الفرق بين المراجعتين لصفحة: «إحياء علوم الدين/كتاب آداب السماع والوجد/الباب الأول»
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
صفحة جديدة: {{لا فهرس}} {{ترويسة |عنوان=إحياء علوم الدين |مؤلف= أبو حامد الغزالي |باب=<br>[[إحياء علوم الدين/كتاب ... |
|||
سطر 39:
بيان الدليل على إباحة السماع
اعلم أن قول القائل: السماع حرام، معناه أن الله تعالى يعاقب عليه، وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس على المنصوص. وأعني بالنص ما أظهره
أما القياس: فهو أن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها، فإن فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب. ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره. والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، والى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات.
سطر 45:
أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وللإنسان عقل وخس حواس ولكل حاسة إدراك، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ، فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة، وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشم الروائح الطيبة، وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة. وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة. وللعقل لذة العلم والمعرفة، و هي في مقابلة الجهل والبلادة.
فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير، ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها. فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها? أما النص: فيدل على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله تعالى على عباده إذ قال "يزيد في الخلق ما يشاء" فقيل هو الصوت الحسن وفي الحديث: "ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت" وفي الحديث في معرض المدح لداود عليه السلام أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه وفي تلاوة الزبور حتى كان يجتمع الغنس والجن والوحوش والطير لسماع صوته، وكان يحمل في مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب منها في الأوقات، وقال
الدرجة الثانية: النظر في الصوت الطيب الموزون؛ فإن الوزن وراء الحسن فكم من صوت حسن خارج عن الوزن وكم من صوت موزون غير مستطاب. والأصوات الموزونه باعتبار مخارجها ثلاثة: فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره، وإما أن تخرج من حنجرة حيوان؛ وذلك الحيوان إما إنسان أو غيره كصوت العنادل والقمارى وذات السجع من الطيور؛ فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ سماعها. والأصل في الأصوات حناجر الحيوانات، وإنما وضعت المزامير على أصوات الحناجر وهو تشبيه للصنعة بالخلقة. وما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعها؛ فمنه تعلم الصناع وبه قصدوا الإقتداء وشرح ذلك يطول. فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور. ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان. فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمى كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره.
ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها لا للذتها إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان. ولكن حرمت الخمور واقتضت ضراوة الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسر الدنان فحرم معها ما هو شعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط، وكان تحريمها من قبل الأتباع كما حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مقدمة الجماع، وحرم النظر إلى الفخذ لاتصاله بالسوأتين، وحرم قليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنه يدعو إلى السكر، وما من حرام إلا وله حريم يطيف به، وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام ووقاية له وحظار مانعاً حوله كما قال
الدرجة الثالثة: الموزون والمفهوم، وهو الشعر وذلك لا يخرج إلا من حنجرة الإنسان فيقطع إباحة ذلك لأنه ما زاد إلا كونه مفهوما، والكلام المفهوم غير حرام والصوت الطيب الموزون غير حرام، فإذا لم يحرم الآحاد فمن أين يحرم المجموع? نعم ينظر فيما يفهم منه فإن كان فيه أمر محظور حرم نثره ونظمه وحرم النطق به سواء كان بألحان أو لم يكن، والحق فيه ما قاله الشافعي رحمه الله إذ قال: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان جاز إنشاده مع الألحان. فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذلك المجموع مباحاً. ومهما انضم مباح إلى مباح لم يحرم إلا إذا تضمن المجموع محظوراً لا تتضمنه الآحاد. ولا محظور ههنا وكيف ينكر إنشاد الشعر وقد أنشد بين يدي رسول الله
وروى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجلـيل
سطر 59:
وهل أردن يوماً مياه مجـنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة رضي الله عنها: فأخبرت بذلك رسول الله
وقال أيضاً
وهذه في الصحيحين. وكان النبي
الدرجة الرابعة: النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغالب عليه. فأقول: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً. فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها؛ ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على ووزنها باليد والرجل والرأس. ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر، بل جار في الأوتار حتى قيل من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهون فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده? فإنه يسكنه الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه. والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة. ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراها إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها. فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقى رضي الله عنه قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه، فرأيت في الخباء عبداً أسود مقيداً بقيد، ورأيت جمالاً قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: أنت ضيف ولك حق فتشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك في هذا القدر، فعساه يحل القيد عني، قال. فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت، ماذا فعل? فقال: إن له صوتاً طيباً وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك، قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي، فما أظن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه. فإذن تأثير السماع في القلب محسوس. ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة. ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته. ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه ما في القلب.
