فأصابها فأعجبها، فقالت له أعندك خير قال نعم هو حيث تحبين جعله الله فداها، وذكر الحديث ورواه أبو حفص العكبري في كتابه عن ابن سيرين، قال قدم رجل مكة ومعه إخوة له صغار وعليه إزار من بين يديه رقعة ومن خلفه رقعة، فسأل عمر فلم يعطه شيئا، فبينما هو كذلك، إذ نزع الشيطان بين رجل من قريش وبين امرأته فطلقها، فقال لها هل لك أن تعطين ذا الرقعتين شيئا، ويحلك لي قالت نعم إن شئت، فأخبروه ذلك، قال نعم، فتزوجها فدخل بها فلما أصبحت أدخلت إخوته الدار فجاء القرشي يحوم حول الدار ويقول يا ويله غلب علي امرأتي، فأتى عمر فقال يا أمير المؤمنين غلبت على امرأتي، قال من غلبك، قال ذو الرقعتين، قال أرسلوا إليه فلما جاء الرسول قالت له المرأة كيف موضعك من قومك، قال ليس بموضعي بأس، قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق امرأتك فقل والله لا أطلقها، فإنه لا يكرهك، وألبسته حلة، فلما رآه عمر من بعيد قال الحمد لله الذي شرف ذا الرقعتين، فدخل عليه، فقال
له أتطلق امرأتك قال لا والله لا أطلقها، فقال له عمر لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط، فهذا عن عمر رضي الله عنه وهو شرط تقدم العقد وقد حكم عمر بصحته، وإذا كان كذلك صارت المسألة خلافا في الصحابة، وربما حملنا ما روي عن عمر من النهي عن نكاح المحلل على الشرط المقرون بالعقد لتتفق روايتاه، ورواه عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن عمر وابن سيرين قال جاءت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها، فأمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقيم عليها ولا يطلقها، وأوعده أن يعاقبه إن طلقها، قلنا: الجواب عن هذا من ستة أوجه، أحدها: أنه منقطع ليس له إسناد فروى أبو حفص عن أبي النضر قال سمعت أبا عبد الله يقول في المحلل والمحلل له: إنه يفسخ نكاحه في الحال، قلت أو ليس يروى عن عمر حديث ذي الرقعتين حيث أمره عمر أن لا يفارقها، قال ليس له إسناد، وقال أبو عبيد هذا حديث مرسل لابن سيرين وإن كان مأمونا لم ير عمر ولم يدركه، فأين هذا من الذين سمعوه يخطب على المنبر لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، قلت: وقد رويناه عن ابن عمر أنه سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذلك
السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم وأحاديث ابن عمر كلها تبين أن نفس التحليل المكتوم زنا وسفاح، وقد أخبر عن أبيه بأنه لو أدرك ذلك لنكل عليه، وسائر الآثار عن عثمان وعلي وغيرهما تبين أن التحليل عندهم كل نكاح أراد به أن يحلها، وقد ثبت عن عمر أنه خطب هؤلاء فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، فعلم أن عمر أراد التحليل مطلقا وإن كان مكتوما، فالمنقطع إذا عارض المسند لم يلتفت إليه، الوجه الثاني: أن هذا إن كان له أصل، فلعله لم تكن الإرادة فيه من الزوج الثاني، وإنما كانت من الزوج المطلق، وقد أجاب أبو عبيد وأبو حفص بهذا الجواب أيضا، ثم قال بعض أصحابنا وبعض المالكية لعله وقت العقد لم ينو التحليل، وإن كانوا قد شرطوه بل قصد نكاح الرغبة، ويشبه والله أعلم أنهم لم يذكروا للزوج سببا من ذلك بل زوجوه بها، وتواطئوا فيما بينهم على أن يعطوه شيئا ليطلقها، ولم يشعروه بذلك، ولكن ظاهر المروي في القصة أنهم شارطوه على الخلع قبل النكاح، ولم يشترطوا عليه الطلاق بمال، وهذا أمر لا ينفرد به، بل هو موقوف على بذل المال له، فهو مواطأة على فرقة من الزوج، ومن
أجنبي، وهو بمنزلة المواطأة على الطلاق المجرد، كالمواطأة من الزوجة والمطلق ثلاثا على أن يبيعها الزوج أو يهبها إياه، إذا كان عبده، ومع هذا فيمكن أنهم ذكروا له بعد العقد فإن ابن سيرين لم يشهد القصة، وإنما سمعها من غيره، ومثل هذه القصة إذا حدث بها قد لا يخبر المخبر بأعيان الألفاظ وترتيبها، لا سيما إذا كان المقصود منها غير ذلك، بل يذكر على سبيل الإجمال، ونحن نعلم أنه لا بد أن يعقد النكاح على صداق يلتزمه الزوج، وبالجملة فهذه حكاية حال لم يشهدها الحاكي، فيحتمل أنها وقعت على هذا الوجه وهو الأقرب ; لأن الرجل لما جاء إلى عمر رضي الله عنه إنما قال غلبت على امرأتي ولم يقل غدر بي ولا مكر بي ولا خدعت، ولو كان المتزوج قد واطأه على أن يخلعها أو يطلقها لكانت شكايته ذلك إلى عمر رضي الله عنه، واحتجاجه به أولى من قوله غلبت على امرأتي، فإن أقل ما في ذلك أن ذا الرقعتين يكون قد حدثه فكذبه ووعده فأخلفه، وما ذكره بعض أصحابنا ضعيف، فإن عمر لم يستفصله هل نويت التحليل وقت العقد أم لم تنوه، ولو كان مناط الحكم ذلك لوجب الاستفصال، وصاحب هذا القول من أصحابنا ومن
المالكية يقول إذا وطئ الزوج على التحليل وقصد هو وقت العقد الرغبة ولم يعلمهم بذلك، فهو نكاح صحيح لعدم النية والشرط المقارن، وذكر أصحابنا أن كل واحد من المواطأة المتقدمة على العقد واعتقاد التحليل مبطل للعقد، وهذا هو الذي دل عليه كلام الإمام أحمد، وهو قياس قول أصحابنا وقول المالكية فإن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة إن كانت صحيحة، وجب الوفاء بها، وإن كانت باطلة أثرت في العقد في المذهبين جميعا، بل هذه الصورة أبلغ في البطلان من الاعتقاد المجرد، فلهذا لم يرخص أحد من التابعين في المواطأة قبل العقد وحكي عن بعضهم الرخصة في الاعتقاد المجرد، فإن هذا تلبيس مدلس على القوم، والنكاح الذي قصده لم يرضوا به ولم يعاقدوه عليه، والنكاح الذي رضوا به لم يرض الله به ورسوله، وإنما يصح العقد برضى المتعاقدين التابع لرضى الله ورسوله، فإذا تخلف أحدهما فهو باطل، الوجه الثالث: أنه ليس في القصة أنهم واطئوه على أن يحلها للأول، ولا أشعروه أنها مطلقة، وإنما فيها أنهم واطئوه على أن يبيت عندها ليلة ثم يطلقها، وهذا من جنس نكاح المتعة، الذي يكون للزوج
فيه رغبة في النكاح إلى وقت، ونكاح المتعة قد كانوا يستحلونه صدرا من خلافة عمر، حتى أظهر عمر السنة بتحريمه، ولعل هذا كان قبل أن يظهر تحريم نكاح المتعة، ثم النكاح المشروط فيه الطلاق في الوقت الذي كان يصح فيه مثل هذا الشرط، إنما يجب الوفاء به إذا طلبت المرأة ذلك ; لأن الشرط حق لها كالصداق مثلا، ولهذا لما طلب من الرجل الطلاق رد الأمر إليها فلم تطلبه، وإذا كانت المرأة لم تطلبه لم يكن عليه أن يطلق، بخلاف النكاح المؤقت فإنه ينقضي بمضي الوقت، وقولها له فإن عمر لا يجبرك على طلاقي لأن الطلاق حق لها وعمر لا يجبر على توفية حق لم يطلبه صاحبه، بل عفا عنه، ثم إن عمر رضي الله عنه أظهر بعد هذا تحريم المتعة وتوعد عليه، الوجه الرابع: أن هذه القصة قضية عين وحكاية حال، والحاكي لها يشهدها ليستوفي صفتها، فيمكن أن تكون المرأة لما رغبت في الرجل وهو قد رغب فيها وهي امرأة ثيب هي أولى بنفسها من وليها كان بمنزلة خاطب، قد رغبت المرأة فيه فأمره عمر بإمساكها بنكاح جديد، وإن كان قد قال له لا تطلقها، فإن الفرقة النكاح وإن كان فاسدا يسمى طلاقا، وإن كانت فسخا، حتى
قد قال بعض العلماء إنه طلاق واقع، وهذا كما روي { عن فيروز الديلمي أنه قال أسلمت وعندي أختان فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما }، ومعلوم أن هذا ليس هو الطلاق الذي ينقص به العدد، ويقوي ذلك أن الإمساك كان بنكاح جديد لا بذلك النكاح، أشياء: أحدها: أن في الحديث أنه لما جاء الرسول من عند عمر قالت له المرأة كيف موضعك من قومك، قال ليس بموضعي بأس، قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق امرأتك فقل لا والله لا أطلقها، فاعتبرت المرأة كفاءته بعلمها، بأنه قد يكون للأولياء بها تعلق، فلو كان النكاح الأول صحيحا لازما، لم يكن للأولياء الاعتراض بعد ذلك، وإنما يكون اعتراض لهم إذا أرادت المرأة أن تتزوج من غير كفء، ووقع النكاح بلا رضاهم، فهذا دليل على أن النكاح لم يكن قد انعقد لازما إلا أن يقال كان مقصودهم أنه إذا كان غير كفء يبطل عمر رضي الله عنه النكاح ; لأنه هو القائل لأمنعن خروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء، وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه، فيقال لم يكن الأولياء يمكنهم الطعن في كفاءته ; لأن عمر رضي الله عنه قد كان ينكر عليهم
تزويجها بغير كفء، إن كان يرى ذلك، وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره ; لأن النكاح يكون فاسدا فلا يحصل التحليل، وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره، فعلى التقريرين لا حاجة لهم بذكره إلا إذا كان العقد الأول غير لازم، وثانيها: أن عمر رضي الله عنه قال لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط، ولو كان هذا النكاح صحيحا يحلها للأول لم ينهه عمر عن طلاقها إذا أرضوه، وهو يرى شغف الأول بها، وصفو الأولياء إليه فلما نهاه عن مفارقتها كان كالدليل على أنها لم تحل للأول إذا فارقها، وهم يريدون الاستحلال، وإنما درأ عمر رضي الله عنه العقوبة مع أنه قال لا أوتى بمحلل إلا رجمته، ; لأنه أعرابي جدير بأنه لا يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، وثالثها: أنهم لما قالوا له طلقها قال الأمر إليها فدل على أن مقامه مشروط وهذا إنما يكون قبل لزوم النكاح وصحته، ورابعها: أنه قد روى بعض المالكية أن عمر رضي الله عنه بعث المرأة لواسطة بينهما التي تسمى الدلالة، ونكل بها وهذا دليل على أنها فعلت ما لا يحل، الوجه الخامس: أن هذا الأثر ليس فيه عودها إلى المطلق بل فيه النهي عن ذلك، وليس فيه دوام
نية التحليل بل فيه أنه صار نكاح رغبة بعد أن كان تحليلا فإن كان بنكاح مستأنف فلا كلام، وإن كان باستدامة النكاح الأول فهذا مما قد يسوغ فيه الخلاف، كما في النكاح بدون إذن المرأة أو نكاح العبد بدون إذن سيده أو بيع الفضولي وشرائه، فإنه قد اختلف فيه هل هو مردود أو موقوف، وبعض الفقهاء يقول: إن الشرط الفاسد إذا حذف بعد العقد صح، فيمكن أن يكون قول عمر رضي الله عنه مخرجا على هذا، فإن الصحابة قد اختلفت فيه، ونية التحليل كاشتراطه، فيكون هذا الشرط الفاسد إن حذف صح العقد وإلا فسد، وإذا حمل الحديث على هذا فهو محل اختلاف في مسألة أخرى، ولا يلزم من ذلك الخلاف في مسألة المحلل، ولهذا لما أفتى أحمد في نكاح المحلل بأن يفرق بينهما وإن حدث له رغبة بعد ذلك، كما دلت عليه السنة وكما فعل عثمان وقاله ابن عمر، اعترض عليه بحديث عمر هذا، فأجاب بأنه غير مسند فلا يعارض الآثار المسندة، وإنما اعترض عليه بذلك بناء على الآثار قد اختلفت في نكاح المحلل، هل له أن يمسكها به، ولم يقل أحد إنها اختلفت في صحة أصل النكاح ولا في جواز عودها إلى الأول بالتحليل، وإذا كانت هذه الحكاية
بهذه المثابة من الإسناد والاحتمال لم تعارض ما عرف من كلام عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه ابنه، ومن سمعه يخطب على منبر المدينة، ومما يبين أن مثل ذلك قد يقع فيه التباس، ما رواه سعيد في سننه ثنا جرير عن مغيرة قال قلت لإبراهيم هل كان عمر بن الخطاب حلل بين رجل وامرأته، فقال لا إنما كانت لرجل امرأة ذات حسب ومال فطلقها زوجها تطليقة أو اثنتين فبانت منه، ثم إن عمر تزوجها فهني بها وقالوا لولا أنها امرأة ليس بها ولد فقال عمر وما بركتهن إلا أولادهن فطلقها قبل أن يتزوجها فتزوجها زوجها الأول، قال مغيرة عن أبي معشر كان زوجها الأول الحارث بن أبي ربيعة، فهذا مغيرة قد بلغه إما عن أبي معشر أو غيره أن عمر حلل امرأة حتى أخبره إبراهيم أنه إنما كان نكاح رغبة، لا أنه تزوجها للتحلل لكن ; لأنه طلقها عقب الدخول بها أو عقب العقد، توهم من لم يعلم حقيقة الأمر أنه كان تحليلا، فكذلك ذو الرقعتين لما بلغهم أنهم طلبوا منه أن يطلق، وبذلوا له المال على ذلك فامتنع ظنوا أنه كان محللا، فإن وقوع الطلاق أشد إيهاما للتحليل من مسألته فإن كان توهمه مع وقوع الطلاق باطلا كان
توهمه مع مسألة الطلاق أولى بذلك، الوجه السادس: أنه لو ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه صحح نكاح المحلل فيجب أن يحمل هذا منه على أنه رجع عن ذلك ; لأنه ثبت عنه من غير وجه التغليظ في التحليل والنهي عنه، وأنه خطب الناس على المنبر فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، وكذلك ذكر ابنه أن التحليل سفاح، وأن عمر لو رأى أصحابه لنكلهم، وبين أن التحليل يكون باعتقاد التحليل وقصده، كما يكون بشرطه، وقد كانوا في صدر خلافته يستحلون المتعة بناء على ما تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها من الرخصة، يفعل ذلك من يبلغه تحريمها بعد ذلك، فلعله في ذلك الوقت كان يقصد من يقصد التحليل، ثم بعد هذا بلغ عمر رضي الله عنه النهي عن التحليل، فخطب به وأعلن حكمه كما خطب عن المتعة وأعلن حكمها، ولا يمكن أن يكون رخص في التحليل بعد النهي ; لأن النهي إنما يكون عن علم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ترك الإنكار فإنه يكون عن الاستصحاب، وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله فإنه لا يمكن تغيير ذلك بعد موته، فثبت أن الصحابة - رضوان الله
عليهم - لم يختلفوا في ذلك .
