الفرق بين المراجعتين لصفحة: «ويكي مصدر:الميدان/أرشيف 2012»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل
رجوع عن تخريب
سطر 530:
 
شكرا --[[مستخدم:Adam nohe|آدم الظاهري]] ([[نقاش المستخدم:Adam nohe|نقاش]]) 12:10، 19 فبراير 2009 (ت.ع.م.)
 
--------------بسم الله الرحمن الرحيم---------------------------
الثقافة الاستنباطية في الفقه الاسلامي
أ.د. زهير الحسني
استاذ القانون الدولي
alhassani14@hotmail.com
 
مقدمة
تهتم الشرائع الدينية بالجانب القيمي للعلاقات الانسانية من الناحية المعرفية من جهة ومن الناحية التربوية السلوكية من جهة اخرى. وبهذا تختلف هذه الشرئع عن الحركات الاجتماعية والسياسية التي تتقوم بعلاقات القوى والتغالب الفردي والاجتماعي.
ولكي تتميز الشرائع الدينية بقيمها المعرفية والسلوكية المذكورة من حيث مدى مصداقيتها في هذين المجالين، فانها تحرص على ضبط السلوك الانساني بقواعد خاصة مبنية على مراعاة تلك القيم والانفعال بها. ويلعب كل من الضمير والميتافيزيقا دور الرقيب في التحكم " بالانا" التي تحرك اسباب الصراع الفردي والاجتماعي في العلاقات الانسانية، وذلك بالامتثال الى وسائل العبادات والمعاملات التي تتحكم في السلوكين الشخصي والاجتماعي للانسان وفق المعايير المعرفية والسلوكية انفة الذكر. وتدور عملية استنباط الحكم الشرعي من مظانه من خلال مصدرين اساسيين هما الدليل النقلي ويتضمن نصوص الكتاب الكريم والسنة. والدليل العقلي المشتمل على المستقلات العقلية واللامستقلات العقلية توصلاً لمعرفة اليات ضبط السلوك الفردي والاجتماعي. وتبغي هذه الدراسة تسليط الضوء على الدور الذي يلعبه كل من هذين الدليلين في عملية الاستنباط التي تتحرك وفق معايير علمية وموضوعية وذوقية ذاتية ناجمة عن ثقافة الفقيه ومداركه الاجتهادية وذلك لمواكبة اليات ضبط السلوك المشار اليها لتكون قادرة على توظيف القيم المعرفية والسلوكية لخدمة الانسان الذي كرمته الشرائع.
 
 
 
 
 
 
 
 
المطلب الاول
الدليل النقلي
وهو النص الذي يعرّف بانه الخطاب الشرعي الذي منه يستنبط الحكم الشرعي بواحدة او اكثر من القواعد الاصولية التي تعتبر بمثابة كبريات واقعة في طريقة عملية الاستنباط. بحيث يتم الاستدلال بها على الحكم الشرعي التفصيلي دلالة ظنية حسبما تقتضيه هذه العملية بالنظر لما يشوب النص من عموم او اطلاق او اشتراك او اجمال بقرينة او بدون قرينة في الدلالة المنطوقية بله الدلالة المفهومية. الا ما كان قطعياً باعتباره من الضروريات. وبالنظر للوضع في الحديث فان دلالة الصدور هي بدورها ظنية الا ما كان وارداً بالتواتر وهو قليل. وبهذا فان الدلالة الظنية تحيط بالنص في المعنى وفي السند، وهذه هي اشكالية النص.
