الفرق بين المراجعتين لصفحة: «كتاب الفوائد»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
استبدال الصفحة ب'{{مركزية | عنوان = كتاب الفوائد | مؤلف = ابن القيم | باب = | سابق = → [[مؤلف:ابن …'
سطر 1:
{{مركزية
'''كتاب الفوائد''' للإمام شمس الدين أبي عبد الله [[ابن القيم]]
| عنوان = [[كتاب الفوائد]]
| مؤلف = ابن القيم
| باب =
| سابق = → [[مؤلف:ابن القيم|صفحة ابن القيم]]
| لاحق = [[كتاب الفوائد/1|كتاب الفوائد - 1]] ←
| ملاحظات = ''' كتاب الفوائد '''
}}
{{نثر}}
 
 
== ‏ الانتفاع بالقرآن وشروطه ==
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وأَلْقِ سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه وإليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله ، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 37 من سورة ق‏. وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد‏.‏
 
فقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏إن في ذلك لذكرى» ‏ إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، وهذا هو المؤثر، وقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ لمن كان له قلب» ‏ فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏ «‏إن هو إلا ذكر وقرآن مبين‏.‏ لينذر من كان حيًّا» ‏ ‏الآيتان‏:‏ 69‏.‏ 70 من سورة يس‏. أي حي القلب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏أو ألقى السمع» ‏ أي وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام‏.‏ وقوله تعالى ‏ «‏وهو شهيد» ‏ أي شاهد القلب حاضر غير غائب‏.‏
 
قال ابن قتيبة ‏ ‏:‏ استمع كتاب الله، وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر‏.‏
 
فإن قيل‏:‏ إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه، فما وجه دخول أداة ‏ «‏أو‏» ‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏أو ألقى السمع» ‏ والموضع موضع واو الجمع ‏ «‏ يقصد واو العطف التي تجمع بين شيئين فحينما تقول‏:‏ جاء محمد وعلي، فقد اجتمع مجيء كل منهما» ‏ لا موضع ‏ «‏أو‏» ‏ التي هي لأحد الشيئين‏.‏
 
{{كتاب الفوائد}}
قيل‏:‏ هذا سؤال جيد، والجواب عنه أن يقال‏:‏ خرج الكلام بـ ‏ «‏أو‏» ‏ باعتبار حال المخاطب المدعو، فإن من الناس من يكون حي القلب و اعيه، تامّ الفطرة، فإذا فكَّر بقلبه وجال بفكره، دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة‏.‏ وهذا وصف الذين قيل فيهم‏:‏ ‏ «‏ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 6 من سورة سبأ‏.‏‏‏ وقال في حقهم‏:‏ ‏ «‏ الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء» ‏ فهذا نور الفطرة على نور الوحي‏.‏ وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي‏.‏ قال ابن القيم‏:‏ وقد ذكرنا ما تضمنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب ‏ «‏اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة و الجهمية ‏» ‏ فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن فيجدها كأنها قد كتبت فيه، فهو يقرأها عن ظَهْر قَلْب‏.‏
 
ومن الناس من لا يكون تامَّ الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة، فيحتاج إلى شاهد يميز له بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره و زكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي، فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام وقلبه لتأمله والتفكر فيه وتعقل معاينه، فيعلم حينئذ أنه الحق‏.‏
فالأول حال من رأى بعينه ما دعي عليه وأخبر به‏.‏ والثاني حال من علم صدق المخبر وتيقنه وقال‏:‏‏‏ « ‏ يكفيني خبره‏» ‏ فهو في مقام الإيمان، والأول في مقام الإحسان‏.‏
 
هذا وقد وصل إلى علم اليقين، وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين، وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام‏.‏ فعين اليقين نوعان‏:‏ نوع في الدنيا ونوع في الآخرة، فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد إلى العين‏.‏ وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار، وفى الدنيا بالبصائر،‏ « ‏البصائر‏:‏ من البصيرة وهي التعقل والفطنة والانتباه‏.‏‏» ‏ فهو عين يقين في المرتبتين‏.‏
 
 
== سورة ‏ ق‏ جامعة لأصول الإيمان ==
وقد جمعت هذه السورة من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي، ويغني عن كلام أهل المعقول، فإنها تضمنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوة والإيمان بالملائكة، وانقسام الناس إلى هالك شقي وفائز سعيد، وأوصاف هؤلاء وهؤلاء‏.‏ وتضمنت إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب وذكر فيها القيامتين‏:‏ الصغرى والكبرى، والعالمين‏:‏ الأكبر وهو عالم الآخرة، والأصغر وهو عالم الدنيا، وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته، وحاله عند وفاته ويوم معاده، وإحاطته سبحانه به من كل وجه حتى علمه بوساوس نفسه وإقامة الحفظة عليه يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها، وأنه يوافيه يوم القيامة ومعه سائق يسوقه إليه، وشاهد يشهد عليه، فإذا أحضره السائق قال‏:‏ ‏ «‏هذا ما لدي عتيد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 23 من سورة ق‏.‏‏‏ أي هذا الذي أمرت بإحضاره قد أحضرته‏.‏ فيقال عند إحضاره‏:‏ ‏ «‏ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 24 من سورة ق‏.‏ كما يحضر الجاني إلى حضرة السلطان، فيقول‏:‏ هذا فلان قد أحضرته فيقول‏:‏ اذهبوا به إلى السجن وعاقبوه بما يستحقه‏.‏
 
وتأمل كيف دلت السورة صريحاً على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه كما ينعم الروح التي آمنت بعينها ويعذب التي كفرت بعينها، لا أنه سبحانه يخلق روحاً أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها، كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل، حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب، والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحاً غير هذه الروح وبدنا غير هذا البدن‏.‏
 
وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل، وذلك الذي عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالى، وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد، وموافقة لقول من أنكره من المكذبين، فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها‏.‏
كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئاً بعد شيء، فكل وقت يخلق سبحانه أجساماً وأرواحاً غير الأجسام التي فنيت، فكيف يتعجبون من شيء يشاهدونه عياناً، وإنما تعجبوا من عودهم بأعيانهم بعد أن مزقهم البلى وصاروا عظاماً و رفاتاً، فتعجبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء، ولهذا قالوا‏:‏ ‏ «‏أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 16 من سورة الصافات‏.‏ ‏ وقالوا‏:‏ ‏ «‏ذلك رجع بعيد» ‏‏.‏ ‏‏الآية‏:‏ 3 من سورة ق‏.‏‏ ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا بل يكون ابتداء ، ولم يكن لقوله ‏ «‏قد علمنا ما تنقص الأرض منهم» ‏ كبير معنى، فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدر، وهو أنه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميز، فأخبر سبحانه أنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً‏.‏ وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته، فإن شُبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع‏:‏
«أحدها‏:‏» اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص‏.‏
«الثاني‏:‏» أن القدرة لا تتعلق بذلك‏.‏
«الثالث‏:‏» أن ذلك أمر لا فائدة فيه، وإنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شيء، هكذا أبدا كلما مات جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك‏.‏
 
 
 
 
 
== براهين المعاد في القرآن مبنية على أصول ثلاثة ==
فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول‏:‏
«أحدها‏:‏» تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال‏:‏‏ «‏من يحيي العظام وهي رميم‏.‏ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم» ‏ ‏الآيتان‏:‏ 78، 79 من سورة يس‏.‏‏‏ وقال‏:‏ ‏ «‏ وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل‏.‏ إن ربك هو الخلاق العليم» ‏ ‏الآيتان‏:‏85،86 من سورة الحجر‏.‏‏‏ وقال‏:‏ ‏ «‏ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم» ‏ ‏.‏‏الآية‏:‏ 4 من سورة ق‏.‏‏
«الثاني‏:‏» تقرير كمال قدرته، كقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 18 من سورة يس‏.‏‏‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ بلى قادرين على أن نسوي بنانه» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 4 من سورة القيامة‏. وقوله ‏:‏ ‏ «‏ ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير» ‏ ‏.‏ ‏‏الآية‏:‏ 6 من سورة الحج‏.
ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم‏.‏ بلى وهو الخلاق العليم» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 81 من سورة يس‏.
«الثالث‏:‏» كمال حكمته، كقوله تعالى ‏ «‏ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 38 من سورة الدخان‏. وقوله‏:‏ ‏ «‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً» ‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدى» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 36 من سورة القيامة وقوله‏:‏ ‏ «‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ‏.‏ فتعالى الله الملك الحق» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 115،116 من سورة المؤمنون‏.‏‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم» ‏ ‏.‏
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزه عما يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص‏.‏
 
ثم أخبر أن المنكرين لذلك لما كذبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم‏:‏ ‏ «‏فهم في أمر مريج» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 5 من سورة ق‏‏:‏ مختلط لا يحصلون منه على شيء‏.‏ ثم دعاهم إلى النظر في العالم العلوي وبنائه، وارتفاعه واستوائه، وحسنه والتئامه‏.‏ ثم إلى العالم السفلي ؛وهو الأرض، وكيف بسطها وهيأها بالبسط لما يراد منها، وثبتها بالجبال، وأودع فيها المنافع، وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه، وأن ذلك تبصرة إذا تأملها العبد المنيب وتبصر بها، تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد، فالناظر فيها يتبصر أولا، ثم يتذكر ثانيا، وإن هذا لا يحصل إلا لعبد منيب الله بقلبه وجوارحه‏.‏
 
ثم دعاهم إلى التفكر في مادة أرزاقهم وأقوالهم، وملابسهم ومراكبهم وجناتهم، وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه، حتى أثبت به جنات مختلفة الثمار والفواكه، ما بين أبيض وأسود، وأحمر وأصفر، وحلو وحامض، وبين الثمار اختلاف منابعها وتنوع أجناسها، وأنبت به الحبوب كلها على تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها، وأشكالها ومقاديرها‏.‏ ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفى على المتأمل‏:‏ ‏ «‏فأحيا به الأرض بعد موتها» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 164 من سورة البقرة‏.‏‏ ثم قال‏:‏‏ «‏كذلك الخروج» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 11من سورة ق‏.‏‏‏ أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب‏:‏ خروجكم من الأرض بعدما غيبتم فيها، وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا المعالم وبينا بعض ما فيها من الأسرار والعبر‏.‏
ثم انتقل سبحانه وتعالى إلى تقرير النبوة بأحسن تقرير وأوجز لفظ وأبعده عن كل شبهة وشك، فأخبر أنه أرسل إلى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون _ رسلا؛ فكذبوهم، فأهلكهم بأنواع الهلاك، وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله إن لم يؤمنوا، وهذا تقرير لنبوة من أخبر بذلك عنهم من غير أن يتعلم ذلك من معلم ولا قرأه في كتاب، بل أخبر به إخبارا مفصلا مطابقا لما عند أهل الكتاب‏.‏
 
ولا يرد على هذا سؤال البهت ‏‏، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما» ‏‏.‏ والمكابرة على جحد الضروريات بأنه لم يكن شيء من ذلك، أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم‏.‏ وصاحب هذا السؤال يعلم من نفسه أنه باهت مباهت «‏أي كاذب‏» ‏ ، جاحد لما شهد به العيان وتناقله القرون قرنا بعد قرن، فإنكاره بمنزلة إنكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية‏.‏
ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله‏:‏ ‏ «‏أفعيينا بالخلق الأول» ‏ ‏.‏ ‏‏الآية‏:‏ 15 من سورة ق‏.‏‏‏ يقال لكل من عجز عن شيء‏:‏ عيي به، وعيي فلان بهذا الأمر‏.‏ قال الشاعر‏:‏
 
 
 
عيوا بأمرهم كما * * * عييت ببيضتها الحمامة
 
 
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ولم يعي بخلقهن» ‏ ‏.‏ ‏‏الآية‏:‏ 33من سورة الأحقاف‏.‏‏‏ قال ابن عباس ‏ « ‏هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، حبر الأمة، الصحابي الجليل، ولد بمكة سنة ‏03ق- 619‏ ونشأ في بدء عصر النبوة، روى عن النبي‏ ، شهد مع علي الجمل وصفين، له في الصحيحين وغيرهما ما يزيد عن الألف حديث‏.‏‏» يريد‏:‏ أفعجزنا، وكذلك قال مقاتل‏.
قلت‏:‏ هذا تفسير يلازم اللفظة، وحقيقتها أعم من ذلك، فإن العرب تقول‏:‏ أعياني أن أعرف كذا، وعييت به‏:‏ إذا لم تهتد لوجهه ، ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول‏:‏ ‏ «‏أعياني دواؤك‏» ‏ إذا لم تهتد له ولم تقف عليه‏.‏ ولازم هذا المعنى العجز عنه‏.‏ والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى، فإن الحمامة لم تعجز عن بيضتها، ولكن أعياها إذا أرادت أن تبيض‏:‏ أين ترمي بالبيضة‏؟‏ فهي تدور وتجول حتى ترمي بها، فإذا باضت أعياها أن تحفظها وتودعها حتى لا تُنال، فهي تنقلها من مكان إلى مكان، وتحار أين تجعل مقرها‏؟‏ كما هو حال من عيي بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه‏؟‏ وليس المراد بالإعياء في هذه الآية التعب كما يظنه من لم يعرف تفسير القرآن، بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله‏:‏ ‏ «‏ وما مسنا من لغوب» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 38 من سورة ق.‏‏
 
ثم أخبر سبحانه أنهم ‏ «‏ في لبس من خلق جديد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 15 من سورة ق ‏أي أنهم التبس عليهم إعادة الخلق جديداً، ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد، وهو خلق الإنسان؛ فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد‏.‏
وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها، وما فيها من اللحم والعظم، والعروق والأعصاب، و الرباطات والمنافذ، والآلات والعلوم، والإرادات والصناعات، كل ذلك من نطفة ماء، فلو أنصف العبد لاكتفى بفكرة نفسه، واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته‏.‏
ثم أخبر سبحانه عن إحاطة عمله به حتى علم وساوس نفسه، ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والإحاطة، وأن ذلك أدنى إليه من العرق الذي هو داخل بدنه، فهو أقرب إليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق‏.‏
وقال شيخنا‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏ «‏نحن‏» ‏ أي ملائكتنا، كما قال‏:‏ ‏ «‏ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه» ‏ ‏‏الآية 18 من سورة القيامة‏.‏‏ ‏ أي إذا قرأه عليك رسولنا جبريل، قال‏:‏ ويدل عليه قوله‏:‏ ‏ «‏ إذ يتلقى المتلقيان» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 17 من سورة ق‏.‏‏ ‏ فقيد القرب المذكور بتلقي الملكين فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطل‏.‏
ثم أخبر سبحانه أنه على يمينه وشماله ملكان يكتبان أعماله وأقواله، ونبه بإحصاء الأقوال وكتابتها على كتابة الأعمال التي هي أقل وقوعاً وأعظم أثراً من الأقوال، وهي غايات الأقوال ونهايتها‏.‏
 
 
 
 
== القيامة قيامتان‏-‏ صغرى وكبرى ==
ثم أخبر عن القيامة الصغرى، وهي سكرة الموت، وأنها تجيء بالحق، وهو لقاؤه سبحانه، والقدوم عليه، وعرض الروح عليه، والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى‏.‏ ثم ذكر القيامة الكبرى بقوله‏:‏ ‏ «‏ ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد» ‏ ‏الآية 20 من سورة ق‏‏ ثم أخبر عن أحوال الخلق في هذا اليوم، وأن كل أحد يأتي الله سبحانه ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه وشهيد يشهد عليه‏.‏
وهذا غير شهادة جوارحه وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه وغير شهادة رسله والمؤمنين، فإن الله سبحانه يستشهد على العباد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر، والجلود التي عصوه بها، ولا يحكم بينهم بمجرد عمله وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين، ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من إقرارهم وشهادة البينة لا بمجرد عمل، فكيف يسوغ لحاكم أن يحكم بمجرد عمله من غير بينة ولا إقرار‏.‏
ثم أخبر سبحانه أن الإنسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بألا يغفل عنه وألا يزال على ذكره وباله، وقال‏:‏ ‏ «‏ في غفلة من هذا» ‏ ‏‏الآية 22 من سورة ق ولم يقل عنه كما قال‏:‏ ‏ «‏ وإنهم لفي شك منه مريب» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 110 من سورة هود‏‏ ولم يقل في شك فيه، وجاء هذا في المصدر وإن لم يجئ في الفعل، فلا يقال‏:‏ غفلت منه ولا شككت منه، كأن غفلته وشكه ابتداء منه فهو مبدأ غفلته وشكه‏.‏ وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه، وشك فيه، فإنه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشؤهما مبدأ للغفلة والشك‏.‏
ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عنه ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ، وعن العين فتنفتح، فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه‏.‏
ثم أخبر سبحانه أن قرينه وهو الذي قرن به في الدنيا من الملائكة يكتب عمله وقوله، يقول لما يحضره‏:‏ هذا الذي كنت وكلتني به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به‏.‏ هذا قول مجاهد ‏.‏
وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي‏.‏
والتحقيق أن الآية تتضمن الأمرين‏.‏ أي هذا الشخص الذي وكلت به هذا عمله الذي أحصيته عليه؛ فحينئذ يقال‏:‏ ‏ «‏ ألقيا في جهنم‏.‏‏.‏‏.‏» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 24 من سورة ق وهذا إما أن يكون خطاباً للسائق والشهيد، أو خطاباً للملك الموكل بعذابه وإن كان واحداً‏.‏ وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها، أو تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفية ثم أجرى الوصل مجرى الوقف‏.‏
 
ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات‏:‏
«أحدهما‏:» ‏ أنه كفار لنعم الله وحقوقه، كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته‏.‏
«الثانية‏:» ‏ أنه معاند للحق يدفعه جحداً وعناداً‏.‏
«الثالثة‏:» ‏ أنه مناع للخير، وهذا يعلم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله، والخير الذي هو إحسان إلى الناس، فليس فيه خير لنفسه ولا لبني جنسه، كما هو حال أكثر الخلق ‏.‏
«الرابعة‏:» ‏ أنه مع منعه للخير معتد على الناس، ظلوم غشوم، معتد عليهم بيده ولسانه‏.‏
«الخامسة‏:» ‏ أنه مريب، أي صاحب ريبة‏.‏
«السادسة‏:‏» أنه مع ذلك مشرك بالله قد اتخذ مع الله إلهاً آخر يعبده ويحبه ويغضب له، ويرضى له ويحلف باسمه وينذر له، ويوالي فيه ويعادي فيه‏.‏ فيختصم هو وقرينه من الشياطين ويحيل الأمر عليه، وأنه هو الذي أطغاه وأضله، فيقول قرينه‏:‏ لم يكن لي قوة أن أضله وأطغيه، ولكن كان في ضلال بعيد اختاره لنفسه، وآثره على الحق، كما قال إبليس لأهل النار‏:‏ ‏ «‏وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 22 من سورة إبراهيم‏‏، وعلى هذا فالقرين هنا هو شيطانه يختصمان عند الله‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ بل قرينه هاهنا هو الملك فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى، وأنه لم يفعل ذلك كله، وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة ولم يمهله حتى يتوب، فيقول الملك‏:‏ ما زدت في الكتابة عن التوبة ‏ «‏ولكن كان في ضلال بعيد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 27 من سورة ق، فيقول الرب تعالى‏:‏ ‏ «‏لا تختصموا لدي» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 28 من سورة ق، وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه في سورة الصافات والأعراف، وأخبر عن اختصام الناس بين يديه في سورة الزمر، وأخبر عن اختصام أهل النار فيها في سورة الشعراء وسورة ص .‏
 
ثم أخبر سبحانه أنه لا يبدَّل القول لديه، فقيل‏:‏ المراد بذلك قوله‏:‏ ‏ «‏لأملأن جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 119 من سورة هود‏‏، ووعده لأهل الإيمان بالجنة، وأن هذا لا يبدل ولا يخلف‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا لأهل معصيتي‏.‏
قال مجاهد‏:‏ قد قضيت ما أنا قاض، وهذا أصح القولين في الآية‏.‏
وفيها قول آخر‏:‏ أن المعنى‏:‏ ما يغير القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغير عند الملوك والحكماء، فيكون المراد بالقول‏:‏ قول المختصمين، وهو اختيار الفراء ‏‏، وابن قتيبة ‏
قال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ ما يكذب عندي لعلمي بالغيب، وقال ابن قتيبة‏:‏ أي ما يحرف القول عندي ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، قال‏:‏ لأنه قال‏:‏ القول عندي، ولم يقل‏:‏ قولي‏.‏ وهذا كما يقال‏:‏ لا يكذب عندي، فعلى القول الأول يكون قوله‏:‏ ‏ «‏وما أنا بظلام للعبيد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 29 من سورة ق‏، من تمام قوله‏:‏ ‏ «‏ما يبدل القول لدي» ‏ ‏‏‏الآية:‏ 29 من سورة ق‏، في المعنى؛ أي‏:‏ ما قلته ووعدت به لا بد من فعله، ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور، وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين‏:
‏ «أحدهما‏:» ‏ أن كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه، وكمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده‏.‏
ثم أخبر عن سعة جهنم وأنها كلما ألقى فيها تقول‏:‏ ‏ «‏هل من مزيد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 30 من سورة ق‏، وأخطأ من قال‏:‏ إن ذلك للنفي؛ أي ليس من مزيد‏.‏ والحديث الصحيح يرد هذا التأويل‏.‏
 
 
 
 
 
== الصفات الأربع لأهل الجنة ==
ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين، وأن أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع‏:‏
«الأولى‏:» ‏ أن يكون أواباً أي رجَّاعاً إلى الله من معصيته إلى طاعته ،ومن الغفلة عنه إلى ذكره‏.‏
قال عبيد بن عمير‏:‏ الأواب‏:‏ الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها، وقال مجاهد‏:‏ هو الذي إذا ذكر ذنبه استغفر منه‏.‏ وقال سعيد بن المسيب ‏:‏ هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب‏.‏
«الثانية‏:» ‏ أن يكون حفيظاً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما ائتمنه الله عليه وافترضه‏.‏ وقال قتادة ‏‏‏:‏ حافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته‏.‏
ولما كانت النفس لها قوتان‏:‏ قوة الطلب وقوة الإمساك، كان الأواب مستعملاً لقوة الطلب في رجوعه إلى الله ومرضاته وطاعته، والحفيظ مستعملاً لقوة الحفظ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه، فالحفيظ‏:‏ الممسك نفسه عما حرم عليه، والأواب‏:‏ المقبل على الله بطاعته‏.‏
«الثالثة‏:» ‏ قوله‏:‏ ‏ «‏من خشي الرحمن بالغيب» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 33 من سورة ق، يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته وقدرته،وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه، ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه، فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كله‏.‏
«الرابعة‏:» ‏ قوله‏:‏ ‏ «‏وجاء بقلب منيب» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 33 من سورة ق، قال ابن عباس‏:‏ راجع عن معاصي الله مقبل على طاعة الله‏.‏ وحقيقة الإنابة‏:‏ عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه‏.‏
ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله‏:‏ ‏ «‏ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ‏.‏ لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد» ‏ ‏الآيتان‏:‏ 34، 35 من سورة ق ثم خوَّفهم بأن يصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبلهم، وأنهم كانوا أشد منهم بطشاً، ولم يدفع عنهم الهلاكَ بطشُهم، وأنهم عند الهلاك تقلبوا وطافوا في البلاد، وهل يجدون محيصاً ومنجى من عذاب الله‏؟‏‏!‏
قال قتادة‏:‏ حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركا، وقال الزجاج ‏ « ‏الزجاج هو‏:‏ إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو اللغة، ولد ومات ببغداد، توفي سنة ‏311هـ - 923م‏‏‏. » ‏ طوفوا وفتشوا فلم يروا محيصاً من الموت‏.‏
وحقيقة ذلك‏:‏ أنهم طلبوا المهرب من الموت فلم يجدوه‏.‏
ثم أخبر سبحانه أن في هذا الذي ذكر ‏ «‏لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 37 من سورة ق
 
ثم أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولم يمسه من تعب ولا إعياء، تكذيباً لأعدائه من اليهود حيث قالوا‏:‏ إنه استراح في اليوم السابع‏.‏
ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه في الصبر على ما يقول أعداؤه فيه كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود‏:‏ أنه استراح، ولا أحد أصبر على أذى يسمعه منه، ثم أمره بما يستعين به على الصبر، وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وبالليل وأدبار السجود، فقيل‏:‏ هو الوتر، وقيل‏:‏ الركعتان بعد المغرب، والأول‏:‏ قول ابن عباس، وعن ابن عباس رواية ثالثة‏:‏ أنه التسبيح باللسان أدبار الصلوات المكتوبات‏.‏
ثم ختم السورة بذكر المعاد ونداء المنادي برجوع الأرواح إلى أجسادها للحشر، وأخبر أن هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد‏:‏ ‏ «‏يوم يسمعون الصيحة بالحق» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 42 من سورة ق، بالبعث ولقاء الله، يوم تشقق الأرض عنهم كما تشقق عن النبات فيخرجون سراعاً من غير مهلة ولا بطء، ذلك حشر يسير عليه سبحانه‏.‏
ثم أخبر سبحانه أنه عالم بما يقول أعداؤه، وذلك يتضمن مجازاته لهم بقولهم إذ لم يخف عليه‏.‏
وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء، ثم أخبره أنه ليس بمسلط عليهم ولا قهار، ولم يبعث ليجبرهم على الإسلام ويكرههم عليه، وأمره أن يذكر بكلامه من يخاف وعيده، فهو الذي ينتفع بالتذكير، وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه فلا ينتفع بالتذكير‏.‏
 
 
 
 
== فضيلة لأهل بدر ==
قول النبي ‏‏ لعمر‏:‏ ‏ «‏وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏» ‏ .‏
أشكل على كثير من الناس معناه فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع‏.‏ فقالت طائفة _ منهم ابن الجوزي_ ‏‏:‏ ليس المراد من قوله‏:‏ ‏ «‏اعملوا‏» ‏ الاستقبال، وإنما هو للماضي، وتقديره‏:‏ أي عمل كان لكم فقد غفرته‏.‏ قال‏:‏ ويدل على ذلك شيئان‏:‏
«أحدهما‏:» ‏ أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله‏:‏ فأستغفر لكم‏.‏
«ثانيهما‏:» ‏ أنه كان يكون إطلاقاً في الذنوب ولا وجه لذلك‏.‏
 
وحقيقة هذا الجواب‏:‏ أني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم، لكنه ضعيف من وجهين‏:‏
«أحدهما‏:» ‏ أن لفظ ‏ «‏اعملوا‏» ‏ يأباه؛ فإنه للاستقبال دون الماضي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏قد غفرت لكم‏» ‏ لا يوجب أن يكون ‏ «‏اعملوا‏» ‏ مثله، فإن قوله ‏ «‏قد غفرت‏» ‏ تحقيق لوقوع المغفرة في المستقبل، كقوله‏:‏ ‏ «‏أتى أمر الله» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 1 من سورة النحل‏ - ‏ «‏وجاء ربك» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 22 من سورة الفجر‏، ونظائره‏.‏
«ثانيهما‏:» ‏ أن نفس الحديث يرده، فإن سببه قصة حاطب وتجسسه على النبي ‏‏ وذلك ذنب واقع بعد غزوة بدر ‏‏ ، لا قبلها، وهو سبب الحديث فهو مراد منه قطعاً‏.‏
فالذي نظن في ذلك -والله أعلم- أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يفارقون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب ‏‏ ، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرِّين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح، واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم وأنهم مغفور لهم‏.‏
ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة، فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد‏.‏ وهذا محال‏.‏
 
ومن أوجب الواجبات‏:‏ التوبة بعد ذلك‏.‏ فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا‏:‏ قوله في الحديث الآخر‏:‏ «‏أذنب عبد ذنباً فقال‏:‏ أي رب أذنبت ذنباً فاغفر لي؛ فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنباً آخر، فقال‏:‏ أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي؛ فغفر له‏.‏ ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنباً فقال‏:‏ أي رب أصبت ذنباً فاغفره لي؛ فقال الله‏:‏ علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فقد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء‏» ‏ ‏ ‏رواه الشيخان‏ ‏، فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات والجرائم، وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب تاب‏.‏
واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب حكم يعم كل من كانت حاله حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لأهل بدر، وكذلك كل من بشره رسول الله ‏ بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له، لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له، ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهاداً وحذراً وخوفاً بعد البشارة منهم قبلها العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة‏.‏ وكذلك عمر فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها، والاستمرار عليها إلى الموت ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يفهم أحد منهم من ذلك إطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال‏.‏
 
 
 
 
== ‏فائدة جليلة‏ ==
قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 15 من سورة الملك. أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولا منقادة للوطء عليها وحفرها وشقها والبناء عليها، ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها، وأخبر سبحانه أنه جعلها مهاداً وفرشاً وبساطاً وقراراً و كفاتاً ‏‏ وأخبر أنه دحاها و طحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وثبَّتها بالجبال ونهج فيها الفجاج والطرق، وأجرى فيها الأنهار والعيون، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ومن بركتها أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها، و من بركتها أنك تودع فيها الحب فتخرجه لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها فتوارى منه كل قبيح وتخرج له كل مليح، ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها وتضمه وتؤويه، وتخرج له طعامه وشرابه فهي أحمل شيء للأذى وأعوده بالنفع‏.‏ فلا كان من التراب خير منه وأبعد من الأذى وأقرب إلى الخير‏.‏
والمقصود أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يقاد ينقاد‏.‏ وحسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجها؛ لما تقدم من وصفها بكونها ذلولاً‏.‏
فالماشي عليها يطأ على مناكبها وهو أعلى شيء فيها، ولهذا فسرت المناكب بالجبال، كمناكب الإنسان؛ وهي أعاليه‏.‏
قالوا‏:‏ وذلك تنبيه على أن المشي في سهولها أيسر‏.‏
وقالت طائفة‏:‏ بل المناكب‏:‏ الجوانب والنواحي، ومنه مناكب الإنسان، لجوانبه‏.‏
والذي يظهر‏:‏ أن المراد بالمناكب الأعالي، وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من الأرض دون الوجه المقابل له، فإن سطح الكرة أعلاها، والمشي إنما يقع في سطحها، وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقدم من وصفها بأنها ذلول‏.‏
 
ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها فذللها لهم ووطأها وفتق فيها السبل والطرق التي يمشون فيها وأودعها رزقهم، فذكر تهيئة المسكن للانتفاع والتقليب فيه بالذهاب والمجيء والأكل مما أودع فيه للساكن‏.‏ ثم نبه بقوله‏:‏ ‏ «‏وإليه النشور» ‏ على أنا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين، بل دخلناه عابري سبيل، فلا يحسن أن نتخذه وطناً ومستقرًّا، وإنما دخلناه لنتزود منه إلى دار القرار، فهو منزل عبور لا مستقر حبور، ومعبر وممر لا وطن ومستقر‏.‏
فتضمنت الآية الدلالة على ربوبيته وقدرته وحكمته ولطفه والتذكر بنعمه وإحسانه، والتحذير من الركون إلى الدنيا واتخاذها وطناً ومستقرًّا بل نسرع فيها السير إلى داره وجنته، فلله ما في ضمن هذه الآية من معرفته وتوحيده والتذكير بنعمه، والحث على السير إليه، والاستعداد للقائه والقدوم عليه، والإعلام بأنه سبحانه يطوى هذه الدار كأن لم تكن، وأنه يحيي أهلها بعدما أماتهم وإليه النشور‏.‏
 
 
 
 
 
== نظرة إلى سورة الفاتحة ==
للإنسان قوتان‏:‏ قوة علمية نظرية، وقوة عملية إرادية، وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه‏:‏ العلمية والإرادية، واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة فاطره، وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق الذي توصل إليه، ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها، فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية، وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها‏.‏
واستكمال القوة العلمية الإرادية لا تحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد والقيام بها إخلاصاً وصدقاً ونصحاً وإحساناً ومتابعة وشهوداً لمنته عليه، وتقصيره هو في أداء حقه، فهو مستحي من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه أنها دون ما يستحقه عليه ودون ذلك، وأنه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته فهو يهديه الصراط إما المستقيم الذي هدي إليه أولياؤه وخاصته، وأن يجنبه الخروج عن ذلك الصراط إما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال، وإما قوته العملية فيوجب له الغضب‏.‏
فكمال الإنسان وسعادته لا تتم إلا بمجموع هذه الأمور، وقد تضمنتها سورة الفاتحة و انتظمتها أكمل انتظام فإن قوله‏:‏ ‏ «‏الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين» ‏ يتضمن الأصل الأول وهو معرفة الرب تعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى، وهي‏:‏ اسم الله والرب والرحمن‏.‏
فاسم الله متضمن الصفات الألوهية، واسم الرب متضمن لصفات الربوبية، واسم الرحمن متضمن لصفات الإحسان والجود والبر‏.‏ ومعاني أسمائه تدور على هذا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏إياك نعبد وإياك نستعين» ‏ يتضمن معرفة الطريق الموصلة إليه وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه، واستعانته على عبادته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏ «‏اهدنا الصراط المستقيم» ‏ يتضمن بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم، وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏ «‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين» ‏ يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم، وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد، والانحراف إلى الطريق الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل‏.‏
فأول السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة‏.‏
وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة‏.‏ فعاد الأمر كله إلى نعمته ورحمته‏.‏ والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته، فلا يكون إلا رحيماً منعماً وذلك من موجبات إلهيته فهو الإله الحق وإن جحده الجاحدون وعدل به المشركون‏.‏
فمن تحقق بمعاني الفاتحة علماً ومعرفة وعملاً وحالاً فقد فاز من كماله بأوفر نصيب، وصارت عبوديته عبودية الخاصة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبدين، والله المستعان‏.‏
 
 
 
 
== طريقان لمعرفته تعالى ==
الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين‏:‏
«أحدهما‏:» ‏ النظر في مفعولاته‏.‏
«ثانيهما‏:» ‏ التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة‏.‏
فالنوع الأول‏:‏ كقوله‏:‏ «‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس ‏.‏‏.‏‏.‏‏» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 164 من سورة البقرة‏‏، إلى آخرها، وقوله‏:‏ «‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 190 من سورة آل عمران‏‏، وهو كثير في القرآن‏.‏
«والثاني‏:‏» كقوله‏:‏ ‏ «‏أفلا يتدبرون القرآن» ‏‏‏الآية‏:‏ 82 من سورة النساء‏‏، وقوله‏:‏ ‏ «‏أفلم يدبروا القول» ‏‏‏الآية‏:‏ 68 من سورة المؤمنون‏‏، وقوله‏:‏ ‏ «‏كتاب أنزلناه مباركا ليدبروا آياته» ‏‏‏الآية‏:‏ 29 من سورة ص‏‏، وهو كثير أيضاً‏.‏
فأما المفعولات فإنها دالة على الأفعال، والأفعال دالة على الصفات، فإن المفعول يدل على فاعل فعله، وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا إرادة‏.‏ ثم ما في المعلومات من التخصيصات المتنوعة دالّ على إرادة الفاعل وأن فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحداً غير متكرر‏.‏
وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى‏.‏
وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته‏.‏
وما فيها من البطش والانتقام والعقوبة دال على غضبه‏.‏
وما فيها من الإكرام والتقريب والعناية دال على محبته‏.‏
وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دال على بغضه ومقته‏.‏
وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف ثم سوقه إلى تمامه ونهايته دال على وقوع المعاد‏.‏
وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على إمكان المعاد‏.‏
وما فيها من ظهر آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحة النبوات‏.‏
وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها‏.‏
فمفعولاته من أدل شيء على صفاته، وصدق ما أخبرت به رسله عنه‏.‏
فالمصنوعات شاهدة تصدق الآيات المسموعات منبهة على الاستدلال بالآيات المصنوعات‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏ «‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 53 من سورة فصلت‏‏، أي أن القرآن حق‏.‏ فأخبر أنه لا بد من أن يريهم من آياته المشهودة ما يبين لهم أن آياته المتلوة حق‏.‏ ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدلائل والبراهين على صدق رسوله، فآياته شاهدة بصدقه، وهو شاهد بصدق رسوله بآياته، فهو الشاهد والمشهود له، وهو الدليل والمدلول عليه‏.‏
فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين‏:‏ كيف أطلب الدليل على ما هو دليل لي على كل شيء، فأي دليل طلبته عليه فوجوده أظهر منه‏.‏ لهذا قال الرسل لقومهم‏:‏ ‏ «‏أفي الله شك» ‏‏‏الآية‏:‏ 10 من سورة إبراهيم‏‏، فهو أعرف من كل معروف وأبين من كل دليل‏.‏ فالأشياء عرفت به في الحقيقة، وإن كان عرف بها في النظر والاستدلال بأفعاله وأحكامه عليه‏.‏
 
 
 
 
== كيف يفعل من أصابه هم أو غم ==
في المسند وصحيح أبي حاتم من حديث عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ « ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال‏:‏ اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً‏.‏» قالوا‏:‏ « يا رسول الله أفلا نتعلمهن‏؟‏ قال‏:‏ بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن‏ » ‏‏.‏
فتضمن الحديث العظيم أموراً من المعرفة والتوحيد والعبودية‏:‏ منها أن الداعي به صدَّر سؤاله بقوله‏:‏ إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك‏.‏ وهذا يتناول مَن فوقه من آبائه وأمهاته إلى أبويه ‏:‏ آدم وحواء، وفي ذلك تملق له و استخزاء بين يديه، واعتراف بأنه مملوكه وآباؤه مماليكه‏.‏ وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك ولم يُؤوه أحد ولم يعطف عليه بل يضيع أعظم ضيعة، فتحت هذا الاعتراف أني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده‏.‏
وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهي، إنما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه، فليس هذا شأن العبد، بل شأن الملوك والأحرار، وأما العبيد فتصرفهم على محض العبودية، فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله‏:‏ ‏ «‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان» ‏‏‏الآية‏:‏ 42 من سورة الحجر‏‏، وقوله‏:‏ ‏ «‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 63 من سورة الفرقان‏‏، ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فإضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه‏.‏ وإضافة ناقته إليه وداره التي هي الجنة إليه، وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله‏:‏ ‏ «‏وأنه لما قام عبد الله يدعوه» ‏الآية‏:‏ 19 من سورة الجن‏.‏‏
 
 
 
 
== من معاني العبودية ==
وفي التحقيق بمعنى قوله‏:‏ « إني عبدك » التزام عبوديته من الذل، وامتثال أمر سيده واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه واللجوء إليه، والاستعانة به والتوكل عليه، وعياذ العبد به و عياذه به، وألا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاء‏.‏
وفيه أيضاً أني عبد من جميع الوجوه صغيراً وكبيراً، حيًّا وميتاً، مطيعاً وعاصياً، معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح‏.‏
وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك، فإن العبد وما يملك لسيده‏.‏
وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت عليَّ بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك‏.‏
وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده، وأني لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏ْ « ‏ناصيتي بيدك» ‏ ، أي أنت المتصرف فيَّ، تصرفني كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي، وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره بل الأمر فوق ذلك‏.‏
 
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته، ولهذا قال هود لقومه‏:‏ ‏ «‏إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم» ‏‏‏الآية‏:‏ 56 من سورة هود.
وقوله‏:‏ « ‏ماض فيَّ حكمك عدل في قضاؤك‏» تضمن هذا الكلام أمرين‏:‏
«أحدهما‏:» ‏ مضاء حكمه في عبده‏.‏
«ثانيهما‏:» ‏ يتضمن حمده وعدله، وهو سبحانه له الملك وله الحمد‏.‏ وهذا معنى قول نبيه هود‏:‏ ‏ «‏ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها» ‏‏‏الآية‏:‏ 56 من سورة هود‏‏، ثم قال‏:‏ ‏ «‏إن ربي على صراط مستقيم» ‏‏‏الآية‏:‏ 56 من سورة هود‏‏، أي مع كونه مالكاً قاهراً متصرفاً في عباده نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم‏:‏ في قوله وفعله، وقضاءه وقدره، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسده، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله ورحمته‏.‏
 