 
ومن ذلك أن تجويز التحليل قد أفضى إلى ما هو غالب في التحليل المظهر بين الزوجين أو لازم له من الأمور المحرمة، وهو أن المرأة المعتدة لا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها في عدتها، إلا أن يكون ممن يجوز له نكاحها في العدة، دل عليه الكتاب واجتمعت عليه الأمة قال تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله }، وقد قال قبل هذا: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }، وأما التعريض فيجوز في حق من لا يمكن عودها إلى زوجها، مثل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا عند الجمهور، فأما المرأة المزوجة فلا يجوز أن تخطب تصريحا ولا تعريضا، بل ذلك تخبيب للمرأة على زوجها، وهو من أقبح المعاصي، والمطلقة ثلاثا أحرم على المطلق من المزوجة، فلا يجوز له أن يصرح بخطبتها ولا يعرض لا في العدة ولا بعد العدة، ثم إذا تزوجها رجل لم يجز له أن يصرح بخطبتها، أو لا يعرض حتى يطلقها ثم إذا طلقها لم يجز التصريح بخطبتها حتى تقضي العدة، وإنما يجوز التعريض إذا كان الطلاق ثلاثا عند الجمهور، فإن كان الطلاق بائنا ففيه خلاف مشهور، وإن كان رجعيا لم يجز وفاقا، وقد أفضى تجويز التحليل إلى أن يطلق الرجل المرأة ثلاثا فيواعدها في عدتها على أن يتزوجها بعد التحليل، ويسعى هو في هذا التحليل، وربما أعطاها ما تعطيه المحلل، وأنفق عليها مدة العدتين إنفاقه على زوجته، فيا سبحان الله أين مواعدتها على أن يتزوجها وهي في العدة من غيره، وقد حرمه الله من مواعدتها على أن يتزوجها قبل العدة بدرجتين، وليس يخفى على اللبيب أن هذا ركوب للمحرم مكررا مغلظا، ومن شرح الله صدره للإسلام علم أن الفعل إذا كان مظنة لبعض هذه المفاسد حسم الشارع الحكيم مادته بتحريمه جميعه، ألا ترى { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنه وفد عبد القيس في الانتباذ في وعاء صغير قال لو رخصت لكم في هذه لجعلتموها مثل هذه، ثم يشرب أحدكم حتى يضرب ابن عمه بالسيف } أو كما قال صلى الله عليه وسلم، { وفي القوم رجل قد أصابه ذلك، قال فسدلت رحلي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم }، فحرم الله ورسوله قليل الخمر وكثيرها، وحكم بنجاستها ونهى عن الخليطين، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث وعن
الأوعية المقوية، كل ذلك حسما للمادة، وإن كان العناد التام هو شرب المسكر ; لأن القليل من ذلك يقتضي الكثير طبعا، فكذلك أصل التحليل لما كان مفضيا إلى هذه المفاسد كثيرا أو غالبا، كان الذي يقتضيه القياس تحريمه، وقد تقدم في مسلك الذرائع شواهد كثيرة لهذا الأصل، واعلم أنه ليس في المتعة شر إلا وفي التحليل ما هو شر منه بكثير، فإن المستمتع راغب إلى وقت فيعطي الرغبة حقها، بخلاف المحلل فإنه تيس مستعار، فمن العجب أن يشنع على بعض أهل الأهواء بنكاح المتعة، ولهم في استحلاله سلف، ومعهم فيه أثر وحظ من قياس، وإن كان مدفوعا بما قد نسخه، ثم يرخص في التحليل الذي لعن الشارع فاعله ولم يبحه في وقت من الأوقات، واتفق سلف الأمة على لعن فاعله، وليس فيه حظ من قياس، بل القياس الجلي يقتضي تحريمه، ويعتصم من يفرق بينهما بمقارنة الشرط العقد وتقدمه عليه، أو يكون هذا شرطا وذاك توقيتا، وهو فرق بين ما جمع الله بينه، وليس له أصل في كتاب ولا سنة، ولا يعرف مأثورا عن أحد من السلف، بل الأصول من الكتاب والسنة وما هو المأثور عن سلف الأمة يدل على أن الشروط معتبرة إما صحة
 
ووفاء وإما فسادا أو إلغاء سواء قارنت العقد أو تقدم عليه، ولولا أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك لبسطنا القول فيه، فإنما قد قررنا أن مجرد النية تحليل، والشرط المتقدم بطريق الأولى، ولكن ننبه على بعض أدلة ذلك لكي يدخل فيه إذا تواطآ على التحليل، ثم تزوجها غير ناو للتحليل من غير إظهار ذلك، قال الله تعالى { أوفوا بالعقود } وقال: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }، وقال: { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام }، وقال: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا }، ولم يفرق سبحانه بين عقد وعقد وعهد وعهد، ومن شارط غيره في بيع أو نكاح على صفات اتفقا عليها ثم تعاقدا بناء عليها فهي من عقودهم وعهودهم، لا يعقلون ولا يفهمون إلا ذلك، والقرآن نزل بلغة العرب، وقال سبحانه وتعالى: { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } وقال: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } يعني العهود ومن نكث الشرط المتقدم فهو ناكث، كمن نكث المقارن لا تفرق العرب بينهما في ذلك، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم { المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا }، رواه أبو داود وغيره، والمسلمون يفهمون أن ما تقدم
العقد شرط كما قارنه، حتى أنه وقت الخصام يقول أحدهما لصاحبه ألم يكن الشرط بيننا كذلك، ألم نشارطك على كذا، والأصل عدم نقل اللغة وتعييرها، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، فيقال هذه غدرة فلان }، ومن شارط غيره على شيء على أن يتعاقدا عليه وتعاقدا ثم لم يف له بشرطه فقد غدر به، هذا هو الذي يعقله الناس ويفهمونه ولا يعرف التفريق بينهما في معاني الكلام عن أحد من أهل اللغة، ولا في الحكم عمن قوله حجة تلزمه، وفي الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم { لما خطب في شأن بنت أبي جهل، لما أراد علي رضي الله عنه أن يتزوجها، قال فذكر صهرا له من أبي العاص قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي }، ومعلوم أنه إنما قال هذا مدحا لمن فعله وذما لمن تركه، وإلا لم يكن حجة لما قرنه به، والوعد في العقود إنما يتقدمها لا يقارنها، فعلم أن من وفى به كان ممدوحا ومن لم يف به كان مذموما معيبا، وهذا شأن الواجب، وفي حديث السيرة المشهور { أن الأنصار لما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، قالوا يا رسول الله اشترط لربك واشترط لنفسك واشترط لأصحابك، فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أزركم وأشترط لأصحابي أن تواسوهم، فقالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال الجنة قالوا مد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك، فبايعوه }، أفلا ترى كيف تقدم الشرط العقد ولم يحتج حين المبايعة أن يتكلم بالشروط المتقدمة ولو كانوا قد تكلموا بها فإنهم سموا ما قبل العقد اشتراطا، فيدخل في مسمى الشرط الذي دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء به، وهذا المحلل يقال له شرطنا عليك أنك إذا وطئتها فطلقها، ويعقد العقد بعد ذلك، وأيضا لو وصف المبيع أو الثمن المعين بصفات عند التساوم، ثم بعد ذلك بزمان تعاقدا كان العقد مبنيا على ما تقدم بينهما من الصفة، حتى إذا ظهر المبيع ناقصا عن تلك الصفة كان له الفسخ، ولو لا أن الصفة المتقدمة كالمقارنة لما وجب ذلك، وكذلك لو رآه ثم تعاقدا بعد ذلك بزمن لا يفتر في مثله غالبا، ولولا أن الرؤية المتقدمة كالمقارنة لما لزم البيع، وبعض الناس يخالف في الصفة المتقدمة، وأما الرؤية
المتقدمة فلا أعلم فيها مخالفا، ولا فرق بين الموضعين، بل الواصف إلى الفرقة أقرب، وأيضا فإن من دخل مع رجل في عقد على صفات تشارطوا عليها وعقدوا العقد ثم نكث به فلا ريب أنه قد خدعه ومكر به، فإن الخدع أن يظهر له شيئا ويبطن خلافه، والمكر قريب من ذلك، وهذا مما تسميه الناس خديعة ومكرا، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا زوالها وتغييرها، والخديعة والمكر حرام في النار كما دل عليه الكتاب والسنة، وأيضا فإن العقود في الحقيقة إنما تثبت على رضا المتعاقدين، وإنما كلامهما دليل على رضاهما كما نبه عليه قوله سبحانه: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ولما كانت البيوع تقع غالبا قبل الاختيار والاستكشاف، شرع فيها الخيار إلى التفرق بالأبدان ليتم الرضا بذلك، واكتفى في النكاح بما هو الغالب من تقدم الخطبة على العقد، لاستعلام حال الزوجين، وإذا تشارطا على أمر يتعاقدان عليه ثم تعاقدا فمن المعلوم أن كلا منهما إنما رضي بالعقد المشروط فيه الشرط الذي تشارطا عليه أولا، ومن ادعى أن أحدهما رضي بعقد مطلق خال عن شرط كان بطلان قوله معلوما بالاضطرار، وإذا كانا إنما رضيا بالعقد الذي تشارطا
عليه قبل عقده وملاك العقود هو الرضا، ووجب أن يكون العقد ما رضيا به لا سيما في النكاح الذي سبق شرطه عقده، وليس بعد عقده خيار يستدرك فيه الفائت، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: { إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج }، متفق عليه، وهذا بين لا خفاء فيه وأيضا فإن العقود في الحقيقة إنما هي بالقلوب، وإنما العبارات مبينات لما في القلوب، لا سيما إن قيل هي إخبارات، وبيانها لما في القلب لا يختلف بجمع الكلام في وقت أو يفرقه في وقتين، لا سيما الكلام الكثير الذي قد يتعذر ذكره في التعاقد، وهذا هو الواقع في خطاب جميع الخلق بل في أفصح الخطاب وأبلغه، فإن من مهد قاعدة بين بها مراده، فإنه يطلق الكلام ويرسله، وإنما يريد به ذلك المقيد الذي تقدم، والمستمع يفهم ذلك منه ويحمل كلامه عليه، كالعالم يقول مثلا يجوز للرجل أن يوصي بثلث ماله، فلا يدخل في كلامه المجنون ونحوه للعلم بأنه قد قرر في موضع آخر أن المجنون لا حكم له في الشرع، فكذلك الرجل يقول مثلا وأنكحت، فإن هذا اللفظ وإن كان مطلقا في اللفظ فهو مقيد بما تشارطا عليه قبل، ومعنى كلامه بعتك البيع الذي
 