وادى انقطاع النص كمصدر للتشريع الى انسداد باب العلم بالحكم الشرعي الواقعي، مما استلزم تدوين الحديث بغية الحفاظ على التراث الشرعي. وبدأ الكليني (ت 329) اثناء الغيبة الصغرى هذه المهمة بتدوين الكافي واعقبه الصدوق (ت 381) بتدوين من لا يحضره الفقيه. واتم الطوسي ( ت 460) المهمة بتدوين التهذيب والاستبصار. وقد سبق الجمهور الامامية بتدوين الحديث زمن المتوكل اثر انحسار نفوذ المعتزلة، وذلك في الصحاح الستة من قبل البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن داود وابن ماجة. وسميت بالصحاح لانها تضم الاحاديث المعتمدة لدى مدونيها. اما الامامية فقد نهجت منهجاً اخر فجمعت الحديث دون تحقيق وضمت مصنفاتها الحديث صحيحه وضعيفه بما يمكن الفقهاء والمتكلمين من تحقيق هذه الاحاديث واعتماد صحيحها وترك ضعيفها. ولكن هذه الميزة ضاعت مع الزمن، فاحاطت الامامية مصنفاتها لتدوين الحديث بالقداسة التي احاط الجمهور صحاحه بها، مما قطع الطريق امام الثقافة الامامية من معرفة الحقيقة العلمية على الصعيدين الشرعي والعقائدي. بل وجذبت اخبار الاحاد العامة من الامامية بما ساعد على شيوع الغلو والافتاء بما يتعارض والدليل العقلي. وساعد على هذا الاتجاه قرب التدوين من عصر الامام من جهة واستجابة المدون من الحديث لحاجات العلاقات الاجتماعية انذاك، حتى شاع في الوسط الامامي القول بان " الكافي كاف لشيعتنا" مما مهد للفكر الاخباري من ارساء جذوره في هذه الفترة وعلى يد الصدوق الذي لم يسلم من النقد حتى من قبل تلاميذه وعلى رأسهم المفيد (ت 413). ذلك لان الفكر الامامي وخاصة العراقي منع مطبوع بالحركة والروح النقدية، فتصدى ابن ابي عقيل النعماني (ت 381) المعاصر للكليني للقول برفض العمل باخبار الاحاد ولم يعتبرها حجة واقام منهجه الفقهي على الاستدلال بعام القواعد الفقهية والخبر الصحيح، وهو بهذا المنهج اول من فتق البحث العلمي في الاصول والفروع. ونقلت اراؤه في امهات المصنفات الفقهية الامامية. وتبعه ابن الجنيد الاسكافي ( ت 378) الذي استدل بالعقل في استنباط الحكم الشرعي بالمقارنة بين الاشباه والنظائر مما اعتبر ذلك عملاً بالقياس كما هو ظاهر في كتاب تهذيب الشيعة الجامع للاصول والفروع وفي كتابه كشف التمويه والالباس على اغمار الشيعة في امر الاجتهاد.
وامتد هذا النهج الى الطوسي ( ت 460) في مدرسته في بغداد حيث ميزّ بين فقه الرواية وهو فقه النصوص وفقه الدراية وهو فقه الاستنباط. وظهر في كتابيه المبسوط والخلاف كمجتهد مطلق وتأثر بعبارات الجمهور ونقل عنهم في العدة في الاصول عن الشافعي. الا ان الطوسي سلك مسلك الاخباريين في النجف الاشرف في كتابه النهاية وانصرف الى جمع الحديث في الاستبصار وتهذيب الاحكام حيث ذكر فيها الاحاديث المتعارضة بما يدفع الفقيه الى التحقيق فيها للتأكد من صحتها حيث لا يمكن الجمع بينها. الا ان المسلك العقلي كان ومازال حالة عارضة في الثقافة الاسلامية الشيعية والسنية، منذ انحسار سلطان المعتزلة الذي تزامن مع ارهاصات ضعف الدولة العباسية، مما يدفع العامة الى الالتجاء للغيبيات و الانفعال بالروايات التي يشوبها الغلو من خلال المنحى القصصي والاسرائيليات واسلوب الوضاع في الترغيب والترهيب سوى اكان في مدح ال البيت او الصحابة، حتى ذهب الاصوليون الى القول بالتسامح في ادلة السنن مما يضعف الروح العلمية في تنقيح الحديث سنداً ومتناً.
وادت هيمنة شخصية الطوسي قروناً على شيوع النمط الاخباري في التعليم والافتاء بالاعتماد على الكتب الاربعة رغم محاولة مدرسة الحلة العقلية في العودة الى الاستدلال العقلي. ورفض ابن ادريس (ت 598) العمل بالاحاد وتطورت ابحاث المحقق الحلي
( ت 676) والعلامة الحلي (ت 726) في علم الاصول وبرز علم الرجال والجرح والتعديل على يد جمال الدين بن طاووس (ت 673).
