===باب الأدب في العيادة مَرِض===
أبو عمرو بن العَلاء فدَخَل عليه رجلٌ من أصحابه فقال لهله: أَريد أن أُساهرَك الليلةَ قال لهله: أنت مُعافي وأنا مًبْتَلي فالعافية لا تَدَعك أن تَسهر والبلاءُ لا يَدَعني أن أنامِ وأسأل الله أن يَهب لأهل العافية الشُّكر ولأهل البلاء الصَّبرالصَّبر.
ودَخل كُثير عَزَّة على عبد العزيز بن مَرْوان وهو مريض فقالفقال: لو أنّ سُرورك لا يتمّ إلا بأن تَسْلم وأَسْقَم لدعوتُ ربَي أن يَصرف ما بك إليّ ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية ولي في كَنفك النِّعمةالنِّعمة.
فضحِك وأَمر له بجائزة فخرج وهو يقوليقول: ونعودُ سيِّدَنا وسيِّد َغَيْرنا ليتَ التشكِّي كان بالعوادِ لو كان يُقْبَل فِدْيةٌ لفَدَيْتُه بالمُصْطفي مِن طارِفي وتلاَدِي وكتب رجلٌ من أهل الأدب إلى عَليلعَليل: نُبِّئت أنّكَ مُعْتَلّ فقلتُ لهم نَفسي الفِداء لهُ من كلّ مَحْذورِ يا ليتَ عِلّته بي ثَمَّ كان له أجرُ العَليل وأنِّي غيرُ مأجورِ وكتب آخر إلى عليلعليل: وَقَيْنَاك لو نُعْطَى الهوى فيك والمُنَى لكان بنا الشَّكْوى وكان لك الأجْرُ وكان شاعرٌ يختلف إلى يَحيى بن خالد بن بَرمك ويمتدحه فغاب عنه أيّاماً لعلّة عرضت له أيهذا الأمير أكرمك الل ه وأبقاك لي بَقاءً طَوِيلاَ أَجَميلاً تراه أصلحك الله لكَيما أراه أيضاً جَميلاً أنَّنَي قد أقمتُ عَنْك قَلِيلاً لا تُرَى مُنْفذاً إليَّ رَسُولا ألذنب فما عَلِمْتُ سوى الشّك ر لما قد أَوْليتنيه جَزِيلا أم مَلالاً فما عَلِمْتًك للحا فظ مِثْلي على الزَمان مَلولا قد أَتى الله بالصَّلاح فما أَن كرت مما عَهِدْتُ إلاّ قَليلا وأَكلتُ الدًّرَّاج وهو غِذاء أفَلت عِلّتي عليه أُفولا وكَأَنِّي قَدِمْتُ قُبْلك آتي ك غداً إن أَجِدْ إليك سَبيلا فكتب إليه الوزير يعتذريعتذر: دَفَعَ الله عنكَ نائبةَ الده رِ وحاشاك أن تكون عَلِيلاَ أُشْهِدُ الله ما علمتُ وما ذَا كَ من العذر جائزاً مَقْبولا ولَعَلِّي لو قد عَلِمْتُ لعاوَدْ تُكَ شَهراً وكان ذاك قَلِيلا أَعْزِرْ على بأن أراك عَليلا أو أن يكون بك السَّقامُ نزيلاَ فَوَددْتُ أنَي مالكٌ لسَلامَتِي فأُعيرَها لك بُكرةً وأَصيلا فتكونَ تَبقى سالماً بسلامتي وأكونَ مما قد عَرَاكَ بَدِيلا هذا أخٌ لك يَشْتكي ما تشتكي وكذا الخليل إذا أَحَبَّ خَليلا ومَرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صُبيح الكاتب إذا دَخَل عليه يَعوده وقف عند رأسه ودَعا له ثم يَخْرُج فيسأل الحاجبَ عن مَنامه وشرابه وطعامه فلمّا أفاق قال يحيى بنُ خالدخالد: ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيلُ ابن صُبيحصُبيح.
وقال الشاعرالشاعر: عِيادة المَرْء يومٌ بين يَوْمين وجَلسةٌ لك مِثْل اللَّحظ بالعين لا تُبْرِمَنَّ مَريضاً في مُساءلة يكفيك من ذاكَ تَسْآل بحرفين وقال بكر بنُ عبد الله لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوسَ عندهعنده: المريض يُعاد والصحيح يُزاريُزار.
وقال سفُيان الثّوْريّالثّوْريّ: حُمْق العُوّاد أشدُّ على المَرضى من أمراضهم يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوسالجلوس.
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يَعوده في مرضه فسأله عن علّته فلمّا أخبره قالقال: من هذه العلة مات فلان ومات فلانفلان.
فقال له عمرعمر: إذا عُدت المَرْضى فلا تَنْعَ إليهم الموْتى وإذا خرجتَ عَنَّا فلا تَعُد إليناإلينا.
وقال ابن عبّاسعبّاس: إذا دخلتم على الرَّجل وهو في الموت فبشرُوه ليلقى ربَّه وهو حَسن الظن ولقّنُوه الشهادة ولا تُضْجروهتُضْجروه.
ومَرِض الأعمش فأبرمه الناس بالسُّؤال عن حاله فكَتب قصَّته في كِتاب وجعله عند رأسه فإذا سأله أحدٌ قالقال: عندك القِصَّة في الكتاب فاقرأهافاقرأها.