سطر 85:
وأما الحزن المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه، وبكاؤه على خطاياه. والبكاء والتباكي والحزن والتحازن على ذلك محمود وعليه بكاء آدم عليه السلام. وتحريك هذا الحزن وتقويته محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك، ولذلك كانت نياحة داود عليه السلام محمودة إذ كان ذلك مع دوام الحزن وطول البكاء بسبب الخطايا والذنوب، فقد كان عليه السلام يبكي ويبكي ويحزن حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته. وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه: وذلك محمود لأن المفضى إلى المحمود محمود. وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرققة للقلب ولا أن يبكي ويتباكى ليتوصل به إلى تبكية غيره وإثارة حزنه.
الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيد للسرور وتهييجاً له، وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحاً كالغناء في أيام العيد وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة وعند ولادة المولود وعند ختانه وعند حفظه القرآن العزيز. وكل ذلك مباح لأجل إظهار السرور به. ووجه جوزاه أن من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب فكل ما جاز السرور به جاز إثاره السرور فيه. ويدل على هذا من النقل إنشاد النساء على السطوح بالدف والألحان عند قدوم رسول الله
طلع البدر علينا من ثنيات الودع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
فهذا إظهار السرور لقدومه
فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين وهو نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام. وفيها دلالة على أنواع من الرخص، الأول، اللعب: ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب. والثاني، فعل ذلك في المسجد. والثالث، قوله
السادس: سماع العشاق تحريكا للشوق وتهييجاً للعشق وتسلية للنفس. فإن كان في مشاهدة المعشوق فالغرض رجاء الوصال فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوة لذة الرجاء بحسب قوة الشوق والحب للشيء المرجو. ففي هذا وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله كمن يعشق زوجته أو سريته، فيصغي إلى غنائها لتضاعف لذته في لقائها. فيحظى بالمشاهدة البصر، وبالسماع الأذن، ويفهم لطائف معاني الوصال والفراق القلب، فتترادف أسباب اللذة. فهذه أنواع تمتع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها "وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" وهذا منه. وكذلك إن غضبت باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده. إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصال واللقاء. وأما من يتمثل في نفسه صورة صبي أو امرأة لا يحل له النظر إليها وكان ينزل ما يسمع على ما تمثل في نفسه فهذا حرام لأنه محرك للفكر في الأفعال المحظورة، ومهيج للداعية إلى ما لا يباح الوصول إليه. وأكثر العشاق والسفهاء من الشباب في وقت هيجان الشهوة لا ينفكون عن إضمار شيء من ذلك: وذلك ممنوع في حقهم لما فيه من الداء الدفين لا لأمر يرجع إلى نفس السماع. ولذلك سئل حكيم عن العشق فقال. دخان يصعد إلى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيجه السماع.
سطر 97:
السابع: سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه، ولا يقرع سمعه أحوالاً ن المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها ونيكرها من كل حسه عن ذوقها. وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية وجداً مأخوذ من الوجود والمصادفة أي صادف من نفسه أحوالاً لم يكن يصادفها قبل السماع. ثم تكون تلك الأحوال أسباباً لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقيه من الكدورات كما تنقى النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث، ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهات ومكاشفات وهي غاية مطالب المحبين لله تعالى ونهاية ثمرة القربات كلها فالمفضى إليها من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات. وحصول هذه الأحوال للقلب بالسماع سببه سر الله تعالى في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح وتسخير الأرواح لها وتأثرها بها شوقاً وفرحاً وحزناً وانبساطاً وانقباضاً. ومعرفة السبب في تأثر الأرواح بالأصوات من دقائق علوم المكاشفات. والبليد الجامد القاسي القلب المحروم عن لذة السماع يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله وتغير لونه تعجب البهيمة من لذة اللوزينج، وتعجب العنين من لذة المباشرة، وتعجب الصبي من لذة الرياسة واتساع أسباب الجاه، وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وعجائب صنعه. ولكل ذلك سبب واحد وهو أن اللذة نوع إدراك والإدراك يستدعي مدركاً ويستدعي قوة مدركة. فمن لم تكمل قوة إدراكه لم يتصور منه التلذذ فكيف يدر لذة الطعوم من فقد الذوق? وكيف يدرك لذة الألحان من فقد السمع? ولذة المعقولات من فقد العقل? وكذلك ذوق السماع بالقلب بعد وصول إلى السمع يدرك بحاسة باطنة في القلب، فمن فقدها عدم لا محالة لذاته.