وساعد على تنامي الفكر الاخباري انتشار التصوف بعد سقوط بغداد 656 ومجيء المغول ثم الصفويين، الذين اعتنقوا المذهب الشيعي واشاعوا فيه الفكر الاشراقي القائم على الوجدان بدلاً عن البرهان، ومما زاد في ضمور الفكر الاستدلالي تقريب الصفويين للاخباريين و قبولهم التعاون مع الدول الغربية وعملوا على الحد من نفوذ العقليين الذين رفضوا التعاون معهم وفضلوا البقاء في العراق وفي مقدمتهم الشهيد الاول (ت 786) والشهيد الثاني
( ت 965) وابنه صاحب المعالم ( ت 1011) وسبطه محمد صاحب المدارك (ت 1009).
وبقيت النجف بعيدة عن السلطان والتدخل في شؤون مما جعل ذلك مسلكاً خاصاً بالمدرسة النجفية تلتزم به لحد الان. ودعم الصفويون الحركة الاخبارية النامية في البحرين، مما مهد لظهور تيار محمد امين الاستربادي ( ت 1033) ويوسف البحراني ( ت 1186) والماحوزي (ت 1129) الذي روج رأي الاخباريين في وجوب الجمعة في غيبة المعصوم.
كما ساعد على رواج الاخبارية تعاظم نفوذ المتصوفة الامامية على يد الداماد (ت 1041) والفيض الكاشاني (ت 1090) والملا صدر الدين الشيرازي (ت 1050) الذي انتقد الفقهاء والاستدلال العقلي.
وفي هذه الفترة صنفت الطائفة الثانية من مجاميع الحديث وفي مقدمتها بحار الانوار لمحمد باقر المجلسي (ت 1110) والوافي للفيض الكاشاني (ت 1090) ووسائل الشيعة للحر العاملي (ت 1104) مما ساعد على الخمول الفكري خاصة مع سقوط الدولة الصفوية.
ولم يغير القاجاريون من نهج الصفويين في محاربة الاصوليين وتأييد الشيخ احمد الاحسائي (ت 1241) رأس جماعة الكشفية والمشاهدة والذي قال بالتفويض والغلو. ولم يتوقف هذا التيار الا بقتل الميرزا محمد الانباري في الكاظمية في 1232 هجري. وعمل الوحيد محمد باقر البهبهاني (ت 1205) على اعادة الروح الى المدرسة الاصولية بفضل تقربه من القاجاريين ثم جاء دور جعفر كاشف الغطاء (ت 1298) الذي تصدى بقوة للاخباريين وكفّر الاحسائي وساعده في ذلك دعمه القاجاريين حيث اجاز لفتح على شاه السلطة بالنيابه عنه باعتباره نائب الامام المعصوم. وفرض كتاب " القوانين" للمحقق القمي (ت 1232) للتدريس في النجف الاشرف وتوّج مرتضى الانصاري (ت 1281) المنهج الاصولي الحديث في كتابه الرسائل (فرائد الاصول) وهكذا تنتهي المرحلة الاخبارية بتحقق تحولين اساسيين:
الاول: التطور الاصولي، باقرار الوحيد البهبهاني بالحجة الذاتية للقطع من جهة وتمييزه بين مباحث القطع والظن والشك من جهة اخرى، واختصاص الادلة الاجتهادية بالحكم الشرعي الواقعي بينما تنتفي الادلة الاجتهادية في موارد الشك حيث تجري الفتوى بالحكم الظاهري بالعمل بالوظيفة العملية والشرعية. وعلى هذا الاساس اقام الانصاري دراسة علم الاصول في المنهج الحديث عند الامامية. وهذا التمييز لا نلاحظه في دراسة اصول الفقه عند الجمهور حيث ترد مباحث الشك من استصحاب وبراءة واحتياط وتخيير موزعة في مظان ابحاث الادلة الاجتهادية النقلية والعقلية.