تشارطنا وأنكحتك النكاح الذي تراضينا به، فمن جعل كلامه مطلقا بعد أن تقدم منه المشارطة والمواطأة فقد خرج عن مقتضى قواعد خطاب الخلق وكلامهم في جميع إيجابهم ومقاصدهم، وهذا واضح لا معنى للإطناب فيه، وإذا كان الشرط المشروط قبل العقد كالمشروط فيه، فمعلوم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، ولهذا قالوا من دفع ثيابه إلى غسال يعرف منه الغسل بالأجرة لزمه الأجرة بناء على أن العرف شرط، وكذلك من دخل حمام حمامي أو ركب سفينة ربان فإنه يلزمه الأجرة بناء على العرف، وكذلك لا خلاف أنه لو أطلق الدراهم والدنانير في عقد بيع أو نكاح أو صلح أو غيرها، انصرف إلى النقد الغالب المعروف بين المتعاقدين، وكان هذا العرف مقيدا للفظ، ولم يجز أن ينزل على إطلاق اللفظ بإلزام مسمى الدرهم من أي نقد أو وزن كان، ولو أطلق اللفظ في الأيمان والمثمنات ونحوها انصرف الإطلاق إلى السليم من العيوب بناء على أنه العرف، وإن كان اللفظ أعم من ذلك، والعرف الخاص في ذلك كالعام على ما شهد به باب الأيمان والنذور والوقوف والوصايا وغيرها من الأحكام الشرعية، فإن كان بعض التيوس معروفا بالتحليل، وجيء بالمرأة
إليه فهو اشتراط منهم للتحليل لا يعقل الناس إلا هذا، فلو لم يف بما شرطوه لكان عندهم خديعة ومكرا ونكثا وغدرا، وعلى هذا فيبطل العقد من وجهين من جهة نية التحليل، ومن جهة اشتراطه قبل العقد لفظا أو عرفا، وكذلك على هذا لو شرط التحليل لفظا أو عرفا وعقد النكاح بنية ثانية كان النكاح باطلا على ظاهر المذهب ; لأن ما شرطوه عليه لم يرض الله به فلا يصح شرعا، وما نواه الزوج لم ترض المرأة به ولا وليها فلا يصح لعدم الرضا من جهتهما فما رضوا به لم يأذن الله سبحانه فيه، وما أذن الله فيه لم يرتضوا به، فلا يصح واحد منهما، وهذا هو الجواب عما ذكروه في الاعتراض على دلالة الحديث، من أن الشروط المؤثرة هي ما قارنت العقد دون ما تقدمته، فإن هذا غير مسلم، وهو ممنوع لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا وفاق ولا عبرة صحيحة، والقول في النكاح والبيع وغيرهما واحد، وقد سلمه بعض أصحابنا مثل أبي محمد المقدسي، وادعى أن المؤثر في الفساد هو النية المقترنة بالعقد لا الشرط المتقدم، والصحيح أن كلا منهما لو انفرد لكان مؤثرا كما تقدم، وسلم آخرون منهم القاضي أبو يعلى وغيره أن الشرط المتقدم إن
لم يمنع القصد بالعقد كالتواطؤ على أجل مجهول ونحوه، لم يفسد العقد، وإن منع القصد بالعقد كالتواطؤ على بيع تلجئة ونكاح تحليل أبطل العقد، والصحيح أن الشروط المتقدمة كالمقارنة مطلقا، وهذا قول أبي حفص العكبري وهو قول المالكية، وأما قولهم بحمل الحديث على من أظهر التحليل دون من نواه ولم يظهره، لئلا يفضي القول بالإفساد إلى إضرار المعاقد الآخر، ولأن النية لو كانت شرطا لما صحت الشهادة على النكاح فنقول هذا السؤال من قال بموجبه، فإنه يبطل أكثر صور التحليل التي هي منشأ الفساد، وهو الذي قال به بعض التابعين إن صح، وبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه، والجواب عنه أن الزوجة متى لم تعلم نية التحليل لم يضرها ذلك، فإنها تعتقده حلالا فلا يكون أسوأ حالا من وطء الشبهة فالوطء حلال بالنسبة إليها، حرام بالنسبة إلى الزوج، كما لو تزوج امرأة يعلم أنها محرمة عليه، وهي لا تعلم ذلك، وكذلك ما يعطيها إياه من المهر والنفقة يحل لها أخذه، كما يحل لها ذلك في مثل هذه الصورة، ومثل ذلك ما ذكره أصحابنا، وأكثر الفقهاء في الصلح على الإنكار والنكول فإن أحد المصالحين إذا علم كذب
نفسه كان الصلح باطلا في حقه خاصة فيكون ما يأخذه من مال الآخر أو ما يهضمه من حقه حراما عليه، وكذلك لو ورث الرجل من أبيه رقيقا قد علم رجل أن الأب أعتقهم، والابن لا يعلم ذلك فاشتراهم منه من يعلم بعتقهم كان البيع صحيحا بالنسبة إلى البائع، فيحل له الثمن وكان بالنسبة إلى المشتري باطلا فلا يحل له استعبادهم، وأشبه منه بمسألتنا لو كان بيد الرجل مال يملكه مثل عبد أعتقه فباعه لرجل، فإنه يكون باطلا بالنسبة إلى البائع فيحرم عليه الثمن، وهو حلال في الظاهر بالنسبة إلى المشتري فيحل له المبيع، ونظائر هذا كثيرة في الشريعة، وأما الشهود فإنهم يشهدون على لفظ المتعاقدين، وبه يصح العقد في الظاهر، فإن لم يشعروا بنيته للتحليل لم يكن عليهم إثم، وإن علموا ذلك بقرينة لفظية أو عرفية، كان كما لو علموا أن الزوج مكره، فتحرم عليهم الشهادة على مثل هذا النكاح، كما تحرم عليهم الشهادة على عقد الربا والنحل الجائرة وغير ذلك، لكن إذا لم يكن إلا مجرد نية الزوج فهناك لا يظهر التحليل أصلا فلا يأثمون بالشهادة على ما ظاهره الصحة، ولهذا لم يلعنوا في الحديث، وإنما صححنا العقد في
الظاهر بدون العلم بالقصد، كما صححنا إسلام الرجل بدون العلم بما في قلبه، فإن الألفاظ تعبر عما في القلوب، والأصل فيها المطابقة والموافقة، ولم نؤمر أن ننقب عما في قلوب الناس ولا نشق بطونهم، ولكن نقبل علانيتهم ونكل سرائرهم إلى الله سبحانه، ولكن هم فيما بينهم وبين الله مؤاخذون بنياتهم وسرائرهم، وهذا بين، وأما قولهم إذا اشترى بنيته أن لا يبيعه ولا يهب صح، ولو شرط ذلك لم يصح، فعلم أن النية ليست كالشرط فسيأتي إن شاء الله الكلام على ذلك، ونبين الفرق بين نية تنافي مقصود العقد ومقتضاه، ونية لا تنافيه، كما فرق بين شرط ينافي العقد وشرط لا ينافيه، ولا يلزم من كون بعض الأشياء تنافي العقد شرطا وقصدا أن يكون كل شيء ينافيه شرطا وقصدا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
 
المرتبة الثالثة: أن تتسبب إلى فرقته مثل أن تبالغ في استيفاء الحقوق منه، والامتناع من الإحسان إليه لست أعني أنها تترك واجبا تعتقد وجوبه، أو تفعل محرما تعتقد تحريمه، لكن غير ذلك مثل أن تطالبه بالصداق جميعه، ليفسخ أو يحبس أو لتمتنع منه، أو تبذل له في خصومتها، وذلك يشق عليها مثل أن تطالبه بفرض النفقة، أو إفرادها بمسكن يليق بها وخادم ونحو ذلك من الحقوق التي عليه، أو تمنع من إعانته في المنزل بطبخ أو فرش أو لبس أو غسل ونحو ذلك، كل ذلك ليفارقها فإن قيل فهذه الأمور منها ما قد يختلف في وجوبه، فإذا قيل بوجوبه فتقديره إلى اجتهاد الحاكم، وهو أمر يدخله الزيادة والنقصان، ولا يكاد ينقل غالبا من عاشرت زوجها بمثل هذا عن معصية الله، ونحن نتكلم على تقدير خلوه من المعصية فنقول: إذا فعلت المباح لغرض مباح فلا بأس به، أما إذا قصدت به ضررا غير مستحق فإنه لا يحل، مثل من يقصد حرمان ورثته بالإسراف في النفقة في مرضه، فإذا كانت المرأة لا تريد استيفاء الصداق ولا فرض النفقة وهي طيبة النفس بالخدمة المعتادة، وإنما تجشم ذلك لتضيق على الزوج ليطلقها، فإلجاؤه إلى
 
الطلاق غير جائز ; لأنه إلجاء إلى فعل ما لا يجب عليه ولا يستحب له وهو يضره، وهي آثمة بهذا الفعل إذا كان ممسكا لها بالمعروف، وإنما الذي تستحقه بالشرع المطالبة لأحد أمرين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أما إذا قصدت التسريح فقط، وإنما تطالبه بموجبات العقد لتضطره بعسرها عليه إلى التسريح، فهذه ليست طالبة أحد الأمرين وإنما هي طالبة واحدا بعينه، وهي لا تملك ذلك شرعا، فهذه المرتبة تلحق بالتي بعدها كما قدمنا نظائر ذلك في أقسام الحيل، لكن هذا الفعل إنما حرم بالقصد، وهذا أمر لا يمكن الحكم عليه ظاهرا بخلاف الذي بعده، ولا فرق بين أن يكون التحريم لجنس الفعل أو لقصد يقترن بالفعل، ولا يقال فقد يباح لها الاختلاع إذا كانت تخاف أن لا تقيم حدود الله معه، فكذلك يباح لها الاستقصاء في الحقوق حتى تفارق ; لأنا نقول الاختلاع يتضمن تعويضه عن الطلاق برد الصداق إليه، أو رد ما يرضى به وهو شبيه بالإقالة في البيع، وهذه تلجئة إلى الطلاق من غير عوض فليست بمنزلة المختلعة، وإذا كانت لا تستحق أن يطلقها بغير عوض، وفي ذلك عليه ضرر فإذا قصدت إيقاع هذا الضرر به بفعل هو مباح، أو
خلا عن هذا القصد دخلت في قوله صلى الله عليه وسلم { من ضار ضار الله به ومن شق شق الله عليه } وهو حديث حسن، وهذا ليس مختصا بحقوق النكاح بل هو عام في كل من قصد إضرار غيره بشيء هو مباح في نفسه، بقي أن يقال: فهي لا تقصد إضراره وإنما تقصد نفع نفسها بالخلاص منه، فيقال الشارع لم يجعل هذه المنفعة بيدها، ولو كان انتفاعها بالأخص حقا لها لملكها الشارع ذلك وحيث احتاجت إليه أمرها أن تفتدي منه كافتداء العبد والأسير، ألا ترى أن العبد لا يحل له أن يقصد مضارة سيده ليعتقه، إذا لم يكن السيد متسببا إليه، ثم، إن كانت نوت هذا حين العقد فقد دخلت على ما تضاره به مع غناها عنه، فإنه ليس لها أن تتوصل إلى بعض أغراضها التي لا تجب لها بما فيه ضرر على غيرها، فكيف إذا قصدت أن تحل لنفسها ما حرم الله عليها بأضرار الغير، فهذا الضرب قريب مما ذكر بعده، وإن كان بينهما فرق .