ولبعضهمولبعضهم: مَرِض الحبيبُ فعُدْتُه فمَرِضتُ من حَذَري عليه وأَتىَ إليَّ يَعُودني فبرِئْتُ من نظري إليه ومَرِض محمدُ بن عبد الله بن طاهر فكتبَ إلى أخيه عبيد اللهّ بن عبد اللهالله: إنِّي وجدتُ عَلَى جَفَا ئك من فِعالكَ شاهِدَا إني اعتللت في فَقَدْ تُ سِوى رَسولك عائدا ولو اعتللتَ فلم أَجِدْ سبباً إليك مُساعداً فأجابهفأجابه: كُحِلت مُقْلتي بشَوك القَتاد لم أذق مُذْ حُمِمْتَ طَعْم الرُّقادِ يا أخي الباذل المودّة والنا زلَ من مقلتي مكانَ السواد منَعَتْني عليك رِقَّةُ قلبي من دُخولي إليك في العُوّاد لوْ بِأُذْني سمعتُ منك أنيناً لتَفَرَّى مع الأنين فؤادي ولمحمد بن يزيديزيد: يا عَلِيلاً أفْدِيك من ألم العِل ة هل لي إلى اللقاء سبيلُ إن يَحُليَحُل! دونك الحجابُ فما يح جَب عني بك الضَّنَى والعَويل وأنشد محمدُ بنُ يزيد قال أنشدني أبو دُهْمان لنفسه وقد دَخل على بعض الأمراء يعودهيعوده: بأَنْفُسنا لا بالطَوارِف والتُلْدِ نَقِيك الذي تُخْفِي من السُّقم أو تُبدِي بنا مَعْشرَ العُوّاد ما بك من أذى فإن أَشفقوا مما أقول فَبِي وَحْدِي وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طَوْق في شَكاة لهله: كم لَوْعةٍ للنِّدَى وكم قَلق للمجد والمَكْرمات في قَلَقِكْ ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شَكاة له يعوده فقالفقال: اللهّ يَدفعْ عن نَفْس الإمام لنا وكلّنا للمنايا دُونه غَرَض فليتَ أَنّ الذي يَعروه من مرض العائدين جميعاً لا به المَرَض فبالإمام لنا من غيرنا عِوَض وليس في غيره منه لنا عِوَض فما أُبالي إذا ما نَفْسه سَلِمَتْ لو باد كلُّ عباد الله وانقرضوا وقال آخر في بعض الأمراءالأمراء: واعتلّ فاعتلت الدنيا لعِلّته واعتلّ فاعتلَّ فيه البأسُ والكرمُ لما استقَلَّ أنار المَجد وانقشعت عنه الضَّبابة والأحْزان والسَّقم وبلغ قيساً مجنونَ بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة فقالفقال: يقولون ليلى بالعِراق مريضةٌ فما لك تَجْفوها وأنت صديقُ شَفي الله مرْضى بالعِراق فإنني على كلِّ شاكٍ بالعِراق شفِيق ولمحمد بن عبد الله بن طاهرطاهر: أَلْبسك اللَهُ منه عافيةً تُغْنيك عن دَعْوتي وعن جَلَدكْ وقال غيرهغيره: يا أملي كيف أنتَ من ألمِكْ وكيف ما تَشْتكيه من سَقَمكْ هذان يومان لي أعدُّهما مُذ لم تَلًح لي بُرُوق مُبْتسمك حسدتُ حُمّاك حين قِيل لنا بأنها قَبَّلَتك فوق فَمك ولسُحَيم عَبد بني الحَسحاسالحَسحاس: تَجَمّعن شتى من ثلاث وأرْبع ووَاحدةٍ حتى كَمُلنَ ثمانيَا وأقْبلن من أقصى الْخِيام يَعُدْنني ألا إِنما بعضُ العوائد دَائيا وللعباس بن الأحفالأحف: قالت مَرِضْت فعُدْتها فتبرَّمت وهي الصحيحة والمريضُ العائدُ والله لو قَسَت القلوبُ كقَلبها ما رَقّ للوَلد الضعيف الوَالدُ وقال الواثقالواثق: لا بك السُقْم ولكنْ كان بي وبنَفْسي وبأُمِّي وأبيِ قيل لي إنك صُدِّعتَ فما خالطت سمعيَ حتى دير بي وقَوْلُكِ للعُوّاد كيف تَرَوْنه فقالوا قَتيلاً قلتِ أهونُ هالكِ لئن سَاءَني أن نِلتِني بمَساءَةٍ لقد سَرَني أني خَطرت ببالكِ ومن قولنا في هذا المعنىالمعنى: رُوح النَّدى بين أثواب العُلا وَصب يَعْتنُّ في جَسد للمجْد مَوْصوب ما أنتَ وحدَك مكْسُوًّا شُحوبَ ضَنى بل كلنا بك من مُضنى ومشحوب يا مَن عليه حِجَابٌ من جَلالته وإِن بدا لك يوماً غير محجوب أَلْقَى عليك يداً للضرُّ كاشفةً كَشَّافُ ضرُّ نبيّ الله أيُوبِ ومثله من قولناقولنا: لا غَرْو إن نال منك السُّقْمُ والضررُ قد تُكْسف الشمسُ لا بل يُخْسَف القمرُ يا غُرّة القمر الذّاوي غَضارتُها فِداً لنُورك منِّي السمعُ والبَصر إن يُمس جسمك موعوكا بصاليةٍ فهكذا يُوعَكُ الضًرغامة الهَصر أنتَ الحُسام فإِن تُقْلَل مضاربُه فقبلَه ما يُفَلّ الصّارِم الذّكَر رُوح من المَجْد في جُثمان مَكْرُمة كأنما الصُّبح من خَدَّيه يَنْفجر لا غرو إن نال منك السقْمُ ما سأَلاَ قد يُكْسَفُ البدر أحياناً إذا كَمُلا ما تَشْتَكي عِلّةً في الدهر واحدةً إلا اشتكي الجُود من وَجْدٍ بها عِلَلا الأدب في الاعتناق أبو بكر بن محمد قالقال: حدّثنا سعيد بن " إسحاق عن عليّ بن يونس المَدينيّ " قالقال: كنتُ جالساً عند مالك " بن أَنس " فإذا سُفيان بن