الثاني : التطور الفكري ، باقرار الشيخ الانصاري الملازمة بين العقل والشرع فما يقضى به العقل يقضي به الشرع.
 
 
 
المطلب الثاني
الدليل العقلي
هو حكم العقل بوجوب القطع بالحكم الشرعي مباشرة (المستقلات العقلية) او بواسطة مرتكز شرعي (اللامستقلات العقلية). والعقل عند الاصوليين مدرك للاحكام الشريعة لا منشئ لها لانها ليست وقائع ذهنية حتى تصدر عن العقل النظري ولا هي وقائع خارجية تدرك بالعقل العلمي، بل هي واقعة في عالم الاعتبار وهو المطلق عند هيغل والكليات عند راسل ولوح الواقع عند الصدر. ويربط المتكلمون العقل بمفهوم الحسن والقبح العقليين لاستحقاق الثواب والعقاب والمدح والذم. ويرفض الاشاعرة هذا الربط بدعوى ان العقل لا يستقل بتقرير الثواب والعقاب ولذا فلا توجد ملازمة بين العقل والشرع لديهم لان احكام العقل العملي لا تكفي بمفردها اثبات هذه الملازمة حيث يلزم اخضاعها لبرهان العقل النظري الذي لا يستطيع اثبات هذه الملازمة لانهم لا يرون العقل قادراً على ادراك ان الحسن يقضي بالضرورة اقتضاء المدح والثواب. وهو رأي الصدر والامامية قبل الوحيد البهبهاني. وبالمقابل اسبغ مرتضى الانصاري الطابع البديهي على حجية اليقين ومدركات العقل العلمي والربط بين الحسن والقبيح ومقتضاهما. فالعقل لديه يدرك بالضرورة استحقاق الثواب والعقاب لانه حاكم على هذه المدركات وليس الحسن الا استحقاق المدح والقبح استحقاق الذم والا فلا جدوى من هذه المدركات، ذلك لان العقل ليس مجرد مرأة لتصور المدركات الذهنية والخارجية وانما هو مدرك لمعانيها ومقاصدها كذلك. ووجه ذلك ان العقل يدرك الارتباط بين الاحكام الشرعية والمصالح والمقاصد، وان غاية هذه الاحكام جلب المصالح ودرء المفاسد، وما دام الحسن مصلحة فهو يقتضي الثواب وما دام القبح مفسدة فانه يقتضي العقاب، وذلك حتى يستقيم الاجتماع، وهو ما يتقضيه العقل النظري ويبرهن عليه بقطع النظر عن التجربة والعرف بمقتضى الظروف عند الانصاري والخوئي، والقول بخلافه يؤدي الى القول بالتفكيك بين الشيء ونفسه.
واذا كان الامر كذلك، فالملازمة قائمة عند من يؤمن بها بوجود الدليل على الحكم الشرعي، ولا يحتاج من ينكرها اليها لوجود هذا الدليل، انما المشكلة تقوم عند فقدان الدليل، فهل يؤدي العقل الوظيفة العقلية باستنباط الحكم الشرعي من خلال المستقلات العقلية، وذلك بالملازمة بين العقل والشرع، ام ينكص عن هذا الاداء لعدم امكان هذه الملازمة؟
وجوابه ان العقل من صنع الشارع الحكيم منحه للانسان لتوظيفه عند الاقتضاء. وانعدام الدليل الشرعي النصي، يقتضي حكم العقل للوصول الى الحكم الشرعي، خاصة وان العقل هو مناط الامانة التي حملها الانسان بينما اشفق الغير منها، والا فلا معنى لهذه الامانة اذا نكصت عن هذا الاقتضاء. وبناء عليه، لا يقال بان لا حجة للعقل في اكتشاف الحكم الشرعي لان دلالته ظنية وان شرع الله تعالى لا يؤخذ بالظنون لانه لاحيلة للمكلف لتوسل الحكم الشرعي بغير ذلك لانقطاع الصلة بالمعصوم وانسداد باب العلم به ذلك، لان النصوص متناهية بينهما الوقائع غير متناهية وما يتناهى لا يدرك ما لا يتناهى. ويترتب على مبدأ الانسداد ما يلي:
‌أ. ان ظن الفقيه بحكم شيء يقتضي العمل به لجلب مصلحة او دفع مفسدة وهو غاية الحكم الشرعي، وحجية هذا الظن عقلية وان كانت غير ذاتية لانها لابد ان تنتهي الى القطع بواسطة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. واذا كانت حجية الظن عرضية فان كل ما بالعرض لابد ان ينتهي الى ما بالذات.