 
وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوليهم، ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته وأكثر الناس يقولون إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات، وفي هذه الدرجة حصل النزاع في مسألة الحرف والصوت والمعنى القائم بالنفس، وذلك أن الجهمية لما أحدثت القول بأن القرآن مخلوق، ومعناه أن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلا بل حقيقة أن الله لم يتكلم ولا يتكلم، كما أفصح به رأسهم الأول الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما ; لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئا في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة فلا يتخذ شيئا خليلا، وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب تعالى، وكذلك نفت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة، أن المتكلم يكون متكلما بكلام يكون في غيره، وقالوا أيضا: يكون مريدا بإرادة ليست فيه ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير المرادات المخلوقة وغير الأمر
وهو الصوت المخلوق في غيره، فكان حقيقة قولهم التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقتها الرسل وهذا حال الزنادقة المنافقين، من الصابئين والمشركين، من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: فيما أخبرت به الرسل في باب الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، بل وفيما أمرت به أيضا، وهم مع ذلك يقرون بكثير مما أخبرت به الرسل، وتعظيم أقدارهم، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، لكن هؤلاء المتفلسفة يقولون إن كلام الله هو ما يفيض على نفوس الأنبياء الصافية القدسية، من العقل الفعال الذي يزعمون أنه الروح المفارق للأجسام، الذي هو العقل العاشر كفلك القمر، ويزعمون أنه الذي يفيض منه ما في هذا العالم من الصور والأعراض، ويزعم من يزعم من منافقيهم الذين يحاولون الجمع بين النبوة وبين قولهم بأن ذلك هو جبريل، ويقولون: إن تلك المعاني التي تفيض على نفس النبي والحروف التي تتشكل في نفسه، هي كلام الله، كما يزعمون أن ما يتصور في نفسه من الصور النورانية، هي ملائكة الله، فلا وجود لكلام الله عندهم
خارجا عن نفس النبي، وكذلك الملائكة غير العقول العشرة والنفوس التسعة، أكثرهم متنازعون فيها، هل هي جواهر أو أعراض، إنما الملائكة ما يوجد في النفوس والأبدان من القوى الصالحة والمعارف والإرادات الصالحة ونحو ذلك وحقيقة ذلك أن القرآن إنشاء الرسول وكلامه كما قال ذلك فيلسوف قريش وطاغوتها الوحيد ابن المغيرة، الذي قال الله فيه: { ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر } إلى قوله: { إن هذا إلا قول البشر } وهذا قول وقع فيه طوائف من متأخري غالية المتكلمة والمتصوفة، الذين ضلوا بكلام المتفلسفة فوقعوا فيما ينافي أصلي الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، بما وقعوا فيه من الإشراك وجحود حقيقة الرسالة، فهذا قول من قال من غالية الجهمية، وأما الجهمية المشهورون من المعتزلة ونحوهم، فقالوا: إنه يخلق كلاما في غيره إما في الهواء وإما بين ورق الشجرة التي كلم منها موسى، وإما غير ذلك فذلك هو كلام الله عندهم، فإذا قالوا: إن الله متكلم
 
حقيقة، وإن له كلاما حقيقة، فهذا معناه عندهم وهو تبديل للحقيقة التي فطر الله عليها عباده، واللغة التي اتفق عليها بنو آدم، والكتب التي أنزلها الله من السماء، ولما كان من المعلوم بالفطرة الضرورية التي اتفق عليها بنو آدم إلا من اجتالت الشياطين فطرته، أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام ويتصف به، وكذلك المحب والمريد من تقوم به المحبة والإرادة، كما أن العليم والقدير من يقوم به العلم والقدرة، وقد قالوا: ليس لله كلام إلا ما يكون قائما بغيره، كالشجرة لزم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بالكلام الذي خاطب الله به موسى ولهذا قال عبد الله بن المبارك: من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك ; لأن حقيقة قولهم إن المخلوق هو القائل لذلك، وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان وذكر له أن قوما يقولون القرآن مخلوق، فقال: كيف يصنعون ب { قل هو الله أحد }، كيف يصنعون بقوله: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا }، وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا
ربكم الأعلى، وقال غيره إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فهذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه، قال البخاري: وقال علي بن عاصم أما الذين قالوا إن لله ولدا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم، وقال: احذر ابن المريسي وأصحابه ; فإن كلا منهم ابن جد الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم جعدا فلم يثبت أن في السماء إلها قال البخاري، وقال عبد الرحمن بن عفان، سمعت سفيان بن عيينة يقول في السنة التي ضرب فيها المريسي فقام ابن عيينة من مجلسه مغضبا فقال: ويحكم القرآن كلام الله قد صحبت الناس وأدركتهم، هذا عمرو بن دينار، وهذا ابن المنكدر، حتى ذكر منصورا أو الأعمش ومسعر بن كدام، فقال ابن عيينة قد تكلموا في الاعتزال والرفض والقدر، وأمرونا باجتناب القوم، فما نعرف القرآن إلا كلام الله فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله ما أشبه هذا القول بقول النصارى، لا تجالسوهم ولا تسمعوا كلامهم، قال البخاري: حدثني الحكم بن محمد الطبري، حدثنا سفيان بن عيينة، قال أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن
دينار، يقولون: القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكذلك أيضا قالوا: الله تعالى قد خلق كلاما في غيره، كما قال تعالى: { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء }، ومن ذلك كلام الذراع للنبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه، وغير ذلك مما يطول، ومعلوم أن ذلك ليس كلام الله، لا سيما من علم أن الله خالق كل شيء، وهو خالق أفعال العباد من كلامهم وحركاتهم وغير ذلك فكل ذلك يجب أن يكون كلاما لله إن كان ما خلقه من الكلام في غيره يكون كلاما له، وهذا مما يعلم فساده بالضرورة، ويوجب أن يكون الكفر والكذب، وقول الشاة: إني مسمومة فلا تأكلني، وقول البقرة: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث وشهادة الجلود والأيدي والأرجل كلام الله وإلا يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره، وأيضا فقد قال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فأخبر بأنه ليس لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على هذه الوجوه الثلاثة ; فلو كان تكليمه ليس هو نفسه المتكلم به، ولا هو قائم به بل هو بأن يخلق كلاما في شجرة أو نحوها من
المخلوقات، لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى ; لأن ما يقوم بالمخلوقات يسمعه كل أحد، كما يسمعون ما يحدثه في الجمادات من الإنطاق، وكما سمعوا ما يحدثه في الأحياء من الإنطاق، ولأنه فرق بين الوحي وبين التكليم من وراء حجاب، فلو كان كلامه هو ما يخلقه في غيره من غير أن يقوم به كلام، لم يحصل الفرق ولأنه فرق بين ذلك وبين أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، فلو كان ذلك الرسول لم يسمع إلا ما خلق في بعض المخلوقات لكان هذا من جنس ما يخلقه فيسمعه البشر، وحينئذ فيكون كلاهما من وراء حجاب فلا يكون الله مكلما للملائكة قط إلا من وراء حجاب، وقوله: { من وراء حجاب } دليل على أنه قد يكلم من شاء بلا حجاب، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم - فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها وبقايا التابعين وأتباعهم وصاروا يظهرون أعظم المقالات شبهة كقولهم: القرآن مخلوق ; لأنهم يشبهون بهذا على العامة ما لا يشبهونه بغيرهم إذ يقول القائل كل ما سوى الله مخلوق ولأن نقيض هذا اللفظ ليس مشهورا كشهرة أحاديث الرؤية والعرش وغير ذلك، ومع هذا فكان إنكار
السلف والأئمة لذلك من أعظم الأنكار دع ما هو أظهر فسادا، قال الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي: وقد ذكر أقوال السلف والأئمة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وما ورد عنهم من تكفير من يقول ذلك، ثم قال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا وأكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخبيرين على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، قال: ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة، لكن اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه وأمروا بقتله أو نفيه أو صلبه، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق الجعد بن درهم في سني نيف وعشرين ثم الجهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القشيري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافة هشام بن عبد الملك وسأذكر قصتهما إن شاء الله .