عُيينة يَستأذن بالباب فقال مالكمالك: رجلٌ صالح صاحب سُنَة أدخِلوه فدخل فقالفقال: السلامُ عليكم ورحمةُ اللهّ وبركاته فردَ السلام فقالفقال: سلامٌ خاصّ وعامّ عليك يا أبا عبد الله ورحمةُ الله فقال مالكمالك: وعليك السلامُ يا أبا محمد ورحمةُ اللهّ فصافَحه مالك وقالوقال: يا أبا محمد لولا أنها بِدْعة لعانَقْناك فقال سُفيانسُفيان: قد عانق مَن هو خيرٌ منَّا رسول الله {{صل}} فقال مالكمالك: جعفراً قالقال: نعم فقال مالكمالك: ذاك حديثٌ خاصّ يا أبا محمد ليس بعامّ فقال سفيانسفيان: ما عمَّ جعفراً يَعُمّنا وما خصَّه يخُصّنا إذا كنَّا صالحين أفتأْذن لي أن أُحدَّث في مجلسك قالقال: نعم يا أبا محمد فقالفقال: حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس أنه لما قَدِم جعفرٌ من أرض الحبشة اعتنقه النبي {{صل}} وقبل بين عينيه وقالوقال: جعفر أشبه الناس بي خَلْقَاَ
===باب الأدب في إصلاح المعيشة===
قالواقالوا: مَن أشبع أرضَه عملاً أشبعت " بيته " خُبزاًخُبزاً.
وقالواوقالوا: يقول الثّوب لصاحبهلصاحبه: أكرمني داخَلاَ أُكْرِمْك خارجاًخارجاً.
وقالت عائشةعائشة: المَغزَل بيد المرأة أحسنُ من الرُّمح بيد المُجَاهد في سبيل اللهالله.
وقال عمرُ بن الخطابالخطاب: لا تَنْهَكوا وجهَ الأرض فإِن شَحمها في وَجْههاوَجْهها.
وقالوقال: فَرِّقوا بين المَنايا واجعلوا من الرأْس رَأْسينرَأْسين.
وقالوقال: أملكوا العَجِين فإِنه أحد الرَّيعينالرَّيعين.
وقال أبو بكر لغُلام له كان يتَّجر بالثياببالثياب: إذا كان الثوبُ سابغاً فانشرهُ وأنت قائم وإذا كان قَصيراً فانشُره وأنت جالس وإنما البيْع مِكَاسمِكَاس.
وقال عبد الملك بن مَرْوَانمَرْوَان: مَن كان في يده شيءٌ فلْيُصْلحه فإنه في زمان إن احتاج فيه فأوّل ما يَبْذُل دينهُدينهُ.
===باب الأدب في المؤاكلة===
قال النبي {{صل}}: إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب بيمينه فإنّ الشيطان محمد بن سلاّم الجُمحي قالقال: قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة الهُذليّالهُذليّ: أتحضُر طعامَ هذا الشيخ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قالقال: نعم قالقال: فصِفه لي قالقال: نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى يستيقظ فيأْذن فنُساقطه الحديث فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع وإن حدَّثَنا أحسنَ الحديث ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ منهن " إلا " إذا وُضعت مائدته ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه قائماً فيقول لهله: ما عِنْدك فيقولفيقول: عِندي كذا وكذا فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام وتُقْبِل الألوان من هاهنا ومن هاهنا فتوضع على المائدة ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل رَقْطَاء من الْحِمَّص ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق فيأكل مُعذِراً حتى إذا ظنّ أن القوم قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه ثم استأنف الأكل معهممعهم.
قال ابن أبي بُردةبُردة: لله ذرُّ عبد الأعلى ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراسالأضراس.
حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّالأعرابيّ.
فقال له هشامهشام: عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ فقالفقال: وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي والله لا أكلت عندك أبداًأبداً.
ثم خرج وهو يقوليقول: وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ محمد بن يزيد قالقال: أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ ابناه فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في الغَضَّارة وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط من فم الرجل فأكلهفأكله.
فالتفتَ إليه الرجلُ فقالفقال: يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك لكن والله لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرةوالآخرة.
وحدّث إبراهيمُ بن السِّنديّ قالقال: كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً " يُسلم من بعيد ويَنْصرف ".