 
 
== القضاء والحكم والفرق بينهما ==
وفرق بين الحكم والقضاء وجعل المضاء للحكم والعدل للقضاء، فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي وحكمه الكوني القدري، والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه‏.‏ شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه‏.‏
ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال، وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه، قال‏:‏ ‏ «عدل فيَّ قضاؤك‏» ‏ أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه، وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه، فإن كان حكماً دينيًّا فهو ماض في العبد، وإن كان كونيًّا‏:‏ فإن نفذه سبحانه مضى فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه، فهو سبحانه يقضي ما يقضي به، وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمراً ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والإمضاء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏ « ‏عدل فيَّ قضاؤك » يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه‏:‏ من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏ «‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» ‏‏‏الآية‏:‏ 30 من سورة الشورى‏‏، وقال‏:‏ ‏ «‏وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور» ‏‏‏الآية‏:‏ 48 من سورة الشورى‏‏، فكل ما يقضي على العبد فهو عدل فيه‏.‏
«‏فإن قيل‏» :‏ فالمعصية عندكم بقضائه وقدره، فما وجه العدل في قضائها‏؟‏ فإن العدل في العقوبة عليها غير ظاهر‏.‏
قيل‏:‏ هذا سؤال له شأن ومن أجله زعمت طائفة أن العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته، قالوا‏:‏ لأن الظلم هو المتصرف في ملك الغير والله له كل شيء، فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلاً‏.‏
وقالت طائفة‏:‏ بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم إما في الدنيا وإما في الآخرة‏.‏
وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل‏.‏ ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر، كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات، فزعموا أنه لا يمكنهم إثبات التوحيد إلا بإنكار الصفات، فصار توحيدهم تعطيلاً وعدلهم تكذيباً بالقدر‏.‏
وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضى بالمعصية وألغى على من شاء فذلك محض العدل فيه لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسنى ‏ «‏العدل » الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله‏.‏ ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله، وهذا نوعان:‏
«أحدهما‏:» ‏ ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثار عدوه في الطاعة والموافقة عليه وتناسي ذكره وشكره فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه‏.‏
«ثانيهما‏:» ‏ ألا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليه، ولا يثني عليه بها ولا يحبها فلا يشاؤها له لعدم صلاحيته محله‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏ «‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين» ‏‏‏الآية‏:‏ 53 من سورة الأنعام‏‏، وقال‏:‏ ‏ «‏ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم» ‏‏‏الآية‏:‏ 23 من سورة الأنفال‏‏، فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان في محض العدل، كما إذا قضى على الحية بأن تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور كان ذلك عدلاً فيه، وإن كان مخلوقاً على هذه الصفة‏.‏
وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر‏.‏
والمقصود‏:‏ أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏ « ماض في حكمك عدل في قضاؤك‏ » ‏ رد على الطائفتين‏:‏ القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله في عباده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره، ويردون القضاء إلى الأمر والنهي، وعلى الجبرية الذين يقولون كل مقدور عدل فلا يبقى لقوله‏:‏ ‏ «‏عدل في قضاؤك‏» ‏ فائدة، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله والظلم هو المحال لذاته، فكأنه قال‏:‏ ماض ونافذ فيَّ قضاؤك، وهذا هو‏.‏
وقوله‏:‏ ‏ « ‏أسألك بكل اسم ‏.‏‏.‏‏.» ‏ إلى آخره، توسل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم، وهذه أحب الوسائل إليه، فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏ «‏أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري‏» ‏ الربيع‏:‏ المطر الذي يحيي الأرض‏.‏ شبه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبهه الله بالمطر وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق، كما جمع بينهما سبحانه في قوله‏:‏ ‏ «‏أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية‏.‏‏.‏‏.‏» ‏‏‏‏الآية:‏ 17 من سورة الرعد‏، في قوله‏:‏ ‏ «‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم» ‏‏‏الآية‏:‏ 17 من سورة البقرة‏‏، ثم قال‏:‏ ‏ «‏أو كصيب من السماء» ‏الآية‏:‏ 19 من سورة البقرة‏‏، وفي قوله‏:‏ ‏ «‏الله نور السموات الأرض مثل نوره‏.‏‏.‏‏.‏» ‏ الآيات الآية‏:‏ 35 من سورة النور‏، ثم قال‏:‏ ‏ «‏ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه» ‏ الآيات ‏‏الآية‏:‏ 43 من سورة النور.
فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وأن ينور به صدره فتجتمع له الحياة والنور‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» ‏‏‏الآية‏:‏ 122 من سورة الأنعام.
ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب؛ لأنه قد حصل لما هو أوسع منه، ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها، ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فإنها أحرى ألا تعود‏.‏ وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك‏.‏ والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم، والله أعلم‏.‏
 
 
 
 
 
 
== أنزه الموجودات وأشرفها ==
أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتاً وقدراً وأوسعها‏:‏ عرش الرحمن جل جلاله، لذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنات وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير‏.‏ وخلق الله القلوب وجعلها محلاًّ لمعرفته ومحبته وإرادته فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبته وإرادته‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏ «‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم» ‏‏‏الآية‏:‏ 60 من سورة النحل.وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم» ‏‏‏الآية‏:‏ 27 من سورة الروم‏‏، وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ليس كمثله شيء» ‏‏‏الآية‏:‏ 11 من سورة الشورى‏‏، فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه‏.‏
 
وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلق بها، فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتى تعود القلوب على قلبين‏:‏ قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل مغموم في الحال‏.‏
وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏ « ‏إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» ، قالوا‏:‏ « فما علامة ذلك يا رسول الله‏؟‏» قال‏:‏ «الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله‏‏» ، والنور الذي يدخل القلب إنما هو آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق‏.‏
 
 
 
 
 
== عظمته سبحانه وتعالى ==
تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد كله، أزِمَّة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومردّها إليه، مستوياً على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالماً بما في نفس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها و جليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه‏.‏
فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه‏.‏ فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أولياءه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، أنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين‏.‏ ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم‏.‏ والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير‏.‏
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جميلاً، هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل سواه، وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها وداؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت، ولم تنتفع بحياتها‏.‏
 
 
 
== قبول المحل لما يوضع مرهون بأن يفرغ من ضده‏ ==
قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها‏.‏ فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره‏.‏ ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه‏.‏
وسر ذلك‏:‏ أن صفاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه‏.‏ كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته‏.‏ فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان‏.‏ ولهذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏ « لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يَرِيَهُ خير له من أن يملأ شعراً‏» ‏ فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات، ونحوها، وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً فتعدته وجاوزته إلى محل سواه‏.‏
كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه، لكن تمر مجتازة لا مستوطنة، ولذلك قيل‏:‏
 
 
 
نزه فؤادك من سوانا تلقنا * * * فجنابنا حل لكل منزه
 
 
 
والصبر طلسم لكنز وصالنا * * * من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
 
وبالله التوفيق
 
== الكلام في ‏‏ألهاكم التكاثر‏:‏ ==
قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ ألهاكم التكاثر» ‏ ‏‏الآية الأولى من سورة التكاثر‏‏ إلى آخرها‏.‏
أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد، وكفى بها موعظة لمن عقلها‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ألهاكم» ‏ أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه‏.‏ فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه‏.‏ فإن كان بقصده فيه فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلم في الخميصة‏:‏ ‏ « إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي‏» ‏‏‏رواه الشيخان‏ كان صاحبه معذوراً وهو نوع من النسيان، وفي الحديث ‏ «‏ فلها صلى الله عليه وسلم عن الصبي‏» ‏ أي ذهل عنه، ويقال‏:‏ لَهَا بالشيء‏:‏ أي اشتغل به، ولها عنه‏:‏ إذا انصرف عنه‏.‏
واللهو للقلب، واللعب للجوارح؛ ولهذا يجمع بينهما، ولهذا كان قوله‏:‏ ‏ «‏ ألهاكم التكاثر» ‏ أبلغ في الذم من شغلكم، فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به، فاللهو هو ذهول وإعراض، والتكاثر تفاعل من الكثرة، أي مكاثرة بعضكم لبعض، وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه، وأن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذه التكاثر‏.‏
فالتكاثر كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم، ولا سيما إذا لم يحتج إليه‏.‏
والتكاثر في الكتب‏:‏ التصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها‏.‏
والتكاثر‏:‏ أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذموم إلا فيما يقرب إلى الله‏.‏
فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات ومسابقة إليها‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ‏:‏ ‏ «‏ألهاكم التكاثر» ‏ قال‏:‏ ‏ «‏ يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت‏».‏
 
== من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه‏ ==
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه، للعبد ستر بينه وبين الله وبينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس‏.‏
للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه‏.‏
إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها‏.‏
الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر‏.‏
محبوب اليوم يعقب المكروه غدا، ومكروه اليوم يعقب المحبوب غدا‏.‏
أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل الوقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها‏.‏
كيف يكون عاقلا من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة‏.‏
يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين‏:‏ بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه‏.‏
المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه، والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه‏.‏
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين‏.‏
دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهِمَّة‏.‏ فإن لم تدافعها صارت فعلا‏.‏
 
 
 
== مراتب التقوى ==
«إحداها‏:‏ » حمية القلب والجوارح عن الآثار المحرمات‏.‏
«الثانية‏:» ‏ حميتها عن المكروهات‏.‏
«الثالثة‏:» ‏ الحمية عن الفضول وما لا يعني‏.‏
فالأولى تعطى العبد حياته، والثانية تفيد صحته وقوته، والثالثة تكسيه سروره وفرحه وبهجته‏.‏
 
 
 
غموض الحق حين تذب عنه * * * تضل عن الدقيق فهوم قوم
 
 
 
يقلل ناصر الخصم المحق * * * فتقضى للمجل على المدق
 
 
 
بالله أبلغ ما أسعى وأدركه * * * لا بي ولا بشفيع لي من الناس
 
 
 
إذا أيست وكاد اليأس يقطعني * * * جاء الرجاء مسرعاً من جانب اليأس
 
 
من خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه للنار لم تزل هداياه من الشهوات‏.‏
لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها‏.‏
ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بضع سنين‏.‏
 
 
 
 
 
== مشاهد العبد إذا جرى عليه مقدور يكرهه ==
الأول‏-‏ مشهد التوحيد
وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
 
الثاني‏-‏ مشهد العدل
وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه‏.‏
 
الثالث‏-مشهد الرحمة
وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه ورحمته حشوه‏.‏
 
الرابع‏- مشهد الحكمة
وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى ولا قضاه عبثاً‏.‏
 
الخامس‏-‏ مشهد الحمد
وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه‏.‏
 
السادس‏-‏ مشهد العبودية
وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيده و أقضيته بحكم كونه ملكه وعبده، فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه‏.‏
 
قلة التوفيق وفساد الرأي، وخفاء الحق وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، و نفرة الخلق والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم ولباس الذل، و إهانة العدو وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة وكسف البال‏:‏ تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء، والاحتراق عن النار، وأضداد هذه تتولد عن الطاعة‏.
 
 
== من معاني الإنصاف له تعالى ==
 
طوبى لمن أنصف ربه فأقر بالجهل في عمله والآفات في عمله والعيوب في نفسه والتفريط في حقه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله وإن لم يؤخذ بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، فإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه‏.‏
 
ونكتة المسألة وسرها‏:‏ أنه لا يرى ربه إلا محسناً، ولا يرى نفسه إلا مسيئاً أو مفرطاً أو مقصراً فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوءه من ذنوبه وعدل الله فيه‏.‏
المحبون إذا خربت منازل أحبائهم قالوا سقياً لسكانها‏.‏ وكذلك المحب إذا أتت عليه الأعوام تحت التراب ذكر حينئذ حسن طاعته له في الدنيا وتودده إليه وتجدد ورحمته وسقياه لمن كان ساكناً في تلك الأجسام البالية‏.‏
 
 
== أنواع الغيرة ==
الغيرة غيرتان‏:‏ غيرة على الشيء، وغيرة من الشيء، فالغيرة على المحبوب حرصك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتم إلا بالغيرة من المزاحم، وهذه تحمد حيث يكون المحبوب تقبح المشاركة في حبه كالمخلوق‏.‏
 
وأما من تحسن المشاركة في حبه سبحانه فلا يتصور غيره المزاحمة عليه بل هو حسد، والغيرة المحمودة في حقه أن يغار المحب على محبته له أن يصرفها إلى غيره، أو يغار عليها أن يطلع عليها الغير فيفسدها عليه، أو يغار على أعماله أن يكون فيها شيء لغير محبوبه، أو يغار عليها أن يشوبها ما يكره محبوبه من رياء أو إعجاب أو محبة لإشراف غيره عليها أو غيبته عن شهود منته عليه فيها‏.‏
 
وبالجملة‏:‏ فغيرته تقتضي أن تكون أحواله وأعماله وأفعاله كلها لله، وكذلك يغار على أوقاته أن يذهب منها وقت في غير رضا محبوبه، فهذه الغيرة من جهة العبد، وهي غيرة من المزاحم له المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه‏.‏ وأما غيرة محبوبه عليه فهي كراهية أن ينصرف قلبه عن محبته إلى محبة غيرة بحيث يشاركه في حبه، ولهذا كانت غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرم الفاحشة ما ظهر وما بطن؛ لأن الخلق عبيده وإماؤه فهو يغار على إمائه كما يغار السيد على جواريه- ولله المثل الأعلى- ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها‏.‏
 
من عظم وقار الله في قلبه أن يعصيه وقره الله في قلوب الخلق أن يذلوه‏.‏
 
إذا علقت شروش ‏‏ المعرفة في أرض القلب نبتت فيه شجرة المحبة، فإذا تمكنت وقويت أثمرت الطاعة فلا تزال الشجرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها‏.‏
أول منازل القوم‏:‏ «‏اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا‏ » الأحزاب: 42 ، وأوسطها‏:‏ ‏ «هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور» الأحزاب 43‏.‏ وآخرها‏:‏ «تحيتهم يوم يلقونه سلام» الأحزاب: 44 .‏
 
أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها، فإن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبدان، وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مر‏.‏
ارجع إلى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك، ولا تشرد عنه من هذه الأربعة فما رجع من رجع إليه بتوفيقه إلا منها، وما شرد من شرد عنه بخذلانه إلا منها، فالموفق يسمع ويبصر ويتكلم ويبطش بمولاه، والمخذول يصدر ذلك عنه بنفسه وهواه‏.‏
 
مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه، وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال‏:‏ فمن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها‏.‏
ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوك بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه‏.‏
 
 
 
كفى بك عزًّا أنك له عبد * * * وكفى بك فخراً أنه لك رب
 
 
== فوائد قيمة إياك والمعاصي ==
إياك والمعاصي فإنها أذلت عِزَّ ‏ «‏ اسجدوا» ‏ وأخرجت إقطاع ‏:‏‏ «‏ اسكن» ‏‏.‏
يا لها لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة ما زال يكتب بدم الندم سطور الحزن في القصص ويرسلها مع أنفاس الأسف حتى جاءه توقيعُ‏:‏ ‏ «‏فتاب عليه» ‏‏.‏
فرح إبليس بنزول آدم من الجنة وما علم أن هبوط الغائص في اللجة خلف الدر صعود، كم بين قوله لآدم‏:‏ ‏ «‏إني جاعل في الأرض خليفة» ‏ ‏‏ وقوله لك‏:‏ ‏ «‏ اذهب فمن تبعك منهم» ‏‏‏الآية‏:‏ 63 من سورة الإسراء‏‏ ما جرى على آدم هو المراد من وجوده لو لم تذنبوا‏.‏
يا آدم لا تجزع من قولي لك‏:‏ ‏ «‏اخرج منها» ‏ فلك ولصالح ذريتك خلقتها‏.‏
يا آدم كنت تدخل عليَّ دخول الملوك على الملوك، اليوم تدخل عليَّ دخول العبيد على الملوك‏.‏
يا آدم لا تجزع من كأس زال كانت سبب كيسك فقد استخرج منك داء العجب، وألبست خلعة العبودية ‏ «‏ وعسى أن تكرهوا‏.‏‏.‏‏.‏» ‏ الآية‏:‏ 216 من سورة البقرة.
 
يا آدم لم أخرج أقطاعك إلى غيرك، وإنما نحيتك عنه لأكمل عمارته لك وليبعث إلى العمال نفقة ‏ «‏ تتجافى جنوبهم» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 16 من سورة السجدة‏‏ تالله ما نفعه عند معصيته عز ‏ «‏اسجدوا» ‏ ولا شرف ‏ «‏ وعلم آدم» ‏ ولا خصيصة ‏ «‏ لما خلقت بيدي» ‏‏ ولا فخر ‏ «‏ونفخت فيه من روحي» ‏‏‏الآية‏:‏ 29 من سورة الحجر‏‏ وإنما انتفع بذل ‏ «‏ربنا ظلمنا أنفسنا» ‏‏‏الآية‏:‏ 23 من سورة الأعراف‏‏ لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه، فوضع عليه جبار الانكسار فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم يكن به قلبة ‏.‏
 
 
== نجائب النجاة ‏‏ مهيأة للمراد، وأقدام المطرود موثوقة بالقيود ==
هبت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان فتقلب الوجود ونجم الخير فلما ركدت الريح إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك‏.‏ وسلمان ‏ على ساحل السلامة‏.‏ والوليد بن المغيرة ‏ يقدم قومه في التيه، وصهيب ‏‏ قد قدم بقافلة الروم، والنجاشي في أرض الحبشة يقول‏:‏ لبيك اللهم لبيك، وبلال ‏‏ ينادي‏:‏ الصلاة خير من النوم، وأبو جهل في رقدة المخالفة‏:‏
لما قضي في القدم بسابقة سلمان عرض به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس فأقبل يناظر أباه في دين الشرك، فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد‏.‏
 
وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم حرفوه، و به أجاب فرعون موسى‏:‏ ‏ «‏لئن اتخذت إلهاً غيري» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 29 من سورة الشعراء‏‏ و به أجاب الجهمية ‏‏ الإمام أحمد لما عرضوه على السياط، و به أجاب أهل البدع شيخ الإسلام ‏‏حين استودعوه السجن، وها نحن على الأثر فنزل به ضيف ‏ «‏و لنبلونكم» ‏ فنال بإكرامه مرتبة‏:‏ ‏ «‏ سلمان منا أهل البيت‏» ‏ فسمع أن ركبا على نية السفر فسرق نفسه من أبيه ولا قطع فركب راحلة العزم يرجو إدراك مطلب السعادة فغاص في بحر البحث ليقع بدرة الوجود، فوقف نفسه على خدمه الأدلاء وقوف الأذلاء‏.‏ فلما أحس الرهبان بانقراض دولتهم سلموا إليه أعلام الإعلام على نبوة نبينا، وقالوا إن زمانه قد أظل فاحذر أن تضل، فرحل مع رفقة لم يرفقوا به ‏ «‏ وشروه بثمن بخس دارهم معدودة» ‏‏‏الآية‏:‏ 20 من سورة يوسف‏ ‏ فابتاعه يهودي بالمدينة، فلما رأى الحرة توقد حرا شوقه ولم يعلم رب المنزل بوجد النازل، فبينا هو يكابد ساعات الانتظار قدم البشير بقدوم البشير، وسلمان في رأس نخلة وكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه كما جرى يوم ‏ «‏ إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 10 من سورة القصص‏ ‏فعجل النزول لتلقي ركب البشارة ولسان حاله يقول‏:‏
 
 
 
خليليَّ من نجد قفا بي على الربا * * * قد هب من تلك الديار نسيم
 
 
فصاح به سيده‏:‏ ما لك، انصرف إلى شغلك فقال‏:‏ كيف انصرافي ولي في داركم شغلي ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأطروش‏ «‏الأطرش الذي لا يسمع‏» :‏
 
 
 
خليليَّ لا والله ما أنا منكما * * * إذا علم من آل ليلى بدائيا
 
 
فلما لقي الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه، يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان‏.‏
أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال ‏:‏ عبد مناف‏.‏ وإذا انتسب افتخر بالآباء وإذا ذكرت الأموال عد الإبل، وسلمان إذا سئل عن اسمه قال ‏:‏ عبد الله، وعن نسبه قال ابن الإسلام‏.‏ وعن ماله قال الفقر، وعن حانوته قال المسجد‏.‏ وعن نسبه قال الصبر وعن لباسه قال التقوى والتواضع‏.‏ وعن وساده قال السهر، وعن فخره قال سلمان منا، وعن قصده قال يريدون وجهه، وعن سيره قال إلى الجنة‏.‏ وعن دليله في الطريق قال إمام الخلق وهادي الأئمة‏:‏
 
 
 
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا * * * وإن نحن أظللنا الطريق ولم نجد
 
 
 
كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا * * * دليلا كفانا نور وجهك هاديا
 
 
الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل‏.‏ لو خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له‏.‏ دخلت دار الهوى فقامرت بعمرك‏.‏ إذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حرب فاستتر منها بحجاب ‏ «‏قل للمؤمنين» ‏‏‏الآية‏:‏ 30 من سورة النور‏‏ فقد سلمت من الأثر ‏ «‏ وكفى الله المؤمنين القتال» ‏‏.‏‏‏الآية‏:‏ 25 من سورة الأحزاب‏‏
بحر الهوى إذا مد أغرق، وأخوف المنافذ على السابح فتح البصر في الماء‏.‏
 
 
 
ما أحد أكرم من مفرد * * * منعماً في القبر في روضه
 
 
 
في قبره أعماله تؤنســـه * * * ليس كعبد قبره محبســـــه
 
 
 
على قدر فضل المرء تأتى خطوبه * * * ويعرف عند الصبر فيما يصيبه
 
 
 
ومن قل فيما يتقيه اصطبــــــــــــاره * * * فقد قل مما يرتجيه نصيبـــــــــــــه
 
 
كم قطع زرع قبل التمام فما ظن الزرع المستحصد‏.‏ اشتر نفسك فالسوق قائمة والثمن موجود‏.‏ لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون‏:‏ دنا الصباح‏.‏
نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور‏.‏ اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب‏.‏
يا بائعاً نفسه بهوى مَنْ حُبُّه ضنى ووصله أذى، وحسنه إلى فنا، لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس كأنك لم تعرف قدر السلعة ولا خسة الثمن حتى إذا قدمت يوم التغابن لك الغبن في عقد التبايع‏.‏
لا إله إلا الله، سلعة‏:‏ الله مشتريها وثمنها الجنة والدلال الرسول، ترضى ببيعها بجزء يسير مما لا يساوي كله جناح بعوضة‏.‏
 
 
 
 
إذا كان شيء لا يساوي جميعه * * * جناح بعوض عند من صرت عبده
 
 
 
ويملك جزء منه كلك ما الذي * * * يكون على ذا‏ الحال قدرك عنده
 
 
 
وبعت به نفساً قد استامها بما * * * لديه من الحسنى وقد زال وده
 
 
«‏‏ ‏ذا‏ ‏ هنا اسم إشارة منها هاء التنبيه وليست من الأسماء الخمسة‏»
 
 
يا مخنث العزم أين أنت والطريق، طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، تزها أنت باللهو واللعب‏.‏
 
 
 
فيا دارها بالحزن إن مزارها * * * قريب ولكن دون ذلك أهوال
 
 
الحرب قائمة وأنت أعزل في النظارة، فإن حركت ركابك فللهزيمة‏.‏ ومن لم يباشر حر الهجير في طلاب المجد لم يَقِل‏‏ في ظلال الشرف‏.‏
 
 
 
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا * * * ولم تدر أني للمقام أطوف
 
 
قيل لبعض العباد‏:‏ إلى كم تتعب نفسك فقال‏:‏ راحتها أريد‏.‏
يا مكرماً بحلة الإيمان بعد حلة العافية وهو يخلقهما، في مخالفة الخالق لا تنكر السلب؛ يستحق من استعمل نعمة المنعم فيما يكره أن يسلبها‏.‏
عرائس الموجودات قد تزينت للناظرين ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائس الآخرة فمن عرف قدر التفاوت آثر ما ينبغي إيثاره‏.‏
 
 
 
وحسان الكون لما أن بدت * * * أقبلت نحوي وقالت لي‏:‏ إلـــي
 
 
 
فتعاميت كأن لم أرهــــــــــا * * * عندما أبصرت مقصودي لدي
 
 
كواكب همم العارفين في بروج عزائمهم سيارة ليس فيها زحل‏.‏
يا من انحرف عن جادتهم كن في أواخر الركب، ونم إذا نمت على الطريق فالأمير يراعي الساقة‏.‏
قيل للحسن‏:‏ سبقنا القوم على خيل دهم ونحن على حمر معقرة، فقال‏:‏ إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم‏.
 
 
 
 
 
 
== حقيقة المحب الصادق ==
المحب الصادق من وجد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة
من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف‏.‏ ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول‏.‏ ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله، ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم، ومن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه في أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس، فأشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه‏.‏
 
مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة قبل الشرائع ‏ «‏يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 35 من سورة النور.
وحَّدَ قُسٌّ وما رأى الرسول، وكفر ابن أُبي وقد صلى معه في المسجد‏.‏
مع الصب ري ولا ماء، وكم من عطشان في اللجة‏.‏
سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية فسيق تابوته إلى بيتها فجاء طفل منفرد عن أم إلى امرأة خالية عن ولد‏!‏ فلله كم في هذه القصة من عبرة‏:‏ كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد ولسان القدر يقول‏:‏ لا تربيه إلا في حجرك‏!‏
كان ذو البجادين ‏ يتيماً في الصغر فكفله عمه فنازعته نفسه إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهمَّ بالنهوض فإذا بقية المرض مانعة فقعد ينتظر العم، فلما تكاملت صحته نفذ الصبر فناداه ضمير الوجد‏:‏
 
 
 
إلى كم حبسها تشكو المضيقا * * * أثرها ربما وجدت طريقاً
 
 
فقال‏:‏ يا عم طال انتظاري لإسلامك وما أرى منك نشاطاً، فقال‏:‏ والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك، فصاح لسان الشوق‏:‏ نظرة من محمد أحب إلى من الدنيا وما فيها‏.‏
 
 
 
ولو قيل للمجنون ليلى ووصلها * * * تريد أم الدنيا وما في طواياها
 
 
 
لقال ترابٌ من غبار نعالها * * * ألذ إلى نفسي وأشفى لبلواها
 
 
فلما تجرد للسير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جرده من الثياب فناولته الأم بجادا فقطعه لسفر الوصل نصفين ‏:‏ اتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، قنع أن يكون في ساقة الأحباب، والمحب لا يرى الطريق؛ لأن المقصود يعينه‏.‏
 
 
 
ألا بلغ الله الحمى من يريده * * * وبلغ أكناف الحمى من يريدها
 
 
فلما قضى نحبه نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يمهد له لحده وجعل يقول‏:‏ « اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه» ‏.‏ فصاح ابن مسعود‏:‏ «يا ليتني كنت صاحب القبر» ‏.‏
فيا مخنث العزم أقل ما في الرقعة البيذق فلما نهض تفرزن‏.‏‏‏
رأى بعض الحكماء برذوناً يسقى عليه فقال لو هملج هذا لركب‏.‏
إقدام العزم بالسلوك اندفع من بين أيديها سد القواطع‏.‏
القواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب فإذا خضتها انقلبت أعواناً لك توصلك إلى المقصود‏.‏
 
 
 
 
 
== مثل الدنيا ==
الدنيا كامرأة بغيّ لا تثبت مع زوج إنما تخطب الأزواج ليستحسنوا عليها، فلا ترضى بالدياثة‏.‏
 
 
 
ميزت بين جمالها وفعالهــــا * * * فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
 
 
 
حلفت لنا ألا تخون عهودنا * * * فكأنها حلفت لنا ألا تفـــــي
 
 
السير في طلبها سير في أرض مسبعة‏، والسباحة فيها سباحة في غدير سباحة في غدير التمساح، المفروح به هو عين المخزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها وأحزانها من أفراحها‏:‏
 
 
 
مأرب كانت في الشباب لأهلها * * * عذاباً فصارت في المشيب عذاباً
 
 
طائر الطبع يرى الحبة وعين العقل ترى الشرك، غير أن عين الهوى عمياء‏:‏
 
 
 
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * * * كما أن عين السخط تبدي المساويا
 
 
تزخرفت الشهوات لأعين الطباع فغض عنه الذين يؤمنون بالغيب ووقع تابعوها في بيداء الحسرات فـ ‏ «‏أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون» ‏‏‏الآية‏:‏ 5 من سورة البقرة‏‏، وهؤلاء يقال لهم‏:‏ ‏ «‏كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون» ‏‏‏الآية‏:‏ 46 من سورة المرسلات.
لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة الحياة الدنيا وقلة المقام فيها أماتوا فيها الهوى طلباً لحياة الأبد لما استيقظوا من نوم الغفلة استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم في زمن البطالة فلما طالت عليهم الطريق تلمحوا المقصد فقرب عليهم البعيد، وكلما أمرت لهم الحياة حلا لهم تذكر‏:‏ ‏ «‏هذا يومكم الذي كنتم توعدون» ‏‏‏الآية‏:‏ 103 من سورة الأنبياء.
 
 
 
وركب سروا والليل ملق رواقه * * * على كل مغْبرّ المطالع قائم
 
 
 
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها * * * فصار سراهم في ظهور العزائم
 
 
 
تريهم نجوم الليل ما يتبعونه * * * على عاتق الشعرى وهام النعائم
 
 
 
إذا اطردت في معرك الجد قصفوا * * * رماح العطايا في صدور المكارم
 
«‏رواق الليل‏:‏ الرواق من الليل‏:‏ مقدمه، وجانبه»
« ‏الشعرى‏:‏ كوكب يطلع بعد الجوزاء‏ »
 
 
 
== من أعجب الأشياء ==
من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه بنعيم الإقبال عليه والإنابة إليه‏.‏
وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب‏.‏
 
 
 
== ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين‏ ==
« إحداهما‏:» ‏ سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً، و «الثانية‏:» ‏ أن يكون عالماً بذلك، وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره وهواه عقله، فالأول من ضعف علمه والثاني من ضعف عقله وبصيرته‏.‏
قال يحيى بن معاذ:‏ من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده‏.‏
قلت‏:‏ إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوي رجاؤه فلا يكاد يرد دعاؤه‏.‏
 
 
== فصل ==
 
 
لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان وقيادة النفوس رأوا الدولة للنفس الأمارة لجئوا إلى حصن التضرع والالتجاء كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده‏.‏
شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر‏.‏
لاح لهم المشتهَى فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خيط الفخ فطاروا بأجنحة الحذر وصوبوا إلى الرحيل الثاني ‏ «‏يا ليت قومي يعلمون» ‏‏‏الآية‏:‏ 26 من سورة يس‏‏ تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل وشمروا للسير في سواء السبيل فالناس مشتغلون بالفضلات وهو في قطع الفلوات ‏‏ وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح‏.‏
وقع ثعلبان في شبكة، فقال أحدهما للآخر‏:‏ أين الملتقى بعد هذا‏؟‏ فقال‏:‏ بعد يومين في الدباغة‏.‏
تالله ما كانت الأيام إلا مناماً فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر‏.‏
ما مضى من الدنيا أحلاماً وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما‏.‏
كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه وولد لا يعذره وجار لا يأمنه وصاحب لا ينصحه وشريك لا ينصفه وعدو لا ينام عن معاداته ونفس أمارة بالسوء ودنيا متزينة وهوى مرد وشهوة غالبة له وغضب قاهر وشيطان مزين وضعف مستول عليه، فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة‏.‏
 
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً، فجائتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم‏.‏
فإذا رأت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس‏.‏
اقشعرت الأرض وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهُزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق‏‏، وبالجناح وقد علق ‏ «‏وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» ‏‏‏الآية‏:‏ 227 من سورة الشعراء.
اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصة‏.‏
وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير‏.‏ ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه‏:‏
 
 
 
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * * * أبصرت يوم الحشر من قد تزودا
 
 
 
ندمت على ألا تكون كمثلـــــــه * * * وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
 
 
العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه‏.‏ إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها فما أسرع ما تقف به‏:‏
 
 
 
ومشتت العزمات ينفق عمره * * * حيران لا ظفر ولا إخفاق
 
 
 
هل السائق العجلان يملك أمره * * * فما كل سير اليعملات و خيذ‏
 
 
 
رويداً بأخفاف المطي فإنما * * * تداس جباه تحتها وخدود
 
‏ « ‏اليعملات‏:‏ جمع يعملة، وهي الناقة النجيبة، المعتملة المطبوعة على العمل. ‏و خيذ‏:‏ خذ البعير‏:‏ أسرع الخطى‏.‏‏‏»
 
من تلمح حلاوة العافية هان عليه مرارة الصبر‏.‏
الغاية أول في التقدير، آخر في الوجود، مبدأ في نظر العقل، منتهى في منازل الوصول‏.‏
ألفت عجز العادة فلو علت بك همتك ربى المعالي لاحت لك أنوار العزائم‏.‏
إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور‏.‏
تزول همة الكساح‏ دلاه في جب العذرة‏‏‏.‏
بينك وبين الفائزين جبل الهوى نزلوا بين يديه ونزلت خلفه، فاطو فضل ما تنزل تلحق بالقوم‏.‏
الدنيا مضمار سباق وقد انعقد وخفي السباق، والناس في المضمار بين فارس وراجل، وأصحاب حمر معقرة‏.‏
 
 
 
سوف ترى إذا انجلى الغبار * * * أفرس تحتك أم حمار
 
 
في الطبع شره والحمية أوفق‏.‏ لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى‏.‏ حبة المشتهى تحت فخ التلف فتفكر الذبح وقد هان الصبر‏.‏
قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب وشدة الحذر من فوت المأمول‏.‏
البخيل فقير لا يؤجر على فقره‏.‏
الصبر على عطش الضر ولا الشرب من شرعة من‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها‏.‏
لا تسأل سوى مولاك فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه‏.‏
غرس الخلوة يثمر الأنس‏.‏
استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك‏.‏
عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها و سقاؤها‏.‏
إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة واستحضر الكفر جرت بينهم مناجاة‏.‏
 
 
 
أتاك حديث لا يمل سماعـــــــه * * * شهي إلي نثره ونظامـــــــــــــــــــه
 
 
 
إذا ذكرته النفس زال عناؤها * * * وزال عن القلب المعنى ظلامه
 
 
إذا خرجت من عدوك لفظة سفه فلا تلحقها بمثلها تلقحها ونسل الخصام نسل مذموم‏.‏
حميتك لنفسك أثر الجهل بها فلو عرفتها أعنت الخصم عليها‏.‏
إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح‏.‏
أوثق غضبك بسلسة الحلم فإنه كلب إن أفلت أتلف‏.‏
من سبقت له سابقة السعادة دل على الدليل قبل المطلب‏.‏
إذا أراد القدر شخصاً بذر في أرض قلبه بذر التوفيق ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة ثم أقام عليه بأطوار المراقبة واستخدم له حارس العلم، فإذا الزرع قائم على سوقه‏.‏
إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة أشرقت أرض القلب بنور ربها‏.‏
إذا جن الليل تغالب النور السهر، فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة، والكسل والتواني في كتيبة الغفلة، فإذا العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وردت الغنيمة لأهلها‏.‏
سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة‏.‏ النجائب‏‏ في الأول وحاملات الزاد في الأخير‏.‏
لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رددت، فإن فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية وابسط كف‏:‏ ‏ «‏وتصدق علينا» ‏‏‏الآية‏:‏ 88 من سورة يوسف.
يا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد‏‏ التقوى كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الرزق‏.‏
لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد المعاصي سد في باب الكسب وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه‏.‏
 
 
 
تالله ما جئتكم زائــــــــــراً * * * إلا وجدت الأرض تطوى لي
 
 
 
لا انثنى عزمي عن بابكم * * * إلا عثرت بأذيـــــــــــــــــــــــــالي
 
 
الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق‏.‏ من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله‏.‏
كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم‏.‏
الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها‏.‏
الدنيا جيفة والأسد لا يقع على الجيف‏.‏
الدنيا مجاز والآخرة وطن و الأوطار‏‏ إنما تطلب في الأوطان‏.‏
 
 
== أقسام الاجتماع بالإخوان ==
 
«أحدهما‏:» ‏ اجتماع على مؤانسة الطمع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه يفسد القلب ويضيع الوقت‏.‏
«ثانيهما‏:» ‏ الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق، والصبر‏.‏ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها‏.‏ ولكن فيه ثلاث آفات‏:‏
«الأولى‏:» ‏ تزين بعضهم لبعض‏.‏
«الثانية‏:» ‏ الكلام والخلطة أكثر من الحاجة‏.‏
«الثالثة‏:» ‏ أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود‏.‏
 
وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان‏.‏ وقد جعل الله سبحانه برحمته الطيبات للطيبين، والطيبين للطيبات، وعكس ذلك‏.‏
 
 
 
 
== الأسباب المشهودة والأسباب الغائبة ==
ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب ألبتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعليان، وفى الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية كتأثير الشمس في الحيوان والنبات فإنه موقوف على أسباب أخر من وجود محل قابل، وأسباب أخر تنضم إلى ذلك السبب‏.‏
وكذلك حصول الولد موقوف على عدة أسباب غير وطء الفحل‏.‏
 
وكذلك جميع الأسباب مع مسبباتها، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثره على غيره إلا الله الواحد القهار، فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، هذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل‏.‏
 
فإنه لو فرض من أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة، بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه، وإن ذهب على أكثرهم علماً وحالاً‏.‏
فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة‏.‏
 
 
 
 
== التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه‏ ==
فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها ‏ «‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون» ‏‏‏الآية‏:‏ 65 من سورة العنكبوت.
وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها ولذلك فزع إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة‏.‏
لما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل‏.‏ هذه سنة الله في عباده‏.‏
فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد‏‏ فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها و غياثها، وبالله التوفيق‏.‏
 
 
 
 
== اللذة تابعة للمحبة ==
 
اللذة تابعة للمحبة، تقوى بقوتها وتضعف بضعفها، فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتم، والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به، فكلما كان العلم به أتم كانت محبته أكمل، فإذا رجع كمال النعيم في الآخرة وكمال اللذة إلى العلم والحب، فمن كان بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف كان له أحب وكانت لذته بالوصول إليه ومجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم‏.‏
 
وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة بالإضافة إلى ذلك كقطرة في بحر، فكيف يؤثر من له عقل لذة ضعيفة قصيرة مشوبة بالآلام على لذة عظيمة دائمة أبد الآباد‏.‏
وكمال العبد بسبب هاتين القوتين‏:‏ العلم والحب، وأفضل العلم العلم بالله وأعلى الحب الحب له وأكمل اللذة بحسبهما، والله المستعان‏.‏
 
 
 
== حبسان منجيان ==
طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين‏:‏ حبس قلبه في طلبه و مطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره، وحبس لسانه عما لا يفيد وحبسه على ما ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته‏.‏ وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات وحبسها على الواجبات والمندوبات فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه‏.‏ ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وأما ذاهب إلى الحبس‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏
 
 
 
== التقوى ==
 
 
ودع ابن عون ‏‏ رجلاً فقال‏:‏ عليك بتقوى الله، فإن المتقي ليست عليه وحشة‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ كان يقال‏:‏ من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا‏.‏ وقال الثوري ‏ لابن أبى ذئب‏:‏ إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا‏.‏ وقال سليمان بن داود :‏ أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا وعلمنا مما علم الناس ومما لم يعلموا، فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى‏.‏
 
وفي الزهد للإمام أحمد أثر إلهي‏:‏ ‏ « ‏ما من مخلوق اعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات والأرض دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وإن استغفرني لم أغفر له‏.‏ وما من مخلوق اعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته، وإن استغفرني غفرت له‏ » ‏‏.‏
 
 
 
 
== حسن الخلق من التقوى ==
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه‏.‏ فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو إلى محبته‏.‏
 
 
 
 
== عبر وعظات ==
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين‏:‏ خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله،‏‏ فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه‏.‏
صاح بالصحابة واعظُ‏:‏ ‏ «‏اقترب للناس حسابهم» ‏سورة الأنبياء، الآية‏:‏ 24.
فجزعت للخوف قلوبهم فجرت من الحذر العيون ‏ « ‏فسالت أودية بقدرها » .‏
تزينت الدنيا لعلي ‏‏ فقال‏:‏ ‏ « ‏أنت طالق ثلاثا لا رجعة لي فيك‏ » ‏‏.‏ وكانت تكفيه واحدة للسنة، لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة‏.‏ ودينه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلل، كيف وهو أحد رواة حديث‏:‏ ‏ « ‏لعن الله المحلل‏» ‏‏؟‏‏
 
ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك، لا بد أن تجذبك الجواذب فاعرفها وكن منها على حذر، ولا تصرفك الشواغل إذا خلوت منها وأنت فيها‏, نور الحق أضوأ من الشمس، فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه‏ الطريق إلى الله خال من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات، وهو معمور بأهل اليقين والصبر، وهم على الطريق كالأعلام ‏ «‏وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون» ‏سورة السجدة، الآية‏:‏ 24.
 