‌ب. لو لم يتم العمل بالظن لوقع المكلف في دائرة الشك ويزول الشك بالظن من باب الورود لانه راجح عليه ورافعه موضوعاً. فمتى ما حصل الفقيه على الحكم الشرعي بالظن ارتفع الشك.
‌ج. يؤدي العمل بالاحتياط في موارد العلم الاجمالي للعسر او التضاد عند دوران الامر بين محذورين ويرتفع العسر بالعمل بالظن لان العمل بالبراءة في كل حكم يؤدي الى الغاء الشرع.
‌د. ان الظن بالحكم حجة لان طريقيته حجة ويصبح العمل بما هو دونه بالوظيفة العملية في مورد الشك عمل بالمرجوح، لان الاحكام العقلية عامة لا تقبل التخصيص، وما دام العقل يقضي بحجية الظن فان الحكم العقلي حجة عقلاً. وحيث لا دخل للشارع في طريقية العلم، فانه لا دخل له في طريقية الظن متى ما قطع الظان بظنه والقطع ذاتي الحجة متى ما قام على مستنده العقلي، وبناء عليه يكون العمل بالقياس مشروعاً متى ما تم القطع بالعلة سواء عن طريق الكشف عن الحكم الشرعي من باب الطريقية او من باب الحكومة من حيث ان العقل يحكم بان الظن طريق للحكم بعد انسداد باب العلم، اذ لا بد من الامتثال للشرع بالقياس باعتباره طريقاً للحكم وليس باعتباره دليلاً عليه وذلك على سبيل الموجبة الكلية حيث الطريقية تثبت لكل ظن بما في ذلك القياس، لذا فان النزاع لا يدور حول مشروعية القياس وانما في القطع بالعلة التي يقوم عليها، لان ثبوت العلة يؤدي بالضرورة الى الحكم بسبب عدم جواز تخلف المعلول عن العلة.
ولبيان الموقف من القياس واشكاليته بخصوص العلة، يتم التمييز بين نوعيه:
الاول : القياس منصوص العلة او القطعي او الجلي. وهو القياس الذي تعرف علته من النص الشرعي، وبذلك تكون مسالكه مقطوع بها، ولا نزاع في شرعيته بالنظر للقطع بعلته من قبل الفقيه بتحقيق المناط الظاهر في الحكم الشرعي وذلك :
‌أ. بقياس الاولوية الذي تعرف علته بمنطوق النص كحرمة ضرب الوالدين قياساً على حرمة القول لهما بأفٍ.
‌ب. بالدلالة بالايماء على العلة فالافطار علة للكفارة والسفر علة للقصر وعدم الماء علة للتيمم.
‌ج. بالدلالة المناسبة على العلة بين الحكم والموضوع فحفظ النفس علة للقصاص وحفظ المال علة في الضمان.
‌د. بالدلالة على العلة بالشبه وهو الوصف المناسب للحكم كتعليل الحرمة بالسكر.
الثاني: القياس مستنبط العلة. وهو القياس الظني الذي يتوخى فيه الفقيه العلة بتخريج المناط من يبن اوصاف عديدة يمكن ان يقوم عليها الحكم الشرعي المقاس عليه. وينازع معظم الامامية والظاهرية في صحته لاحتمال عدم توصل الفقيه الى علة الحكم، فالنزاع في العلة هو في مرحلة الاثبات لا الثبوت بالنظر لعدم امكان تخلف المعلول عن علته. ووجه النزاع في الاثبات هو امكان عدم اصابة العلة للاسباب الاتية:
أ‌. عدم تمام وصف العلة.