فأتاه يوماً فأدناه ثم دعاه إلى الغَداء فقالفقال: قد تغذيتُتغذيتُ.
فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة فلما انصرف وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاهقَفاه.
فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى حالتَه وما ناله إلى عُمومته فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر وقالواوقالوا: إنَ الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا فقال لهم أبو جعفرجعفر: إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حُجَّة فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم قالواقالوا: بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمعونسمع.
فدعاه فسأله فقالفقال: إنّ هذا الفتى كان يأتي فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن قالقال: قد تغدّيتُ وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدًّ خَلّة الجوع ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعلالفعل.
فسكت القومُ وانصرفواوانصرفوا.
وقال بكرُ بن عبيد اللهالله: أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه وأحقُّ الناس بلَطْمتين من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا فيقولفيقول: لا ها هنا وأحقًّ الناس بثلاث لطمات من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزلالمنزل: ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنامعنا.
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظالجاحظ: لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً ثم فسّره فقالفقال: أما اُلمكحل فالذي يتعرّق العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قُبّةقُبّة.
والمُكَوكبوالمُكَوكب: الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه كأنه الكواكب في الطَّستالطَّست.
والحرَامدوالحرَامد: الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقولفيقول: ما تأكلون فيقولون من بُغْضهبُغْضه: سُمًّا فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكمبعدكم.
والشُّكامدوالشُّكامد: الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع فأرةفأرة.
والنُّقامدوالنُّقامد: الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيرهغيره.
ومن الأدبالأدب: أن يبدأ صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ ثم يقول لجلسائهلجلسائه: من شاء منكم فليغسل فإذا غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخرويتأخر.
وقال العلماءالعلماء: لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنهبإذنه.
وقال زِيادزِياد: لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنينالمؤمنين: ودخل عبد الله بن عبّاس على مُعاوية وعنده زَياد فرحَّب به مُعاوية ووسَّع له إلى جَنْبه وأقبل عليه يُسائله ويُحادثه وزِياد ساكِت فقال له ابن عبّاسعبّاس: كيف حالُك أبا المُغيرة كأنك أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة فقالفقال: لا ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي أمير المؤمنينالمؤمنين.
قال ابن عبّاسعبّاس: ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهمأمرائهم.
فقال له مُعاويةمُعاوية: كُفَّ عنه يابن عبّاس فإنك لا تَشاء أن تَغْلِبَ إلا غُلبتغُلبت.
الشّيبانيّ قالقال: بَصق ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته فوقعت في طَرف البِساط فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه بكُمّهبكُمّه.
فقال عبدُ الملك بن مَرْوانمَرْوان: أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهمخِدْمتهم: الإمام والعاِلم والوالد والضيفوالضيف.
وقال يحيى بن خالدخالد: مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى فإذا أردتَ أن تقولتقول: كيف أصبح الأمير فقُلفقُل: صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله عن حاله فقُلفقُل: أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمةوالرِّحمة.
وقالواوقالوا: إذا زادك المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا ولا تُدِيمن النظر إليه ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍكلمةٍ.
ولا تتغير له إذا سَخِط ولا تَغتر به إذا رَضيَ ولا تُلْحِف في مسألتهمسألته.
وقالواوقالوا: الملوك لا تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيفتُكَيف.
وقال الشاعرالشاعر: إِنَّ المُلوكَ لا يُخَاطَبُونَا ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا وفي المَقَال لا يُنَازَعُونَا وفي العطاس لا يُشَمًتونَا وفي الخطاب لا يُكَيَّفُونَا يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا فافْهَم وَصاتي لا تكُن مَجْنُونا وقالواوقالوا: من تمام خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه ولا يَدَعه يَمشي إليهما ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه ولا يَنْتظر فيه أمرَه ويَتفقد الدَواة قبلَ أن يَأمره ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه وإن رأى بين يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْرهكِسْره.
وقال أصحابُ معاوية لمُعاويةلمُعاوية: إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك فأنتْ تَكْره أن تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس فلو جعلتَ لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك فقالفقال: علامةُ ذلك أن أقولَأقولَ: إذا شِئتمشِئتم.
وقيل مثلُ ذلك لعبد الملك بن مروان فقالفقال.
إذا وضعتُ الخَيْزُرانةالخَيْزُرانة.
وما سمعتُ بألطف مَعنى ولا أكملَ أَدَباً ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن شَيْبة وقوله لأبي جَعْفَرجَعْفَر: أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة وأُجِلّك عن السُّؤالالسُّؤال.
فقال لهله: فلان بن فُلانفُلان.
===باب الكناية والتعريض===
ومن أَحْسن الكِناية اللَطيفة عن المعنى الذي يَقْبحُ ظاهرهُظاهرهُ: قيل لعُمَر بن عبد العزيز وقد نَبتَ له حبنٌ تحت أُنْثَيَيْهأُنْثَيَيْه: أين نبَتَ بك هذا الحِبْن قال بين الرانفة والصَّفْنوالصَّفْن.
وقال آخر ونَبتَ به حِبْن في إبطهإبطه: أين نبت بك هذا الحِبْن قالقال: تحت مَنْكِبيّمَنْكِبيّ.