 
 
== تأثير ‏ ‏لا إله إلا الله‏ ‏ عند الموت ==
لشهادة ‏ «‏أن لا إله إلا الله‏» ‏ عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها؛ لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة، وانقادت بعد إبائها واستعصائها وأقبلت بعد إعراضها وزالت بعد عزها، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها، واستذلت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته‏.‏ وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه، فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه، وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه‏.‏ فاستسلم وحده ظاهراً وباطناً ، و استوى سره وعلانيته فقال لا اله إلا الله مخلصاً من قلبه‏.‏ وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه‏.‏ قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه، وصارت الدنيا وراء ظهره، فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله، فطهرته من ذنوبه، وأدخلته على ربه؛ لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة، وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها، فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها، وفر إلى الله من الناس، وأنس به دون ما سواه، لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله‏.‏ فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي، والله المستعان‏.‏
 
ماذا يملك من أمره من ناصيته بيد الله ونفسه بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، وحياته بيده وموته بيده، وسعادته بيده، وشقاوته بيده وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله بإذنه و مشيئه، فلا يتحرك إلا بإذنه، ولا يفعل إلا بمشيئته‏.‏ إن وكل هو إلى نفسه وكل إلى عجز وضيعة وتفريط وذنب وخطيئة، وإن وكله إلى غيره وكله إلى من لا يملك له ضرًّا ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا‏.‏ وإن تخلى عنه استولى عليه عدوه وجعله أسيراً له‏.‏ فهو لا غنى له عنه طرفة عين، بل هو مضطر إليه على مدى الأنفاس في كل ذرة من ذراته باطناً وظاهراً‏.‏ فاقته تامة إليه‏.‏ ومع ذلك فهو متخلف عنه معرض عنه، يتبغض إليه بمعصيته، مع شدة الضرورة إليه من كل وجه، قد صار لذكره نسيًّا واتخذه وراءه ظهريًّا، هذا وإليه مرجعه وبين يديه موقفه‏.‏
 
 
 
== ما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا ==
نزع خاطرك لهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك، فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان‏.‏ فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً‏.‏ وإذا سد عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه‏.‏ فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه، وهو الدم، من طريق واحدة وهو السرة، فلما خرج من بطن الأم وانقطعت الطريق فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول وانقطعت تلك الطريق فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقاً أربعة أكمل منها‏:‏
 
طعامان و شرابان، فالطعامان من الحيوان والنبات، و الشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ‏.‏ فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة‏.‏
لكنه سبحانه فتح له -إن كان سعيداً- طرقاً ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء‏.‏ فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له‏.‏
 
وليس ذلك لغير المؤمن، فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ذخر له‏.‏‏ بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليا ولو أنصف العبد ربه، وأنى له بذلك، لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه في ‏ « وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا » ‏سورة الفرقان، الآية‏:‏ 62‏‏ ‏ «‏وأبى الظالمون إلا كفوراً» ‏، والله المستعان‏.‏
من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها من عيوب الناس‏.‏
من عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه‏.‏
أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص وعن نفسك بشهود المنة، فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق‏.‏
 
 
== أبواب النار وأصول الخطايا ==
 
 
 
=== حكمة الله في أجزاء الإنسان ===
جعل الله بحكمته كل جزء من أجزاء ابن آدم، ظاهره وباطنه، آلة لشيء إذا استعمل فيه فهو كماله‏.‏ فالعين آلة للنظر‏.‏ والأذن آلة للسماع‏.‏ والأنف آلة للشم‏.‏ واللسان للنطق‏.‏ والفرج للنكاح‏.‏ واليد للبطش‏.‏ والرجل للمشي‏.‏ والقلب للتوحيد والمعرفة‏.‏ والروح للمحبة‏.‏ والعقل آلة للتفكير والتدبر لعواقب الأمور الدينية والدنيوية وإيثار ما ينبغي إيثاره وإهمال ما ينبغي إهماله‏.‏
أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه، بل أخسر منه من اشتغل عن نفسه بالناس‏.‏
 
في السنن من حديث أبى سعيد ‏ يرفعه‏:‏ ‏ «‏إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول‏:‏ اتق فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا‏» ‏‏.‏ قوله‏:‏ تكفر اللسان، قيل‏:‏ معناه تخضع له ‏‏ وفي الحديث‏:‏ أن الصحابة لما دخلوا على النجاشي لم يكفروا له، أي لم يسجدوا ولم يخضعوا‏.‏ ولذلك قال عمرو بن العاص‏:‏ أيها الملك، إنهم لا يكفرون لك‏.‏ وإنما خضعت للسان لأنه بريد القلب وترجمانه والواسطة بينه وبين الأعضاء‏.‏ وقولها‏:‏ إنما نحن بك، أي نجاتنا بك وهلاكنا بك، ولهذا قالت‏:‏ فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا‏.‏
 
 
 
 
 
=== اتقوا الله وأجملوا في الطلب ===
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏ «‏فاتقوا الله وأجملوا في الطلب‏» ‏ ‏ ‏رواه ابن ماجه في التجارات‏‏ بين مصالح الدنيا والآخرة، ونعيمها ولذاتها إنما ينال بتقوى الله، وراحة القلب والبدن وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناد والكد والشقاء في طلب الدنيا إنما ينال بالإجمال في الطلب، فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها، ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها، فالله المستعان‏.‏
 
 
 
قد نادت الدنيا على نفسها * * * لو كان في ذا الخلق من يسمع
 
 
 
كم واثق بالعيش أهلكتـــــــــه * * * وجامع فرقت ما يجمــــع
 
 
 
 
=== المأثم والمغرم ===
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المأثم والمغرم‏ ، فإن المأثم يوجب خسارة الآخرة، والمغرم يوجب خسارة الدنيا‏.‏
 
 
=== الجهاد ===
قال تعالى‏:‏ ‏ «‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا» ‏سورة العنكبوت، الآية‏:‏ 29.علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فممن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد‏.‏
 
قال الجنيد‏:‏ والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا، فمن نصر عليها نصر على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه‏.‏
 
 
=== عداوة العقل والهوى ===
ألقى الله سبحانه العداوة بين الشيطان وبين الملك، والعداوة بين العقل وبين الهوى والعداوة بين النفس الأمارة وبين القلب ‏.‏وابتلى العبد بذلك وجمع له بين هؤلاء ،وأمد كل حزب بجنود وأعوان، فلا تزال الحرب سجالا ‏ ودولا بين الفريقين إلى أن يستولي أحدهما على الآخر ويكون الآخر مقهورا معه‏.‏ فإذا كانت النوبة للقلب والعقل والملك فهنالك السرور والنعيم واللذة والبهجة والفرح وقرة العين وطيب الحياة وانشراح الصدر والفوز بالغنائم‏.‏ وإذا كانت النوبة للنفس والهوى والشيطان فهنالك الغموم والهموم والأحزان وأنواع المكارة وضيق الصدر وحبس الملك‏.‏ فما ظنك بملك استولى عليه عدوه فأنزله عن سرير ملكة وأسره وحبسه وحال بينه وبين خزائنه وذخائره وخدمه وصيرها له، ومع هذا فلا يتحرك الملك لطلب ثأره ولا يستغيث بمن يغيثه ولا يستنجد بمن ينجده‏.‏ وفوق هذا الملك ملك قاهر لا يقهر وغالب لا يغلب وعزيز لا يذل، فأرسل إليه‏:‏ إن استنصرتني نصرتك وإن استغثت بي أغثتك وإن لجأت إلي أخذت بثأرك وإن هربت إلي وأويت إلي سلطتك على عدوك وجعلته تحت أسرك‏.‏ فان قال هذا الملك المأسور‏:‏ قد شد عدوي وثاقي وأحكم رباطي واستوثق منى بالقيود ومنعني من النهوض إليك والفرار إليك والمسير إلى بابك، فإن أرسلت جندا من عندك يحل وثاقي ويفك قيودي ويخرجني من حبسة، أمكنني أن أوافي بابك، وإلا لم يمكنني مفارقة محبسي ولا كسر قيودي‏.‏
 
فإن قال ذلك احتجاجا على ذلك السلطان ودفعا لرسالته ورضا بما هو فيه عند عدوه، خلاه السلطان الأعظم وحاله و ولاه ما تولى‏.‏
وإن قال ذلك افتقارا إليه وإظهارا لعجزه وذله وأنه أضعف وأعجز أن يسير إليه بنفسه ويخرج من حبس عدوه ويتخلص منه بحوله وقوته، وأن من تمام نعمته ذلك عليه كما أرسل إليه هذه الرسالة أن يمده من جنده ومماليكه بمن يعينه على الخلاص ويكسر باب محبسه ويفك قيوده، فإن فعل به ذلك فقد أتم إنعامه عليه، وإن تخلى عنه فلم يظلمه ولا منعه حقا هو له‏.‏ وإن حمده وحكمته اقتضى منعه و تخليته في محبسه، ولا سيما إذا علم أن الحبس حبسه وأن هذا العدو الذي حبسه مملوك من مماليكه وعبد من عبيده، ناصيته بيده لا يتصرف إلا بإذنه ومشيئته، فهو غير ملتفت إليه ولا خائف منه ولا معتقد أن له شيئا من الأمر ولا بيده نفع ولا ضر، بل هو ناظر إلى مالكه ومتولي أمره ومن ناصيته بيده قد أفرده بالخوف والرجاء والتضرع إليه والالتجاء والرغبة والرهبة، فهناك تأتيه جيوش النصر والظفر‏.‏
 
 
 
=== مراتب العلوم ===
أعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة والفهم عن الله ورسوله نفس المراد وعلم حدود المنزل‏.‏ وأخس همم طلاب العلم قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال‏.‏ وقل أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه‏.‏
وأعلى الهمم في باب الإرادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف مع مراده الديني الأمري‏.‏ وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله، فهو إنما يعبده لمراده منه لا لمراد الله منه، فالأول يريد الله ويريد مراده، والثاني يريد من الله وهو فارغ عن إرادته‏.‏
 
 
=== علماء السوء ===
علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم‏.‏ فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع الطرق‏.‏
إذا كان الله وحده حظك ومرادك فالفضل كله تابع لك يزدلف‏‏ إليك، أي أنواعه تبدأ به، وإذا كان حظك ما تنال منه فالفضل بطريق الضمن و التبع، فإن كنت قد عرفته وأنست به ثم سقطت إلى طلب الفضل حرمك إياه عقوبة لك ففاتك الله وفاتك الفضل‏.‏
 
 
=== انتصار الرسول ===
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصر العدو دخل في حصر النصر، فعبثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف فطار ذكره في الآفاق، فصار الخلق معه ثلاثة أقسام‏:‏ مؤمن به، ومسالم له، وخائف منه‏.‏ ألقى بذر الصبر في مزرعة ‏ «‏فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل» ‏ سورة الأحقاف، الآية 35‏، فإذا أغصان النبات تهتز بخزامى‏ ‏:‏‏ «‏والحرمات قصاص‏» ‏ البقرة‏:‏ 194‏، فدخل مكة دخولا ما دخله أحد قبله ولا بعده‏.‏ حوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق‏‏‏.‏ والصحابة على مراتبهم، والملائكة فوق رؤوسهم، وجبريل يتردد بينه وبين ربه، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه، فلما قايس بين هذا اليوم وبين يوم‏ «‏ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك» ‏الأنفال‏:‏ 30‏‏ فأخرجوه ثاني اثنين‏.‏
 
دخل وذقنه تمس قربوس ‏‏ سرجه خضوعا وذلا لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رؤوسها ومدت إليه الملوك أعناقها‏.‏ فدخل مكة مالكا مؤيدا منصورا‏.‏ وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة، فنشر بزا ‏ طوي عن القوم من يوم قوله‏:‏‏ «‏ أحد أحد‏» ‏‏.‏ ورفع صوته بالأذان، فأجابته القبائل من كل ناحية، فأقلبوا يؤمون الصوت، فدخلوا في دين الله أفواجا وكانوا قبل ذلك يأتون آحادا‏.‏ فلما جلس الرسول على منبر العز، وما نزل عنه قط، مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه‏.‏ فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب، ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأسارى إليه‏.‏ فلما تكامل نصره وبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاءه منشور‏:‏‏ «‏ إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا‏» ‏ سورة الفتح‏:‏ الآية 1‏‏ وبعده توقيع:‏ « إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا‏» ‏ سورة النصر‏:‏ الآية 1‏‏ ، جاءه رسول ربه يخيره بين المقام في الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء ربه شوقا إليه، فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك‏.‏
إذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه‏‏ فرحا واستبشارا بقدوم روحه، فكيف ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون عليها ‏ « ‏يوم تبلى السرائر‏» .
 
 
=== غرور الأماني ===
يا مغرور بالأماني‏:‏ لعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها‏.‏ وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها‏.‏ وحجب القاتل عنها ‏‏ بعد أن رآها عيانا بملء كف من دم‏.‏ وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل‏.‏ وأمر بإيساع الظهر سياطا ‏ بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر‏.‏وأبان عضوا من أعضائك بثلاثة دراهم ‏ فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه ‏ «‏ ولا يخاف عقباها‏» ‏ سورة الشمس، الآية 15.
 
دخلت امرأة النار في هرة‏‏.‏ وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في الوصية‏‏ فيختم له بسوء عمله فيدخل النار‏.‏ العمر بآخره والعمل بخاتمته‏.‏
 
من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعا، ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه‏.‏ لو قدمت لقمة وجدتها‏‏ ولكن يؤذيك الشره‏.‏
كم جاء الثواب إليك فوقف بالباب فرده بواب‏:‏ سوف، ولعل، وعسى‏.‏ كيف الفلاح بين إيمان ناقص، وأمل زائد، ومرض لا طيب له ولا عائد، وهوى مستيقظ، وعقل راقد، ساهيا في غمرته، عمها‏‏ في سكرته، سابحا في لجة جهله، مستوحشا من ربه، مستأنسا بخلقه، ذكر الناس فاكهته وقوته، وذكر الله حبسه وموته، الله منه جزء يسير من ظاهره، وقلبه ويقينه لغيره‏.‏
 
 
 
لا كان من لسواك فيه بقية * * * يجد السبيل بها إليه العدل
 
 
 
=== لماذا جعل آدم آخر المخلوقات ===
 
 
كان أول المخلوقات القلم ليكتب المقادير قبل كونها، وجعل آدم آخر المخلوقات وفي ذلك حكم‏:‏
« أحدها‏:‏» تمهيد الدار قبل الساكن‏.‏
«الثانية‏:» ‏ أنه الغاية التي خلق لأجلها ما سواه من السماوات والأرض والشمس والقمر والبر والبحر‏.‏
«الثالثة‏:» ‏ أن أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه وغايته كما يبدؤه بأساسه ومبادئه‏.
‏ «الرابعة‏:» ‏ أن النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائما، ولهذا قال موسى للسحرة أولا‏:‏‏ «‏ألقوا ما أنتم ملقون» ‏ سورة يونس، الآية 80‏‏ فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا إلى ما يأتي بعده‏.‏ الخامسة‏:‏ أن الله سبحانه أخر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيرا من الأولى، والنهايات أكمل من البدايات، فكم بين قول الملك للرسول اقرأ فيقول ما أنا بقارئ، وبين قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏اليوم أكملت لكم دينكم» ‏سورة المائدة، الآية 3.السادسة‏:‏ أنه سبحانه جمع ما فرقه في العالم في آدم، فهو العالم الصغير وفيه ما في العالم الكبير‏.‏ السابعة‏:‏ كرامته على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وآلات معيشته وأسباب حياته، فما رفع رأسه إلا وذلك كله حاضر عتيد‏.‏ التاسعة‏:‏ أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات، فقدمها عليه في الخلق، ولهذا قالت الملائكة‏:‏ ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا‏.‏ فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة، فلما وقع في الذنب ظنت الملائكة أن ذلك الفضل قد نسخ ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة، فلما تاب إلى ربه وأتى بتلك العبودية علمت الملائكة أن لله في خلقه سرا لا يعلمه سواه‏.‏ العاشرة‏:‏ أنه سبحانه لما افتتح خلق هذا العالم بالقلم كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان، فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالم‏.‏ ولهذا أظهر سبحانه فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خص به دونهم‏.‏
 
 
 
 
=== حال إبليس مع آدم ===
 
 
 
وتأمل كيف كتب سبحانه عذر آدم قبل هبوطه إلى الأرض ونبه الملائكة على فضله وشرفه ونوه باسمه قبل إيجاده بقوله‏:‏ ‏ «‏إني جاعل في الأرض خليفة» ‏‏ وتأمل كيف وسمه بالخلافة وتلك ولاية له قبل وجوده، وأقام عذره قبل الهبوط بقوله‏:‏ ‏ «‏في الأرض» ‏‏.‏ والمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته‏.‏ فلما صوره ألقاه على باب الجنة أربعين سنة لأن دأب المحب الوقوف على باب الحبيب، ورمى به في طريق ذل‏ «‏ ولم يك شيئا» ‏ لئلا يعجب يوم ‏ «‏اسجدوا» ‏‏.‏ وكان إبليس يمر على جسده فيعجب منه ويقول‏:‏ لأمر قد خلقت، ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ويقول‏:‏ لئن سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك، ولم يعلم أن هلاكه على يده‏.‏ رأى طينا مجموعا فاحتقره، فلما صور الطين صورة دب فيه داء الحسد، فلما نفخ فيه الروح مات الحاسد‏.‏ فلما بسط له بساط العز عرضت عليه المخلوقات فاستحضر مدعى ‏ «‏ونحن نسبح» ‏ إلى حاكم ‏ «‏أنبئوني» ‏‏.‏ وقد أخفى الوكيل عنه بينة ‏ «‏وعلم» ‏ فنكسوا رؤوس الدعاوى على صدور الإقرار‏.‏ فقام منادي التفضيل في أندية الملائكة ينادي‏:‏ ‏ «‏اسجدوا» ‏ فتطهروا من حدث دعوى ‏ «‏ونحن» ‏ بماء العذر في آنية ‏ «‏لا علم لنا» ‏، فسجدوا على طهارة التسليم وقام إبليس ناحية لم يسجد؛ لأنه خبث، وقد تلون بنجاسة الاعتراض‏.‏ وما كانت نجاسته تتلاقى بالتطهير؛ لأنها عينية، فلما تم كمال آدم قيل‏:‏ لا بد من خال جمال على وجه ‏ «‏اسجدوا» ‏، فجرى القدر بالذنب ليتبين أثر العبودية في الذل‏.‏ يا آدم لو عفا لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون‏:‏ كيف فضل ذو شره لم يصبر على شجرة‏.‏ لولا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس، ولا نزلت رسائل‏:‏ ‏ «‏ هل من سائل‏؟‏‏» ‏ ولا فاحت روائح‏:‏ ‏ «‏ و لخلوف فم الصائم‏» ‏ ‏‏، فتبين حينئذ أن ذلك التنازل لم يكن عن شَرَهٍ‏.‏
 
يا آدم، ضحكك في الجنة لك، وبكاؤك في دار التكليف لنا‏.‏
ما ضر من كسره عزى إذا جبره فضلى، إنما تليق خلعة العز ببدن الانكسار‏.‏ أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي‏.‏ ما زالت تلك الأكلة تعاده ‏ حتى استولى داؤه على أولاده، فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود‏ «‏ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى» ‏سورة طه، الآية 123.فحماهم الطبيب بالمتناهي، وحفظ القوة بالأوامر، وأفرغ أخلاطهم الرديئة بالتوبة، فجاءت العافية من كل ناحية‏.‏
 
فيا من ضيع القوة ولم يحفظها، وخلط في مرضه وما احتمى، ولا صبر على مرارة الاستفراغ لا تنكر قرب الهلاك، فالداء مترام إلى الفساد‏.‏ لو ساعد القدر فأعنت الطبيب على نفسك بالحمية من شهوة خسيسة ظفرت بأنواع اللذات وأصناف المشتهيات‏.‏ ولكن بخار الشهوة غطى عين البصيرة، فظننت أن الحزم بيع الوعد بالنقد‏.‏ يا لها بصيرة عمياء، جزعت من صبر ساعة واحتملت ذل الأبد‏.‏ سافرت في طلب الدنيا وهي عنها زائلة، وقعدت عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلة‏.‏
إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير، فاعلم بأنه سفيه‏.‏
 
 
فوائد مختلفة
لما سلم لآدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب‏.‏
ابن آدم، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لقيتك بقرابها مغفرة‏.‏
لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصدا لمخالفته ولا قدحا في حكمته، علمه كيف يعتذر إليه‏:‏ ‏ «‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه» ‏سورة البقرة، الآية 37.
 
العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه، ولكن غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، وقهر الهوى، والثقة بالعفو، ورجاء المغفرة‏.‏ هذا من جانب العبد، وأما من جانب الربوبية فجريان الحكم، وإظهار عز الربوبية وذل العبودية، وكمال الاحتياج، وظهور آثار الأسماء الحسنى‏:‏ كالعفو والغفور والتواب والحليم، لمن جاء تائبا نادما، والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد لمن أصر ولزم المجرة‏.‏ فهو سبحانه يريد أن يرى عبده يفرده بالكمال ونقص العبد وحاجته إليه‏.‏ ويشهده كمال قدرته وعزته وكمال مغفرته وعفوه ورحمته، وكمال بره وستره وحلمه وفضله فهو هالك لا محالة‏.‏ فلله كم في تقدير الذنب من حكمة وكم فيه مع تحقيق التوبة للعبد من مصلحة ورحمة‏.‏ التوبة من الذنب كشرب الدواء العليل، ورب علة كانت سبب الصحة‏.‏
 
 
 
لعل عتبك محمود عواقبه * * * وربما صحت الأجساد بالعلل
 
 
لولا تقدير الذنب هلك ابن آدم من العجب‏.‏
ذنب يذل به أحب إليه من طاعة يدل بها عليه‏.‏
شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الانكسار‏.‏
لا يكرم العبد نفسه بمثل إهانتها، ولا يعزها بمثل ذلها، ولا يريحها بمثل تعبها، كما قيل‏:‏
 
 
 
سأتعب نفسي أو أصادف راحة * * * فإن هوان النفس في كرم النفس
 
 
ولا يشبعها بمثل جوعها، ولا يؤمنها بمثل خوفها، ولا يؤنسها بمثل وحشتها من كل ما سوى فاطرها وبارئها ولا يحييها بمثل إماتتها، كما قيل‏:‏
 
 
 
موت النفوس حياتها * * * من شاء أن يحيا يموت
 
 
شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرق ‏
من تذكر خنق الفخ هان عليه هجران الحبة‏.‏
يا معرقل في شرك الهوى جمزة ‏ عزم وقد خرقت الشبكة، لا بد من نفوذ القدر فاجنح للسلم‏.‏
لله ملك السموات والأرض، و استقرض منك حبة فبخلت بها، وخلق سبعة أبحر وأحب منك دمعة فقحطت عينك بها‏.‏
إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور، والقلب كعبة، والمعبود لا يرضى بمزاحمة الأصنام‏.‏
لذات الدنيا كسوداء وقد غلبت عليك، والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن، غير أن زوبعة الهوى إذا ثارت سفت ‏ في عين البصيرة فخفيت الجادة‏.‏
سبحان الله، تزينت الجنة للخُطَّاب فجَدُّوا في تحصيل المهر، وتعرف رب العزة إلى المحبين بأسمائه وصفاته فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف‏.‏
 
 
 
لا كان من لسواك منه قلبه * * * و لك اللسان مع الوداد الكاذب
 
 
المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرب، والمحبة نشيد لا يطرب عليه إلا محب مغرم‏.‏
الحب غدير في صحراء ليست عليه جادة، فلهذا قل وارده‏.‏
المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبه والأنس بذكره كهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه‏.‏
 
 
 
وأخرج من بين البيوت لعلني * * * أحدث عنك القلب بالسر خالياً
 
 
ليس للعابد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد‏.‏
يا منفقا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه، ليس في أعدائك أضر عليك منك‏.‏
 
 
 
ما تبلغ الأعداء من جاهل * * * ما يبلغ الجاهل من نفسه
 
 
الهمة العلية من استعد صاحبها للقاء الحبيب، وقدم التقادم بين يدي الملتقى، فاستبشر عند القدوم ‏ «‏وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين» ‏سورة البقرة‏:‏ الآية 223.
تالله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الولي، فلا تظن أن الشيطان غلب ولكن الحافظ أعرض‏.‏
احذر نفسك، فما أصابك بلاء قط إلا منها، ولا تهادنها، فوالله ما أكرمها من لم يهنها، ولا أعزها من لم يذلها، ولا جبرها من لم يكسرها، ولا أراحها من لم يتعبها، ولا أمنها من لم يخوفها، ولا فرحها من لم يحزنها‏.‏
سبحان الله، ظاهرك متجمل بلباس التقوى، وباطنك باطية لخمر الهوى، فكلما طيبت الثوب فاحت رائحة المسكر من تحته، فتباعد منك الصادقون وانحاز إليك الفاسقون‏.‏
يدخل عليك لص الهوى وأنت في زاوية التعبد فلا يرى منك طرداً له، فلا يزال بك حتى يخرجك من المسجد‏.‏
اصدق في الطلب وقد جاءتك المعونة‏.‏
قال رجل لمعروف‏:‏ علمني المحبة، فقال‏:‏ المحبة لا تجيء بالتعليم‏.‏
 
 
 
هو الشوق مدلولاً على مقتل الفنا ‏ * * * إذا لم يعد صبا بلقيا حبيبه
 
‏( « ‏المعنى غير واضح، ولعلها‏:‏ الفتى‏.‏‏‏» )
 
ليس العجب من قوله يحبونه، إنما العجب من قوله يحبهم‏.‏
ليس العجب من فقير مسكين يحب محسناً إليه، إنما العجب من محسن يحب فقيراً مسكيناً‏.‏
 
 
 
=== تجليات الرب ===
القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل‏:‏
 
 
 
يراد من القلب نسيانكم * * * وتأبى الطباع على الناقل
 
 
فتبقى المحبة له طبعاً لا تكلفاً، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعث قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره‏.‏ وكلما قوي الرجاء جد في العمل كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصر في البذر‏.‏
وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة ‏‏ رعونتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر‏.‏
وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع، انبعث منها قوة الامتثال والتنفيذ للطلب والاجتناب للنهي‏.‏
وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعث من العبد قوة الحياء فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى‏.‏
 
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم، انبعث من البعد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به وبكل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه‏.‏ والتوكل معنى يلتئم من علم البعد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به ورضاه بما يفعله به ويختاره له‏.‏
 
وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته والانكسار لعزته والخضوع لكبريائه وخشوع القلب والجوارح له فتعلو السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدته‏.‏
 
وجماع ذلك‏:‏ أنه سبحانه يتعرف إلى البعد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، و اللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه‏.‏
 
ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له‏.‏ وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاؤه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه‏.‏ ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحمله في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه‏.‏
 
وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثبت ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلى بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع‏.‏
 
 
 
=== فضائل أبي بكر ===
لما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل العقبة أمر الصحابة بالهجرة إلى المدينة، فعلمت قريش أن أصحابه قد كثروا وأنهم سيمنعونه، فأعملت الآراء في استخراج الحيل، فمنهم من رأى الحبس، ومنهم من رأى النفي‏.‏ ثم اجتمع رأيهم على القتل، فجاء البريد بالخبر من السماء وأمره أن يفارق المضجع، فبات على مكانه ونهض الصِّدِّيق لرفقة السفر‏.‏ فلما فارقا بيوت مكة اشتد الحذر بالصديق فجعل يذكر الرصد فيسير أمامه، وتارة يذكر الطلب فيتأخر وراءه ‏ ، وتارة عن يمينه وتارة عن شماله إلى أن انتهيا إلى الغار، فبدأ الصديق بدخوله ليكون وقاية له إن كان ثَمَّ مؤذ‏.‏ وأنبت الله شجرة لم تكن قبل، فأظلت المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت عنكبوت فحازت وجه الغار فحاكت ثوب نسجها على منوال الستر، فأحكمت الشقة حتى عمي على القائف ‏‏ المطلب، وأرسل ‏ «‏ الله ‏» ‏ حمامتين فاتخذتا هناك عشا جعل على أبصار الطالبين غشاوة، وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود‏.‏
 
فلما وقف القوم على رؤوسهم وصار كلامهم بسمع الرسول والصديق، قال الصديق وقد اشتد به القلق‏:‏ يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا تحت قدميه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏ « ‏يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما‏؟» ‏ لما رأى الرسول حزنه قد اشتد، لكن لا على نفسه، قوى قلبه بشارة ‏ « ‏لا تحزن إن الله معنا» ‏ ‏‏سورة التوبة‏:‏ الآية 40‏‏،فظهر سر هذا الاقتران في المعية لفظاً، كما ظهر حكما ومعنى، إذ يقال رسول الله وصاحب رسول الله، فلما مات صلى الله عليه وسلم قيل خليفة رسول الله، ثم انقطعت إضافة الخلافة بموته فقيل أمير المؤمنين‏.‏
 
فأقاما في الغار ثلاثاً ثم خرجا منه ولسان القدر يقول‏:‏ لتدخلنها دخولاً لم يدخله أحد قبلك ولا ينبغي لأحد من بعدك‏.‏ فلما استقلا على البيداء لحقهما سراقة بن مالك، فلما شارف الظفر أرسل عليه الرسول سهما من سهام الدعاء، فساخت قوائم فرسه في الأرض إلى بطنها، فلما علما أنه لا سبيل له عليهما أخذ يعرض المال على من قد رد مفاتيح الكنوز ويقدم الزاد إلى شبعان، ‏ «‏أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني‏» ‏ ‏ كانت تحفة ثاني اثنين مدخرة للصديق، دون الجميع، فهو الثاني في الإسلام وفي بذل النفس وفي الزهد وفي الصحبة وفي الخلافة وفي العمر، وفي سبب الموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات عن أثر السم ‏‏، وأبو بكر سم فمات‏.‏
 
أسلم على يديه من العشرة‏:‏ عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص‏.‏ وكان عنده يوم أسلم أربعون ألف درهم فأنفقهما أحوج ما كان الإسلام إليها، فلهذا جلبت نفقته عليه ‏ «‏ما نفعني مال، ما نفعني مال أبي بكر‏» ‏‏.‏ فهو خير من مؤمن آل فرعون؛ لأن ذلك كان يكتم إيمانه والصديق أعلن به‏.‏ وخير من مؤمن آل ياسين؛ لأن ذلك جاهد ساعة والصديق جاهد سنين‏.‏ عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار ويصيح‏:‏ ‏ «‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً» ‏سورة البقرة، الآية 245‏‏، فألقى له حب المال على روض الرضا واستلقى على فراش الفقر، فنقل الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة ثم علا على أفنان شجرة الصدق يغرد بفنون المدح، ثم قال في محاريب الإسلام يتلو‏:‏ ‏ «‏وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى» ‏الليل‏:‏ 17-18.
 
نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله على الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار‏:‏ ‏ «‏ثاني اثنين إذ هما في الغار» ‏التوبة‏:‏ 40‏‏‏؟‏ دعي إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحجة فما زل ولا كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا‏.‏
 
تالله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار ‏ «‏ثاني اثنين إذ هما في الغار» ‏‏.‏ من كان قرين النبي في شبابه‏؟‏ من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه‏؟‏ من الذي أفتى بحضرته سريعاً في جوابه‏؟‏ من أول من صلى معه‏؟‏ من آخر من صلى به‏؟‏ من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه‏؟‏ فاعرفوا حق الجار‏.‏
 
نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ‏.‏ فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ‏.‏ حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار‏؟‏‏.‏
كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس‏‏‏.‏ فضائله جلية وهي خلية عن اللبس‏.‏
 
يا عجبا‏!‏ من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحادث‏.‏ فقال الرسول‏:‏ ما ظنك باثنين والله الثالث‏.‏ فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث، فزال القلق وطاب عيش الماكث، فقام مؤذن النصر ينادي على رءوس منائر الأمصار ‏ «‏ثاني اثنين إذ هما في الغار» ‏‏.‏
حبه والله رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية‏.‏ فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية‏.‏ لولا صحة إمامته ما قيل ابن الحنفية‏.‏ مهلا مهلا، فإن دم الروافض قد فار‏.‏
والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا‏:‏ ‏ «‏رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا‏» ‏‏.‏ تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر‏‏‏.‏ تالله لقد وجب حب الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السنا ‏ عينا، فمن كان رافضيًّا فلا يعد إلينا وليقل لي أعذار‏.‏
 
 
=== حكم متفرقة ===
اجتنب من يعادي أهل الكتاب والسنة لئلا يعديك خسرانه‏.‏
احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخلق‏:‏ صادّ عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله، ومفتون بدنياه ورئاسته‏.‏
من خلق فيه قوة واستعداد لشيء كانت لذته في استعمال تلك القوة فيه، فلذة من خلقت فيه قوة واستعداد للجماع استعمال قوته فيه، ولذة من خلقت فيه قوة الغضب والتوثب استعمال قوته الغضبية في متعلقها، ومن خلقت فيه قوة الأكل والشرب فلذته باستعمال قوته فيهما‏.‏ ومن خلقت فيه قوة العلم والمعرفة فلذته باستعمال قوته وصرفها إلى العلم‏.‏ ومن خلقت فيه قوة الحب لله والإنابة إليه والعكوف بالقلب عليه والشوق إليه والأنس به فلذته ونعيمه استعمال هذه القوة في ذلك ‏.‏ وسائر اللذات دون هذه اللذة مضمحلة فانية وأحمد عاقبتها أن يكون لا له ولا عليه‏.‏
 
 
=== عبر وعظات ===
يا أيها الأعزل احذر فراسة المتقي، فإنه يرى عورة عملك من وراء ستر ‏ «‏اتقوا فراسة المؤمن‏» ‏حديث شريف رواه الترمذي في سننه، والفراسة - بكسر الفاء- قال في النهاية‏:‏ يقال بمعنيين‏:‏ أحدهما، ما دل ظاهر هذا الحديث عليه وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس‏.‏ والثاني نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس‏.‏ وللناس فيه تصانيف قديمة وحديثة.
 