ولعلك تقول: كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركاً له? فاعلم أن من عرف الله أحبه لا محالة، ومن تأكدت معرفته تأكدت محبته بقدر تأكد معرفته. والمحبة إذا تأكدت سميت عشقاً فلا معنى للعشق إلا محبة مؤكدة مفرطة. ولذلك قالت العرب: إن محمداً قد عشق ربه. ولما رأوه يتخلى للعبادة في جبل حراء. واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال والله تعالى جميل يحب الجمال. ولكن الجمال إن كان تيناسب الخفة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر. وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أدرك بحاسة القلب. ولفظ الجمال قد يستعار أيضاً لها فيقال: إن فلاناً حسن وجميل ولا تراد صورته. وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة، حتى قد يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة استحساناً لها كما تحب الصورة الظاهرة. وقد تتأكد هذه المحبة فتسمى عشقاً. وكم من الغلاة في حب أرباب المذاهب كالشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم? حتى يبذلوا أموالهم وأرواحهم في نصرتهم وموالاتهم ويزيدوا على كل عاشق في الغلو والمبالغة. ومن العجب أن يعقل عشق شخص لم تشاهد قط صورته أجميل هو أم قبيح وهو الآن ميت? ولكن لجمال صورته الباطنة وسيرته المرضية والخيرات الحاصلة من عمله لأهل الدين وغير ذلك من الخصال. ثم لا يعقل عشق من ترى الخيرات منه. بل على التحقيق من لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسناته وأثر من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده، بل كل حسن وجمال في العالم أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وستائر الحواس من مبتدإ العالم إلى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى منتهى الثرى فهو ذرة ن خزائن قدرته ولمعة من أنوار حضرته، فليت شعري كيف لا يعقل حب من هذا وصفه? وكيف لا يتأكد عند العارفين بأوصافه حبه حتى يجاوز حداً يكون إطلاق اسم العشق عليه ظلماً في حقه لقصوره عن الإنباء عن فرط محبته? فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار بإشراق نوره، ولولا احتجابه بسبعين حجاباً من نوره لأحرقت سبحات وجهه أبصار الملاحظين لجمال حضرته، ولولا أن ظهور سبب خفائه لبهتت العقول ودهشت القلوب وتخاذلت القوى وتنافرت الأعضاء، ولو ركبت القلوب من الحجارة والحديد لأصبحت تحت مبادئ أنوار تجليله دكاً دكاً، فأنى تطيق كنه نور الشمس أبصار الخفافيش. وسيأتي تحقيق هذه الإشارة في كتاب المحبة. ويتضح أن محبة غير الله تعالى قصور وجهل بل المتحقق بالمعرفة لا يعرف غير الله تعالى، إذ ليس في الوجود تحقيقاً إلا الله وأفعاله. ومن عرف الأفعال من حيث إنها أفعال لم يجاوز معرفة الفاعل إلى غيره. فمن عرف الشافعي مثلاً رحمه الله وعليه وتصنيفه من حيث إنه تصنيفه لا من حيث إنه بياض وجلد وحبر وورق وكلام منظوم ولغة عربية، فلقد عرفه ولم يجاوز معرفة الشافعي إلى غيره، ولا جاوزت محبته إلى غيره، فكل موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وفعله وبديع أفعاله فمن عرفها من حيث هي صنع الله تعالى فرأى من الصنع صفات الصانع كما يرى من حسن التصنيف فضل المصنف وجلالة قدره كانت معرفته ومحبته مقصورة على الله تعالى غير مجاوزة إلى سواه. ومن حد هذا العشق أنه لا يقبل الشركة وكل ما سوى هذا العشق فهو قابل للشركة؛ إذ كال محبوب سواه بتصور له نظير إما في الوجود وإما في الإمكان. فأما هذا الجمال فلا يتصور له ثان لا في الإمكان ولا في الوجود. فكان اسم العشق على حب غيره مجازاً محضالاً حقيقة. نعم الناقص القريب في نقصانه من البهيمة قد لا يدرك من لفظة العشق إلا طلب الوصال الذي هو عبارة عن تماس ظواهر الأجسام وقضاء شهوة الوقاع. فمثل هذا الحمار ينبغي أن لا يستعمل معه لفظه العشق والشوق والوصال والأنس، بل يجنب هذه الألفاظ والمعان كما تجنب البهيمة النرجس والريحان وتخصص بالفت والحشيش وأوراق القضبان. فإن الألفاظ إنما يجوز إطلاقها في حق الله تعالى إذا لم تكن موهمة معنى يجب تقديس الله تعالى عنه. لصفات الله تعالى وجد غالب يقطع بسببه نياط القلب. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله
قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الأرض? قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الجبال? قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الغيم? قالت: الله عز وجل، قال: إني لأسمع لله شأناً. ثم رمى بنفسه من الجبل فتقطع. وهذا كأنه سمع ما دل على جلال الله تعالى وتمام قدرته فطرب لذلك ووجدى فرمى بنفسه من الوجد. وما أنزلت الكتب إلا ليطربوا بذكر الله تعالى. قال بعضهم: رأيت مكتوباً في الإنجيل؛ غنينا لكم فلم تطربوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا. أي شوقناكم بذكر الله تعالى فلم تشتاقوا. فهذا ما أردنا أن نذكره من أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته وقد ظهر على القطع إباحته في بعض المواضع والندب إليه في بعض المواضع.