ب‌. الخلط بين العلة والاوصاف الاخرى كالحكمة.
ت‌. عدم اطراد العلة او تعديها الى الحكم.
ولكن اذا ما قطع الفقيه بالعلة التي توصل اليها فقطعه حجة عليه وعليه الامتثال للحكم الشرعي الذي قطع به، سواء اكانت العلة منصوصاً عليها او مستنبطة. وهو ما يفهم من قول ابن زهرة الحلبي (ت 585) بان " يجوز من جهة العقل التعبد بالقياس في الشرعيات لانه يمكن ان يكون طريقاً الى معرفة الاحكام الشرعية ودليلاً عليها. الا ترى انه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلاً بين ان ينص الشارع على تحريم جميع المسكر وبين ان ينص على تحريم الخمر بعينها وينص على ان العلة في هذا التحريم هي الشدة. لا فرق بين ان ينص على العلة وبين ان يدلّ بغير النص على ان تحريم الخمر لشدتها او ينصب لنا امارة تغلب في الظن عندها ان تحريم الخمر لهذه العلة، مع ايجابه القياس عليها في هذه الوجوه كلها، لان كل طريق منها يوصل الى العلم بتحريم النبيذ المسكر. ومن منع من جواز ورود العبارة باحدها كمن منع من جواز ورودها بالباقي"،(الغنية 386).
ولا يبقى بعد الحكم بطريقية القياس لا كتشاف الحكم امام المعارضين للقياس الا الاحتجاج بخروجه عن الحجية بالتخصص. فاذا كان هذا التخصص بالاستدلال بمثل رواية (ابان) فهو من باب الاستدلال بالضعيف والرواية مستدل بها بالقياس الذي يمكره المعارضون. اما في غير رواية ابان فعلى فرض صحتها فانها محمولة على النهي عن القياس والاستحسان بوجود المعصوم، وهو ما يفهم من الروايات التي تروى عن الصادق بسبب شيوع العمل بالقياس والاستحسان من قبل الجمهور، واغلب اوجه الاستدلال بعدم حجية القياس انها تخص القياس مقابل النص ولا يقول احد بالقياس مقابل النص لان النص وارد عليه.
الثالث: القياس بالمصلحة. وهو القياس المبني على الحاق حكم واقعة باخرى لمساواتها في المصلحة ذاتها. ويتولى الفقيه تخريج المصلحة من الواقعة لما لها من اوصاف متعددة كما هو شأن القياس مستنبط العلة وكل ذلك في اطار مقاصد الشريعة التي يدركها الفقيه اما من خلال القواعد الفقهية او من خلال السياق التشريعي، ومن ذلك قياس مطلق الغسل المندوب وغير المندوب على الاغسال الواجبة في اجزائها عن الوضوء، لان المصلحة في جميع هذه الاغسال هي الطهارة الواردة في آية الوضوء، خاصة وان التطهير في الاغسال يشمل جميع اجزاء الجسم بينما التطهير في الوضوء يخص بعض هذه الاجزاء ومن يملك الكل يملك الجزء كما هو منطق العقلاء. والحكم بالحكمة القطعية نصاً او تخريجاً حجة بالنظر للحجة الذاتية للقطع.
وهذا هو القياس الخفي الذي اشتهر به مالك وتلامذته والمسمى بالمصالح المرسلة. ويذهب منهج جديد في الحوزة العلمية بالعمل بمقاصد الشريعة في باب الاستنباط، وينبغي التنويه ان العمل بها انما يجري مجرى عملية الاستنباط الاعتيادية في علم الاصول وليس في مواجهتها كما يبدو من لسان بعض الداعين الى بناء العملية الاستنباطية كلها على مقاصد الشريعة. ذلك لان مقاصد الشريعة في قياس المصلحة انما يقع في طريقية الحكم الشرعي وليست هي الحكم الشرعي في حد ذاته، مما ينبغي التنويه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الخاتمة
وثمرة القول ان تصدي الاسلام المدني للعملية السياسية بعد 9/4/2003 يطرح على الصعيد الفقهي ضرورة الاستنباط في دائرة الحكم الواقعي بالعمل بالادلة الاجتهادية لمواجهة الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يشهدها العراق، وعدم الاكتفاء باستنباط الحكم الظاهري في حدود الادلة الفقاهتية التي لا تستطيع مواكبة الوقائع غير المتناهية للمجتمعين المدني والسياسي، ذلك لان بناء الوظائف الشرعية والعلمية على البراءة الغاء للتشريع الاسلامي ونكوص عن مواجهة التطور الاجتماعي.