 
فصل: ومع هذا فقد حفظ عن أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس هذا القول، وفي ذلك حجة على من يزعم أن أقوال هؤلاء الأئمة بدون الصحابة ليس بحجة، فروى اللالكائي من طريقين، من طريق محمد بن المصفى، ومن طريق الفضل بن عبد الله الفارسي، كلاهما عن عمرو بن جميع أبي المنذر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما حكم علي الحكمين، قالت له الخوارج: حكمت رجلين ؟ قال: ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن، ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناد آخر إلى علي، وقال: حدثنا محمد بن حجاج الحضرمي المضري، حدثنا يعلى بن عبد العزيز، حدثنا عتبة بن السكن الفزاري، حدثنا الفرج بن يزيد الكلاعي، قال: قالوا لعلي يوم صفين حكمت كافرا أو منافقا ؟ قال: ما حكمت مخلوقا، ما حكمت إلا القرآن، وهذا السياق يبطل تأويل من يفسر كلام السلف، بأن المخلوق هو المفتري المكذوب، والقرآن غير مفتر ولا مكذوب، فإنهم لما قالوا: حكمت مخلوقا، إنما أرادوا مربوبا مصنوعا خلقه الله، لم يريدوا مكذوبا، فقوله: ما حكمت مخلوقا، نفي لما ادعوه، وقوله: ما حكمت إلا القرآن، نفي لهذا الخلق عنه، وقد روي ذلك عن علي
من طريق ثالث، وأما قول ابن مسعود، فمن المحفوظ الثابت عنه، الذي رواه الناس من وجوه كثيرة صحيحة، من حديث يحيى بن سعيد القطان وغيره، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي كنف، قال: قال عبد الله من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال فقال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع، وروى محمد بن هارون الروياني، حدثنا أبو الربيع حدثنا أبو عوانة، عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن حنظلة بن خويلد العنزي، قال: أخذ عبد الله بيدي، فلما أشرفنا على السد إذ نظر إلى السوق، قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن وآية، قال فغمزني عبد الله بيدي ثم قال: أتراه مكفرا ؟ أما إن كل آية فيها يمين، ولا نزاع بين الأمة أن المخلوقات لا يجب في الحلف بها يمين، كالكعبة وغيرها، إلا ما نازع فيه بعضهم من الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم - لكون الإيمان به أحد ركني الإيمان، وقوله: عليه بكل آية يمين، قد اتبعه الأئمة وعملوا به ;
كالإمام أحمد وإسحاق وغيرهما، لكن هل تتداخل الأيمان إذا كان المحلوف عليه واحدا، كما لو حلف بالله لا يفعل، ثم حلف بالله لا يفعل، هذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد، وأما قول ابن عباس، فقال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أبي حدثنا ابن صالح بن جابر الأنماطي حدثنا علي بن عاصم، عن عمران بن حدير، عن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده، قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس، فقال: مه القرآن منه، زاد الصهيبي في حديثه فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود، فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثانية، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب من أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور، وجرت المحنة المشهورة، وكان أئمة الهدى على ما جاءت به الرسل عن الله، من أن القرآن كلام الله تكلم به هو سبحانه، وهو منه وقائم به، وما كان كذلك لم يكن مخلوقا، إنما المخلوق ما يخلقه من الأعيان المحدثة وصفاتها، وكثير منهم يرد قول الجهمية
بإطلاق القول بأن القرآن كلام الله ; لأن حقيقة قولهم، أنه ليس كلامه، ولا تكلم ولا يتكلم به ولا بغيره، فإن المستقر في فطر الناس وعقولهم ولغاتهم، أن المتكلم بالكلام، لا بد أن يقوم به الكلام فلا يكون متكلما بشيء لم يقم به بل هو قائم بغيره كما لا يكون عالما بعلم قائما بغيره، ولا حيا بحياة قائمة بغيره ولا مريدا بإرادة قائمة بغيره ولا محبا ومبغضا ولا راضيا وساخطا بحب وبغض ورضا وسخط قائم بغيره، ولا متألما ولا متنعما وفرحا وضاحكا بتألم وتنعم وفرح وضحك قائم بغيره، فكل ذلك عند الناس من العلوم الضرورية البديهية الفطرية التي لا ينازعهم فيها إلا من أحيلت فطرته، وكذلك عندهم لا يكون آمرا وناهيا بأمر ونهي لا يقوم به بل يقوم بغيره ولا يكون مخبرا ومحدثا ومنبئا بخبر وحديث ونبأ لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون حامدا أو ذاما ومادحا ومثنيا بحمد وذم ومدح وثناء لا يقوم به بل بغيره ولا يكون مناجيا ومناديا وداعيا بنجاء ودعاء ونداء لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون واعدا وموعدا بوعد ووعيد لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون مصدقا ومكذبا بتصديق وتكذيب
لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون حالفا ومقسما موليا بحلف وقسم ويمين لا يقوم به ولا يقوم إلا بغيره بل من أظهر العلوم الفطرية الضرورية التي علمها بنو آدم، وجوب قيام هذه الأمور بالموصوف بها، وامتناع أنها لا تقوم إلا بغيره، فمن قال إن الحمد والثناء، والأمر والنهي، والنبأ والخبر، والوعد والوعيد، والحلف واليمين، والمناداة والمناجاة، وسائر ما يسمى ويوصف به أنواع الكلام، يمتنع أن تكون قائمة بالآمر الناهي المناجي المنادي المنبئ المخبر الواعد المتوعد الحامد المثني الذي هو الله تعالى ويجب أن تكون قائمة بغيره، فقد خالف الفطرة الضرورية المتفق عليها بين الآدميين، وبدل لغات الخلق أجمعين، ثم مع مخالفته للمعقولات واللغات فقد كذب المرسلين أجمعين، ونسبهم إلى غاية التدليس والتلبيس على المخاطبين ; لأن الرسل أجمعين أخبروا أن لله أمرا ونهيا، وقال ويقول، وقد علم بالاضطرار أن مقصودهم أن الله هو نفسه الذي أمر ونهى، وقال: لا، إن ذلك شيء لم يقم به، بل خلقه في غيره، ثم لو كان مقصودهم ذلك، فمعلوم أن هذا ليس هو المعروف من الخطاب، ولا المفهوم منه، لا عند الخاصة ولا
عند العامة: بل المعروف المعلوم أن يكون الكلام قائما بالمتكلم، فلو أرادوا بكلامه وقوله أنه خلق في بعض المخلوقات كلاما ; لكانوا قد أضلوا الخلق على زعم الجهمية ولبسوا عليهم غاية التلبيس، وأرادوا باللفظ ما لم يدلوا الخلق عليه، والله تعالى قد أخبر أن الرسل بلغت البلاغ المبين، فمن نسبهم إلى هذا فقد كفر بالله ورسوله، وهذا قول الزنادقة المنافقين، الذين هم أصل الجهمية الذين يصفون الرسل بذلك من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم بل كون المتكلم الآمر الناهي لا يوصف بذلك إلا لقيام الكلام بغيره مع امتناع قيامه به أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازا، وزعمت الجهمية الملحدة في أسماء الله وآياته المحرفة للكلم عن مواضعه المبدلة لدين الله من المعتزلة ونحوهم أن المتكلم في اللغة من فعل الكلام وإن كان قائما بغيره، كالجني المتكلم على لسان الإنسي المصروع فإنه هو المتكلم بما يسمع من المصروع ; لأنه فعل ذلك وإن كان الكلام لم يقع إلا بالإنسي دون الجني، وهذا من التمويه والتدليس، فأما قولهم المتكلم من فعل الكلام فقد نازعهم فيه طائفة من الصفاتية وقالوا بل المتكلم
من قام به الكلام وإن لم يفعله كما يقوله الكلابية والأشعرية وبين الفريقين في ذلك نزاع طويل، وأما السلف والأئمة وأكثر الناس فلم ينازعوهم هذا النزاع، بل قالوا: الكلام وإن قيل إنه فعل للمتكلم فلا بد أن يكون قائما به فلا يكون الكلام لازما لمتكلم يمتنع أن يقوم به الكلام، وجميع المسموع من اللغات والمعلوم في فطرة البريات يوافق ذلك، وأما تكلم الجني، على لسان الإنسي فلا بد أن يقوم بالجني كلام ولكن تحريكه مع ذلك لجوارح الإنسي يشبه تحريك روح الإنسي لجوارحه بكلامه ويشبه تحريك الإنسان بكلامه وحركته وتصويته كما يصوت بقصبة ونحوها مع أنه في ذلك كله قد قام به من الفعل ما يصح به نسبة ذلك إليه، وقولهم: المتكلم من فعل الكلام وإن كان قائما بغيره، كلام متناقض فإن الفعل أيضا لا يقوم بغير الفاعل، وإنما الذي يقوم بغيره هو المفعول، وأما قول من يقول: إن الخلق لا يكون إلا بمعنى المخلوق، فهو من بدع الجهمية، وعامة أهل الإسلام على خلاف هذا وكذلك قال الأئمة مثل ما ذكره الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال: ففيما يسأل عنه بأولا يقال له :
تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق ؟ فلا يجد، فيقال له فبم قلت ؟ فيقول، من قول الله: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } وزعم أن كل مجعول مخلوق، فادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها ويبتغي الفتنة في تأويلها، وذلك أن جعل في القرآن من المخلوقين على وجهين على معنى التسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم، قوله: { الذين جعلوا القرآن عضين } قالوا: هو شعر وأنباء الأولين وأضغاث أحلام، فهذا على معنى التسمية، وقال: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } يعني أنهم سموهم إناثا ثم ذكر جعل على غير معنى تسمية فقال: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } فهذا على معنى فعل من أفعالهم وقال: { حتى إذا جعله نارا } هذا على معنى فعل، هذا جعل المخلوقين، ثم ذكر جعل من الله على معنى خلق، وجعل على غير معنى خلق، والذي قال الله جل ثناؤه جعل على معنى خلق لا يكون إلا خلقا ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عن المعنى فما قال الله جعل على معنى خلق كذلك قوله: { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } يعني خلق الظلمات والنور، { وجعلنا الليل والنهار آيتين }
يقول خلقنا الليل والنهار آيتين: قال { وجعل الشمس سراجا } وقال: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } يقول خلق منها زوجها خلق من آدم حواء، وقال: { وجعل لها رواسي } ومثله في القرآن كثير فهذا وما كان مثاله لا يكون مثاله إلا على معنى خلق وقوله: { ما جعل الله من بحيرة } لا يعني ما خلق الله من بحيرة، وقال الله لإبراهيم: { إني جاعلك للناس إماما } لا يعني أني خالقك للناس إماما لأن خلق إبراهيم كان متقدما قال إبراهيم: { رب اجعل هذا بلدا آمنا }، وقال: { رب اجعلني مقيم الصلاة } لا يعني، خلقني مقيم الصلاة، وقال: { يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } لا يعني يريد الله أن لا يخلق لهم حظا في الآخرة، وقال لأم موسى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } لا يعني وخالقوه من المرسلين ; لأن الله تعالى وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعد ذلك مرسلا، وقال: { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم } لا يعني فيخلقه في جهنم، وقال: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } وقال: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } لا يعني خلقه دكا ومثله
في القرآن كثير وما كان على مثاله لا يكون على معنى خلق، فإذا قال تعالى جعل على معنى خلق وقال جعل على غير معنى خلق فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى الخلق، فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، فلما قال الله عز وجل: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } يقول جعله جعلا على معنى فعل من أفعال الله على غير معنى خلق، وقال في سورة يوسف: { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }، وقال: { بلسان عربي مبين } وقال: { فإنما يسرناه بلسانك } فلما جعل الله القرآن عربيا ويسره بلسان نبيه كان ذلك فعلا من أفعال الله جعل به القرآن عربيا، ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه، وقال البخاري في صحيحه، باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون، وقال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية، بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء، قلنا: لم أنكرتم ذلك ؟ قالوا: لأن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع، فزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، فقلنا فهل يجوز لمكون أو لغير الله أن يقول لموسى { لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } وإني أنا ربك ؟ فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمية أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون يا موسى أنا الله رب العالمين، ولا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين وقد قال الله جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما }، وقال: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال: { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } فهذا منصوص القرآن قال: وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان } قال: وأما قولهم إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله عز وجل قال للسماوات والأرض: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أتراه أنها قالت بجوف وشفتين ولسان ؟ وقال الله: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها سبحت بفم وجوف ولسان وشفتين والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان ولكن الله أنطقها كيف شاء من غير أن يقول فم ولسان وشفتان، قال: فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره، فقلنا وغيره مخلوق ؟ قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون وحديث الزهري قال { لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك مت قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك، فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا تشبهه، قال: أسمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله }، قال وقلنا للجهمية: من القائل لعيسى يوم القيامة { يا
عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } أليس الله هو القائل قالوا: يكون الله شيئا يعبر عن الله كما يكون فعبر لموسى فقلنا: فمن القائل: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } أليس الله هو الذي يسأل ؟ قالوا: هذا كله إنما يكون الله شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله ; لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول عن مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال أقول إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق، قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء، ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم، ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول إنه كان
ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة، فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر، فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا: نحن نقول كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: (ذرني ومن خلقت وحيدا } أوقد كان لهذا الذي سماه وحيدا عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد، وكذلك ذكر الأشعري في المقالات
قلت وفي هذا الكلام الذي ذكره الإمام أحمد رد على الطائفتين المختلفتين في معنى قول أحمد وسائر السلف في معنى أن القرآن غير مخلوق هل المراد أنه قديم لازم لذاته لا يتعلق بالمشيئة والقدرة كالعلم أو المراد أنه لم يزل متكلما كما يقال لم يزل خالقا، وقد ذكر الخلاف في ذلك عن أصحاب الإمام أحمد أبو بكر عبد العزيز في كتاب المقنع، وذكره عنه القاضي أبو يعلى في كتاب البيان في القرآن مع أن القاضي وأتباعه يقولون بالقول الأول ويتأولون كلام أحمد المخالف لذلك على الأسماع ونحوه، وليس الأمر كذلك وهذه المسألة هي التي وقعت الفتنة بها بين الإمام أبي بكر بن خزيمة وبعض أصحابه، وكلام أحمد والأئمة ليس هو قول هؤلاء ولا قول هؤلاء، بل فيه ما أثبته هؤلاء من الحق وما أثبته هؤلاء من الحق وكل من الطائفتين أثبت من الحق ما أثبته فإن الإمام أحمد قد بين أنه لم
يزل الله متكلما إذا شاء وإذا نظر ذلك بالعلم والقدرة والنور فليس كالمخلوقات الباينة عنه، لأن الكلام من صفاته وليس كالصفة القائمة به التي لا تتعلق بمشيئته ولهذا قال أحمد في رواية حنبل: لم يزل الله متكلما عالما غفورا، وقد ذكرنا كلام ابن عباس في دلالة القرآن على ذلك فذكر أحمد ثلاث صفات متكلما عالما غفورا، فالتكلم يشبه العلم من وجه ويشبه المغفرة من وجه فلا يشبه بأحدهما دون الآخر فالطائفة التي جعلته كالعلم من وجه والطائفة التي جعلته كالمغفرة من كل وجه قصرت في معرفته وليس هذا وصفا له بالقدرة على الكلام بل هو وصف له بوجود الكلام إذا شاء، وسيجيء كلام أحمد في رواية المروزي .