سبحان الله، في النفس‏:‏ كِبر إبليس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثمود وجرأة نمرود واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة‏‏ هامان وهوى بلعام‏‏ وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد‏ ، وجهل أبي جهل‏.‏ وفيها من أخلاق البهائم‏:‏ حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسوق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع‏.‏ غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك‏.‏ فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند، ولا تصلح سلعته لعقد‏:‏ ‏ «‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ‏.‏‏.‏‏.‏» ‏سورة التوبة، الآية 111‏‏ فما اشترى إلا سلعة هذبها الإيمان فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون‏.‏
 
سلم المبيع قبل أن يتلف في يدك فلا يقبله المشتري، قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها، فسلمها و لك الأمان من الرد‏.‏
قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها والثمن المبذول فيها والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيماً والثمن خطيراً والمنادي حائلا كانت السلعة نفيسة‏.‏
 
 
 
يا بائعاً نفسه بيع الهوان لو اســـــــ * * * ـترجعت ذا البيع قبل الفوت لم تخب
 
 
 
وبائعاً طيب عيش ما له خطر * * * بطيف عيش من الآمال منتهب
 
 
 
غبنت والله غبنا فاحشا ولدى * * * يوم التغابن تلقى غاية الحرب
 
 
 
وواردا صفو عيش كله كدر * * * أمامك الورد حقا ليس بالكذب
 
 
 
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا * * * لكل داهية تدني من العطب
 
 
 
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض * * * فهل سمعت ببرء جاء من عطب
 
 
 
ومفنيا نفسه في أثر أقبحهم * * * وصفا للطخ جمال فيه مستلب
 
 
 
وواهبا نفسه من مثل ذا سفها * * * لو كنت تعرف قدر النفس لم تهب
 
 
 
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب * * * وضاع وقتك بين اللهو واللعب
 
 
 
وشمس عمرك قد حان الغروب لها * * * والفيء في الأفق الشرقي لم يغب
 
 
 
وفاز بالوصل من قد جد وانقشعت * * * عن أفقه ظلمات الليل والسحب
 
 
 
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت * * * ورسل ربك قد وافتك في الطلب
 
 
 
ما في الديار وقد سارت ركائب من * * * تهواه للصب من شكر ولا أرب
 
 
 
فافرش الخد ذياك التراب وقل * * * ما قاله صاحب الأشواق والحقب
 
 
 
ما ربع مية محفوفاً يطيف به * * * غيلان أشهى له من ربعك الخرب
 
‏ « ‏اسم الرجل الذي كان يعشق مية‏.‏‏‏»
 
 
منازلا كان يهواها ويألفها * * * أيام كان منال الوصل عن كثب
 
 
 
ولا الخدود ولو أدمين من ضرج * * * أشهى إلى ناظري من ربعك الخرب
 
 
 
وكلما جليت تلك الربوع له * * * يهوى إليها هوى الماء في الصبب
 
 
 
أحيي له الشوق تذكار العهود بها * * * فلو دعي القلب للسلوان لم يجب
 
 
 
هذا وكم منزل في الأرض يألفه * * * وما له من سواها الدهر من رغب
 
 
 
ما في الخيام أخو وجد يريحك إن * * * بثثته بعض شأن الحب فاغترب
 
 
 
وأسر في غمرات الليل مهتدياً * * * بنفحة الطيب لا بالعود والحطب
 
 
 
وعاد أخي جبن ومعجزة * * * وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
 
 
 
وخذ لنفسك نوراً تستضيء به * * * يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
 
 
 
إن كان يوجب صبري رحمتي فرضا * * * بسوء حالي وحل الضنا بدني
 
 
 
منحتك الروح لا أبغي لها ثمنا * * * إلا رضاك و وافقري إلى الثمن
 
 
 
أحن بأطراف النهار صبابة * * * وبالليل يدعوني الهوى فأجيب
 
 
 
وإذا لم يكن من العشق بد * * * فمن العجز عشق غير الجميل
 
 
 
فلو أن ما أسعى لعيش معجل * * * كفاني منه بعض ما أنا فيه
 
 
 
ولكنما أسعى لملك مخلد * * * فوا أسفا إن لم أكن بملاقيه
 
 
 
يا من هو من أرباب الخيرة، هل عرفت قيمة نفسك‏؟‏ إنما خلقت الأكوان كلها لك‏.‏
يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الألطاف، كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة، وصورة وأنت المعنى، وصدف وأنت الدر، و مخيض‏‏ وأنت الزبد‏.‏
منشور اختيارنا لك واضح الخط، ولكن استخراجك ضعيف‏.‏
متى رمت طلبي فاطلبني عندك، اطلبني منك تجدني قريباً ولا تطلبني من غيرك فأنا أقرب إليك منه
لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي، إنما أبعدنا إبليس إذ لم يسجد لك، وأنت في صلب أبيك، فواعجبا كيف صالحته وتركتنا‏!‏ لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك‏.‏
 
 
 
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني * * * ألست أرى الأعضاء منك كواسيا
 
 
لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات‏.‏
 
 
 
ولو كنت عذري الصبابة لم تكن * * * بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
 
 
لو صحت محبتك لاستوحشت ممن لا يذكرك بالحبيب‏.‏ واعجبا لمن يدعى المحبة ويحتاج إلى من يذكره بمحبوبة، فلا يذكره إلا بمذكر‏.‏ أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب‏.‏
 
 
 
ذكرتك لا أني نسيتك ساعة * * * وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
 
 
إذا سافر المحبوب للقاء محبوبة ركبت جنوده معه، فكان الحب في مقدمة العسكر، والرجاء يحدو بالمطي والشوق يسوقها والخوف يجمعها على الطريق، فإذا شارف قدوم بلد الوصل خرجت تقادم الحبيب باللقاء‏.‏
 
 
 
فداو سقما بجسم أنت متلفه * * * وأبرد غراما بقلب أنت مضرمه
 
 
 
ولا تكلني على بعد الديار إلى * * * صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه
 
 
 
تلق قلبي فقد أرسلته عجلا * * * إلى لقائك والأشواق تقدمه
 
 
فإذا دخل على الحبيب أفيضت عليه الخلع‏ من كل ناحية ليمتحن أيسكن إليها فتكون حظه، أم يكون التفاته إلى من ألبسه إياها‏.‏
ملئوا مراكب القلوب متاعا لا تنفق إلا على الملك، فلما هبت رياح السحر أقلعت تلك المراكب، فما طلع الفجر إلا وهي بالميناء‏.‏
قطعوا بادية الهوى بأقدام الجد، فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر فأعقبهم الراحة في طريق التلقي، فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الأبد‏.‏
 
فرغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة، فأقاموا العيون تحرس تارة وترش أخرى‏.‏
سرادق المحبة لا يضرب إلا في قاع نزه فارغ‏.‏
 
 
 
نزه فؤادك من سوانا والقنا * * * فجنابنا حل لكل منزه
 
 
 
الصبر طلسم لكنز وصالنا * * * من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
 
 
اعرف قدر ما ضاع وابك بكاء من يدري مقدار الفائت‏.‏
لو تخيلت قرب الأحباب لأقمت المأتم على بعدك‏.‏
لو استنشقت ريح الأسحار لأفاق منك قلبك المخمور‏.‏
من استطال الطريق ضعف مشيه‏:‏
 
 
 
وما أنت بالمشتاق أن قلت بيننا * * * طوال الليالي أو بعيد المفاوز
 
‏ « ‏المفاوز‏:‏ جمع مفازة، وهي الصحراء والأرض القفر التي لا ماء فيها‏.‏‏‏»
 
أما علمت أن الصادق إذا هم ألقى بين عينيه عزمه‏.‏
إذا نزل آب في القلب حل آذار في العين.‏
هان سهر الحراس لما علموا أن أصواتهم بسمع الملك‏.‏
من لاح له حال الآخرة هان عليه فراق الدنيا‏.‏
إذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف‏.‏
يا أقدام الصبر أجملي بقي القليل‏.‏
تذكر حلاوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة‏.‏
قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر‏.‏
أعلى الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب‏.‏
وقدم التقادم بين يدي الملتقى فاستبشر بالرضا عند القدوم، ‏ «‏ وقدموا لأنفسكم‏» ‏‏.‏
الجنة ترضى منك بأداء الفرائض، والنار تندفع عنك بترك المعاصي، والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل الروح‏.‏
لله ما أحلى زمانا تسعى فيه أقدام الطاعة على أرض الاشتياق‏.‏
لما سلم القوم النفوس إلى رائض الشرع علمها الوفاق في خلاف الطبع فاستقامت مع الطاعة كيف دارت دارت معها‏.‏
 
 
 
وإني إذا اصطكت رقاب مطيهم * * * وثور حاد بالرفاق عجول
 
 
 
أخالف بين الراحتين على الحشا * * * وأنظر أني ملثم فأميل
 
 
=== فصل ===
علمت كلبك فهو يترك شهوته في تناول ما صاده احتراما لنعمتك وخوفا من سطوتك‏.‏ وكم علمك معلم الشرع وأنت لا تقبل‏.‏
حرم صيد الجاهل والممسك لنفسه، فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوى نفسه‏.‏
جمع فيك عقل الملك وشهوة البهيمة وهوى الشيطان وأنت للغالب عليك من الثلاثة‏:‏ إن غلبت شهوتك وهواك زدت على مرتبة ملك، وإن غلبك هواك وشهوتك نقصت عن مرتبة كلب‏.‏
لما صاد الكلب لربه ‏‏ أبيح صيده، ولما أمسك على نفسه حرم ما صاده‏.‏
مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع‏.‏ فهو سبحانه يصرف عباده بين مقتضى هذين الاسمين، فحظ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء، والافتقار عند المنع، فهو سبحانه يعطيه ليشكره، ويمنعه ليفتقر إليه، فلا يزال شكورا فقيرا‏.‏
 
 
=== ‏وكان الكافر على ربه ظهيرا‏ ===
قوله تعالى‏:‏ ‏ «وكان الكافر على ربه ظهيراً» ‏سورة الفرقان، الآية 55‏‏، هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه، وأن المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه‏.‏وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه، فهو مع الله على عدوه الداخل فيه على حرب أعدائه، يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه‏.‏ كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه، والبعيدون منه فارغون من ذلك، غير مهتمين به، والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه على ربه‏.‏ وعبارات السلف على هذا تدور‏:‏
 
ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال‏:‏ عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك‏.‏ وقال ليث عن مجاهد قال‏:‏ يظاهر الشيطان على معصية الله يعينه عليها‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ ‏ «‏ظهيرا‏» ‏ أي مواليا‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به، فيكون مع عدوه معينا له على مساخط ربه‏.‏
 
فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه، ولهذا صدر الآية بقوله‏:‏‏ «ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم» سورة الفرقان، الآية 55‏، وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة، فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته و مساخطه، بخلاف وليه سبحانه، فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه‏.‏ وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله، وبالله التوفيق‏.‏
 
 
=== والذين إذا ذكروا بآيات ربهم ===
قوله تعالى‏:‏ ‏ «والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا‏ » سورة الفرقان الآية 73‏‏ قال مقاتل‏:‏ إذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه، وعميانا لم يبصروه، ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لم يكونوا عليها صما وعميانا، بل كانوا خائفين خاشعين‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يخرون عليها سمعا وبصَرا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ وإذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوه، فذلك الخرور‏.‏ وسمعت العرب تقول‏:‏ قعد يشتمني ؛كقولك‏:‏ قام يشتمني، وأقبل يشتمني، والمعنى على ما ذكر‏:‏ لم يصيروا عندها صما وعميانا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ إذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما أمروا به‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أي لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها‏.‏
قلت‏:‏ ههنا أمران‏:‏ ذكر الخرور وتسليط النفي عليه، وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود‏؟‏ وهل المعنى‏:‏ لم يكن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها خرور بالقلب خضوعا أو بالبدن سجودا، أو ليس هناك خرور وعبر به عن القعود‏.‏
 
 
 
 
=== أصول المعاصي ===
أصول المعاصي كلها، كبارها وصغارها، ثلاثة‏:‏ تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك والظلم والفواحش، فغاية التعلق بغير الله شرك وأن يدعى معه إله آخر‏.‏ وغاية طاعة القوة الغضبية القتل‏.‏ وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا‏.‏ ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين الثلاثة في قوله‏:‏‏ «والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون» سورة الفرقان الآية 68.وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض، فالشرك يدعو إلى الظلم والفواحش‏.‏ كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفها عن صاحبه، قال تعالى‏:‏ ‏ «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين‏ » يوسف‏:‏24.فالسوء‏:‏ العشق، والفحشاء‏:‏ الزنا‏.‏ وكذلك الظلم يدعو إلى الشرك والفاحشة، فإن الشرك أظلم الظلم، كما أن أعدل العدل التوحيد‏.‏ فالعدل قرين التوحيد، والظلم قرين الشرك، ولهذا يجمع سبحانه بينهما، أما الأول، ففي قوله‏:‏‏ « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط» ‏ ‏‏آل عمران‏:‏18.وأما الثاني فكقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ إن الشرك لظلم عظيم‏» ‏‏.‏ والفاحشة تدعو إلى الشرك والظلم، ولا سيما إذا قويت إرادتها ولم تحصل إلا بنوع من الظلم والاستعانة بالسحر والشيطان‏.‏
 
وقد جمع سبحانه بين الزنا والشرك في قوله‏:‏ ‏ « الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين» ‏سورة النور، الآية 3.
فهذه الثلاثة يجر بعضها إلى بعض ويأمر بعضها ببعض‏.‏ ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيداً وأعظم شركاً كان أكثر فاحشة وأعظم تعلقاً بالصور وعشقاً لها‏.‏
 
ونظير هذا قوله تعالى ‏ «فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏.‏ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون» ‏الشورى‏:‏ 36،37.فأخبر أن ما عنده خير لمن آمن به وتوكل عليه، وهذا هو التوحيد، ثم قال‏:‏ «والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش‏ » ‏‏‏الشورى‏:‏ 37‏‏،فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية‏.‏ ثم قال‏:‏ « ‏وإذا ما غضبوا هم يغفرون» ‏‏‏الشورى‏:‏ 37.
فهذا مخالفة القوة الغضبية، فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التي هي جماع الخير كله‏.‏
 
 
 
=== أنواع هجر القرآن والحرج منه ===
هجر القرآن أنواع:
« أحدها‏:‏» هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه‏.‏
«والثاني‏:‏» هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به‏.
«‏ والثالث‏:‏» هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم‏.‏
« والرابع‏:» ‏ هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه‏.‏ والخامس‏:‏ هجر الاستشفاء و التداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله‏:‏‏ « وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا » ‏‏سورة الفرقان، الآية 30.وإن كان بعض الهجر أهون من بعض‏.‏
 
وكذلك الحرج الذي في الصدور منه، فإنه تارة يكون حرجا من إنزاله وكونه حقا من عند الله‏.‏ وتارة يكون من جهة التكلم به أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته ألهم غيره إن تكلم به، وتارة يكون من جهة كفايته وعدمها وأنه لا يكفي العباد، بل هم محتاجون معه إلى المعقولات و الأقيسة أو الآراء أو السياسات‏.‏ وتارة يكون من جهة دلالته وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب، أو أريد به تأويلها وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة‏.‏ وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة، فهي ثابتة في نفس الأمر أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة‏.‏
 
فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن، وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم‏.‏ ولا تجد مبتدعا في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته كما أنك لا تجد ظالما فاجرا إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته‏.‏ فتدبر هذا المعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء‏.‏
 
 
=== كمال النفس ===
كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين‏:
‏ «أحدهما‏:» ‏ أن يصير هيئة راسخة وصفة لازمة لها‏.
‏ «الثاني‏:‏» أن يكون صفة كمال في نفسه‏.‏ فإذا لم يكن كذلك لم يكن كمالا، فلا يليق بمن يسعى في كمال نفسه المنافسة عليه ولا الأسف على فوته، وذلك ليس إلا معرفة بارئها وفاطرها و معبودها وإلهها الحق الذي لا صلاح لها ولا نعيم ولا لذة إلا بمعرفته وإرادة وجهه وسلوك الطريق الموصلة إليه وإلى رضاه وكرامته‏.‏ وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة لازمة‏.‏ وما عدا ذلك من العلوم والإرادات والأعمال فهي بين ما لا ينفعها ولا يكملها وما يعود بضررها ونقصها وألمها، ولا سيما إذا صار هيئة راسخة لها، فإنها تعذب وتتألم به بحسب لزومه لها‏.‏
وأما الفضائل المنفصلة عنها كالملابس والمراكب والمساكن والجاه والمال فتلك في الحقيقة عوار ‏ أعيرتها مدة، ثم يرجع فيها المعير، فتتألم وتتعذب برجوعه فيها بحسب تعلقها بها، ولا سيما إذا كانت هي غاية كمالها، فإذا سلبتها أحضرت أعظم النقص والألم والحسرة‏.‏
 
فليتدبر من يريد سعادة نفسه ولذتها هذه النكتة، فأكثر هذا الخلق إنما يسعون في حرمان نفوسهم وألمها وحسرتها ونقصها من حيث يظنون أنهم يريدون سعادتها ونعيمها‏.‏ فلذتها بحسب ما حصل لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك‏.‏ وألمها وحسرتها بحسب ما فاتها من ذلك‏.‏ ومتى عدم ذلك وخلا منه لم يبق فيه إلا القوى البدنية النفسانية التي بها يأكل ويشرب وينكح ويغضب وينال سائر لذاته ومرافق حياته‏.‏ ولا يلحقه من جهتها شرف ولا فضيلة، بل خساسة ومنقصة؛ إذ كان إنما يناسب بتلك القوى البهائم ويتصل بجنسها ويدخل في جملتها ويصير كأحدها‏.‏ وربما زادت في تناولها عليه واختصت دونه بسلامة عاقبتها والأمن من جلب الضرر عليها‏.‏ فكمالٌ تشاركك فيه البهائم وتزيد عليك وتختص عنك فيه بسلامة العاقبة حقيق أن تهجره إلى الكمال الحقيقي الذي لا كمال سواه، وبالله التوفيق‏.‏
 
=== ثواب الانشغال بالله ===
إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها و غمومها و أنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره‏.‏ فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته‏.‏ قال تعالى‏:‏ « ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين» ‏.‏
قال سفيان بن عيينة‏‏‏:‏ لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن‏.‏ فقال له قائل‏:‏ فأين في القرآن‏ «‏ أعط أخاك تمرة فإن لم يقبل فأعطه جمرة‏؟‏‏ » ‏ فقال في قوله‏:‏‏ « ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا‏ ... » الآية‏‏.‏
 
 
=== أقسام العلوم ===
العلم‏:‏ نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس‏.‏
والعمل‏:‏ نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج‏.‏ فإن كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح‏.‏ وكثيرا ما يثبت ويتراءى في النفس صور ليس لها وجود حقيقي، فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علما، وإنما هي مقدرة لا حقيقة لها‏.‏ وأكثر علوم الناس من هذا الباب‏.‏ وما كان منها مطابقا للحقيقية في الخارج فهو نوعان‏:‏ نوع تكمل النفس بإداركه والعلم به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع‏.‏ وهذا حال أكثر العلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئاً، كالعلم بالفلك ودقائقه ودرجاته، وعدد الكواكب ومقاديرها‏.‏ والعلم بعدد الجبال وألوانها ومساحاتها ونحو ذلك‏.‏
 
فشرف العلم بحسب شرف معلومه وشدة الحاجة إليه‏.‏ وليس ذلك إلا العلم بالله وتوابع ذلك‏.‏
وأما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة ومن فساد الإرادة تارة‏.‏ ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك، أو يعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعا، فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل، وإن لم يعلم إنه مشروع‏.‏
وأما فساده من جهة القصد فألا يقصد به وجه الله والدار الآخرة، بل يقصد به الدنيا والخلق‏.‏
وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل إلى السلامة منهما إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة‏.‏ فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمه وعلمه‏.‏
 
والإيمان واليقين يورثان صحة المعرفة وصحة الإرادة، وهما يورثان الإيمان ويمدانه‏.‏ ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة، ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة ، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق ، فيكون علمه مقتبسا من مشكاة النبوة ، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق ، فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحي ، وإرادته لله والدار الآخرة ، فهذا أصح الناس علما وعملا وهو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله ومن خلفاء رسوله في أمته‏.‏
 
 
 
=== ظاهر الإيمان وباطنه ===
الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته‏.‏ فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك‏.‏ فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته‏.‏
فالإيمان قلب الإسلام ولبه‏.‏ واليقين قلب الإيمان ولبه‏.‏ وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول‏.‏
 
 
=== التوكل على الله ===
التوكل على الله نوعان‏:‏
«أحدهما‏:» ‏ توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية‏.‏ «والثاني‏:‏» التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه‏.‏ وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله‏.‏ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية‏.‏ ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه‏.‏
فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل، فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم‏.‏
 
والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء، بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا إلا التوكل، كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن ألا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير ألبتة‏.‏ وتارة يكون توكل اختيار، وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورا به ذم على تركه‏.‏ وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضا، فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن، والواجب القيام بهما والجمع بينهما‏.‏ وإن كان السبب محرما حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه، فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل من أقوى الأسباب على الإطلاق‏.‏ وإن كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه‏؟‏ فإن أضعفه وفرق عليك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها، ولا سيما إذا فعلته عبودية، فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة‏.‏ والذي يحقق التوكل القيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيا، كما أن من عطلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا‏.‏
 
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله‏:‏ توكلت على الله، مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء‏.‏ فقول العبد‏:‏ توكلت على الله، مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله‏:‏ تبت إلى الله، وهو مصر على معصيته مرتكب لها‏.‏
 
 
=== شكوى الجاهل ===
الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم‏.‏ ورأى بعض السلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال‏:‏ يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل‏:‏
 
 
 
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما * * * تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
 
 
والعارف إنما يشكو إلى الله، وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس ،فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، ناظر إلى قول الله تعالى‏:‏ ‏ «‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» ‏سورة الشورى، الآية 30‏‏، وقوله ‏ «‏وما أصابكم من سيئة فمن نفسك» ‏النساء‏:‏ 79‏‏، وقوله‏:‏ ‏ «‏أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم» ‏آل عمران‏:‏ 165‏ فالمراتب ثلاثة ‏:‏أخسها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن يشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه‏.‏
 
 
 
 
=== ‏‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول ===
قال الله تعالى‏:‏ ‏ «‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون» ‏الأنفال‏:‏ 24‏‏ فتضمنت هذه الآية أمورا‏:‏
« أحدها ‏:‏» ن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات ‏.‏فالحياة الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا ‏.‏فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا،وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان‏.‏ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول،فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة ،وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول‏.‏
 
قال مجاهد ‏:‏‏ «‏لما يحييكم» ‏ يعني للحق‏.‏ وقال قتادة‏:‏هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة‏.‏ وقال السدي‏:‏ هو الإسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر ‏.‏ وقال ابن إسحق وعروة بن الزبير‏:‏ واللفظ له ‏ «‏لما يحييكم» ‏يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل،وقواكم بعد الضعف ، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم‏.‏ وكل هذه عبارات عن حقيقة واحدة وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا‏.‏ قال الواحدي والأكثرون على أن معنى قوله ‏ «‏لما يحييكم» ‏هو الجهاد ،وهو قول ابن إسحق واختيار أكثر أهل المعاني ‏.‏قال الفراء‏:‏ إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد ،فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم‏.‏
 
قلت‏:‏ الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ‏‏ وفي الآخرة ‏:‏
أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد ‏.‏وأما في البرزخ فقد قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون» ‏آل عمران‏:‏ 169.
وأما في الآخرة فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتهم ونعيمها أعظم من حظ غيرهم‏.‏
ولهذا قال ابن قتيبة ‏:‏‏ «‏لما يحييكم‏» ‏ يعني الشهادة‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ ‏ «‏لما يحييكم‏» ‏ يعني الجنة‏.‏ فإنها الحياة الدائمة الطيبة ‏.‏حكاه أبو علي الجرجاني‏.‏
 
والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة‏.‏ وكمال الحياة في الجنة، والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة‏.‏ والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة‏:‏ حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره‏.‏ ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك‏.‏ ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك‏.‏وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده‏.‏ فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال‏.‏ وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل‏.‏ فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم‏.‏ فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب‏.‏ فإذا بطلت حياته بطل تمييزه‏.‏ وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار‏.‏
كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك، الذي هو رسول الله، من روحه ،فيصير حيا بذلك النفخ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات‏.‏
 
وكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقي إليه، قال تعالى ‏ «‏ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده» ‏النحل‏:‏ 2‏‏، وقال‏:‏ ‏ «‏يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده» ‏غافر‏:‏ 15‏‏، وقال‏:‏ ‏ «‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا» ‏الشورى‏:‏ 52‏‏ فأخبر أن وحيه روح ونور ،فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان‏.‏
ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى‏.‏
 
وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» ‏الأنعام‏:‏ 122 ‏‏، فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة‏.‏ قال ابن عباس وجميع المفسرين‏:‏ كان كافراً ضالاًّ فهديناه‏.‏
 
وقوله‏:‏ ‏ «‏وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس» ‏الأنعام‏:‏ 122 ‏‏ يتضمن أموراً‏:‏
«أحدها‏:» ‏ أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة، فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها‏.‏
«ثانيها‏:‏ » أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور‏.‏
«ثالثها‏:‏ » أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم‏.‏
 
قوله‏:‏ ‏ «‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 24 من سورة الأنفال‏‏ المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته، وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين‏.‏
 
وفي الآية قول آخر‏:‏ أن المعنى‏:‏ أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية فهو بينه وبين قلبه، ذكره الواحدي عن قتادة، وكان هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب، فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه‏؟‏
 
وعلى القول الأول فوجه المناسبة أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته؛ فيكون كقوله‏:‏ ‏ «‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة» ‏‏‏الآية‏:‏ 110 من سورة الأنعام‏‏، وقوله‏:‏ ‏ «‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم» ‏ ‏‏الآية‏:‏ 5 من سورة الصف‏‏، وقوله‏:‏ ‏ « وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» ‏‏‏الآية‏:‏ 101 من سورة الأعراف‏‏، ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وإن استجاب بالجوارح‏.‏
 
وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة، وبين القدر والإيمان به، فهي كقوله‏:‏ ‏ «‏لمن شاء منكم أن يستقيم‏.‏ وما تشاءون إلا أن الله رب العالمين» ‏‏الآيتان‏:‏ 28، 29 من سورة التكوير‏‏، وقوله‏:‏ ‏ «‏فمن شاء ذكره‏.‏ وما يذكرون إلا أن يشاء الله» ‏‏الآيتان‏:‏ 55، 56 من سورة المدثر‏، والله أعلم‏.‏
 
 
=== ‏‏وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ===
قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون» ‏‏‏الآية‏:‏ 216 من سورة البقرة‏‏، وقوله عز وجل‏:‏ ‏ «‏وإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً» ‏‏‏الآية‏:‏ 19 من سورة النساء‏‏، فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية، فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده، ويحب الموادعة و المتاركة، وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده، وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها شر كثير لا يعرفه، فالإنسان كما وصفه خالقه‏:‏ ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه وميله وحبه، ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه‏.‏
 
فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه‏.‏ وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له، فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب‏.‏
 
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فانظر إلى غارس جنة من الجنات، خبير بالفلاحة، غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها فأقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع أغصانها؛ لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة، حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتاً ويسقيها وقتاً ولا يترك الماء عليها دائماً، وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيراً منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد‏.‏ ويلقي عنها كثيراً من زينتها، وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها‏.‏
 
وكذلك الأب الشفيق على ولده بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده‏‏ وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد‏.‏ وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، كل ذلك رحمة به وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حماية له ومصلحة لا بخلاً عليه، فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من ألا ينزله بهم، نظراً منه لهم وإحساناً إليهم ولطفاً بهم‏.‏ ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علماً وإرادة وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته، فلم يتهموه في شيء من أحكامه وخفي ذلك على الجهال به، وبأسمائه وصفاته، فتنازعوا تدبيره وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصلوا، والله الموفق‏.‏
 
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضياً عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً‏.‏
 
وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك، وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره‏.‏ فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى، فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك ألبتة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور‏:‏ ‏ « ‏اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك‏.‏ أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي‏.‏ ما قالها أحد قط إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً » قالوا‏:‏ « أفلا نتعلمهن يا رسول الله‏؟‏» قال‏:‏ «بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن‏» ‏‏.‏
 
والمقصود‏:‏ قوله ‏ «عدل في قضاؤك‏» وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم‏.‏ وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏ « ‏والذي نفسي بيده يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن‏» ‏‏.‏
قال العلامة ابن القيم‏:‏ فسألت شيخنا‏:‏ هل يدخل في ذلك قضاء الذنب‏؟‏ فقال‏:‏ نعم؛ بشرطه، فأجمل في لفظه ‏ « ‏بشرطه‏ » ‏ ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك‏.‏
 
 
 
=== الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا ===
لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين‏:‏ نظر في الدنيا وسرعة زوالها، وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص و النغص و الأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم في حال الظفر بها، وغم الحزن بعد فواتها فهذا أحد النظرين‏.‏
 
«النظر الثاني‏:‏» النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا‏.‏ فهي كما قال الله سبحانه‏:‏ ‏ «‏والآخرة خير وأبقى» ‏‏‏الآية‏:‏ 17 من سورة الأعلى‏‏ فهي خيرات كاملة دائمة‏.‏ وهذه خيالات ناقصة متقطعة مضمحلة‏.‏ فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحد مطبوع على أن يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة، فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها‏:‏ إما أن يصدق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما ألا يصدق، فإن لم يصدق ذلك كان عادماً للإيمان رأساً، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيئ الاختيار لنفسه‏.‏
 
وهذا تقسيم حاضر لا ينفك العبد من أحد القسمين منه، فإيثار الدنيا على الآخرة إما فساد في الإيمان وإما من فساد في العقل‏.‏ وما أكثر ما يكون منهما؛ ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها، وهجروها ولو يميلوا إليها، وعدوها سجناً لا جنة؛ فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنورها فردوها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها‏.‏ وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار سرور‏.‏ وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل‏.‏
 
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏ «‏ ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب قال ‏ في ظل شجرة ثم راح وتركها‏» ‏‏‏رواه البخاري ومسلم‏‏ وقال‏:‏ ‏ «‏ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما رجع‏» ‏‏.‏
 
وقال خالقهما سبحانه‏:‏ ‏ «‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون‏.‏ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» ‏‏الآيتان 24، 25 من سورة يونس‏‏ فأخبر عن خسة الدنيا وزهَّد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها‏.‏
 
وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا» ‏‏الآيتان 45،46 من سورة الكهف.
 
وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» ‏‏‏الآية 20 من سورة الحديد.
 
وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب‏.‏ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد» ‏‏الآيتان 14،15 من سورة آل عمران.
وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع» ‏‏‏الآية 26 من سورة الرعد.
 
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال‏:‏ ‏ «‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون» ‏‏الآيتان 7،8 من سورة الشعراء.
 
وعير سبحانه من رضي بالحياة الدنيا من المؤمنين فقال‏:‏ ‏ «‏ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل» ‏‏‏الآية 38 من سورة التوبة.
 
وعلى قدر رغبة في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة‏.‏
ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى ‏ «‏ أفرأيت إن متعناهم سنين‏.‏ ثم جاءهم ما كانوا يوعدون‏.‏ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون» ‏‏ ‏‏الآيتان 205-207 من سورة الشعراء.
 
وقوله‏:‏ ‏ «‏ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم» ‏‏‏الآية 45 من سورة يونس.
وقوله‏:‏ ‏ «‏ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون» ‏‏‏الآية 35 من سورة الأحقاف.
 
وقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ يسألونك عن الساعة أيان مرساها‏.‏ فيم أنت من ذكراها‏.‏ إلى ربك منتهاها‏.‏ إنما أنت منذر من يخشاها‏.‏ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها» ‏الآيات 42-46 من سورة النازعات.
 
وقوله‏:‏ ‏ «‏ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» ‏‏‏الآية 35 من سورة الروم.
وقوله‏:‏ ‏ «‏ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين‏.‏ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادِّين‏.‏ قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون» ‏‏الآيتان 112-114 من سورة المؤمنون.
 
وقوله‏:‏ ‏ «‏ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً‏.‏ يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً‏.‏ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً» ‏‏الآيتان 103 ، 104 من سورة طه.
والله المستعان وعليه التكلان‏.‏
 
 
 
=== أساس الخير الإيمان بما شاءه تعالى ===
أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها‏.‏ وتتضرع إليه ألا يقطعان عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فنبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك‏.‏
 
وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد‏.‏ وكل شر فأصله خذلانه لعبده‏.‏ وأجمعوا أن التوفيق ألا يكلك الله نفسك وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك‏.‏ فإذا كان كل خير فأصله التوفيق وهو بيد العبد فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجئ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطي العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مُرْتَجًا دونه‏.‏
 
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏:‏ إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإن الإجابة معه‏.‏ وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدرهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به، وهو العليم الحكيم‏.‏
وما أتي من أتي إلا من قِبَل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء‏.‏ وملاك ذلك الصبر فإنه من الإيمان بمنزله الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء لجسد‏.‏
 
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله‏.‏
خلقت النار لإذابة القلوب القاسية‏.‏
أبعد القلوب من الله القلب القاسي‏.‏
إذا قسا القلب قحطت العين‏.‏
قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة‏:‏ الأكل والنوم والكلام والمخاطبة‏.‏ كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب‏.‏ فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ‏.‏
 
من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته‏.‏
القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها‏.‏
القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها‏.‏
 
شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وظرف الفوائد‏.‏
إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقي من الدغل،‏‏ رأى العجائب وألهم الحكمة‏.‏
ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى‏.‏ وأما من قتل قلبه فأحيا الهوى، فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه‏.‏
خراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر‏.‏
إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد‏.‏
 
الشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيا‏.‏
من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق‏.‏
لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة‏.‏
إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته فشغل همته بخدمته‏.‏
 
 
=== مرض القلب ===
والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر‏.‏ ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة‏.‏
إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمداً، ومن كل ما سواه بد ولا بد لك منه‏.‏
 
 
=== ترك الاختيار ===
من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه أو في خوف نقصان أو في التخلص من عدو؛ توكلا على الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له، فألقى كنفه بين يديه وسلم الأمر إليه ورضي بما يقضيه له، استراح من الهموم و الغموم والأحزان‏.‏ ومن أبى إلا بتدبيره لنفسه وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب، فلا عيش يصفو، ولا قلب يفرح، ولا عمل يزكو، ولا أمل يقوم، ولا راحة تدوم‏.‏
والله سبحانه سهل لخلقه السبيل إليه، وحجبهم عنه بالتدبير، فمن رضي بتدبير الله له وسكن إلى اختياره وسلم لحكمه، أزال ذلك الحجاب فأفضى القلب إلى ربه واطمأن إليه وسكن‏.‏
 
المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد على الله ولا يدخر مع الله ‏.‏
من شغل بنفسه شغل عن غيره، ومن شغل بربه شغل عن نفسه‏.‏
الإخلاص هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا عدو فيفسده، ولا يعجب به صاحبه فيبطله‏.‏
الرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام‏.‏
الناس في الدنيا معذبون على قدرهم بها‏.‏
 
للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها‏:‏ ثلاثة سافلة وثلاثة عالية‏:‏ فالسافلة‏:‏ دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له‏.‏ فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها‏.‏ والثلاثة العالية‏:‏ علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده‏.‏ والقلوب جوالة في هذه المواطن‏.‏
اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد، فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصداً‏.‏ وطول الأمل ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها‏.‏
لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه أو يداهن غيره‏.‏
إذا أراد الله بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه ممسكا عن ذنب غيره، جوادا بما عنده، زاهداً فيما عند غيره، محتملا لأذى غيره، وإن أراد به شرا عكس ذلك‏.‏
 
الهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء‏:‏ تعرف الصفة من الصفات العليا ؛ تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة المنة ؛ تزداد بملاحظتها شكراً وطاعة، وتذكُّر الذنب ؛ تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة جالت في أودية الوساوس والخطرات‏.‏
 
من عشق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده فصيرته من خدمها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرت إلى كبر قدره فخدمته وذلت له‏.‏
إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام كله فكيف يصل مقصده‏؟‏
 
 
=== قبول فتوى العالم الزاهد في دنياه ===
كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق ‏ في فتواه وحكمه ، وفي خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً‏.‏
 
فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق ولا سيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال‏:‏ لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى‏:‏ ‏ «‏فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات» ‏‏‏ الآية 59 من سورة مريم‏.‏‏ وقال الله تعالى فيهم أيضاً‏:‏ ‏ «‏ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون» ‏‏‏الآية 169 من سورة الأعراف‏.‏‏‏ فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه، فهم مصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون‏:‏ هذا حكمه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه‏.‏
 
وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة‏.‏ وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة ويستعينوا بالصبر والصلاة، ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها، والآخرة وإقبالها ودوامها، وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة، فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات‏.‏ وهذا الآيات فيهم إلى قوله‏:‏ ‏ «‏ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين‏.‏ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» ‏‏الآيتان 175، 176 من سورة الأعراف‏‏ فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف عمله‏.‏
 
وتأمل ما تضمنته هذه الآية من ذمه وذلك من وجوه‏:‏
«أحدها‏:‏ » أنه ضل بعد العلم واختار الكفر على الإيمان عمداً لا جهلاً‏.‏
«ثانيها‏:‏ » أنه فارق الإيمان مفارقة من لا يعود إليه أبداً فإنه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها، ولو بقي معه منها شيء لم ينسلخ منها‏.‏
«ثالثها‏:‏ » أن الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه، ولهذا قال‏:‏ ‏ «‏فأتبعه الشيطان» ‏ ولم يقل‏:‏ يتبعه، فإن في معنى ‏ «‏أتبعه‏» ‏‏:‏ أدركه ولحقه، وهو أبلغ من ‏ «‏تبعه‏» ‏ لفظاً ومعنى‏.‏
«رابعها‏:‏ » أنه غوي بعد الرشد، وألفى الضلال في العلم والقصد‏.‏ وهو أخص بفساد القصد والعمل، كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد، فإذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإن اقترنا فالفرق ما ذكر‏.‏
«خامسها‏:‏ » أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه؛ لأنه لم يرفع به فصار وبالاً عليه، فلو لم يكن عالماً كان خيراً له وأخف لعذابه‏.‏
«سادسها‏:‏ » أنه سبحانه أخبر عن خسة همته وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى‏.‏
«سابعها‏:‏ » أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس، ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض وميل بكليته إلى ما هناك‏.‏ وأصل الإخلاد‏:‏ اللزوم على الدوام كأنه قيل لزم الميل إلى الأرض‏.‏ ومن هذا يقال‏:‏ أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به، قال مالك بن نويرة‏:‏
 
 
 
بأبناء حي من قبائل مالك * * * وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
 
 
وعبر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض؛ لأن الدنيا هي الأرض وما فيها وما يستخرج من الزينة والمتاع‏.‏
«ثامنها‏:‏ » أنه رغب عن هداه واتبع هواه فجعل هواه إماماً له يقتدي به ويتبعه‏.‏
«تاسعها‏:‏ » أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة، وأسقطها نفساً وأبخلها وأشدها كلباً؛ ولهذا سمي كلباً‏.‏
«عاشرها‏:‏ » أنه شبه لهثه على الدنيا وعدم صبره عنها وجزعه لفقدها وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد وهكذا‏.‏ هذا إن ترك فهو لهثان على الدنيا، وإن وعظ وزجر فهو كذلك، فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب‏.‏
 
قال ابن قتيبة‏:‏ كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في الكلال وحال الراحة، وحال الري وحال العطش، فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال‏:‏ إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث‏.‏ وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب وإنما وقع بالكلب اللاهث‏.‏ وذلك أسوأ ما يكون وأشنعه‏.‏
 
 
 
=== احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد الجاهل ===
فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة‏.‏ وأما العابد الجاهل فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه‏.‏ ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره‏:‏ احذروا فتنة العالم الفاجر، وفتنة العابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه، وذاك بغيه يدعو إلى الفجور‏.‏
 
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثل النوع الآخر بقوله‏:‏ ‏ «‏ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين‏.‏ فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين» ‏‏الآيتان‏:‏ 16،17 من سورة الحشر‏‏ وقصته معروفة فإنه بنى أساس أمره على عبادة الله بجهل فأوقعه الشيطان بجهله، وكفره بجهله‏.‏ فهذا إمام كل عابد جاهل يكفر ولا يدري‏.‏ وذاك إمام كل عالم فاجر يختار الدنيا على الآخرة، وقد جعل سبحانه رضا العبد بالدنيا وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته وتدبرها والعمل بها سبب شقائه وهلاكه‏.‏ ولا يجتمع هذان _ أعني‏:‏ الرضا بالدنيا والغفلة عن آيات الرب _ إلا في قلب من لا يؤمن بالمعاد ولا يرجو لقاء رب العباد، وإلا فلو رسخ قدمه في الإيمان بالمعاد لما رضي الدنيا ولا اطمئن إليها، ولا أعرض عن آيات الله‏.‏
 
وأنت إذا تأملت أحوال الناس وجدت هذا الضرب هو الغالب على الناس وهم عمار الدنيا، وأقل الناس عدداً من هو خلاف ذلك، وهو من أشد الناس غربة بينهم، لهم شأن وله شأن، علمه غير علومهم وإرادته غير إرادتهم‏.‏ وطريقه غير طريقهم، فهو في واد وهم في واد، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون‏.‏ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون» ‏‏الآيتان 7،8 من سورة يونس.
 