ويمكن للفقيه ان يستعين بالدليل العقلي في عملية الاستنباط من خلال الاتي :
‌أ. استنباط الحكم الواقعي من مجموعة القواعد الفقهية بدلالة عموم اللفظ، فالتدخين محرم بقاعدة لا ضرر وليس مباحاً بالبراءة الشرعية.لان قاعدة لاضرر ولا ضرار من قواعد الادلة الاجتهادية التي تحكم او ترد على الاصول العملية فلا مجال لجريان هذه الاصول من اصالة البراءة او الاستصحاب او الاحتياط, لان جريان هذه الاصول مشروط بعدم وجود دليل اجتهادي في موردها.
‌ب. استنباط الحكم الواقعي بالقياس مستنبط العلة بتخريج المناط تخريجاً قطعياً. ولما كانت حجية القطع ذاتية فانه في هذا المقام حجة. فعلة تحريم الخمر هو الاسكار لا السيولة او العنبية فيقيس الفقيه كل مسكر على الخمر في تحريمه سواء اكان مأخوذ من العنب او من الشعير او من غيرهما. فالعلة هي في تحريم التشابه لا التماثل فالعنب والشعير متشابهان في الاسكار لا متماثلان. اما تخريج المناط ظناً لا قطعاً فشأنه شان الاحكام الظنية الاخرى نقلية كانت ام عقلية ولا ينحصر بالقياس دون غيره.
‌ج. استنباط الحكم الواقعي بالقياس بالحكمة، والفرق بين القياس بالعلة عن القياس بالحكمة ان العلة منضبطة بخلاف الحكمة التي ملاكها مقاصد الشريعة التي يدركها الفقيه بناء على ذوقه الاجتهادي، كمقياس جميع الاغسال على الواجب منها في الاجزاء عن الوضوء، لان الحكمة في الجميع هي التطهير. ولا ينبغي ان يفهم ان الاستنباط عن طريق مقاصد الشريعة هو استنباط بدون ضابط، وانما يقوم على مرتكز شرعي من نقل او اجماع، فالحكمة منصوص عليها في اية الوضوء وهي بهذه المثابة صالحة لقيامها على سائر الاغسال في التطهير.
‌د. ان الاستنباط بالاحاد عمل بالظن المطلق لا بالظن الخاص، لان الخصوصية التي يستند عليها العاملون باخبار الاحاد مبنية على هذه الاخبار ذاتها وفي هذا دور وهو باطل.
‌ه. لا يحتج ببطلان الاستنباط بالقياس بالروايات الناهية عنه لانها هي في حد ذاتها من الاحاد وانها محمولة على القياس في مقابل النص مما لا يقول به احد لان النص مانع من القياس من باب الحكومة كقياس ابليس، خاصة وان القياس شاع عند الجمهور زمن وجود المعصوم مما يمكن حمل الروايات الناهية عن القياس بوجود المعصوم فقط، لان المنع عن العمل بالقياس مخصوص بحالة الانفتاح فلا يعم حالة الانسداد.
وكما يقول أبو الحسن الأصفهاني بأنه لا يبعد الالتزام بالعمل بالقياس فيما اذا انسد باب العلم والعلميّ وكانت الضرورة ملجئة اليه بأن لايكون شئ أقرب الى الواقع منه. " وسيلة الوصول الى حقائق الاصول لحسن السيادتي السبزواري. تقريرات السيد أبو الحسن الاصفهاني. مؤسسة النشر الاسلامي 1419هج .ص557".