 
من العلم والكلام " وليسا من الخلق لأنه لم يخل منهما ولم يزل الله متكلما عالما، فقد نفى عنهما الخلق في ذاته أو غير ذاته، وبين أنه لم يخل منهما، وهنا يبين أنه لم يخلق القرآن لا في ذاته ولا خارجا عنه، وفي كلامه دليل على أن قول القائل تحله الحوادث أو لا تحله الحوادث كلاهما منكر عنده، وهو تقتضي أصوله لأن في نفي ذلك بدعة وفي إثباته أيضا بدعة ولهذا أنكر أحمد على من قال القرآن محدث إذ كان معناه عندهم معنى الخلق المخلوق، كما روى الخلال عن الميموني أنه قال لأبي عبد الله، ما تقول فيمن قال إن أسماء الله محدثة، فقال: كافر، ثم قال لي: الله من أسمائه، فمن قال إنها محدثة، فقد زعم أن الله مخلوق، وأعظم أمرهم عنده وجعل يكفرهم، وقرأ علي { الله ربكم ورب آبائكم الأولين } وذكر آية أخرى، وقال الخلال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه كلامه في داود الأصبهاني، وكتاب محمد بن يحيى النيسابوري فقال: جاءني داود فقال: تدخل على أبي عبد الله وتعلمه قصتي وأنه لم يكن مني يعني ما حكوا عنه، قال: فدخلت على أبي فذكرت له ذلك قال: ولم أعلم أنه على الباب - فقال لي: كذب قد
جاءني كتاب محمد بن يحيى، هات تلك الضبارة قال الخلال وذكر الكلام فلم أحفظه جيدا، فأخبرني أبو يحيى عن زكريا أبو الفرج الرازي قال: جئت يوما إلى أبي بكر المروزي وإذا عنده عبد الله بن أحمد، فقال له أبو بكر: أحب أن تخبر أبا يحيى ما سمعت من أبيك في داود الأصبهاني، فقال عبد الله: لما قدم داود من خراسان جاءني فسلم علي فسلمت عليه فقال لي قد علمت شدة محبتي لكم وللشيخ، وقد بلغه عني كلام فأحب أن تعذرني عنده وتقول له أن ليس هذا مقالتي أو ليس كما قيل لك، فقلت: لا تريد ؟ فأبي فدخلت إلى أبي فأخبرته أن داود جاء فقال إنه لا يقول بهذه المقالة وأنكر، قال: جئني بتلك الإضبارة [ الكتب ] فأخرج منها كتابا فقال هذا كتاب محمد بن يحيى النيسابوري وفيه أنه يعني داود الأصبهاني - أحل في بلدنا الحال والمحل، وذكر في كتابه أنه قال القرآن محدث فقلت له إنه ينكر ذلك، فقال: محمد بن يحيى أصدق منه لا نقبل قول عدو الله، أو نحو ما قال أبو يحيى وأخبرني أبو بكر المروزي بنحو ذلك، قال الخلال، وأخبرني الحسين بن عبد الله - يعني الخرقي - والد أبي القاسم صاحب المختصر، قال: سألت أبا بكر المروزي
عن قصة داود الأصبهاني وما أنكر عليه أبو عبد الله فقال: كان داود خرج إلى خراسان إلى إسحاق بن راهويه، فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وشيخ من أصحاب الحديث من قطيعة الربيع، شهدوا عليه أنه قال القرآن محدث، فقال لي أبو عبد الله: من داود بن علي الأصبهاني لا فرج الله عنه، فقلت: هذا من غلمان أبي ثور، قال جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدث، ثم إن داود قدم إلى ههنا فذكر نحو قصة عبد الله، قال المروزي وحدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري أن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه لما سمع كلام داود في بيته وثب عليه إسحاق فضربه وأنكر عليه، هذه قصته، قال الخلال أخبرني محمد بن جعفر الراشدي قال: لقيت ابن محمد بن يحيى بالبصرة عند بندار، فسألته عن داود فأخبرني بمثل ما كتب به محمد بن يحيى إلى أحمد بن حنبل، وقال: خرج من عندنا من خراسان بأسوإ حال وكتب لي بخطه وقال شهد عليه بهذا القول بخراسان علماء نيسابور، قلت: أما الذي تكلم به عند إسحاق فأظنه كلامه في مسألة اللفظ فإنه قال: الأمرين كما قال الخلال، سمعت أحمد بن محمد
بن عبد الله بن صدقة، سمعت أبا عبد الله محمد بن الحسن بن صبيح قال سمعت داود الأصبهاني يقول: القرآن محدث ولفظي بالقرآن مخلوق، قلت فأنكر الأئمة على داود قوله إن القرآن محدث لوجهين: أحدهما: أن معنى هذا عند الناس كان معنى قول من يقول القرآن مخلوق، وكانت الواقفة الذين يعتقدون أن الخلق مخلوق ويظهرون الوقف، فلا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون إنه محدث، ومقصودهم مقصود الذين قالوا هو مخلوق فيوافقونهم في المعنى ويستترون بهذا اللفظ فيمتنعون عن نفي الخلق عنه، وكان إمام الواقفة في زمن أحمد محمد بن شجاع الثلجي يفعل ذلك وهو تلميذ بشر المريسي وكانوا يسمونه ترس الجهمية، ولهذا حكى أهل المقالات عنه ذلك، قال الأشعري في كتاب المقالات " القول في القرآن " قالت المعتزلة والخوارج وأكثر الزيدية والمرجئة وكثير من الرافضة: " إن القرآن كلام الله وإنه مخلوق لله لم يكن ثم كان وقال هشام بن الحكم ومن ذهب مذهبه أن القرآن صفة لله لا يقال مخلوق ولا أنه خالق هذه الحكاية عنه وزاد الثلجي في الحكاية عنه أنه قال: لا يقال غير مخلوق أيضا كما لا يقال مخلوق لأن الصفات لا توصف، وحكى
زرقان عنه أن القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن، وأما القرآن ففعل الله، مثل العلم والحركة منه لا هو هو ولا هو غيره، قال محمد بن شجاع الثلجي ومن وافقه من الواقفة: إن القرآن كلام الله وإنه محدث كان بعد أن لم يكن وبالله كان وهو الذي أحدثه وامتنعوا من إطلاق القول بأنه مخلوق، أو غير مخلوق وقال زهير: ألا يرى أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد، وبلغني عن بعض المتفقهين كان يقول: إن الله لم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل قادرا على الكلام، ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق، قال وهذا قول داود الأصبهاني، وقال أبو معاذ التومني: القرآن كلام الله حدث وليس بمحدث وفعل ليس بمفعول وامتنع أن يزعم أنه خلق ويقول ليس يخلق ولا مخلوق وأنه قائم بالله ومحال أن يتكلم الله بكلام قائم بغيره، كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره، وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه أن ذلك أجمع قائم بالله، وكان يقول: إن بعض القرآن أمر وهو الإرادة من الله الإيمان لأن معنى أن الله أراد الإيمان هو
أنه أمر به، وحكى زرقان عن معمر أنه قال: إن الله تعالى خلق الجوهر، والأعراض التي هي فيه هي فعل الجوهر إنما هي فعل الطبيعة، فالقرآن فعل الجوهر الذي هو فيه بطبعه فهو لا خالق ولا مخلوق، وهو محدث للشيء الذي هو حال فيه بطبعه وحكي عن ثمامة بن أشرس النميري أنه قال: يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون الله تعالى يبتدئه فإن كان الله ابتدأه فهو مخلوق وإن كان فعل الطبيعة فهو لا خالق ولا مخلوق، قال وهذا قول عبد الله بن كلاب، قال عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه، وإن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وإنه معنى واحد بالله تعالى، وإن الرسم هو الحروف المتغايرة دون قراءة القارئ، وإنه خطأ أن يقال كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وإن العبارات عن كلام الله تعالى تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير كما أن ذكرنا الله يختلف ويتغاير والمدلول لا يختلف ولا يتغاير، وإنما سمي كلام
الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا لعلة وهي أن الرسم الذي هو عبارة عنه عبراني وكذلك سمي أمرا لعلة ونهيا وخبرا لعلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا قبل وجود العلة التي بها يسمى كلامه أمرا وكذلك القول في تسمية كلامه نهيا وخبرا، وأنكر أن يكون البارئ لم يزل مخبرا أو لم يزل ناهيا وقال إن الله لا يخلق شيئا إلا قال له كن فيكون فيستحيل أن يكون قوله كن مخلوقا قال: وزعم عبد الله بن كلاب أن ما يسمع الناس يتلونه هو عبارة عن كلام الله وأن موسى سمع الله متكلما بكلامه وأن معنى قوله: { فأجره حتى يسمع كلام الله } معناه حتى يفهم كلام الله قال ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه حتى يسمع التالين يتلونه قال: وقال بعض من أنكر خلق القرآن إن القرآن قد يكتب ويسمع وإنه متغاير غير مخلوق، وكذلك العلم غير القدرة والقدرة غير العلم وإن الله تعالى لا يجوز أن يكون غير صفاته وصفاته متغايرة وهو غير متغاير قال، وقد حكي عن صاحب هذه المقالة أنه قال: بعض القرآن مخلوق وبعضه غير مخلوق فما كان منه مخلوقا
فمثل صفات المخلوقين وغير ذلك والأخبار عن أفعالهم قال وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث وأن الله تعالى لم يزل به متكلما وأنه مع ذلك حروف وأصوات وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلما بها وحكي عن ابن الماجشون: أن نصف القرآن مخلوق ونصفه غير مخلوق وحكى بعض من يخبر عن المقالات: أن قائلا من أصحاب الحديث قال ما كان علما من علم الله في القرآن فلا نقول مخلوق ولا نقول غير الله وما كان منه أمرا أو نهيا فهو مخلوق، وحكى هذا الحاكي عن سليمان بن جرير قال وهو معه عندي قال وحكى محمد بن شجاع أن فرقة قالت إن القرآن هو الخالق وأن فرقة قالت هو بعضه، وحكى زرقان أن القائل بهذا وكيع بن الجراح وأن فرقة قالت إن الله هو بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن وأن فرقة قالت هو أولى قائم بالله لم يسبقه قال الأشعري وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق كنحو عبد الله بن كلاب ومن قال إنه محدث كنحو زهير ومن قال إنه محدث كنحو أبي معاذ التوني يقولون إن القرآن ليس بجسم ولا عرض قلت: محمد بن شجاع وزر قال ونحوهما هم من الجهمية
ونقلهم عن أهل السنة فيه تحريف في النقل، وقد ذكر الأشعري في أول كتابه في المقالات أنه وجد ذلك في نقل المقالات فإنه قال: أما بعد، فإنه لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات ويصنفون في النحل والديانات، من بين مقصر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكر من قول مخالفيه، وبين معتمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من خالفه ومن بين تارك للتقضي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به، قال: وليس هذا سبيل الديانين ولا سبيل ألفاظ المتميزين، فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمست شرحه من أمر المقالات واختصار ذلك، قلت: وهو نفسه وإن تحدى فيما ينقله ضبطا وصدقا، لكنه أكثر ما ينقله من مذاهب الذين لم يقف على كتبهم وكلامهم هو من نقل هؤلاء المصنفين في المقالات، كزرقان وهو معتزلي وابن الراوندي وهو شيعي، وكتب أبي علي الجبائي ونحوهم فيقع في النقل ما فيه من جهة هؤلاء مثل هذا الموضع، فإن ما ذكره محمد بن شجاع عن فرقة أنها قالت إن
القرآن هو الخالق وفرقة قالت هو بعضه، وحكاية زرقان أن القائل بهذا هو وكيع بن الجراح، هو من باب النقل بتأويلهم الفاسد، وكذلك قوله إن فرقة قالت إن الله بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه، فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن، وذلك أن الذي قاله وكيع وسائر الأئمة إن القرآن من الله، يعنون أن القرآن صفة الله وأنه تعالى هو المتكلم به، وأن الصفة هي مما تدخل في مسمى الموصوف، كما روى الخلال حدثني أبو بكر السالمي، حدثني ابن أبي أويس سمعت مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله من الله وليس شيء من الله مخلوق ورواه اللالكائي من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبد الله بن يزيد الواسطي، سمعت أبا بكر أحمد بن محمد المعمري، سمعت ابن أبي أويس يقول، سمعت خالي مالك بن أنس وجماعة العلماء بالمدينة يذكرون القرآن، فقالوا: كلام الله وهو منه ليس من الله شيء مخلوق وقال الخلال أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: أدركت الناس ما يتكلمون في هذا ولا عرفنا هذا إلا بعد منذ سنين، القرآن كلام الله منزل من عند الله لا يئول إلى