وقد كَنَى اللهّ تعالى في كِتابة عن الجماع بالمُلامَسة وعن الحَدَث بالغائط فقالفقال: " أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمِ مِن الغَائِطِ " والغائطَوالغائطَ: الفَحْص " وهو المُطْمئن من الأرض " وجَمْعهوجَمْعه: غِيطانغِيطان.
" وقالُوا مَا لِهَذا الرّسُول يأكًلُ الطَّعامَ ".
وإنما كنّى " به " عن الحَدثالحَدث.
وقال تعالىتعالى: " واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْر سًوءٍ ".
فكنّى " بالسوء " عن البرصالبرص.
ودخل الرّبيع بن زياد على النُّعمان بن المُنذر وبه وَضح فقالفقال: ما هذا البَياض بك فقالفقال: سيف اللهّ جلاهجلاه.
ودخل حارثةُ بن بدر على زياد وفي وَجهه أثر فقال له زيادزياد: ما هذا الأثر الذي في وَجْهِك قالقال: رَكِبت فَرَسي الأشقر فجمح بي فقالفقال: أما إنك لو رَكِبْت الأشهب لما فعل ذلكذلك.
فكنّى حارثة بالأشقر عن النبيذ وكنّى زياد بالأشهب عن اللبناللبن.
إذَا ما مات مَيْتٌ من تميم وسرك أن يَعيش فجِيءْ بزادِ بخُبز أو بتَمْرِ أو بِسَمْنِ أو الشيءِ المُلَفَفِ في البِجَاد تراه يَطُوف في الافاقْ حِرْصاَ ليأكل رأس لُقمان بن عاد ما هذا الشيء الملفّف في البِجاد قال الأحنفالأحنف: السّخينة يا أميرَ المؤمنينالمؤمنين.
قال معاويةمعاوية: واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم - والسّخينة طعام كانت تعمله قريش من دقيق وهو الخَريزة فكانت تُسَب به وفيه يقول حسَّان بن ثابتثابت: زَعمْت سَخينة أن ستَغْلِب رَبّها وليُغْلِبنّ مُغالِب الغلابِ وقال آخرآخر: تَعشوا من خَزيرتهم فناموا ولمّا عَزل عثمانُ بن عفان عمرو بن العاص عن مِصر وولاها ابن أَبي سَرْح دخل عمرو على عُثمان وعليه جُبّة محشوّة فقال له عُثمانعُثمان: ما حَشْو جُبّتك يا عمرو قالقال: أنا قالقال: قد علمتُ أنك فيهافيها.
ثم قال له يا عمروعمرو: أشعرتَ أن اللِّقاح درّت بعدك ألبانُها فقالفقال: لأنكم أعجفتم أولادَهاأولادَها.
فكنّى عثمان عن خَراج مصر باللّقاح وكنّى عمرو عن جَوْر الوالي بعده وأنه حَرم الرزق أهلَ العطاء ووفَّره على السلطانالسلطان.
وكان في المَدِينة رجلٌ يُسَّمى جَعْدة يُرجِّل شعره ويتعرَّض للنساء المِعْزَبات فكتب رجلٌ من أَلاَ أَبلغ أبا حَفْص رسولاً فدًى لك من أَخي ثِقَةٍ إزَارِي قَلائِصُنا هدَاكَ اللهّ إنّا شُغِلنا عنكُم زمنَ الحصارِ يُعَقِّلُهن جَعْد شيظمي وبِئْسَ مُعَقّلُ الذًوْد الظُّؤار فكنَى بالقلائص عن النّساءالنّساء.
وعَرض برجل يقال له جَعْدَةجَعْدَة.
فسأل عنه عمرُ فَدُل عليه فجزّ شَعره ونَفَاه عن المدينةالمدينة.
وسمعِ عمرُ بن الخطاب امرأة في الطّواف تقولتقول: فَمِنْهُنَّ من تُسْقَى بعَذْب مُبرد نًقاخ فتِلْكم عند ذلك قرَتِ ومنهنّ مَن تُسْقَى بأخضرَآجن أُجاجٌ ولولا خشيةُ الله فَرَّت ففهم شكواها فبَعث إلى زَوْجها فوجده متغيِّر الفمالفم.
فخيَّره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقِهاوطلاقِها.
فاختار الدَّراهم فأعطاه وطَلّقهاوطَلّقها.
ودخل على زياد رجلٌ من أشراف البصرة فقال له زيادزياد: أين مَسكنك من البَصرة قالقال: في وَسطها قال لهله: كم لك من الولد قالقال: تِسْعة فلما خرج من عنده قيل لهله: إنه ليس كذلك في كل ما سألته وليس له من الوَلد إلاّ واحدٌ وهو ساكن في طَرف البَصرْةالبَصرْة.
فلمّا عاد إليه سأله زياد عن ذلك فقال لهله: ما كذبتُك لي تسعة من الولد قَدَمْت منهم ثمانية فهم لي وبقي معي واحد فلا أدري إليَ يكون أم عليَّ ومنزلي بين المدينة والجَبانة فأنا بين الأحياء والأموات فمنزِلَي في وَسط البَصرة قالقال: صدقتصدقت.
الكناية يورى بها عن الكذب والكفر لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلِّى سبيلَه ومَن أبَى يَقْتله فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف ابن عبد الله بن الشّخّير وسعيد بن جُبَير فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية ولم يُصرِّحا بالكفر فَقبِل كلامهما وعفا عنهما وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتلفقتل.
