علّة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطلوالخطل. ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبرالوبر. وكذلك أيضاً لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنهاعنها. وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدوياً فصيحافصيحا. وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منهمنه. وقد كان طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية ويتباعد عن الضعفة الحضرية فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له وميزناه تمييزاً حسن في النفوس موقعه إلى أن أنشدني يوماً شعرا لنفسه يقول في بعض قوافيهقوافيه: أشئؤها وادأؤها بوزن أشععها وأدععها فجمع بين الهمزتين كما ترى واستأنف من ذلك ما لا أصل له ولا قياس يسوغهيسوغه. نعم وأبدل إلى الهمز حرفا لا حظ في الهمز له بضد ما يجب لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما فكيف أن يقلب إلى الهمز قلباً ساذجاً عن غير صنعة ما لا حظ له في الهمز ثم يحقق الهمزتين جميعاًجميعاً! هذا ما لا يتيحه قياس ولا ورد بمثله سماعسماع. فإن قلتقلت: فقد جاء عنهم خطائئ ورزائئ ودريئة ودرائئ ولفيئة ولفائئ وأنشدوا قولهقوله: فإنك لا تدري متى الموت جائئ إليك ولا ما يحدث الله في غد قيلقيل: أجل قد جاء هذا لكن الهمز الذي فيه عرض عن صحة صنعة ألا ترى أن عين فاعل مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلا مهموزة نحو قائم وبائع فاجتمعت همزة فاعل وهمزة لامه فصححها بعضهم في بعض الاستعمالالاستعمال. وكذلك خطائئ وبابهاوبابها: عرضت همزة فعائل عن وجوب كهمزة سفائن ورسائل واللام مهموزة فصحت في بعض الأحوال بعد وجوب اجتماع الهمزتينالهمزتين. فأما أشئؤها وأدأؤها فليست الهمزتان فيهما بأصلينبأصلين. وكيف تكونان أصلين وليس لنا أصل عينه ولامه همزتان ولا كلاهما أيضاً عن وجوبوجوب. فالناطق بذلك بصورة من جر الفاعل أو رفع المضاف إليه في أنه لا أصل يسوغه ولا قياس يحتمله ولا سماع ورد بهبه. وما كانت هذه سبيله وجب اطراحه والتوقف عن لغة من أوردهأورده. وأنشدني أيضاً شعراً لنفسه يقول فيهفيه: كأن فايفاي... فقوى في نفسي بذلك بعده عن الفصاحة وضعفه عن القياس الذي ركبهركبه. وذلك أن ياء المتكلم تكسر أبداً ما قبلهاقبلها. ونظير كسرة الصحيح كون هذه الأسماء الستة بالياء نحو مررت بأخيك وفيكوفيك. فكان قياسه أن يقول كأن في بالياء كما يقول كأن غلاميغلامي. ومثله سواء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهمقولهم: كسرت في ولم يقل فاي وقد قال الله سبحانهسبحانه:{إِنَّإِنَّ أَبِي يَدْعُوكَيَدْعُوكَ} ولم يقليقل: إن أبايأباي. وكيف يجوز إن أباي بالألف وأنت لا تقولتقول: إن غلامي قائم وإنما تقولتقول: كأن غلامي بالكسربالكسر. فكذلك تقول كأن في بالياءبالياء. وهذا واضحواضح. ولكن هذا الإنسان حمل بضعف قياسه قوله كأن فاي على قولهقوله: كأن فاه وكأن فاك وأنسى ما توجبه ياء المتكلمالمتكلم: من كسر ما قبلها وجعله ياءياء. فإن قلتقلت: فكان يجب على هذا أن تقولتقول: هذان غلامى فتبدل ألف التثنية ياء لأنك تقول هذا غلامي فتكسر الميم قيل هذا قياس لعمري غير أنه عارضه قياس أقوى منه فترك إليهإليه. وذلك أن التثنية ضرب من الكلام قائم برأسه مخالف للواحد والجميع ألا تراك تقولتقول: هذا وهؤلاء فتبني فيهما فإذا صرت إلى التثنية جاء مجيء المعرب فقلتفقلت: هذان وهذينوهذين. وعلى أن هذا الرجل الذي أومأت إليه من أمثل من رأيناه ممن رأيناه ممن جاءنا مجئه وتحلى عندنا حليتهحليته. فأما ما تحت ذلك من مرذول أقوال هذه الطوائف فأصغر حجماً وأنزل قدراً أن يحكى في جملة ما يثنىيثنى. ومع هذا فإذا كانوا قد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلحن في كلامه فقالفقال:( أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل ) ورووا أيضاً أن أحد ولاة عمر رضي الله تعالى عنه كتب إليه كتاباً لحن فيه فكتب إليه عمرعمر: أن قنع كاتبك سوطاً وروى من حديث علي رضي الله عنه مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئالمقرئ:{أَنَّأَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُوَرَسُولُهُ} حتى قال الأعرابيالأعرابي: برئت من رسول الله فأنكر ذلك علي عليه السلام ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمهرسمه: مالا يجهل موضعه فكان ما يروى من أغلاط الناس منذ ذاك إلى أن شاع واستمر فساد هذا الشأن مشهوراً ظاهراً فينبغي أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلا أن تقوى لغته وتشيع فصاحتهفصاحته. وقد قال الفراء في بعض كلامهكلامه: إلا أن تسمع شيئاً من بدوي فصيح فتقولهفتقوله. وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحقي في نحو يعدو وهو محموم ولم أسمعها من غيره من عقيل فقد كان يرد علينا منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغتهبلغته. وما أظن الشجري إلا استهواه كثرة ما جاء عنهم من تحريك الحرف الحلقي بالفتح إذا انفتح ما قبله في له نعل لا تطبي الكلب ريحها وإن جعلت وسط المجالس شمت وقول أبي النجمالنجم: وجبلا طال معدا فاشمخر أشم لا يسطيعه الناس الدهر وهذا قد قاسه الكوفيون وإن كنا نحن لا نراه قياساً لكن مثل يعدو وهو محموم لم يرو عنهم فيما علمتعلمت. فإياك أن تخلد إلى كل ما تسمعه بل تأمل حال مورده وكيف موقعه من الفصاحة فاحكم عليه ولهوله.