دمعة وابتسامة (1914)/القوة العمياء


القوَّة العمياء

***

جاءَ الربيع وتكلمت الطبيعة بالسنة السواقي ففرَّحت القلب · وابتسمت بشفاه الازهار فاسعدت النفس · ثم غضبت ودكت المدينة الجميلة فانست الانسان عذوبة كليماتها ورقة ابتساماتها · قوَّةٌ عمياء مخيفة نقضت بساعة ما اقامتهُ الاجيال · موتٌ ظلوم قبض باظافره المحددة عَلَى الاعناق فسحقها بقساوة · نارٌ آكلة التهمت الارزاق والاعمار· ليلٌ قائم اخفى جمال الحياة تحت لحف الرماد · عناصر هائلة هبت من مرابضها وقاتلت الانسان الضعيف وخربت مساكنهُ وذرت بسرعة ما جمعهُ بالتأَني · زلزالٌ عنيف حبلت بهِ الارض فتمخضت متوجعةً ولم تلد غير الخراب والشقاء

جرى كل ذلك والنفس الحزينة ناظرة من بعيد تتأَمل وتتأَلم. تتامل بمقدرة الانسان المحدودة تجاه القوى غير العاقلة، وتتالم مع المصابين الهاربين من النار والدمار · تتامل باعداءِ ابن آدم الكامنة له تحت اطباق الثرى وبين دقائق الاثير، وتتالم مع الوالدات النائحات والاطفال الجائعين · تتأمل بقساوة المادة واستصغارها الحياة العزيزة، وتتالم مع الذين رقدوا بالامس مستأمنين في منازلهم فاصبحوا اليوم واقفين عن بعدٍ يرثون المدينة الجميلة بغصات مؤلمة وعبرات مرَّة · تتامل بكيفية انقلاب الامل يأساً، والفرح حزناً، والراحة عذاباً، وتتالم مع قلوب ترتعد بين مخالب اليأْس والحزن والعذاب

كذا وقفت النفس بين التامل والتالم تنقاد تارةً الى الشك بعدالة النواميس الرابطة القوات بعضها دون الآخر، وتعود طوراً فتهمس في آذان السكينة قائلةً: انَّ من ورآءِ الكائنات حكمة سرمدية تبتدع من كوارث ونوازل نراها محاسن نتائج لا نراها. فالنار والزلازل والعواصف من جسم الارض بمكان البغض والحقد والشر في القلب البشري تثور وتضج ثم تخمد، ومن ثورتها وضجيجها وخمودها تبتدع الالهة معرفة جميلة ببتاعها الانسان بدمعه ودمه وارزاقه
اوقفتني الذكرى ونكبة هذه الامة تملأ الاسماع أَنةً وعويلاً، وصوَّرت امام عينيّ كل ما مرَّ عَلَى مرسح الايام الغابرة من العبر والخطوب. فرأَيت الانسان في كل ادواره يقيم عَلَى صدر الارض البروج والقصور والهياكل، والارض ترجعها إلى قلبها. رأَيت الاشداء يشيدون المباني القوية، والنحاتين يختلقون من الصخور صوراً واشباحاً، والرسامين يزينون الجدران والمداخل بالنقوش والنسيج. ثم رأيت هذه اليابسة تفغر فاها وتبتلع بخشونة ما الفئهُ الايادي المتفننة والعقول الراجحة، ماحيةً بقساوتها ظواهر الصور والاشباح، مدمرة بسخطها خطوط الرسوم والنقوش، دافنةً بعنفهـا فخامة الدعائم والجدران، ممثلةً دور حسناء مستغنية عن الحلى التي يصيغها ابن آدم، مستكفية بحلل المروج الخضراء المزركشة بذهب الرمال وجواهر الحصى.....
عَلَى انني وجدت بين هذه النكبات المخيفة والرزايا الهائلة الوهية الانسان واقفةً كالجبار تسخر بحماقة الارض وغضب العناصر، ومثل عمود نور منتصبة بين خرائب بابل ونينوى وتدمر وبمباي وسان فرنسيسكو ترتل انشودة الخلود قائلة: لتأْخذ الارض ما لها فلا نهاية لي