خالق ولا مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هذا الذي لم نزل عليه ولا نعرف غيره، قال الخلال أنبأنا المروزي أخبرني أبو سعيد ابن أخي حجاج الأنماطي، أنه سمع عمه يقول: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق وهو منه، وروى اللالكائي من حديث أحمد بن الحسن الصوفي، حدثنا عبد الصمد مردويه قال: اجتمعنا إلى إسماعيل ابن علية بعد ما رجع من كلامه، فكنت أنا وعلي فتى هشيم وأبو الوليد خلف الجوهري وأبو كنانة الأعور وأبو محمد سرور مولى المعلى صاحب هشيم فقال له علي فتى هشيم: نحب أن نسمع منك ما نؤديه إلى الناس في أمر القرآن فقال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق ومن قال إن شيئا من الله مخلوق فقد كفر، وأنا أستغفر الله مما كان مني في المجلس، وروى من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال أخبرت عن محرز بن عون قال محمد بن يزيد الواسطي: علمه وكلامه منه وهو غير مخلوق، وقال عبد الله أنبأنا إسحاق بن البهلول، سمعت ابن أبي أويس يقول: القرآن كلام الله ومن الله وما كان من الله فليس بمخلوق، وقال الخلال في كتاب السنة، أخبرني محمد بن سليمان قال قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ما تقول
في القرآن عن أي قالة تسأل قلت كلام الله قال كلام الله وليس بمخلوق ولا تجزع أن تقول ليس بمخلوق فإن كلام الله من الله ومن ذات الله وتكلم الله به وليس من الله شيء مخلوق، وروى عن جماعة عن أحمد بن الحسن الترمذي قال سألت أحمد فقلت: يا أبا عبد الله قد وقع في أمر القرآن ما قد وقع فإن سئلت عنه ماذا أقول، فقال لي ألست أنت مخلوقا ؟ قلت نعم، فقال أليس كل شيء منك مخلوقا ؟ قلت نعم، قال فكلام الله أليس هو منه ؟ قلت نعم قال فيكون شيء من الله عز وجل مخلوقا قال الخلال وأخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني حنبل سمعت أبا عبد الله يقول قال الله في كتابه العزيز: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فجبريل سمعه من الله تعالى، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل وسمعه أصحاب النبي من النبي فالقرآن كلام الله غير مخلوق ولا نشك، ولا نرتاب فيه وأسماء الله تعالى في القرآن وصفاته في القرآن وأن القرآن من علم الله وصفاته منه فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر والقرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقد كنا نهاب الكلام في هذا حتى أحدث هؤلاء ما أحدثوا وقالوا ما
قالوا ودعوا الناس إلى ما دعوهم إليه فبان لنا أمرهم وهو الكفر بالله العظيم، ثم قال أبو عبد الله يزال الله عالما متكلما نعبد الله بصفات غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف بها نفسه { سميع عليم } { غفور رحيم } { عالم الغيب والشهادة } { علام الغيوب } ; فهذه صفات الله تبارك وتعالى وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال { ثم استوى على العرش } كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا يبلغه صفة الواصفين وهو كما وصف نفسه نؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه كل من عند ربنا قال الله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } نترك الجدال في القرآن والمراد فيه لا نجادل ولا نماري ونؤمن به كله ونرده إلى عالمه تبارك وتعالى فهو أعلم به منه بدأ وإليه يعود قال أبو عبد الله وقال لي عبد الرحمن بن إسحاق كان الله ولا قرآن فقلت مجيبا له: كان الله ولا علم، فالعلم من الله وله وعلم الله منه، والعلم غير مخلوق فمن قال أنه مخلوق فقد كفر بالله وزعم أن الله مخلوق فهذا الكفر البين الصراح .
 
وذكر أن محمد بن شجاع إمام الواقف هو وأصحابه الذين لا يقولون القرآن مخلوق ولا غير مخلوق يطلقون عليه أنه محدث، بمعنى أنه أحدثه في غيره، وهو معنى قول من قال إنه مخلوق ليس بينهما فرق إلا في اللفظ، وقد سلك هذا المسلك طوائف من أهل البدع من الرافضة وغيرهم، يقولون هو محدث مجعول ولا يقولون هو مخلوق، ويزعمون أن لفظ الخلق يحتمل المفتري، وهم في المعنى موافقون لأصحاب المخلوق، وقد وافقهم على الترادف طوائف الكلابية والأشعرية وطوائف من أهل الفقه والحديث والتصوف، يقولون المحدث هو المخلوق في غيره لا يسمون محدثا إلا ما كان كذلك، فهؤلاء كلهم يقولون من قال إنه محدث كان معنى قوله إنه مخلوق ولزمه القول بأنه مخلوق فهو أحد الوجهين للإنكار على داود الأصبهاني وغيره ممن قال إنه محدث وأطلق القول بذلك، وإن كان داود وأبو معاذ وغيرهما لم يريدوا بقولهم أنه محدث أنه بائن عن الله كما يريد الذين يقولون إنه مخلوق، بل ذهب داود وغيره ممن قال إنه محدث وليس بمخلوق من أهل الإثبات أنه هو الذي تكلم به، وأنه قائم بذاته ليس بمخلوق منفصل عنه، ولعل هذا كان مستند داود في قوله لعبد
الله أحب أن تعذر بي عنده، وتقول له ليس هذا مقالتي أو ليس كما قيل لك، فإنه قد يكون قصد بذلك أني لا أقول إنه محدث بالمعنى الذي فهموه وأفهموه وهو أنه مخلوق، وليس هذا مذهبي، ولم يقبل أحمد قوله لأن هذا القول منكر، ولو فسره بهذا التفسير لما ذكرناه ولأنه أنكر مطلقا فلم يقربا للفظ الذي قاله وقد قامت عليه البينة به فلم يقبل إنكاره بعد الشهادة عليه، ولأنه أظهر مع هذه البدعة بدعة أخرى وهي إباحة التحليل وهو مذهبه .
 
فعارض هؤلاء طائفة قالت إن القرآن هو الحرف والصوت أو الحروف والأصوات وقالوا إن حقيقة الكلام هو الحروف والأصوات، ولم يجعلوا المعاني داخلة في مسمى الكلام، وهؤلاء وافقوا المعتزلة الجهمية في قولهم إن الكلام ليس هو إلا الحروف والأصوات، لكن المعتزلة لا يقولون إن الله تكلم بكلام قائم به، وحقيقة قولهم إن الله لم يتكلم بشيء وهؤلاء يقولون إن الله تكلم بذلك وإن كلام الله قائم به وإن كلام الله غير مخلوق وهؤلاء أخرجوا المعاني أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله كما أخرج الأولون الحروف والأصوات أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله لكن هؤلاء الذين يقولون إن الكلام ليس هو إلا الحروف والأصوات لا يمنعون أن يكون الكلام معنى بل الناس كلهم متفقون على أن الحروف والأصوات التي يتكلم بها المتكلم تدل على معان وإنما النزاع بينهم في شيئين: أحدهما: إن تلك المعاني هل هي من جنس العلوم والإرادات أم هي حقيقة أخرى ليست هي العلوم والإرادات فالأولون يقولون ذلك المعنى حقيقة غير حقيقة العلم والإرادة والآخرون يقولون ليست حقيقته تخرج عن ذلك، والنزاع الثاني: أن مسمى الكلام هل هو
 
المعنى أو هو اللفظ فالذين يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق ويقولون الكلام هو الحروف والأصوات هم وإن وافقوا المعتزلة في مسمى الكلام فإنهم يقولون إن معنى الكلام سواء كان هو العلم والإرادة أو أمرا آخر قائما بذات الله والجهمية من المعتزلة وغيرهم نحوهم لا تثبت معنى قائما بذات الله بل هؤلاء يقولون إن الكلام الذي هو الحروف قائم بذات الله أيضا فموافقة هؤلاء المعتزلة أقل من موافقة الأولين بكثير والصواب الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فاللفظ والمعنى داخل في مسمى الكلام والأقوال في ذلك أربعة: أحدها: أن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى كما تقوله الطائفة الثانية، والثاني: أنه حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ كما يقوله جمهور الأولين، والثالث: أنه مشترك بينهما كما يقوله طائفة من الأولين، والرابع: أنه حقيقة في المجموع وإذا أريد به أحدهما دون الآخر احتاج إلى قرينة وهذا قول أهل الجماعة، وقد يحكي الأولون عن الآخرين أنهم يقولون إن القرآن قديم غير مخلوق وإن القديم الذي ليس بمخلوق هو الحروف والأصوات القائمة بالمخلوقات وهي أصوات العباد ومداد
المصاحف فيحكون عنهم أن نفس صوت العبد ونفس المداد قديم أزلي غير مخلوق وهذا مما يعلم كل أحد فساده بالحس والاضطرار وما وجدت أحدا من العلماء المعروفين يقر بذلك بل ينكرون ذلك ولكن قد يوجد مثل هذا القول في بعض الجهال من أهل البوادي والجبال ونحوه وإنكار ذلك مأثور عن الأئمة المتقدمين كما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال قال وقال إسحاق بن إبراهيم فأما الأوعية فمن شك في خلقها قال الله تعالى: { وكتاب مسطور، في رق منشور }، وقال: { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ }، فذكر محمد بن نصر وحية في كتابه عن أحمد بن عمر عن عبدان عن ابن المبارك قال الورق والمداد مخلوق فأما القرآن فليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ولكن منهم طائفة يقولون إن لفظهم بالقرآن أو الصوت المسموع منهم غير مخلوق أو أنه يسمع منهم الصوت المخلوق والصوت الذي ليس بمخلوق لكن هذا مما أنكره عليهم أئمتهم وجماهيرهم، والآخرون يحكون عن الأولين أنه ليس لله في الأرض كلام وأن هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله وأنه ليس لله في الأرض كلام وإنما هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله وهؤلاء صادقون
في هذا النقل فإن هذا قول الأولين وهم أول من ابتدع في الإسلام القول بالحكاية والعبارة وهي البدعة التي أضافها المسلمون إلى ابن كلاب والأشعري فإن ابن كلاب قال الحروف حكاية عن كلام الله وليست من كلام الله لأن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم والله يمتنع أن يقوم به حروف وأصوات فوافق الجهمية والمعتزلة في هذا النفي فجاء الأشعري بعده وهو موافق لابن كلاب على عامة أصوله فقال الحكاية تقتضي أن تكون مثل المحكي وليس الحروف مثل المعنى بل هي عبارة عن المعنى ودالة عليه وهم وأتباعهم يقولون إن تسمية ذلك كلاما لله مجازا لا حقيقة ويطلقون القول الحقيقي بأن أحدا من المسلمين لم يسمع كلام الله وأمثال ذلك سواء قالوا إن الحروف تسمى كلاما مجازا أو بطريق الاشتراك بينهما وبين المعاني لأنها وإن سميت كلاما بطريق الاشتراك فالكلام عندهم وعند الجماعة لا بد أن يقوم بالمتكلم فيصح على أحد قولهم أن تكون الحروف والأصوات كلاما للعباد حقيقة لقيامها بهم ولا يصح أن تكون كلاما لله حقيقة لأنها لا تقوم به عندهم بحال فلو قال أحد منهم إن الحروف التي يخلقها الله في الهواء تسمى كلاما له حقيقة أو إن ما يسمع من العباد أو يوجد في المصاحف يسمى كلام الله حقيقة للزمه أن يجعل مسمى الكلام ما لا يقوم بالمتكلم بل يكون دلالة على ما يقوم المتكلم وإن كان مخلوقا له وهذا ما وجدته لهم وهو ممكن أن يقال لكن متى قالوه انتقض عليهم عامة الحجج التي أبطلوا بها مذهب المعتزلة عليهم وصار للمعتزلة حجة قوية، وقد يحكي الآخرون عن الأولين أنهم يستهينون بالمصاحف فيطئونها وينامون عليها ويجعلونها مع نعالهم وربما كتبوا القرآن بالعذرة وغير ذلك مما هو من أفعال المنافقين الملحدين وهذا يوجد في أهل الجفاء والغلو منهم لما ألقى إليهم أئمتهم أن هذا ليس هو كلام الله صاروا يفرعون على ذلك فروعا من عندهم لم يأمرهم بها أئمتهم وإنما هي من أفعال الزنادقة المنافقين وإلا فلا خلاف بين من يعتقد الإسلام في وجوب احترام المصاحف وإكرامها وإجلالها وتنزيهها وفي العمل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: { لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو }، وإن كان أهل البدعة يتناقضون في الجمع بين ما جاءت به الشريعة وما اعتقدوه من البدعة لكن التناقض جائز على العباد وهو أيسر عليهم من التزام الزندقة والنفاق والإلحاد
وإن كانت تلك البدعة هي المرقاة إلى هذا الفساد، وأما الطائفة الثانية التي جعلت القرآن هو مجرد الحروف والأصوات فإنهم وافقوا الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وعلى ذلك فإن أولئك جعلوا القرآن وسائر الكلام هو مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعاني لكنهم لم يجعلوا لله كلاما تكلم هو به وقام به ولا جعلوا لهذه الحروف معاني تقوم بالله أصلا إذ عندهم لم يقم بالله لا علم ولا إرادة ولا غير ذلك بل جعلوا الحروف والأصوات مخلوقة خلقها الله في بعض الأجسام كما يزعمون أنه خلق في نفس الشجرة صوتا سمعه موسى حروف ذلك الصوت { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ولا ريب أن هذا يوجب أن تكون الشجرة هي القائلة إنني، أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إذ المتكلم بالكلام هو الذي يقوم به كما أن المتحرك بالحركة والعالم بالعلم وغير ذلك من الصفات والأفعال وغيرها هو من يقوم به الصفة ولا يجوز أن يكون لشيء متكلما بكلام يقوم بغيره ولا يقوم به أصلا كما لا يكون عالما قادرا بعلم وقدرة لا تقوم إلا بغيره ومتحركا بحركة لا تقوم إلا بغيره وطرد ذلك عند المحققين من الصفاتية أنه لا يكون
فاعلا خالقا ومكونا بفعل وخلق وتكوين لا يقوم إلا بغيره كما هو مذهب أهل الحديث والصوفية والفقهاء وطوائف من أهل الكلام .
