الفرق بين المراجعتين لصفحة: «داعي السماء: بلال بن رباح/الأذان»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
جديدة 'أشبه الأشياء بالدعوة إلى الصلاة دعوةٌ تكون من معدن الصلاة، وتنم على صوت من أصوات الغيب المحجَّب بال...'
 
لا ملخص تعديل
سطر 13:
التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومئ إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة،
العجيبة غاية العجب؛ لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد الأبيد، وأحوج الحقائق إلى
التكرار بين شواغل الدنيا وعوارض الفناء.
المسلم في صلاةٍ منذ يسمعها تدعوه إلى الصلاة؛ لأنه يذكر بها عظمة لله، وهي لب لباب الصلوات.
.
المسلم في صلاةٍ منذ يسمعها تدعوه إلى الصلاة؛ لأنه يذكر بها عظمة لله، وهي لب
لباب الصلوات.
 
وتنفرج عنها هدأة الليل فكأنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة الحية تلبيها الأسماع
والأرواح، وينصت لها الطير والشجر، ويخف لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها : إن الصلاة خير من النوم
التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها : إن الصلاة خير من النوم
 
فتخرج كلها إلى الحركة بعد لمحة أو لمحتين، وتقول كلها: إن الحركة صلاة خفية
السطر 36 ⟵ 33:
<br/>حي على الفلاح!
<br/>نعم هذا هو الفلاح جد الفلاح؛ لأن كل فلاح بغير الإيمان هو الخسار كل الخسار.
 
وما يعرف وقع الأذان من شيء كما يعرف من وقعه بمعزل عن العقيدة ومعزل عن
العادة والسنة المتبعة، أو كما يعرف من وقعه في بداءة الأطفال وبداءة الغرباء عن البلاد،
وعن عقيدة الإسلام.
 
ففي الطفولة نسمع الأذان ولا نفهمه، ولكننا نميزه حين يحيط بنا بين دعوات هذه
الأرضوبين صيحات اللعب وصيحات البيع والشراء، ونؤخذ به ونحن لا ندري بم نؤخذ،
فنكاد « بأمر لله » ونود لو نساجله ونصعد إليه ونستجيب دعاءه، ويفسره المفسرون لنا
نفهم كلمة الأمر ونكاد نفهم كلمة لله، ولكننا نحار في البقية ونحيلها إلى الزمن المقبل …
ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة
بأننا ما نزال حائرين، وإن سميت الحيرة بأسماء بعد أسماء وأطلق عليها عنوان بعد
عنوان.
 
وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظة من اللحظات
فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة
ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه.
 
إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان
الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها
القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة، لو تستطاع وثبة إلى
ماضبعيد أو قريب.
 
أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يلفتهم شيء من شعائر العبادة
الإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية، كيفما اختلف الترتيل والتنغيم.
 
يقول إدوارد وليام لين صاحب كتاب (أحوال المصريين المحدثين وعاداتهم) : إن أصوات الأذان أخاذة جدٍّا، ولا سيما في هدأة الليل.
 
ويقول جيرار دي نرفال في كتابه سياحة بالمشرق : إنني لأول مرة سمعت فيها صوت المؤذن الرخيم الناصع خامرني شعور من الشجو لا يوصف. وسألت الترجمان: ماذا يقول هذا الهاتف؟ <br/>
فقال: إنه ينادي أن لا إله إلا لله. قلت: فماذا يقول بعد هذا؟ <br/>
فقال: إنه يدعو النيام قائلًا: يا من ينام توكل على الحي الذي لا ينام …
 
وأنشأ الكاتب المتصوف La Fcadio Hearn لافكاديو هيرن رسالة وجيزة عن
المؤذن الأول — أي بلال بن رباح — ستأتي ترجمتها بعد هذا الفصل فقال:
 
إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة شرقية، وعلى مقربة من
إحدى المنائر، قلما تفوته خشعة الفؤاد لذلك الجمال الموقور الذي ينبعث
به دعاء المسلمين إلى الصلاة … وهو لا شك يستوعب في قلبه — إذا كان
قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة — كل كلمة من كلمات تلك الدعوة
المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة، حيثما أرسل
الفجر ضياءه المورد في سماء مصر أو سورية وفاض بها على النجوم. وإنه
ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح:
يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة، ويسمعه قبيل غياب الشمس والمغرب
يتألق بألوان القرمز والنضار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان
الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزمرد، ثم يسمعه آخر الأمر حين
تومض من فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق
مسجد لله الذي لا يزول. ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات
مقنعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه كما فعل جيرار
دي نرفال أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي
الذي لا ينام … عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في
المشرق على بعض الحجارة الكريمة ومنها ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ … فإن
إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة شرقية، وعلى مقربة من كان الترجمان ممن يعون طرفًا من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول
— أول من رتل الدعاء إلى الصلاة — كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي
الإسلام لهذه الدعوة، بلال بن رباح، صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح
في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم.
 
وقد لمسنا نحن أثر الأذان البالغ في روع كثير من السائحين والسائحات الذين
ينزلون ببلدتنا أسوان خلال الشتاء، أو يمرون بها في الطريق من السودان وإليه.
فإنهم كانوا يصلون إلى أسوان وقد سمعوا الأذان مرات في القاهرة والإسكندرية،
وربما سمعوه في غيرهما من البلدان الإسلامية، ولكنه كان يفاجئهم بجدة لا تبلى كلما
طرق أسماعهم بالليل أو النهار — ولا سيما في أيام الجمعة. وكان من المصادفات الطيبة
أن مؤذن الجامع الأكبر بالمدينة كان حسن الصوت منطلق الدعاء، يمزج الغيرة الدينية
بالغيرة الفنية في أذانه، فكان يخيل إلينا وهم يصغون إليه أنهم يتسمعون هاتفًا من
هواتف الغيب يطرق الأسماع في وقت رتيب، أو يترقبون طائرًا من طوائر الهجرة التي
تأتي في الأوان، ولكن كما يأتي كل شيء غريب.
 
وكان من عادات المؤذنين التي لبثوا يعيدونها في شهر رمضان إلى عهد قريب أن
يدقوا طبول السحور على المنائر العالية في الهزيع الأخير من الليل. فشكا بعضالنازلين
بالفنادق القريبة من المنارة وترددوا في تبليغ شكواهم إلى رجال الحكومة؛ لأنهم حسبوا
هذه الطبول شعيرة من شعائر الإسلام، فلما سأل عنها بعضُ مثقفيهم وقيل لهم: إنها
عادة من عادات البلد وليست شعيرة من شعائر الدين تقدموا برجائهم وقالوا: إننا لا
نشكو من الأذان؛ لأنه لا يقلقنا ولا يزال يسري إلينا في ساعة الفجر كما يسري الحلم
الجميل، ولكننا نقلق من هذه الطبول التي تدق فوق رءوسنا، وكنا نحتملها لو علمنا
أنها شعيرة لا تبديل لها. ولكننا علمنا أنها تبدل في كل بلد إسلامي على حسب عاداته،
وأن المدن الكبرى تستبدل بها طبولًا صغيرة تدق على الأبواب: فاسمحوا لنا أن نهدي إلى
البلد بعض هذه الطبول.
 
وكانت هذه الطبول مما يباع في كل موسم للسائحين على أحجام مختلفة؛ لأنها
كانت تستخدم في عهد الدراويش بالسودان، إما لجمع الجند أو لتنبيه الغافلين أو
للتوقيع والتنغيم، وكانت ملابس الدراويش وأسلحتهم وأدوات معيشتهم مما يبحث عنه
السائحون في أسواق البلدة، فتبرعوا بالطبول الصغيرة فرحين؛ لأنها تنقذهم من قرع الطبول حين يختلط بأصوات المؤذنين، فيقلقهم ويشوه عندهم جمال الأذان الخفيف على أسماع النيام.