سطر 105:
العارض الأول، أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة وليس ذلك لأجل الغناء، بل لو كانت المرأة بحيث يفتتن بصوتها في المحاورة من غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضاً، وكذلك الصبي الذي تخاف فتنته.
فإن قلت: فهل تقول إن ذلك حرام بكل حال حسماً للباب أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة في حق من يخاف العنت. فأقول: هذه مسألة محتملة من حيث الفقه يتجاذبها أصلان؛ أحدهما? أن الخلوة بالأجنبية والنظر إلى وجهها حرام سواء خيفت الفتنة أو لم تخف لأنه مظنة الفتنة على الجملة. فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصور? والثاني: أن النظر إلى الصبيان مباح إلا عند خوف الفتنة فلا يلحق الصبان بالنساء في عموم الحسم بل يتبع في ه الحال،: وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين فإن قسناه على النظر إليها وجب حسم الباب وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أول هيجانها ولا تدعوا إلى سماع الصوت وليس تحليك النظر لشهوة المماسة كتحريك السماع بل هو أشد. وصوت المأة في غير الغناء ليس بعورة فلم تزل النسا في زمن الصحابة رضي الله عنهم يكلمن الرجال في السلام والاستفتاء والسؤال والمشاورة وغير ذلك. ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة. فقياس هذا على النظر إلى لصبيان أولى لأنهم لم يؤمروا بالحتجاب كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات. فينبغي أن يتبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه. هذا هو الأقيس عندي ويتأيد بحديث الجاريتين المغنيتين في بيت، عائشة رضي الله عنها! إذ يعلم أنه
العارض الثاني: في الآلة، بأن يتكون من شعار أهل الشرف أو المخنثين وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة. فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة. وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدف - وإن كان فيه الجلاجل - وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات.
العارض الثالث: في نظم الصوت وهو الشعر فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو أو ما هو كذب على الله تعالى وعلى رسوله
فتواجد عليه رجل أعجمي. فسئل عن سبب وجده فقال، إنهن يقول: ما زاريم. وهو كما يقول فإن لفظ زار يدل في العجمية على المشرف على الهلاك، فتوهم أنه يقول: كانا مشرفون على الهلاك، فاستشعر عند ذلك خطر هلاك الآخرة.
سطر 117:
العارض الرابع: في المستمع. وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه وكان في غزة الشباب وكانت هذه الصفة أغلب عليه من غيرها، فالسماع حرام عليه سواء غلب على قلبه حب شخص معين أو لم يغلب، فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصدغ والخد والفراق والوصال إلا ويحرك ذلك شهوته وينزله على صورة معينة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة وتحتد بواعث الشرش. وذلك هو النصرة لحزب الشيطان والتخذيل للعقل المانع منه الذي هو حزب الله قد فتحه أحد الجندين واستولى عليه بالكلية. وغالب القلوب الآن قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها فتحتاج حينئذ إلى أن تستأنف أسباب القتال لإزعاجها فكيف يجوز تكثير أسلحتها وتشحيذ سيوفها وأسنتها: والسماع مشحذ لأسلحة جند الشيطان في حق مثل هذا الشخص. فليخرج مثل هذا عن مجمع السماع فإنه يستضر به.