وكان مما عرَّض به الشعبي فقال أَصلح الله الأمير نَبا المنزل وأَحْزَن بنا الجَناب واستَحلَسْنا الخوفَ واكتَحلنا السهرَ وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء ولا فَجَرة أقوياءأقوياء.
قال صدقَ والله ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا خَلّيا عنه ثم قُدِّم " إليه " مُطرِّف بن عبد الله فقال له الحجّاجالحجّاج: أَتُقِرّ على نفسِك بالكفر قالقال: إنّ مَن شق العصا وسَفَك الدماء ونكث البَيْعة وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر قالقال: خليا عنهعنه.
ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير فقال لهله: أتقِر على ولما وَلي الواثقُ وأَقعد للناس أحمدَ بن أبي دُوَاد للمحنة في القُرآن ودعا إليه الفُقهاء أُتي فيهم بالحارث بن مِسْكين فقيل لهله: أتَشهد أنّ القرآن مخلوق قالقال: أشهدُ أنّ التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن هذه الأربعة مخلوقة ومَدّ أصابعه الأربع فعرض بها وكنَى عن خلق القرآن وخلِّص مُهْجَته من القَتلالقَتل: وعَجز أحمدُ بن نَصر فقيهُ بغداد عن الكِناية فأباها فقُتِل وَصلِبوَصلِب.
ودَخل بعضُ النسّاك على بعض الخُلفاء فدعاه إلى طَعامه فقال لهله: الصائم لا يأكل يا أميرَ المؤمنين وما أذكِّي نفسي بل الله يُزَكِّي مَن يشاء وإنما كره طعامهطعامه.
الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر قال بينما ابن عِرْباض يَمشي مُقْدِماً لِطيَّتِه إذ استقبلته الخوارج يَجزُّون الناسَ بسيوفهم فقال لهملهم: هل خَرج إليكم في اليهود شيء قالواقالوا: لا قالقال: فامضُوا راشِدين فمضَوْا وتركوهوتركوه.
ولقي شيطانُ الطاق رجلاً من الخوارج وبيده سيفٌ فقال له الخارجيالخارجي: واللهّ لأقتلنَّك أو تبرأَ من عليّ فقال لهله: أنا من عليّ ومن عثمان بريء " يريد أنه من عليّ وبريء من عثمان " 0 أبو بكر بن أبي شَيْبة قالقال: قال الوليد " بن عُقْبة " على المِنْبر بالكوفةبالكوفة: أًقسمُ على مَن سمّاني أَشعرَ بَرْكاً إلا قام " فخرج عنّي " فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال لهله: ومَن هذا الذي يقوم " وقال معاويةُ لصعْصعة بن صوحانصوحان: اصْعَد المنبر فالْعَن عليَّا " فامتنع من ذلك وقالوقال: أو تُعْفيني قالقال: لالا.
فَصَعد المنبر فَحَمِد اللهّ وأثنى عليه ثم قالقال: معاشر الناس إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليَّاً فالعَنُوه لعنه الله ".
===الكناية عن الكذب في طريق المدح===
المدائنيّ قالقال: أتي العُرْيان بن الهَيْثم بغلام سكران فقال لهله: مَن أنت فقالفقال: أنا ابن الذي لا يَنْزلُ الدَّهرِ قدرُه وإن نزلت يوماً فسوف تَعودُ ترى الناسَ أفواجاَ إلى ضوْء ناره فمنهم قِيامٌ حولها وقُعود فظنّه ولداً لبعض الأشراف فأمر بتخليتهبتخليته.
فلمّا كُشف عنه قيل لهله: إنّه ابن باقلانيباقلاني.
ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرمة " القاضي " فقال لهله: أتعرف هذا الرجل - وكان رُمي عنده بريبة - فقال " نعم " إن له بيتاَ وقَدماً وشرَفاً فخلّى سبيلَهسبيلَه.
فلمّا انصرف ابن شبرمة قال له " أصحابُه ": أكنت تعرف هذا الرجل قالقال: لا ولكني عرفُ أنّ له بيتاً يأوي إليه وقدماَ يمشي عليها وشرفُه أُذناه ومَنْكباهومَنْكباه.
وخطب رجل لرجل إلى قوم فسألوهفسألوه: ما حِرْفته فقالفقال: هو نخَّاس الدوَاب فزوّجوه فلمّا كُشف عنه وجدوه يبيع السَّنانير فلمّا عنِّفوه في ذلك قالقال: أوَ ما السنانير دواب ما كذبتكم في شيءشيء.
ودخل مُعلَى الطائي على ابن السَّرِيّ يعوده في مرضه فأنشده شعراً يقول فيهفيه: فأُقسم إن منَّ الإله بصحَة ونَال السَّرِيُ بنُ السرِيِّ شفَاءَ لأرتَحِلِّن العِيسَ شهراً بحِجة وأُعتق شُكرإً سالماً وصَفَاء فلمّا خرج من عنده قال له أصحابُهأصحابُه: والله ما نعلم عبدَك سالماً ولا عبدك صَفاء فمَن أردت أن تُعتق قال هما هرّتان عندي والحجّ فريضة واجبة فما عَلَيِّ في قولي شيءإن شاء الله تعالىتعالى.
===باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة===
سُئل ابن سيرين عن رجل فقالفقال: تُوفّي البارحةالبارحة.
فلما رأى جَزَع السائل قالقال: " الله يَتوفَى الأنفسَ حين مَوْتها والتي لم تمُتْ في مَنامها " وإنما أردتُ بالوَفاة النومالنوم.
ومَرِض زيادٌ فدخَل عليه شُريح القاضي يَعودهيَعوده.
فلمِّا خَرج بعث إليه مَسْرُوقُ بنِ الأجْدَع يسألهيسأله: كيف تركتَ الأمير قالقال: تركتُه يأمر وينهى فقال مَسروقمَسروق: إن شُرَيحاَ صاحبُ تَعرِيض " عَوِيص " وكان سِنان بن مُكمِّل النُميريّ يُساير عُمر بن هبيرة الفَزاريّ يوماً على بَغلة فقال له ابن هُبيرةهُبيرة: غُضَّ من عِنان بَغلتك فقالفقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأميرالأمير.
أراد ابن هُبيرة قول جريرجرير: فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمير فلا كَعْباً بلغتَ ولا كلابَا وأراد سِنَان قولَ الشاعرالشاعر: لا تَأمننَ فَزاريَّاً خَلوتَ به على قَلُوصك واكتُبْها بأسْيارِ ومرّ رجلٌ من بني تَميم برجل من بني نُمير على يده بازي فقال التَّميميُ للنّميريّللنّميريّ: هذا البازي لك فقال له النُّميريالنُّميري: نعم وهو أهدَى من القَطاالقَطا.
أراد التميميُّ قولَ جريرجرير: أنا البازي المُطِلّ على نُمَيْر أُتِحْتُ لها من الجوِّ انصبابَا وأراد النميري قول الطِّرِمْاحالطِّرِمْاح: تَميم بطُرْق اللُّؤم أهدَى من القَطَا ولو سَلكت سُبْل المكارم ضَلَّتِ ودخل رجلٌ من مُحارب على عبد الله بن يَزيد الهلاليّ وهو والي أَرْمِينية وقَريبٌ منه غَدير فيه ضفادع فقال عبد الله بن يزيديزيد: ما تركتنا شيوخ مُحارب نَنام الليلة فقال له المُحاربيّالمُحاربيّ: أصلح الله الأمير أَو تدْري لمَ ذلك قالقال: ولم قالقال: لأنها أضفَت بُرْقُعاً لها قالقال: قَبّحك اللهّ تَنِقّ بلا شيء شُيوخُ مُحَاربِ وما خِلتُها كانت تَريش ولا تَبْرى ضَفادع في ظَلماءِ ليلٍ تَجاوبتْ فدلَّ عليها صوتُها حَيَّةَ البَحَر وأراد المُحاربيُّ قولَ الشاعرالشاعر: لكلّ هِلاليّ من الًّلؤم بُرْقُع ولابن يزيد بُرقعٌ وقميص ُ وقال مُعاوية لعبد الرحمن بن الحَكمالحَكم: استعْرِض لي هذين الفَرسين فقالفقال: أحدُهما أجَشُّ والآخر هَزِيم يعني قولَ النَّجاشيّالنَّجاشيّ: ونَجَّى ابن هِنْد سابحٌ ذو عُلالةِ أجشُّ هَزيم والرِّماح دواني فقال مُعاويةمُعاوية: أما إنَ صاحبَهما على ما فيه " لا " يُشئب بكَنائنهبكَنائنه.
وكان عبدُ الرحمن يُرْمى بكنَّتِهبكنَّتِه.
وشاور زيادٌ رجلا من ثِقاته في آمرأة يتزوَّجها فقالفقال: لا خير لك فيها إني رأيتُ رجلاً يُقبِّلها فتركها وخالَفه الرجل إليها وتزوَّجهاوتزوَّجها.
فلما بلغ زياداً خبرهُ أرسل إليه وقال لهله: أما قلتَ لي إنك رأيتَ رجلاً يُقبِّلها قالقال: نعم رأيتُ أباها يُقبِّلهايُقبِّلها.
وقال أعرابيُ لعمرَ بن الخطّاب رضي الله عنهعنه: يا أميرَ المؤمنين احمِلْني وسُحَيما على جمل فقالفقال: نَشدتك الله يا أعرابيّ أسُحيم هذازِق قالقال: نعم ثم قالقال: مَن لم يَنْفعه ظنه لم يَنْفعه وودَّع رجلٌ رجلاً كان يُبْغِضُه فقالفقال: امض في سّرٍ مِن حِفْظ الله وحِجاب من كلاءتهكلاءته.
فَفطِن له الرجل فقالفقال: رَفع الله مكانك وشَدِّ ظهرك وجَعلك مَنظوراً إليكإليك.
والشَّيباني قالقال: كان ابن أبي عَتيق صاحبَ هَزْل ولهو واسمُه عبد الله بن محمد بن أبي بَكر " الصدِّيق رضي الله عنهم " وكانت له آمرأة من أشراف قَريش وكان لها فتياتٌ يُغنين في الأعراس والمآتم فأمرت جاريةً منهن أن تغنِّي بشعر لها قالتْه في زَوْجها فتغنّت الجاريةُ وهو يسمعيسمع: ذَهب الإله بما تَعيش به وقمرتَ لُبك أيما قَمْرِ أنفقت مالك غير مُحْتشم في كلِّ زانية وفي الخمر فقال للجاريةللجارية: لمن هذا الشًعر قالتقالت: لموْلاتيلموْلاتي.