ثم ذكر وصف ضد هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله‏:‏ ‏ «‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم» ‏‏‏الآية 9 من سورة يونس‏‏ فهؤلاء إيمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة إليها ودوام ذكر آياته‏.‏
فهذه مواريث الإيمان بالمعاد وتلك مواريث عدم الإيمان به والغفلة عنه‏.‏
 
 
=== العلم والإيمان أفضل ما تكسبه النفس ويحصله القلب ===
أفضل ما تكسبه النفوس وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله‏:‏ ‏ «‏ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث» ‏‏‏الآية 56 من سورة الروم‏‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» ‏‏‏الآية 11 من سورة المجادلة‏‏ وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه المؤهلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللذين بهما السعادة والرفعة وفي حقيقتهما، حتى أن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم والإيمان هو الذي به تنال السعادة، وليس كذلك بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجي ولا علم يرفع، بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو أصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم‏.‏
 
فكل طائفة اعتقدت أن العلم ما معها وفرحت به، ‏ «‏فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون» ‏‏‏الآية 53 من سورة المؤمنون‏‏ وأكثر ما عندهم كلام وآراء و خرص، والعلم وراء الكلام، كما قال حماد بن زيد‏:‏ ‏ قلت لأيوب‏‏‏:‏ العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم‏؟‏ فقال‏:‏ الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر‏.‏
ففرق هذا الراسخ بين العلم بمعزل عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول عن الله قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم» ‏‏‏الآية 61 من سورة آل عمران‏‏ وقال ‏:‏ ‏ «‏ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم» ‏‏‏الآية 120 من سورة البقرة‏‏ وقال القرآن‏:‏ ‏ «‏أنزله بعلمه» ‏‏‏الآية 166 من سورة النساء‏‏ أي وفيه علمه‏.‏
ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار و سوانح الخواطر والآراء علماً، ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الأنفاس فضيعوا فيها الزمان، وملئوا بها الصحف مدادا، والقلوب سواداً، حتى صرح كثير منهم أنهم ليس في القرآن والسنة علم وأن أدلتهم لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، صرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم وأذَّن بها بين أظهرهم حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسخلت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرها والثوب عن لابسه‏.‏
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم‏:‏ أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولا يحفظ القرآن فقال له‏:‏ لو حفظت القرآن أولاً كان أولى، فقال‏:‏ وهل في القرآن علم‏؟‏ قال ابن القيم‏:‏ وقال لي بعض أئمة هؤلاء‏:‏ إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد منه العلم؛ لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤنة، فعمدتنا على ما فهموه وقرروه، ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل‏:‏
 
 
 
نزلوا بمكة في قبائل هاشم * * * ونزلت بالبطحاء أبعد منزل
 
 
قال‏:‏ وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء‏:‏ إنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب، ويكفيك دليلاً على أن هذا عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التناقض والاختلاف و مصادمة بعضه للبعض، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» ‏‏‏الآية 82 من سورة النساء‏‏ وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف‏.‏
وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده وكيف تكون الآراء والخيارات و سوانح الأفكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله‏؟‏
سبحانك هذا بهتان عظيم وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ليس بينهم رأي ولا قياس‏.‏ ولقد
 
أحسن القائل‏:‏
 
 
العلم قال الله قــال رسولـه * * * قال الصحابة وليس بالتمويه
 
 
 
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة * * * بين الرسول وبين رأى فقيه
 
 
 
كلا ولا جحد الصفات ونفيها * * * حذراً من التمثيل والتشبيه
 
 
الإيمان المفصل معرفة وعلم وإقرار ومحبة
وأما الإيمان فأكثر الناس أو كلهم يدعونه ‏ «‏ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» ‏‏‏الآية 103 من سورة يوسف‏‏ وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيمان الصديق وحزبه‏.‏
وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع، وأنه وحده هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم‏.‏
وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه‏.‏
وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض وأن محمداً عبده ورسوله، وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئاً، بل ولو سب الله ورسوله وأتى عظمته، وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن‏.‏
 
وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله، وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين‏‏ وأفكار المخرصين ‏‏ الذين يرد بعضهم على بعض، وينتقض بعضهم قول بعض، الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والإمام أحمد‏:‏ مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب‏.‏
وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم و مواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان، بل إيمانهم مبني على مقدمتين‏:
«‏ إحداهما‏:‏ » أن هذا قول أسلافنا وآبائنا ، و «الثانية‏:» ‏ أن ما قالوه فهو الحق‏.‏
وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه وإحسان الظن بكل أحد، و تخلية الناس و غفلاتهم‏.‏
 
وآخرون عندهم الإيمان‏:‏ التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً‏.‏
وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل وكل هؤلاء لم يعرف حقيقة الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم وهم أنواع‏:‏ منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان، ومنهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه و يضاده، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه‏.
 
 
 
=== الإيمان ===
والإيمان وراء ذلك كله، وهو حقيقة مركبة من‏:‏ معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما، والتصديق به عقدا، والإقرار به نطقا، والانقياد له محبة وخضوعا، والعمل به باطنا وظاهرا وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان‏.‏
 
وكماله‏:‏ في الحب في الله والبغض في الله والعطاء لله والمنع لله وأن يكون الله وحده إلهه و معبوده‏.‏
والطريق إليه‏:‏ تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى ما سوى الله ورسوله، وبالله التوفيق‏.‏
ومن اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤونة نفسه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس ، ومن اشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم‏.‏
 
 
=== أصول السعادة ===
إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد‏‏ من تركها لغير الله، أما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة‏:‏ قال ابن سيرين‏:‏ سمعت شريحا يحلف بالله ما ترك عبد لله شيئاً فوجد فقده‏.‏ وقولهم ‏:‏ ‏ « ‏من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه‏ » ‏ حق، والعوض أنواع مختلفة ، وأجلّ ما يعوض به‏:‏ الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى‏.‏
 
أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل‏.‏
العقول المؤيدة بالتوفيق ترى أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق للعقل والحكمة‏.‏ والعقول المضروبة بالخذلان ترى المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة و الشرع‏.‏
أقرب الوسائل إلى الله ملازمة السنة والوقوف معها في الظاهر والباطن ودوام الافتقار إلى الله وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحد إلى الله إلا من هذه الثلاثة وما انقطع عنه أحد إلا بانقطاعه عنها أو عن أحدها‏.‏
الأصول التي انبنى عليها سعادة العبد ثلاثة، ولكل واحد منها ضد، فمن فقد ذلك الأصل حصل على ضده‏:‏ التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية‏.‏ ولهذه الثلاثة ضد واحد وهو خلو القلب من الرغبة في الله وفيما عنده ومن الرهبة منه ومما عنده‏.‏
 
 
 
== أهل الهدى وأهل الضلال ==
قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين» ‏ ‏‏سورة الأنعام ، الآية‏:‏ 55 ‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى‏.‏‏.‏‏.‏ » ‏ ‏سورة النساء ، الآية‏:‏ 115‏ الآية ، والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، و جلى سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار الضياء والظلام‏.‏
 
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية ، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة ‏.‏ فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة ، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة ، فإنهم نشئوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة ، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم ، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام ومن الشرك إلى التوحيد ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن الغي إلى الرشاد ، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر ، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به ، ومقدار ما كانوا فيه ‏.‏ فإن الضد يظهر حسنه الضد ، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها ‏.‏ فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه ، و نفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده ، عالمين بالسبيل على التفصيل ‏.‏
 
وأما من جاء بعد الصحابة ، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب ‏:‏ إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا من كمال عمر رضي الله عنه ، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه فإنه من الجاهلية ، فإنها منسوبة إلى الجهل ، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل ‏.‏
 
فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا إليه وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج و الروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها ‏.‏
 
 
 
== عشرة لا ينتفع بها ==
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها‏:‏ علم لا يعمل به، وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء، ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة، وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدن معطل من طاعته وخدمته، ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أوامره، ووقت معطل عن استدراك فارط أو اغتنام بر وقربة، وفكر يجول فيما لا ينفع، وخدمة من لا تقربك خدمته إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشوراً‏.‏
 
وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة‏:‏ إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء‏‏ الله‏ ، والله المستعان‏.‏
العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض وشفائه من داء الشهوات والشبهات ، ولكن إذا مات القلب لم يشعر بمعصيته‏.‏
 
 
 
== حق العبودية ==
لله سبحانه على عبده أمر أمره به، وقضاء يقضيه عليه، ونعمة ينعم بها عليه فلا ينفك عن هذه الثلاثة‏.‏ والقضاء نوعان‏:‏ إما مصائب وإما معايب، وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها، فأحب الخلق إليه من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها، فهذا أقرب الخلق إليه‏.‏ وأبعدهم منه من جهل عبوديته في هذه المراتب فعطلها علما وعملا‏.‏ فعبوديته في الأمر‏:‏ امتثاله إخلاصا واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وفي النهي‏:‏ اجتنابه خوفا منه وإجلالا ومحبة‏.‏ وعبوديته في قضاء المصائب‏:‏ الصبر عليها ثم الرضا بها وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرضا، وهذا إنما يتأتى منه إذا تمكن حبه من قلبه وعلم حسن اختياره له وبره به ولطفه به وإحسانه إليه بالمصيبة وإن كره المصيبة‏.‏
وعبوديته في قضاء المعايب‏:‏ المبادرة إلى التوبة منها والتنصل، والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار ، عالما بأنه لا يرفعها عنه إلا هو ، ولا يقيه شرها سواه ، وأنها إن استمرت أبعدته من قربه وطردته من بابه، فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره، حتى أنه ليراها أعظم من ضر البدن‏.‏
 
فهو عائذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، و به منه ، مستجير وملتجئ، منه إليه ، يعلم أنه إن تخلى عنه وخلى بينه وبين نفسه فعنده أمثالها وشر منها، وأنه لا سبيل له إلى الإقلاع والتوبة إلا بتوفيقه وإعانته، وأن ذلك بيده سبحانه لا بيد العبد، فهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه أو يأتي بمرضاة سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته، فهو ملتجئ إليه متضرع ذليل مسكين ، مُلْقٍ نفسه بين يديه ، طريح ببابه ، مستخز له أذل شيء وأكسره له، وأفقره وأحوجه إليه، وأرغبه فيه وأحبه له، بدنه متصرف في أشغاله، وقلبه ساجد بين يديه، يعلم يقينا أنه لا خير فيه ولا له ولا به ولا منه، وأن الخير كله لله وفي يديه و به ومنه، فهو ولي نعمته، ومبتدئه بها من غير استحقاق ومجربها عليه مع تمقته إليه بإعراضه وغفلته ومعصيته، فحظه سبحانه الحمد والشكر والثناء ، وحظ العبد الذم والنقص والعيب، قد استأثر بالمحامد والمدح والثناء، وولي العبد الملامة والنقائص والعيوب، فالحمد كله له، والخير كله في يده، والفضل كله له والثناء له والمنة كلها له، فمنه الإحسان ومن العبد الإساءة ، ومنه التودد إلى العبد بنعمه ومن العبد التبغض إليه بمعاصيه‏,‏ ومنه النصح لعبده ومن العبد الغش له في معاملته‏.‏
 
وأما عبودية النعم فمعرفتها والاعتراف بها أولا ، ثم العياذ به أن يقع في قلبه نسبتها وإضافتها إلى سواه وإن كان سببا من الأسباب فهو مسببه ومقيمه ، فالنعمة منه وحده بكل وجه واعتبار ثم الثناء بها عليه ومحبته عليها وشكره بأن يستعملها في طاعته‏.‏
ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه، ويستقل كثير شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها ولا وسيلة منه توسل بها إليه ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد فلا تزيده النعم إلا انكسارا وذلا وتواضعا ومحبة للمنعم ‏.‏ وكلما جدد له نعمة رضي ، وكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة وانكسارا واعتذارا‏.‏ فهذا هو العبد الكيس، والعاجز بمعزل عن ذلك، وبالله التوفيق‏.‏
 
 
 
== حلاوة التوكل على الله ==
من ترك الاختيار والتدبير في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحة أو فرار من سقم، وعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه ، وأبر به منه بنفسه‏.‏ وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدَّم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخَّر، فألقى نفسه بين يديه وسلم الأمر كله إليه، و انطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء ، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذ من الهموم و الغموم و الأنكاد والحسرات‏.‏
 
وحمل كله وحوائجه ومصالحه ومن لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها، فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ولا اهتمام منه؛ لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحده همه فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه وفرغ قلبه منها، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه‏.‏ وإن أبى إلا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه، دون حق ربه، خلاه وما اختاره و ولاه ما تولى، فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب وكسف البال وسوء الحال، فلا قلب يصفو ولا عمل يزكو ولا أمل يحصل ولا راحة يفوز بها ولا لذة يتهنى بها، بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه، فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد، والله سبحانه قد أمر العبد بأمر وضمن له ضمانا، فإن قام بأمره بالنصح والصدق والإخلاص والاجتهاد، فإنه سبحانه ضمن الرزق لمن عبده، والنصر لمن توكل عليه واستنصر به، والكفاية لمن كان هو همه ومراده، والمغفرة لمن استغفره، وقضاء الحوائج لمن صَدَقَه في طلبها ووثق به وقوي رجاؤه وطمعه في فضله وجوده‏.‏ فالفطن الكيس إنما يهتم بأمره وإقامته وتوفيقه لا بضمانه، فإنه الوفي الصادق، ومن أوفى بعهده من الله‏.‏ فمن علامات السعادة صرف اهتمامه إلى أمر الله دون ضمانه ‏.‏ ومن علامات الحرمان فراغ قلبه من الاهتمام بأمره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه ، والله المستعان‏.‏
 
قال بشر بن الحارث‏‏‏:‏ أهل الآخرة ثلاثة‏:‏ عابد وزاهد وصِدِّيق ، فالعابد يعبد الله مع العلائق ، والزاهد يعبده على ترك العلائق ، والصديق يعبده على الرضا والموافقة ، إن أراه أخذ الدنيا أخذها وإن أراه تركها تركها‏.‏
 
== المشاقة و المحادة ==
إذا كان الله ورسوله في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يفضي إلى المشاقة و المحادة، وهذا أصلها ومنه اشتقاقها، فإن المشاقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق، و المحادة أن يكون في حد وهو في حد، ولا تستسهل هذا فإن مبادئه تجر إلى غايته، وقليله يدعو إلى كثيره ، وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته ، وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر، ولا سيما إذا قويت الرغبة والرهبة ، فهناك لا تكاد تجد أحدا في الجانب الذي فيه الله ورسوله ، بل يعده الناس ناقص العقل سيئ الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون ، وذلك من مواريث أعداء الرسل فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر، ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينا له لا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه و لومة من لامه، ولا يتم له ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وليس شيء أصعب على الإنسان من ذلك في بادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشرته من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلا، وذلك الألم لذة، فإن الرب شكور، فلا بد أن يذيقه لذة تحيزه إلى الله وإلى رسوله ويريه كرامة ذلك فيشتد به سروره وغبطته ويبتهج به قلبه ويظفر بقوته وفرحه وسروره ويبقى من كان محاربا له على ذلك بين هائب له ومسالم له ومساعد وتارك، ويقوى جنده ويضعف جند العدو‏.‏
 
ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك فإن الله معك وأنت بعينه و كلاءته وحفظه لك، وإنما امتحن يقينك وصبرك ‏.‏ وأعظم الأعوان لك على هذا _ بعد عون الله _ التجرد من الطمع والفزع ، فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز إلى الله ورسوله، وكنت دائما في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام بك الطمع والفزع فلا تطمع في هذا الأمر ولا تحدث نفسك به‏.‏ فإن قلت‏:‏ فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع ‏؟‏ قلت‏:‏ بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء‏.‏
 
 
== كيف تصلح حالك ؟ ==
هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها ‏.‏ وذلك أنك في وقت بين وقتين وهو في الحقيقة عمرك ، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل ، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار ، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق ، إنما هو عمل قلب ‏.‏ وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب ، وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك ، فما مضى تصلحه بالتوبة ، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية ، وليس في الجوارح في هذين نصب ولا تعب ، ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاحك ، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم ‏.‏ وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده ، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها ‏.‏ وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت ، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ، فإن اتخذت إليها سبيلا إلى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد ، وإن آثرت الشهوات و الراحات واللهو واللعب انقضت عنك بسرعة و أعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله والصبر على طاعته ومخالفته الهوى لأجله ‏.‏
 
 
 
== علامة صحة الإرادة ==
علامة صحة الإرادة أن يكون هم المريد رضا ربه واستعداده للقائه وحزنه على وقت مر في غير مرضاته وأسفه على قربة والأنس به ‏.‏ وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره‏.
 
 
== الزهد في الدنيا ==
إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله ، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله ، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله ، وإذا تعرفوا على ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة‏.‏
قال بعض الزهاد ‏:‏ ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان ، فقال له رجل‏:‏ إني أكثر البكاء ، فقال ‏:‏ إنك إن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل ‏ بعملك ، وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه ، فقال ‏:‏ أوصني ، فقال ‏:‏ دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها ، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن أطعمت أطعمت طيبا وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه ‏.‏
 
 
 
== أقسام الزهد ==
الزهد أقسام ‏:‏ زهد في الحرام وهو فرض عين ‏.‏ وزهد في الشبهات وهو بحسب مراتب الشبهة ، فإن التحقن بالواجب وإن ضعفت كان مستحبا‏.‏ وزهد في الفضول‏.‏ وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره‏.‏ وزهد في الناس ‏.‏ وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله ‏.‏ وزهد جامع لذلك كله وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما شغلك عنه ‏.‏
وأفضل الزهد إخفاء الزهد ، وأصعبه الزهد في الحظوظ ‏.‏ والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة ، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة ‏.‏ والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع‏.‏
قال يحيى بن معاذ ‏:‏ عجبت من ثلاث ‏:‏ رجل يرائي في عمله مخلوقا مثله ويترك أن يعمله لله ، ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه ولا يقرضه منه شيئا ، ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم ، والله يدعوه إلى صحبته ومودته ‏.‏
 
 
== مخالفة الأمر أعظم من عمل المنهي عنه ==
قال سهل بن عبد الله ‏‏:‏ ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه‏.‏
قلت‏:‏ هذه مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة‏:‏
«أحدها ‏:‏ » ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس‏.‏
«الثاني‏:‏» أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنا وسرق‏.‏
«الثالث‏:‏» أن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي ، كما دل على ذلك النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ «‏أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها‏» ‏‏‏رواه مسلم في كتاب الإيمان‏ ‏ وقوله‏:‏ ‏ « ‏ألا أنبئكم بخير أعمالكم عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم‏؟‏‏» قالوا‏:‏ « بلى يا رسول الله » ، قال‏:‏ ‏ « ‏ذكر الله‏» ‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏ « ‏واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة‏» ‏‏‏رواه ابن ماجة في كتاب الأدب الباب 53 ‏.‏ ورواه الترمذي ‏:‏ الدعوات / 6 ‏.‏ والنسائي ‏:‏ الإيمان/ 1.وغير ذلك من النصوص‏.‏
 
وترك المناهي عمل فإنه كف النفس عن الفعل، ولهذا علق سبحانه المحبة بفعل الأوامر كقوله‏:‏ ‏ «‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا» ‏سورة الصف ، الآية رقم ‏‏4‏‏ ‏ «‏والله يحب المحسنين» ‏ ‏‏آل عمران ‏:‏ 134‏‏ ‏.‏ وقوله ‏ «‏وأقسطوا إن الله يحب المقسطين» ‏ ‏‏الحجرات ‏:‏ 9‏‏ ‏ «‏والله يحب الصابرين» ‏ ‏‏آل عمران ‏:‏ 146‏‏
 
وأما في جانب المناهي فأكثر ما جاء النفي للمحبة كقوله ‏:‏ ‏ «‏والله لا يحب الفساد» ‏البقرة ‏:‏ 205‏‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏والله لا يحب كل مختال فخور» ‏ ‏‏الحديد‏:‏ 23‏‏ ونظائره‏.‏
وأخيرا في موضع آخر أنه يكرهها ويسخطها ، كقوله ‏:‏ ‏ «‏كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها» ‏ ‏‏البقرة ‏:‏ 190‏‏وقوله ‏:‏ ‏ «‏ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله» ‏ ‏‏النساء ‏:‏ 36‏‏
 
إذا عرف هذا ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات‏.‏ ولهذا يقدر ما يكرهه ويسخطه لإفضائه إلى ما يحب، كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء وحصول التوبة من العبد والتضرع إليه والاستكانة وإظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه ، وحصول الموالاة والمعاداة لأجله، وغير ذلك من الآثار التي وجودها بسبب تقديره ما يكره أحب إليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها ، وهو سبحانه لا يقدر ما يحب لإفضائه إلى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لإفضائه إلى ما يحبه، فعلم أن ما يحبه أحب إليه مما يكرهه‏.‏
 
«يوضحه الوجه الرابع‏:‏» أن فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور، فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه وينقصه، كما نبه سبحانه على ذلك في النهي عن الخمر والميسر بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة‏.‏ فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات أو عن كمالها، فالنهي عنها من باب المقصود لغيره ، والأمر بالواجبات من باب المقصود لنفسه‏.‏
 
«يوضحه الوجه الخامس‏:‏» أن فعل المأمورات من باب حفظ الإيمان وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الإيمان ويخرجها عن الاعتدال، وحفظ القوة مقدم على الحمية، فإن القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة ، فالحمية مرادة لغيرها وهو حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها، ولهذا كلما قويت قوة الإيمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها ، وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة ، فتأمل هذا الوجه‏.‏
 
«الوجه السادس‏:» ‏ أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقوة عينه ولذته ونعيمه، وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيئا من ذلك ، فإنه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها لم ينفعه ذلك الترك شيئا وكان خالدا مخلدا في النار‏.‏
 
وهذا يتبين بالوجه السابع‏:‏ أن من فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناج مطلقا إن غلبت حسناته سيئاته، وإما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته فمآله إلى النجاة وذلك بفعل المأمور‏.‏
ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج ولا ينجو إلا بفعل المأمور هو التوحيد‏.‏
فإن قيل‏:‏ فهو إنما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك ، قيل‏:‏ يكفي في الهلاك ترك نفس التوحيد المأمور به وإن لم يأت بضد وجودي من الشرك، بل متى خلا قلبه من التوحيد رأسا فلم يوحد الله فهو هالك وإن لم يعبد معه غيره ، فإذا انضاف إليه عبادة غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به وفعل الشرك المنهي عنه‏.‏
 
«يوضحه الوجه الثامن‏:» ‏ أن المدعو إلى الإيمان إذا قال ‏:‏ لا أصدق ولا أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره، كان كافرا بمجرد الترك والإعراض، بخلاف ما إذا قال‏:‏ أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرني، ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني عنه وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي ولكن لا صبر لي عنه، فهذا لا يعد كافرا بذلك، ولا حكمه حكم الأول، فإن هذا مطيع من وجه، وتارك المأمور جملة لا يعد مطيعا بوجه‏.‏
 
«يوضحه الوجه التاسع‏:‏» أن الطاعة والمعصية إنما تتعلق بالأمر أصلا وبالنهي تبعا، فالمطيع ممتثل المأمور، والعاصي تارك المأمور ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏ «‏لا يعصون الله ما أمرهم » ‏ ‏‏سورة التحريم ، الآية رقم ‏‏6‏‏ـ وقال موسى لأخيه‏:‏ ‏ «‏ما منعك إذ رأيتهم ضلوا إلا تتبعن أفعصيت أمري» ‏ ‏‏طه ‏:‏ 93‏‏،وقال عمرو بن العاص عند موته ‏:‏ أنا الذي أمرتني فعصيت ، ولكن لا إله إلا أنت‏.‏ وقال الشاعر‏:‏ أمرتك أمرا جازما فعصيتني‏.‏
 
والمقصود من إرسال الرسل طاعة المرسل ولا تحصل إلا بامتثال أوامره واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه ‏.‏ ولذا لو اجتنب المناهي ولم يفعل ما أمر به لم يكن مطيعا وكان عاصيا ، بخلاف ما لو أتى بالمأمورات وارتكب المناهي ‏.‏ فإنه وإن عد عاصيا مذنبا فإنه مطيع بامتثال الأمر عاص بارتكاب النهي، بخلاف تارك الأمر فإنه لا يعد مطيعا باجتناب المنهيات خاصة ‏.‏
 
«الوجه العاشر‏:‏» أن امتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة ، وتلك العبادة التي خلق لأجلها الخلق كما قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» ‏ ‏‏سورة الذاريات ، الآية‏:‏ 56‏، فأخبر سبحانه أنه أتم خلقهم للعبادة ، وكذلك إنما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه ‏.‏ فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم ، بخلاف امتثال المأمور فإنه أمر وجودي مطلوب الحصول ‏.‏
 
«وهذا يتبين بالوجه الحادي عشر ‏:» ‏ وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل وهو أمر عدمي ، والمطلوب بالأمر إيجاد فعل وهو أمر وجودي ،ومتعلق النهي الإعدام أو العدم وهو أمر لا كمال فيه إلا إذا تضمن أمرا وجوديا ، فإن العدم من حيث هو عدم لا كمال فيه ولا مصلحة إلا إذا تضمن أمرا وجوديا مطلقا ، وذلك الأمر الوجودي مطلوب مأمور به فعادت حقيقة النهي إلى الأمر ، وأن المطلوب به ما في ضمن النهي من الأمر الوجودي المطلوب به ‏.‏
 
«وهذا يتضح بالوجه الثاني عشر ‏:‏» وهو أن الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال‏:‏ «أحدها ‏:» ‏ أن المطلوب به كف النفس عن الفعل وحبسها عنه وهو أمر وجودي، قالوا‏:‏ لأن التكليف إنما يتعلق بالمقدور، والعدم المحض غير، وهذا قول الجمهور ‏.‏
 
وقال أبو هاشم وغيره ‏:‏ بل المطلوب عدم الفعل ، ولذا يحصل المقصود من بقائه على العدم وإن لم يخطر بباله الفعل، فضلا أن يقصد الكف عنه ‏.‏ ولو كان المطلوب الكف لكان عاصيا إذا لم يأت به ، ولأن الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يخطر بباله فعله والكف عنه ‏.‏ وهذا أحد قولي القاضي أبي بكر ولأجله التزم أن عدم الفعل مقدور للعبد وداخل تحت الكسب ، قال ‏:‏ والمقصود بالنهي الإبقاء على العدم الأصلي وهو مقدور‏.‏ وقالت طائفة ‏:‏ المطلوب بالنهي فعل الضد فإنه هو المقدور وهو المقصود للناهي ، فإنه إنما نهاه عن الفاحشة طلبا للعفة وهي المأمور بها ، ونهاه عن الظلم طلبا للعدل المأمور به ، وعن الكذب طلبا للصدق المأمور به ، وهكذا جميع المنهيات، فعند هؤلاء أن حقيقة النهي الطلب لضد المنهي عنه فعاد الأمر إلى أن الطلب إنما تعلق بفعل المأمور ‏.‏
 
والتحقيق‏:‏ أن المطلوب نوعان ‏:‏ مطلوب لنفسه وهو المأمور به ، ومطلوب إعدامه لمضادته المأمور به وهو المنهي عنه ، لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به ‏.‏ فإذا لم يخطر ببال المكلف ولا دعته نفسه إليه بل استمر على العدم الأصلي لم يثبت على تركه، وإن خطر بباله وكف نفسه عنه لله وتركه اختيارا أثيب على كف نفسه وامتناعه ، فإنه فعل وجودي والثواب إنما يقع على الأمر الوجودي دون العدم المحضي وإن تركه مع عزمه الجازم على فعله لكن تركه عجزا ، فهذا وإن لم يعاقب عقوبة الفاعل لكن يعاقب على عزمه وإرادته الجازمة التي إنما تخلف مرادها عجزا ‏.‏
 
وقد دلت على ذلك النصوص الكثيرة فلا يلتفت إلى ما خلفها ، كقوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء» ‏ ‏‏سورة البقرة ، الآية‏:‏ 284‏‏ وقوله في كاتم الشهادة ‏:‏ ‏ «‏فإنه آثم قلبه» ‏ ‏‏البقرة ‏:‏ 283‏، وقوله‏:‏ ‏ «‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم» ‏ ‏‏سورة البقرة ، الآية 283‏‏ وقوله ‏:‏ ‏ «‏يوم تبلى السرائر» ‏ ‏‏الطارق ‏:‏ 9‏، وقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ « إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ‏» ، قالوا ‏:‏ «هذا القاتل، فما بال المقتول ‏؟‏ » قال ‏:‏ ‏ « ‏إنه أراد قتل صاحبه‏» ‏ ‏‏رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن حنبل بألفاظ مختلفة ‏‏ ‏.‏ وقوله في الحديث الآخر‏:‏ ‏ « ‏ورجل قال لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء‏» ‏‏‏رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد بألفاظ مختلفة .
وقول من قال ‏:‏ إن المطلوب بالنهي فعل الضد ليس كذلك ، فإن المقصود عدم الفعل والتلبس بالضدين ، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو غير مقصود بالقصد الأول ، وإن كان المقصود بالقصد الأول المأمور الذي نهي عما يمنعه ويضعفه ، فالمنهي عنه مطلوب إعدامه طلب الوسائل والذرائع ، والمأمور به مطلوب إيجاده طلب المقاصد والغايات ‏.‏
 
وقول أبي هاشم ‏‏ ‏:‏ إن تارك القبائح يحمد وإن لم يخطر بباله كف النفس ، فإن أراد بحمده أنه لا يذم فصحيح ، وإن أراد أن يثني عليه بذلك ويحب عليه ويستحق الثواب فغير صحيح ‏.‏ فإن الناس لا يحمدون المحبوب على ترك الزنا ولا الأخرس على عدم الغيبة والسب ، وإنما يحمدون القادر الممتنع عن قدرة وداع إلى الفعل ‏.‏
وقول القاضي‏:‏ الإبقاء على العدم الأصلي مقدور ، فإن أراد به كف النفس ومنعها فصحيح ، وإن أراد مجرد العدم فليس كذلك ‏.‏
 
وهذا يتبين بالوجه الثالث عشر ‏:‏ وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده عن طريق اللزوم العقلي لا القصد الطلبي ، فإن الأمر إنما مقصوده فعل المأمور‏.‏ فإذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره ، وهذا هو الصواب في مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا‏؟‏ فهو نهي عنه من جهة اللزوم لا من جهة القصد والطلب ‏.‏ وكذلك النهي عن الشيء ، مقصود الناهي بالقصد الأول الانتهاء عن المنهي عنه وكونه مشغلا بضده جاء من جهة اللزوم العقلي ، لكن إنما نهي عما يضاد ما أمر به كما تقدم، فكان المأمور به هو المقصود بالقصد الأول في الموضعين‏.‏
وحرف المسألة أن طلب الشيء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم والنهي عن الشيء طلب لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللزوم والمطلوب في الموضوعين فعل وكف ، وكلاهما أمر وجودي ‏.‏
 
«الوجه الرابع عشر ‏:‏» أن الأمر والنهي في باب الطلب نظير النفي والإثبات في باب الخبر ، والمدح والثناء لا يحصلان بالنفي المحض إن لم يتضمن ثبوتا ، فإن النفي كاسمه عدم لا كمال فيه ولا مدح ، فإذا تضمن ثبوتا صح المدح به كنفي النسيان المستلزم لكمال العلم وبيانه ، ونفي اللغوب والإعياء والتعب المستلزم لكمال القوة والقدرة‏.‏ ونفي السنة والنوم المستلزم لكمال الحياة و القيومية ‏.‏ ونفي الولد والصاحبة المستلزم لكمال الغنى والملك والربوبية ‏.‏ ونفي الشريك والولي والشفيع بدون الإذن المستلزم لكمال التوحيد والتفرد بالكمال والإلهية والملك‏.‏ ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل ونفي إدراك الأبصار له المتضمن لعظمته وأنه أجلّ من أن يدرك وإن رأته الأبصار ‏.‏ وإلا فليس في كونه لا يرى، مدح بوجه من الوجوه، فإن العدم المحض كذلك‏.‏
وإذا عرف هذا فالمنهي عنه إن لم يتضمن أمرا وجوديا ثبوتيا لم يمدح بتركه ولم يستحق الثواب والثناء بمجرد الترك كما لا يستحق المدح والثناء بمجرد الوصف العدمي‏.‏
 
«الوجه الخامس عشر‏:» ‏ أن الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرة أمثال فعلها، وجزاء المنهيات مثل واحد، وهذا يدل على أن فعل ما أَمَر به أحب إليه من ترك ما نهى عنه ولو كان الأمر بالعكس لكانت السيئة بعشرة والحسنة بواحدة أو تساويا ‏.‏
 
«الوجه السادس عشر‏:‏ » أن المنهي عنه المقصود إعدامه، وألا يدخل في الوجود، سواء نوى ذلك أو لم ينوه، وسواء خطر بباله أو لم يخطر ‏.‏ فالمقصود ألا يكون، وأما المأمور به فالمقصود كونه وإيجاده والتقرب به نية وفعلا‏.‏
وسر المسألة ‏:‏ أن وجود ما طلب إيجاده أحب إليه من عدم ما طلب إعدامه، وعدم ما أحبه أكره إليه من وجود ما يبغضه ، فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من كراهته لفعل ما نهى عنه‏.‏
 
«يوضحه الوجه السابع عشر‏:‏» أن فعل ما يحبه والإعانة عليه وجزاؤه وما يترتب عليه من المدح والثناء من رحمته وفعل ما يكرهه وجزاؤه وما يترتب عليه من الذم والألم والعقاب من غضبه‏.‏ ورحمته سابقة على غضبه غالبة له، وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب، فإنه سبحانه لا يكون إلا رحيما ، ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه ، فيستحيل أن يكون غضبان دائما غضبا لا يتصور انفكاكه ، بل يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة‏:‏ ‏ «‏إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله‏» ‏رواه البخاري في الأنبياء ، والترمذي في القيامة ، ومسلم في الإيمان .ورحمته وسعت كل شيء وغضبه لم يسع كل شيء ‏.‏ وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب ، ووسع كل شيء رحمة وعلما ولم يسع كل شيء غضبا وانتقاماً‏.‏
فالرحمة وما كان بها ولوازمها وآثارها غالبة على الغضب وما كان منه وآثاره‏.‏ فوجود ما كان بالرحمة أحب إليه من وجود ما كان من لوازم الغضب‏.‏ ولهذا كانت الرحمة أحب إليه من العذاب والعفو أحب إليه من الانتقام ‏.‏ فوجود محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، ولا سيما إذا كان في فوات مكروهه فوات ما يحبه من لوازمه ، فإنه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكره وجود ذلك الملزوم المكروه‏.‏
 
«الوجه الثامن عشر‏:‏» أن آثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه ، فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز، وتزول بالتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب المكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن السيئات ، لو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا‏ ، ثم لقيه لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة، وهو سبحانه يغفر الذنوب وإن تعاظمت ولا يبالي ، فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعي من العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل ، وما ذاك إلا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده ، فدل على أن وجود ذلك أحب إليه وأرضى له‏.‏
 
«يوضحه الوجه التاسع عشر‏:‏ » وهو أنه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات ‏.‏ فإنه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرحه بتوبة العبد مثلا ليس في المفروح به أبلغ منه، وهذا الفرح العظيم الذي وجوده أحب إليه من فواته، ووجوده بدون لازمه ممتنع، فدل على أن وجود ما يحب أحب إليه من فوات كل فرد مما يكره حتى تكون ركعتا الضحى أحب إليه من فوات قتل المسلم، وإنما المراد أن جنس فعل المأمور أفضل من جنس ترك المحظورات ، كما إذا فضل الذكر على الأنثى والإنسي على الملك‏‏، فالمراد الجنس لا عموم الأعيان‏.‏
والمقصود أن هذا الفرح الذي لا فرح يشبهه بفعل مأمور التوبة يدل على أن هذا المأمور أحب إليه من فوات المحظور الذي تفوت به التوبة وأثرها ومقتضاها‏.‏
 
فإن قيل‏:‏ إنما فرح بالتوبة لأنها ترك للمنهي فكان الفرح بالترك ، قيل ‏:‏ ليس كذلك، فإن الترك المحض لا يوجب هذا الفرح بل ولا الثواب ولا المدح، وليست التوبة تركا، وإن كان الترك من لوازمها، وإنما هي فعل وجودي يتضمن إقبال التائب على ربه وإنابته إليه والتزام طاعته، ومن لوازم ذلك ترك ما نهي عنه ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏ «‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏» ‏سورة هود ‏:‏ الآية رقم :‏3‏ ‏.فالتوبة رجوع مما يكره إلى ما يحب وليست مجرد الترك، فإن من ترك الذنب تركا مجردا ولم يرجع منه إلى ما يحبه الرب تعالى لم يكن تائبا ، فالتوبة رجوع وإقبال وإنابة لا ترك محض‏.‏
 
«الوجه العشرون‏:‏» أن المأمور به إذا فات فاتت الحياة المطلوبة للعبد، وهي التي قال تعالى فيها‏:‏ ‏ «‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم‏» ‏ الأنفال ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 24‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏أو من كان ميتا فأحييناه وجعلناه له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ‏» ‏ ‏الأنعام ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 122‏‏، وقال في حق الكفار‏:‏ ‏ «‏أموات غير أحياء‏» ‏ النحل ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 21‏‏ وقال‏:‏ ‏ «‏إنك لا تسمع الموتى‏» ‏ سورة النمل ‏:‏ الآية رقم ‏‏80‏‏ ، وأما المنهي عنه فإذا وجد فغايته أن يوجد المرض، وحياة مع السقم خير من موت‏.‏
فإن قيل‏:‏ ومن المنهي عنه ما يوجب الهلاك وهو الشرك ، قيل‏:‏ الهلاك إنما حصل بعدم التوحيد المأمور به الذي به الحياة ، فلما فقد حصل الهلاك ، فما هلك إلا من عدم إتيانه بالمأمور به‏.‏
 
«وهذا وجه حاد وعشرون في المسألة ‏:» ‏ وهو أن في المأمورات ما يوجب فواته الهلاك والشقاء الدائم، وليس في المنهيات ما يقتضي ذلك‏.‏
 
«الوجه الثاني والعشرون‏:‏» أن فعل المأمور يقتضي ترك المنهي عنه إذا فعل على وجهه من الإخلاص والمتابعة والنصح لله فيه‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏» ‏ العنكبوت ‏:‏ 45.ومجرد ترك المنهي لا يقتضي فعل المأمور ولا يستلزمه ‏.‏
 
«الوجه الثالث والعشرون‏:‏» أن ما يحبه من المأمورات فهو متعلق بصفاته وما يكرهه من المنهيات فمتعلق بمفعولاته، وهذا وجه دقيق يحتاج إلى بيان فنقول‏:‏
 
المنهيات شرور وتفضي إلى الشرور ، والمأمورات خير وتفضي إلى الخيرات والخير بيديه سبحانه والشر ليس إليه، فإن الشر لا يدخل في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه ، وإنما هو في المفعولات مع أنه شر بالإضافة والنسبة إلى العبد ، وإلا من حيث إضافته ونسبته إلى الخالق سبحانه فليس بشر من هذه الجهة‏.‏ فغاية ارتكاب المنهي أن يوجب شرا بالإضافة إلى العبد مع أنه نفسه ليس بشر‏.‏ وأما فوات المأمور فيفوت به الخير الذي بفواته يحصل ضده من الشر، وكلما كان المأمور أحب إلى الله سبحانه كان الشر بفواته أعظم كالتوحيد والإيمان‏.‏
وسر هذه الوجه أن المأمور به محبوبه ، والمنهي مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من وفوات مكروهه ، وفوات محبوبة أكره إليه من وقوع مكروهه والله أعلم‏.‏
 
 
 
 
== الذكر والشكر ==
مبنى الدين على قاعدتين‏:‏ الذكر والشكر، قال تعالى‏ «‏فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون‏» ‏ سورة البقرة، الآية‏:‏ 152‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏‏‏:‏ ‏ « ‏والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة ‏:‏ اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏» ‏ ، وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه ، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح‏.‏ وذلك لا يتم إلا بتوحيده‏.‏ فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه‏.‏
 
وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهرا وباطنا، وهذان الأمران هما جماع الدين، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسموات والأرض ووضع لأجلها الثواب والعقاب ، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ، وهي الحق الذي به خلقت السموات والأرض وما بينهما وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه، وهو ظن أعدائه به قال تعالى ‏ «‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا‏» ‏ سورة‏:‏ ص الآية رقم ‏:‏27‏،وقال ‏:‏ ‏ «‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق‏» ‏ الدخان‏:‏ الآية رقم ‏:‏38.وقال ‏:‏ ‏ «‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية‏» ‏ سورة الحجر ‏:‏ الآية رقم ‏:‏85‏، قال بعد ذكر آياته في أول سورة يونس ‏:‏ ‏ «‏ ما خلق الله ذلك إلا بالحق ‏» ‏ يونس ‏:‏ الآية رقم ‏:‏5.وقال ‏:‏ ‏ «‏أيحسب الإنسان أن يترك سدى‏» ‏ القيامة ‏:‏ الآية رقم ‏:‏36‏، وقال ‏:‏
 
‏ «‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون‏» ‏ المؤمنون ‏:‏ الآية رقم ‏:‏115‏، وقال‏:‏ ‏ «‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏» ‏ الذارايات ‏:‏ الآية رقم ‏:‏56.‏ «‏الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما‏» ‏ الطلاق ‏:‏ الآية رقم ‏:‏12‏،وقال ‏:‏ ‏ «‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم‏» ‏ سورة المائدة ‏:‏ الآية رقم ‏:‏97. فثبت بما ذكر أن غاية الخلق والأمر أن يذكر وأن يشكر ‏.‏ يذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ‏.‏ وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره، شاكر لمن شكره، فذكره سبب لذكره، وشكره سبب لزيادته من فضله‏‏‏.‏ فالذكر للقلب واللسان ، والشكر للقلب محبة وإنابة ، وللسان ثناء وحمد، وللجوارح طاعة وخدمة‏.‏
 
 
== الهداية تجر الهداية والضلال يجر الضلال ==
تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثر لأثره، وكذلك الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازداد منها ازداد هدى، وأعمال الفجور بالضد، وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء‏.‏
 
وأيضا فإنه البر ويحب أهل البر فيقرب قلوبهم منه بحسب ما قاموا به من البر ، ويبغض الفجور وأهله فيبعد قلوبهم منه بحسب ما اتصفوا به من الفجور، فمن الأصل قوله تعالى :‏ « الم ‏.‏ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين » ‏البقرة ‏:‏ 1-2 ‏‏ وهذا يتضمن أمرين ‏:‏
«أحدهما ‏:‏ » أنه يهدي به من اتقى مساخطه قبل نزول الكتاب ‏.‏ فإن الناس على اختلاف مللهم ونحلهم قد استقر عندهم أن الله سبحانه يكره الظلم والفواحش والفساد في الأرض ويمقت فاعل ذلك ، ويحب العدل والإحسان والجود والصدق والإصلاح في الأرض ويحب فاعل ذلك ، فلما نزل الكتاب أثاب سبحانه أهل البر بأن وفقهم للإيمان به جزاء لهم على برهم وطاعتهم ، وخذل أهل الفجور والفحش والظلم بأن حال بينهم وبين الاهتداء به ‏.‏
 
 
 
== مراتب الهداية ==
والأمر الثاني ‏:‏ أن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره ، كان ذلك لهداية أخرى تحصل له على التفصيل ‏.‏ فإن الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ ‏.‏ ففوق هدايته هداية أخرى وفوق تلك الهداية هداية أخرى إلى غير غاية ‏.‏ فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى ، فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى ، وكلما فوَّت حظا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه ، فكلما اتقى زاد هداه ، وكلما اهتدى زادت تقواه ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ‏» ‏ ‏سورة المائدة ، الآية 15 - 16 ‏‏وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب » ‏الشورى ‏:‏ 13 .وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ سيذكر من يخشى ‏» ‏ ‏الأعلى ‏:‏ 10 ‏‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏ وما يتذكر إلا من ينيب‏» ‏ ‏غافر ‏:‏ 13 ‏‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ‏» ‏ سورة يونس ، الآية 9 ‏‏
 
فهداهم أولا للإيمان ، فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية، ونظير هذا قوله تعالى ‏ «‏ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ‏» ‏ ‏مريم ‏:‏ 76 ‏‏، وقوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ‏» ‏ ‏الأنفال ‏:‏ 29 ‏‏، ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل ، فسر القرآن بهذا وبهذا ‏.‏ وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ‏» ‏ ‏سبأ ‏:‏ 9 ‏‏ وقال ‏:‏ ‏ «‏ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏» ‏ ‏سبأ ‏:‏ 19 ‏‏ في سورة لقمان وسورة إبراهيم وسبأ والشورى ‏.‏
 
فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر ، كما أخبر عن آياته الإيمانية القرآنية أنها إنما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والإنابة ومن كان قصده اتباع رضوانه ، وأنها إنما يتذكر بها من يخشاه سبحانه كما قال ‏:‏ ‏ «‏ طه ‏.‏ ما أنزلنا القرآن لتشقى‏.‏ إلا تذكرة لمن يخشى‏» ‏ ‏طه ‏:‏ 1-3 ‏‏، وقال في الساعة ‏:‏ ‏ «‏ إنما أنت منذر من يخشاها‏» ‏ النازعات ‏:‏ 45 .
 