العارض الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق ولم يغلب عليه حب الله تعالى فيكون السماع له محبوباً، ولو غلبت عليه شهوة فيكون في حقه محظوراً. ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذات المباحة، إلا أنه إذا اتخذه ديدنه وهجيراه وقصر عليه أكثر أوقاته فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته، فإن المواظبة على اللهو جناية. وكأن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة فكذلك بعض المباحات بالمدوامة تصير صغيرة، وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعاً إذ فعله رسول الله
فإن قلت: فقد أدى مساق هذا الكلام إلى أنه مباح في بعض الأحوال دون بعض فلم أطلقت القول أولاً بالإباحة إذ إطلاق القول في المفصل بلا أو بنعم خلف وخطأ? فاعلم أن هذا غلط لأن الإطلاق إنما يمتنع لتفصيل ينشأ من عين ما فيه النظر، فأما ما ينشأ من الأحوال العارضة المتصلة به من خارج فلا يمنع الإطلاق، ألا ترى أنا إذا سئلنا عن العسل أهو حلال أم لا? قلنا: إنه حلالاً، على الإطلاق مع أنه حرام على المحرور الذي يستضربه وإذا سئلنا عن الخمر قلنا. إنها حرام. مع إنها تحل لمن غص بلقمة أن يشرها مهما لم يجد غيرها، ولكن هي من حيث أنها خمر حرام وإنما أبيحت لعارض الحاجة. والعسل من حيث إنه عسل حلال وإنما حرمن لعارض الضرر، وما يكون لعارض فلا يلتفت إليه فإن البيع حلال ويحرم بعارض الوقوع في وقت النداء يوم، الجمعة ونحوه من العوارض. والسماع من جملة المباحات من حيث إنه سماع صوت طيب موزون مفهوم وإنما تحريمه لعارض خارج عن حقيقة ذاته. فإذا انكشف الغطاء عن دليل الإباحة فلا نبالي بمن يخالف بعد ظهور الدليل.
سطر 123:
وأما الشافعي رضي الله عنه فليس تحريم الغناء من مذهبه أصلاً. وقد نص الشافعي وقال في الرجل يتخذه صناعة: لا تجوز شهادته. وذلك لأنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، ومن اتخذه صنعة كان منسوباً إلى السفاهة وسقوط المروءة، وإن لم يكن محرماً بين التحريم. فإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء ولا يؤتى لذلك ولا يأتى لأجله وإنما يعرف بأنه قد يطرب في الحال فيترنم بها لم يسقط هذا مروءته ولم يبطل شهادته. و استدل بحديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة رضي الله عنها، وقال يونس بن عبد الأعلى: سألت الشافعي رحمه الله عن إباحة أهل المدينة للسماع فقال الشافعي: لا أعلم أحداً من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان منه في الأوصاف، فأما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار فمباح.
وحيث قال: إنه لهو مكروه يشبه الباطل فقوله لهو صحيح. ولكن اللهو من حيث إنه لهو ليس بحرام فلعب الحبشة ورقصهم لهو وقد كان
وأما قوله مكروه، فينزل بعض المواضع التي ذكتها لك أو ينزل على التنزيه فإنه نص على إباحة لعب الشطرنج وذكر أني أكره لعب وتعليله يدل عليه فإنه قال: ليس ذلك من عادة ذوي الدين والمروءة. فهذا يدل على التنزيه. ورده الشهادة بالمواظبة عليه لا يدل على تحريمه أيضاً بل قد ترد الشادة بالأكل في السوق وما يحرم المروءة، بل الحياكة مباحة وليست من صنائع ذوي المروءة، وقد ترد شهادة المحترف بالحرفة الخسيسة فتعليله يدل على أنه أراد بالكراهة التنزيه. وهذا هو الظن أيضاً بغيره من كبار الأئمة. وإن أرادوا التحريم فما ذكرناه حجة عليهم.
سطر 129:
بيان حجج القائلين بتحريم السماع والجواب عنها
احتجوا بقوله تعالى "ومن الناس من يشتري لهو الحديث" قال ابن مسعود والحسن البصري والنخعي رضي الله عنهم: إن لهو الحديث هو الغناء. وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي
حكى عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب مع رسول الله
واحتجوا بقوله تعالى: "أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون" قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الغناء بلغة حمير - يعني السمد - فنقول: ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضاً لآن الآية تشتمل عليه.
سطر 137:
فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم? فهذا أيضاً مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون" وأراد به شعراء الكفار. ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه.
واحتجوا بما روى جابر رضي الله عنه أنه
واحتجوا بما روى أبو إمامة عنه
واحتجوا بما روى عقبة بن عامر أن النبي
واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت ولا مست ذكري بيميني مذ بايعت بها رسول الله
واحتجوا بقول ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت في القلب النفاق، وزاد بعضهم كما ينبت الماء البقل ورفعه بعضهم إلى رسول الله
وأما القياس: فغاية ما يذكر فيه أن يقاس على الأوتار، وقد سبق الفرق، أو يقال هو لهو ولعب، وهو كذلك ولكن الدنيا كلها لهو ولعب. قال عمر رضي الله عنه لزوجته: إنما أنت لعبة في زاوية البيت. وجميع الملاعبة مع النساء لهو إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد. وكذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال. نقل ذلك عن رسول الله
|