فأخذ قرْطاساً فكتبه وخرج به فإذا هو بعبد الله بن عُمر بن الخطاب فقالفقال: يا أبا عبد الرحمن قف قليلا أُكلمك فوقف عبد الله بن عمر فقالفقال: ما تَرى فيمن هجاني بهذا الشعر وأنشد البيتن قالقال: أرى أن تَعفو وتَصفح قالقال: أما وإللهّ لئن لقيتُه لأنيكنَه فأخذ ابن عُمر ينَكُله ويَزْجره وقالوقال: قبّحك اللهّاللهّ.
ثم لَقيه بعد ذلك بأيام فلما أبصره ابن عُمر أعرض عنه بوَجْهه فاستقبله ابن أبي عَتيق فقال لهله: سألتُك بالقبر ومَن فيه إلا سمعتَ مني حرفين فولاه قفاه وأنصت له قالقال: علمتَ أبا عبد الرحمن أني لقيتُ قائل ذلك الشعر ونِكْته فصعِق عبد الله ولُبِط به فلما رأى ما نَزَل به دنا من أُذنه وقالوقال: أصلحك الله إنها امرأتي " فلانة ".
فقام ابن عمر وقَبل ما بي عَيْنيه " وتبسَّم ضاحكاً ".
===باب في الصمت===
كان لُقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى اله عليه وسلم " مُقْتَبسا " وكان عبداً أسود فوجده وهو يَعمل دِرْعاً من حديد فعجب منه ولم يَرَ درْعاً قبل ذلك فلم يسأله لُقمان عما يَعمل ولم يُخبره داود حتى تمَّت الدِّرع بعد سنة فقاسها داودُ على نفسه وقالوقال: زِرْد طافا ليوم قِرَافاقِرَافا.
تفسيرهتفسيره: درع حَصينة ليوم قِتالقِتال.
فقال لُقمانلُقمان: الصمت حُكم وقَليل فاعلهفاعله.
وقال أبو عبيد الله كاتبُ المهدىِّالمهدىِّ: كُن على التماس الحظ بالسكوتِ أحرصَ منك على التماسه بالكلام إِنّ البلاء موَكَلٌ بالمنطقبالمنطق.
وقال أبو الدَّرداءالدَّرداء: أنْصف أُذنيك مِن فيك فإنما جُعل لك أُذنان اثنان وفَم واحد لِتسمع أكثر مما تقوله ابن عَوْف عن الحسن قالقال: جلسوا عند مُعاوية فتكلّموا وسكت الأحنف فقال مُعاويةمُعاوية: مالك لا تتكلّم أبا بَحْر قالقال: أخافُك إن صدقتُ وأخاف الله إن كذبتكذبت.
وقال المُهلَّب بن أًبي صُفْرةصُفْرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلاً على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلا على عقلهعقله.
وقالواوقالوا: مَن ضاق صدرُه اتسع لسانُه ومَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه ومَن ساء خُلقه قلَّ صديقُهصديقُه.
وقال هَرم ابن حيّانحيّان: صاحبُ الكلام بين إحدى مَنْزلتين إن قصَّرَ فيه خصم وإن أَغْرق فيه أَثِمأَثِم.
وقال شَبيب بن شَيبةشَيبة: مَن سمع الكلمة يَكرهها فسكتَ عنها انقطع ضرُّها عنهعنه.
وقال أكثمُ بن صَيْفيّصَيْفيّ: مَقْتل الرجل بين فَكًيهفَكًيه.
وقال جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنهمعنهم: يَموت الفتَى من عَثْرة بلِسانِه وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل فعثرته مِن فِيه تَرْمِي برأْسه وعثرتُه بالرِّجْل تَبرا على مَهْل وقال الشاعرالشاعر: الْحِلم زَيْنٌ والسكُوتُ سلامةٌ فإذا نَطقتَ فلا تَكُنْ مكثَارَا ما إن نَدِمْتُ على سُكُوتي مَرّةً لكن نَدِمْتُ على الكلام مِرَارا وقال لحسن بن هانيءهانيء: خَلّ ِجنبيك لِرَامِي واْمض عنه بسَلاَم ربَّ لفظ ساق آجا ل فِئَام وفئام إنما الساِلمُ من أَلْ جَم فاهُ بِلِجَام وقال بعض الحكماءالحكماء: حَظّي من الصّمت لي ونَفْعُه مَقْصور عَلَيَّ وحظّي من الكلام لغيري وَوَباله راجع عَليَّعَليَّ.
وقالواوقالوا: إذا أعجبك الكلامُ فاصمُتفاصمُت.
وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيزالعزيز: متى أتكلم قالقال: إذا اشتهيتَ أن تَصْمُت قالقال: فمتى أصمُتَ قالقال: إذا اشتهيتَ أن تتكلّمتتكلّم.
وقال النبي {{صل}}: ما أعْطيَ العبدُ شرّا مِن طَلاقة اللّساناللّسان.
وسَمِع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيُخْطىء فقالفقال: بكلامك رُزِق الصمتُ المحبةالمحبة.
{{العقد الفريد/الجزء الثاني}}
|