وأما من لا يؤمن بها ولا يرجوها ولا يخشاها فلا تنفعه الآيات العيانية ولا القرآنية ‏.‏ لهذا لما ذكر سبحانه في سورة هود عقوبات الأمم المكذبين للرسل وما حل بهم في الدنيا من الخزي ، قال بعد ذلك ‏:‏ ‏ «‏ إن في ذلك لآيات لمن خاف عذاب الآخرة ‏» ‏ ‏سورة هود ، الآية 27 ‏‏ فأخبر أن في عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب الآخرة ‏.‏
 
وأما من لا يؤمن بها ولا يخاف عذابها يكون ذلك عبرة وآية في حقه ، وإذا سمع ذلك قال ‏:‏ لم يزل في الدهر الخير والشر والنعيم والبؤس والسعادة والشقاوة ‏.‏ وربما أحال ذلك على أسباب فلكية وقوى نفسانية ‏.‏ وإنما كان الصبر والشكر سببا لانتفاع صاحبها بالآيات ؛ لأن الأيمان ينبني على الصبر والشكر ، فنصفه صبر ونصفه شكر ، فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة إيمانه ‏.‏ وآيات الله إنما ينتفع بها من آمن بالله وآياته ، ولا يتم له الإيمان إلا بالصبر والشكر ، فإن رأس الشكر التوحيد ، ورأس الصبر ترك إجابة داعي الهوى ‏.‏ فإذا كان مشركا متبعا هواه لم يكن صابرا ولا شكورا ، فلا تكون الآيات نافعة له ولا مؤثرة فيه إيمانا ‏.‏
 
 
 
== الأصل الثاني ‏-‏ وهو اقتضاء الفجور والكبر والكذب للضلال ==
فكثير أيضا في القرآن كقوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ‏» ‏ ‏البقرة ‏:‏ 26 - 27 ‏‏، وقال تعالى ‏ «‏ يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ‏» ‏ ‏سورة إبراهيم ، الآية 27 ‏‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ‏» ‏ ‏النساء ‏:‏ 88 ‏‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ وقالوا قلوبهم غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ‏» ‏ البقرة ‏:‏ 88 ‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة‏» ‏ ‏الأنعام ‏:‏ 110 .
فأخبر أنه عاقبهم على تخلفهم عن الإيمان لمن جاءهم وعرفوه وأعرضوا عنه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم وحال بينهم وبين الإيمان، كما قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ‏» ‏ ‏الأنفال ‏:‏ 24 ‏‏ فأمرهم بالاستجابة له ولرسوله حين يدعوهم إلى ما فيه حياتهم ، ثم حذرهم من التخلف والتأخر عن الاستجابة الذي يكون سببا لأن يحول بينهم وبين قلوبهم‏.‏ وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين‏» ‏ الصف ‏:‏ 5.وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون‏» ‏ المطففين‏:‏ 24‏‏
 
فأخبر سبحانه أن كسبهم غطى على قلوبهم وحال بينها وبين الإيمان بآياته ، فقالوا أساطير الأولين‏.‏
وقال تعالى في المنافقين ‏:‏ ‏ «‏نسوا الله فنسيهم‏» ‏ ‏سورة التوبة ‏:‏ 67‏‏، فجازاهم على نسيانهم له أن نسيهم فلم يذكرهم بالهدى والرحمة ، وأخبر أنه أنساهم أنفسهم فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق‏.‏ فأنساهم طلب ذلك ومحبته ومعرفته والحرص عليه عقوبة لنسيانهم له وقال تعالى في حقهم‏:‏ ‏ «‏أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم‏.‏ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ‏» ‏ محمد ‏:‏ 16-17.فجمع لهم بين اتباع الهوى والضلال الذي هو ثمرته وموجبه كما جمع للمهتدين بين التقوى والهدى‏.‏
 
 
 
== الهدى قرين الرحمة والضلال قرين الشقاء ==
وكما يقرن سبحانه بين الهدى والتقى والضلال والغي، فكذلك يقرن بين الهدى والرحمة والضلال والشقاء ، فمن الأول قوله ‏:‏ ‏ «‏أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون‏» ‏ البقرة ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 5، وقال ‏:‏ ‏ «‏أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون‏» ‏ البقرة ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 157‏. وقال عن المؤمنين‏:‏ ‏ «‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏» ‏ آل عمران ‏:‏ الآية رقم ‏:‏8‏، وقال أهل الكهف‏:‏ ‏ «‏ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا‏» ‏ الكهف‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 10‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‏» ‏ سورة يوسف ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 111‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‏» ‏ النحل ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 64‏‏ وقال‏:‏ ‏ «‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين‏» ‏ النحل‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 89‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين‏» ‏ يونس ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 57‏، ثم أعاد سبحانه ذكرهما فقال ‏:‏ ‏ «‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏» ‏ يونس ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 58‏.
 
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة ، والصحيح أنهما الهدى والنعمة ، ففضله هداه ، ورحمته نعمته ، ولذلك يقرن بين الهدى والنعمة كقوله في سورة الفاتحة‏:‏ ‏ «‏اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم‏» ‏ الفاتحة‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 6.
 
ومن ذلك قوله لنبيه يذكره بنعمه عليه‏:‏ ‏ «‏ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى‏» ‏ الضحى ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏6، 7، 8‏‏ فجمع له بين هدايته له وإنعامه عليه بإيوائه و إغنائه‏.‏ ومن ذلك قول نوح‏:‏ ‏ «‏يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده‏» ‏ هود ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 28‏، ‏:‏ وقول شعيب ‏:‏ ‏ «‏ أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا» ‏ هود ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 88‏، وقال عن الخضر‏:‏ ‏ «‏فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما‏» ‏ الكهف ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 65‏، وقال لرسوله‏:‏ ‏ «‏إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا‏» ‏ الفتح ‏:‏ الآية رقم :‏1، 2، 3‏‏ ، وقال ‏:‏ ‏ «‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما‏» ‏ النساء ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 113‏، وقال ‏ «‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا‏» ‏ النور ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 21‏، ففضله هدايته ورحمته إنعامه وإحسانه إليهم وبره بهم‏.‏ وقال ‏:‏ ‏ «‏فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى‏» ‏ طه ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 123‏، والهدى منعة من الضلال، والرحمة منعة من الشقاء ، وهذا هو الذي ذكره في أول السورة في قوله‏:‏ ‏ «‏طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏» ‏ طه ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 1‏، فجمع له بين إنزال القرآن عليه ونفي الشقاء عنه، كما قال في آخرها في حق أتباعه‏:‏ ‏ «‏فلا يضل ولا يشقى» ‏‏.
 
فالهدى والفضل والنعمة والرحمة متلازمان لا ينفك بعضهما عن بعض ، كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى‏:‏‏ «‏إن المجرمين في ضلال وسعر‏» ‏ القمر ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 47‏، والسعر‏:‏ جمع سعير ، وهو العذاب الذي هو غاية الشقاء ، وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون‏» ‏ الأعراف ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 179‏، وقال تعالى عنهم‏:‏ ‏ «‏وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير‏» ‏ الملك ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 10.
 
ومن هذا أنه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيبة وبين الضلال وضيق الصدر والمعيشة والضنك ، قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا‏» ‏ الأنعام ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 125‏‏ وقال ‏:‏ ‏ «‏أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه‏» ‏ الزمر ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 22‏، وكذلك يجمع بين الهدى والإنابة وبين الضلال وقسوة القلب ، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب‏» ‏ الشورى ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 13‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين‏» ‏ الزمر ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 22.
 
 
== العطاء والمنع ==
والهدى والرحمة وتوابعهما من الفضل والإنعام كله من صفة العطاء، والإضلال والعذاب وتوابعهما من صفة المنع، وهو سبحانه يصرف خلقه بين عطائه ومنعه وذلك كله صادر عن حكمة بالغة، وملك تام، وحمد تام ، فلا إله إلا الله ‏.‏
 
 
== العاقل لا يتعلق بالعالم السفلي ==
إذا رأيت النفوس المبطلة الفارغة من الإرادة والطلب لهذا الشأن قد تشبث بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها إليه، فإنه اللائق بها لفساد تركيبها ولا تنقش عليها ذلك فإنه سريع الانحلال عنها ويبقى تشبثها به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعلق ، فتبقى شهوتها وإرادتها فيها‏.‏ وقد حيل بينها وبين ما تشتهي على وجه يئست معه من حصول شهوتها ولذتها ‏.‏ فلو تصور العاقل ما في ذلك من الألم والحسرة لبادر إلى قطع هذا التعلق كما يبادر إلى حسم مواد الفساد ، ومع هذا فإنه ينال نصيبه من ذلك وقلبه وهمه متعلق بالمطلب الأعلى والله المستعان‏.‏
 
 
 
== مفاسد الكذب ==
إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس ، فإن الكذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما ، والحق باطلا والباطل حقا، والخير شرا والشر خيراً، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له‏.‏ ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه ‏.‏ ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل‏.‏ وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب إليها فصار صدورها عنه كمصدر الكذب عن اللسان، فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله‏.‏
 
ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ « ‏إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار‏» ‏‏‏ورد الحديث في البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي بألفاظ مختلفة ، ولفظه عند مالك‏:‏ إن عبد الله بن مسعود كان يقول‏:‏ ‏ « ‏عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ألا ترى أنه يقال ‏:‏ صدق وبر ، وكذب وفجر‏» ‏‏.‏ ‏‏الموطأ - الحديث 1814- طبعة دار النفائس‏‏.وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله ، فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتدراكه الله بدواء الصدق يقلع المادة من أصلها‏.‏
 
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ‏.‏ وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب‏.‏ والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده و يثبطه عن مصالحه ومنافعه ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ، ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏» ‏ سورة التوبة ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏119‏‏ ، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏» ‏ المائدة ‏:‏ الآية رقم :‏119‏‏ ، وقال ‏:‏ ‏ «‏فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم‏» ‏ محمد ‏:‏ الآية رقم :‏21‏‏ ، وقال ‏:‏ ‏ «‏وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم‏» ‏ التوبة ‏:‏ الآية رقم :‏90‏ ‏.
 
 
 
== وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ==
في قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏» ‏ البقرة ‏:‏ الآية رقم :‏216‏‏
 
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد ، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب ، والمحبوب قد يأتي بالمكروه ، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة ، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعاقب ، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد « ‏و‏ِ» ‏ أوجب له ذلك أمورا‏:‏
 
منها‏:‏ أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء؛ لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح ، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه، فإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب ، وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل ، فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغابات المحمودة والمذمومة‏.‏ فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل ، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء ، وكلما نهاه كرهه مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول‏.‏ ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية ، فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك ، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة‏.‏
 
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التعويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة‏.‏
ومنها ‏:‏ أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم ، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم ، فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك‏.‏
 
ومنها‏:‏ أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه ، بما يختاره هو لنفسه ‏.‏
 
ومنها‏:‏ أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى ، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه؛ لأنه مع اختياره لنفسه ، ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره ، ولطفه يهون عليه ما قدره‏.‏
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة ، فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف‏.‏
 
 
 
 
== لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ==
لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها ولم يتجاوزه إلى ما ليس له ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي ، وتيقن أنه الله ومن الله وبالله فهو المانُّ ‏‏ به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه ، فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا ألبتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه‏.‏ فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا وخشوعا ومحبة وخوفا ورجاء ، وهذا نتيجة علمين شريفين ‏:‏ علمه بربه وكماله وبره وغناء وجودة وإحسانه ورحمته، وأن الخير كله في يديه وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء ، وله الحمد على هذا ، وهذا أكمل حمد وأتمه ‏.‏ وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها، وأنها لا خير فيها ألبتة ولا لها ولا بها ولا منها وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص ، فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس لها ولا بها‏.‏
 
فإذا صار هذان العلمان صبغة لها لا صبغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله والأمر كله والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها ، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم‏.‏ ومن فاته التحقيق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله‏.‏ فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علما وحالا، وانقطاعه بفواتهما‏.‏ وهذا معنى قولهم‏:‏ من عرف نفسه عرف ربه، فإنه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم، عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله، وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده، وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقة العبودية، والله المستعان‏.‏
ويحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته ‏:‏ إنه لن ينتفع بحكمتنا إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها ، فمن كان كذلك فليدخل وإلا فليرجع حتى يكون بهذه الصفة‏.‏
 
 
 
 
== مساوئ الشهوات ==
الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة ، فإنها إما أن توجب ألما وعقوبة ، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة ، وإما أن تثلم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه ، وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه ، وإما أن تضيع قدرا وجاها قيامه خير من وضعه ، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسى علما ذكره ألذ من نيل الشهوة ، وإما أن تشمت عدوا وتحزن وليا وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبا يبقى صفة لا تزول ، فإن الأعمال تورث للصفات والأخلاق‏.‏
 
 
 
== حدود الأخلاق ==
للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا، ومتى قصرت عنه كان نقصا ومهانة ‏:‏
فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة والأنفة من الرذائل والنقائص ، وهذا كماله، فإذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار، وإن نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل‏.‏
 
وللحرص حد وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها، فمتى نقص تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه، ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس ‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ « ‏لا حسد إلا في اثنتين ‏:‏ رجل آتاه الله مالا فسلطة على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس‏» ‏‏‏رواه أحمد بن حنبل والبخاري ولفظه عند البخاري في باب التمني‏: ‏ ‏ « ‏لا تحاسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن ، فهو يتلوه آناء الليل والنهار يقول‏:‏ لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل‏:‏ ورجل آتاه الله مالا ينفقه في حقه فيقول ‏:‏ لو أوتيت ، مثل ما أوتي لفعلت كما يفعل‏» ‏‏.‏‏‏، فهذا حسد منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود‏.‏
 
وللشهوة حد وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك، فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقا والتحق صاحبها بدرجة الحيوان ، ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفا وعجزا ومهانة‏.‏
 
وللراحة حد وهو إجماع النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها، فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا وإضاعة وفات به أكثر مصالح العبد، ومتى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبتِّ الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى‏.‏
 
والجود له حد بين طرفين ، فمتى جاوز حده صار إسرافا وتبذيرا‏.‏ ومتى نقص عنه كان بخلا وتقتيرا‏.‏
وللشجاعة حد متى جاوزته صارت تهوراً، ومتى نقصت عنه صارت جبنا وخوراً، وحدها الإقدام في مواضع الإقدام والإحجام، كما قال معاوية لعمرو بن العاص‏:‏ أعياني أن أعرف أشجاع أنت أم جبان تقدم حتى أقول من أشجع الناس، وتجبن حتى أقول من أجبن الناس، فقال‏:‏
 
 
 
شجاع إذا أمكنتني فرصة * * * فإن لم تكن لي فرصة فجبان
 
 
والغيرة لها حد إذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئاً بالبريء، وإذا قصرت عنه كانت تغافلاً ومبادئ دياثة‏.‏
وللتواضع حد إذا جاوزه كان ذلا ومهانة، ومتى قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر‏.‏
وللعز حد إذا جاوزه كان كبراً وخلقاً مذموماً، وإن قصر عنه انحرف إلى الذل والمهانة‏.‏
 
 
== خير الأمور الوسط ==
وضابط هذا كله العدل، وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به، فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك، إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا‏.‏
 
فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي ‏.‏ فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخل فيها ‏.‏ قال تعالى‏:‏‏ «‏الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله‏» ‏ ‏سورة التوبة ‏:‏ الآية رقم :‏97‏. فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلا، وبالله التوفيق‏.‏
 
== التقوى في القلوب ==
قال أبو الدرداء ‏ رضي الله عنه ‏:‏ يا حبذا نوم الأكياس ‏‏ وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين‏.‏ وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير ، رضي الله عنهم‏.‏
 
فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه‏.‏ والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح‏.‏ قال تعالى‏ «‏ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب‏» ‏ سورة الحج‏:‏ الآية رقم :‏32‏‏ ، وقال ‏:‏ ‏ «‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم‏» ‏ الحج ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏37‏‏ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏ « التقوى ههنا‏:‏ وأشار إلى صدره‏» ‏‏‏رواه الترمذي وأحمد بن حنبل.
 
فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل ، أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة ، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام الإحسان‏.‏
 
 
 
== أكمل الهدي ==
فأكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان موفيا كل واحد منهما حقه ، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله حتى تَرِم قدماه ، ولا يترك شيئا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر ‏.‏ والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم وحقائق الإيمان على بواطنهم ، ولا يقبل واحدا منهما إلا بصاحبه وقرينه‏.‏
 
وفي المسند مرفوعا ‏:‏ ‏ «‏الإسلام علانية والإيمان في القلب ‏» ‏ فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن ، وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت ‏.‏ فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار‏.‏
 
وإذا عرف هذا ، فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان ‏:‏
 
قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها ،وإن لم يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال ‏.‏
 
وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم و عكفوها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر والإرادات معه ‏.‏وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل والإنابة ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلبه من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية ، فإذا حصل لأحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل ، لم يستبدل به شيئا سواه ألبتة ، إلا أن يجيء الأمر فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه ، وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد ‏.‏ فإذا جاءت النوافل فههنا معترك التردد ، فإن أمكن القيام بها فذاك وإلا نظر في الأرجح ‏.‏والأحب إلى الله هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف وإرشاد ضال وجبر مكسور واستفادة إيمان ونحو ذلك ، فههنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة ، ومتى قدمها لله رغبة فيه وتقربا إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر ، وإن كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فإنه يفوت والنافلة لا تفوت‏.‏
وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق ومراتب الأعمال وتقديم الأهم منها فالأهم ، والله الموفق لذلك لا إله غيره ولا رب سواه‏.‏
 
 
 
== أصل الأخلاق الممدوحة والمذمومة ==
أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة ، وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة ، فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك كلها ناشئة من الكبر ‏.‏
 
وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك ، فإنها من المهانة والدناءة وصغر النفس ‏.‏
 
وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحلم والعفو والصفح والاحتمال والإيثار وعزة النفس عن الدناءات والتواضع والقناعة والصدق والإخلاص والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل والتغافل عن زلات الناس وترك الاشتغال بما لا يعنيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك ، فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة ‏.‏ والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتأخذ زينتها وبهجتها ، فكذلك المخلوق منها إذا أصابه حظه من التوفيق‏.‏
 
وأما النار فطبعها العلو والإفساد ثم تخمد فتصير أحقر شيء وأذله ، وكذلك المخلوق منها ، فهي دائما بين العلو إذا هاجت واضطربت ، وبين الخسة والدناءة إذا خمدت وسكنت ، والأخلاق المذمومة تابعة للنار والمخلوق منها ،والأخلاق الفاضلة تابعة للأرض والمخلوق منها ‏.‏ فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل ، ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل‏.‏
 
 
== مستلزمات المطالب العليا ==
المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة ، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه ، فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره ‏.‏ وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه ، فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب ، فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته ، وإذا كانت همته سافلة تعلقت بالسفليات ولم تتعلق بالمطلب الأعلى ، وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة إليه ، فمدار الشأن هل همة العبد ونيته وهما مطلوبه وطريقه ولا يتم له إلا بترك «ثلاثة أشياء ‏:» ‏ العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس ‏.‏
«الثاني ‏:‏ » هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها ‏.‏
«الثالث ‏:‏ » قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب ‏.‏ والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها‏.‏ وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة ، فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه ، والله المستعان ‏.‏
 
 
 
== من حكم ابن مسعود ==
 
 
 
من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ‏:‏
قال رجل عنده ‏:‏ ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين ، أحب أن أكون من المقربين‏.‏ فقال عبد الله ‏:‏ لكن ههنا رجل وَدَّ أنه إذا مات لم يبعث ؛ يعني نفسه ‏.‏
 
وخرج ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم ‏:‏ ألكم حاجة ‏؟‏ قالوا لا ، ولكن أردنا أن نمشي معك ، قال ‏:‏ ارجعوا ، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع‏.‏
وقال ‏:‏ لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب‏.‏
وقال ‏:‏ حبذا المكروهان ‏:‏ الموت والفقر ، و أيم الله إن هو إلا الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت ، أرجو الله في كل واحد منهما ، إن كان الغنى أن فيه العطف، وإن كان الفقر أن فيه الصبر ‏.‏
وقال ‏:‏ إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة ، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع مثل ما زرع ، لا يسبق بطيء بحظه ولا يدرك حريص ما لم يقدر له‏.‏
 
من أعطي خيرا فالله أعطاه ،ومن وقي شرا فالله وقاه ‏.‏
المتقون سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة ‏.‏
إنما هما اثنتان ‏:‏ الهدي والكلام ، فأفضل الكلام كلام الله ، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب ، ألا وإن البعيد ما ليس آتيا ، ألا وإن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن السعيد من وعظ بغيره ، إلا وإن قتال المسلم كفر وسبابه فسوق ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويعوده إذا مرض‏.‏ ألا وإن شر الروايا روايا الكذب ، ألا وإن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه ألا وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ، والصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ، وإنه يقال للصادق صدق وبر، ويقال للكاذب كذب وفجر، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم حدثنا أن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا‏.‏
 
إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقى، وخير الملة ملة إبراهيم ، وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي الأنبياء ، وأشرف الحديث ذكر الله وخير القصص القرآن وخير الأمور عواقبها وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ونفس تنجيها خير من نفس أمارة لا تحصبها، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والريب من الكفر، وشر العمى عمى القلب ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والنوح من عمل الجاهلية‏.‏
 
من الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ‏‏ولا يذكر الله إلا هجرا‏.‏ وأعظم الخطايا الكذب ، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يصبر على الرزية يعقبه الله ‏، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، وإنما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه ، وإنما يصير إلى أربعة أذرع والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه ، وأشرف الموت قتل الشهداء، ومن يستكبر يضعه الله ، ومن يعص الله يطع الشيطان‏.‏
 
ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون ‏.‏ وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا‏.‏ ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا سخابا ‏ ولا صياحا ولا حديدا‏.‏
 
من تطاول تعظما حطه الله ومن تواضع تخشعا رفعه الله‏.‏ وإن للملك لمة‏‏ وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله‏.‏ و لمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فإذا رأيتم ذلك فتعوذوا بالله‏.‏
إن الناس قد أحسنوا القول، فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبخ نفسه‏.‏
لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب‏‏ نهار، إني لأبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ، ومن لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا‏.‏
 
من اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدا على رزق الله، ولا تلوم أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره، وإن الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط‏.‏
ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك ، يفتح له‏.‏
إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها‏.‏
كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت ‏‏ سرج الليل، جدد القلوب ، خلقان الثياب، تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض‏.‏
 
إن للقلوب شهوة وإدبارا فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها ودعوها عند فترتها وإدبارها‏.‏
ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية‏.‏
إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضه قلبا، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضه جسما، و أيم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان‏.‏
 
لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته، ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده و ذامه عنده سواء ، وإن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه منه شيء، يأتي الرجل ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، فيقسم له بالله إنك لذيت و ذيت‏، فيرجع وما حبى من حاجته بشيء ويسخط الله عليه‏.‏
 
لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا‏.‏
الإثم جَوَّاز ‏‏ القلوب ‏.‏
ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطمعا‏.‏
مع كل فرحة ترحة وما ملئ بيت حبرة ‏‏ إلا ملئ عبرة، وما منكم إلا ضيف وما له عارية، فالضيف مرتحل والعارية مؤداة إلى أهلها‏.‏
يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان‏‏‏.‏
إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه فليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه‏.‏
الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيء‏.‏
رب شهوة تورث حزنا طويلا‏.‏
ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ‏.‏
إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها‏.‏
من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل ، فإن قلب الرجل مع كنزه ‏.‏
لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة‏.‏
 
لا يكن أحدكم إمعة، قالوا وما الإمعة‏؟‏ قال‏:‏ يقول أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت ، ألا ليوطن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر‏.‏
وقال له رجل‏:‏ علمني كلمات جوامع نوافع، فقال اعبد الله لا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيبا قريبا‏.‏
 
يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له أد أمانتك فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فتمثل على هيئتها يوم أخذها في قعر جهنم ، فينزل فيأخذها فيضعها على عاتقه فيصعد بها، حتى إذا ظن أنه خارج بها هوت وهوى في أثرها أبد الآبدين‏.‏
اطلب قلبك في ثلاثة مواطن‏:‏ عند سماع القرآن ، وفي مجالس الذكر وفي أوقات الخلوة ، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك‏.‏
 
قال الجنيد‏‏ دخلت على شاب ‏‏ فسـألني عن التوبة فأجبته، فسألني عن حقيقتها ، فقلت ‏:‏ أن تنصب ذنبك بين عينيك حتى يأتيك الموت ، فقال لي ‏:‏ مه ، ما هذا حقيقة التوبة ، فقلت له فما حقيقة التوبة عندك يا فتى‏؟‏ قال ‏:‏ أن تنسى ذنبك، وتركني ومضى ‏.‏ فكيف ‏‏ هو عندك يا أبا القاسم‏؟‏ فقلت ‏:‏ القول ما قال الفتى قال ‏:‏ كيف قلت إذا كنت معه في حال ثم نقلني من حال الجفا إلى حال الوفا ، فذكري للجفا في حال الوفا جفا‏.‏
 
 
 
== اللذة حسب الهمة ==
 
 
لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله ، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال ‏.‏ فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا التفتت إليه وربما تألمت من ذلك، كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه‏.‏
 
وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والأنس بربه فهذا ممن قال تعالى فيه‏:‏ ‏ «‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة‏» ‏ سورة الأعراف ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏22‏‏ ، وأنجسهم حظا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات ‏:‏ ‏ «‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها‏» ‏ الأحقاف ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏20‏‏ ، فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات ‏.‏ وافترقوا في وجه التمتع ، فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي آذن لهم فيه فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة وسواء أذن لهم فيه أم لا ، فانقطعت عنهم لذة الدنيا و فاتتهم لذة الآخرة فلا لذة الدنيا دامت لهم ولا لذة الآخرة حصلت لهم، فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلا له إلى لذة الآخرة بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله إرادته وعبادته‏‏ ، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى ، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة ، و يجم نفسه ‏‏ ههنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك ، فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همته لما هناك ، و بئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهمته، وحولها يدندن، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة ، و بئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة ‏.‏ فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعا وإلا خسرهما جميعا‏.‏
 
 
 
 
== آثار ترك المعاصي ==
سبحان الله رب العالمين ‏.‏ لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواما لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق وجواز القول بينهم وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر ، والأمن من مخاوف الفساق والفجار ، وقلة الهم والغم والحزن ، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية ، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار ، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب ، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي ، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس ، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس ، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب ، وسرعة إجابة دعائه ، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله ، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن منه ، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت ، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير ، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة ووجد حلاوة الإيمان ، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه‏.‏
 
فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة ، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش ، فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين و‏ «‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏» ‏‏.
 
 
 
== ورع عمر بن عبد العزيز ==
ذكر ابن سعد في الطبقات ‏ عن عمر بن عبد العزيز ‏‏ أنه كان إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطعه، وإذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه ويقول‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ‏.‏
 
اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه به وتوفيقه له فيه وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته ، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن ، فالذي من عليه بذلك هو الذي من عليه بالقول والفعل فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبت عن شهود منه ربه وتوفيقه وإعانته ‏.‏ فإذا غاب عن تلك الملاحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى ، فوقع العجب ففسد عليه القول والعمل، تارة يحال بينه وبين تمامه ويقطع عليه ويكون ذلك رحمة به حتى لا يغيب عن مشاهدة المنة والتوفيق ‏.‏ وتارة يتم له ولكن لا يكون له ثمرة، وإن أثمر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود‏.‏ وتارة يكون ضرره عليه أعظم من انتفاعه، ويتولد له منه مفاسد شتى بحسب غيبته عن ملاحظة التوفيق والمنة ورؤية نفسه وإن القول والفعل به‏.‏
 
من هذا الموضع يصلح الله سبحانه أقوال عبده وأعماله ويعظم له ثمرتها أو يفسدها عليه ويمنعه ثمرتها فلا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس ، فإذا أراد الله بعبده خيرا أشهده منته وتوفيقه وإعانته له في كل ما يقوله ويفعله فلا يعجب به‏.‏ ثم أشهده تقصيره فيه وأنه لا يرضى لربه به فيتوب إليه منه ويستغفره، ويستحي أن يطلب عليه أجرا وإذا لم يشهده ذلك وغيبه عنه فرأى نفسه في العمل ورآه بعين الكمال والرضا، لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرضا والمحبة ، فالعارف يعمل العمل لوجهه مشاهدا فيه منته وفضله وتوفيقه ، معتذرا منه إليهن مستحييا منه إذ لم يوفه حقه، والجاهل يعمل العمل لحظه وهواه ناظرا فيه إلى نفسه يمن به على ربه راضيا بعمله، فهذا لون وذاك لون آخر‏.‏
 
 
 
 
== فوائد هجر العوائد ==
 
 
الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق ‏.‏ فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفروه أو بدعوه وضللوه، أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السنن، ونصبوها أندادا للرسول يوالون عليها ويعادون ،فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها‏.‏
 
وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء والمطوعين والعامة‏.‏ فربي فيها الصغير ونشأ عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند أصحابها من السنن‏.‏ الواقف معها محبوس والمتقيد بها منقطع ‏.‏ عم بها المصاب، وهجر لأجلها السنة والكتاب ‏.‏ من استنصر بها فهو عند الله مخذول ، ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسوله فهو عند الله غير مقبول، وهذه أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله‏.‏
 
 
== العوائق ==
وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها ، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه ، وهي ثلاثة أمور‏:‏ شرك، وبدعة ، ومعصية، فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد ، وعائق البدعة بتحقيق السنة ، وعائق المعصية بتصحيح التوبة‏.‏ وهذه العوائق لا تبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة‏.‏ فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحسن بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعدا لا يظهر له كوامنها وقواطعها‏.‏
 
== العلائق ==
وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها و رياساتها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضه إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى ، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع‏.‏ فإن النفس لا تترك مألوفها و محبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه‏.‏ وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا بالعكس ‏.‏ والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه ‏.‏ وذلك على قدر معرفته وشرفه وفضله على ما سواه‏.‏
 
== منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ==
لما كمل الرسول صلى الله عليه وسلم مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج ‏ الخلائق كلها إليه في الدنيا والآخرة، أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم‏.‏ وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله حتى يريحهم من ضيق مقامهم ‏.‏ فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع هو لهم وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة‏.‏
 
== علامات السعادة والشقاوة ==
من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره ‏.‏وكلما زيد في عمره نقص من حرصه‏.‏ وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله ‏.‏ وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم‏.‏
 
وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه ، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام‏.‏
 
وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء ، كالملك والسلطان والمال ‏.‏ قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده‏:‏ ‏ «‏هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر‏» ‏ سورة النمل ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏ ‏40 فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور ‏.‏ كما أن المحن بلوى منه سبحانه ، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب، قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا‏.‏‏.‏‏.‏‏.» ‏‏‏ ‏‏الفجر ‏:‏ الآية رقم :‏15- 17‏‏ أي ليس كل من وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراما مني له، ولا كل من ضيقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك إهانة مني له‏.‏
 
 
== الأعمال بنيان أساسه الإيمان ==
 
 
من أراد علو بنيانه فعليه بتوفيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وأحكامه فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه ، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت ، وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد‏.‏
 
فالعارف همته تصحيح الأساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏ «‏أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم‏» ‏ سورة التوبة ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏109‏‏ ‏.‏فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من الآفات، وإذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء‏.‏
 
فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان، فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس ‏.‏ وهذا الأساس أمران‏:‏
«الأول‏:» ‏ صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته، و «الثاني‏:‏» تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه ، فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه بنيانه وبحسبه يعتلي البناء ما شاء‏.‏ فأحكم الأساس و احفظ القوة ودم على الحمية و استفرغ إذا زاد بك الخلط، والقصد القصد وقد بلغت المراد، وإلا فما دامت القوة ضعيفة والمادة الفاسدة موجودة و الاستفراغ معدوما‏:‏
 
 
 
فأقر السلام على الحياة فإنها * * * قد آذنتك بسرعة التوديع
 
 
فإذا كمل البناء فبيضه بحسن الخلق والإحسان إلى الناس، ثم حطه بسور من الحذر لا يقتحمه عدو ولا تبدو منه العورة، ثم أرخ الستور على أبوابه، ثم اقفل الباب الأعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته، ثم ركب له مفتاحا من ذكر الله تفتحه وتغلقه‏.‏ فإن فتحت فتحت بالمفتاح وإن أغلقت الباب أغلقته به ، فتكون حينئذ قد بنيت حصنا تحصنت فيه من أعانك إذا أطاف به العدو لم يجد منه مدخلا فييأس منك‏.‏ ثم تعاهد بناء الحصن كل وقت، فإن العدو إذا لم يطمع في الدخول من الباب نقب عليك النقوب من بعيد بمعاول الذنوب، فإن أهملت أمره وصل إليك النقب ، فإذا العدو معك في داخل الحصن فيصعب عليك إخراجه، وتكون معه على ثلاثة خلال‏:‏ إما أن يغلبك على الحصن ويستولي عليه، وأما أن يساكنك فيه، وإما أن يشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك، وتعود إلى سد النقب ولم شعت الحصن ‏.‏ وإذا دخل نقبة إليك نالك منه ثلاث آفات‏:‏ إفساد الحصن والإغارة على حواصله حواصله وذخائره، ودلالة السراق من بني جنسه على عورته، فلا تزال تبلى منه بغارة بعد غارة حتى يضعفوا قواك ويوهنوا عزمك فتتخلي عن الحصن وتخلي بينهم وبينه‏.‏
 
وهذه حال أكثر النفوس مع العدو، ولهذا تراهم يسخطون ربهم برضا أنفسهم، بل برضا مخلوق مثلهم لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ويضيعون كسب الدين بكسب الآمال ، ويهلكون أنفسهم بما لا يبقى لهم، ويحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم، ويزهدون في الآخرة وقد هجمت عليهم، ويخالفون ربهم باتباع أهوائهم ، ويتكلون على الحياة ولا يذكرون الموت ، ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون ما عهد الله إليهم، ويهتمون بما ضمنه الله لهم ولا يهتمون بما أمرهم به، ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها ولا يفرحون بالإيمان فرحهم بالدرهم والدينار ، ويفسدون حقهم بباطلهم وهداهم بضلالهم ومعروفهم بمنكرهم، ويلبسون إيمانهم بظنونهم، ويخلطون حلالهم بحرامهم، ويترددون في حيرة آرائهم وأفكارهم ، ويتركون هدى الله الذي أهداه إليهم ‏.‏ ومن العجب أن هذا العدو يستعمل صاحب الحصن في هدم حصنه بيديه‏.‏
 
 
 
 
== أركان الكفر ==
أركان الكفر أربعة‏:‏ الكبر والحسد والغضب والشهوة فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها ، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة‏.‏ فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد، وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله ، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع ، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة‏.‏ وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن بلي بها، ولا سيما إذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة، فإنه لا يستقيم له معها عمل ألبتة ولا تزكو نفسه مع قيامها بها‏.‏ وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، وكل الآفات متولدة منها ‏.‏ وإذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر والمنكر في صورة المعروف ، وقربت منه الدنيا وبعدت منه الآخرة، وإذا تأملت كفر الأمم رأيته ناشئا منها وعليها يقع العذاب ، وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها فمن فتحها على نفسه فتح عليه أبواب الشرور كلها عاجلا وآجلا، ومن أغلقها على نفسه أغلق عنه أبواب الشرور، فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقة‏.‏
 
ومنشأ هذه الأربعة من جهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات ، لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدا على ما آتاه الله ‏.‏ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله ، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك‏.‏ فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته ، ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة لأن ذنبه كان عن كبر وحسد، فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضا به وعنه والإنابة إليه‏.‏ وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها، فإن ذلك إيثار لها بالرضا والغضب على خالقها وفاطرها، وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب له سبحانه وترضى له، فكلما دخلها شيء من الغضب والرضا له خرج منه مقابلة من الغضب والرضا لها، وكذا بالعكس‏.‏
 