وأهل الحديث لم يكونوا يتنازعون في تحريم ذلك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وكان محمد بن يحيى من أئمة أهل الحديث، كما قال أبو نعيم الأصبهاني أنبأنا محمد بن عبد الله يعني الحاكم، سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول سمعت خالي عبد الله بن علي بن الجارود يقول: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: كنا عند أحمد بن حنبل فدخل محمد بن يحيى فقام إليه أحمد وتعجب منه الناس ثم قال لبنيه وأصحابه اذهبوا إلى أبي عبد الله فاكتبوا عنه، وقد تنازع الناس في لفظ المحدث هل هو مرادف للفظ المخلوق أم ليس كذلك على قولين، قال الأشعري في المقالات، لما ذكر النزاع في الخلق والكسب والفعل قال واتفق أهل الإثبات على أن معنى مخلوق معنى محدث، ومعنى محدث معنى مخلوق، وهذا هو الحق عندي وإليه أذهب وبه أقول، وقال زهير الأبري وأبو معاذ التومني معنى مخلوق أنه وقع عن إرادة من الله، وقوله له كن، وقال كثير من المعتزلة بذلك منهم أبو الهذيل وقد
قال قائلون معنى المخلوق أن له خلقا، ولم يجعلوا الخلق قولا على وجه من الوجوه منهم أبو موسى وبشر بن المعتمر، الفرق بين المخلوق والمحدث هو اصطلاح أئمة أهل الحديث، وهو موافق للغة التي نزل بها القرآن، ومنهم من يفرق بين حدث ومحدث كما حكى القولين الأشعري، قال البخاري في صحيحه في كتاب الرد على الجهمية في أثناء أبواب القرآن، باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون، ثم قال بعد ذلك قال باب قول الله تعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } ولم يقل ماذا خلق ربكم وقال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }، وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا، حتى إذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق، قال: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول { يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان }، ثم روي عن عكرمة عن أبي هريرة بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على الصفوان حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا: الحق وهو العلي الكبير } ثم قال بعد أبواب باب قول الله تعالى، { كل يوم هو في شأن }، { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }، وقوله، { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين، لقوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وقال ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: { إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة }، وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، قال كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله تقرءونه محضا لم يشك فيه، وروي الزهري أخبرني، عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس قال يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم أحدث الأخبار بالله محضا لم يشك فيه،
وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم الكتب، وقالوا هو من الله ليشتروا بذلك ثمنا قليلا أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم، والذي كان عليه السلف والأئمة أهل السنة والجماعة، أن القرآن الذي هو كلام الله هو القرآن الذي يعلم المسلمون، أنه القرآن والقرآن وسائر الكلام له حروف ومعان فليس الكلام ولا القرآن إذا أطلق اسما لمجرد الحروف ولا أسماء لمجرد المعاني، بل الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فنشأ بعد السلف والأئمة ممن هو موافق للسلف والأئمة على إطلاق القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق طائفتان .
 
ومما ينبغي أن يعلم أن الجهمية لما كانت في نفس الأمر قولها قول أهل الشرك والتعطيل وليس هو قول أحد من أهل الكتب المنزلة ولكن لم يكن لهم بد من موافقة أهل الكتب في الظاهر كانوا في ذلك منافقين عالمين بنفاق أنفسهم كما عليه طواغيتهم الذين علموا بمخالفة أنفسهم للرسل وأقدموا على ذلك وهؤلاء منافقون زنادقة، وأما الجهال بنفاق أنفسهم صاروا في الجمع بين تكذيبهم الباطن وتصديقهم الظاهر جامعين بين النقيضين مضطرين إلى السفسطة في العقليات والقرامطة في السمعيات مفسدين للعقل والدين وقولهم بخلق القرآن ونفي الصفات من أصول نفاقهم وذلك أنه من المعلوم ببداية العقول أن الحي لا يكون حيا إلا بحياة تقوم به ولا يكون حيا بلا حياة أو بحياة تقوم بغيره وكذلك العالم والقادر لا يكون عالما قادرا إلا بعلم وقدرة تقوم به ولا يكون عالما قادرا بلا علم ولا قدرة أو بعلم وقدرة تقوم بغيره، وكذلك الحكيم والرحيم والمتكلم والمريد لا يكون حكيما ولا رحيما أو متكلما أو مريدا إلا بحكمة ورحمة أو كلام وإرادة تقوم به ولا يكون حكيما بلا حكمة ولا رحيما بلا رحمة أو بحكمة ورحمة تقوم بغيره ولا يكون
 
متكلما ولا مريدا بلا كلام ولا إرادة أو بكلام وإرادة تقوم بغيره وكذلك من المعلوم ببداية العقول أن الكلام والإرادة والعلم والقدرة لا تقوم إلا بمحل إذ هذه صفات لا تقوم بأنفسها ومن المعلوم ببداية العقول أن المحل الذي يقوم به العلم يكون عالما والذي تقوم به القدرة يكون قادرا والذي يقوم به الكلام يكون متكلما والذي تقوم به الرحمة يكون رحيما والذي تقوم به الإرادة يكون مريدا فهذه الأمور مستقرة في فطر الناس تعلمها قلوبهم علما فطريا ضروريا والألفاظ المعبرة عن هذه المعاني هي من اللغات التي اتفق عليها بنو آدم فلا يسمون عالما قادرا إلا من قام به العلم والقدرة ومن قام به العلم والقدرة سموه عالما قادرا وهذا معنى قول من قال من أهل الإثبات إن الصفة إذا قدمت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره أي إذا قام العلم والكلام بمحل كان ذلك المحل هو العالم المتكلم دون غيره، ومعنى قولهم إن الصفة إذا قامت بمحل اشتق له منها اسم كما يشتق لمحل العلم عليم ولمحل الكلام متكلم ومعنى قولهم أن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه أي أن لفظ العليم والمتكلم مشتق من لفظ العلم
والكلام فإذا صدق على الموصوف أنه عليم لزم أن يصدق حصول العلم والكلام له ولهذا كان أئمة السلف الذين عرفوا حقيقة قول من قال مخلوق وأن معنى ذلك أن الله لم يقم به كلام بل الكلام قام بجسم من الأجسام غيره وعلموا أن هذا يوجب بالفطرة الضرورية أن يكون ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام دون الله وأن الله لا يكون متكلما أصلا وصاروا يذكرون قولهم بحسب ما هو عليه في نفسه وهو أن الله لا يتكلم وإنما خلق شيئا تكلم عنه وهكذا كانت الجهمية تقول أولا ثم أنها زعمت أن المتكلم من فعل الكلام ولو في غيره واختلفوا هل يسمى متكلما حقيقة أو مجازا على قولين فلهم في تسمية الله تعالى متكلما بالكلام المخلوق ثلاثة أقوال: أحدها: وهو حقيقة قولهم وهم فيه أصدق لإظهارهم كفرهم أن الله لا تكلم ولا يتكلم، والثاني: وهم فيه متوسطون فيه النفاق أنه يسمى متكلما بطريق المجاز، والثالث: وهم فيه منافقون نفاقا محضا أنه يسمى متكلما بطريق الحقيقة وأساس النفاق الذي بني عليه الكذب فلهذا كانوا من أكذب الناس في تسمية الله متكلما بكلام ليس قائما به وإنما هو مخلوق في غيره كما كانوا كاذبين
مفترين في تسمية الله عالما قادرا مريدا متكلما بلا علم يقوم به ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام فكانوا وإن نطقوا بأسمائه فهم كاذبون بتسميته بها وهم ملحدون في الحقيقة كإلحاد الذين نفوا عنه أن يسمى بالرحمن: { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } وبذلك وصفهم الأئمة وغيرهم ممن خبر مقالاتهم كما قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، قلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون وقلنا، لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى، قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يعلم أنهم إنما يقودون بقولهم إلى ضلالة وكفر، وقال بعد ذلك بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء قلنا لم أنكرتم ذلك قالوا إن الله لم يتكلم ولا
يتكلم إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين فقلنا هل يجوز لمكون أو لغيره أن يقول: يا موسى { أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } أو { إني أنا ربك } فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم بأولا أن الله كون الأشياء كأن يقول ذلك المكون يا موسى أنا الله رب العالمين لا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين، وقد قال الله جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما } وقال { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } فهذا منصوص القرآن وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان }، وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان أليس الله قال للسماوات والأرض { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان وقال الله جل ثناؤه { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها
سبحت بجوف وفم وشفتين ولسان والجوارح إذا شهدت على الكافر { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين ولسان ولكن الله أنطقها كما شاء فكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره قلنا غيره مخلوق قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون وحديث الزهري قال { لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك إنما كلمتك على قدر ما تطيق بذلك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا أتصف لنا كلام ربك قال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه لنا قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله }، وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } أليس الله هو القائل قالوا يكون الله شيئا فيعبر عن
الله كما كون فعبر لموسى قلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } أليس الله هو الذي يسأل قالوا هذا كله إنما يكون شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا وكذلك بنو آدم عليه السلام وكلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة فقالت
الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن لم يزل بنوره وبقدرته لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد سميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل .