الفرق بين المراجعتين لصفحة: «إحياء علوم الدين/كتاب آداب السفر/الباب الأول»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
صفحة جديدة: {{لا فهرس}} {{ترويسة |عنوان=إحياء علوم الدين |مؤلف= أبو حامد الغزالي |باب=<br>[[إحياء علوم الدين/كتاب ...
 
 
سطر 35:
فهذه هي أقسام الأسفار ويخرج من هذه القسمة أقسام :
 
القسم الأول:السفر في طلب العلم،وهو إما واجب وإما نفل وذلك بحسب كون العلم واجبا أو نفلا.وذلك العلم إما علم بأمور دينه أو بأخلاقه في نفسه أو بآيات الله في أرضه.وقد قال عليه السلام "من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " وفي خبر آخر "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة " وكان سعيد ابن المسيب يسافر الأيام في طلب الحديث الواحد.وقال الشعبى:لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمه تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعا.ورحل جابر بن عبد الله من المدينة إلى مصر مع عشرة من الصحابة فساروا شهرا في حديث بلغهم عن عبد الله أنيس الأنصاري يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حتى سمعوه وكل مذكور في العلم محصل له-من زمان الصحابة إلى زماننا هذا- لم يحصل العلم إلا بالسفر وسافر لأجله،وأما علمه بنفسه وأخلاقه فذلك أيضا منهم فإن طريق الآخرة لا يمكن سلوكها إلا بتحسين الخلق وتهذيبه:ومن لا يطلع على أسرار باطنه وخبائث صفاته لا يقدر على تطهير القلب منها.وإنما السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال وبه يخرج الله الخبء في السموات والأرض وإنما سمى السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق:ولذلك قال عمر رضى الله عنه للذي زكى عنده بعض الشهود:هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم أخلاقه:لا،فقال:ما أراك تعرفه وكان بشر يقول:يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا ساح طاب،وإذا طال مقامه في موضع تغير.وبالجملة فإن النفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائث أخلاقها لاسئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة،فإذا حملت وعناء السفر وصرفت عن مألوفاتها المعادة وامتحنت بمشاق الغربة انكشفت غوائلها ووقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعلاجها.وقد ذكرنا في كتاب العزلة فوائد المخالطة والسفر مخالطة مع زيادة اشتغال واحتمال مشاق.
 
وأما آيات الله في أرضه ففي مشاهدتها فوائد للمستبصر،ففيها قطع متجاورات وفيها الجبال والبراري والبحار وأنواع الحيوان والنبات،وما من شئ منها إلا وهو شاهد لله بالوحدانية ومسبح له بلسان ذلق لا يدركه إلا من ألقى السمع وهو شهيد.وأما الجاحدون والغافلون والمغترون بلامع السراب من زهرة الدنيا فإنهم لا يبصرون ولا يسمعون لأنهم عن السمع معزولون وعن آيات ربهم محجوبون "يعملون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" وما أريد بالسمع السمع الظاهر- فإن الذين أريدوا به ما كانوا معزولين عنه- وإنما أريد به السمع الباطن ولا يدرك بالسمع الظاهر إلا الأصوات.ويشارك الإنسان فيه سائر الحيوانات.فأما السمع الباطن فيدرك به لسان الحال الذي هو نطق وراء نطق الممال يشبه قول القائل- حكاية لكلام الوتد والحائط- قال الجدار للوتد:لم تشقني?فقال:سل من يدقنى،ولم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي.وما من ذرة في السموات والأرض إلا ولها أنواع شاهدات لله تعالى بالوحدانية هي توحيدها،وأنواع شاهدات لصانعها بالتقدس هي تسبيحها،ولكن لا يفقهون تسبيحها- لأنهم لم يسافروا من مضيق سمع الظاهر إلى فضاء سمع الباطن ومن ركاكة لسان المقال إلى فصاحة لسان الحال- ولو قدر كل عاجز على مثل هذا السير لما كان سليمان عليه السلام مختصا بفهم منطق الطير ولما كان موسى عليه السلام مختصا بسماع كلام الله تعالى الذي يجب تقديسه عن مشابهة الحروف والأصوات.ومن يسافر ليستقرئ هذه الشهادات من الأسطر المكتوبة بالخطوط الإلهية على صفحات الجمادات لم يطل سفره بالبدن بل يستقر في موضع ويفرغ قلبه للتمتع بسماع نغمات التسبيحات من آحاد الذرات،فماله وللتردد في الفلوات وله غنية في ملكوت السموات?فالشمس والقمر والنجوم بأمره مسخرات . وهي إلى أبصار ذوى البصائر مسافرات في الشهر والسنة مرات،بل هي دائبة في الحركة على توالى الأوقات.فمن الغرائب أن يدأب في الطواف بآحاد المساجد من أمرت الكعبة أن تطوف به،ومن الغرائب أن يطوف في أكناف الأرض من يطوف به أقطار السماء.ثم مادام المسافر مفتقرا إلى أن يبصر عالم الملك والشهادة بالبصر الظاهر فهو بعد في المنزل الأول من منازل السائرين إلى الله والمسافرين إلى حضرته،وكأنه معتكف على باب الوطن لم يفض به المسير إلى متسع الفضاء،ولا سبب لطول المقام في هذا المنزل إلا الجبن والقصور.ولذلك قال بعض أرباب القلوب:إن الناس ليقولون افتحوا أعينكم حتى تبصروا،وأنا أقول:غمضوا أعينكم حتى تبصروا، وكل واحد من القولين حق إلا أن الأول خبر عن المنزل الأول القريب من الوطن،والثاني خبر عما بعده من المنازل البعيدة عن الوطن التي لا يطؤها إلا مخاطر بنفسه؛والمجاوز إليها ربما يتيه فيها سنين وربما يأخذه التوفيق بيده فيرشده الى سواء السبيل،والهالكون في التيه هم الأكثرون من ركاب هذه الطريق ولكن السائحون بنور التوفيق فازوا بالنعيم والملك المقيم وهم الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى،واعتبر هذا الملك بملك الدنيا فإنه يقل بالإضافة الى كثرة الخلق طلابه،ومهما عظم المطلوب قل المساعد.ثم الذي يهلك أكثر من الذي يملك.ولا يتصدى لطلب الملك العاجز الجبان لعظيم الخطر وطول التعب: وإذا كانت النفوس كبـاراً تعبت في مرادها الأجسام