الفرق بين المراجعتين لصفحة: «إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الصلاة ومهماتها/الباب الثالث»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
اتنان
سطر 16:
 
===بيان اشتراط الخشوع وحضور القلب===
اعلم أن أدلة ذلك كثيرة فمن ذلك قوله تعالى "أقم الصلاة لذكري" وظاهر الأمر الوجوب، والغفلة عن تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره? وقوله تعالى "ولا تكن من الغافلين" نهي وظاهره التحريم وقوله عز وجل "حتى تعلموا ما تقولون" تعليل لنهي السكران وهو مطرد في الغافل المستغرق الهم بالوسواس وأفكار الدنيا وقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الصلاة تمسكن وتواضع" حصر بالألف واللام وكلمة "إنما" للتحقيق والتوكيد، وقد فهم الفقهاء من قوله عليه السلام "إنما الشفعة فيما لم يقصر" الحصر والإثبات والنفي، وقوله صلى الله عليه وسلم "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً" وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء والمنكر، وقال صلى الله عليه وسلم "ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها" والتحقيق فيه أن المصلي مناج ربه عز وجل" كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة، وبيانه أن الزكاة إن غفل الإنسان عنها مثلاً فهي في نفسها مخالفة للشهوة شديدة على النفس، وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى الذي هو آلة للشيطان عدو الله، فلا يبعد أن يحصل منها مقصود مع الغفلة، وكذلك الحج أفعاله شاقة شديدة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الإيلام كان القلب حاضراً مع أفعاله أو لم يكن? أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود، فأما الذكر فإنه مجاورة ومناجاة مع الله عز وجل فأما أن يكون المقصود مه كونه خطاباً ومحاورة أو المقصود منه الحروف والأصوات إمتحاناً للسان بالعلم كما تمتحن المعدة والفرج بالإمساك في الصوم، وكما يمتحن البدن بمشاق الحج، ويمتحن بمشقة إخراج الزكاة واقتطاع المال المعشوق. ولاشك أن هذا القسم باطل فإن تحريك اللسان بالهذيان ما أخفه على الغافل فليس فيه امتحان من حيث أنه عمل بل المقصود الحروف من حيث أنه نطق، ولا يكون نطقاً إلا إذا أعرب عما في الضمير ولا يكون معرباً إلا بحضور القلب، فأي سؤال في قوله "إهدنا الصراط المستقيم" إذا كان القلب غافلاً? وإذا لم يقصد كونه تضرعاً ودعاء فأي مشقة في تحريك اللسان به مع الغفلة لاسيما بعد الاعتياد? هذا حكم الأذكار بل أقول لو حلف الإنسان وقال: لأشكرن فلاناً وأثنى عليه وأسأله حاجة؛ ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في النوم لم يبر في يمينه، ولو جرت على لسانه في ظلمة وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير باراً في يمينه إذ لا يكون كلامه خطاباً ونطقاً معه ما لم يكن هو حاضراً في قلبه، فلو كانت تجري هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر إلا أنه في بياض النهار غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب إليه عند نطقه لم يصر باراً في يمينه. ولاشك أن المقصود من القراءة والأذكار الحمد والثناء والتضرع والدعاء، والمخاطب هو الله عز وجل وقلبه بحجاب الغفلة محجوب عنه فلا يراه ولا يشاهده بل هو غافل عن المخاطب ولسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد هذا عن المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب وتجديد ذكر الله عز وجل ورسوخ عقد الإيمان به! هذا حكم القراءة والذكر. وبالجملة فهذه الخاصية لا سبيل إلى إنكارها في النطق وتمييزها عن الفعل. وأما الركوع والسجود فالمقصود بهما التعظيم قطعاً ولو جاز أن يكون معظماً لله عز وجل بفعله وهو غافل عنه لجاز أن يكون معظماً لصنم موضوع بين يديه وهو غافل عنه، أو يكون معظماً للحائط الذي بين يديه وهو غافل عنه، وإذا خرج عن كونه تعظيماً لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس وليس فيه من المشقة ما يقصد الامتحان به، ثم يجعله عماد الدين والفاصل بين الكفر والإسلام ويقدم على الحج وسائر العبادات ويجب القتل بسبب تركه على الخصوص، وما أرى أن هذه العظمة كلها للصلاة من حيث أعمالها الظاهرة إلا أن يضاف إليها مقصود المناجاة فإن ذلك يتقدم على الصوم والزكاة والحج وغيره بل الضحايا والقرابين التي هي مجاهدة للنفس بتنقيص المال قال الله تعالى "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" أي الصفة التي استولت على القلب حتى حملته على امتثال الأوامر هي المطلوبة فكيف الأمر في الصلاة ولا أرب في أفعالها? فهذا ما يدل من حيث المعنى على اشتراط حضور القلب. فإن قلت: إن حكمت ببطلان الصلاة وجعلت حضور القلب شرطاً في صحتها خالفت إجماع الفقهاء فإنهم لم يشترطوا إلا حضور القلب عند التكبير? فاعلم أنه قد تقدم في كتاب العلم: أن الفقهاء لا يتصرفون في الباطن ولا يشقون عن القلوب ولا في طريق الآخرة بل يبنون أحكام الدين على ظاهر أعمال الجوارح؛ وظاهر الأعمال كاف لسقوط القتل وتعزير السلطان؛ فأما أنه ينفع في الآخرة فليس هذا من حدود الفقه على أنه لا يمكن أن يدعى الإجماع. فقد نقل عن بشر بن الحارث فيما رواه عنه أبو طالب المكي عن سفيان الثوري أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته وروي عن الحسن أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وع معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي أيضاً مسنداً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن العبد لصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها" وهذا لو نقل عن غيره لجعل مذهباً فكيف لا يتمسك به? وقال عبد الواحد بن زيد: أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فجعله إجماعاً، وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين وعن علماء الآخرة أكثر من أن يحصى. والحق الرجوع إلى أدلة الشرع والأخبار، والآثار ظاهرة في هذا الشرط إلا أن مقام الفتوى في التكليف الظاهر يتقدر بقدر قصور الخلق. فلا يمكن أن يشترط على الناس إحضار القلب في جميع الصلاة فإن ذلك يعجز عنه كل البشر إلا الأقلين وإذا لم يمكن اشتراط الاستيعاب للضرورة فلا مرد له إلا أن يشترط منه ما يطلق عليه الاسم ولو في اللحظة الواحدة، وأولى اللحظات به لحظة التكبير فاقتصرنا على التكليف بذلك. ونحن مع ذلك نرجو أن لا يكون حال الغافل في جميع صلاته مثل حال التارك بالكلية. فإنه على الجملة أقدم على العمل ظاهراً وأحضر القلب لحظة. وكيف لا والذي صلى مع الحدث ناسياً صلاته باطلة عند الله تعالى ولكن له أجر ما بحسب فعله وعلى قدر قصوره وعذره، ومع هذا الرجاء فيخشى أن يكون حاله أشد من حال التارك وكيف لا والذي يحضر الخدمة ويتهاون بالحضرة ويتكلم بكلام الغافل المستحقر أشد حالاً من الذي يعرض عن الخدمة? وإذا تعارض أسباب الخوف والرجاء وصار الأمر محظراً في نفسه فإليك الخيرة بعده في الاحتياط والتساهل. ومع هذا فلا مطمع في مخالفة الفقهاء فيما أفتوا به من الصحة مع الغفلة فإن ذلك من ضرورة الفتوى - كما سبق التنبيه عليه - ومن عرف سر الصلاة علم أن الغفلة تضادها. ولكن قد ذكرنا في باب الفرق بين العلم الباطن والظاهر في كتاب قواعد العقائد أن قصور الخلق أحد الأسباب المانعة عن التصريح بكل ما ينكشف من أسرار الشرع. فلنقتصر على هذا القدر من البحث فإن فيه مقنعاً للمريد الطالب لطريق الآخرة. وأما المجادل المشغب فلسنا نقصد مخاطبته الآن وحاصل الكلام أن حضور القلب هو روح الصلاة وأن أقل ما يبقى به رمق الروح الحضور عند التكبير. فالنقصان منه هلاك وبقدر الزيادة عليه تنبسط الروح في أجزاء الصلاة. وكم من حي لا حراك به قريب من ميت? فصلاة الغافل في جميعها إلا عند التكبير كمثل حي لا حراك به نسأل الله حسن العون
 
===بيان المعاني الباطنة التي تتم بها حياة الصلاة===