أما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها‏.‏ وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها، فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعيا في حرمانها إياها وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعيا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه‏.‏
فالغضب مثل السبع إذا أفلته صاحب بدأ بأكله، والشهوة مثل النار إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه فإن لم يهلكك طردك عنه، والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك، والذي يغلب شهوته وغضبه يفرق ‏ الشيطان من ظله، ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله‏.‏
 
== صفات الجهال بالله ==
الجهال بالله وأسمائه وصفاته المعطلون لحقائقها يبغضون الله إلى خلقه ، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون ونحن نذكر من ذلك أمثلة تحتذي عليها‏.‏
 
فمنها‏:‏ أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة، وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه ‏.‏ وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره ، بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى الماخور، ومن التوحيد والمسبحة إلى الشرك والمزمار ‏.‏ ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر ‏.‏ ويروون في ذلك آثارا صحيحة لم يفهموها ، وباطلة لم يقلها المعصوم، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد، ويتلون على ذلك قوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏لا يسأل عما يفعل ‏» ‏، وقوله ‏:‏ ‏ «‏أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون‏» ‏ سورة الأعراف ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏99‏ وقوله ‏:‏ «‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه‏» ‏ الأنفال ‏:‏ الآية رقم :‏24‏‏ ، ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة وأنه كان طاووس الملائكة وأنه لم يترك في السماء رقعة في الأرض ولا بقعة إلا وله فيها سجدة أو ركعة ، لكن جنى عليه جاني القدر وسطا عليه الحكم فقلب عينه الطيبة وجعلها أخبث شيء حتى قال بعض عارفيهم‏:‏ إنك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الذي يثب عليك بغير جرم منك ولا ذنب أتيته إليه ‏.‏ ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ « ‏إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‏» .‏
 
ويروون عن بعض السلف‏:‏ أكبر الكبائر الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله ‏.‏
وذكر الإمام أحمد عن عون بن عبد الله أو غيره أنه سمع رجلا يدعو:‏ اللهم لا تؤمني مكرك ، فأنكر ذلك وقال ‏:‏ قل اللهم لا تجعلني ممن يأمن مكرك‏.‏ و بنوا هذا على أصلهم الباطل وهو إنكار الحكمة والتعليل والأسباب، وأن الله لا يفعل لحكمة ولا بسبب إنما يفعل بمشيئته مجردة من الحكمة والتعليل والسبب ، فلا يفعل لشيء ولا بشيء ، وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب ، وينعم أعداءه أهل معصيته بجزيل الثواب ، وأن الأمرين بالنسبة إليه سواء ولا يعلم امتناع ذلك إلا بخبر من الصادق أنه لا يفعله ‏.‏ فحينئذ يعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنه لا يكون، لا لأنه في نفسه باطل وظلم ، فإن الظلم في نفسه مستحيل فإنه غير ممكن بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد، والجمع بين الليل والنهار في ساعة واحدة وجعل الشيء موجودا ومعدوما معا في آن واحد، فهذا حقيقة الظلم عندهم فإذا رجع العامل إلى نفسه قال ‏:‏ من لا يستقر له أمر ولا يؤمن له مكر ، كيف يوثق بالتقرب إليه‏؟‏ وكيف يعول على طاعته و اتباع أوامره وليس لنا سوى هذه المدة اليسيرة‏؟‏‏!‏ فإذا هجرنا فيها اللذات وتركنا الشهوات وتكلفنا أثقال العبادات وكنا مع ذلك غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفرا والتوحيد شركا والطاعة معصية والبر فجورا ويديم علينا العقوبات ، كنا خاسرين في الدنيا والآخرة‏.‏
 
فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم وتخمر في نفوسهم صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللذات بمنزلة إنسان جعل يقول لولده‏:‏ معلمك إن كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربما أقام لك حجة وعاقبك، وإن كسلت وبطلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربما قربك وأكرمك فيودع بهذا القول قلب الصبي ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة ولا وعده على الإحسان‏.‏ وإن كبر الصبي وصلح للمعاملات والمناصب قال به هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس فيجعله وزيراً أميراً ويأخذ الكيس المحسن لشغله فيخلده في الحبس ويقتله ويصلبه‏.‏ فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه وجعله يخاف مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة والبريء بالعذاب، فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة، فلا بفعل الخير يستأنس، ولا بفعل الشر يستوحش، وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا‏؟‏ ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا‏.‏
 
وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر ويرد على أهل البدع وينصر الدين، ولعمر الله العدو العاقل أقل ضرراً من الصديق الجاهل‏.‏ وكتب الله المنزلة كلها ورسله كلهم شاهدة بضد ذلك ولا سيما القرآن‏.‏ فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه لصح العالم صلاحاً لا فساد معه، فالله سبحانه أخبر وهو الصادق الوفي أنه إنما يعامل الناس بكسبهم ويجازيهم بأعمالهم ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً‏‏، ولا يخاف بخساً ولا رهقا‏‏، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة ولا يظلمها ‏ «‏وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً‏» ‏، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ولا يضيعها عليه‏.‏ وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويحبطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‏.‏
 
وهو الذي أصلح الفاسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين، وهدى الضالين وأنقذ الهالكين، وعلم الجاهلين، وبصر المتحيرين وذكر الغافلين، وآوى الشاردين‏.‏ وإذا أوقع عقابا أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه والإقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة، حتى إذا أيس من استجابته والإقرار بربوبيته ووحدانيته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده بحيث يعذر العبد من نفسه و يعترف بأنه سبحانه لم يظلمه وأنه هو الظالم لنفسه كما قال تعالى عن أهل النار‏:‏ ‏ «‏فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير‏» ‏ سورة الملك، الآية 11‏‏ ، وقال عمن أهلكهم في الدنيا إنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا‏:‏ ‏ «‏يا ويلنا إنا كنا ظالمين‏.‏ فمازالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين‏» ‏ الأنبياء‏:‏ 14-15‏، وقال أصحاب الجنة ‏ التي أفسدها عليهم لما رأوها‏:‏ ‏ «‏قالوا سبحان الله إنا كنا ظالمين‏» ‏ القلم‏:‏ 29‏، قال الحسن لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏ «‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏» ‏ الأنعام‏:‏ 45.فهذه الجملة في موضع الحال أي قطع دابرهم حال كونه سبحانه محمودا على ذلك فقطع دابرهم قطعا مصاحباً لحمده، فهو قطع وإهلاك يحمد عليه الرب تعالى لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها‏.‏ فوضعها في الوضع الذي يقول من علم الحال‏:‏ لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة، ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاء إلى النار‏:‏ ‏ «‏وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين» ‏الزمر‏:‏ 75‏‏، فحذف فاعل القول إشعارا بالعموم وأن الكون كله قال‏:‏ ‏ «‏الحمد لله رب العالمين» ‏ لما شهدوا من حكمه الحق وعدله وفضله‏.‏ ولهذا قال في حق أهل النار‏:‏ ‏ «‏قيل ادخلوا أبواب جهنم» ‏ ‏‏الزمر‏:‏ 72‏‏، كأن الكون كله يقول ذلك حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم، وهو سبحانه يخبر أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه ولا يعمه بالهلاك بمحض المشيئة‏.‏
 
ولما سأله نوح نجاة ابنه أخبر أنه يغرقه بسوء عمله وكفره، ولم يقل إني أغرقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا سبب ولا ذنب، وقد ضمن سبحانه زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم‏.‏
 
وكذلك ضمن زيادة الهداية للمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه لما تحققه وعرفه، وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته ولا تليق بها كرامته‏.‏ وقد أزاح سبحانه العلل وأقام الحجج ومكن من أسباب الهداية لا يضل إلا الفاسقين والظالمين ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين ولا يركس في الفتنة ‏ إلا المنافقين بكسبهم وأن الرين ‏ الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال ‏:‏ ‏ «‏كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون‏» ‏ سورة المطففين ‏:‏ الآية رقم:‏14‏‏ وقال عن أعدائه من اليهود‏:‏ ‏ «‏وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم‏» ‏ النساء ‏:‏ الآية رقم :‏155‏‏ وأخبر أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقى، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى والغي على الرشاد ، ويكون مع نفسه وشيطانه وعدو ربه عليه‏.‏
 
 
== مكر الله عز وجل ==
وأما المكر الذي وصف به نفسه فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكره السيئ بمكره الحسن ، فيكون المكر منهم أقبح شيء ومنه أحسن شيء لأنه عدل ومجازاة‏.‏ وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه ، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر‏.‏
 
وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏ «‏لم يبق بينه وبينها إلا ذراع‏» ‏ يشكل على هذا التأويل ، فيقال ‏:‏ لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خذل بها في آخر عمره فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة فرجع إلى موجبها وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه‏.‏ لقد أورده مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سبب منه يقتضي إفساده عليه، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض‏.‏
 
وأما شأن إبليس‏:‏ فإن الله سبحانه قال للملائكة‏:‏ ‏ «‏إني أعلم ما لا تعلمون‏» ‏ ‏سورة البقرة ‏:‏ الآية ‏:‏ 30 ‏‏ فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمروا بالسجود ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد فبادروا إلى الامتثال ، وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد فأبى واستكبر وكان من الكافرين‏.‏
 
أما خوف أوليائه من مكره فحق ، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء ، فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته ، وقوله ‏:‏ ‏ «‏أفأمنوا مكر الله‏» ‏ سورة الأعراف ، الآية رقم ‏‏99‏‏ إنما هو في حق الفجار والكفار‏.‏ ومعنى الآية ‏:‏ فلا يعصي و يأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون ‏.‏ والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع اغترار فيأنسوا بالذنوب فيجيئهم العذاب على غرة وفترة‏.‏
 
وأمر آخر‏:‏ وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته فيسرع إليهم البلاء والفتنة فيكون مكره بهم تخلية عنهم‏.‏
وأمر آخر‏:‏ أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم ، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون‏.‏
وأمر آخر‏:‏ أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه، فيفتنون به ، وذلك مكر‏.‏
 
== شجرة الإخلاص ==
السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها ‏.‏ فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل‏.‏ وإنما يكون الجداد ‏‏ يوم المعاد، فعند الجداد يتبين حلو الثمار من مرها‏.‏
 
والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة ‏.‏ وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك‏.‏
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهم، والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم‏.‏ وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم‏.‏
 
== مراتب السعادة ==
إذا بلغ العبد أعطى عهده الذي عهد إليه خالقه ومالكه، فإذا أخذ عهده بقوة وقبول وعزم على تنفيذ ما فيه صلح للمراتب والمناصب التي يصلح لها الموفون بعهودهم ، فإذا هز نفسه عند أخذ العهد و انتحاها وقال قد أُهِّلْت لعهد ربي فمن أولى بقبوله وفهمه وتنفيذه مني‏؟‏ فحرص أولا على فهم عهده وتدبره وتعرفه وصايا سيده له، ثم وطن نفسه على امتثال ما في عهده والعمل به وتنفيذه حسبما تضمنه عهده، فأبصر بقلبه حقيقة العهد وما تضمنه، فاستحدث همة أخرى وعزيمة غير العزيمة التي كان فيها وقت الصبا، قبل وصول العهد، فاستقال من ظلمة غرة الصبا والانقياد للعادة والمنشأ، وصبر على شرف الهمة وهتك ستر الظلمة إلى نور اليقين، فأدرك بقدر صبره وصدق اجتهاده ما وهبه الله له من فضله‏.‏
 
فأول مراتب سعادته أن تكون له أذن واعية ، وقلب يعقل ما تعيه الأذن‏.‏ فإذا سمع وعقل واستبانت له الجادة ورأى عليها تلك الأعلام ، ورأى أكثر الناس منحرفين عنها يمينا وشمالا فلزمها ولم ينحرف مع المنحرفين الذين كان سبب انحرافهم عدم قبول العهد أو قبلوه بكره ولم يأخذوه بقوة ولا عزيمة ولا حدثوا أنفسهم بفهمه وتدبره والعمل بما فيه وتنفيذ وصاياه، بل عرض عليهم العهد ومعهم ضراوة الصبا ودين العادة وما ألفوا عليه الآباء والأمهات، فتلقوا العهد تلقي من هو مكتف بما وجد عليه آباءه وسلفه، وعادتهم لا تكفي من يجمع همه وقلبه على فهم العهد والعمل به ، حتى كأن ذلك العهد أتاه وحده وقيل له تأمل ما فيه ثم اعمل بموجبه فإذا لم يتلق عهده هذا التلقي أخلد إلى سيرة القرابة وما استمرت عليه عادة أهله وأصحابه وجيرانه وأهل بلده، فإن علت همته أخلد إلى ما عليه سلفه ومن تقديمه من غير التفات إلى تدبر العهد وفهمه فرضي لنفسه أن يكون دينه دين العادة ، فإذا شامه الشيطان‏‏ ورأى هذا مبلغ همته وعزيمته ، رماه بالعصبية والحمية للآباء وسلفه وزين له أن هذا هو الحق وما خالفه باطل، ومثل له الهدى في صورة الضلال ، والضلال في صورة الهدى، بتلك العصبية والحمية التي أسست على غير علم، فرضاه أن يكون مع عشيرته وقومه له ما لهم وعليه ما عليهم، فخذل عن الهدى و ولاه الله ما تولى، فلو جاءه كل هدى يخالف قومه وعشيرته لم يره إلا ضلالة ‏.‏
 
وإذا كانت همته أعلى من ذلك ونفسه أشرف وقدره أعلى، أقبل على حفظ عهده وفهمه وتدبره، وعلم أن لصاحب العهد شأنا ليس كشأن غيره، فأخذ نفسه بمعرفته من نفس العهد، فوجده قد تعرف إليه وعرفه نفسه وصفاته وأسماءه وأفعاله وأحكامه، فعرف من ذلك العهد قيما بنفسه مقيما لغيره غنيا عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه مستو على عرشه فوق جميع خلقه، يرى ويسمع ويرضى ويغضب ويحب ويبغض ويدبر أمر مملكته ، وهو فوق عرشه متكلم آمر ناه يرسل رسله إلى أقطار مملكته بكلامه الذي يسمعه من يشاء من خلقه، وأنه قائم بالقسط مُجاز بالإحسان والإساءة، وأنه حليم غفور شكور جواد محسن موصوف بكل كمال منزه عن كل عيب ونقص وأنه لا مثل له‏.‏ ويشهد حكمته في تدبير مملكته وكيف يقدر مقاديره بمشيئته غير مضادة لعدله وحكمته، وتظاهر عنده العقل و الشرع والفطرة فصدق كل منهما صاحبيه وفهم عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه التي بها نزل الكتاب و بها نطق ولها أثبت وحقق، و بها تعرف إلى عباده حتى أقرت به العقول وشهدت به الفطر‏.‏
 
فإذا عرف بقلبه وتيقن صفات صاحب العهد أشرقت أنوارها على قلبه فصارت له كالمعاينة، فرأى حينئذ تعلقها بالخلق والأمر وارتباطهما بها وسريان آثارها في العالم الحسي والعالم الروحي، ورأى تصرفها في الخلائق كيف عمت وخصت وقربت وأبعدت وأعطت ومنعت، فشاهد بقلبه مواقع عدله سبحانه وقسطه وفضله ورحمته، واجتمع له الإيمان بلزوم حجته مع نفوذ أقضيته وكمال قدرته مع كمال عدله وحكمته ونهاية علوه على جميع خلقه مع إحاطته ومعيته وعظمته وجلاله وكبريائه وبطشه وانتقامه مع رحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه ‏.‏ ورأى لزوم الحجة مع قهر المقادير التي لا خروج لمخلوق عنها ‏.‏ وكيف اصطحاب الصفات وتوافقها وشهادة بعضها لبعض، وانعطاف الحكمة التي هي نهاية وغاية على المقادير التي هي أول بداية ‏.‏ ورجوع فروعها إلى أصولها ومبادئها إلى غاياتها حتى كأنه مشاهد مبادئ الحكمة، وتأسيس القضايا على وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة والإحسان، ولا تخرج قضية عن ذلك إلى انقضاء الأكوان وانفصال الأحكام يوم الفضل بين العباد وظهور عدله وحكمته وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة، إنسها وجنها ، مؤمنها وكافرها‏.‏
 
وحينئذ يتبين من صفات جلاله ونعوت كماله للخلق ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك، حتى أن أعرف خلقه به في الدنيا يثني عليه يومئذ من صفات كماله ونعوت جلاله ما لم يكن يحسنه في الدنيا، وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم الأسباب التي بها زاغ الزائغون وضل الضالون وانقطع المنقطعون ، فيكون الفرق بين العلم يومئذ بحقائق الأسماء والصفات والعلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنار ومشاهدتهما وأعظم من ذلك‏.‏
 
وكذلك يفهم من العهد كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع وألا يترك خلقه سدى، وكيف اقتضت ما تضمنته من الأوامر والنواهي، وكيف اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد، وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته بحيث ينزه عما زعم أعداؤه من إنكار ذلك، ويرى شمول القدرة وإحاطتها بجميع الكائنات حتى لا يشذ عنها مثقال ذرة، ويرى أنه لو كان معه إله آخر لفسد هذا العالم فكانت تفسد السموات والأرض ومن فيهن، وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدك ‏ هذا العالم بأسره ولم يثبت طرفة عين ‏.‏ ويرى مع ذلك الإسلام والإيمان اللذين تعبد الله بهما جميع عباده كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة، وكيف اقتضيا الثواب والعقاب عاجلا وآجلا‏.‏ ويرى مع ذلك أنه لا يستقيم قبول هذا العهد والتزامه لمن جحد صفاته وأنكر علوه على خلقه وتكلمه بكتبه وعهوده، كما لا يستقيم قبوله لمن أنكر حقيقة سمعه وبصره وحياته وإرادته وقدرته، وأن هؤلاء هم الذين ردوا عهده وأبوا قبوله، وأن من قبله منهم لم يقبله بجميع ما فيه، والله التوفيق‏.‏
 
 
== الجسد والروح ==
خلق بدن ابن آدم من الأرض وروحه من ملكوت السماء وقرن بينهما‏.‏ فإذا أجاع بدنه و أسهره وأقامه في الخدمة وجدت روحه خفة وراحة فتاقت إلى الموضع الذي خلت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي ‏.‏ وإذا أشبعه ونعمه ونومه واشتغل بخدمته وراحته، أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه فانجذبت الروح معه فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه كما يستغيث المعذب‏.‏
 
وبالجملة فكلما خف البدن لطفت الروح وخفت وطلبت عالمها العلوي وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها وصارت أرضية سفلية ، فترى الرجل‏:‏ روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك، فيكون نائما على فراشه وروحه في السفل تجول حول السفليات‏.‏ فإذا فارقت الروح البدن التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا‏» ‏ سورة طه ، الآية 124‏‏ فذِكْره كلامه الذي أنزله على رسوله والإعراض عنه ترك تدبره والعمل به ‏.‏ والمعيشة الضنك ، فأكثر ما جاء في التفسير‏:‏ أنها عذاب القبر، قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس، وفيه حديث مرفوع‏.‏
 
وأصل الضنك في اللغة‏:‏ الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال‏:‏ منزل ضنك وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة، فإن النفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكا، وكلما ضيقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح و ينفسح‏.‏ فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما و أدومهما، وأشق البدن بنعيم الروح ولا تشق الروح بنعيم البدن، فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم ، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون‏,‏ والله المستعان‏.
 
 
== ترك الذنوب أولا ==
العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها ، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، فترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة‏.‏
 
فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم الفريضة ‏!‏ فإن صعب عليهم ترك الذنوب فاجتهد أن تحبب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وصفات كماله ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته‏.‏ فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها والاستقلال منها‏.‏ وقد قال يحيى بن معاذ‏:‏ ‏ « ‏طلب العاقل للدنيا خير من ترك الجاهل لها‏ » ‏‏.‏
 
العارف يدعو الناس إلى الله من دنياهم فتسهل عليهم الإجابة، والزاهد يدعوهم إلى الله بترك الدنيا فتشق عليهم الإجابة ‏.‏ فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقل الإنسان نفسه إلا وهو يرتضع منه ،شديد ،ولكن تخير من المرضعات أزكاهن وأفضلهن ، فإن للبن تأثيرا في طبيعة المرتضع، ورضاع المرأة الحمقى يعود بحمق الولد‏.‏ وأنفع الرضاعة ما كان من المجامعة، فإن قويت على مرارة الفطام وإلا فارتضع بقدر فإن من البشم ‏‏ ما يقتل‏.‏
 
== ثلاث فوائد ==
بين رعاية الحقوق مع الضر ورعايتها مع العافية بون بعيد‏.‏
إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه‏ « ‏قرن الإنسان‏:‏ هو الذي يكافئه في القدرة والشجاعة‏‏ » ‏:‏ ‏ «‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون‏» ‏ سورة الأنفال ، الآية 45‏‏
ليس العجب من صحيح فارغ واقف مع الخدمة، إنما العجب من ضعيف سقيم تعتوره الأشغال وتختلف عليه الأحوال وقلبه واقف في الخدمة غير متخلف بما يقدر عليه‏.‏
 
== معرفة الله ==
معرفة الله سبحانه نوعان ‏:‏
« الأول ‏:‏ » معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي‏.
«‏ والثاني‏:‏» معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه‏.‏ وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم وتفاوتهم فيها لا يحصيه إلا الذي عرفهم بنفسه وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم وكل أشار إلى هذه المعرفة بحسب مقام وما كشف له منها‏.‏ وقد قال أعرف الخلق به ‏ ‏:‏ ‏ «‏لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏» ‏ ، وأخبر أنه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن‏.‏
 
ولهذه المعرفة بابان واسعان‏:‏
«الباب الأول‏:» ‏ التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله‏.‏
«والباب الثاني‏:‏» التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامة بالقسط على خلقه‏.‏ وجماع ذلك‏:‏ الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر، فيكون فقيها في أوامره ونواهي، فقيها في قضائه وقدره ، فقيها في أسمائه وصفاته، فقيها في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري ، و ‏«‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏» ‏‏.
 
 
 
== أفضل الكسب وشره ==
الدراهم أربعة‏:‏ درهم اكتسب بطاعة الله وأخرج في حق الله فذاك خير الدراهم، ودرهم اكتسب بمعصية الله وأخرج في معصية الله فذاك شر الدراهم، ودرهم اكتسب بأذى مسلم وأخرج في أذى مسلم فهو كذلك، ودرهم اكتسب بمباح وأنفق في شهوة مباحة فذاك لا له ولا عليه‏.‏
هذه أصول الدراهم، ويتفرع عليها دراهم أخر‏:‏ منها درهم اكتسب بحق وأنفق في باطل ، ودرهم اكتسب بباطل وأنفق في حق فإنفاقه كفارته، ودرهم اكتسب من شبهة فكفارته أن ينفق في طاعة، وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم بإخراج الدرهم فكذلك يتعلق باكتسابه ‏.‏ وكذلك يسأل عن مستخرجه ومصروفه من أين اكتسبه وفيما أنفقه‏.‏
 
== مواساة المؤمنين ==
المواساة للمؤمنين أنواع‏:‏ مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد ، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم‏.‏ وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة ‏.‏ فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة ، وكلما قوي قويت‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له‏.‏
ودخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا‏:‏ ما هذا يا أبا نصر‏؟‏ فقال‏:‏ ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم، فأحببت أن أواسيهم في بردهم‏.‏
 
 
== الجهل يوجب التعب ==
الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة، فإن صاحبه إما أن يجتهد في نافلة مع إضافة الفرض أو في عمل بالجوارح لم يواطئه عمل القلب، أو عمل بالباطن والظاهر لم يتقيد بالاقتداء ، أو همة إلى عمل لم ترق بصاحبها إلى ملاحظة المقصود ، أو عمل لم يحترز من آفاته المفسدة له حال العمل وبعده، أو عمل غفل فيه عن مشاهدة المنة فلم يتجرد عن مشاركة النفس فيه، أو عمل لم يشهد تقصيره فيه فيقوم في مقام الاعتذار منه، أو عمل لم يوفه حقه من النصح والإحسان وهو يظن أنه وفاه، فهذا كله مما ينقص الثمرة مع كثرة التعب، والله الموفق‏.‏
 
 
== الرحلة إلى الله وما يعترضها ==
إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضت له الخوادع والقواطع، فينخدع أولا بالشهوات و الرياسات والملاذ و المناكح والملابس‏.‏ فإن وقف معها انقطع وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتلي بوطء عقبه‏‏ وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته، ونحو ذلك فإن وقف معه انقطع به عن الله وكان حظه منه، وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات و الكشوفات ، فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الوحدة والفراغ من الدنيا‏.‏ فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود ، وإن لم يقف معه وسار ناظرا إلى مراد الله منه وما يحبه منه بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت وكيف كانت، تعب بها أو استراح، تنعم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم ،لا يختار لنفسه غير ما يختاره له وليه وسيده ، واقف مع أمره ينفذه بحسب الإمكان ، ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره‏.‏ فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيء ألبتة، وبالله التوفيق‏.‏
 
 
 
== أنواع النعم ==
النعم ثلاثة‏:‏ نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها ، ونعمة هو فيها لا يشعر بها ، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرفه نعمته الحاضرة وأعطاه من شكره قيدا يقيدها به حتى لا تشرد،فإنها تشرد بالمعصية وتقيد بالشكر‏.‏ ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة وبصَّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ووفقه لاجتنابها‏.‏ وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها‏.‏
ويحكى أن أعرابيا دخل على الرشيد، فقال ‏:‏ يا أمير المؤمنين ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها‏.‏ فأعجبه ذلك منه وقال‏:‏ ما أحسن تقسيمه‏.‏
 
 
== مبدأ كل علم وعمل ==
مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات ، والتصورات تدعو إلى الإرشادات ، والإرشادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة‏.‏ فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها ‏.‏ فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته و محابه، فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء ‏.‏ فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضرا معه مشاهدا له ناظرا إليه رقيبا عليه مطلعا على خواطره وإرادته وهمه‏.‏ فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليه مخلوق مثله أو يرى في نفسه خاطرا يمقته عليه‏.‏
 
فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقربه منه، وأكرمه واجتباه ووالاه ، وبقدر ذلك يبعد عن الأوساخ و الدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة‏.‏ كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ و الدناءات والأقذار، ويقطع عن جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص‏.‏
 
فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه ‏.‏ وشر المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته‏.‏ فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكم رشده على غيه وهداه على هواه ‏.‏ ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده‏.‏
 
 
 
== الخطرات والوساوس ==
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر‏.‏ فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة ، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها‏.‏
 
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان أمانة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة ‏:‏ ‏ « ‏يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه ما إن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال‏:‏ أوقد وجدتموه ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نعم ، قال‏:‏ ذلك صريح الإيمان» ‏أخرجه مسلم في باب الإيمان ، وأبو داود في كتاب الأدب‏‏ ‏ وفيه قولان:
«أحدهما‏:» ‏ أن رده وكراهته صريح الإيمان‏.‏
«والثاني‏:‏» أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان، فإنه إنما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الإيمان وإزالته به‏.‏
 
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه ، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره ، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه‏.‏
 
 
 
== القلب لا يخلو من الأفكار ==
فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكرا جوالا فاستخدم الإرادة فتساعدك هي والفكر على استخدام الجوارح فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب ‏ بالتمني والشهوة وتوجهه إلى جهة المراد، ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار ، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات ، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد‏.‏فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي لا تبتعد بها أو تقرب من إلهك و معبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك‏.‏
 
وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تدراكه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك ، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك‏.‏ فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب و بعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا‏.‏
 
والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك، وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها أو في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوى عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه‏.‏
 
وجماع إصلاح ذلك‏:‏ أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار‏.‏ وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها‏.‏ وفي باب الإرادات و العزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته ‏.‏ وعند العارفين أن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة، ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها ، فإن تمنيها يشغل القلب ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده‏.‏
 
وأنت تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئ منها، وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله، فإذا اطلع على سره وقصده مقته غاية المقت وأبغضه وقابله بما يستحقه ، وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسره مع الملك غير منطو على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها، فالأول يتركها عجزا واشتغالا بما هو فيه وقلبه ممتلئ بها، والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة ولا الإصرار عليها، فهذا أحسن حالا وأسلم عاقبة من الأول‏.‏
 
وبالجملة ، فالقلب لا يخلو قط من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه ، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة ، وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقى فيها ، فإن ألقيت فيها حبا دارت به وإن ألقيت فيها زجاجا وحصى و بعرا دارت به، والله سبحانه هو قيم‏‏ تلك الرحى ومالكها ومصرفها وقد أقام لها ملكا يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانا يلقي فيها ما يضرها فتدور به، فالملك يلم بها مرة والشيطان يلم بها مرة ،فالحب الذي يلقيه الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ،والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد والطحين على قدر الحب، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب وقيمها قد أهملها وأعرض عنها، فحينئذ يبادر إلى إلقاء ما معه فيها‏.‏
 
وبالجملة، فقيم الرحى إذا تخلى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحب النافع فيها وجد العدو السبيل إلى إفسادها وإدارتها بما معه‏.‏ وأصل صلاح هذه الرحى بالاشتغال بما يعنيك، وفسادها كله في الاشتغال بما لا يعنيك، وما أحسن ما قال بعض العقلاء‏:‏ لما وجدت أنواع الذخائر منصوبة غرضا للمتألف ، ورأيت الزوال حاكما عليها مدركا لها، انصرفت عن جميعها إلى ما لا ينازع فيه ذو الحجا ‏ أنه أنفع الذخائر وأفضل المكاسب وأربح المتاجر، والله المستعان‏.‏
 
 
== شرف النفس ==
قال شقيق بن إبراهيم‏‏‏:‏ أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء‏:‏
اشتغالهم بالنعمة عن شكرها ، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها‏.‏
 
قلت‏:‏ وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة ، وأصله ضعف اليقين ، وأصله ضعف البصيرة ، وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير‏.‏ وإلا فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون‏.‏ فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكبرها‏.‏ ‏ «‏وقد خاب من دساها‏» ‏ ‏سورة الشمس ، الآية رقم 9-10‏‏، أي أفلح من كبرها وكثرها ونماها بطاعة الله، وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله‏.‏
 
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار‏.‏ فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ ، والنفس المهنية الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك‏.‏ فكل نفس تميل إلى ما يناسبها و يشاكلها ، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏قل كل يعمل على شاكلته‏» ‏ ‏الإسراء ‏:‏ 84‏‏، أي على ما يشاكله ويناسبه فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها ‏.‏ فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم ومحبته والثناء عليه والتودد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله‏.‏
 
== لا يعرف خالقه من لا يعرف نفسه ==
من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه‏؟‏ فاعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتا وهو القلب ، ووضع في صدره عرشا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه‏.‏ والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستوى على سرير القلب وعلى السرير بساط من الرضا ‏.‏ ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره وفتح إليه بابا من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس ، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة ، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه‏.‏ وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه والعمل بوصاياه ‏.‏
 
وعلق في ذلك البيت قنديلا أسرجه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏.‏ ثم أحاط عليه حائطا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان فلا يلحقه أذاهم ‏.‏ وأقام عليه حرسا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه، ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائما همه إصلاح السكن ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلا‏.‏ وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن ونعم المسكن‏.‏
 
فسبحان الله رب العالمين ، كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب وصار مأوى للحشرات والهوام ومحلا لإلقاء الأنتان والقاذورات فيه‏.‏ فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها ولا حافظ لها وهي معدة لقضاء الحاجة مظلمة الأرجاء منتنة الرائحة قد عمها الخراب وملأتها القاذورات ، فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام‏.‏ الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط من الجهل وتخفق فيه أهواء وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات‏.‏ وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة والركون إلى الدنيا والطمأنينة بها والزهد في الآخرة ، وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع ما أثبت فيه أصناف الشوك والحنظل والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات من الزوائد و التنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات والأشعار الغزليات والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات وتزهد في الطاعات ‏.‏ وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون والذهاب مع كل ريح و اتباع كل شهوة، ومن ثمرها الهموم و الغموم والأحزان والآلام ‏.‏ ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها، فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق ومعيشة ضنك ، وأجري إلى تلك الشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى وطول الأمل والغرور‏.‏
 
ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان ولا مؤذ ولا قذر، فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت، فمن عرف بيته وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه، ومن جهل ذلك جهل نفسه وأضاع سعادته، وبالله التوفيق‏.‏
 
سئل سهل التستري‏:‏ الرجل يأكل في اليوم أكلة‏؟‏ قال‏:‏ أكل الصديقين ، قيل له‏:‏ فأكلتين‏؟‏ قال‏:‏ أكل المؤمنين، قيل له‏:‏ فثلاث أكلات‏؟‏ فقال‏:‏ قل لأهله يبنوا له معلفا‏.‏
قال الأسود بن سالم‏:‏ ركعتين أصليهما لله أحب إلي من الجنة بما فيها‏.‏ فقيل له‏:‏ هذا خطأ، فقال‏:‏ دعونا من كلامكم، الجنة رضا نفسي والركعتان رضا ربي ، ورضا ربي أحب إلي من رضا نفسي‏.‏
العارف في الأرض ريحانة من رياحين الجنة، إذا شمها المريد اشتاقت نفسه إلى الجنة ‏.‏
قلب المحب موضوع بين جلال محبوبه وجماله فإذا لاحظ جلاله هابه وعظمه ، وإذا لاحظ جماله أحبه واشتاق إليه‏.‏
 
 
 
== مراتب معرفة الله ==
من الناس من يعرف الله بالجود و الإفضال والإحسان، ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز، ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام، ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء، ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر واللطف ومنهم من يعرفه بالقهر والملك، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته‏.‏
وأهم هؤلاء معرفة من عرفه من كلامه، فإنه يعرف ربا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن المثال، بريء من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن وكل وصف كمال، فعال لما يريد، فوق كل شيء ومع كل شيء، وقادر على كل شيء ، ومقيم لكل شيء ، آمر ناه متكلم بكلماته الدينية والكونية، أكبر من كل شيء وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين وأقدر القادرين وأحكم الحاكمين‏.‏ فالقرآن أنزل لتعريف عباده به وبصراطه الموصول إليه وبحال السالكين بعد الوصول إليه‏.‏
 
 
 
 
== إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ==
من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له، فيملها ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها واستحكم ملله لها سلبه الله إياها ‏.‏ فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه، اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمة عليه ورضاه به وأوزعه شكره عليه، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها، مفوض إلى الله طالب منه حسن اختياره له‏.‏
 
وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة ‏.‏ هذا وهي من أعظم نعم الله عليه، فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمة، وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلما‏.‏ فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساع في ردها بجهده، وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله، قال تعالى‏:‏‏ «‏ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‏» ‏ سورة الأنفال ‏:‏ الآية رقم :‏53‏ ‏ ‏، وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‏» ‏ الرعد ‏:‏ الآية رقم :‏11‏ ‏ ‏‏ فليس للنعم أعدى من نفس العبد، فهو مع عدوه ظهير على نفسه ، فعدوه يطرح النار في نعمة وهو ينفخ فيها، فهو الذي مكنه من طرح النار ثم أعانه بالنفخ، فإذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق وكان غايته معاتبة الأقدار‏:‏
 
 
 
وعاجز الرأي مضياع لفرصته * * * حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
 
 
 
 
== جمال الله عز وجل ==
من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه بالجمال، وهي معرفة خواص الخلق ، وكلهم عرفه بصفة من صفاته وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة ، ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله أنه لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته ‏‏ ما انتهى إليه بصره من خلقه‏.‏ ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته ، فما الظن بمن صدر منه هذا الجمال‏.‏
 
ويكفي في جماله أنه له العزة جميعا والقوة جميعا والجود كله والإحسان كله والعلم كله والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف‏‏‏:‏ ‏ « ‏أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة » وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه، فهو سبحانه نور السموات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره‏.‏
ومن أسمائه الحسنى ‏ « ‏الجميل‏» ‏ وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ « إن الله جميل يحب الجمال‏» ‏ ‏‏رواه مسلم ، وابن ماجة ، وأحمد بن حنبل‏‏
وجماله سبحانه على أربع مراتب‏:‏ جمال الذات، وجمال الصفات ، وجمال الأفعال ، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كله صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة‏.‏ وأما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده ، فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار محجوب بستر الرداء والإزار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن‏:‏ ‏ « ‏الكبرياء ردائي والعظمة إزاري‏» ‏‏.‏ ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء ، فإنه سبحانه الكبير المتعال فهو سبحانه العلي العظيم‏.‏
قال ابن عباس ‏:‏ حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال ، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وستر بنعوت العظمة والجلال‏.‏
ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات ، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات‏.‏ فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات‏.‏
ومن هنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وأنه يستحق أن يعبد لذاته ويحب لذاته ويشكر لذاته، وأنه سبحانه يحب نفسه ويثني على نفسه ويحمد نفسه، وأن محبته لنفسه وحمده لنفسه وثناءه على نفسه وتوحيده لنفسه هو في الحقيقة الحمد والثناء والحب والتوحيد، فهو سبحانه كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه ، وهو سبحانه كما يحب ذاته يحب صفاته وأفعاله، فكل أفعاله حسن محبوب وإن كان في مفعولاته ‏ ما يبغضه ويكرهه، فليس في أفعاله ما هو مكروه مسخوط ، وليس في الوجود ما يحب لذاته ويحمد لذاته إلا هو سبحانه، وكل ما يحب سواه فإن كانت محبته تابعة لمحبته سبحانه بحيث يحب لأجله فمحبته صحيحة وإلا فهي محبة باطلة، وهذا هو حقيقة الإلهية، فإن الإله الحق هو الذي يحب لذاته ويحمد لذاته‏.‏ فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه وإنعامه وحلمه وتجاوزه وعفوه وبره ورحمته‏؟‏‏!‏
 
فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله، وأن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة و الباطنة إلا هو فيحبه لإحسانه وإنعامه ويحمده على ذلك فيحبه من الوجهين جميعا، وكما أنه ليس كمثله شيء فليس كمحبته محبة‏.‏ والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق لأجلها،فإنها غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا له سبحانه ، والإشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملا‏.‏
 
وحمده يتضمن أصلين‏:‏ الإخبار بمحامده وصفات كماله، والمحبة له عليها، فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامدا، ومن أحبه من غير إخبار بمحاسنه لم يكن حامدا حتى يجمع الأمرين، وهو سبحانه يحمد نفسه بنفسه، ويحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ، فهو الحامد لنفسه بهذا وهذا ، فإن حمدهم له بمشيئته وإذنه وتكوينه، فإنه هو الذي جعل الحامد حامدا والمسلم مسلما والمصلي مصليا والتائب تائبا، فمنه ابتدات النعم وإليه انتهت فابتدأت بحمده وانتهت إلى حمده، وهو الذي ألهم عبده التوبة وفرح بها أعظم فرح، وهي من فضله وجوده‏.‏ وألهم عبده الطاعة وأعانه عليها ثم أثابه عليها وهي من فضله وجوده وهو سبحانه غني عن كل ما سواه بكل وجه، وما سواه فقير إليه بكل وجه، والعبد مفتقر إليه لذاته في الأسباب والغايات، فإن ما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع‏.‏
 
== الله جميل يحب الجمال ==
وقوله في الحديث ‏:‏ ‏ « ‏إن الله جميل يحب الجمال‏ » ‏ يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث ‏.‏ ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء كما في الحديث الآخر‏:‏ ‏ « ‏إن الله نظيف يحب النظافة‏ » ‏ ‏.‏ وفي الصحيح ‏:‏ ‏ « ‏إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا‏ » ‏ ‏.‏ وفي السنن ‏:‏ ‏ « ‏إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده‏» ‏ ‏.‏وفيها عن أبي الأحوص الجشمي، قال ‏:‏ ‏ « ‏رآني صلى الله عليه وسلم وعليَّ أطمار، فقال‏:‏ هل لك من مال‏؟‏ قلت نعم، قال‏:‏ من أي المال‏؟‏ قلت‏:‏ من كل ما آتى الله من الإبل و الشاء ، قال ‏:‏ فلتر نعمته وكرامته عليك‏» ‏‏.‏
 
فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها‏.‏ ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباسا وزينة تجمل ظواهرهم ، وتقوى تجمل بواطنهم فقال‏:‏ ‏ «‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ‏» ‏ الأعراف ‏:‏ الآية 26 ‏، وقال في أهل الجنة ‏:‏ ‏ «‏ولقاهم نضرة وسرورا، و جزاهم بما صبروا جنة وحريرا‏» ‏ الإنسان ‏:‏ الآية 11- 12‏، فجعل وجوههم بالنضرة وبواطنهم بالسرور وأبدانهم بالحرير، وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة ، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة، فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال وأهله‏.‏ ولكن ضل في هذا الموضوع فريقان‏:‏ فريق قالوا كل ما خلقه جميل فهو يحب كل ما خلقه ونحن نحب جميع ما خلقه فلا نبغض منه شيئا، قالوا‏:‏ ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة ‏.‏ وأنشد منشدهم‏:‏
 
 
 
وإذا رأيت الكائنات بعينهم * * * فجميع ما يحوي الوجود مليح
 
 
واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏ «‏الذي أحسن كل شيء خلقه‏» السجدة‏:‏ الآية رقم ‏:‏ ‏‏7‏‏ ، وقوله‏:‏ ‏ «‏صنع الله الذي أتقن كل شيء‏» ‏‏ النمل ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ ‏88‏ ، وقوله ‏:‏ ‏ «‏ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت‏» ‏ الملك ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ ‏‏3‏ والعارف عندهم هو الذي يصرح بإطلاق الجمال ولا يرى في الوجود قبيحا‏.‏ وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم والبغض في الله والمعاداة فيه وإنكار المنكر والجهاد في سبيله وإقامة حدوده ويرى جمال الصور من الذكور والإناث من الجمال الذي يحبه الله، فيتعبدون بفسقهم وربما غلا بعضهم حتى يزعم أن معبوده يظهر في تلك الصورة ويحل فيها ‏.‏ وإن كان اتحاديا قال هي مظهر من مظاهر الحق ويسميها المظاهر الجمالية‏.‏
 
 
 
 
أنواع الجمال
وقابلهم الفريق الثاني فقالوا‏:‏ قد ذم الله سبحانه جمال الصور وتمام القامة والخلقة ، فقال عن المنافقين ‏:‏ ‏ «‏وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم‏» ‏ المنافقون‏:‏ الآية رقم :‏4‏‏ ، وقال ‏:‏ ‏ «‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا‏» ‏ مريم ‏:‏ الآية رقم :‏74‏‏ ، أي أموالا ومناظر ، قال الحسن ‏:‏ هو الصور، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ «‏إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏» ‏ ، قالوا ‏:‏ ومعلوم أنه لم ينف نظر الإدراك وإنما نفى نظر المحبة ‏.‏ قالوا ‏:‏ وقد حرم علينا لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا، وقال ‏:‏ ‏ «‏ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه‏» ‏ طه ‏:‏ الآية رقم :‏131‏‏ ، وفي الحديث ‏:‏ ‏ « ‏البذاذة من الإيمان‏» ‏ ، وقد ذم الله المسرفين ‏.‏ و السرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس‏.‏
 
وفصل النزاع أن يقال‏:‏ الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع‏:‏ منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم، فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود ‏.‏ وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه‏.‏ فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه‏.‏ فإن كثيرا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك‏.‏ وأما ما لا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين‏.‏
 
والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين ‏:‏ فأوله معرفة ، وآخره سلوك‏.‏ فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء ، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق ‏.‏ فيحب من عبده أن يحمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار، فيعرفه بصفات الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة ، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه ، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين‏:‏ المعرفة والسلوك‏.‏
 
 
 
 
 
 
 
صدق العزيمة والفعل
ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة ، فصدقه في عزمه وفي فعله ، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم‏» ‏ سورة محمد ‏:‏ الآية رقم :‏21‏‏ فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل ، فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوم، فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل ، وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه ، وألا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه ، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة ، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور ‏.‏ ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره‏.‏ وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص وصدق التوكل، فأصدق الناس من صح إخلاصه وتوكله‏.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
القدر‏-‏ إرادة العبد
رب ذو إرادة أمر عبدا ذا إرادة ، فإن وفقه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به ، وإن خذله وخلاه وإرادته ونفسه، وهو من هذه الحيثية لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعه ، فهو من حيث هو إنسان لا يريد على تلك الحيثية، وهو كونه مسلما ومؤمنا وصابرا ومحسنا وشكورا وتقيا وبرا ، ونحو ذلك ‏.‏ وهذا أمر زائد على مجرد كونه إنسانا وإرادته صالحة، ولكن لا يكفي مجرد صلاحيتها إن لم تؤيد بقدر زائد على ذلك وهو التوفيق ، كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك إن لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها ‏.‏
 
 
 
 
 
 
 
وقار الله
من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره ، فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها، قال تعالى‏:‏‏ «‏ما لكم لا ترجون لله وقاراً‏» ‏ سورة نوح ‏:‏ الآية رقم :‏13‏‏ أي لا تعاملونه معاملة من توقرونه، والتوقير‏:‏ العظمة‏.‏ ومنه قوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏وتوقروه‏» ‏ ، قال الحسن‏:‏ ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرونه‏؟‏‏!‏ قال مجاهد‏:‏ لا تبالون عظمة ربكم وقال ابن زيد ‏:‏ لا ترون لله طاعة ‏.‏ وقال ابن عباس ‏:‏ لا تعرفون حق عظمته‏.‏
 
وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم لو عظموا الله وعرفوا حق عظمته وحدوه وأطاعوه وشكروه، فطاعته سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب ‏.‏ ولهذا قال بعض السلف ‏:‏ ليعظم وقار الله في قلب أحدكم أن يذكره عندما يستحي من ذكره ، فيقرن اسمه به كما تقول ‏:‏ قبح الله الكلب والخنزير والنتن ونحو ذلك ، فهذا من وقار الله‏.‏
 
ومن وقاره ألا تعدل به شيئا من خلقه ، لا في اللفظ ، بحيث تقول ‏:‏ والله وحياتك ، ما لي إلا الله وأنت ، وما شاء الله وشئت ‏.‏ ولا في الحب والتعظيم والإجلال ، ولا في الطاعة ، فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله ، بل أعظم ، كما عليه أكثر الظلمة والفجرة ، ولا في الخوف والرجاء ‏.‏ ويجعله أهون الناظرين إليه ، ولا يستهين بحقه ويقول‏:‏ هو مبني على المسامحة ، ولا يجعله على الفضلة ، ويقدم حق المخلوق عليه ، ولا يكون الله ورسوله في حد وناحية ، والناس في ناحية وحد ، فيكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله ورسوله ، ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه ويعطي الله في خدمته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه ، ولا يجعل مراد نفسه مقدما على مراد ربه‏.‏
 
فهذا كله من عدم وقار الله في القلب ، ومن كان كذلك فإن الله لا يلقي له في قلوب الناس وقارا ولا هيبة، بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم ‏.‏ ومن وقار الله أن يستحي من اطلاعه على سره وضميره فيرى فيه ما يكره ‏.‏ ومن وقاره أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس‏.‏
والمقصود أن من لا يوقر الله وكلامه وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره وتعظيمه‏؟‏‏!‏
 
القرآن والعلم وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم صلات من الحق وتنبيهات و روادع و زواجر واردة إليك، والشيب زاجر ورادع وموقظ قائم بك، فلا ما ورد إليك وعظك‏!‏ ولا ما قام بك نصحك‏!‏ ومع هذا تطلب التوقير والتعظيم من غيرك‏!‏ فأنت كمصاب لم تؤثر فيه مصيبته وعظا و انزجارا، وهو يطلب من غيره أن يتعظ و ينزجر بالنظر إلى مصابه‏.‏ فالضرب لم يؤثر فيه زجرا وهو يريد الانزجار ممن نظر إلى ضربه‏.‏
 
من سمع بالمثلات والعقوبات والآيات في حق غيره ليس كمن رآها عيانا في غيره، فكيف بمن وجدها في نفسه‏؟‏ ‏ «‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم‏» ‏ سورة فصلت ‏:‏ الآية رقم :‏53‏‏ ، فآياته في الآفاق مسموعة معلومة ، وآياته في النفس مشهودة مرئية ، فعياذا بالله من الخذلان‏.‏
 
قال تعالى‏:‏ ‏ «‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏» ‏ سورة يونس ‏:‏ الآية رقم :‏96-97‏‏ ، وقال ‏:‏ ‏ «‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ‏» ‏ الأنعام ‏:‏ الآية رقم :‏111‏ ‏.
 
والعاقل المؤيد بالتوفيق يعتبر بدون هذا ويتمم نقائص خلقته بفضائل أخلاقه وأعماله، فكلما امتحى من جثمانه أثر زاد إيمانه أثر، وكلما نقص من قوى بدنه زاد في قوة إيمانه ويقينه في الله والدار الآخرة، وإن لم يكن هكذا فالموت خير له؛ لأنه يقف به على حد معين من الألم والفساد، بخلاف العيوب والنقائص مع طول العمر ، فإنها زيادة في ألمه وهمه وغمه وحسرته ، وإنما حسن طول العمر ونفع ليحصل التذكر والاستدراك واغتنام الغرض والتوبة النصوح كما قال تعالى‏:‏ ‏ «‏أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر‏» ‏ فاطر ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ 37‏‏ فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معايبه وتدارك فارطه واغتنام بقية أنفاسه فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم، وإلا فلا خير له في حياته، فإن العبد على جناح سفر إما إلى الجنة وإما إلى النار‏.‏ فإذا طال عمره وحسن عمله كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة، فإنه كلما طال السفر إليها كانت الصبابة أجل وأفضل ، وإذا طال عمره وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه ونزولا له إلى أسفل ‏.‏ فالمسافر إما صاعد وإما نازل ، وفي الحديث المرفوع‏:‏ ‏ «‏خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وقبح عمله‏» ‏رواه الترمذي و الدارمي وابن حنبل‏‏ ‏.‏
 
فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه، وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته، وكلما منع شيئا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته، وكلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته‏.‏ فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته أن زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده، كان رحمة به وخيرا له وإلا كان حرمانا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة أو ترك واجب ظاهر أو باطن، فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة، وبالله التوفيق‏.‏
 
 
 
 
 
 
 
الحياة طريق مسافر
الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين ، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار‏.‏ ومن المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر‏.‏ ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من آنات السفر غير واقفة، ولا المكلف واقف ، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير‏.‏
 
 
 
 
 
 
 
المشاهدة
عند العارفين أن الاشتغال بالمشاهدة عن البر ‏ في السير في السر وقوف ؛ لأنه في زمن المشاهدة لو كان صاحب عمل ظاهر أو باطن أو ازدياد من معرفة وإيمان مفصل كان أولى به، فإن اللطيفة الإنسانية تحشر على صورة عملها ومعرفتها وهمتها وإرادتها، والبدن يحشر على صورة عمله الحسن أو القبيح‏.‏ وإذا انتقلت من هذه الدار شاهدت حقيقة ذلك‏.‏ وعلى قدر قرب قلبك من الله تبعد من الأنس بالناس و مساكنتهم ، وعلى قدر صيانتك لسرك وإرادتك يكون حفظه‏.‏ وملاك ذلك صحة التوحيد ثم صحة العلم بالطريق ثم صحة الإرادة ثم صحة العمل‏.‏ والحذر كل الحذر من قصد الناس لك وإقبالهم عليك وأن يعثروا على موضع غرضك،فإنها الآفة العظمى‏.‏
 
 
 
 
 
 
مداخل الشيطان
كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات‏:‏
«أحدها‏:‏» التزيد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب، وطريق ‏‏ الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة ‏.‏ فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه‏.‏
«الثانية‏:» ‏ الغفلة ، فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب إخراجه‏.‏
«الثالثة‏:» ‏ تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء‏.‏
 
 
 
 
 
 
طريق النجاح
طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة بحيث يكون رأسا في ذلك مقتدى به فيه، يحتاج أن يكون شجاعا مقداما حاكما على وهمه، غير مقهور تحت سلطان تخيله ، زاهدا في كل ما سوى مطلوبه، عاشقا لما توجه إليه ، عارفا بطريق الوصول إليه والطرق القواطع عنه، مقدام الهمة ثابت الجأش لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل ، كثير السكون دائم الفكر غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم، قائما بما يحتاج إليه من أسباب معونته لا تستفزه المعارضات ، شعاره الصبر وراحته التعب، محبا لمكارم الأخلاق، حافظا لوقته، لا يخالط الناس إلا على حذر كالطائر الذي يلتقط الحب بينهم، قائما على نفسه بالرغبة والرهبة، طامعا في نتائج الاختصاص على بني جنسه، غير مرسل شيئا من حواسه عبثا ولا مسرحا خواطره في مراتب الكون‏.‏ وملاك ذلك هجر العوائد وقطع العلائق الحائلة بينك وبين المطلوب، وعند العوام أن لزوم الأدب مع الحجاب خير من اطراح الأدب مع الكشف‏.‏
 
 
 
 
أفضل الذكر
من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان وإن كان على غفلة ، ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطأ على الذكر‏.‏ ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدئ على غفلة بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه فإذا قوي استتبع لسانه فتواطئا جميعا‏.‏ فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه‏.‏ والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه، من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولا حتى يحس بظهور الناطق فيه ‏.‏ فإذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرا‏.‏
وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده‏.‏
 
 
 
 
 
أنفع الناس وأضرهم
أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا أو تصنع إليه معروفا ، فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك‏.‏ فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر ‏.‏ وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فإنه عون لك على مضرتك ونقصك‏.‏
 
 
 
 
 
اللذة المحرمة
اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها مثمرة للألم بعد انقضائها، فإذا اشتدت الداعية منك إليها ففكر في انقطاعها وبقاء قبحها وألمها ثم وازن بين الأمرين وانظر ما بينهما من التفاوت‏.‏
والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن مثمر للذة والراحة، فإذا ثقلت على النفس ففكر في انقطاع تعبها وبقاء حسنها ولذتها وسرورها، ووازن بين الأمرين وآثر الراجح على المرجوح، فإن تألمت بالسبب فانظر إلى ما في المسبب من الفرحة والسرور واللذة يهن عليك مقاساته، وإن تألمت بترك اللذة المحرمة فانظر إلى الألم الذي يعقبه ووازن بين الألمين‏.‏
وخاصية العقل تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما‏.‏
وهذا يحتاج إلى علم بالأسباب ومقتضياتها ، وإلى عقل يختار به الأولى والأنفع له منها، فمن وفر قسمه من العقل والعلم اختار الأفضل وآثره ، ومن نقص حظه منهما أو من أحدهما اختار خلافه ، ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدا منهما إلا بمشقة فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما‏.‏
 
 
 
 
في كل عضو أمر ونهي
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه فيه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة ‏.‏ فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من انتفاعه بذلك العضو وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته‏.‏
وله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وإن شغله بهوى أو راحة وبطالة تأخر، فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق ألبتة ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر‏» ‏ سورة المدثر ‏:‏ الآية رقم :‏37‏ ‏‏.
 
 
 
 
 
فريقا الجنة والنار
أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع ‏.‏ فافترقوا فرقتين‏:‏ فرقة قابلت أمره بالترك ونهيه بالارتكاب وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه ، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك‏.‏ وقسم قالوا‏:‏ إنما نحن عبيدك ، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة ، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك‏.‏ فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين ‏.‏ كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة ، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم ‏.‏
 
فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك ، وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت ، فانظر مع من تميل منهما ومع من تقاتل إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين ، فأنت مع إحداهما لا محالة ‏.‏ فالفريق الأول استغشوا الهوى واستنصحوا العقل فشاوروه ، وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له ، وجوارحهم للعمل بما أمروا به ، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة ، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى العمل ، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها ، واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها ، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه ، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها ، فعجل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها إن آنسهم بنفسه وأقبل بقلوبهم إليه وجمعها على محبته وشوقهم إلى لقائه ونعمهم بقربه وفرغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها والغم من خوف ذهابها ، فاستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدانهم ، والملأ الأعلى بأرواحهم‏.‏
 
 
 
من صفات التوحيد
التوحيد ألطف ‏ شيء وأنزهه أنظفه وأصفاه ، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه ، فهو كأبيض ثوب يكون يؤثر فيه أدنى أثر ، وكالمرآة الصافية جدا أدنى شيء يؤثر فيها ‏.‏ ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية ‏.‏ فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده ، وإلا استحكم وصار طبعا يتعسر عليه قلعه ‏.‏
وهذه الآثار و الطبوع التي تحصل فيه ‏:‏ منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال ، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال ، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال ، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال‏.‏
 
ولكن من الناس من يكون توحيده كبيرا عظيما ، ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ، ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه ، فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده ، فيظهر من تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير‏.‏
 
وأيضا فإن المحل الصافي جدا يظهر لصاحبه مما يدنسه ما لا يظهر في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه فيتدراكه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به‏.‏
وأيضا فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جدا أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة‏.‏
وأيضا فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثل تلك المحاسن ، كما قيل‏:‏
 
 
 
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد * * * جاءت محاسنه بألف شفيع
 
 
وأيضا فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه، كما يشاهد ذلك في الأخلاط الغالبة وإحالتها لصالح الأغذية إلى طبعها‏.‏
 
 
 
 
لا يجمع الله ذخائره في قلب فيه سواه
ترك الشهوات لله، وإن أنجى من عذاب الله وأوجب الفوز برحمته، فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح والابتهاج به، لا تحصل في قلب فيه غيره، وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم فإن الله سبحانه أبى أن يجعل ذخائره في قلب فيه سواه وهمته متعلقة بغيره، وإنما يودع ذخائره في قلب يرى الفقر غنى مع الله، والغنى فقرا دون الله، والعز ذلا دونه ، والذل عزا معه، والنعيم عذابا دونه، والعذاب نعيما معه‏.‏
وبالجملة ، فلا يرى الحياة إلا به ومعه ، والموت والألم والهم والغم والحزن، إذا لم يكن معه، فهذا له جنتان‏:‏ جنة في الدنيا معجلة، وجنة يوم القيامة ‏.‏
 
 
 
 
الإنابة والاعتكاف
الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه‏.‏ وحقيقة ذاك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه‏:‏ ‏ «‏ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون‏» ‏ سورة الأنبياء ‏:‏ الآية رقم :‏52‏ ‏ ، فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل، وكان حظه العكوف على الرب الجليل‏.‏ والتماثيل جمع تمثال، وهي الصور الممثلة‏.‏ فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإراداتهم على تماثيلهم ، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها، فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لها ودعا عليه بالتعس و النكس فقال : « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش‏» ‏رواه البخاري في كتاب الجهاد‏.‏ وابن ماجه في الزهد‏‏
 
الناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم، وكل مسافر فهو ظاعن إلى مقصده ونازل على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار والآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه، فهذه همته في سفره وفي انقضائه‏:‏ ‏ «‏يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي‏» ‏ سورة الفجر ‏:‏ الآية رقم :‏27- 30‏‏ ،وقالت امرأة فرعون ‏:‏ ‏ «‏رب ابن لي عندك بيتا في الجنة‏» ‏ ‏التحريم الآية رقم ‏:‏ 11‏‏ فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة، فإن الجار قبل الدار‏.‏
 
 
 
 
من كلام الشيخ علي
قيل لي في نوم كاليقظة أو يقظة كالنوم‏:‏ لا تبد فاقة إلى غيري فأضاعفها عليك مكافأة لخروجك عن حدك في عبوديتك‏.‏ ابتليتك بالفقر لتصير ذهبا خالصا فلا تزيفن بعد السبك‏.‏ حكمت لك بالفقر ولنفسي بالغنى، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى وإن وصلتها بغيري حسمت عنك مواد معونتي طردا لك عن بابي ‏.‏ لا تركن إلى شيء دوننا فإنه وبال عليك وقاتل لك، إن ركنت إلى العمل رددناه عليك، وإن ركنت إلى المعرفة ذكرناها عليك، وإن ركنت إلى الوجد استدرجناك فيه‏.‏
وإن ركنت إلى العلم أوقفناك معه، وإن ركنت إلى المخلوقين وكلناك إليهم، ارضنا لك ربا نرضاك لنا عبدا‏.‏
 
 
 
 
 
الشهقة عند سماع القرآن
الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره لها أسباب‏:‏
«أحدها ‏:‏ » أن يلوح له عند السماع درجة ليست له فيرتاح إليها فتحدث له الشهقة فهذه شهقة شوق‏.‏
«وثانيها‏:‏ » أن يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفا وحزنا على نفسه، وهذه شهقة خشية‏.‏
«وثالثها‏:‏ » أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه عنه فيحدث له ذلك حزنا فيشهق شهقة حزن‏.‏
«و رابعها‏:‏ » أن يلوح له كمال محبوبه ويرى الطريق إليه مسدودة عنه فيحدث ذلك شهقة آسف وحزن‏.‏
«و خامسها‏:‏ » أن يكون قد توارى عنه محبوبه واشتغل بغيره فذكره السماع محبوبه، فلاح له جماله ورأى الباب مفتوحا والطريق ظاهرة ، فشهق فرحا‏.‏وسرورا بما لاح له‏.‏
وبكل حال‏:‏ فسبب الشهقة قوة الوارد وضعف المحل عن الاحتمال ‏.‏ والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم، فإنه إذا أظهره ضعف أثره وأوشك انقطاعه ‏.‏ هذا حكم الشهقة من الصادق ، فإن الشاهق إما صادق وإما سارق وإما منافق‏.‏
 
 
 
أنواع الفكر
أصل الخير والشر من قبل التفكر ، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض ‏.‏ وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها ، فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار‏.‏ ويليها أربعة‏:‏ فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها ، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتزاز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء ‏.‏ ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة‏.‏فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت‏.‏
 
وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها و سفولها وتجعله في واد والناس في واد‏.‏ وبإزاء هذه الأفكار الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته، مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه‏.‏
 
ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر، كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال و التصاوير‏.‏
ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالا ولا شرفا، كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي ، وأكثر علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غاياتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه‏.‏
ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها ، وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة له ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته‏.‏
ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالفكر فيما إذا صار ملكا أو وجد كنزا أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفل‏.‏
ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس وما جراياتهم ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏
ومنها الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوصل بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة‏.‏
ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه و فانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة‏.‏
ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها ألبتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب ، فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها، ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أولى به وأعود عليه بالنفع عاجلا وآجلا‏.‏
 
 
 
 
الطلب والصبر
الطلب لقاح الإيمان، فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمرا العمل الصالح‏.‏
وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه، فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء‏.‏
والخشية لقاح المحبة ، فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهي‏.‏ والصبر لقاح اليقين، فإذا اجتمعا أورثا الإمامة في الدين ، قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون‏» ‏ سورة السجدة‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏24‏ ‏.وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الإخلاص، فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل والاعتداد به ‏.‏
 
والعمل لقاح العلم، فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة ، وإن انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئا‏.‏
والحلم لقاح العلم، فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة وحصل الانتفاع بعلم العالم ، وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع ‏.‏
والعزيمة لقاح البصيرة ، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة وبلغت به همته من العلياء كل مكان، فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة وإما من عدم العزيمة ‏.‏
 
وحسن القصد لقاح لصحة الذهن ، فإذا فقدا فقد الخير كله، وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات ‏.‏
وصحة الرأي لقاح الشجاعة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر ، وإن فقدا فالخذلان والخيبة، وإن وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصلت الشجاعة بلا رأي فالتهور والعطب ، والصبر لقاح البصيرة ، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما‏.‏ قال الحسن‏:‏ إذا شئت أن نرى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابرا بصيرا فذاك‏.‏
والنصيحة لقاح العقل، فكلما قويت النصيحة قوى العقل واستنار‏.‏
 
والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر، إذا اجتمعا أنتجا الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة‏.‏ والتقوى لقاح التوكل ، فإذا اجتمعا استقام القلب ‏.‏ ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الأمل، فإذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما والشر في فرقتهما‏.‏ ولقاح الهمة العالية النية الصحيحة ، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد‏.‏
 
 
 
 
موقف العبد بين يدي الله
للعبد بين يدي الله موقفان‏:‏ موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف ‏.‏ قال تعالى ‏ «‏ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا، إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا‏» ‏ سورة الإنسان ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏26- 27‏ ‏.
 
 
 
 
 
لذة الآخرة أبقى
اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان بل ولكل حي فلا تذم من جهة كونها لذة وإنما تذم ويكون تركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل ، أو أعقبت ألما حصوله أعظم من ألم فواتها ‏.‏ فههنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل‏.‏ فمتى عرف العقل التفاوت بين اللذتين و الألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما‏.‏
وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم ، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين ، فإذا قوي اليقين وباشر القلب آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة واحتمل الألم الأسهل على الأصعب ، والله المستعان‏.‏
 
 
 
 
مناداة أيوب ربه
قوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ‏» ‏ ‏سوره الأنبياء ، الآية 83 ‏‏ جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له ، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته هو وفقره ، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه ‏.‏ وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره‏.‏
 
 
 
 
دعاء يوسف
قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال ‏:‏ ‏ «‏ أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ‏» ‏ ‏يوسف ‏:‏ 101 ‏‏ ‏.‏ جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه ، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد ، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء ‏.‏
 
 
 
 
 
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه
قوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ‏» ‏ ‏الحجر ‏:‏ 21 ‏‏ متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده ‏.‏ وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه‏.‏ وقوله ‏:‏ ‏ «‏ وأن إلى ربك المنتهى ‏» ‏ ‏سوره النجم ، الآية 42‏‏ متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه ، فهو غاية كل مطلوب ، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب‏.‏ وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل‏.‏ وكل قلب لا إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه ، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله ‏ «‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه‏» ‏، واجتمع ما يراد له كله في قوله ‏:‏ ‏ «‏وأن إلى ربك المنتهى‏» ‏ ، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى‏.‏
 
 
 
 
من أسرار التوحيد
وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره‏.‏ وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد ‏ إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين ، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه‏.‏ ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعيمه ولذاته وبهجته وسعادته أبد الآباد‏.‏
 
العبد دائما متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل، فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر، وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل ، فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف ظاهرا وباطنا، وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن‏.‏
 
فإن قلت‏:‏ وما اللطف الباطن‏؟‏ ‏‏ فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيستخذى بين يدي سيده ذليلا له مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره، قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضي أو سخط، فإن رضي نال الرضا وإن سخط فحظه السخط، فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها‏.‏
 
 
 
 
‏ محبة الله
لا يزال العبد منقطعا عن الله حتى تصل إرادته ومحبته بوجهه الأعلى ‏.‏ والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره‏.‏ فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه فيفعل الطاعة لأنه أمر بها و أحبها، ويترك المناهي لكونه نهي عنها وأبغضها‏.‏
 
فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقة زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة، ويتصل التوكل والحب به بحيث يصير واثقا به سبحانه مطمئنا إليه راضيا بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال ، ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه ، ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح ولا يسر به غاية السرور‏.‏
 
وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه أعان على مرضاته ‏.‏ وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها ، وأمر بالفرح بفضله ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن ، كما فسره الصحابة والتابعون‏.‏
والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل ، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه ملبس عليه في معرفته وإرادته وسلوكه‏.‏
 
 
 
 
النعم كلها من الله
قد فكرت في هذا الأمر فإذا أصله أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده، نعم الطاعات ونعم اللذات ، فترغب إليه أن يلهمك ذكرها ويوزعك شكرها، قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون‏» ‏ سورة النحل ‏:‏ الآية رقم :‏53‏‏ ، وقال ‏ «‏واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ‏» ‏ الأعراف ‏:‏ الآية رقم ‏:‏ ‏69 ، وكما أن تلك النعم منه ومن مجرد فضله فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه‏.‏
 
والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده و تخليته بينه وبين نفسه، وإن لم يكشف ذلك عن عبده فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه فإذا هو مضطر إلى التضرع والابتهال إليه أن يدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه ، وإذا وقعت بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاح له إلا بها‏:‏ الشكر ، وطلب العافية، والتوبة النصوح‏.‏
ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء ، فإن وفق عبده بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة ، وإن خذله تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
 
 
 
التوفيق والخذلان
ثم فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشيئة لا سبب لهما‏؟‏ فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها، فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت، فالجمادات لا تقبل ما بقلبه الحيوان، وكذلك النوعان كل منهما متفاوت في القبول ‏.‏ فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت، وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول، لكن ليس بين النوع الواحد من التفاوت كما بين النوع الإنساني‏.‏
 
فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها وخطرها ويشكر المنعم بها ويثني عليه بها ويعظمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة، من غير أن يكون هو مستحقا لها ولا هي له ولا به، وإنما هي الله وحده و به وحده‏.‏ فوحده بنعمته إخلاصا وصرفها في محبته شكرا، وشهدها من محض جوده منه ، وعرف فذلك وتقصيره في شكرها عجزا وضعفا وتفريطا ، وعلم أنه إن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه ، وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له‏.‏
 
وكلما زاده من نعمة ازداد ذلا له وانكسارا وخضوعا بين يديه وقياما بشكره وخشية له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيته شكرها كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها، فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يليق أن يقابل به سلبه إياها ولا بد، قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ‏» ‏ الأنعام ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏53‏‏ ، وهم الذين عرفوا قدر النعمة وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته‏» ‏ الأنعام ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏124‏.
 
 
أسباب الخذلان
وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏قال إنما أوتيته على علم عندي‏» ‏ سورة القصص‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏78‏‏ ، أي على علم علمه الله عندي أستحق به ذلك وأستوجبه وأستأهله ‏.‏ قال الفراء ‏:‏ أي على فضل عندي أني كنت أهله ومستحقا له إذ أعطيته وقال مقاتل ‏:‏ يقول على خير علمه الله عندي‏.‏
 
وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل‏‏ سليمان بن داود ‏ فيما أوتي من الملك ، ثم قرأ قوله تعالى ‏:‏ ‏ «‏هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر‏» ‏ سورة النمل ‏:‏ الآية رقم :‏40‏‏ ولم يقل هذا من كرامتي ، ثم ذكر قارون وقوله‏:‏ ‏ «‏إنما أوتيته على علم عندي‏» ‏ القصص ‏:‏ الآية رقم :‏78‏‏ يعني أن سليمان رأى ما أوتيه من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلي به ‏‏فشكره، وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه وكذلك قوله سبحانه ‏:‏ ‏ «‏ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي ‏» ‏ فصلت ‏:‏ الآية رقم :‏50‏‏ ، أي أنا أهله وحقيق به فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه‏.‏
 
والمؤمن يرى ذلك ملكا لربه وفضلا منه من به على عبده من غير استحقاق منه بل صدقة تصدق بها على عبده ، وله ألا يتصدق بها‏.‏ فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئا هو له يستحقه عليه، فإذا لم يشهد ذلك رأى فيه أهلا ومستحقا فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها ، فكان حظها منها الفرح والفخر ، كما قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور‏» ‏ سورة هود ‏:‏ الآية رقم ‏:‏‏‏9- 10‏‏ ، فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البلاء قوله ‏:‏ ‏ «‏ذهب السيئات عني‏» ‏، ولو أنه قال ‏:‏ أذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على ذلك ، بل كان محمودا عليه، ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها وفرح وافتخر‏.‏
 
فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال تعالى ‏ «‏ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ‏» ‏ الأنفال ‏:‏22-23‏‏ فأخبر سبحانه أن محلهم غير قابل لنعمته ، ومع عدم القبول ففيهم مانع يمنع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها‏.‏
 
ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خلقت عليه في الأصل وإهمالها و تخليتها ، فأسباب الخذلان منها وفيها وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة‏.‏ فأسباب التوفيق منه ومن فضله وهو الخالق لهذه وهذه ،كما خلق أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له ،وخلق الشجر ،هذه تقبل الثمرة وهذه لا تقبلها ،وخلق النحلة قابلة لأن يخرج منه بطونها شراب مختلف ألوانه، و الزنبور غير قابل لذلك ‏.‏وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وحجته وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضده، وهو الحكيم العليم ‏.‏
 
 
 
تفسير أول سورة العنكبوت
قال الله تعالى ‏ «‏ ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون‏.‏ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين‏.‏ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون‏.‏ من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ‏.‏ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ‏.‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم و لنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون‏.‏ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون‏.‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ‏.‏ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ‏» ‏ سورة العنكبوت ،الآية 1-11‏‏ ‏.‏
 
وقال الله تعالى ‏:‏ ‏ «‏ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ‏» ‏ البقرة ‏:‏214‏،قال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله‏:‏‏ «‏من كفر بالله من بعد إيمانه‏» ‏النحل ‏:‏106‏‏،قال بعد ذلك ‏ «‏ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏» ‏ النحل 110‏‏
 
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين ‏:‏ إما أن يقول أحدهم آمنا وإما ألا يقول آمنا ،بل يستمر على عمل السيئات ‏.‏فمن قال آمنا امتحنه الرب عز وجل وابتلاه وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكذاب ،ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته ،فإن أحدا لن يعجز الله تعالى هذه سنته تعالى يرسل الخلق فيكذبهم الناس ويؤذونهم ،قال تعالى‏:‏‏ «‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن‏» ‏‏،وقال تعالى‏:‏‏ «‏ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ‏» ‏ الذاريات ‏:‏52‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏ « ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏» ‏ فصلت ‏:‏43‏ ‏ ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه فابتلي بما يؤلمه،وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم ،فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت ،لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة،والكافر تحصل له النعمة ابتداء ثم يصير في الألم‏.‏
 
 
 
رأي الشافعي في الابتلاء والتمكن
سأل رجل الشافعي فقال ‏:‏ يا أبا عبد الله ، أيما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يبتلى ‏؟‏ فقال الشافعي ‏:‏ لا يمكَّن حتى يبتلى فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبتة ‏.‏
 
 
 
 
 
من أرضى الله وأسخط الناس
وهذا أصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه ، وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له من أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوفقهم عليها وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم‏.‏
 
ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئاً كثيراً كقوم يريدون الفواحش والظلم ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك ، فهم مرتكبون ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى‏:‏ ‏ «‏ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ‏» ‏ ‏سورة الأعراف ‏:‏ الآية 33‏‏، وهم في مكان مشترك كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم ، هم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك ، أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت ، فإن وافقهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء ، ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافون ابتداء كمن يطلب منهم شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل ، إما في الخبر وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم ، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه ، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه وإلا عذب بغيرهم ‏.‏
 
فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية ، ويروى موقوفاً ومرفوعاً‏:‏ ‏ «‏ من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ‏» ‏‏‏‏‏ وفي لفظ ‏ «‏ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً ‏» ‏ وفي لفظ ‏ «‏ عاد حامده من الناس ذاما ‏» ‏‏.‏
 
وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم ، فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم ، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها‏.‏
 
 
 
لا بد من الابتلاء
وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة كالمكره على الكفر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع ، إذ المقصود هنا ‏:‏ أنه لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس ، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه ألبتة ؛ ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع أنه لا بد أن يبتلي الناس ، والابتلاء يكون بالسراء والضراء ، ولا بد أن يبتلي الإنسان بما يسره وما يسوءه ، فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكوراً ، قال تعالى ‏:‏ ‏ «‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ‏» ‏ ‏سورة الكهف ‏:‏ الآية 7‏‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ و بلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ‏» ‏ ‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ‏» ‏ طه ‏:‏ 123-124، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين» ‏آل عمران ‏:‏ 142‏.
 
هذا في آل عمران ‏.‏ وقد قال قبل ذلك في البقرة _ فإن البقرة نزلت أكثرها قبل آل عمران _‏:‏ ‏ «‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب‏» ‏ سورة البقرة ‏:‏ الآية 214، وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء ، كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كبير الامتحان إذا كانت النفس ظالمة وهي منشأ شر يحصل للعبد ، فلا يحصل له شر إلا منها ، قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏» ‏ النساء ‏:‏ 79‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏ «‏ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ‏» ‏ ‏آل عمران ‏:‏ 165‏، وقال ‏:‏ ‏ «‏ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ‏» ‏ الشورى ‏:‏ 30‏‏ ، وقال ‏:‏ ‏ «‏ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‏» ‏ ‏الأنفال ‏:‏ 53 ‏‏، ‏ «‏ وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ‏» ‏ الرعد ‏:‏ 11‏‏ ‏.‏
 
وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت ، وفي كل ذلك يقول إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون ، وأول من اعترف بذلك أبواهم ، ‏ «‏قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ‏» ‏ ‏سورة الأعراف ‏:‏ الآية 23‏‏وقال لإبليس ‏:‏‏ « لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ‏» ‏ ، وإبليس إنما اتبعه الغواة منهم كما قال ‏:‏ ‏ «‏ فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ‏» ‏ ، وقال تعالى ‏ «‏ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ‏» ‏ ، والغي إتباع هوى النفس ، وما زال السلف معترفين بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود ‏:‏ أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه ‏.‏
وفي الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي يرويه الرسول عن ربه عز وجل‏:‏ ‏ «‏ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ‏» ‏ ‏‏
 
 
 
 
سيد الاستغفار
وفي الحديث الصحيح ، حديث سيد الاستغفار ، أن يقول العبد ‏:‏ ‏ «‏اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏ من قالها إذا أصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة ، ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة ‏» ‏‏.‏ ‏‏رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن حنبل بألفاظ مختلفة ‏‏
 
وفي حديث أبي بكر الصديق من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ‏:‏ ‏ ‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه ‏:‏ ‏ «‏اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه ، أشهد ألا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم ، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك ‏» ‏‏.‏
 
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏ «‏الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‏» ‏‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏ «‏إني آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون تهافت الفراش‏» ‏رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن حنبل بألفاظ مختلفة ‏‏، شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته، وهي صغيرة النفس، فإنها جاهلة سريعة الحركة‏.‏
 
وفي الحديث‏:‏ ‏ «‏مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة‏» ‏‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏ «‏للقلب أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا‏» ‏‏.‏ ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل، ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه‏:‏ إنه استخفه‏.‏ قال عن فرعون إنه استخف قومه فأطاعوه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون‏» ‏ ‏سورة الروم الآية 60‏‏ فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش، وصاحب اليقين ثابت، يقال‏:‏ أيقن إذا كان مستقرًّا، واليقين‏:‏ استقرار الإيمان في القلب علماً وعملاً، فقد يكون علم العبد جيداً لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش‏.‏
 
 
 
 
أصل الغضب
قال الحسن البصري‏‏:‏ إذا شئت أن ترى بصيراً لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت بصيراً صابراً فذاك ‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏ «‏وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون‏» ‏ سورة السجدة، الآية 24‏‏ ، ولهذا تشبه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها وغضبها، وشهوتها من النار والشيطان من النار‏.‏
 
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏ «‏الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ‏» ‏رواه أحمد في مسنده 4/226‏‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏ «‏الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم‏» ‏، ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام‏.‏ وفي الحديث المتفق على صحته‏:‏ ‏ «‏الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏» ‏‏
 
وفي الصحيحين‏:‏ ‏ «‏أن رجلين استبا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتد غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه‏:‏ إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏» ‏رواه أحمد 5/240‏‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏ «‏ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم‏» ‏ فصلت : 34-36، وقال تعالى‏:‏ ‏ «‏ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون، وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون‏» ‏المؤمنون‏:‏ 96 - 98.
 
 
 
http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=26&book=106